((الْوَطَنِيَّةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ))
فَـ((إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهَا الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْأَرْضِ؛ فَالْإِبِلُ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطُّيُورُ تَحِنُّ إِلَى أَعْشَاشِهَا وَأَوْكَارِهَا، أَمَّا الْإِنْسَانُ فَحَنِينُهُ إِلَى وَطَنِهِ أَشَدُّ، وَشَوْقُهُ إِلَيْهِ أَكْبَرُ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: ((عَالَجْتُ الْعِبَادَةَ فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى الْوَطَنِ)).
فَهُوَ إِذَا جَلَسَ فِي مَكَّةَ -مَثَلًا-؛ نَازَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ بَغْدَادَ.
وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا قَاسَيْتُ فِيمَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ)).
وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي تَسْخِيرِ النَّاسِ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ: أَنْ جَعَلَ حُبَّ الْوَطَنِ -حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْوَطَنُ قَلِيلَ الْخَيْرِ- مُتَأَصِّلًا فِي النُّفُوسِ مَجْبُولَةً عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْلَا حُبُّ الْوَطَنِ لَخَرِبَ الْبَلَدُ السُّوءُ)). ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ)).
وَجَاءَ عِنْدَ ابْنِ حَمْدُونَ فِي ((التَّذْكِرَةِ)) بِلَفْظ: ((عَمَّرَ اللهُ الْبُلْدَانَ بِحُبِّ الْأَوْطَانِ)).
فَتَرَى الْبَلَدَ الْقَلِيلَ الْأَمْطَارِ، الْكَثِيرَ الْحَرِّ، أَوِ الْكَثِيرَ الْأَوْبِئَةِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَعْدِلُ بِهِ أَهْلُهُ جَنَّاتٍ فِي الْأَرْضِ وَأَنْهَارًا.
قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَكُنَّا أَلِفْنَاهَا وَلَمْ تَكُ مَأْلَفًا = وَقَدْ يُؤْلَفُ الشَّيْءُ الَّذِي لَيْسَ بِالْحَسَنْ
كَمَا تُؤْلَفُ الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ بِهَا = هَوَاءٌ وَلَا مَاءٌ وَلَكِنَّهَا وَطَنْ
وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَطَنَ قَرِينُ النَّفْسِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: ((الْخُرُوجُ مِنَ الدِّيَارِ مَقْرُونٌ بِالْقَتْلِ فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))، وَإِذَا كَانَ النَّاسُ -كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ-: ((... نُفُوسَ الدِّيَارِ))؛ فَخُرُوجُهُمْ مِنْهَا قَتْلُهَا، وَانْتِقَالُ وِلَايَتِهِمْ عَنْهَا عَزْلُهَا.
وَهُوَ يُشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: ((لَوْ شَدَدْنَا عَلَى النَّاسِ التَّكْلِيفَ كَأَنْ نَأْمُرَهُمْ بِالْقَتْلِ -قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ-، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَوْطَانِ؛ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمَا فَعَلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ.
فَلَمَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، بَلْ كَلَّفْنَاهُمْ مِنَ الْأُمُورِ مَا يُطِيقُونَ؛ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَجِيبُوا وَيُؤْمِنُوا، وَيَتْرُكُوا الْعِنَادَ وَالتَّمَرُّدَ)).
فَفِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ وَالْخُرُوجَ مِنَ الْوَطَنِ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ؛ وَلِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ عَلَيْنَا كَمَا جَعَلَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُقُوبَةً أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَلَّا يَسْتَقِرُّوا فِي وَطَنٍ؛ فَالْحَمْدُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّذِي عَافَانَا.
وَبِمَا أَنَّ الْوَطَنَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَلَهُ هَذِهِ الْمَكَانَةُ؛ فَهَلْ حُبُّهُ وَالْحَنِينُ إِلَيْهِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ؟ وَهَلِ الدِّفَاعُ عَنْهُ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؟
إِنَّ حُبَّ الْمُسْلِمِ لِوَطَنِهِ الَّذِي قَامَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ وَارْتَفَعَ فِيهِ حَتَّى أَصْبَحَ وَطَنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادَهُمْ هُوَ حُبٌّ مَشْرُوعٌ، يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ الْغَرِيزِيُّ، وَالْحُبُّ الشَّرْعِيُّ.
وَمَا تَوَلَّدَ حُبُّ الْوَطَنِ إِلَّا عَنْ حُبِّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، ثُمَّ عَنْ تَعَلُّقِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَحَلِّ وِلَادَتِهِ وَمَكَانِ نَشْأَتِهِ.
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ = مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ = عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا
فَقَدْ أَلِفَتْهُ النَّفْسُ حَتَّى كَأَنَّهُ = لَهَا جَسَدٌ إِنْ بَانَ غُودِرْتُ هَالِكًا
وَقَدْ قِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: ((أَتَشْتَاقُ إِلَى وَطَنِكَ؟)).
قَالَ: ((كَيْفَ لَا أَشْتَاقُ إِلَى رَمْلَةٍ كُنْتُ جَنِينَ رُكَامِهَا وَرَضِيعَ غَمَامِهَا؟!!)).
وَأَبْيَاتُ الشُّعَرَاءِ وَمَقَالَاتُ الْحُكَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
هَذَا مِنْ جَانِبٍ.
وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ؛ حُبُّ الْوَطَنِ تَوَلَّدَ مِنْ حُبِّ شَعَائِرِ اللهِ الَّتِي تُقَامُ عَلَيْهِ، وَمِنْ حُبِّ الْعِلْمِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْمُسْلِمُ فِيهِ، وَمِنْ حُبِّ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنْظِيمِ أُمُورِهِمْ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ عَلَى تُرَابِهِ.
فَحُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا: مَا جَاءَ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مَشْرُوعٌ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ –أَيْ: أَسْرَعَ بِهَا-، وَإِذَا كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا؛ مِنْ حُبِّهَا)) أَيْ: مِنْ حُبِّ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ -عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ-.
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
قَالَ الْحَافِظُ: ((فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ، وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ))، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((اللهم حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْوَحْيِ: أَنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).
قَالَ ﷺ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ الْحَلَبِيُّ فِي ((السِّيرَةِ)) وَغَيْرُهُ: ((الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ، وَعُسْرِ مُفَارَقَتِهِ؛ خُصُوصًا وَذَلِكَ الْوَطَنُ حَرَمُ اللهِ، وَجِوَارُ بَيْتِهِ، وَمَسْقَطُ رَأْسِهِ)).
((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!!)).
وَفِي إِشَارَةٍ نَبَوِيَّةٍ كَرِيمَةٍ نَبَّهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَنَّ تُرْبَةَ الْأَرْضِ يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ عُنْصُرًا مِنْ عَنَاصِرِ الدَّوَاءِ الَّذِي يَشْفِيهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ، فَهَذَا طِبٌّ نَبَوِيٌّ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَيْثُ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرْقِي الْمَرِيضَ، فَيَجْعَلُ فِي أُصْبُعِهِ رِيقَهُ، ثُمَّ يَضَعُ الْأُصْبُعَ عَلَى التُّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهِ التُّرَابُ، ثُمَّ يَقُولُ: ((بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).
وَمِنْهَا مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ مِنْ وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَالْكَلِمَةِ الْمَقْرُوءَةِ أَوِ الْمَسْمُوعَةِ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ تَعَيُّنِ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ: إِذَا دَهَمَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45].
وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ.. وَذَكَرَ مِنْهَا: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُؤَكِّدُ الْقِتَالَ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246].
فَصَاحِبُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالدِّينِ الْمُسْتَقِيمِ يَجِدُ حُرْمَةَ بَلَدِهِ فِي قَلْبِهِ كَحُرْمَةِ أَهْلِهِ، كَحُرْمَةِ أَبَوَيْهِ، كَحُرْمَةِ إِخْوَانِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((تُرْبَةُ الصِّبَا تَغْرِسُ فِي النُّفُوسِ حُرْمَةً كَمَا تَغْرِسُ الْوِلَادَةُ فِي الْقَلْبِ رِقَّةً)).
لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنَّا هَذَّبَهُ الْإِسْلَامُ، وَامْتَلَأَ وَفَاءً، وَبَقِيَ عَلَى فِطْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا وَهُوَ يَحْمِلُ فِي نَفْسِهِ حُبَّ وَطَنِهِ، وَإِكْبَارَهُ، وَالْخَوْفَ عَلَيْهِ، قَلْبُهُ مُشْبَعٌ بِالْإِعْزَازِ لِوَطَنِهِ، مُفْعَمٌ بِالتَّفَاخُرِ بِهِ وَالِاعْتِزَازِ بِهِ)).
((الْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ))
إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، وَلَا كَلِمَاتٍ تُقَالُ، إِنَّمَا هِيَ حُبٌّ صَادِقٌ، وَوَلَاءٌ وَانْتِمَاءٌ وَعَطَاءٌ، وَاسْتِعْدَادٌ دَائِمٌ لِلتَّضْحِيَةِ فِي سَبِيلِ الدِّينِ الْحَقِّ وَالْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ، أَمْ بِالْوَقْتِ، أَمْ بِالْجُهْدِ، أَمْ بِالنَّفْسِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
((أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ عَاوَضَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِذْ بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ قَبِلَ الْعِوَضَ عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: ((بَايَعَهُمْ -وَاللهِ- فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ)).
وَقَوْلُهُ: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أَيْ: سَوَاءٌ قَتَلُوا، أَوْ قُتِلُوا، أَوِ اجْتَمَعَ لَهُمْ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي بِأَنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)).
وَقَوْلُهُ: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْوَعْدِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ فِي كُتُبِهِ الْكِبَارِ؛ وَهِيَ: التَّوْرَاةُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلُ عَلَى عِيسَى، وَالْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: وَلَا وَاحِدَ أَعْظَمُ وَفَاءً بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيْ: فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ قَامَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ، وَوَفَى بِهَذَا الْعَهْدِ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
وَقَدْ بَشَّرَ نَبِيُّنَا ﷺ حُرَّاسَ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَزِيزِ، الَّذِينَ يُضَحُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ دِفَاعًا عن دِينِهِ وَعَنْهُ بِالنَّجَاةِ التَّامَّةِ وَالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَيَقُولُ ﷺ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسُ الْحَرَسِ فِي أَرْضِ خَوْفٍ لَعَلَّهُ أَلَّا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ)).
((مُقْتَضَيَاتُ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ))
إِنَّ الْوَطَنَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ لِقُوَّتِهِ وَعِزَّتِهِ وَرِفْعَتِهِ وَتَقَدُّمِهِ سُبُلٌ يَنْبَغِي أَنْ تُحَقَّقَ، وَوَسَائِلُ يَنْبَغِي أَنْ تُلْتَمَسَ.
إِنَّ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ: السَّعْيَ لِاسْتِقْرَارِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَقَدُّمِهِ، وَالْحِفَاظِ عَلَى الْأَمْنِ فِيهِ وَالْأَمَانِ، وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ لِلْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَدَعْوَةِ كُلِّ أَبْنَاءِ الْوَطَنِ إِلَيْهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشِّرْكِ.
وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ.. كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ؛ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَأَوْهَى قُوَّتَهُمْ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَأُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.
فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأُسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ؛ عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.
وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).
كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.
عِبَادَ اللهِ! إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.
إِنَّ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَحْتَاجُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ!! هَؤُلَاءِ يَخُونُونَ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَالْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ!!
وَهَؤُلَاءِ مِنْ جُنْدِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَوْحِيدُهُمْ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِخْلَاصُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
الْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَخَاتَمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَّقَهُمْ، وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
فَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.
هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَبِسَبَبِهِ كَانَتِ الْمِحْنَةُ، وَوَقَعَتِ الْمَلْحَمَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ، هُوَ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ، أَمْرُ التَّوْحِيدِ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ، الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)).
هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.
لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).
فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.
كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
{آمَنُوا} أَيْ: أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ للهِ، صَدَّقُوا بِقُلُوبِهِمْ، ونَطَقُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَعَمِلُوا بِجَوَارِحِهِمْ.
وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ: تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ: الشِّرْكُ، وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}
وَالْأَمْنُ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ، وَزَوَالُ الْخَوْفِ.
{وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: مُوَفَّقُونَ لِلسَّيْرِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ثَابِتُونَ عَلَيْهِ.
{وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فِي الدُّنْيَا إِلَى شَرْعِ اللهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؛ فَالِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ هِدَايَةُ إِرْشَادٍ، وَالِاهْتِدَاءُ بِالْعَمَلِ هِدَايَةُ تَوْفِيقٍ.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجِنَّةِ.
فَبَيَّنَ ثَوَابَ الْمُوَحِّدِ، وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَخْلِطُوا تَوْحِيدَهُمْ بِظُلْمٍ –أَيْ: بِشِرْكٍ-؛ أَنَّهُمْ هُمُ الْآمِنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمُهْتَدُونَ إِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.
ثَمَرَاتُ التَّوْحِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالْأَمْنُ النَّفْسِيُّ، وَالشُّعُورُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْحَيَاةُ السَّعِيدَةُ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقَلَقِ وَالشَّقَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ النَّيِّرَةِ وَالرَّوْضَاتِ الْمُونِقَةِ يُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْنًا نَفْسِيًّا، وَسَوَاءً عَقْلِيًّا، وَشُعُورًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ؛ يَحْسُدُهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ.
كَمَا قَالَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ –يَعْنِي: مِنْ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلَجْئِهِ إِلَيْهِ، وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا يَجِدُ كِفَاءَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ وجَسَدِهِ- يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَأْتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ أَقُولُ: لَوْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ)).
فَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا الْأَمْرُ؛ {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
فَالْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.
إِنَّ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ: تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ الْمَجِيدِ، وَتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى سَبِيلَا سَعَةِ الرِّزْقِ، وَالِاطْمِئْنَانِ فِي الْأَوْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ قِلَّةِ إِيمَانِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ أُرْسِلَ فِيهِمُ الرُّسُلُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} [يونس: 98] أَيْ: مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ بِتَمَامِهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ؛ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا، وَذَلِكَ بَعْدَمَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} [الصافات: 147-148]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أَيْ: آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَصَدَّقَتْ بِهِ وَاتَّبَعَتْهُ، وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: قَطْرَ السَّمَاءِ وَنَبَاتَ الْأَرْضِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَيْ: وَلَكِنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا كَسَبُوا مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ هَؤُلَاءِ الْقَاسِطُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ؛ {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} يَقُولُ: لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ، وَبَسَطْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا)).
إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ سُبُلِ قُوَّةِ الْوَطَنِ وَعِزَّتِهِ، وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ: الْبُعْدُ عَنِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، وَمُجَانَبَةُ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّومِ: 41].
قَالَ مُجَاهِدٌ: ((إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ، فَيَهْلِكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ)).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ: بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((أَمَّا الْبَرُّ فَأَهْلُ الْعَمُودِ -يَعْنِي: أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَنْصِبُونَ الْخِيَامَ، وَيَتَّخِذُونَ الْأَعْمِدَةَ لِنَصْبِهَا-، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَأَهْلُ الْقُرَى وَالرِّيفِ)).
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ الْعَذْبَ بَحْرًا، فَقَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فَاطِرٍ: 12].
وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَحْرٌ حُلْوٌ وَاقِفٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ، وَالْبَحْرُ الْمِلْحُ هُوَ السَّاكِنُ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: (({ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قَالَ: الذُّنُوبُ)).
أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ نَفْسُهَا؛ فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: النَّقْصُ، وَالشَّرُّ، وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُوبَةً، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً)).
وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ (الْفَسَادَ) الْمُرَادُ بِهِ: الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، فَهَذَا حَالُنَا، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)).
فَاللهم سَلِّمْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ؛ الْمُرَادُ بِهِ: الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}؛ فَهَذَا حَالُنَا.
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ عُقُوبَةً؛ فَالْمَعَاصِي تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَفِي الْهَوَاءِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ وَالنُّفُوسِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ وَحَرَكَةِ الْحَيَاةِ.
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ سَبَبًا لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ، وَحُلُولِ عِقَابِهِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
أَيْ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَقِيلَ: سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ فَفَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
إِنَّ النَّاسَ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ هَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا هَانُوا عَلَيْهِ تَرَكَهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ عُقُوبَةٍ وَأَكْبَرُهَا؛ إِذْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَحَاطَ الْعَبْدَ بِكَلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ فَقَدْ شَمِلَهُ بِرَحْمَتِهِ.
وَإِذَا تَخَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْعَبْدِ صَارَ فِي الضَّلَالِ فِي كُلِّ وَادٍ، ثُمَّ إِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْغِيصِ فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ مَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ حَيَاةُ النَّكَدِ الصِّرْفِ، وَلَا يَصِحُّ لِلْقَلْبِ حَيَاةٌ حَتَّى يَعْرِفَ الْقَلْبُ رَبَّهُ، وَحَتَّى يُحِبَّهُ، وَحَتَّى يَتِمَّ الْحُبُّ عَلَى تَمَامِهِ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَبْدًا للهِ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
((وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ مَكَّةُ الْمُشَرَّفَةُ الَّتِي كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَةً، لَا يُهَاجُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَحْتَرِمُهَا الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ يَجِدُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَهِيجُهُ مَعَ شِدَّةِ الْحَمِيَّةِ فِيهِمْ وَالنَّعْرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَحَصَلَ لَهَا مِنَ الْأَمْنِ التَّامِّ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِسِوَاهَا، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ الْوَاسِعُ.
