بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ

بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ

((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَإِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا؛ بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا، وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبٍ خَاطِرٍ.

فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).

وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَتَكَرَّرَ حَقُّ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِكَوْنِهَا تَحَمَّلَتِ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَمِنْ أَسْرَارِ التَّكْرَارِ كُلَّمَا سَأَلَهُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ: مَنْ أَبَرُّ؟ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أُمَّك»؛ أَيْ: بَرَّ أُمَّكَ، فَكَرَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ لِحِكْمَةٍ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا تَتَحَمَّلُ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ.

وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ -أَيْضًا- لِتَهَاوُنِ النَّاسِ فِي حَقِّ الْأُمِّ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَخْفِيًّا بِعَكْسِ حَقِّ الْأَبِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّ تَكُونُ فِي بَيْتِهَا، فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ تَقْصِيرُهُ، فَحَقُّهَا يَكُونُ مَخْفِيًّا، بِعَكْسِ الْأَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا.

وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا لِضَعْفِ الْمَرْأَةِ، وَقِلَّةِ تَحَمُّلِهَا، فَقَدْ يُغْضِبُهَا فَلَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ فَتَدْعُوَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِبِرِّهَا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ))، وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.

فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ))

*إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟

قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».

قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ».

قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟

قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؟

«أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؛ أَيْ: يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَيَرْضَى بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى، اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ الْمُطْلَقِ لَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ؛ وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ أَوْ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.

فَقَدْ يَتَكَرَّرُ السُّؤَالُ بِعَيْنِهِ، وَتَخْتَلِفُ الْإِجَابَةُ، وَلَكِنْ يُجِيبُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.

قَالَ ﷺ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»: الْمُرَادُ بِالْوَقْتِ هُنَا: الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ.

قَالَ عَبْدُاللَّهِ: «قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ»؟ يَعْنِي: ثُمَّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ.

قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»؛ يَعْنِي: الْأَبَ وَالْأُمَّ، وَالْبِرُّ ضِدُّ الْعُقُوقِ، وَالْعُقُوقُ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهِمَا.

قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟

قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»: الْجِهَادُ مُحَارَبَةُ الْكُفَّارِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَبِكُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ.

قَوْلُهُ: «لَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»؛ أَيْ: لَوِ اسْتَفْسَرْتُهُ عَنْ مَرَاتِبِ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّها عُنْوَانٌ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَمَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.

وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ مَعَ عِظَمِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ، فَهُوَ لِغَيْرِهِمَا أَقَلُّ بِرًّا، وَمَنْ قَعَدَ عَنْ جِهَادِ الْكَافِرِينَ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ، فَهُوَ أَشَدُّ قُعُودًا عَنِ الْجِهَادِ لِغَيْرِهِمْ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَحْفَظُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَعْظَمُ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ.

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: ٢٤]، قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ في ((الأدب المفرد))، وَالطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ فِي «الزُّهْدِ»، وَالْأَصْبَهَانِيُّ فِي «التَّرْغِيبِ».

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّوَاضُعِ وِلِينِ الْجَانِبِ.

وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا وَتَذَلَّلْ، فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالْعُلُوَّ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَرَفَعَهُمَا لِيَرْتَفِعَ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ خَفَضَهُمَا، وَإِذَا رَأَى الطَّائِرُ جَارِحًا لَصِقَ بِالْأَرْضِ وَأَلْصَقَ جَنَاحَيْهِ، وَهِيَ غَايَةُ خَوْفِهِ وَتَذَلُّلِـهِ.

قَوْلُهُ: «لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ»؛ أَيْ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ تَنْفِيذِ أَمْرِهِمَا، لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْصِيَةٍ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: الِاهْتِمَامُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَوُجُوبُ تَحْقِيقِ رَغَبَاتِ الْوَالِدَيْنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَوْلَادِ.

وَأَنَّ مِنْ مَعَانِي «الْبِرِّ»: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالتَّوَاضُعُ لِلْوَالِدَيْنِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِالْأَخَصِّ الْأُمُّ؛ لِمَا لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ، إِذَا كَانَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ أَحْسِنْ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَإِنَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ صِلَةَ الْأَقَارِبِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا، وَالدُّعَاءَ لَهُمَا بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُمَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَأَدَاءَ الْحَجِّ وَالْعُمُرَةِ عَنْهُمَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْوَلَدِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَإِكْرَامَ صَدِيقِهِمَا.

وَحَقًّا أَقُولُ: إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ قُمْتَ بِحُقُوقِ وَالِدَيْكِ، وَأَرْضَيْتَ رَبَّكَ، وَكَسَبْتَ أَجْرًا جَزِيلًا يَمْنَحُكَ اللهُ إِيَّاهُ فِي دُنْيَاكَ وَبَرْزَخِكَ وَأُخْرَاكَ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

 ((احْذَرُوا أَنْ تُؤْتَوْا مِنْ ثُغْرِ الْعُقُوقِ!!))

لَقَدْ تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي؛ فَخَلُصْتُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ- بِقَاعِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَفَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا اخْتَلَطَتْ أَحْوَالُهُ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَصَعُبَتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا بِسَبَبِ خَلْطٍ يَخْلِطُهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَإِنْ ظَنَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ-.

وَهَذَا الْخَلْطُ قَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْقَلْبِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ اللِّسَانِ أَحْيَانًا، وَقَدْ يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ الْبَدَنِ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينَ.

تَدَبَّرْتُ فِي أَحْوَالِي وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنْ حَوْلِي، فَوَجَدْتُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ يَكْرَهُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ خَارِجًا عَلَى مَنْهَجِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِكِتَابِهِ سُبْحَانَهُ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَقَدْ لَا يَلْتَفِتُ الْمَرْءُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُفَتِّشُ عَنْهُ، وَلَا يَأْبَهُ لَهُ، بَلْ لَعَلَّهُ لَوْ بَحَثَ فِيهِ، فَدُلَّ عَلَيْهِ لَاسْتَنَكَرَهُ جِدًّا!!

الْمَرْءُ؛ تَتَعَسَّرُ أُمُورُهُ، وَتَنْسَدُّ فِي وَجْهِهِ سُبُلُ الرَّشَادِ وَالْخَيْرِ، وَتَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ، وَتَصْعُبُ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ يَتَأَمَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ؟!!

