((فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ))
الثُّلَاثَاء 14 مِنْ شَوَّال 1437هـ / 19-7-2016
إنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أمَّا بَعْدُ:
فَمِنَ الثَّابِتِ الْمُتَقَرَّرِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا -رَحِمَهُمُ اللهُ-: أَنَّ النَّاسَ كُلَّمَا اقْتَرَبُوا مِنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ زَادَ فِيهِمُ الْخَيْرُ، وَقَلَّ مِنْهُمُ الشَّرُّ، وَكُلَّمَا ابْتَعَدُوا عَنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ زَادَ فِيهِمُ الشَّرُّ، وَقَلَّ فِيهِمُ الْخَيْرُ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، مِنْهَا:
مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: أَنَّ نَاسًا ذَهَبُوا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ النَّبِيِّ ﷺ وَصَاحِبِهِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ظُلْمَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: ((لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ)).
فَكُلَّمَا اقْتَرَبَ النَّاسُ مِنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ؛ زَادَ فِيهِمُ الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهِمُ الشَّرُّ، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرْشَدَنَا إِلَى الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ، وَالْمَبَانِي الْكَامِلَةِ فِي مَعَانِيهَا التَّامَّةِ، وَمَدْلُولَاتِهَا الْعَظِيمَةِ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا -وَذَلِكَ فِي الْوَحْيَيْنِ: فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ- أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْدَ الْمَلَائِكَةِ: أُولُوا الْعِلْمِ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَجَلِّ وَأَعْظَمِ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}[آل عمران: 18].
وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَلِّمًا؛ فَإِنَّهُ يُدْعَى فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ كَبِيرًا.
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ؛ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَحَتَّى النِّمَالُ فِي جُحُورِهَا يُصَلُّونَ -أَيْ: يَدْعُونَ- عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعِلْمَ فَرْضٌ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)).
وَأَمَّا زِيَادَةُ: ((وَمُسْلِمَةٍ))؛ فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ.
وَالْعِلْمُ مِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي ذَاتِهِ، وَهُوَ مَا لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ وَلَا اعْتِقَادُهُ إِلَّا بِهِ، فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاجِبٌ وُجُوبًا عَيْنِيًّا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ.
فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ: أُصُولَ الِاعْتِقَادِ، وَمُجْمَلَ التَّوْحِيدِ.
وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ أَنْ يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يَتَطَهَّرُ؟ كَيْفَ يَغْتَسِلُ؟ وَكَيْفَ يَتَوَضَّأُ؟
وَإِذَا مَا كَانَ فَاقِدًا لِلْمَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يَتَيَمَّمُ؟ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يُصَلِّي للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟
فَإِذَا رَاهَقَ الْبُلُوغَ، وَاحْتَلَمَ، وَصَارَ مُكَلَّفًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ؛ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يَصُومُ؟ وَمَا الَّذِي يَفْسُدُ بِهِ صِيَامُهُ؟ وَمَا الْمَكْرُوهُ فِي الصِّيَامِ؟ وَمَا الْمُسْتَحَبُّ فِيهِ؟
فَإِذَا كَانَ ذَا مَالٍ مِنْ أَيِّ أَلْوَانِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ كَانَ، وَبَلَغَ مَالُهُ النِّصَابَ، وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ؛ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَنْ يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يُزَكِّي أَمْوَالَهُ؟
وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الْحَجَّ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمَنَاسِكَ وُجُوبًا عَيْنِيًّا.
وَإِهْمَالُ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ يُؤَدِّي إِلَى خَلَلٍ خَطِيرٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَذْهَبُونَ -مَثَلًا- إِلَى الْحَجِّ، وَيَعُودُونَ وَلَمْ يَحُجُّوا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُخِلُّ بِأَرْكَانِ الْحَجِّ، فَيَفْسُدُ حَجُّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمِسْكِينَ يَتَكَلَّفُ الْمَالَ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْمَخَاطِرِ -خَاصَّةً مَعَ عُلُوِّ السِّنِّ-، ثُمَّ لَا يُحَصِّلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَهُوَ آثِمٌ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ هَا هُنَا لَا يَنْفَعُهُ مَا دَامَ عِنْدَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ إِذَا نَوَى الْحَجَّ -مَثَلًا- أَنْ يَسْأَلَ؛ حَتَّى يَتَعَلَّمَ: كَيْفَ يُؤَدِّيَ الْمَنَاسِكَ؟
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادَاتِ.
فَإِذَا كَانَ يَأْخُذُ بِالتِّجَارَةِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ فِي إِدَارَةِ الْأَمْوَالِ، وَفِي التِّجَارَةِ بِهَا؛ حَتَّى لَا يَتَوَرَّطَ فِي الْغِشِّ، وَلَا فِي الْخِدَاعِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، فَيَكْتَسِبُ أَمْوَالًا مِنَ الْحَرَامِ، يُغَذِّي بِهَا الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَزَوْجِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ؛ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)).
فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْأُمُورَ وُجُوبًا عَيْنِيًّا، وَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ؛ سَقَطَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ عَنْ مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ.
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضْلِ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، فَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ.
تَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا أَشْرَفَ مِنَ الْأَخْذِ بِوَظِيفَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ آتِيًا بِالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي؛ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَيْرِ اللَّازِمِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ كَذِكْرِهِ لِرَبِّهِ -مَثَلًا-، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهَذِهِ مِنْ أَجْمَلِ وَأَحْسَنِ شَيْءٍ يَكُونُ.
وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي -وَمِنْهُ: أَنْ يُعَلِّمَ الْعِلْمَ -إِذَا عَلَّمَ الْعِلْمَ-؛ فَإِنَّهُ مَا يَزَالُ أَجْرُهُ مَوْصُولًا؛ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ؛ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)).
وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أُمُورٌ أُخْرَى دَلَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ كَاتِّخَاذِ السَّبِيلِ؛ فَإِنَّ سَقْيَ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ)).
إِلَى جُمْلَةٍ وَافِرَةٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا؛ حَتَّى وَلَوْ مَاتَ وَلَحِقَ بِرَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ نِهَايَةَ الرِّحْلَةِ، بَلْ إِنَّهُ ضَرْبٌ فِي عُمْقٍ الْوُجُودِ بِأَسْبَابِ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ مَرْحَلَةٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ مُنْتَظِرًا الْبَعْثَ؛ لِكَيْ يُعْرَضَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِ فِي الْقِيَامَةِ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السِّنِينَ الْغَابِرَةِ؛ هُمَ -لَا شَكَّ- أَعْظَمُ نَفْعًا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ تَلَامِيذِهِمْ، وَمِنْ تَلَامِيذِ تَلَامِيذِهِمْ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ جُمْلَةً وَافِرَةً -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
كَانُوا يُعَلِّمُونَ الْأَدَبَ وَالتَّرْبِيَةَ كَمَا يُعَلِّمُونَ الْعِلْمَ؛ بَلْ رُبَّمَا حَرِصُوا عَلَى ذَلِكَ فَوْقَ مَا يَحْرِصُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ.
وَكَانُوا دَائِمًا يُسْمِعُونَنَا وَأَجْيَالًا قَبْلَنَا أَنَّ الْأَدَبَ فَضَّلُوهُ عَلَى الْعِلْمِ؛ حَتَّى إِنَّ الْوَزَارَةَ سُمِّيَتْ بِـ ((وَزَارَةِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ))، فَذُكِرَتِ التَّرْبِيَةُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا مُوَفَّقِينَ؛ لِأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ خَالِصَةً -نَحْسَبُهُمْ كَذَلِكَ-.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلَّمَ وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ: كَيْفَ يَقْرَأُ، وَكَيْفَ يَكْتُبُ -مَثَلًا-، فَمَضَى هَذَا الْمُعَلَّمُ فِي طَرِيقِهِ؛ فَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ طَلَبَتِهِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ حَسَنَاتِهِ تَكُونُ فِي صَحِيفَةِ حَسَنَاتِ مُعَلِّمِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْخَيْرَ، وَ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ))، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ: تَعَلُّمُ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَبْقَى شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّرْغِيبُ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا فِي سُورَةٍ فِي كِتَابِهِ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهِيَ مِنَ السُّوَرِ الْقِصَارِ، قَالَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِنَّ فِي الْقُرْآنِ لَسُورَةً لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَوَسِعَتْهُمْ))، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَكَفَتْهُمْ))-.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3].
فَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعَصْرِ، وَهُوَ: مَحَلُّ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ أَحْدَاثُ هَذَا الْعَالَمِ، وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
أَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعَصْرِ أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ.
{وَالْعَصْرِ} فَيُقْسِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْوِجَهُ إِلَى الْقَسَمِ أَحَدٌ وَلَا شَيْءٌ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِتَكُونَ قَائِمَةً فِي وَعْيِ الْمُتَلَقِّي، وَفِي وُجْدَانِهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ بِإِزَاءِ عَيْنِ بَصِيرَتِهِ؛ حَتَّى لَا تَغِيبَ عَنْهُ فِي حِينٍ وَلَا حَالٍ، وَلَا فِي زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ.
{وَالْعَصْرِ} يُقْسِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الزَّمَانِ -الَّذِي هُوَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الْأَحْدَاثِ فِي الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ- أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ.
{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ أَتَى بِهَذِهِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَهِيَ ((إِنَّ)) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، وَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا مِمَّا يُؤَكِّدُ، ثُمَّ أَتَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذِهِ اللَّامِ { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أَيْ: لَفِي خُسْرَانٍ.
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ، وَهَذَا مِنْ بَابِهِ: مَا قَالَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا)).
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَأَنَّ مَا فِيهَا بَعِيدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَاهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا)).
وَالذِّكْرُ وَمَا وَالَاهُ يَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ -أَيْضًا-.
فَاسْتَثْنَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ -وَالسُّنَّةُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-- اسْتَثْنَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ؛ لِأَنَّ الْعَالَمَ لَا يَصْلُحُ حَالُهُ إِلَّا بِعِلْمِ الرَّسُولِ ﷺ.
فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
فَمَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَهَذَا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْخُسْرَانِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: آمَنُوا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِنَبِيِّهِ ﷺ، وَبِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ:
1- الْعِلْمُ.
2- وَالْعَمَلُ بِهِ.
3- وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ.
4- وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
وَقَدْ يَتَعَجَّبُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، لِمَاذَا ذُكِرَ الصَّبْرُ هَا هُنَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ؟
لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا دَعَا إِلَى الْخَيْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ مِنْ مُعَاكَسَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ؛ لِذَلِكَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}[لقمان: 17].
فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمْرِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذَا أَمَرَ وَنَهَى؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ مِنَ الْأَذَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ إِيذَاءً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ فَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ -وَهُوَ أَشْرَفُ الْخَلْقِ- مَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا دَلَّ إِلَّا عَلَى الْخَيْرِ، وَمَا دَعَا إِلَّا إِلَيْهِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ النَّبِيَّ الْخَاتَمَ ﷺ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ لَا تَنْضَبِطُ؛ وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَثْرَةً ضَافِيَةً؛ بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا حَصْرًا، وَالْمُسْتَجَدَّاتُ تَتَجَدَّدُ مَعَ تَوَارُدِ الْعُصُورِ وَالْأَزْمَانِ.
وَأَمَّا الْأُصُولُ؛ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَالنَّبِيُّ ﷺ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ؛ فَقَدْ جَاءَهُ صَحَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).
لَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا دَلَّنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-- عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو مِنَ الذَّنْبِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الْمَرْءُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ:
1- إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نِعْمَةٍ؛ فَحَقُّهَا الشُّكْرُ.
2- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ؛ فَحَقُّهَا الصَّبْرُ.
3- وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ: التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.
لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ:
*إِمَّا أَنْ يُصَابَ بِالنِّعْمَةِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ.
*وَإِمَّا أَنْ يُصَابَ بِمَا يَكْرَهُ؛ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
*وَأَمَّا الشُّكْرُ.. وَأَمَّا الرِّضَا؛ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ -فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ-، وَهُنَالِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرِّضَا بِالْمُصِيبَةِ وَاجِبٌ؛ وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرَاجِحٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَسْمَحُ النَّفْسُ بِالرِّضَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الصَّبْرُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: ((يَا أَمَةَ اللهِ! اتَّقِى اللهَ وَاصْبِرِي))، وَلَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي!!
فَلَمْ يُعَقِّبْ ﷺ، وَمَضَى لِطِيَّتِه رَاشِدًا، فَقَالَ لَهَا مَنْ حَضَرَ: وَيْحَكِ!! إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَامَتْ تَشْتَدُّ فِي أَثَرِهِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى بَيْتِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابِينَ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأُذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَعْرِفْكَ.
قَالَ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)).
وَعَلَّمَنَا رَبُّنَا مَا نَقُولُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُصِيبَةِ: ((إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)).
وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ مَا نَقُولُ: ((اللهم أْجُرْنَا فِي مُصِيبَتِنَا، وَأَخْلِفْ لَنَا خَيْرًا مِنْهَا)).
المصدر:فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