كَانَتْ بَلْدَةً لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا شَجَرٌ؛ وَلَكِنْ يَسَّرَ اللَّهُ لَهَا الرِّزْقَ يَأْتِيهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَجَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُونَ أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى أَكْمَلِ الْأُمُورِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ، فَكَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ ضِدَّ مَا كَانُوا فِيهِ، وَأَلْبَسَهُمْ لِبَاسَ الْجُوعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّغَدِ، وَالْخَوْفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ صَنِيعِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)).
كَمَا أَنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي التَّكَاتُفَ وَالتَّكَافُلَ وَالتَّرَاحُمَ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْوَطَنِ، وَالْمُشَارَكَةَ الْإِيجَابِيَّةَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَعَدَمَ اسْتِغْلَالِ الْأَزْمَاتِ أَوِ الْمُتَاجَرَةِ بِهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
((وَتَعَاوَنُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ- عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَتَقْوَى اللهِ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى مَا فِيهِ إِثْمٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِ اللهِ، وَاحْذَرُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).
وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
((أَرْمَلُوا)): فَرَغَ زَادُهُمْ، أَوْ قَارَبَ الْفَرَاغَ.
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَتَسَاعَدُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ جَمَعُوهُ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)). قَالَ ذَلِكَ تَشْجِيعًا لِمَا يَفْعَلُونَهُ.
وَمِنْ أُسُسِ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ: إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ، وَتَجْوِيدُهُ وَالتَّمَيُّزُ فِيهِ؛ قَصْدًا لِرِفْعَةِ الْوَطَنِ، وَتَنْمِيَتِهِ، وَتَقَدُّمِهِ، وَازْدِهَارِهِ؛ اسْتِشْعَارًا لِرِقَابَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْإِنْسَانِ فِي كُلِّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
((رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ، شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِكُمْ حَيْثُ أَنْتُمْ وَأَيْنَ كُنْتُمْ؛ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فِي الْبُيُوتِ أَوِ الْقِفَارِ، الْجَمِيعُ فِي عِلْمِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَتَحْتَ بَصَرِهِ وَسَمْعِهِ، فَيَسْمَعُ كَلَامَكُمْ، وَيَرَى مَكَانَكُمْ، وَيَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَنَجْوَاكُمْ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ عُمُومِ مُشَاهَدَتِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا الدَّعْوَةُ لِمُرَاقَبَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَقَالَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أَيْ: حَالٍ مِنْ أَحْوَالِكَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أَيْ: وَمَا تَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْكَ.
{وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أَيْ: وَقْتَ شُرُوعِكُمْ فِيهِ، وَاسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
فَرَاقِبُوا اللَّهَ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَأَدُّوهَا عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَإِيَّاكُمْ وَمَا يَكْرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ، عَالِمٌ بِظَوَاهِرِكُمْ وَبَوَاطِنِكُمْ.
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أَيْ: مَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أَيْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَجَرَى بِهِ قَلَمُهُ.
وَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا: الْعِلْمُ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكِتَابَتُهُ الْمُحِيطَةُ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ})).
((الْوَطَنِيَّةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))
إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَتَطَلَّبُ الْحِفَاظَ عَلَى دِينِ الْوَطَنِ وَأَرْضِهِ، وَمُوَاجَهَةَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ تَحَدِّيَاتٍ أَوْ مَخَاطِرَ أَوْ بَثِّ شَائِعَاتٍ، وَالتَّنَبُّهَ لِمَكَائِدِ خُصُومِهِ، وَعَدَمِ مُجَارَاةِ مَا يَبُثُّونَهُ مِنْ سُمُومٍ، بَلِ الْإِسْهَامِ فِي دَحْضِهَا وَبَيَانِ زَيْفِهَا.
إِنَّ الْوَطَنِيَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَكْذِبُ، وَلَا يَخُونُ، وَلَا يَغُشُّ، وَلَا يَحْتَكِرُ، وَلَا يَتَآمَرُ، وَلَا يَنْشُرُ الشَّائِعَاتِ، وَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ، إِعْمَارٌ لَا تَخْرِيبٌ، الْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ تَقْتَضِي عِمَارَةَ الْكَوْنِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
(({هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ} أَيِ : ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْهَا، مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا أَبَاكُمْ آدَمَ، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا عُمَّارًا تَعْمُرُونَهَا وَتَسْتَغِلُّونَهَا)).
حَيْثُ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلشَّرْعِ، وَيَكُونُ الْبِنَاءُ وَالتَّعْمِيرُ تَكُونُ الْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَحَيْثُ يَكُونُ الْهَدْمُ وَالتَّخْرِيبُ وَالدَّمَارُ وَالْمُتَاجَرَةُ بِالْأَزَمَاتِ فَثَمَّةَ ادِّعَاءٌ كَاذِبٌ وَوَطَنِيَّةٌ مُزَيَّفَةٌ.
((قِيمَةُ الْوَطَنِ وَحَقِيقَةُ الِانْتِمَاءِ لَهُ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! فِي هَذَا الْعَصْرِ لَنْ تَقُومَ لِدِينٍ قَائِمَةٌ مِنْ غَيْرِ وَطَنٍ يُمْكِنُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْجُمَعُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَأَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ تَظْهَرَ فِيهِ الشَّعَائِرُ، وَأَنْ يُمَكَّنَ فِيهِ لِدِينِ اللهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِيهِ الدَّعْوَةُ ظَاهِرَةً إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى تَوْحِيدِهِ.
فِي هَذَا الْعَصْرِ خَاصَّةً وَقَدْ تَكَالَبَتْ عَلَى الْأُمَّةِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَأَتَوْا إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ حَدْبٍ يُرِيدُونَ إِزَالَتَهَا.
وَتَعْلَمُونَ أَوْ لَا تَعْلَمُونَ، وَيَعْلَمُ مَنْ وَرَاءَكُمْ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْغَرْبَ وَمَعَهُ الْأَمْرِيكَان يُرِيدُونَ إِعَادَةَ الشَّمَالِ الْأَفْرِيقِيِّ إِلَى اللَّاتِينِيَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا -يَزْعُمُونَ- قَبْلَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَمَا وَقَعَ فِي الْجَزَائِرِ مِنْ فَرْنَسَتِهَا أَوْ مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ، وَادِّعَاءِ وُزَرَاءِ خَارِجِيَّاتِهَا أَيَّامَ الِاحْتِلَالِ وَالِاسْتِعْمَارِ أَنَّ الْجَزَائِرَ جُزْءٌ مِنْ فَرَنْسَا، مَعَ أَنَّ الْبَحْرَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَمَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْهَا يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ؛ فَهُمْ يُرِيدُونَ إِعَادَةَ الشَّمَالِ الْإِفْرِيقِيِّ إِلَى اللَّاتِينِيَّةِ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْبَحْرُ الْأَبْيَضُ الْمُتَوَسِّطُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فِي ثَقَافَتِهِ، وَفِي دِيَانَتِهِ، وَفِي تَوَجُّهَاتِهِ، وَفِي فِكْرِهِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَتَعَمَّقُ فِي هَذَا، وَقَدْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِأُمُورٍ تَمُتُّ لِمِثْلِ هَذَا بِسَبَبٍ وَهُوَ بِهِ جَاهِلٌ، فَيُفْسِدُ كَثِيرًا، وَيَحْرِفُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ وَعَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
فِي هَذَا الْعَصْرِ وَالدَّنْدَنَةُ حَوْلَ أَنَّهُ لَا انْتِمَاءَ لِأَرْضٍ؛ هَكَذَا؟!! لَا انْتِمَاءَ لِأَرْضٍ؟!!
سَلِّمُوهَا -إِذَنْ- لِلْيَهُودِ!
سَلِّمُوهَا لِلصَّلِيبِيِّينَ!
سَلِّمُوهَا لِلْوَثَنِيِّينَ!
فَأَيْنَ يُقَامُ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!
فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي تَعْلُو فِيهِ النَّبْرَةُ، وَيَرْتَفِعُ فِيهِ الصَّوْتُ أَنَّ الْوَطَنَ مَا هُوَ إِلَّا قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ!!
لَيْتَهَا كَانَتْ مِنْ تُرَابٍ –أَيْ: تِلْكَ الْقَبْضَةَ- لَيْتَهَا كَانَتْ مِنْ تُرَابٍ طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ مِنْهُ الْمَرْءُ، أَوْ رُبَّمَا اسْتَفَادَ مِنْهُ؛ وَلَكِنْ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ؟!!
فَعَلَى الْيَدِ أَنْ تَتَخَلَّى عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَرْءُ عَلَى النَّجَاسَةِ هَكَذَا.
فَيَقُولُونَ: مَا الْوَطَنُ إِلَّا حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ!
أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ حُورِبَ هَذَا الدِّينُ بِالْقَوْمِيَّةِ، فَلَمَّا فَشَلَتْ لَجَئُوا إِلَى الْوَطَنِيَّةِ -أَعْلَمُ هَذَا-؛ لِكَيْ تَكُونَ حَالَّةً مَحَلَّ الدِّينِ، وَلِتَتَمَزَّقَ عُرَى الْأُمَّةِ، وَلِكَيْ تَنْحَلَّ كُلُّ الْوَثَائِقِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَشْمَلَهَا وَتَجْمَعَهَا، أَنَا أَعْلَمُ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- لَا يَسْتَدْعِي التَّهْوِيلَ، وَالْمُغَالَاةُ فِي مُعَالَجَةِ انْحِرَافٍ تُوَلِّدُ انْحِرَافًا آخَرَ، إِنَّ الْمُغَالَاةَ فِي مُعَالَجَةِ انْحِرَافٍ تُوَلِّدُ انْحِرَافًا آخَرَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ حَائِزًا عَلَى هَذَا الِانْتِمَاءِ؛ لِيُدَافِعَ عَنْ وَطَنِهِ ضِدَّ كُلِّ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَطْمَعَ فِيهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَرِّبَهُ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَيُسَلِّمُهُ لِمَنْ؟!!
لِمَنْ يُزِيلُ دِينَهُ؟!!
لِمَنْ يُبَدِّلُ عَقِيدَتَهُ؟!!
لِمَنْ يَنْتَهِكُ أَعْرَاضَ أَهْلِهِ؟!!
لِمَنْ يَنْهَبُ ثَرْوَاتِهِ؟!!
وَتَأَمَّلُوا فِيمَا وَقَعَ فِي الْعِرَاقِ، فَخَلْفِيَّةُ مَا وَقَعَ فِي الْعِرَاقِ فِي الِاحْتِلَالِ الَّذِي كَانَ أَمْرٌ -لَوْ قَرَأْتُمْ وَلَوْ بَحَثْتُمْ، وَهُوَ يَلْزَمُكُمْ- خَلْفِيَّةٌ عَقَدِيَّةٌ؛ لِذَلِكَ قَالَ الرَّئِيسُ الْأَمْرِيكِيُّ وَقْتَهَا: إِنَّهَا حَرْبٌ صَلِيبِيَّةٌ، هَكَذَا.. حَرْبٌ صَلِيبِيَّةٌ عَلَى الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمَوْرُوثَاتِ الَّتِي تَكَوَّنَتْ بِهَا ذِهْنِيَّةُ الْمُحَافِظِينَ الْجُدُدِ وَالصُّهْيُونِيَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.. هُنَاكَ مِنَ الثَّوَابِتِ عِنْدَهُمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ وَمِنَ الْآثَارِ وَمِمَّا يَرْجِعُ إِلَى التَّارِيخِ السَّحِيقِ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعِرَاقِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَتَخْرِيبِ مَا يَجِبُ أَنْ يُخَرَّبَ، وَقَدْ وَقَعَ.
وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ إِلَى رَئِيسِ الْمُوسَادِ الْيَهُودِيِّ بَعْدَ أَنْ أَدَّى الِاحْتِلَالُ وَظِيفَتَهُ؛ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ بَرْقِيَّةُ شُكْرٍ مِنَ الْإِدَارَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ عَلَى مَا قَامَ بِهِ الْمُوسَادُ فِي تَحْقِيقِ الْأَهْدَافِ الْأَمْرِيكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُحَافِظِينَ الْجُدُدِ مِمَّنْ يَنْتَمُونَ إِلَى الصُّهْيُونِيَّةِ الْمَسِيحِيَّةِ -كَمَا يَقُولُونَ-.
فَهَؤُلَاءِ لَا يُحَارِبُونَ فَقَطِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يُحَارِبُونَ -أَيْضًا- كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ مِنَ الْبُرُوتِسْتَانْت، فَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْأُرْثُوذُكْس وَلَا الْكَاثُولِيك وَلَا غَيْرَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ.
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ تَتَّفِقُ أَهْدَافُهُمْ وَمُعْتَقَدَاتُهُمُ الْآنَ مَعَ الْيَهُودِ؛ فَهِيَ صُهْيُونِيَّةٌ مَسِيحِيَّةٌ نَصْرَانِيَّةٌ.
اقْرَءُوا!
لِمَاذَا لَا تَقْرَؤُونَ؟!!
وَمَنْ يَأْخُذُ بِيَدِ الْأُمَّةِ؟!!
وَمَنْ يُعَلِّمُ هَذَا الشَّبَابَ الضَّائِعَ الْمِسْكِينَ الَّذِي يُضَحِّي بِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ طَائِلٍ؛ بَلْ يَضُرُّ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْفَعُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُ، وَيُصَوِّرُ هَذَا الدِّينَ دِينَ تَخْرِيبٍ وَتَفْجِيرٍ وَتَدْمِيرٍ وَإِزْهَاقٍ لِلْأَرْوَاحِ الْبَرِيئَةِ، وَهَتْكٍ لِكُلِّ الْأَعْرَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَضْلًا عَنِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَلِمَ الدَّنْدَنَةُ حَوْلَ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؟
لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجِبُ الْآنَ، فِي هَذَا الْعَصْرِ يُهَوَّنُ مِنْ هَذَا بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَيَّلَ الْإِنْسَانُ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِنْسَانَ بِلَا أَرْضٍ وَلَا وَطَنٍ وَلَا تَارِيخٍ.
وَالَّذِي لَا تَارِيخَ لَهُ لَا مُسْتَقْبَلَ لَهُ.
مَنْ لَا مَاضِيَ لَهُ لَا مُسْتَقْبَلَ لَهُ.
الْمُسْتَقْبَلُ يَرْتَبِطُ بِالْمَاضِي أَكْثَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِالْحَاضِرِ، وَالْحَاضِرُ يَصِيرُ مَاضِيًا، وَإِنَّكَ لَنْ تَنْزِلَ نَهْرًا وَاحِدًا مَرَّتَيْنِ، فَلَا النَّهْرُ النَّهْرَ، وَلَا أَنْتَ أَنْتَ، وَلَا الْأَجْوَاءُ الْأَجْوَاءَ؛ فَلَنْ تَنْزِلَ نَهْرًا وَاحِدًا مَرَّتَيْنِ، صَيْرُورَةُ التَّغَيُّرِ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، فَهَذَا الْحَاضِرُ يَصِيرُ مَاضِيًا بَعْدَ الْآنَ، وَلَا مُسْتَقْبَلَ لِمَنْ لَا مَاضِيَ لَهُ.
وَتَارِيخُكُمْ أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ تَارِيخٌ بَعِيدٌ؛ تَعْرِفُونَ أَيْنَ بَدَأَ؟!!
بَدَأَ مَعَ آدَمَ، تَارِيخُ هَذِهِ الْأُمَّةِ -أُمَّةِ التَّوْحِيدِ- يَبْدَأُ مِنْ آدَم -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، وَكُلُّ سَوِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ يُحِبُّ وَطَنَهُ، وَيَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ.. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي قَلْبِهِ.. مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ حُبَّ وَطَنِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مُنْحَرِفٌ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ!!
حَفِظَ اللهُ مِصْرَ..
اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.. اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.. اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا، وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَوَفِّقْهُمْ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
((لَا تَظْلِمْ فِيهِ نَفْسَكَ))
((الْجُمُعَةُ 3 مِنْ رَجَب 1430هـ الْمُوَافِقُ 26-6-2009م))
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْأُمَّةِ إِرْسَالُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وَأَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ: إِظْهَارُ مُحَمَّدٍ ﷺ لَهُمْ، وَبَعْثَتُهُ وَإِرْسَالُهُ إِلَيْهِمْ، وَالنِّعْمَةُ عَلَى الْأُمَّةِ بِإِرْسَالِهِ ﷺ أَعْظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ بِإِيجَادِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالرِّيَاحِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ النِّعَمَ كُلَّهَا قَدْ عَمَّتْ خَلْقًا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَكَفَرُوا بِاللهِ، وَبِرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا.
وَأَمَّا النِّعْمَةُ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُ بِهَا تَمَّتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَمُلَ بِسَبَبِهَا دِينُ اللهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِعِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، وَكَانَ قَبُولُهُ سَبَبًا لِسَعَادَتِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
((تَفْضِيلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ الْبَشَرِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ))
لَقَدْ فَضَّلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ أَفْضَلَ الْكُلِّ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
وَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِشُهْرَتِهِ ﷺ، وَقَدْ عَنَاهُ وَقَصَدَهُ ﷺ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا؛ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ صَرَاحَةً ﷺ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].
اللهُُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَخْتَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا إِلَى أَنْبِيَائِهِ، وَيَخْتَارُ مِنَ النَّاسِ رُسُلًا لِتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ إِلَى الْخَلْقِ، {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، {بَصِيرٌ} بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَبِمَنْ يَخْتَارُهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ خَلْقِهِ.
وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
وَمِنْ بَرَكَةِ هَذَا الْبَيْتِ الْحَرَامِ الْعَظِيمِ: أَنَّهُ فِيهِ تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ، وَتَتَنَزَّلُ فِيهِ الرَّحَمَاتُ، وَتُغْفَرُ فِيهِ الذُّنُوبُ وَالزَّلَّاتُ، وَفِي اسْتِقْبَالِهِ فِي الصَّلَاةِ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي قَصْدِهِ لِأَدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهُوَ صَلَاحٌ وَهِدَايَةٌ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} أَيْ: كَثِيرَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ يُضَاعَفُ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ، وَتُغْفَرُ فِيهِ الذُّنُوبُ لِمَنْ حَجَّهُ، وَطَافَ وَاعْتَكَفَ عِنْدَهُ.
وَمِنْ بَرَكَتِهِ: مَا ذَكَرَهُ -تَعَالَى- فِي قَوْلِهِ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]: يُجْلَبُ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ؛ فَضْلًا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَنِعْمَةً.
وَمِنْ بَرَكَتِهِ: دَوَامُ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَلُزُومُهَا، وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّلَاةَ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ خَلَا مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]: فَجَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ صَلَاحًا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَصَلَاحًا وَأَمْنًا لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وَصَلَاحًا وَفَلَاحًا لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ.
وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بَرَكَةً عَظِيمَةً -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَاكِنِهَا-، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا فَضْلًا كَبِيرًا؛ اسْتِجَابَةً لِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَجَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَرَامًا؛ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا –أَيْ: مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا- أَنْ يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلا يُحْمَلَ فِيهَا سِلاحٌ لِقِتَالٍ، وَلا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلا لِعَلْفٍ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا –ثَلاثًا-، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ)). هَذَا حَدِيثُهُ ﷺ وَدُعَاؤُهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي تَمْرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي لَأَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ)).
وَقَدِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالنَّاسُ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا يَشْهَدُونَ بَرَكَةَ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَشْهَدُونَ بَرَكَةَ تَمْرِهَا الَّذِي دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ)).
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ اسْتِجَابَةً لِدُعَاءِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَجَعَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ كَرَمِهِ وَمَنِّهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَلْفِ صَلَاةٍ.
وَبَارَكَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبَارَكَ حَوْلَهُ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} [الإسراء: 1].
فَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ، وَبَارَكَ حَوْلَهُ، وَجَعَلَهُ قِبْلَةَ أَنْبِيَائِهِ حَتَّى جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مَا سَارَ إِلَيْهِ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ، وَفَرَضَ فِيهِ الصِّيَامَ، ((فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، ((وَمَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَجَعَلَ قِيَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفْرَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَجَعَلَ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ فِيهَا عَبْدٌ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهُ؛ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا.
((وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ)).
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَجَعَلَ عَشِيَّتَهُ مُبَارَكَةً، يَنْزِلُ فِيهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَغْفِرُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْيَوْمِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَ لِلثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، فَيَنْزِلُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، يُنَادِي: ((أَلَا هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ أَلَا هَلْ مِنْ طَالِبِ حَاجَةٍ فَأَقْضِيَهَا؟ وَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)).
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِيَوْمَيْ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)) ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ ﷺ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ يُغْفَرُ عِنْدَمَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَكُلَّ خَمِيسٍ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا مَنْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَخِّرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَكَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْوَاصِلِينَ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ-.
قَالَ قَتَادَةُ: ((إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ)).
فَاصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وَاصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَمْكِنَةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَدِينَةَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَسَاجِدَ، وَجَعَلَ لَهَا خَاصَّةً؛ بِحَيْثُ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهَا بُيُوتَهُ فِي الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْفَضْلِ مَا فِيهِ؛ فَلَا يُعْتَدَى عَلَى حُرُمَاتِهَا، وَعَظَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَفَعَ قَدْرَهَا.
وَعَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ، وَفَضَّلَ بَعْضَها عَلَى بَعْضٍ؛ فَفَضَّلَ اللهُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ، وَفَضَّلَ اللهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَفَضَّلَ اللهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَفَضَّلَ اللهُ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى سَائِرِ اللَّيْلِ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ بِتَقْوَاهُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَاصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَأَخْفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ، كَمَا أَخْفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- غَضَبَهُ وَسُخْطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْرِصَ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَجْتَنِبُوا مَسَاخِطَ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
((تَعْظِيمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفَضَائِلُهَا))
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ أَشْهُرًا حُرُمًا، وَعَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْرَهَا، وَنَهَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
فَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْأَرْبَعَةُ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا خَطَبَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدَوَرَانِ ذَلِكَ فِي الْفَلَكِ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِحَسَبِ الْهِلَالِ، فَالسَّنَةُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَطُلُوعِهِ، لَا بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَانْتِقَالِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ خُصُوصِيَّةً لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيَرْتَبِطُ بِذَلِكَ مَا يَرْتَبِطُ مِنَ الْحِسَابِ وَالتَّقْدِيرِ {ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، فَقَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا، وَجَعَلَ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِذَلِكَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ وَالْفِطْرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِدَدِ الَّتِي تَكُونُ لِلنِّسَاءِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصِّيَامِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّهُورِ مَا هُوَ مِنْهَا حَلَالٌ وَمَا هُوَ مِنْهَا حَرَامٌ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَرْضَ الصِّيَامِ مُرْتَبِطًا بِذَلِكَ، وَهِيَ آيَةٌ كَوْنِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ؛ حَتَّى فِي حَالِ خَفَائِهَا جَعَلَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ مَخْرَجًا مِنْ خَفَائِهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ الْمَبْعُوثُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ﷺ، فَلَمْ يَجْعَلْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِقُوَّةٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْقُوَى الظَّالِمَةِ الْمُسْتَبِدَّةِ عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ كَوْنِيًّا ظَاهِرًا؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ الْعَبَثَ بِهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ غَيَّرُوا فِي الْمَوَاقِيتِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بِالنَّسِيءِ، يُقَدِّمُونَ وَيُؤَخِّرُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمَيْنِ عَامًا، وَصَفَرًا صَفَرَيْنِ عَامًا؛ لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ لِيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ، كُلُّ ذَلِكَ يَعْبَثُونَ بِالزَّمَانِ كَمَا عَبَثُوا بِالْمَكَانِ.
فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ الْأَكْرَمُ ﷺ؛ عَادَ الْأَمْرُ إِلَى نِصَابِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ))، فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى نِصَابِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَوَقَعَ حَجُّ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مُوَاطِئًا لِمَا كَانَ مُقَدَّرًا أَزَلًا عِنْدَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ عَلَى تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ إِكْرَامًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَلِأُمَّتِهِ.
السَّنَةُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ بِسَيْرِ الْقَمَرِ وَطُلُوعِهِ، لَا بِسَيْرِ الشَّمْسِ وَارْتِفَاعِهَا وَانْتِقَالِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ، ((وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهِنَّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَقِيلَ: سَبَبُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ؛ لِأَجْلِ تَمْكِينِ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَحُرِّمَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ فِيهِ، وَحُرِّمَ مَعَهُ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ لِلسَّيْرِ فِيهِ إِلَى الْحَجِّ، وَشَهْرُ الْمُحَرَّمِ لِلرُّجُوعِ فِيهِ مِنَ الْحَجِّ؛ حَتَّى يَأْمَنَ الْحَاجُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ.
وَحُرِّمَ شَهْرُ رَجَبٍ؛ لِلِاعْتِمَارِ فِيهِ فِي وَسَطِ السَّنَةِ، فَيَعْتَمِرُ فِيهِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ)).
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِيَاطَةً زَمَنِيَّةً بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ لِأَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ عَلَى الْوَجْهِ، فَجَعَلَ الشَّهْرَ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْمَنَاسِكُ شَهْرًا حَرَامًا، وَجَعَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَهْرًا حَرَامًا، وَجَعَلَ بَعْدَهُ شَهْرًا حَرَامًا؛ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْآتِي وَالذَّاهِبُ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالذَّهَابِ مِنْ غَيْرِ مَا خَوْفٍ وَلَا عَنَتٍ، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا.
((وَقَدْ شَرَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَرْسَلَ سَرِيَّةً، فَظَنُّوا أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ قِتَالٌ وَكَانَ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ بِلَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْجَاهِلِيُّونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مُحَمَّدًا يَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ)).
فبَكَّتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَا يُعَدُّ شَيْئًا فِي مُقَابِلِ شِرْكِهِمْ، وَفِي مُقَابِلِ كُفْرِهِمْ، وَفِي مُقَابِلِ فِتْنَتِهِمْ لِلنَّاسِ عَنْ دِينِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَفِي صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، وَالْفِتْنَةُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -بَلْ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ- مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْرٌ لَا تُسِيغُهُ الْفِطْرَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَلَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ؛ فَكَيْفَ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ؟!!
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَرَازِقُهُمْ، وَمَالِكُهُمْ، وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
شَرَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمِ عَلَى حَالِهِ –أَيْ: عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ-، وَمِنْهُمْ: عَطَاءٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ)).