وَلَا يَدْرِي الثُّغْرَ الَّذِي مِنْهُ نَفَذَ الشَّيْطَانُ إِلَى تَعْسِيرِ أُمُورِهِ عَلَيْهِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ- وَلَوْ أَنَّهُ عَرَضَ جُمْلَةَ أَحْوَالِهِ وَدَقَائِقَهَا عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، لَدَلَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْمَنْحَى الَّذِي عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِمَّا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ، الَّتِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إِنْسَانٌ إِلَّا إِذَا عَصَمَهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَاَ مِنَ الزَّلَلِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَلَّنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ  مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ.. )).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا -كَمَا بَيَّنَ الْحَدِيثُ- قَدْ بُنِيَتْ مِنَ اللَّبِنِ وَمِنَ الطِّينِ، فَأَوَى إِلَيْهَا الرَّجُلُ مُتَعَبِّدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالُهُ قَدِ انْتَشَرَتْ بِذِكْرِهَا الْحَسَنِ الطَّيِّبِ، حَتَّى اسْتَشْرَتْ فِي النَّاسِ وَاسْتَفَاضَتْ.

ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَذَاكَرُوهُ بَعْدَ حِينٍ -كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُنَا ﷺ- ((فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي -جَاءَتْ أُمُّ جُرَيْجٍ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ يَقْضِيَهَا لَهَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَزُورَهُ، فَوَجَدَتْهُ فِي صَلَاتِهِ -فِي صَلَاةِ نَفْلٍ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ!

وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يُنَاجِي رَبَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ -وَوَدَعَ أُمَّهُ تَارِكًا إِيَّاهَا- فَانْصَرَفَتْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).

إِنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِأَبِيهِ أَوْ بِأُمِّهِ إِلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْإِغْضَابِ، بِهَا يَدْعُوَانِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ دَعْوَةً مُلَازِمَةً، تَتَعَسَّرُ بِسَبَبِهَا أَحْوَالُهُ، حَتَّى يَلْقَى وَجْهَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَاضِبًا عَلَيْهِ، سَاخِطًا عَلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً!!

وَيُفَتِّشُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ تَعَسَّرَتْ عَلَيَّ أَحْوَالِي؟!!

وَمِنْ أَجْلِ أَيِّ شَيْءٍ صَعُبَتْ عَلَيَّ مَعِيشَتِي؟!!

وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ تَوَرَّطَ فِي عُقُوقِ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ، أَوْ فِي إِغْضَابٍ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، حَتَّى دَعَوَا أَوْ دَعَا أَحَدُهُمَا اللهَ عَلَيْهِ دَعْوَةً كَانَتْ مُلَازِمَةً فُتِّحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ مُحَذِّرًا: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ أَنْ تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ، فَيُسْتَجَابَ لَكُمْ فِيهِمْ)) .

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا بِحِفْظِهِ أَجْمَعِينَ.

((قَالَتْ: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ)).

ثُمَّ إِنَّهَا قَدِ اخْتَارَتْ لَهُ حَالَةً مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي تَتَنَاقَضُ تَمَامًا مَعَ أَحْوَالِهِ، هَذَا رَجُلٌ يُقْبِلُ عَلَى صَلَوَاتِهِ مُتَحَنِّثًا، وَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَتِهِ مُتَحَنِّثًا.

ثُمَّ إِنَّهَا تَأْتِي إِلَيْهِ بِبَغِيٍّ تَتَمَنَّى عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهَا أَلَّا يَمُوتَ حَتَّى يَرَى وَجْهَهَا، وَهُوَ عَلَى نَقِيضِ الْحَالِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَرَكَ أُمَّهُ.

وَيَا لَهَا مِنْ دَعْوَةٍ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْهَا أَجْمَعِينَ-.

((فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ -لَمَّا رَأَتْهُمْ يَتَذَاكَرُونَهُ بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَحَلَاوَةِ السُّلُوكِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا.

فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ.

فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟

قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ.

فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟

فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟

قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي!!

قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ - عِنْدَئِذٍ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ يُقَبِّلُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ فِيمَا يَتَصَوَّرُ الْمَرْءُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ -يَسْتَرْضُونَهُ-: مُرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ، وَسَوْفَ تَجِدُنَا عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بِنَا- وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.

قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا)).

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَظِيمٌ عَلَى صَبْرِ هَذَا الرَّجُلِ؛ إِذْ صَبَرَ عَلَى مَا أَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ؛ بِسَبَبِ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ -صَلَاةِ النَّفْلِ-، أَمَّا الْفَرْضُ فَلَا يَقْطَعُهُ الْمَرْءُ أَبَدًا مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ.

وَأَمَّا النَّفْلُ فَإِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، وَدَعَاكَ أَبُوكَ أَوْ دَعَتْكَ أُمُّكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْهُمَا سَعَةَ الْأُفُقِ، وَتَرَى مِنْهُمَا رَحَابَةَ الصَّدْرِ، وَجَوْدَةَ التَّفْكِيرِ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تُجِيبَ، وَإِنَّما عَلَيْكَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حَالِكَ؛ بِأَنْ تَتَنَحْنَحَ، أَوْ تَرْفَعَ صَوْتَكَ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالذِّكْرِ وَأَنْتَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، أَوْ تَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ سَعَةِ الصَّدْرِ، وَمِنْ رَحَابَةِ الْأُفُقِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَا مِنْ كَزَازَةِ الطَّبْعِ بِمَكَانٍ، فَلَيْسَ لَكَ أَبَدًا أَنْ تَظَلَّ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ وَأَبُوكَ أَوْ أُمُّكَ يَدْعُوَانِكَ أَوْ يَدْعُوكَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ تُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا تُجِيبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ الصَّلَاةَ عِنْدَئِذٍ -صَلَاةَ النَّفْلِ-، وَتُجِيبَ أَبَاكَ أَوْ تُجِيبَ أُمَّكَ.

أَمَّا جُرَيْجٌ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَخْبَرَ نَبِيُّنَا ﷺ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يُجِبْ أُمَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَكَرِّرَاتٍ، حَتَّى دَعَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ غَاضِبَةً.

إِنَّ الْإِنْسَانَ أَحْيَانًا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَرُبَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَسَالِكُهُ، وَرُبَّمَا تَضِيقُ بِهِ سُبُلُ الْحَيَاةِ، وَرُبَّمَا يَجِدُ مِنَ الْعُسْرِ وَالْجَهْدِ وَالشِّدَّةِ فِي الْحَيَاةِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ عَاصٍ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا مَعًا.

أَمَّا الثَّالِثُ فِي الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ فِيمَا أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا ﷺ: ((وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ -وَالصَّبِيُّ رَضِيعٌ، لَا يَفْقَهُ شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ كَلَامًا بِبِنْتِ شَفَةٍ- فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ)).

قَالَ -يَعْنِي رَاوِي الْحَدِيثِ-: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.

قَالَ: ((وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

فَقَالَتْ أُمُّهُ -دَاعِيَةً لِابْنِهَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ-: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا -وَعِنْدَئِذٍ أَقْبَلَ الْغُلَامُ لَمَّا دَعَتْ أُمُّهُ أَلَّا يَجْعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَهَا مِثْلَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ- فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.

فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ -أَيْ هَذَا الرَّضِيعُ وَأُمُّهُ- فَقَالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ -أَيْ لِرَضِيعِهَا هَذَا: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا!!

قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا».

الْمَرْءُ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَأَنْ تَتَبَدَّلَ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ يَعْصِي بِهِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ!!

وَهَذَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ -كَمَا أَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَوَّامِ -رَحِمَهُ اللهُ-- يَقُولُ: نَزَلْتُ مَرَّةً حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَبِجِوَارِ الْحَيِّ مَقْبَرَةٌ، فَلَمَّا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ انْشَقَّ قَبْرٌ هُنَالِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُ رَأْسُ حِمَارٍ عَلَى جَسَدِ إِنْسَانٍ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ، ثُمَّ انْطَبَقَ الْقَبْرُ عَلَيْهِ.

فَقَالَتْ امْرَأَةٌ فِي الْحَيِّ: تَرَى هَذِهِ الْعَجُوزَ الَّتِي تَجْلِسُ هُنَالِكَ، وَهِيَ تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ قَالَ صُوفًا.

قَالَ: مَا شَأْنُهَا؟

قَالَتْ: تِلْكَ أُمُّ ذَلِكَ.

فَقَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّتِهِ؟

فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ إِذَا مَا رَاحَ إِلَيْهَا مَخْمُورًا، وَقَدْ عَبَثَتِ الْخَمْرُ بِرَأْسِهِ، تَقُولُ لَهُ: يَا بُنِيَّ! إِلَى مَتَى تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْرِ، أَلَّا تَتَّقِي اللهَ وَتَدَعُ هَذِهِ الْخَمْرَ؟

فَيَقُولُ لَهَا: إِنَّمَا أَنْتِ تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

فَلَمَّا مَاتَ -وَقَدْ مَاتَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ- وَغُيِّبَ فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ، مَا أُذِّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَّا انْشَقَّ الْقَبْرُ عَنْهُ، فَخَرَجَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتَ، فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ كَمَا كَانَ يَقُولُ لِأُمِّهِ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ إِنَّمَا تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

فَعَاقَبَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْبَرْزَخِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِهَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.

الرَّأْسُ رَأْسُ حِمَارٍ وَالصَّوْتُ صَوْتُهُ، وَالْجَسَدُ جَسَدُ إِنْسَانٍ وَالْهَيْئَةُ هَيْئَتُهُ، وَالْقَبْرُ يَنْشَقُّ فِي سَاعَةِ الْمَمَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيَخْرُجُ الْحِمَارُ الْإِنْسِيُّ أَوِ الْإِنْسَانُ الْحِمَارِيُّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ بِمَسْمَعٍ مِنْ أُمِّهِ وَمَرْأَى!!

الْمَرْأَةُ تَسْمَعُ نَهِيقَ ابْنِهَا الَّتِي كَانَ يَنْبِزُهَا قَبْلُ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تَنْهَقُ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ.

هِيَ إِذَنْ -كَمَا رَأَيْتَ- نَتَائِجُ قَدْ رُتِّبَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا، وَالْآيَةُ كُلُّ الْآيَةِ تَدُورُ عَلَى هَذَا الْمِحْوَرِ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ: لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ.

الطَّاعَةُ فِيمَا لَا تُحِبُّ حِيًّا وَمَيِّتًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ بِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ تَمَامًا كَالْبِرِّ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُغَيَّبُوا فِي بَاطِنِهَا.

وَلَقَدْ تُؤْتَ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي.

إِذَا مَا أَمَرَا؛ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ التَّعَسُّفِيَّةِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي إِسْلَامٍ؛ فَسَمْعًا وَطَاعَةً-.

 ((الْبِرُّ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَبَوَيْنِ))

قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبِرَّ بِالْأَبَوَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا وَافَقَ الْهَوَى، بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمَرَهُ أَبُوهُ أَوْ أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِأَمْرٍ يُوَافِقُ هَوَاهُ هُوَ، فَإِنَّهُ -عِنْدَئِذٍ- بِرًّا بِهِمَا يَفْعَلُ مَا وَافَقَ هَوَاهُ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ أَمْرِ أُمِّهِ.

وَالشَّأْنُ فِي الْبِرِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي بِرِّ الْأَبَوَيْنِ أَنْ تَكُونَ لَهُمَا طَائِعًا فِيمَا تَكْرَهُهُ، لَا فِيمَا تَرْضَاهُ، أَمَّا فِيمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ فَلَيْسَ بِرًّا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ بِرًّا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَوَّلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّكَ تَأْتِي بِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُكَ، وَيُحِبُّهُ فُؤَادُكَ.

وَأَمَّا الْبِرُّ الصَّحِيحُ فَأَنْ تُؤْمَرَ بِأَمْرٍ تَبْغُضُهُ نَفْسُكَ، وَتَكْرَهُهُ ذَاتُكَ، وَيَأْبَاهُ فُؤَادُكَ، ثُمَّ عِنْدَئِذٍ تَنْزِلُ عَنْ عَلْيَاءِ هَوَاكَ بِذِرْوَتِهِ إِلَى طَاعَةِ أَبِيكَ أَوْ طَاعَةِ أُمِّكَ، وَهَذَا هُوَ الْبِرُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ﷺ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى فِي قُرْآنِهِ الْعَظِيمِ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَضَتْ سُنَّتُهُ لِخَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَدُلَّهُمْ بِالْأَمْثَالِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا خَفِيَ عَنْهُمْ، وَغَمُضَ عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَضْرِبُ لَنَا الْأَمْثَالَ، إِذَا كَانَ أَبُوكَ وَأُمُّكَ هُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ مِنْ أَجْلِ وُجُودِكِ فِي الْحَيَاةِ، وَهِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ تُحِسُّهَا بِحَوَاسِّكَ، وَتَجِدُهَا بِجَوَارِحِكَ، ثُمَّ أَنْتَ تَكْفُرُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنْتَ تَسْتَعْصِي عَلَى أَمْرِهِمَا، فَأَنْتَ لِلسَّبَبِ الْغَيْبِيِّ الْخَفِيِّ الَّذِي لَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ تَكُونُ أَشَدَّ عِصْيًانًا.

وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالشُّكْرِ لِلْوَالِدِينَ مَعًا: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبًا ظَاهِرًا فِي وُجُودِكَ، وَفِي النِّعْمَةِ عَلَيْكَ، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَيْكِ وَالْبِرِّ بَكَ، فَإِذَا كُنْتَ كَافِرًا بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فَأَنْتَ لِمَا وَرَاءَهَا أَكْفَرُ!!

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّنَا ﷺ قَالَ: ((أَطِعْ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ)) .

يَعْنِي: لَا تَخْرُجْ مِنْ دُنْيَاكَ بِمَعْنَى أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَكَ -حَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- وَلَكِنْ إِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَمِنْ كُلِّ مَا أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ، حَتَّى الثَّوْبُ الَّذِي لَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ.

((أَطِعْ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ)).كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَمِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَلُصَ عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَرِضْوَانُهُ- إِلَى قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا وَهِيَ: ((أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْوَالِدَانِ أَوْ نَهَيَا عَنْهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْأَبْنَاءِ)).

يَعْنِي: إِذَا أَمَرَكَ أَبُوكَ أَوْ أَمَرَتْكَ أُمُّكَ بِأَمْرٍ مَا دَامَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْكَ؛ يَعْنِي لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُنَاقِشَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُسَوِّفَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤَخِّرَهُ، وَإِنَّمَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْكَ أَنْ تُطِيعَ، وَأَنْ تَلْتَزِمَ بِمَا أَمَرَا بِهِ كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَنَبِيُّهُ الْأَمِينُ ﷺ.

بَلْ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَلَّنَا عَلَى أَمْرٍ عَجَبٍ، فَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بِالْأَبِ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ- أَلَّا تَمْشِي أَمَامَهُ.. لَا تَمْشِ أَمَامَ أَبِيكَ، وَلَا تَجْلِسْ فِي مَكَانٍ يَعْلُو عَنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَا تُنَادِهُ بِاسْمِهِ))، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَسِيرَ خَلْفَهُ كَالْعَبْدِ الذَّلِيلِ، إِلَّا إِذَا كُنْتَ مُوَطِّئًا لَهُ الطَّرِيقَ.

وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا يُفَرِّقُ فِي السَّيْرِ وَلَا فِي الْمَجْلِسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّكَ بَعْضٌ مِنْهُ، فَلَا تَجْعَلِ الْبَعْضَ مَفْصُولًا عَنْ بَعْضِهِ، وَإِنَّمَا تَجْلِسُ مُلَاصِقًا لِأَبِيكَ، مُتَأَخِّرًا عَنْهُ شَيْئًا، وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَدَبِ الَّتِي كَانَ يُعَلِّمُنَا إِيَّاهَا آبَاؤُنَا فِي الزَّمَانِ الْقَدِيمِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنَّكَ لَنْ تَجْنِيَ مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبِ!!.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْلِّمْنَا وَأَنْ يُسَلِّمَ مِنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

((بِرُّ الْأَبَوَيْنِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

عَبْدَ اللهِ! خُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ رَسُولُنَا ﷺ، ثُمَّ قِسْ عَلَيْهِ حَالَكَ، وَعِنْدَئِذٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ إِذَا مَا دَعَوْتَ فِي الشِّدَّةِ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَكَ؛ مِنْ أَيِّ بَابٍ أُوتِيتَ، وَلِمَاذَا سُدَّتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكُ، وَلِمَاذَا خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ حَتَّى تَشَعَّبَتْ بِكَ الظُّنُونُ وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْكَ الْأَحْوَالُ، وَنَاشَتْكَ سِهَامُ الْأَعْدَاءِ وَرِمَاحُهُمْ حَتَّى تَنَصَّلَ اللَّحْمُ وَتَنَاثَرَتِ الْعِظَامُ بَيْنَ ذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنَا أَجْمَعِينَ-.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ -وَالْغَارُ: كُوَّةٌ فِي الْجَبَلِ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا سُدَّتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ مُعَرَّضًا -لِعَدَمِ التَّهْوِيَةِ، لَا لِجَوْدَتِهَا؛ أَنْ يَمُوتَ اخْتِنَاقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَقَالُوا: -فِيمَا يَرْوِيهِ لَنَا رَسُولُنَا ﷺ- إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا.. )).

أَمَّا الْغَبُوقُ: فَهُوَ سَقْيُ الْعَشِّيِ، يَعْنِي كَانَ يَرُوحُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ بِغَنَمِهِ أَوْ بِإِبِلِهِ أَوْ بِبَقَرِهِ، فَيَحْلِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَسْقِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ؛ لَا زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا -يَعْنِي: وَلَا رَقِيقًا- حَتَّى يَسْقِيَ أَبَوَيْهِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ -يَعْنِي بَلَغَ بِهِمَا كِبَرُ السِّنِّ مَبَالِغَهُ.

قَالَ: ((فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ.. )).

وَقَعَ الرَّجُلُ لِجَوْدَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَلِعِظَمِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْفِكْرِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُحَيِّرَيْنِ جِدًّا، إِمَّا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ أَبَوَيْهِ، فَيُخَالِفَ الْمَأْلُوفَ مِنْ عَادَتِهِ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَا وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ!

وَضَعْ نَفْسَكَ مَكَانَهُ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانٍ، يُؤَرَّقَانِ كَثِيرًا كَحَالِ كِبَارِ السِّنِّ فِي لَيْلِهِمَا الَّذِي يَطُولُ أَحْيَانًا كَأَنَّمَا شُدَّتْ نُجُومُهُ بِأَمْرَاسِ كِتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ!!

أَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ يَأْرَقُ فِي لَيْلِهِ فَلَا يَجِدُ ابْنَهُ قَدْ أَتَى بِالْغَبُوقِ، فَيَظُنُّ بِهِ الظُّنُونَ، أَوْ رُبَّمَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ لِمَكْرُوهٍ أَصَابَهُ، وَالرَّجُلُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّعَهُمَا.