قَالَ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
فَعَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرَ، وَنَهَى عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً، فَيُضَاعِفُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْعِقَابَ بِالْعَمَلِ السَّيِّءِ، كَمَا يُضَاعِفُ فِيهِ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَمَنْ أَطَاعَ اللهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ؛ لَيْسَ ثَوَابُهُ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ فِي الْبَلَدِ الْحَلَالِ، وَمَنْ عَصَى اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لَيْسَ كَمَنْ عَصَاهُ فِي الْبَلَدِ الْحَلَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ؛ فَالْحَسَنَاتُ تُضَاعَفُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ فَاضِلَيْنِ، وَالسَّيِّئَاتُ تَعْظُمُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَاضِلَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
فَبَيَّنَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تُضَاعَفُ فِي الزَّمَانِ الْفَاضِلِ، كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَةَ تُضَاعَفُ فِي الْمَكَانِ الْفَاضِلِ؛ فَإِنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِرَادَةُ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ.. مُجَرَّدُ تَوَجُّهِ النِّيَّةِ إِلَى الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عِقَابٌ أَلِيمٌ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((اخْتَصَّ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ جَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَجَعَلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ)).
وَتُغَلَّظُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- الدِّيَةُ بِالْقَتْلِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِعِظَمِ هَذَا الزَّمَانِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
لَيْسَ الَّذِي يُطِيعُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ كَالَّذِي يُطِيعُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ وَالْمَكَانِ الْمَفْضُولِ، وَلَيْسَ الَّذِي يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي رَفَعَ اللهُ قَدْرَهُ وَذِكْرَهُ؛ لَيْسَ مَنْ يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذَلِكَ كَالَّذِي يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ وَالْمَكَانِ الْمَفْضُولِ.
((فَضَائِلُ شَهْرِ رَجَبٍ))
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ رَجَبًا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَجَعَلَ هَذَا الشَّهْرَ فَرْدًا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ -كَمَا مَرَّ-: إِنَّمَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَرَامًا؛ لِيَتَمَكَّنَ مَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَا، فَيَسِيرَ آمِنًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا مَالِهِ، وَلَا عِرْضِهِ، وَلَا عَلَى أَهْلِهِ.
فَيَسِيرُ فِي زَمَانٍ حَرَامٍ إِلَى بَلَدٍ حَرَامٍ وَمَسْجِدٍ حَرَامٍ تُضَاعَفُ فِيهِ الْعَطِيَّاتُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، كَمَا أَنَّهُ تُضَاعَفُ فِيهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَلَالِ شَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ عَظِيمِ حِكْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَجَبَ شَهْرًا حَرَامًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ مِمَّنْ كَانَ مُجَاوِرًا لِمَكَّةَ؛ حَتَّى يَسِيرَ فِي أَمَانِ رَبِّهِ، قَاصِدًا بَيْتَ رَبِّهِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ لِوَجْهِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ غَيْرِ مَا خَوْفٍ وَلَا عَنَتٍ.
وَرَجَبُ مِنْ أَسْمَائِهِ ((شَهْرُ اللهِ))، وَ((رَجَبُ مُضَرَ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، وَاسْمُ رَجَبَ -أَيْضًا- ((مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ))؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ أَسِنَّةَ الرِّمَاحِ إِذَا دَخَلَ رَجَبُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ فِيهِ؛ إِذْ هُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ، فَقِيلَ لَهُ: ((مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ))، وَقِيلَ لَهُ: ((الْأَصَمُّ)) وَ((الْأَصَبُّ))، وَهُمَا بِمَعْنَى.
قِيلَ لَهُ: ((الْأَصَمُّ))؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ صَوْتُ قَعْقَعَةِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَلْقَى فِيهِ مَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، فَلَا يَهِيجُهُ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِثَأْرِهِ، وَهُوَ جَاهِلِيٌّ كَافِرٌ بِرَبِّهِ؛ وَلَكِنْ يُعَظِّمُ قَدْرَ الشَّهْرِ، وَلَا يَنْتَهِكُ حُرْمَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: ((الْأَصَمُّ)).
وَقِيلَ لَهُ: ((الْأَصَبُّ))، وَقِيلَ لَهُ: ((مُنَفِّسٌ))، وَقِيلَ لَهُ: ((مُطَهِّرٌ))، وَقيِلَ لَهُ: ((مُعَلَّى))، وَ((مُقِيمٌ))، وَ((هَرِمٌ))، وَ((مُقَشْقِشٌ))، وَ((مُبَرِّئٌ))، وَ((فَرْدٌ)).
وَهُوَ رَجَبُ الْفَرْدُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ سَائِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ مُتَتَالِيَاتٌ -مُتَتَابِعَاتٌ-: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَاشِفًا إِيَّاهُ بِصِفَةٍ مُلَازِمَةٍ لَهُ؛ لِأَمْرٍ فِيهِ حِكْمَةٌ جَلَّاهَا لَنَا الرَّسُولُ ﷺ بِذِكْرِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، ((وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ))؛ لِأَنَّهُمْ عَبَثُوا بِالزَّمَانِ، قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا، وَانْتَهَكُوا الْحُرُمَاتِ، وَشَرَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اللهُ سُلْطَانًا، وَغَيَّرُوا فِي وَجْهِ الزَّمَانِ وَعَبَثُوا بِصَفْحَتِهِ، كَمَا غَيَّرُوا فِي وَجْهِ الْمَكَانِ وَعَبَثُوا بِمَعَالِمِهِ، حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ -مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ-.
فَعَادَ الزَّمَانُ إِلَى سَوَائِهِ، وَعَادَ الْمَكَانُ إِلَى جَلَالِهِ، وَجَاءَ بِالْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ السَّمْحَاءِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ، لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُغَيَّرُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْفَظُهَا هُوَ اللهُ، وَهُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ اللهِ ﷺ، فَحَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَرْعَهُ؛ بِحَيْثُ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ تَبْدِيلٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، يَعْبَثُ الْعَابِثُونَ، وَيُزَيِّفُ الْمُزَيِّفُونَ، وَيَكْذِبُ الْكَذَّابُونَ، وَانْتَدَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِذَلِكَ الْجَهَابِذَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمْ وَرَثَةُ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَحَّوُا الدَّخِيلَ عَنِ الْأَصِيلِ، وَنَحَّوُا الزَّيْفَ عَنِ الْخَالِصِ الثَّابِتِ الْأَكْمَلِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ.
قَالَ: ((وَرَجَبُ مُضَرَ))، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ رَبِيعَةَ كَانَتْ تُعَظِّمُ رَمَضَانَ، وَتَجْعَلُهُ شَهْرًا حَرَامًا، وَأَمَّا مُضَرُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُعَظِّمُ رَجَبًا عَلَى أَصْلِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَرَجَبُ مُضَرَ))، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِمْ؛ لِتَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِبْقَائِهِمْ لَهُ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، ثُمَّ حَدَّدَهُ بِمَا يَسْبِقُهُ وَمَا يَلْحَقُهُ: ((وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
فَحَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَنَفَى الزَّيْفَ عَنْهَا، وَنَحَّى الدَّخِيلَ عَنِ الْأَصِيلِ فِيهَا، وَأَقَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الزَّمَانَ عَلَى هَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ فَلَمْ يُوجَدْ -حِينَئِذٍ- عَابِثٌ يَعْبَثُ، وَلَا مُزَيِّفٌ يُزَيِّفُ، وَلَا مُحَرِّفٌ يُحَرِّفُ، وَلَا مُبَدِّلٌ يُبَدِّلُ.
فَأَعَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ إِلَى سَوَائِهِ، «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا))، بِذَا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ هُوَ فِيهِ سَابِحٌ.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَذَلِكَ، ثُمَّ حُرِّفَ هَذَا الْأَمْرُ زَمَانًا كَمَا عُبِثَ بِالْمَكَانِ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَعَادَ اللهُ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ بِهِ رُشْدَهَا، وَأَقَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبَشَرِيَّةَ بِهِ عَلَى سَوَاءِ صِرَاطِهَا؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْرِفَهَا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهَا فَهُوَ شَيْطَانٌ مَرِيدٌ فَاحْذَرُوهُ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ لَكُمُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةَ، وَمِنْ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ: أَنْ تُعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ، وَأَنْ تُقَدِّرُوا مَا أَعْلَى اللهُ قَدْرَهُ، وَأَنْ تَحْتَرِمُوا شَعَائِرَ اللهِ، وَأَنْ تُعَظِّمُوهَا، وَأَلَّا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَإِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).
وَاسْتَدَارَ الْمَكَانُ، فَيُهِلُّ النَّاسُ مِنْ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالنُّسُكُ يَقَعُ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ يَقُولُ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ))، فَيُعَظِّمُ نَبِيُّنَا ﷺ مَا أَمَرَ اللهُ بِتَعْظِيمِهِ، يُعَظِّمُ الْحَجَرَ، يَسْتَلِمُهُ، يُقَبِّلُهُ، يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَرْجُمُ النُّصُبَ هُنَالِكَ؛ إِعْلَانًا وَإِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُفَضِّلُ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، كَمَا يُفَضِّلُ بَلَدًا عَلَى بَلَدٍ، كَمَا يُفَضِّلُ زَمَانًا عَلَى زَمَانٍ، كَمَا يُفَضِّلُ إِنْسَانًا عَلى الْأَنَاسِيِّ، وَيَرْفَعُ قَدْرَهُ بِتَقْوَاهُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-، وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَجْعَلُ فَوْقَ نَبِيِّهِ أَحَدًا ﷺ.
فَأَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ ﷺ، فَهَذَا دِينُكُمْ -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ-، فَخُذُوهُ سَمْحًا غَضًّا طَرِيًّا كَمَا نَزَلَ بِهِ أَمِينُ الْوَحْيِ وَمُقَدَّمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَمِينِ رَبِّنَا فِي أَرْضِهِ وَمُقَدَّمِ الرُّسُلِ وَالْخَلَائِقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَمَا نَزَلَ بِهِ أَمِينُ السَّمَاءِ عَلَى أَمِينِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مُحَمَّدٍ غَضًّا طَرِيًّا، لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ.
تَمَسَّكُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ، وَاعْتَقِدُوا مَا اعْتَقَدَ نَبِيُّكُمْ، وَاعْمَلُوا مَا عَمِلَ، وَدَعُوا مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا عَنْهُ زَجَرَ، وَخُذُوا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ تُفْلِحُوا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد ﷺ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّحْذِيرُ مِنْ بِدَعٍ مُشْتَهِرَةٍ فِي شَهْرِ رَجَبٍ))
فَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ رَجَبًا!! وَيَذْبَحُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْهُ ذَبِيحَةً يُقَالُ لَهَا ((العَتِيرَةُ))، أَوِ ((الرَّجَبِيَّةُ))، وَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَزْكَي السَّلَامِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ-، قَالَ: ((لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ)).
فَأَمَّا الْعَتِيرَةُ: فَهِيَ الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ.
وَأَمَّا الْفَرَعُ: فَمَا يَجْعَلُونَهُ مِنْ نَتَاجِ الْإِبِلِ وَمَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْعَامِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ.
وَالْعِبَادَاتُ تَوْقِيفِيَّةٌ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْبَحَ إِلَّا عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- نَهَانَا عَنِ الْأَكْلِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاسْمِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَبْحِ ذَبَائِحِنَا؛ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَذْبَحَهَا، وَلِمَ نُعَذِّبُهَا؟! وَلِمَ نَعْتَدِي عَلَيْهَا؟!
لَكِنْ أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ لَنَا، وَأَقْدَرَنَا عَلَيْهِ، فَنَفْعَلُهُ بِاسْمِ اللهِ، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الذَّبِيحَةِ؛ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُذْبَحُ إِلَّا عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ، وَمَهْمَا ابْتَدَعَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ذَبَائِحَ يَذْبَحُهَا وَقَرَابِينَ يُقَرِّبُهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا، وَقَدْ يَكُونُ مُشْرِكًا إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ غَيْرَ وَجْهِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَالذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شِرْكٌ بِهِ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ فِي رَجَبٍ تَنَسُّكًا وَتَقَرُّبًا؛ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَمْ يُحْسِنْ، أَمَّا الذَّبْحُ الَّذِي لَا يَكُونُ عِبَادَةً مَقْصُودَةً، أَيْ: لَا يَقْصِدُ الْعَبْدُ الْإِتْيَانَ بِهِ فِي رَجَبٍ تَقَرُّبًا بِالذَّبْحِ فِي رَجَبٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ، إِذَا فَعَلَهُ لا لِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا تَثْرِيبَ.
وَالَّذِي نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ: أَنْ يُقْصَدَ الزَّمَانُ بِالذَّبْحِ فِيهِ تَقَرُّبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُبَاتِ لَدُنْ رَبِّنَا الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ ﷺ: ((لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ ((عَتِيرَةُ رَجَبٍ))، لَا الذَّبْحُ فِيهِ بِإِطْلَاقٍ؛ فَلْيَذْبَحْ فِي رَجَبٍ مَنْ شَاءَ الذَّبْحَ لَا عَتِيرَةً وَلَا تَقَرُّبًا بِالذَّبْحِ فِيهِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَإِنَّمَا يَذْبَحُ اتِّفَاقًا بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِكْرَامًا لِضَيْفٍ، أَوْ بَيْعًا لِلَحْمٍ، أَوْ إِدْرَاكًا لِمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَنْعَامِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ.
وَأَمَّا أَنْ يَقْصِدَ رَجَبًا بِالذَّبْحِ فِيهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ خَاصَّةً كَفِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَهَذَا مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ.
*فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ تَخْصِيصُ الذَّبْحِ فِيهِ بِشَيْءٍ قَطُّ.
*((وَلَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ صَوْمِ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ)).
وَمَا ذَكَرُوا مِنْ فَضْلِ الصِّيَامِ فِيهِ.. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ فَضْلِ صِيَامِهِ؛ فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأُخَرُ ضَعِيفَاتٌ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ يَسْرُدُ الثَّلَاثَةَ الْأَشْهُرِ –أَعْنِي: شَعْبَانَ مَعَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ- صِيَامًا، لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالْعَوَامُّ يَخُصُّونَ رَجَبًا بِالصَّوْمِ، وَالْعَوَامُّ يَسْرُدُونَ الْأَشْهُرَ الثَّلَاثَةَ سَرْدًا بِصَومٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ الرَّسُولُ ﷺ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ-.
فَلَيْسَ لِلصَّوْمِ فِيهِ مِنْ فَضْلٍ زَائِدٍ، وَالْعَوَامُّ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ سُنَّةً، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ؛ بَلْ إِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالصِّيَامِ بِدْعَةٌ.
((وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ فِي رَجَبٍ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ، وَيَقُولُ: ((لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ)) )).
فَكَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ، وَيَقُولُ: ((لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
*وَأَمَّا إِنْ صَامَ بَعْضَهُ وَأَفْطَرَ بَعْضَهُ؛ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ.
وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْأَوْقَاتِ بِعِبَادَاتٍ لَمْ يَخُصَّهَا الشَّرْعُ بِهَا، بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ مُرْسَلَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، لَيْسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَضْلٌ إِلَّا مَا فَضَّلَ الشَّرْعُ، كَمَا قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهُمْ: ابْنُ أَبِي شَامَةَ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا-، أَعْنِي: عُلَمَاءَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ-.
فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْتَدِعَ تَحْدِيدًا بِوَقْتٍ وَلَا تَخْصِيصًا بِأَمْرٍ، وَإِنَّمَا الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ، وَالْجِنْسُ، وَالسَّبَبُ، وَالْكَمُّ، وَالْكَيْفُ؛ كُلُّ ذَلِكَ مَحْكُومٌ بِالشَّرْعِ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَمَنْ خَالَفَ فِي وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ.
*وَ((صَلَاةُ الرَّغَائِبِ)) مُبْتَدَعَةٌ مَصْنُوعَةٌ:
وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي لَيْلَةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ.
فَهَذِهِ الصَّلَاةُ إِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ مُتَأَخِّرَةٌ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي كُذِبَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِيهَا وَبِشَأْنِهَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي دَوَاوِينِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُدَوِّنِينَ لِلسُّنَّةِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي كُذِبَ فِيهَا عَلَى الْمُخْتَارِ ﷺ حَادِثَةٌ مُتَأَخِّرَةٌ.
*وَكَذَلِكَ قَصْدُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي أَوَّلِ خَمِيسٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ مِمَّا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ فَارِغَاتِ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ مِنْ أَنْوَارِ الْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ لِلرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَيَحْسَبُونَ ذَلِكَ قُرْبَةً عِنْدَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَثَرٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ.
*وَمِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، يَزْعُمُونَ بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ((الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ)) قَدْ وَقَعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَيَجْزِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ جَزَمَ بِهِ كَمَا قَرَّرَ عُلَمَاؤُنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-؛ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ دِينًا مُتَّبَعًا وَسُنَّةً يَؤُمُّونَهَا، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ بِزَعْمِهِمْ، ثُمَّ يَذْرِفُونَ الدُّمُوعَ أَوْ دَمْعَةً أَوْ دَمْعَتَيْنِ عَلَى الْأَقْصَى السَّلِيبِ، ثُمَّ يُنْسَى ذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ -وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى-.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِهِ عَلَى عَهْدِهِ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ؛ فَتَرْكُهُ سُنَّةٌ، وَفِعْلُهُ بِدْعَةٌ، وَهِيَ ((السُّنَّةُ التَّرْكِيَّةُ))، فَالنَّبِيُّ ﷺ يُتَّبَعُ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، كَمَا يُتَّبَعُ فِي تَرْكِهِ.
فَهُنَالِكَ مَا يُقَالُ لَهُ: ((السُّنَّةُ التَّرْكِيَّةُ)): مَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِهِ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَفِعْلُهُ بِدْعَةٌ، وَتَرْكُهُ سُنَّةٌ، كَمَا تَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَقَوْلَ: (الصَّلَاةَ جَامِعَةً) فِي صَلَاتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْمُصَلَّى -فِي مُصَلَّى الْعِيدِ- بِظَاهِرِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ يُحَدَّدُ تَحْدِيدًا كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ وَالْمُقْتَضِي قَائِمٌ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ مَانِعٍ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ؛ فَالتَّرْكُ سُنَّةٌ، وَالْفِعْلُ بِدْعَةٌ، وَالْمُؤْتَسِي بِرَسُولِهِ ﷺ الْمُوَفَّقُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
((أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ مِنَ الشَّحْنَاءِ))
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ مِنَ الشَّحْنَاءِ، وَأَفْضَلُهَا: السَّلَامَةُ مِنْ شَحْنَاءِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي تَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، وَتَقْتَضِي الطَّعْنَ عَلَى سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَتَقْتَضِي بُغْضَهُمْ وَالْحِقْدَ عَلَيْهِمْ، وَاعْتِقَادَ تَكْفِيرِهِمْ وَتَبْدِيعِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ وَتَفْسِيقِهِمْ، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشَّحْنَاءِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَنَصِيحَتُهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ مِنَ الشَّحْنَاءِ لِسَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ-؛ يَلِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشَّحْنَاءِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ إِرَادَةِ النُّصْحِ لَهُمْ، وَحُبِّهِمِ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ جَلِيلَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْأَفْذَاذُ، وَغَايَةٌ شَاسِعَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَقْطَعُ الْمَفَازَةَ دُونَهَا إِلَّا الرِّجَالُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَحْسَبُهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، سَلَامَةُ الْقَلْبِ، وَطَهَارَةُ النَّفْسِ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْحِقْدِ، وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، وَالْبُغْضِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَإِرَادَةِ الشَّرِّ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، كَمَا هُوَ فِي سَوَاءِ دِينِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.
أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.
سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونُ مَبَالِغَهَا؛ فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ، وَوَصَفَتْهُ عَائِشَةُ مَعَ ذَلِكَ: وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ، قَالَتْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ؛ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ.
وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ تَبَتُّلًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكٍ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ، وَقَدْ خُلِّدَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِحَرْبٍ، فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنَّبِيُّ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ، فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا.
كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ )).
سَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَسَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَنَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا مَنْ بَلَغَ الْمَبَالِغَ وَعَلَا الذُّرَى، فَلَا يَقْطَعُ الْمَفَازَةَ إِلَّا الرِّجَالُ، وَمَا يَسْتَطِيعُهُ الرَّجُلُ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ الطِّفْلُ حَتَّى يَصِيرَ رَجُلًا؛ فَانْظُرْ -هَدَاكَ اللهُ- أَيْنَ مَحَلُّكَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
عِبَادَ اللهِ! اجْتَنِبُوا الشِّرْكَ، اجْتَنِبُوا الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْرِمُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ الرَّبِّ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، تَحْرِمُ الْمَغْفِرَةَ فِي مَوَاسِمِ الرَّحْمَةِ، فِي مَوَاسِمِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، اجْتَنِبُوا الشِّرْكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
اجْتَنِبُوا الْقَتْلَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ لَمْ يُحِلَّ اللهُ قَتْلَهَا؛ لَأَكَبَّهُمُ اللهُ جَمِيعًا فِي النَّارِ، اجْتَنِبُوا الْقَتْلَ وَالسَّعْيَ فِيهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ، وَلَوْ بِأَنْ تُعِينَ عَلَى ذَلِكَ ظَالِمًا؛ بِأَنْ تُنَاوِلَهُ قِرْطَاسًا أَوْ قَلَمًا.
اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَدَعُ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ يَسِيرًا، اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اتَّقُوا يَوْمًا لَا دِرْهَمَ فِيهِ وَلَا دِينَارَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، فَيُقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ بِالْحَسَنَاتِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ، فَجُعِلَ عَلَى رَأْسِ الظَّالِمِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.
اتَّقُوا الظُّلْمَ، اتَّقُوا الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْأَعْرَاضِ حَالًا وَمَآلًا، لِسَانًا وَمَقَالًا، كِتَابَةً وَتَسْطِيرًا، نِيَّةً وَهَمًّا وَعَزْمًا، اتَّقُوا الْحُرُمَاتِ، اتَّقُوا الْأَعْرَاضَ، نَظِّفُوا أَنْفُسَكُمْ وَضَمَائِرَكُمْ، نَظِّفُوا أَفْئِدَتَكُمْ وَقُلُوبَكُمْ وَتَصَوُّرَاتِكُمْ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ، اسْتَقِيمُوا عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّكُمْ ﷺ.
الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ كَالْحَدِيقَةِ؛ فِيهَا مَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ، وَالْوُرُودِ وَالْأَزْهَارِ، وَفِيهَا -مَعَ ذَلِكَ- مَا فِيهَا مِنَ الْحَشَائِشِ السَّامَّةِ، وَفِيهَا مَا فِيهَا مِمَّا لَا يَجْمُلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ تَسَلَّلَتْ أُمُورٌ؛ صَفِّ ذَلِكَ وَهَذِّبْهُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّكَ ﷺ.
نَظِّفْ ضَمِيرَكَ، نَظِّفْ تَصَوُّرَكَ، نَحِّ مَا قَدْ جَاءَكَ مِنْ بَقَايَا الْقُرُونِ السَّالِفَاتِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَجَائِزِ مِنَ الْجَهَلَةِ وَأَشْبَاهِ الْعُلَمَاءِ وَمِمَّنْ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمِمَّنْ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَمِمَّنْ يُخَالِفُ مِنْهَاجَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
نَقِّ الضَّمِيرَ وَالْقَلْبَ، نَقِّ الْفُؤَادَ وَالصَّدْرَ، عُدْ إِلَى تَصَوُّرِكَ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ عَنْ حَيَاتِكَ وَكَوْنِ رَبِّكَ مِنْ حَوْلِكَ، وَأَعِدْ ذَلِكَ إِلَى أَصْلِهِ، ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ))؛ فَلْيَعُدِ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ فِي ضَمِيرِكَ وَنَفْسِكَ، وَابْدَأْ بِدَايَةً صَحِيحَةً مُوَفَّقَةً؛ عَسَى اللهُ أَنْ يَرْحَمَنِي وَيَرْحَمَكَ.
اجْتَنِبِ الزِّنَا وَمُوَاقَعَةَ الشَّهَوَاتِ، وَإِتْيَانَ الذُّكُورِ مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، اتَّقِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِيَّاكَ وَفِسْقَ التَّصَوُّرِ، حَذَارِ أَنْ تَكُونَ فَاسِقَ التَّصَوُّرِ، وَنَحْنُ فِي مُجْتَمَعٍ قَدْ نَشَأَ النَّاشِيءُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا عِنْدَ جَمْهَرَةِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.. عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ لَهَا إِيحَاءَاتٌ جِنْسِيَّةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ فِسْقِ التَّصَوُّرِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الَّذِينَ اسْتَقَامَتْ ضَمَائِرُهُمْ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ، وَاسْتَقَامَتْ حَيَاتُهُمْ نَظِيفَةً عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ؛ فَإِنَّهُمْ يُنَزِّلُونَ الْأُمُورَ مَنَازِلَهَا، هَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ فِسْقِ التَّصَوُّرِ، وَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ -عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهَا- فِي فِسْقِ التَّصَوُّرِ، وَقُلْ لِنَفْسِكَ: هَلْ أَنْتَ فَاسِقٌ فِي تَصَوُّرِكَ، أَمْ أَنَّكَ بَرٌّ فِيهِ غَيْرُ فَاسِقٍ؟!!
وَاللهُ مَعِي وَمَعَكَ يَهْدِينِي وَإِيَّاكَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
اتَّقُوا الشَّحْنَاءَ، وَيَا مَنْ أَضْمَرَ لِأَخِيهِ السُّوءَ وَبَيَّتَ لَهُ الْإِضْرَارَ {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
يَا مَنْ أَضْمَرَ السُّوءَ، وَبَيَّتَ الْمَكِيدَةَ؛ اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ، وَنَظِّفْ قَلْبَكَ وَضَمِيرَكَ، وَالْحَيَاةُ مُنْقَضِيَةٌ وَفَانِيَةٌ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُقِيمَنَا عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، عَامِلِينَ بِذَلِكَ، مُعْتَقِدِينَهُ، دَاعِينَ إِلَيْهِ، مُلْتَزِمِينَهُ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَالْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْوَطَنِيَّةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