ثُمَّ -أَيْضًا- إِنَّ وَرَاءَ هَذَا الرَّجُلِ أَهْلًا وَوُلْدًا مِنَ الصِّغَارِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ بَعْدَ حِينٍ: وَالصِّغَارُ يَتَضَاغَوْنَ -يَعْنِي يَبْكُونَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ-.

قَالَ: ((فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

انْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا، لَا يَسَعُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنَ الْغَارِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ فَرَجًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبِحَسَنَةٍ جَلِيلَةٍ، فَفُرِّجَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، حَتَّى فَكَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَهُمْ، وَأَطْلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَيْدَهُمْ.

الْآنَ قِسْ نَفْسَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ، هَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى أَبَوْيِهِ بِاللَّبَنِ عَشِيًّا، فَيَجِدُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، وَأَنْ يَأْتِيَ الصِّغَارُ مِنْ وُلْدِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَفَطَّرُ الْكَبِدُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَيَنْصَدِعُ الْفُؤَادُ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَضَاغَوْنَ -كَمَا قَالَ- عِنْدَ رِجْلَيْهِ؛ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ!!

وَأَمَّا هُوَ فَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ أَبَوَيْهِ النَّائِمَيْنِ، يَحْمِلُ اللَّبَنَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنَّ الْيَدَ لَتَكِلُّ -تَصَوُّرًا- أَنْ تَحْمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَقَدَّمَ اللَّبَنَ إِلَيْهِمَا لَمَّا اسْتَيْقَظَا، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا مَالًا وَلَا وَلَدًا.

وَالْآنَ قِسْ حَالَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الطَّائِعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَكَ -عَافَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِيَّايَّ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ- وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَهُ عِنْدَمَا تَقَعُ فِي أَمْرٍ تَكْرَهُهُ، ثُمَّ تَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَعِنْدَكَ مِثْلُ هَذَا الْبِرِّ الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ عِنْدَكَ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأُمِّ، بَلْ تَقْدِيمُ مَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاحِبِ وَالرَّفِيقِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ-.

 ((لَنْ تُوَفِّيَ أَبَوَيْكَ حَقَّهُمَا!!))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ وَعَلَى سَبِيلِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ حَقَّهُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَمَا تَقُولُ فِي الْأُمِّ؟!!

وَرَجُلٌ كَانَ يَحْمِلُ أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ، فَلَمَّا عَرِضَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ -يَعْنِي: يَا ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- أَتَرَى أَنِّي بِذَلِكَ قَدْ وَفَّيْتُهَا حَقَّهَا؟

قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ، وَهِيَ انْقِبَاضَاتُ الرَّحِمِ بِعَضَلَاتِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ، وَتَكُونُ مُعْتَصِرَةً جِدًّا لِمَا فِي الدَّاخِلِ، وَهُوَ أَمْرٌ يُحْدِثُ أَلَمًا لَا يَعْلَمُ مَدَاهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

حَتَّى إِنَّكَ لَوْ حَمَلْتَ أُمَّكَ عَلَى عَاتِقَيْكَ وَطُفْتَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَفِي ثَوْرَةِ الْهَجِيرِ، ثُمَّ إِنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تُوَافِيَ بَيْنَ مَا جِئْتَ وَمَا جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْدِلُ.. قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ الَّتِي عَانَتْ فِيهَا مَا عَانَتْ.

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)).

وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ.

خُذْ إِلَيْكَ رَفْعَ الصَّوْتِ -مَثَلًا- فِي حَضْرَتِهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.

خُذْ إِلَيْكَ نَظَرُ الشَّزَرِ وَإِحْدَادُ الْبَصَرِ إِلَيْهِمَا؛ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَضْلًا عَنْ عِصْيَانِ أَمْرِهِمَا، فَضْلًا عَنِ الْبَطَرِ عَلَيْهِمَا، فَضْلًا عَنْ مُوَاجَهِتِهِمَا بِاللَّعْنِ مِنْ وَرَائِهِمَا حِينًا وَمِنْ خَلْفِ ظَهْرَيْهِمَا أَحْيَانًا كَثِيرَةً، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟

قَالَ: ((يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَلْعَنُ أَبَاهُ وَيَلْعَنُ أُمَّهُ)).

كَمَا قَالَ رَسُولُنَا ﷺ فِي سَبِّ الْوَالِدَيْنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبًّا مُبَاشِرًا، أَمَّا فِي السَّبَبِ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّكَ لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا مَحْضًا لَوَجَدْتَ أَنَّكَ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُوَفِّيَ أَبَوْيَكَ وَلَا أَحَدَهُمَا شَيْئًا مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي لَهُمَا عِنْدَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا مَا خَدَمْتَهُمَا مَا خَدَمْتَهُمَا عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِمَا وَكِبَرِ أَعْمَارِهِمَا وَبُلُوغِهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ الْمَبَالِغَ، فَإِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ خِدْمَتِكَ -وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِي قَرَارَةِ نَفْسِكَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمَا، أَوْ وَأَنْتَ تَسْتَاءُ مِنْهُمَا-.

لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَهُمَا يَفْعَلَانِ مَعَكَ الشَّيْءَ نَفْسَهُ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا يَتَمَنَّيَانِ لَكَ الْحَيَاةَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِمَا جِدًّا أَنْ يَجِدَاكَ فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَلَوْ كَانَتْ حَالَةً يَسِيرَةً، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَلْبِ الْأَبَوَيْنِ.

وَمِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُوصِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْأَبَوَيْنِ بِأَوْلَادِهِمَا، لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كُلِّهِ -فِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا تَجِدُ وَصِيَّةً صَرِيحَةً يُوصِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا الْوَصِيَّةَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْإِلْزَامِ لِلْأَبْنَاءِ بِالْآبَاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرَّحْمَةَ مَغْرُوسَةً وَجَعَلَهَا مَرْكُوزَةً فِي طِبَاعِ الْأَبَوَيْنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الِابْنَ بَضْعَةٌ -أَيْ جُزْءٌ- مِنْ أَبِيهِ، وَدَائِمًا الْأَصْلُ يَحِنُّ لِمَا هُوَ فَرْعٌ مِنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْصِيَةِ.

وَأَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَالْوَصِيَّةُ تَشْمَلُنَا بِأَبَوَيْنَا.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِيَّاهُمَا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا وَإِيَّاهُمَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

إِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ -لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا- أَنْ تُوَازِنَ بَيْنَ مَا تَأْتِي أَنْتَ بِهِ لِأَبَوَيْكَ وَبَيْنَ مَا قَدَّمَاهُ هُمَا لَكَ.

بَلْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِيهَا قَانُونًا عَظِيمًا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ -وَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَقَالَ: ((إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ))-: مِنَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبِي يَأْكُلُ مَالِي.

فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

قَالَ: أَنَا أَعْمَلُ مَا أَعْمَلُ أُحَصِّلُ الْمَالَ، ثُمَّ آتِي بِهِ إِلَى أَبِي، فَهُوَ يُنْفِقُهُ وَيُبَدِّدُهُ بِدَدًا وَيُمَزِّقُهُ مِزَقًا.

فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ)).

وَذَهَبَ الْوَلَدُ لِكَيْ يَسْتَدْعِي أَبَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِذَا جَاءَكَ الرَّجُلُ فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ جَالَ فِي خَاطِرِهِ، وَاعْتَمَلَ فِي صَدْرِهِ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ -يَعْنِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ هُوَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَتَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ هُوَ -أَيْ: أُذُنَا الرَّجُلِ-.

فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ، وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ ابْنَكَ يَدَّعِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَأْكُلُ مَالَهُ)).

فَقَالَ الرَّجُلُ -وَالْأَسَى يَعْتَصِرُهُ-: يَا رَسُولَ اللهِ! سَلْهُ هَلْ أُنْفِقُهُ إِلَّا عَلَى نَفْسِي أَوْ عَلَى أُمِّهِ أَوْ عَلَى إِحْدَى بَنَاتِي -أَيْ: أَخَوَاتِهِ- أَوْ إِخْوَانِهِ أَوْ أُنْفِقُهُ عَلَى إِحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَحَدِّثْنِي عَنْ شَيْءٍ دَارَ فِي نَفْسِكَ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ)).

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا زَالَ اللهُ يَزِيدُنَا عَلَيْكَ يَقِينًا يَا رَسُولَ اللهِ وَبِكَ ﷺ، وَوَاللهِ مَا تَكَلَّمْتُ بِذَلِكَ قَطُّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ فِي نَفْسِي مَقُولَةً أَعْتِبُ بِهَا عَلَى وَلَدِي هَذَا. قُلْتُ:

غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعْلْتُكَ يَافِعًا     =  تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتَنْهَلُ

إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ  =  لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي   =   نِهَايَةَ مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً =  كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي    =    فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَتِفَيِ الْوَلَدِ، وَأَخَذَ يَقُولُ لَهُ -نَافِضًا إِيَّاهُ-: ((أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)) .

وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمَةٌ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُؤْتَى بِتَعْسِيرِ أُمُورِهِ، وَبِتَخْلِيطٍ فِي أَحْوَالِ حَيَاتِهِ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُوتِيَ، وَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ، فَأَوْصِدُوهُ إِيصَادًا وَأَحْكِمُوهُ رِتَاجًا -عِبَادَ اللهِ- بِالْبِرِّ بِالْأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَإِلَّا فَإِنَّ الذُّلَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِالْعَاقِّ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ مَنْ بَلَغَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

فَدَعَا بِالذِّلَّةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِكُلِّ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ.

 ((حَالُ السَّلَفِ فِي بِرِّهِمْ بِوَالِدِيهِمْ))

فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «تُبْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».

قَالَ عَطَاءٌ: فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟

فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».

لِأَنِّي لَا أَجِدُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَعْدِلُ فِي الْفَضْلِ وَفِي الْأَجْرِ الْبِرَّ بِالْأُمِّ.

وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْهُ- حَرِيصًا غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى أُمِّهِ، كَانَ لَهُ أَرْضٌ بِـ (الْعَقِيقِ)، فَكَانَ إِذَا مَا دَخَلَ أَرْضَهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمِّي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

تَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا وَلَدِي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

فَيَقُولُ لَهَا: جَزَاكِ اللهُ خَيْرًا عَنِّي بِمَا رَبَّيْتِينِي صَغِيرًا.

تَقُولُ: وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْرًا بِمَا بَرَرْتَنِي بِهِ كَبِيرًا)).

أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَتْ أُمُّهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ مُشْرِكَةً كَافِرَةً، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ ، فَتَرُدُّهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ يَوْمًا، فَسَمِعَ مِنْهَا فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ مَا يَكْرَهُ، فَبَكَى خَوْفًا عَلَيْهَا، وَإِشْفَاقًا مِنَ الْحَالِ الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا؛ أَنْ يُصِيبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَسْفٍ أَوْ مَسْخٍ أَوْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

وَمَضَى مُسْرِعًا يَبْكِي مُتَفَطِّرَ الْقَلْبِ مِنَ الْأَسَى، مُتَصَدِّعَ الْفُؤَادِ مِنَ الشَّجَنِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَى أُمِّي الْإِسْلَامَ فَتَأْبَاهُ وَتَرْفُضُهُ، وَإِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهَا الْيَوْمَ الْإِسْلَامَ، فَسَمِعْتُ مِنْهَا فِي حَقِّكَ كَلَامًا شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللهِ، فَادْعُ اللهَ لَهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللهم اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)).

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ انْقَلَبْتُ إِلَى الْبَيْتِ، فَوَجَدْتُ الْبَابَ مُجَافًى -يَعْنِي قَدْ أُوصِدَ شَيْئًا مَا، قَالَ: وَسَمِعَتْ هِيَ خَشْفَ نَعْلِي -يَعْنِي: سَمِعَتْ صَوْتَ نَعْلَيْهِ يَصِرَّانِ مُقْبِلًا-.

قَالَ: وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَلَمَّا سَمِعَتْ خَشْفَ نَعْلِي وَحِسِّي مُقْبِلًا، قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! مَكَانَكَ.

ثُمَّ إِنَّهَا أُعْجِلَتْ -أَخَذَتْ دِرْعَهَا وَوَضَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا وَأُعْجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، ثُمَّ فَتَحَتِ الْبَابَ وَقَالَتْ: أَقْبِلْ.  

فَدَخَلَ، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

أَصَابَتْهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ.

فَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتَبَدَّلُ حَالُهُ، هُوَ مُنْذُ قَلِيلٍ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَيْنُهُ سُخْنَةٌ، وَأَمَّا الْآنَ فَيُقْبِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَرِيرَ الْعَيْنِ بَارِدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ دُمُوعَ الْحُزْنِ تَكُونُ سَاخِنَةً، وَأَنَّ دُمُوعَ الْفَرَحِ تَكُونُ بَارِدَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ -مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ- يَعْنِي يَدْعُونَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ فَرِحًا إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا بَاكِيًا بِدُمُوعِ الْفَرَحِ الْبَارِدَةِ، قَرِيرَ الْعَيْنِ كَمَا يَقُولُونَ.

أَبُو هُرَيْرَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُنْذُ قَلِيلٍ أَقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَاكِيًا -عَلَى لَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ- بُكَاءً مَرِيرًا سَاخِنَ الْعَيْنِ -كَمَا مَرَّ-.

وَالْآنَ هُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بَاكِيًا -أَيْضًا- وَلَكِنَّهُ يَبْكِي بُكَاءَ الْفَرَحِ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَبْشِرِ اسْتَجَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعْوَتَكَ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ أُمُّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَادْعُ اللهَ لِي وَلَهَا يَا رَسُولَ اللهِ.

فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّهِ أَنْ يُحَبِّبَهُمَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ.

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لِذَا لَنْ تَجِدَ مُؤْمِنًا أَبَدًا إِلَّا وَهُوَ مُحِبٌّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَأَنَا أُشْهِدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنِّي أُحِبُّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَكُمْ لَهُمَا مِنَ الْمُحِبِّينَ.

الرَّسُولُ ﷺ لَمَّا وَجَدَ مِنْ حَدَبِهِ وَمِنْ بِرِّهِ بِأُمِّهِ مَا وَجَدَ دَعَا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَهَا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهَا مَا كَانَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

وَعَلَامَةٌ فَارِقَةٌ مُضِيئَةٌ تَجِدُهَا فِي سُنَّةِ الْمَعْصُومِ ﷺ؛ النَّبِيُّ ﷺ يُوصِي عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْفَارُوقَ وَيُوصِي الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِذَا مَا جَاءَتْكُمْ أَمْدَادَ أَهْلِ الْيَمَنِ فَسَوْفَ يَأْتِيكُمْ أُوَيْسٌ بْنُ عَامِرٍ الْقَرَنِيِّ، مِنْ (مُرَادٍ) ثُمَّ مِنْ (قَرَنٍ)، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ فِي شِفَائِهِ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يُبْرَأَ بِحَالٍ أَبَدًا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا قَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَرْفَعَهُ عَنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ.

طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ فِي جِلْدِهِ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْبَرَصِ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِيهِ وَحَتَّى لَا يَنْسَاهُ؛ لِيَعْلَمَ مُجَدَّدًا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَدَعَا اللهَ، فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ)).

النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَأْتِي بِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مُهِمة، يَقُولُ: ((لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)).

فَلَمَّا جَاءَ أُوَيْسٌ وَلَقِيَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

لَكَ وَالِدَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي.

يَسْتَغْفِرُ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!!

وَمِنْ حَيْثِيَّاتِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَجُلُ صِدْقٍ أَنَّهُ بَارٌّ بِأُمِّهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي وَصَّى بِهَا مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((وَصَّانِي النَّبِيُّ ﷺ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ.. )). مِنْهَا: قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا تُشْرِكْ بِاللهِ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ)).

إِنَّنَا لَفِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، قَدْ يُؤْتَى الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى، وَيَكُونُ حِصْنُهُ أَضْعَفَ مَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمَنْطِقَةِ بِذَاتِهَا، وَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ -وَتَأَمَّلْهَا مَلِيًّا، وَاجْعَلْهَا بِإِزَاءِ قَلْبِكَ، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، تَأَمَّلْهَا مَلِيًّا- قَالَ: ((مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ)) ، ((مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ أَبَوَيْهِ)) .

مَلْعُونٌ: مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحْمَةِ!!

وَانْظُرْ إِلَى الْمَطْرُودِ خَارِجِ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ، خَارِجِ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ لَا تُدْرِكُهُ وَلَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ!!

انْظُرْ إِلَيْهِ مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمَلْعُونُ؟!!

أَلَا إِنَّ الذُّنُوبَ بِآثَارِهَا، وَإِنَّ الْآثَامَ بِنَتَائِجِهَا فَاعِلَةٌ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ، فَاعِلَةٌ فِي الرُّوحِ الْحَيَّةِ، فَاعِلَةٌ فِي دُنْيَا اللهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا وَأُمَمًا وَعَالَمًا.

وَالْعَالَمُ مُطْبِقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبُّكَ.

فَاللهم اغْفَرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

 ((كِبَارُ السِّنِّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].

وَمِنْكُمْ مَنْ يَتَوَفَّى قَبْلَ بُلُوغِ وَقْتِ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ وَاكْتِمَالِ الْعَقْلِ، وَبَعْضُكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ، فَيَبْلُغُ السِّنَّ الَّذِي يَتَغَيِّرُ بِهِ عَقْلُهُ، فَلَا يَعْقِلُ هَذَا الْمُعَمَّرُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ طُفُولَتِهِ؛ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، قَلِيلَ الْإِدْرَاكِ.

لَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى فَضْلِ طُولِ الْعُمُرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ، فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟

قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).

قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟

قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

خَيْرُكُم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ.

وَهَذَا وَرَدَ -أَيْضًا- فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا)).

فَخَيْرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ إِلَّا فَضْلًا، وَلَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا خَيْرًا، وَلَا يَزْدَادُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنَ اللهِ إِلَّا قُرْبًا.

وَأَمَّا شَرُّ النَّاسِ فَمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِطُولِ الْعُمُرِ إِلَّا شَرًّا، وَلَا يَزْدَادُ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطُولِ عُمُرِهِ إِلَّا بُعْدًا.

خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ.

 ((إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ أَعْطَى الْإِسْلَامُ الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ؛ لِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ السَّبْقِ فِي الْوُجُودِ وَتَجْرِبَةِ الْأُمُورِ.

وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ ﷺ: «فَلَيْسَ مِنَّا»: أَيْ: لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ مِنَّا.

فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَوُجُوبِ الرَّحْمَةِ، مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضٍ، وَمِنْ مُقْتَضَى حُسْنِ الْخُلُقِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ يُوَقِّرَ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِوُجُودِ حُسْنِ الْخُلُقِ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَرْحَمَ الْكَبِيرُ الصَّغِيرَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ قَدْ عَقَلَ مَا لَا يَعْقِلُ الصَّغِيرُ، وَعَلِمَ مَا لَا يَعْلَمُ الصَّغِيرُ.

 ((جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ الْمُسِنِّينَ فِي الْإِسْلَامِ))

1*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسِنِّينَ- فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: الْإِجْلَالُ وَالِاحْتِرَامُ وَالتَّقْدِيرُ:

الْإِسْلَامُ يُعْطِي الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ، وَإِجْلَالُهُ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ.

*وَمِنْ مَظَاهِرِ احْتِرَامِ الْكَبِيرِ: التَّوْسِعَةُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ:

مِنْ إِجْلَالِ الْكَبِيرِ: التَّوْسِعَةُ لِلْقَادِمِ عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ إِذَا أَمْكَنَ التَّوْسِيعُ لَهُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِكْرَامِهِ مِنَ الشُّيُوخِ  سَوَاءٌ كَانَ ذَا شَيْبَةٍ، أَوْ ذَا عِلْمٍ، أَوْ لِكَوْنِهِ كَبِيرَ قَوْمٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ -وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ  بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ كَمَا فِي «السِّلْسلَةِ الصَّحِيحَةِ»-: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمٌ فَأَكْرِمُوهُ».

2*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسِنِّينَ- فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: إِكْرَامُهُمْ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: ((إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.

«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ»؛ أَيْ: مِنْ تَبْجِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

«إِكْرَامَ ذَيِ الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»: تَعْظِيمَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى؛ لِحُرْمَةِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ.

فَالَّذِي يَتَدَبَّرُ مُتَأَمِّلًا يَرَى أَهْمِيَّةَ هَذِهِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ،  وَيَعْلَمُ سُمُوَّ مَنْزِلَتِهَا؛ فَإِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ تَعَالَى ومِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ  يَعْرِفَ الْمَرْءُ حَقَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ.

فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: تَأْكِيدُّ نَبَوِيٌّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى تَوْقِيرِ الْكِبَارِ، وَإِجْلَالِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ.

وَفِيهَا: بَيَانُ فَضِيلَةِ وَأَسَاسِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، مَعَ بَيَانِ الْخَيْرِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُجْتَمَعُ الْفَاضِلُ؛ لِأَنَّ خَلَلًا عَظِيمًا جِدًّا يَحْدُثُ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا لَا يُعْرَفُ لِلْكَبِيرِ حَقُّهُ، وَالنَّبِيُّ ص شَدَّدَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.

3*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: أَنْ نُقَدِّمَهُمْ عِنْدَ الْكَلَامِ:

فَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جُهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ.

قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ». يُرِيدُ السِّنَّ؛ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فِي الْحَدِيثِ: الْبَدْءُ بِالْكَلَامِ لِلْأَكْبَرِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ إِلَّا إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ أَعْلَمَ وَأَقْدَرَ مِنَ الْكَبِيرِ عَلَى الْبَيَانِ وَالتِّبْيِينِ.

«لَمَّا جَاءَ وَفْدٌ إِلَى عُمْرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَشَرَعَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: عَلَى رِسْلِكَ فَلْيَتَكَلَّمْ أَكْبَرُكُمْ.

فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالسِّنِّ لَكَانَ مِنْ رَعِيَّتِكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِمَجْلِسِكَ مِنْكَ.

قَالَ: فَتَكَلَّمْ بَارَكَ اللهُ فِيكَ.

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا

 

 

وَلَيْسَ جَهُولُ الْقَوْمِ كَمَن هُوَ عَالِمٌ

فَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ

 

 

صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ»

4*مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ: الْحَيَاءُ وَالتَّأَدُّبُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لاَ تَحُتُّ وَرَقَهَا)).

فَوَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّمَا، قَالَ النَّبِيُ ﷺ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

فَلَمَّا خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَقَعَ فِي نَفْسِي النَّخْلَةُ.

قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَهَا؟ لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلَّا لَمْ أَرَكَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُمَا، فَكَرِهْتُ.

الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ سِوَى مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

قَوْلُهُ: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا))؛ أَيْ: تُعْطِي ثَمَرَهَا.

قَوْلُهُ: ((لَا تَحُتُّ وَرَقَهَا))؛ أَيْ: لَا تُسْقِطُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ)): ((أَسْنَانُ)): جَمْعُ سِنٍّ بِمَعْنَى عُمُرٍ؛ يَعْنِي: كِبَارَ الْقَوْمِ وَشُيُوخَهُمْ حَاضِرُونَ، أَفَأَتَكَلَّمُ أَنَا؟!

فَمَا أَعْظَمَ أَدَبَهُ!

وَمَا أَقَلَّ أَدَبَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ!

فِي الْحَدِيثِ: تَوْقِيرُ الْكِبَارِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْكِبَارُ الْمَسْأَلَةَ فَيَنْبَغِي لِلصَّغِيرِ أَنْ يَقُولَهَا.

5*حُقُوقٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ -كِبَارُ السِّنِّ بِهَا أَجْدَرُ وَأَوْلَى-:

فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَكُمْ بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) .

وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).

7*مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ -وَكِبَارُ السِّنِّ مِنَ الْمُسِنِّينَ بِهَا أَوْلَى وَأَجْدَرُ؛ لِضَعْفِهِمْ-: الْحِرْصُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَكَشْفِ كُرُبَاتِهِمْ، وَسَتْرِ عَوَرَاتِهِمْ، وَرِعَايَتِهِمْ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً»، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قُضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جَزَعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا».

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ إِكْرَامِ ذِي الشَّيْبَةِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ: بِرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرِ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ يَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْمُجْتَمَعَات، وَالـتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ اللَّهِ، لَا مِنْ أَجْلِ الْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ، وَلَا لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

اللهم ارْزُقْنَا الْبِرَّ بِأَبَوَيْنَا.

اللهم عَافِنَا وَعَافِ آبَاءَنَا، عَافِنَا وَعَافِ أُمَّهَاتِنَا.

اللهم ارْحَمْنَا وَارْحَمْ آبَاءَنَا، ارْحَمْنَا وَارْحَمْ أُمَّهَاتِنَا.

اللهم ارْزُقْنَا الْبِرَّ بِوَالِدِينَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِدْمَانُ وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ وَسُبُلُ مُوَاجَهَتِهِ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  أَعْمَالُ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ السَّادِسُ: احْذَرُوا عَوَاقِبَ الذُّنُوبِ!))
  الحج كأنك تراه
  الرد على الملحدين:دلالة الآيات الكونية على خالقها ومبدعها
  السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان