((الْمَسْجِدُ.. مَكَانَتُهُ وَآدَابُهُ وَدَوْرُهُ فِي الْمُجْتَمَعِ))
الْعَلَّامَة رَسْلَان –حَفِظَهُ اللهُ-.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَكَانَةُ الْمَسْجِدِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ حَاجَةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمَسْجِدِ نَابِعَةٌ مِنْ حَاجَتِهَا إِلَى الْعَقِيدَةِ الصَّافِيَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْمُثُلِ وَالْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالِالْتِزَامِ بِالشَّرْعِ وَأَحْكَامِهِ، وَاسْتِقَامَتِهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ الْخَالِصَةِ للهِ -سُبْحَانَهُ-، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَتِمُّ بَعِيدًا عَنِ الْمَسْجِدِ؛ لِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لَهُ وَحْدَهُ، وَعَظَّمَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَثَّ وَرَغَّبَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الْفَضْلَ وَالثَّوَابَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.
وَالْمَسْجِدُ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا)). الْحَدِيثَ.
فَالْمَسْجِدُ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، هُوَ قَلْعَةُ الْإِيمَانِ، وَحِصْنُ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ الْمَدْرَسَةُ الْأُولَى الَّتِي يَتَخَرَّجُ مِنْهَا الْمُسْلِمُ، هُوَ بَيْتُ الْأَتْقِيَاءِ، وَمَكَانُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمِيًّا، وَمَرْكَزُ مُؤْتَمَرَاتِهِمْ، وَمَحَلُّ مُشَاوُرَاتِهِمْ وَتَنَاصُحِهِمْ، وَالْمُنْتَدَى الَّذِي فِيهِ يَتَعَارَفُونَ وَيَتَآلَفُونَ، وَعَلَى الْخَيْرِ يَتَعَاوَنُونَ.
وَمِنْهُ خَرَجَتْ جُيُوشُهُمْ فَفَتَحَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مُسَافِرُهُمْ أَوَّلَ مَا يَرْجِعُ؛ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ)).
فَإِلَى الْمَسْجِدِ يَرْجِعُ مُسَافِرُ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلَ مَا يَرْجِعُ، فِيهِ السَّلْوَى، وَفِيهِ يُعَزِّي الْمُسْلِمُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ إِذَا أَصَابَهُ مُصَابٌ؛ بِشَرْطِ أَلَّا يَتَقَصَّدَ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْجُلُوسَ مِنَ النِّيَاحَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
مِنَ الْمَسْجِدِ تَخَرَّجَ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، وَفِيهِ كَانَ الْجَرْحَى يُمَرَّضُونَ، فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أُصِيبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الْأَكْحَلِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ))، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالْأَكْحَلُ: وَرِيدٌ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ.
فِيهِ كَانَ الْجَرْحَى يُمَرَّضُونَ، وَبِسَوَارِيهِ كَانَ الْأَسْرَى يُرْبَطُونَ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
فَرَبْطُ الْأَسْرَى بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَفِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ التَّقَاضِي، فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ تَقَاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُما حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ عَنْ سِجْفِ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: ((يَا كَعْبُ!)).
قَالَ: ((لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ)).
قَالَ: ((ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا))، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ -أَيِ: الشَّطْرَ-.
قَالَ: ((قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ)).
قَالَ: ((قُمْ فَاقْضِهِ)).
لَكِنْ بَعْدَ أَنْ كَثُرَتِ الْقَضَايَا صَارَ لَا بُدَّ مِنَ اتِّخَاذِ الْمَحَاكِمِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ حِرْصًا عَلَى حُرْمَتِهِ، وَدَفْعًا لِلتَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ.
فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ التَّقَاضِي وَالْقَضَاءُ، وَمُحَاسَبَةُ الْخُلَفَاءِ، وَفِيهِ كَانَتِ الْمُلَاعَنَةُ تَجْرِي بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ أَيَقْتُلُهُ؟!!)).
حَتَّى قَالَ: ((فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ -أَيْضًا- كَالَّذِي سَبَقَ، يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَبِشَرْطِ عَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ.
فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ تَتِمُّ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: ((انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ)).
فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرُدُّ أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فَمَا قَامَ وَثَمَّ دِرْهَمٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَفِي الْمَسْجِدِ كَانُوا يُعَلِّقُونَ الْعِذْقَ، لِيَأْكُلَ الْجَائِعُونَ وَالْغِلْمَانُ، فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)): ((بَابٌ: تَعْلِيقُ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ)).
وَالْقِنْوُ: عُنْقُودُ النَّخْلِ، وَمِثْلُهُ الْعِذْقُ.
فَالْمَسْجِدُ مُلْتَقَى الْأُمَّةِ وَنَادِيهَا، وَجَامِعَتُهَا، وَمَكَانُ مُشَاوَرَتِهَا.
وَالْمَسْجِدُ أَوَّلُ شَيْءٍ اهْتَمَّ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي أَعْلَاهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: ((يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا)).
قَالُوا: ((وَاللهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ)).
((وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ -أَمَّا قُبُورُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ نَبْشُهَا لِتُتَّخَذَ مَسَاجِدَ، وَإِنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا؛ فَلَا تُقَاسُ قُبُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ-.
كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: ((اللهم لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ؛ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
هَكَذَا بِمِثْلِ هَذَا الْيُسْرِ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّعَاوُنِ الْأَخَوِيِّ رَفَعَ الرَّسُولُ ﷺ أَرْكَانَ هَذَا الْبَيْتِ الْعَظِيمِ الَّذِي صَارَ مَوْئِلًا لِأَعْظَمِ رِجَالٍ عَرَفَتْهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَالَّذِي خَرَّجَ أَرْحَمَ الْأَبْطَالِ وَأَشْجَعَهُمْ، وَأَعْظَمَ الْخُلَفَاءِ وَأَرْأَفَهُمْ.
((لَقَدْ كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، وَلَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالَ لِلْبَنَّاءِ: ((أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَيُفْتَنَ النَّاسُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِيهِ: كَرَاهَةُ دِهَانِ الْمَسْجِدِ بِلَوْنٍ لَافِتٍ لِلنَّظَرِ، أَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ وَبِقَصْدِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ.
وَهَكَذَا فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ وَظِيفَةَ الْمَسْجِدِ، وَهَكَذَا بَنَوْهُ، فَلَمْ يُسْرِفُوا فِي بِنَائِهِ، وَلَمْ يُزَخْرِفُوا، وَلَمْ يُبَذِّرُوا، فَفَتَحَ اللهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا صَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَالزَّخْرَفَةِ وَالْمَظَاهِرِ الْفَارِغَةِ، شَأْنَهُمْ فِي الْأَنْدَلُسِ؛ نَزَعَ اللهُ الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَصَارَ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ كَنَائِسَ وَمَتَاحِفَ لَا يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ!!
إِنَّ لِلْمَسْجِدِ شَأْنًا كَبِيرًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمُودُ الدِّينِ.
وَالْمَسْجِدُ -كَمَا يُشِيرُ اشْتِقَاقُهُ-: هُوَ الْمَكَانَ الْمُعَدُّ لِلسُّجُودِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ مَعْرُوفًا لَدَى الْقُدَمَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} [الكهف: 21].
وَأَوَّلُ مَسْجِدٍ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَبَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ عَامًا بُنِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَوِ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ.
فِي الْمَسْجِدِ تُقَامُ الصَّلَاةُ؛ ذَلِكَ الرُّكْنُ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةُ الْعِبَادَةِ بِوُضُوحٍ -يَعْنِي: السُّجُودُ-، وَمِنْهُ اشْتُقَّ وَأُخِذَ اسْمُ أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ: وَهُوَ الْمَسْجِدُ؛ لِمَا فِيهِ -أَيْ: فِي السُّجُودِ- مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ -وَهُمَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ- عَلَى الْأَرْضِ؛ رَمْزًا لِلْخُضُوعِ للهِ، وَإِخْرَاجًا لِلْكِبْرِ مِنَ الْقُلُوبِ؛ لِذَلِكَ ((كَانَ الْعَبْدُ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ))، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)).
فِي السُّجُودِ تُوضَعُ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْأَنْفُ رَمْزُ الشَّرَفِ وَالنَّخْوَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَجَدْعُ أُنُوفِ الْجَوَاسِيسِ وَالْخَوَنَةِ مَعْرُوفٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى خِسَّتِهِمْ وَنَدَالَتِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ رَمْزًا لِلِاسْتِسْلَامِ للهِ؛ كَانَ الْمَسْجِدُ شِعَارًا لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ السَّاجِدِينَ للهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا؛ لَمْ يَكُنْ يُغِرْ بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ عَدَمُ إِنْذَارِ الْمُقَاتَلِينَ؛ فَقَدْ وَرَدَ الْإِنْذَارُ فِي أَحَادِيثَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
فَالْمَسْجِدُ رَمْزُ الْإِسْلَامِ؛ فَحَيْثُ لَا أَذَانَ وَلَا صَلَاةَ وَلَا جَمَاعَةَ لَا إِسْلَامَ وَلَا مُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
((مَعْنَى الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ))
السُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ.
وَسُجُودُ الصَّلَاةِ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَالْمَسْجَدُ وَالْمَسْجِدُ -بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا-: مَوْضِعُ السُّجُودِ، وَجَمْعُهُ: مَسَاجِدُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: ((كُلُّ مَوْضِعٍ يُتَعَبَّدُ بِهِ وَفِيهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَهُوَ مَسْجِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا))؟ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، أَيْ: كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا لِلسُّجُودِ، أَوْ يَصْلُحُ أَنْ يُبْنَى فِيهِ مَكَانٌ لِلصَّلَاةِ)).
وَالْمَسْجِدُ فِي الِاصْطِلَاحِ: ((بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ تَحَرَّرَتْ مِنَ التَّمَلُّكِ الشَّخْصِيِّ، وَعَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ للهِ -تَعَالَى-، وَخُصِّصَتْ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ)).
وَلَمْ يُطْلِقْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ صَلَّوْا فِيهِ اسْمَ الْمَسْجِدِ، بَلْ حَدَّدُوا شُرُوطًا وَقُيُودًا لِتُصْبِحَ الْبُقْعَةُ مَسْجِدًا؛ مِنْهَا:
أَنْ يُوقِفَهَا مَالِكُهَا وَقْفًا صَحِيحًا لَا اشْتِرَاطَ فِيهِ وَلَا خِيَارَ، فَإِنْ لَمْ يُوقِفْ فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَوِ اتَّخَذَهُ مَكَانًا لِلصَّلَاةِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: ((إِنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ فَالْمَسْجِدُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ لِيَخْرُجَ الْمُصَلَّى الْمُجْتَمَعُ فِيهِ لِلْأَعْيَادِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يُعْطَى حُكْمَ الْمَسْجِدِ، وَكَذَلِكَ الرُّبَطُ وَالْمَدَارِسُ؛ فَإِنَّهَا هُيِّئَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ)).
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَتَيَقَّنُونَ طَهَارَتَهُ، وَنَحْنُ خُصِّصْنَا بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا مَا تُيُقِّنَ نَجَاسَتُهُ))
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((هَذَا مَا خَصَّ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُمُ الصَّلَوَاتُ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ؛ كَالْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ)).
وَأَمَّا الْجَامِعُ: فَالْجَامِعُ نَعْتٌ -أَيْ: وَصْفٌ- لِلْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَمْ يُطْلِقِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ كَلِمَةَ (الْجَامِعِ) عَلَى الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا يَصِفُونَهُ فَيَقُولُونَ: الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ، أَوْ يُضِيفُونَهُ إِلَى الصِّفَةِ فَيَقُولُونَ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، ثُمَّ تَجَوَّزَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالُوا عَنِ الْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ، أَوِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا؛ قَالُوا عَنْهُ: الْجَامِعُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ.
((مَنْزِلَةُ الْمَسْجِدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَتَعْظِيمُهَا))
إِنَّ لِلْمَسْجِدِ فِي الْإِسْلَامِ أَهَمِّيَّةً عُظْمَى، وَمَكَانَةً كُبْرَى؛ فَهُوَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبَيْتُ الْأَتْقِيَاءِ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ أَضَافَهُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وَأَنَّ السُّجُودَ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- للهِ وَحْدَهُ؛ فَلَا تَعْبُدُوا أَيُّهَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ مَعَ اللهِ تَعَالَى أَحَدًا، وَأَخْلِصُوا الدُّعَاءَ لَهُ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36].
بُيُوتُ اللهِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ بِرَفْعِ بُنْيَانِهَا؛ لِيَكُونَ إِعْلَاؤُهَا مَعَالِمَ بَارِزَةً لِبُلْدَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِجَذْبِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُنَزِّهُهُ سُبْحَانَهُ، وَيَذْكُرُهُ فِي بُيُوتِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْغُدْوَةِ -مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ- وَالْآصَالِ -حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ مَسَاءً حَتَّى الْغُرُوبِ-.
وَمِنْ تَشْرِيفِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَسَاجِدِ: أَنْ جَعَلَ عُمَّارَهَا الْمُؤْمِنِينَ الْأَتْقِيَاءَ الْمُهْتَدِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
لَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ عِمَارَةً مَعْنَوِيَّةً بِعِبَادَةِ اللهِ فِيهَا وَالدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَعِمَارَةً مَادِّيَّةً بِبِنَائِهَا وَتَرْمِيمِهَا وَتَنْظِيفِهَا إِلَّا مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ الْجَامِعَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
*الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ؛ مِنْ بَعْثٍ، وَحَشْرٍ، وَحِسَابٍ، وَجَنَّةٍ وَنَارٍ، آمَنَ بِذَلِكَ إِيمَانًا صَحِيحًا.
*وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا بِحُدُودِهَا، وَإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، وَآدَابِهَا.
*وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ: آتَى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ لِمُسْتَحِقِّيهَا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ.
*وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ: لَمْ يَخَفْ فِي الدِّينِ غَيْرَ اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَمْرَ اللهِ لِخَشْيَةِ النَّاسِ.
وَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُو الْمَنْزِلَةِ هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، الْمُهْتَدُونَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِطَاعَةِ اللهِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ.
وَأَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ ((لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ مَنَعُوا ذِكْرَ اللهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَدُّوا فِي تَخْرِيبِهَا بِالْهَدْمِ أَوِ الْإِغْلَاقِ، أَوْ بِمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا؛ أُولَئِكَ الظَّالِمُونَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَسَاجِدَ إِلَّا عَلَى خَوْفٍ وَوَجَلٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، لَهُمْ بِذَلِكَ صَغَارٌ وَفَضِيحَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ))، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ البقرة: 114].
لَا أَحَدَ أَكْفَرُ وَأَبْغَضُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ؛ كَرَاهَةَ أَنْ يُعْبَدَ وَيُصَلَّى لَهُ فِيهَا، وَأَنْ يُذْكَرَ بِالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَجَدَّ فِي خَرَابِهَا بِالْهَدْمِ، أَوِ الْإِغْلَاقِ، أَوْ بِمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا.
أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَا كَانَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَّا خَائِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، لَهُمْ صَغَارٌ وَذُلٌّ وَمَهَانَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا جَزَاءَ اسْتِكْبَارِهِمْ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي النَّارِ.
وَكَمَا أَوْلَى الْقُرْآنُ اهْتِمَامًا عَظِيمًا بِالْمَسْجِدِ، وَعَظَّمَ مَكَانَتَهُ وَشَأْنَهُ؛ كَذَلِكَ أَوْلَتِ السُّنَّةُ اهْتِمَامًا عَظِيمًا بِالْمَسْجِدِ وَعِمَارَتِهِ حِسِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا؛ فالنَّبِيُّ ﷺ -بِأَمْرِ اللهِ- يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللهِ، وَيُرَاعِي حُرُمَاتِ اللهِ، وَهُوَ أَتْقَى الْخَلْقِ قَلْبًا ﷺ.
رِعَايَةُ شَعَائِرِ اللهِ، وَاحْتِرَامُ شَعَائِرِ اللهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ، لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ لَا تُمَسُّ، هِيَ للهِ خَالِصَةٌ.
عَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
عَظِّمُوا حُرُمَاتِ اللهِ؛ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
دِينُ اللهِ بِنِظَامِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، فِيهِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ، وَفِيهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ هُوَ أَوْلَى مَنْ رَاعَى الْحُرُمَاتِ -حُرُمَاتِ اللهِ-، هُوَ أَعْظَمُ مَنْ قَدَّرَ شَعَائِرَ اللهِ؛ لَمَّا رَأَى النُّخَامَةَ فِي الْقِبْلَةِ قَامَ يَحُكُّهَا بِثَوْبِهِ بِنَفْسِهِ ﷺ، وَقَدْ تَغَيَّظَ عَلَى فَاعِلِهَا جِدًّا، وَقَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ)).
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائرِ اللهِ، وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ بُيُوتَ اللهِ لَهَا حُرْمَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ!!
سُبْحَانَ اللهِ!!
وَهَلْ يُمَارِي فِي هَذَا أَحَدٌ؟!!
وَهَلْ يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ؟!!
بَيْتُ اللهِ، وَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِذْنِهِ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، هِيَ بُيُوتٌ مَرْفُوعَةٌ بِإِذْنِ اللهِ؛ فَلَهُ خَاصِّيَّةٌ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَحُرْمَةً، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ.
وَالْخَلْقُ أَمْرُهُمْ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ عَلَى بَيْتِهِ الِاعْتِدَاءَ، لَا مِنْ دَاخِلٍ وَلَا مِنْ خَارِجٍ، وَيَرْضَى لِبَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الِاعْتِدَاءَ!!
بَيْتُ اللهِ لَهُ حُرْمَتُهُ، كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا بَيَّنَهَا نَبِيُّهُ الْكَرِيمُ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فَهُوَ مَسْجِدُ اللهِ، هُوَ بَيْتُ اللهِ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، فَجَعَلَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَأْذُونٌ بِرَفْعِهَا مِنْ لَدُنْهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا لِأَحَدٍ أَنْ يُلَطِّخَ الْمَسْجِدَ، أَوْ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ؛ فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَالْمَسْجِدِ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ خَارِجٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنَ الْمَسْجِدِ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا خِلَافٍ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَإِهَانَتُهُ وَاضِحَةٌ؛ وَلَكِنْ ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى بَيْتِ اللهِ؛ مَاذَا يَنْتَظِرُ هَذَا؟!!
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا إِذَا دَخَلْنَا مَسَاجِدَ اللهِ أَلَّا نَجْلِسَ حَتَّى نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
الْمَسْجِدُ مُحْتَرَمٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).
وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ((صَلِّ رَكْعَتَيْنِ)).
فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ جَاءَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ -وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ-: ((قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)).
تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، مَكَانٌ مُحْتَرَمٌ، مُحَجَّرٌ وَقْفٌ للهِ، هَذَا بَيْتُهُ؛ فَالِاعْتِدَاءُ عَلَى هَوَائِهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَعَائِرِ اللهِ؛ فَكَيْفَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِذِكْرِ اللهِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ؟!!
لَا يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ؛ حَتَّى بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الدَّاخِلِ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا بِالسَّفَهِ وَالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالطُّغْيَانِ؟!!
أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
دَاءُ الِاسْتِهَانَةِ!!
اسْتَهَانَ الْمُسْلِمُونَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- بِشَعَائِرِ اللهِ، وَاسْتَهَانُوا بِحُرُمَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَرْقُبْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِ اللهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَإِنَّمَا يَعْتَدُونَ كَأَنَّمَا يَعْتَدُونَ عَلَى بُيُوتِ السِّفْلَةِ مِنَ الْبَشَرِ!!
الْمَسَاجِدُ هِيَ خَيْرُ الْبِقَاعِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((خَيْرُ الْبِلَادِ وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَهَذَا نَقِيضٌ وَنَقِيضُهُ.. هَذَا ضِدٌّ وَضِدُّهُ، مَسْجِدٌ وَسُوقٌ، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
رَايَةُ الْهُدَى مَرْفُوعَةٌ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، أَعْلَامُ الْهُدَى مَنْصُوبَةٌ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَرَايَةُ الشَّيْطَانِ مَرْفُوعَةٌ فِي الْأَسْوَاقِ، يَنْصِبُ الشَّيْطَانُ وَيَرْفَعُ رَايَتَهُ؛ وَلِذَلِكَ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَسْوَاقِ؛ لِأَنَّهَا مَرَاتِعُ الشَّيَاطِينِ، ((شَرُّ الْبِقَاعِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَكَيْفَ يَصِيرُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حُكْمَ السُّوقِ؟!!
كَيْفَ يَتَعَامَلُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَمَا يَتَعَامَلُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ؟!!
فَالْمَعَاصِي هِيَ هِيَ، وَالِانْحِرَافَاتُ هِيَ هِيَ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ هُوَ هُوَ بِغَيْرِ فَارِقٍ، وَمِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ!!
أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!
أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَغَارُ عَلَى حُرُمَاتِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ فِي أَرْضِهِ، فَإِنْ قَامَ أَهْلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِوَاجِبِهِمْ فَذَلِكَ؛ وَإِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَغَارُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَغَيْرَتُهُ غَيْرَتُهُ، وَغَيْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ تُؤْتَى فِي الْأَرْضِ مَحَارِمُهُ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ((خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ))، خَيْرُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ يَقُومُ فِيهِ الْعَبْدُ للهِ مُصَلِّيًا، يَرْكَعُ فِيهِ لِرَبِّهِ حَانِيًا صُلْبَهُ مُتَذَلِّلًا، وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي التُّرَابِ رَاغِمًا، يُسَبِّحُ رَبَّهُ مُعَظِّمًا وَمُبَجِّلًا، خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا))؛ فَأَحَبُّ بُقْعَةٍ فِي بَلَدٍ الْمَسْجِدُ.
الْمَسْجِدُ فِي الْبَلَدِ أَحَبُّ بِقَاعِ الْبَلَدِ إِلَى اللهِ، أَحَبُّ الْأَمَاكِنِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَاجِدُهَا، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَذَكَرَ النَّقِيضَ وَالنَّقِيضَ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ وَاعِيًا، إِذَا دَخَلَ بَيْتَ اللهِ يَدْخُلُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ إِلَى الْيُمْنَى يَسْعَى، وَإِذَا خَرَجَ فَخَارِجٌ إِلَى اضْطِرَابٍ، إِلَى قَلَقٍ وَنَصَبٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ، فَيَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ -بُيُوتَ اللهِ- فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
هَذَا فِي بَيْتِ اللهِ، صَحِيحٌ؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((وَيَصْدُقُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطُ -جَمْعُ رِبَاطٍ- إِذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَدَرْسِهِ، وَتَلَقِّيهِ وَحَمْلِهِ؛ فَلَهَا فَضْلُ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ)).
((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ...))، هُوَ بَيْتُ اللهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ، وَتَكْرِيمٍ وَإِعْلَاءٍ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ، يَنْتَفِي الْقَلَقُ، يَنْمَحِي الِاضْطِرَابُ، تَسْكُنُ الرُّوحُ إِلَى رَحْمَةِ بَارِيهَا؛ إِذْ تَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((تَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُمْ فِي حِلَقٍ؛ لِأَخْذِهِمْ بِهَذَا الْمَقْصِدِ الْجَلِيلِ، لَا كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ يَجْعَلُونَ أَحَادِيثَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا حِلَقًا، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْآخِرَةَ، أُولَئِكَ لَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
الْمَسَاجِدُ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحِلَقَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَتَدَارُسِ الْقُرْآنِ؛ لِمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِحَاطَةِ بِأَحْكَامِ اللهِ، هَذِهِ تَحُفُّهَا الْمَلَائِكَةُ.
أُولَئِكَ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَسْأَلُ الْمَلَائِكَةَ -وَهُوَ بِخَلْقِهِ أَعْلَمُ- عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ فِي الْمَسَاجِدِ -مَسَاجِدِ اللهِ-، يَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَيَذْكُرُونَ وَيَذْكُرُونَ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ((اشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).
تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: ((يَا رَبِّ، فِيهِمْ فُلَانٌ -فِي هَؤُلَاءِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي بَيْتِكَ، التَّالِينَ لِكِتَابِكَ، الْمُقْبِلِينَ عَلَى ذِكْرِكَ، الْمُتَحَلِّقِينَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ بِحِلَقِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ- فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ)).
قَالَ: ((هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).
غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَمَعِيَّتُهُمْ لَهَا قَدْرُهَا عِنْدَ اللهِ، فَغَفَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ، ثُمَّ آخَى ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَا قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ بِالْمَدِينَةِ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ؛ وَذَلِكَ لِتَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا حُورِبَتْ، وَلِتُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تَرْبِطُ الْمَرْءَ بِرَبِّهِ -تَعَالَى-، وَتُنَقِّي الْقَلْبَ مِنْ أَدْرَانِ الْأَرْضِ وَأَدْنَاسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أَوَّلُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ بَعْدَ نُزُولِهِ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ.
((إِنَّ نَاقَةَ الرَّسُولِ ﷺ بَرَكَتْ فِي مِرْبَدٍ لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ -غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ-، وَكَانَ الَّذِي يَكْفُلُهُمَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: ((لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).
وَالْهِبَةُ: هِيَ الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ.
فَأَبَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا حَتَّى ابْتَاعَهُ -أَيِ: اشْتَرَاهُ- مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، كَمَا وَرَدَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)).
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي قَبْلَ بِنَاءِ مَسْجِدِهِ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ: هِيَ مَبَارِكُهَا وَمَوَاضِعُ مَبِيتِهَا وَوَضْعِهَا أَجْسَادَهَا عَلَى الْأَرْضِ لِلِاسْتِرَاحَةِ.
وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: ((هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ = هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ))
وَالْحِمَالُ: يُرِيدُونَ بِهِ الْمَحْمُولَ مِنَ اللَّبِنِ.
((هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرُ)) أَيْ: أَبْقَى ذُخْرًا، وَأَكْثَرُ ثَوَابًا، وَأَدْوَمُ مَنْفَعَةً، وَأَشَدُّ طَهَارَةً مِنْ حِمَالِ خَيْبَرَ الَّتِي يُحْمَلُ مِنْهَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ.
وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَة = فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة)) ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
شَرَعَ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْعَمَلِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَضَرَبَ أَوَّلَ مِعْوَلٍ فِي حَفْرِ الْأَسَاسِ الَّذِي كَانَ عُمْقُهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، ثُمَّ انْدَفَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي بِنَاءِ هَذَا الْأَسَاسِ بِالْحِجَارَةِ وَالْجُدْرَانِ الَّتِي لَمْ تَزِدْ عَلَى قَامَةِ الرَّجُلِ إِلَّا قَلِيلًا بِاللَّبِنِ الَّذِي يُعْجَنُ بِالتُّرَابِ، وَيُسَوَّى عَلَى شَكْلِ أَحْجَارٍ صَالِحَةٍ لِلْبِنَاءِ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ وَبِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَهَمَّ بِهِ الْأَصْحَابُ؛ غَلَّبَ جَانِبَ الْمَصْلَحَةِ، وَرَاعَى دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الرَّجُلِ، وَقَالَ الصَّحَابَةُ: ((مَهْ مَهْ!!))، يَزْجُرُونَهُ؛ مَاذَا تَفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ -فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ-؟!! وَالرَّجُلُ لَا يَعْلَمُ الْأَحْكَامَ، حَدِيثُ عَهْدٍ هُوَ بِهَذَا الْحُكْمِ، لَا يَعْلَمُهُ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ.
فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ، وَقَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ)).
وَالْإِزْرَامُ: قَطْعُ الْبَوْلِ وَالدَّمْعِ وَمَا أَشْبَهَ، فَقَطْعُهُ يَضُرُّ -يَضُرُّ فَاعِلَهُ-.
قَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ))، فَلَمَّا قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ أَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرَيْنِ: أَزَالَ جَهَالَةَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ، فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِ الرَّجُلِ، فَطَهَّرَ الْمَوْضِعَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ: ((إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللهِ)).
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ قَدْ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ، يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ أَوِ الْكُرَّاتَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
هُوَ بَيْتُ اللهِ، يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، إِذَا أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلًا، أَوْ كُرَّاتًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ، لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ -فَأَصْلُهَا حَلَالٌ-؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ؛ ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ فَضَائِلِ بُيُوتِ اللهِ: ((أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ؛ كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً مَهْمَا بَعُدَ مَمْشَاهُ))، تُكْتَبُ آثَارُهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ((إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَانْتَظَرَ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا صَلَّى فَظَلَّ فِي مُصَلَّاهُ؛ مَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ)).
أَيُّ عَظَمَةٍ، وَأَيُّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِمَسَاجِدِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ ((أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ -فِي مَسْجِدِهِ، يَعْنِي: الَّذِي صَلَّى فِيهِ- يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَ كَحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
أَيُّ فَضْلٍ، وَأَيُّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِبُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ شَرَفِ وَعُلُوِّ قَدْرِ بُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اتَّقُوا اللهَ فِي شَعَائِرِ اللهِ، وَفِي حُرُمَاتِ اللهِ.
((فَضْلُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتِهَا))
لَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ آيَاتٌ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مِنْهَا مَا هُوَ فِي بَيَانِ فَضْلِ بِنَائِهِ:
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
وَالشَّاهِدُ الْآيَةِ -وَكُلُّهَا شَاهِدٌ- قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}.
قال القرطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- رَبَطَهُ بِهَا، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمُلَازَمَتِهَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْمُرُ الْمَسْجِدَ فَحَسِّنُوا بِهِ الظَّنَّ)).
وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالْعِمَارَةِ، وَنَحْوِهَا.
{أَنْ يَعْمُرُوا}: عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ تُطْلَقُ عَلَى بِنَائِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَتُطْلَقُ عَلَى لُزُومِهِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللهِ.
فَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ، وَمَعْنَوِيَّةٌ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ فِي الْآيَةِ.
وَالْمَعْنَى: ((لَا يَعْتَنِي بِبُيُوتِ اللهِ وَيَعْمُرُهَا إِلَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ هَؤُلَاءِ هُمُ الْعُمَّارُ الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ)).
فَفِي الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدَ اللهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيَخْشَوْنَ اللهَ -تَعَالَى-، وَلَا يَخْشَوْنَ سِوَاهُ.
وَفِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْجَدِيرُونَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ بِالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَتَلَقِّي الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا، زِيَادَةً عَلَى بِنَائِهَا، وَتَطْهِيرِهَا، وَصِيَانَتِهَا.
فَفِي الْآيَةِ: فَضِيلَةُ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ بِالْعِبَادَةِ فِيهَا، وَتَطْهِيرِها، وَبِنَائِهَا، وَصِيَانَتِهَا.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36].
وَالشَّاهِدُ فِي الْآيَةِ -وَكُلُّهَا شَاهِدٌ-: قَوْلُهُ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ}.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: أَمَرَ -تَعَالَى- بِرَفْعِهَا، أَيْ : بِتَطْهِيرِهَا مِنَ الدَّنَسِ، وَاللَّغْوِ، وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تَلِيقُ فِيهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ}: هِيَ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ، أَمَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بِبِنَائِهَا وَرَفْعِهَا، وَأَمَرَ بِعِمَارَتِهَا وَتَطْهِيرِهَا)).
مَا هُوَ الْمُرَادُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؟
ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ: هُوَ بِنَاؤُهَا، وَتَشْيِيدُهَا، وَتَرْمِيمُ مَا تَهَدَّمَ مِنْهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْعِمَارَةُ الْحِسِّيَّةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: ((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ؛ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ: الصَّلَاةُ، وَالْعِبَادَةُ، وَأَنْوَاعُ الْقُرُبَاتِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
هَذِهِ هِيَ الْعِمَارَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْأَسْمَى مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.
وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ كِلَا النَّوْعَيْنِ؛ يَعْنِي: الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ.
فَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُيُوتِ هُنَا: الْمَسَاجِدُ، وَمَعْنَى: {أَذِنَ} فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} أَيْ: أَمَرَ وَقَضَى، وَمَعْنَى: {تُرْفَع} أَيْ: تُبْنَى وَتُعَلَّى.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ}: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وَرَفْعُهَا: إِعْلَاءُ شَأْنِهَا؛ مِنْ بِنَاءٍ، وَطَهَارَةٍ، وَصِيَانَةٍ؛ لِأَنَّهَا بُيُوتُ اللهِ -تَعَالَى-.
وَقَوْلُهُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} أَيْ: يُسَبِّحُ للهِ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ {بِالْغُدُوِّ} أَيْ: بِالصَّبَاحِ {وَالْآصَالِ} أَيْ: بِالْمَسَاءِ.
قَيُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ: وُجُوبُ تَعْظِيمِ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى -وَهِيَ الْمَسَاجِدُ- بِتَطْهِيرِهَا، وَرَفْعِ بُنْيَانِهَا، وَإِخْلَائِهَا؛ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ فِيهَا.
وَالرَّفْعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} هُوَ الرَّفْعُ الْحِسِّيُّ بِالْبِنَاءِ وَالتَّشْيِيدِ وَالتَّرْمِيمِ، وَالرَّفْعُ الْمَعْنَوِيُّ الْإِيمَانِيُّ بِالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ.
قَالَ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36-38].
((أَيْ: يُتَعَبَّدُ لِلَّهِ فِي بُيُوتٍ عَظِيمَةٍ فَاضِلَةٍ، هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَيْهِ؛ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، {أَذِنَ اللَّهُ} أَيْ: أَمَرَ وَوَصَّى {أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: هَذَانِ مَجْمُوعُ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ، فَيَدْخُلُ فِي رَفْعِهَا: بِنَاؤُهَا، وَكَنْسُهَا وَتَنْظِيفُهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَالْأَذَى، وَصَوْنُهَا عَنِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا يَتَحَرَّزُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ، وَبِصِيَانَتِهَا عَنِ الْكَافِرِ، وَأَنْ تُصَانَ عَنِ اللَّغْوِ فِيهَا، وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّلَاةُ كُلُّهَا فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، وَالْمُذَاكَرَةُ فِيهَا، وَالِاعْتِكَافُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
1-عِمَارَةُ بُنْيَانٍ وَصِيَانَةٍ لَهَا.
2- وَعِمَارَةٌ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَشْرَفُ الْقِسْمَيْنِ؛ وَلِهَذَا شُرِعَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ وُجُوبًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ مَدَحَ -تَعَالَى- عُمَّارَ الْمَسَاجِدِ بِالْعِبَادَةِ فَقَالَ: {يُسَبِّحُ لَهُ} إِخْلَاصًا {بِالْغُدُوِّ}: أَوَّلِ النَّهَارِ {وَالآصَالِ}: آخِرِ النَّهَارِ.. رِجَالٌ.
خَصَّ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِشَرَفِهِمَا، وَلِتَيَسُّرِ السَّيْرِ فِيهِمَا إِلَى اللَّهِ وَسُهُولَتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّسْبِيحُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؛ وَلِهَذَا شُرِعَتْ أَذْكَارُ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَأَوْرَادُهُمَا عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، أَيْ: يُسَبِّحُ فِيهَا لِلَّهِ رِجَالٌ، وَأَيُّ رِجَالٍ!! لَيْسُوا مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَى رَبِّهِ دُنْيَا ذَاتَ لَذَّاتٍ، وَلَا تِجَارَةً وَلَا مَكَاسِبَ مُشْغِلَةً عَنْهُ -تَعَالَى-، {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}: وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ تَكَسُّبٍ يُقْصَدُ بِهِ الْعِوَضُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَلَا بَيْعٌ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْبَيْعِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الرِّجَالُ -وَإِنِ اتَّجَرُوا وَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا- فَإِنَّ ذَلِكَ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ لَكِنَّهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِلْكَ بِأَنْ يُقَدِّمُوهَا وَيُؤْثِرُوهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، بَلْ جَعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ غَايَةَ مُرَادِهِمْ، وَنِهَايَةَ مَقْصِدِهِمْ، فَمَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا رَفَضُوهُ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ.
وَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الدُّنْيَا شَدِيدًا عَلَى أَكْثَرِ النُّفُوسِ، وَحُبُّ الْمَكَاسِبِ بِأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ مَحْبُوبًا لِلنُّفُوسِ، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا تَرْكُهُ فِي الْغَالِبِ، وَتَتَكَلَّفُ مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ؛ ذَكَرَ مَا يَدْعُوهَا إِلَى ذَلِكَ -تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا- فَقَالَ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}؛ مِنْ شِدَّةِ هَوْلِهِ وَإِزْعَاجِهِ لِلْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ؛ فَلِذَلِكَ خَافُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَسَهُلَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ، وَتَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَنْهُ -تَعَالَى-.
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}: وَالْمُرَادُ بِـ {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}: أَعْمَالُهُمُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ؛ لِأَنَّهَا أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الْمُبَاحَاتِ وَغَيْرَهَا، فَالثَّوَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ الْحَسَنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قَالَ تَعَالَى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} زِيَادَةً كَثِيرَةً عَنِ الْجَزَاءِ الْمُقَابِلِ لِأَعْمَالِهِمْ، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: بَلْ يُعْطِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مَا لَا يَبْلُغُهُ عَمَلُهُ؛ بَلْ وَلَا تَبْلُغُهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَيُعْطِيهِ مِنَ الْأَجْرِ بِلَا عَدٍّ وَلَا كَيْلٍ وَلَا حِسَابٍ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِ جِدًّا)).
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَاتِ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَقَالَ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 17-18].
وَالشَّاهِدُ مِنَ الْآيَةِ -وَكُلُّهَا شَاهِدٌ-: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ}، قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ إِنَّمَا تُعْمَرُ لِعِبَادَةِ اللهِ فِيهَا، لَا لِلْكُفْرِ بِهِ, فَمَنْ كَانَ بِاللهِ كَافِرًا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْمُرَ مَسَاجِدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: الْعِمَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَتَرْمِيمِهِ عِنْدَ الْخَرَابِ، فَيُمْنَعُ مِنْهُ الْكَافِرُ حَتَّى وَلَوْ أَوْصَى بِهِ؛ لَا تُمْتَثَلُ وَصِيَّتُهُ.
فَالْمَعْنَى: يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: لَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا يَلِيقُ بِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَعْمُرُوا بُيُوتَ اللهِ وَهُمْ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللهِ؛ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ تَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَالْحُبَّ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ كَفَرُوا بِاللهِ، وَشَهِدَتْ بِذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ؛ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يَعْمُرُوا بُيُوتَ اللهِ؟!!
وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ ضَاعَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَذَهَبَ ثَوَابُهَا، وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ مُخَلَّدُونَ فِي الْعَذَابِ، لَا يُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، وَهَلِ الْكَافِرُ بِاللهِ يَعْمُرُ بَيْتَهُ؟!! وَبِمَاذَا يَعْمُرُهُ؟!!
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}.
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {مَا كَانَ} أَيْ: مَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ، {لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} بِالْعِبَادَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ شَاهِدُونَ وَمُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بِشَهَادَةِ حَالِهِمْ وَفِطَرِهِمْ وَعِلْمِ كثيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ.
فَإِذَا كَانُوا شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ؛ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُمَّارُ مَسَاجِدِ اللَّهِ وَالْأَصْلُ مِنْهُمْ مَفْقُودٌ، وَالْأَعْمَالُ مِنْهُمْ بَاطِلَةٌ؟!!
لِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ: بَطَلَتْ وَضَلَّتْ {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}.
ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ هُمْ عُمَّارُ مَسَاجِدِ اللَّهِ فَقَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ بِالْقِيَامِ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا وَالْبَاطِنِ، {وَآتَى الزَّكَاةَ} لِأَهْلِهَا، {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} أَيْ: قَصَرَ خَشْيَتَهُ عَلَى رَبِّهِ، فَكَفَّ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ.
فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ، وَبِالْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أُمُّهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَبِخَشْيَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ؛ فَهَؤُلَاءِ عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا.
{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}: وَ (عَسَى) مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا عِنْدَهُ خَشْيَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ عُمَّارِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ أَهْلِهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا؛ وَإِنْ زَعَمَ ذَلِكَ وَادَّعَاهُ)).
وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ وَاجِبَاتِ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ مَسَاجِدَ اللهِ:
وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَخْذُ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، قَالَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وَالشَّاهِدُ فِي الْآيَةِ -وَكُلُّهَا شَاهِدٌ-: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ؛ وَلَاسِيَّمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ الْعِيدَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الطِّيبُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ اللِّبَاسِ: الْبَيَاضُ)).
((يَا بَنِي آدَمَ! كُونُوا عِنْدَ أَدَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الزِّينَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ مِنْ ثِيَابٍ سَاتِرَةٍ لِعَوْرَاتِكُمْ، وَنَظَافَةٍ وَطَهَارَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)).
((يَقُولُ -تَعَالَى- بَعْدَمَا أَنْزَلَ عَلَى بَنِي آدَمَ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِهِمْ وَرِيشًا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أَيِ: اسْتُرُوا عَوْرَاتِكُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا؛ فَإِنَّ سَتْرَهَا زِينَةٌ لِلْبَدَنِ، كَمَا أَنَّ كَشْفَهَا يَدَعُ الْبَدَنَ قَبِيحًا مُشَوَّهًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ هُنَا: مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ اللِّبَاسِ النَّظِيفِ الْحَسَنِ؛ فَفِي هَذَا: الْأَمْرُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِاسْتِعْمَالِ التَّجَمُّلِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَظَافَةِ السُّتْرَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَنْجَاسِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أَيْ: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، {وَلا تُسْرِفُوا} فِي ذَلِكَ، وَالْإِسْرَافُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْكَافِي، وَالشَّرَهِ فِي الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْجِسْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ التَّرَفُّهِ، وَالتَّنَوُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَاللِّبَاسِ، وَإِمَّا بِتَجَاوُزِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَإِنَّ السَّرَفَ يَبْغَضُهُ اللَّهُ، وَالسَّرَفُ يَضُرُّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ وَمَعِيشَتَهُ؛ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ يَعْجِزَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَاتِ -يَعْنِي: بِسَبَبِ الْإِسْرَافِ-.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْأَمْرُ بِتَنَاوُلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالنَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِمَا، وَعَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِمَا)).
وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الشِّرْكَ عَامَّةً، وَحَرَّمَ الشِّرْكَ فِي الْمَسَاجِدِ نَصًّا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، لَا دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَلَا دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ هِيَ أَعْظَمُ مَحَالِّ الْعِبَادَةِ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ للهِ، وَالْخُضُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزَّتِهِ.
وَالشَّاهِدُ فِي الْآيَةِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ أَنْ يُوَحِّدُوهُ فِي مَحَالِّ عِبَادَتِهِ، وَلَا يُدْعَى مَعَهُ أَحَدٌ، وَلَا يُشْرَكُ بِهِ)).
فَتُوَضِّحُ الْآيَةُ أَنَّ السُّجُودَ أَوْ مَوَاضِعَ السُّجُودِ -وَهِيَ الْمَسَاجِدُ- لَا تَكُونُ إِلَّا للهِ، فَهُنَاكَ يَكُونُ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؛ فَلَا تَعْبُدُوا فِيهَا غَيْرَهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ إِلَّا لِيُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ فِيهَا دُونَ سِوَاهُ.
وَفِي هَذَا وُجُوبُ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ مِنْ كُلِّ مَا يَشُوبُ الْإِخْلَاصَ للهِ وَمُتَابَعَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
بَلْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ طُرُقًا؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ طُرُقًا إِلَّا لِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ)).
بَلْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ خُطُورَةَ الْحَدِيثِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، لَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
وَقَدْ جَاءَ فِي سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ أَحَادِيثُ فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اهْتَمَّ بِعِمَارَةِ بُيُوتِ اللهِ الَّتِي كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِهَا، ((كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ))، وَمَا أَرْسَى حَجَرًا لِبِنَاءٍ إِلَّا كَانَ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ، هُوَ أَوَّلُ مُؤَسَّسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيهَا حَجَرًا، وَقَدْ رَكَّزَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ جُلَّ اهْتِمَامِهِ عَلَى الْمَسَاجِدِ؛ خَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبِنَائِهَا، وَطَهَارَتِهَا، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَحُسْنِ الْأَدَبِ وَالْأَخْلَاقِ، وَكُلِّ مَا يُنَمِّي جَانِبَ التَّوْحِيدِ فِيهَا.
وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْبِنَاءِ الْحِسِّيِّ لِلْمَسَاجِدِ.
وَالْمَقْصُودُ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيِّ: شِرَاءُ الْأَرْضِ لِأَجْلِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلَيْهَا، وَقْفُ أَرْضٍ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ، صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ وَتَرْمِيمُهُ، إِنَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَتَهْوِيَتُهُ، وَتَدْفِئَتُهُ، وَفَرْشُهُ، وَتَنْظِيفُهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ الْمَعْنَوِيِّ الرُّوحِيِّ الْإِيمَانِيِّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَالصَّلَاةُ، وَذِكْرُ اللهِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَحُضُورُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ فِيهَا، وَالتَّعْلِيمُ، وَالِاعْتِكَافُ.
مِنَ الْأَحَادِيثِ: عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للهِ بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ ﷺ: ((مِثْلَهُ)) أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: بَنَى اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مِثْلَهُ فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ، وَأَمَّا صِفَتُهُ فِي السَّعَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَمَعْلُومٌ فَضْلُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى بُيُوتِ الْجَنَّةِ كَفَضْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى بُيُوتِ الدُّنْيَا؛ فَيَبْنِي اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ)).
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((فِي الْجَنَّةِ)) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُخُولِ فَاعِلِ ذَلِكَ الْجَنَّةَ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْبِنَاءِ لَهُ: أَنْ يَسْكُنَهُ، وَهُوَ لَا يَسْكُنُهُ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَقَالَ: وَهَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ لِمَنْ جَعَلَ بُقْعَةً مِنَ الْأَرْضِ مَسْجِدًا بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِتَحْوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ؟ وَكَذَا مَنْ عَمَدَ إِلَى بِنَاءٍ كَانَ يَمْلِكُهُ فَوَقَفَهُ مَسْجِدًا؟
الْجَوَابُ: إِنْ وَقَفْنَا مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَلَا، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْمَعْنَى فَنَعَمْ، وَهُوَ الْمُتَّجِهُ)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ: عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَ((الْقَطَا)): طَائِرٌ مَعْرُوفٌ أَقَلُّ حَجْمًا مِنَ الْحَمَامَةِ، وَأَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَبِيضَ تَفْحَصُ الرَّمْلَ حَتَّى تَجِدَ مَكَانًا تَجْعَلُ بَيْضَهَا فِيهِ.
قَوْلُهُ: ((مَفْحَصُ قَطَاةٍ)): هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَبِيضُ فِيهِ، أَيِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَفْحَصُ فِيهِ حَتَّى تَجْعَلَ مِنْهُ مَوْضِعًا لِبَيْضِهَا.
فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي حُصُولِ الْأَجْرِ الْمَذْكُورِ وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا.
وَخَصَّ الْقَطَاةَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَضْرِبُ بِالْقَطَاةِ الْمَثَلَ فِي الصِّدْقِ؛ فَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْبِنَاءِ، وَالصِّدْقِ فِي الْإِنْشَاءِ.
وَمَفْحَصُ الْقَطَاةِ لَا يَسَعُ الْقَطَاةَ نَفْسَهَا؛ فَكَيْفَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلصَّلَاةِ؟!!
((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ)).
الْمِثْلِيَّةُ يَعْلَمُهَا اللهُ -تَعَالَى-؛ لَكِنْ أَيْنَ بِنَاءُ الْجَنَّةِ مِنْ بِنَاءِ الدُّنْيَا؟!!
فَنَعِيمُ الْجَنَّةِ فَوْقَ التَّصَوُّرِ، أَتَنْزِلُ بِهِ إِلَى مِثْلِيَّةِ الدُّنْيَا؟!!
لَقَدْ ضَيَّعْتَ عَلَى نَفْسِكَ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ، دَعْهُ لِكَرَمِ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ))، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
وَالشَّاهِدُ: ((أَوْ بَنَى مَسْجِدًا)).
بِنَاءُ الْمَسْجِدِ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلِإِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ((بَعْدَ مَوْتِهِ)) أَيْ: تَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
الْجُمَلُ الْمُصَدَّرَةُ بِـ (أَوْ) مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَ(أَوْ) فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّفْصِيلِ، ((مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)).
هَذِهِ مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَ (أَوْ) فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّفْصِيلِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))؛ فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: ((إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ))، وَهِيَ تَجْمَعُ مَا ذُكِرَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (((سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ)).
مِنَ الْأَحَادِيثِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالشَّاهِدُ فِيهِ: ((أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ)).
((عِلْمًا نَشَرَهُ)) يَعْنِي بِهِ: التَّصْنِيفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ كُتُبِ الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ التَّسَبُّبِ، أَوْ بِالتَّدْرِيسِ وَالتَّعْلِيمِ وَالدَّعْوَةِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
((وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ)) أَيْ: مُؤْمِنًا تَرَكَهُ خَلْفَهُ، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ.
((وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ)) أَيْ: تَرَكَهُ إِرْثًا.
((نَهْرًا أَجْرَاهُ)) أَيْ: جَعَلَهُ جَارِيًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْخَلْقُ.
قَوْلُهُ: ((فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ)) أَيْ: أَخْرَجَ صَدَقَتَهُ فِي زَمَانِ كَمَالِ حَالِهِ، وَوُفُورِ افْتِقَارِهِ إِلَى مَالِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَمِنْهَا: ((مَسْجِدًا بَنَاهُ)) مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
هَذَا الْحَدِيثُ كَالتَّفْصِيلِ لِحَدِيثِ: ((انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ)).
وَ(أَوْ) فِي قَوْلِهِ: ((أَوْ بَيْتًا)) لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّفْصِيلِ.
عَدُّ الْوَلَدِ الصَّالِحِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَمِرُّ ثَوَابُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي قَوْلِهِ: ((فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ)) تَرْغِيبٌ إِلَى ذَلِكَ؛ لِيَكُونَ أَفْضَلَ صَدَقَةٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُهُ ﷺ لِمَنْ قَالَ: ((أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟)).
قَالَ: ((أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى)). الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))؛ وَإِلَّا فَكَوْنُ الصَّدَقَةِ جَارِيَةً لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَفِي حَالِ حَيَاتِهِ، بَلْ يَمْتَدُّ ثَوَابُهَا حَتَّى بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ وَقْفِ أَرْضٍ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، وَقَالَ: ((يَا بَنِي النَّجَّارِ! ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا)).
فَقَالُوا: ((وَاللهِ! لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَبَنُو النَّجَّارِ: قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمْ أَخْوَالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا)) أَيِ: اطْلُبُوا ثَمَنَ بُسْتَانِكُمْ مِنِّي؛ كِنَايَةً عَنْ بَيْعِهِ وَتَقْرِيرِ ثَمَنِهِ؛ لِيَبْتَاعَهُ ﷺ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ.
((لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )) أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ الثَّمَنَ، بَلْ نَتَبَرَّعُ بِهِ، وَنَطْلُبُ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-.
فَالْوَاقِفُ أَرْضًا لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ شَرِيكٌ فِي بِنَائِهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وَإِذَا أَوْقَفَتْ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعَةً فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَقْفًا لِلْمُشَاعِ، وَالْحُجَّةُ فِي السُّنَّةِ، لَا فِي خِلَافِهَا.
إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: ((لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ))؛ فَهَذَا جَائِزٌ فِي إِمْضَاءِ الْوَقْفِ، كَذَلِكَ الْوَقْفُ يَصِحُّ بِأَيِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ؛ إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ، وَإِمَّا بِقَرِينَتِهِ.
وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّتِهِ فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ رَدُّهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ.
وَالْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَجَعَلَهُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهُنَاكَ فَضَائِلُ أُخْرَى لِبَانِي الْمَسْجِدِ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي مَرَّتْ جَاءَتْ فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْفَضَائِلَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي: ((مَنْ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ))، أَوْ ((جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلذِّكْرِ))، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ كَانَ مِنْ حُضُورِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لِبَانِي الْمَسْجِدِ نَصِيبٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ ((الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)).
فَالَّذِي يَبْنِي الْمَسْجِدَ يَتَحَصَّلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَجْرِ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ السَّاعِي بِخُطُوَاتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ ذَاكِرًا للهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ أَجْرِ الصَّلَاةِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
أَجْرُ الْمَسْجِدِ جَارٍ لِمَنْ بَنَاهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، مَا دَامَ يُذْكَرُ اللهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيُصَلَّى فِيهِ.
وَأَجْرُ الْمَسْجِدِ جَارٍ لِمَنْ سَاهَمَ فِي بِنَائِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، مَا دَامَ يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ وَيُصَلَّى فِيهِ.
الْوَاقِفُ أَرْضًا لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ شَرِيكٌ فِي بِنَائِهِ وَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِنَظَافَةِ وَطَهَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا وَصِيَانَتِهَا فَالْإِسْلَامُ دِينُ النَّظَافَةِ، وَأَوْلَى الْأَمَاكِنِ بِالنَّظَافَةِ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ، وَقُدْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ يَتَّبِعُ غُبَارَ الْمَسْجِدِ بِجَرِيدَةٍ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُحَافِظُونَ عَلَى نَظَافَةِ الْمَسْجِدِ وَيُطَيِّبُونَهُ، ((كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ -أَيْ: يُعَطِّرُهُ- إِذَا قَعَدَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ)).
ثُمَّ إِنَّ تَعَاهُدَ الْمَسْجِدِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، كُلُّ مُسْلِمٍ مَسْؤُولٌ عَنْ تَعَاهُدِ الْمَسْجِدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَثَاثِهِ وَنَظَافَتِهِ كَمَا يَتَعَاهَدُ بَيْتَهُ وَيُحَافِظُ عَلَيْهِ بَلْ أَكْثَرَ، الْمَسْجِدُ أَوْلَى مِنَ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ))
عِبَادَ اللهِ، هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ، بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَوَضَّحَهَا لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي سُنَّتِهِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَأَوَّلُ ذَلِكَ : اللِّبَاسُ وَالزِّينَةُ؛ فَالْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، مِنَ التَّنَظُّفِ وَالتَّطَهُّرِ وَالتَّطَيُّبِ:
قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
أَيْ: عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي «شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ»، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَمِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ: التَّبْكِيرُ إِلَيْهَا؛ فَمِنْ آدَابِ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ: التَّبْكِيرُ إِلَيْهَا، وَانْتِظَارُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ وَالنَّوَافِلِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ -وَالنِّدَاءُ: الْأَذَانُ-، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا - وَالِاسْتِهَامُ: الِاقْتِرَاعُ-، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً)).
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَصَلَّاهَا مَعَ النَّاسِ، أَوْ مَعَ الْجَمَاعَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَمِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ: الْمَشْيُ إِلَيْهَا بِخُشُوعٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ؛ فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَاشِي إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُ إِلَيْهَا فِي خُشُوعٍ وَسُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدِمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ مُطْمَئِنٌّ فِي مَشْيِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِخُشُوعِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهَا.
وَعَكْسُهُ؛ مَنْ جَاءَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا مُسْتَعْجِلًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ مُشَتَّتُ الْفِكْرِ وَالذِّهْنِ.
وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى صَلَاتِهِمْ حَتَّى وَلَوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: ((مَا شَأْنُكُمْ؟)).
قَالُوا: ((اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ)).
قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوَا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَاشِي إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَفِي حَدِيثِ مَبِيتِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَ فِي آخِرِهِ: ((فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ -أَيْ: فَأَعْلَمَهُ بِهَا-، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: ((ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ خَلْفِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا...)). الْحَدِيثَ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ نَحْوَهُمَا عَنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ؛ فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا -أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا-، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺعَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا، فَقَالَ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَيُقَاسُ عَلَى الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ كُلُّ رَائِحَةٍ خَبِيثَةٍ تُؤْذِي الْمُصَلِّينَ؛ كَالدُّخَانِ، أَوِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنَ الْجَسَدِ، أَوِ الْمَلَابِسِ الْمُنْتِنَةِ.
فَعَلَى الْمُصَلِّي تَفَقُّدُ نَفْسِهِ قَبْلَ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ؛ حَتَّى لَا يُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فَيَأْثَمَ بِذَلِكَ.
وَمِنْ آدَابِ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ: التَّسَوُّكُ؛ لِأَنَّهُ تَنْظِيفٌ لِلْفَمِ مِمَّا عَلِقَ بِهِ مِنَ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ)).
وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ: ((اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ))؛ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ؛ فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ)). الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ -أَيْضًا- أَنْ يَقُولَ: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)).
جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)).
قَالَ: ((أَقَطُّ؟)).
قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْيُسْرَى عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ فَفِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ سُنَّةٌ ذَكَرَهَا أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ: أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُسْرَى)).
وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: ((مِنَ السُّنَّةِ)) أَنَّ ذَلِكَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ.
وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ بِقَوْلِهِ: ((بَابٌ: التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ)).
ثُمَّ سَاقَ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: ((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى)).
وَمَعْرُوفٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- شِدَّةُ مُتَابَعَتِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: ((مِنَ السُّنَّةِ كَذَا)) مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ)).
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)): ((بَابٌ: التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ))، ((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، حَتَّى إِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى)).
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظ: ((كَانَ النَّبِيُّﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ؛ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ)).
فَيُسْتَحَبُّ لِلدَّاخِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِعْلُ الرَّسُولِ ﷺ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ الْأَمَاكِنِ؛ فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى لِشَرَفِهِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ تُقَدَّمُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى؛ لِفِعْلِهِ ﷺ، وَلِأَنَّ الْأَمَاكِنَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ دُونَهُ فِي الشَّرَفِ.
وَمِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ: أَنْ جَعَلَ الْيَدَ وَالرِّجْلَ الْيُمْنَى لِمُبَاشَرَةِ الْأَشْيَاءِ الْفَاضِلَةِ الْكَرِيمَةِ، وَجَعَلَ الشِّمَالَ لِمُبَاشَرَةِ الْأَشْيَاءِ الْوَضِيعَةِ.
وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
قَالَ ابْنُ عَلَّانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَخُصَّتِ الْيُمْنَى بِالدُّخُولِ؛ لِشَرَفِهِ، وَالْيُسْرَى بِالْخُرُوجِ لِلْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ نَفْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَالدُّخُولِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ كَسَائِرِ الْآدَابِ)).
وَعَلَى الدَّاخِلِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ يَبْدَأُ بِرَكْعَتَيْنِ هُمَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَمْرِهِ بِهَا ﷺ أَصْحَابَهُ فِي كَذَا مَوْضِعٍ؛ كَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَالَّذِي صَرَفَ الْأَمْرَ مِنَ الْوُجُوبِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ أَحَادِيثُ أُخَرُ؛ كَحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ)).
فَقَالَ: ((هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)).
قَالَ: ((لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ)).
وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ: ((فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
إِذَنْ؛ فَالْمَفْرُوضَاتُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ.
قَالُوا: فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَمْرِهِ بِهَا ﷺ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ.
وَيَتَقَدَّمُ الدَّاخِلُ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَيَدْنُو مِنَ الْإِمَامِ؛ فَمِنْ آدَابِ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ: التَّقَدُّمُ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالْقُرْبُ مِنَ الْإِمَامِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ -أَوْ: مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ-؛ لَكَانَتْ قُرْعَةً)) بَيْنَكُمْ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ، ((لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ ((الصَّلَاةِ)): ((بَابٌ: تَفْرِيعُ أَبْوَابِ الْجُمُعَةِ))، ((بَابٌ: الدُّنُوُّ مِنَ الْإِمَامِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ))، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدَيْهِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ: قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ قَالَ: ((احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنَ الْإِمَامِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا)).
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: ((لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ)).
((وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَأَخَّرُ حَتَّى يُؤَخِّرَهُ اللهُ)).
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ عَقِبَهُ: ((هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ))، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((صَحِيحِ السُّنَنِ)).
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ؛ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ؛ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)).
وَمَا مَعْنَى: ((يُدْرِكُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ))؟
أَيْ: يَحْضُرُ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ، وَيُشْغَلُ عَقِبَهَا بِعَقْدِ صَلَاتِهِ.
وَفِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَزَايَا عَظِيمَةٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْضًا مِنْهَا؛ فَمِنْ مَزَايَا الصَّفِّ الْأَوَّلِ:
الْمُسَارَعَةُ إِلَى خَلَاصِ الذِّمَّةِ.
وَالسَّبْقُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ.
وَالْقُرْبُ مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَتِهِ، وَالتَّعَلُّمُ مِنْهُ، وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ، وَالتَّبْلِيغُ عَنْهُ.
وَالسَّلَامَةُ مِنَ اخْتِرَاقِ الْمَارَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَسَلَامَةُ الْبَالِ مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يَكُونُ قُدَّامَهُ.
وَسَلَامَةُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ أَذْيَالِ الْمُصَلِّينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ((يَلِي الْإِمَامَ الشُّيُوخُ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ، وَيُؤَخَّرُ الصِّبْيَانُ)).
فَمِنَ السُّنَّةِ: أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالسِّنِّ، وَأَنْ يَلِيَ الْإِمَامَ أَكْمَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ.
وَيَتَعَمَّدُ الْوُقُوفَ خَلْفَهُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ:((لِيَلِينِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((شَرْحِهِ)): ((فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَقْدِيمُ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى اسْتِخْلَافٍ فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يَتَفَطَّنُ لِتَنْبِيهِ الْإِمَامِ عَلَى السَّهْوِ لِمَا لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْجَهَلَةِ، أَوِ الْعَامَّةِ، أَوِ الْأَطْفَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِيَضْبِطُوا صِفَةَ الصَّلَاةِ وَيَحْفَظُوهَا، وَلِيَقْتَدِيَ بِأَفْعَالِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ)).
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ.
يَقُولُ ﷺ: ((سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا بِلَفْظ: ((رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذَفُ)).
وَالْحَذَفُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ-: صِغَارُ الْغَنَمِ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
يَقُولُ: ((رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِي خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذَفُ)).
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: ((اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَخْرَجَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: ((وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا)) ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((كِتَابِ الصَّلَاةِ)) ((بَابٌ: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتُهَا وَفَضْلُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: ((تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ)).
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي، أَوْ عَنِ الصَّفِّ بَيْنَهَا؛ فَالنَّهْيُ عَنِ الصَّفِّ بَيْنَ السَّوَارِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)): ((وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَرْكِ الصَّفِّ بَيْنَ السَّوَارِي، وَأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ إِلَّا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، كَمَا وَقَعَ لَهُمْ)).
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ((الْمُدَوَّنَةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَعْدِي كَرِبَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَصُفُّوا بَيْنَ السَّوَارِي)).
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ((وَهَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّ الأُسْطُوَانَةَ تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَصْلِ الصَّفِّ)).
وَقَالَ مَالِكٌ: ((لَا بَأْسَ بِالصُّفُوفِ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ)).
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي ((الْمُغْنِي)) قَالَ: ((وَلَا يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ السَّوَارِي، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِينَ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ صُفُوفَهُمْ.
وَكَرِهَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ.
وَلَنَا –أَيْ: فِي الْمَنْعِ- مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَلِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفَّ، فَإِنْ كَانَ الصَّفُّ صَغِيرًا قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا)).
وَفِي ((الْفَتْحِ)) قَالَ: ((قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: كَرِهَ قَوْمٌ الصَّفَّ بَيْنَ السَّوَارِي؛ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ عَدَمِ الضِّيقِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ: إِمَّا لِانْقِطَاعِ الصَّفِّ، أَوْ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ النِّعَالِ)).
قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ: ((وَفِي حُكْمِ السَّارِيَةِ الْمِنْبَرُ الطَّوِيلُ ذُو الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ؛ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّفَّ الْأَوَّلَ، وَتَارَةً يَقْطَعُ الصَّفَّ الثَّانِيَ -أَيْضًا-.
وَإِنَّمَا يَقْطَعُ الْمِنْبَرُ الصَّفَّ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمِنْبَرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ الصَّفُّ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ بِجَانِبِ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا مِنْهَا، فَكَانَ مِنْ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي الْمِنْبَرِ: الْوُقُوعُ فِي النَّهْيِ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الصَّفِّ: الْمَدَافِئُ الَّتِي تُوضَعُ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَضْعًا يَتَرَتَّبُ مِنْهُ قَطْعُ الصَّفِّ دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ لِهَذَا الْمَحْذُورِ إِمَامُ الْمَسْجِدِ أَوْ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ فِيهِ؛ أَوَّلًا: لِبُعْدِ النَّاسِ عَنِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَثَانِيًا: لِعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِالِابْتِعَادِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ وَكَرِهَهُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَعَى إِلَى وَضْعِ مِنْبَرٍ طَوِيلٍ قَاطِعٍ لِلصُّفُوفِ، أَوْ يَضَعُ الْمِدْفَأَةَ الَّتِي تَقْطَعُ الصَّفَّ؛ فَإِنَّهُ يُخْشَى أَنْ يَلْحَقَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي ((صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ)) )). فَهَذَا مِنْ كَلَامِهِ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، وَعَدَمُ الْوُقُوفِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
فَقَوْلُهُ ﷺ: ((فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا)) يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا.
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((شَرْحِهِ)): ((وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ حَالٍ وُجِدَ عَلَيْهِ)).
وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)) وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَبِهَذَا أَخَذَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا جَاءَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي هَذَا.
((إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ)).
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ الْقُعُود فِي الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ ﷺ: ((فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ؛ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَجَزِيلِ كَرَمِهِ؛ أَنْ رَتَّبَ عَلَى جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ كَأَجْرِ الْمُصَلِّي، ثُمَّ جَعَلَ مَلَائِكَتَهُ يَدْعُونَ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالتَّوْبَةِ.
وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ وَدُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ مُقَيَّدٌ بِأُمُورٍ:
أَوَّلًا: أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تَحْبِسُهُ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِهِ أَوْ شُغُلِهِ.
ثَانِيًا: أَنَّ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ مَرْهُونٌ بِبَقَاءِ الْمُصَلِّي فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ مَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.
وَسِيَاقُ الْأَحَادِيثِ يُقَوِّي الْأَوَّلَ؛ مَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ.
ثَالِثًا: أَنَّ ثَوَابَ مُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ وَدُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ يُنْفَى بِالْإِحْدَاثِ أَوِ الْإِيذَاءِ.
فَالْإِيذَاءُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ الْأَذَى لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلْمُسْلِمِ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَأَمَّا الْإِحْدَاثُ: فَأَنْ يَأْتِيَ مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ بِنَاقِضٍ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
وَيَجُوزُ الِاسْتِلْقَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَقَدِ اسْتَلْقَى رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ ﷺ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى)).
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ((كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ)).
وَلَكِنْ يَنْبَغِي الْأَمْنُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الرِّجْلِ عَلَى الْأُخْرَى مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
وَمَنْ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى فِي الْمَسَاجِدِ: أَنْ يَتَحَوَّلَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا نَامَ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ».
وَالْحِكْمَةُ فِي الْأَمْرِ بِالتَّحَوُّلِ: مَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي ((النَّيْلِ)) إِذْ قَالَ: ((إِنَّ الْحَرَكَةَ تُذْهِبُ النُّعَاسَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ: انْتِقَالُهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَتْهُ فِيهِ الْغَفْلَةُ بِنَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّائِمُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْوَادِي.. أَمَرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْهُ.
وَأَيْضًا مَنْ جَلَسَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَمْرُ بِالتَّحَوُّلِ لِإِذْهَابِ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ حَيْثُ غَفْلَةُ الْجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ عَنِ الذِّكْرِ، أَوْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ أَوْ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ)).
وَيَجُوزُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ؛ فَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: ((أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ )). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَالَّذِي فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ ((وَهُوَ أَعْزَبُ))، لَا ((وَهُوَ عَزَبٌ)) -كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ-؛ وَلَكِنْ: ((وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ كَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ )).
إِذَا احْتَلَمَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسْرِعَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ حِينَ يَسْتَيْقِظُ؛ لِيَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَهِيَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ أُمُورَ دِينِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَنْ رَأَى رَجُلًا يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ فَلْيَدْعُ عَلَيْهِ، وَلْيَقُلْ: ((لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَهُ))؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ)). الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَحَوْلَ الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ فِي الْغُرَفِ أَوِ الصَّالَاتِ الْمُلْحَقَةِ بِالْمَسْجِدِ أَوِ الْقَاعَاتِ الْمُخَصَّصَةِ لِلصَّلَاةِ قَالَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ: ((لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَلَا الْإِعْلَانُ عَنِ الْبَضَائِعِ فِي الْقَاعَةِ الْمُخَصَّصَةِ لِلصَّلَاةِ إِذَا كَانَتْ تَابِعَةً لِلْمَسْجِدِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّﷺ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ)).
قَالَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ: ((أَمَّا الْغُرَفُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي سُورِ الْمَسْجِدِ فَلَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْقَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ خَارِجَ سُورِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَتْ أَبْوَابُهَا فِيهِ -أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ-؛ فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَ بَابُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ)). انْتَهَتِ الْفَتْوَى.
وَاتِّباعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فَعَلَى مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسَاجِدِ؛ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ((لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ)).
وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ بِالْحُكْمِ أَوِ الْجَاهِلِ بِهِ.
وَوَرَدَ النَّهْيُ -أَيْضًا- عَنْ نِشْدَانِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسَاجِدِ -أَيْ: عَنِ النِّدَاءِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا-؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا)).
وَعِنْدَ أَحْمَدَ: ((لَا أَدَّاهَا اللهُ إِلَيْكَ)).
وَعِنْدَ الدَّارِمِيِّ: ((لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ)).
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ سَمِعَ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فَلْيَقُلْ: ((لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، أَوْ: لَا أَدَّاهَا اللهُ عَلَيْكَ، أَوْ: لَا أَدَّى اللهُ عَلَيْكَ))، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَالَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ: ((السُّؤَالُ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ، وَانْتِفَاءِ مَا يُزِيلُ عِوَزَهُ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، وَلَا كَذَبَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ بِمَسْأَلَتِهِ جَهْرًا يَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ؛ كَأَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِمْ ذِكْرَهُمْ، أَوْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، أَوْ يَسْأَلَهُمْ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ عِلْمًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَيْهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ؛ قَالَتِ اللَّجْنَةُ: فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ)).
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟)).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ، فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: وَلَدَهُ-، فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ)).
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: ((وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((سُنَنِهِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ سَلْمَانَ الْأَشْجَعِيِّ بِنَحْوِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي مَرَّتْ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَسْأَلَةً لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ كَذَبَ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ، أَوْ أَضَرَّ بِهِمْ فِي سُؤَالِهِ؛ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ السُّؤَالِ)).
وَيُنْهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِه -أَيْ: سِتْرَ حُجْرَتِهِ- فَنَادَى: ((يَا كَعْبُ!)).
قَالَ: ((لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا))، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ -أَيِ: الشَّطْرَ-.
قَالَ: ((لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((قُمْ فَاقْضِهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ((كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: ((اذْهَبْ فَائْتِنِي بِهَذَيْنِ))، فَجِئْتُهُ بِهِمَا.
قَالَ: ((مَنْ أَنْتُمَا؟ أَوْ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟)).
قَالَا: ((مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ)).
قَالَ: ((لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْحَدِيثَيْنِ يَجِدُ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا التَّعَارُضُ.
فَرَسُولُ اللهِ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ كَعْبًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِوَضْعِ الشَّطْرِ مِنْ دَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ لِيُؤَخِّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ حَاجَتِهِ.
وَأَثَرُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ.، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ بِدُونِ دَلِيلٍ يَعْلَمُهُ؛ فَهَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَلَعَلَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
التَّفْرِقَةُ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ رَفْعِهِ بِاللَّغَطِ وَنَحْوِهِ فَلَا)). قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: تَعْظِيمُ بَيْتِ اللهِ وَشَعَائِرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
عَلَى مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ إِغْلَاقُ أَجْهِزَةِ الِاتِّصَالِ مِنَ الْهَوَاتِفِ النَّقَّالَةِ وَغَيْرِهَا، فَلِلْمَسْجِدِ وَاجِبَاتٌ وَآدَابٌ، وَلِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَاجِبَاتٌ وَآدَابٌ؛ أَوَّلُهَا: مَنْعُ الْأَذَى وَالْإِزْعَاجِ عَنِ الْمُصَلِّينَ، حَتَّى إِنَّ الْفُقَهَاءَ مَنَعُوا الْقَارِئَ مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَى مُصَلٍّ؛ وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ إِغْلَاقُ صَوْتِ جِهَازِ النِّدَاءِ مِنَ الْهَوَاتِفِ النَّقَّالَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ مَا يُثِيرُ الضَّجِيجَ وَيُزْعِجُ الْمُصَلِّينَ يَجِبُ إِغْلَاقُهُ عِنْدَ الدُّخُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ؛ مَنْعًا لِلْإِزْعَاجِ وَالتَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ صَرْفِ الْمُصَلِّينَ عَنِ الْخُشُوعِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ.
وَلَا مَانِعَ مِنْ قِيَامِ الْإِمَامِ بِتَذْكِيرِ الْمُصَلِّينَ بِضَرُورَةِ إِغْلَاقِ صَوْتِ جِهَازِ النِّدَاءِ وَالْهَاتِفِ النَّقَّالِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا خَالَفَ بَعْضَ الْمُصَلِّينَ هَذَا التَّنْبِيهَ عَنْ عَمْدٍ كَانُوا آثِمِينَ، أَمَّا إِذَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ سَهْوًا وَنِسْيَانًا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى-؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
ثُمَّ إِذَا نَسِيَ الْمُصَلِّي جِهَازَهُ مَفْتُوحًا وَحَصَلَ مِنْهُ تَشْوِيشٌ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ إِغْلَاقُهُ بِأَقَلِّ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ.
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، لَا عِنْدَ دُخُولِهَا، بَلْ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَجَوَازُهُ بَعْدَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ- أَيْ: على النَّهْيِ عَنْ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ-: مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجَهُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ مُطْلَقًا؛ كَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي سَهْوِه فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: ((فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْأَيْسَرِ ﷺ )). وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّهْيَ عَنْ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ يَكُونُ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْعَامِدَ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ يَكُونُ الْمُصَلِّي فِي حُكْمِ الْمُنْصَرِفِ مِنَ الصَّلَاةِ؛ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ.
وَجَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إِلَّا لِعُذْرٍ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لِمَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ وَهُوَ فِيهِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عُذْرٌ يُسَوِّغُ لَهُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ -كَتَجْدِيدِ وُضُوءٍ وَنَحْوِهِ-؛ فَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ.
عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: ((كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ )). الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ -وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ-؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّأْثِيمِ ولِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمَعْصِيَةِ لَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَحَاشَاهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ عِلْمٍ مَأْثُورٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ: ((لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فِي مَسْجِدِي هَذَا ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ إِلَّا مُنَافِقٌ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ))، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: ((رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي ((الصَّحِيحِ)) )).
فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ إِلَّا لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ الْأَذَانِ بِدُونِ عُذْرٍ قَدْ يَشْغَلُهُ أَوْ يَعُوقُهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَيَكُونُ سَبَبًا فِي تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ إِعْرَاضٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْأَذَانُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَذَانِ: ((حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ))، وَهَذَا يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.
إِنَّ فِي الْأَذَانِ لَطَلَبًا لِلْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ، وَهَذَا الْخُرُوجُ يُنَافِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ فِي الْخُرُوجِ -حِينَئِذٍ- تَشَبُّهًا بِالشَّيْطَانِ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ؛ حَتَّى لَا يَسْمَعَ صَوْتَ التَّأْذِينِ)). الْحَدِيثَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الزَّجْرُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَارِجُ مُتَشَبِّهًا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يَفِرُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ))، ثُمَّ ذَكَرَ أَثَرَ أَبِي الشَّعْثَاءِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَوَرَدَ النَّهْيُ -أَيْضًا- عَنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ طُرُقًا، قَالَ ﷺ: ((مِنَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرَى الْهِلَالُ قَبَلًا، فَيُقَالُ لِلَيْلَتَيْنِ، وَأَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ طُرُقًا، وَأَنْ يَظْهَرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ)). حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَقَالَ ﷺ: ((مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَلَّا يُسَلِّمَ الرَّجُلُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْرِفُ)). صَحَّحَهُ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) أَيْضًا.
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْمُرُورِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بِآلَةٍ حَادَّةٍ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا- أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ-؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي ((الْفَيْضِ)): ((وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَلَّا يُصِيبَ مَعْصُومًا بِأَذًى بِوَجْهٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ)).
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِيطَانِ الرَّجُلِ الْمَكَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ -أَيْ: أَلَّا يَتَّخِذَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ مَكَانًا ثَابِتًا فِي الْمَسْجِدِ-؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ نُقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَه الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((وَفِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ لِمَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ، لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِمَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18])).
قَالَ الْعَينِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: ((وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ)) مِنْ إِيطَانِهِ الْبَعِيرَ، فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْلَفَ الرَّجُلُ مَكَانًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي إِلَّا فِيهِ؛ كَالْبَعِيرِ لَا يَأْوِي مِنْ عَطَنِهِ إِلَّا إِلَى مَبْرَكٍ دَمِثٍ قَدْ أَوْطَنَهُ، وَاتَّخَذَهُ مُنَاخًا لَا يَبْرُكُ إِلَّا فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَبْرُكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ إِذَا أَرَادَ السُّجُودَ بُرُوكَ الْبَعِيرِ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَوْطَنَهُ، وَأَلَّا يَهْوِيَ فِي سُجُودِهِ فَيُثْنِي رُكْبَتَيْهِ حِينَ يَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ عَلَى سُكُونٍ وَمَهَلٍ.
وَذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي؛ فَافْهَمْ)).
وَوَرَدَ النَّهْيُ -أَيْضًا- عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَعَنِ الْإِسْرَافِ فِي تَزْيِينِهَا، وَهَذَا النَّهْيُ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، وَلَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَيَتَوَرَّطُ النَّاسُ فِي الْمُخَالَفَةِ تَوَرُّطًا قَبِيحًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ ((مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.
فَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ؛ أَنْ يَبْنِيَ الْقَوْمُ مَسْجِدًا، ثُمَّ يَتَبَاهَوْنَ بِهَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ بَنَوْا مَسْجِدًا.
فَالتَّبَاهِي فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَقَدْ فَشَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ)).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- -أَعْنِي الْأَلْبَانِيَّ-: ((وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ: كَرَاهَةُ تَزْوِيقِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا بِالنُّقُوشِ، وَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَبِكُلِّ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّي وَيَشْغَلُهُ عَنِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ جِسْمِ الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ الصَّنْعَانِيُّ)).
وَفَوْقَ هَذَا: فَفِيهِ إِضَاعَةُ الْمَالِ بِدُونِ أَيِّ فَائِدَةٍ لِلْمَسْجِدِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ: ((قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)).
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا أَنْ تُكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ -أَيِ: الْبَرْدِ-، كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَزَخْرَفَتُهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ: ((وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ))، يَعْنِي: فَتَشْغَلَ النَّاسَ.
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَجْرِ الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ؛ فَمِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ: أَلَّا يُهْجَرَ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَلِي الْمَرْءَ؛ فَأَلَّا يَهْجُرَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ الَّذِي يَلِيهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَتَّبِعِ الْمَسَاجِدَ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ؛ بَلْ هُوَ مُخَرَّجٌ بِطُرُقِهِ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَتَّبِعِ الْمَسَاجِدَ)).
وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَلَّا يَكُونَ الْمَسْجِدُ الْقَرِيبُ مَسْجِدَ بِدْعَةٍ، أَوْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمُنْكَرَاتُ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَاهُ -إِنِ اسْتَطَاعَ- تُقَامُ فِيهِ السُّنَّةُ، وَيُدْعَى فِيهِ إِلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى نَظَافَةِ الْمَسْجِدِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ دَخَلَ هَذَا الْمَسْجِدَ فَبَزَقَ فِيهِ أَوْ تَنَخَّمَ فَلْيَحْفُرْ فَلْيَدْفِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيَبْزُقْ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ لْيَخْرُجْ بِهِ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((الْمُرَادُ: دَفْنُهَا فِي تُرَابِ الْمَسْجِدِ وَرَمْلِهِ وَحَصَاهُ إِنْ كَانَ فِيهِ تُرَابٌ أَوْ رَمْلٌ أَوْ حَصًى؛ وَإِلَّا فَلْيُخْرِجْهَا.
وَكَانَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ مَدْكُوكًا بِالْحَصْبَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ مَفْرُوشًا؛ لِذَلِكَ دَلَّ عَلَى دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الرَّمْلِ، أَوْ فِي الْحَصْبَاءِ، أَوْ فِي التُّرَابِ)).
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فَلْيَخْرُجْ بِهَا.
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَتَهُ؛ لَا تُصِيبُ جِلْدَ مُؤْمِنٍ أَوْ ثَوْبَهُ فَتُؤْذِيَهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ بْنُ طَابٍ -أَوِ: ابْنُ طَابَ- وَابْنُ طَابٍ: اسْمُ نَوْعٍ مِنَ التَّمْرِ-، فَرَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟!))
قَالَ: ((فَخَشَعْنَا)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟!)).
قَالَ: ((فَخَشَعْنَا)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللهُ عَنْهُ؟!)).
قُلْنَا: ((لَا أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قِبَلَ وَجْهِهِ؛ فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَرُونِي عَبِيرًا -وَهُوَ: أَخْلَاطٌ مِنَ الطِّيبِ تَجْمَعُ الزَّعْفَرَانَ، أَوْ تُجْمَعُ بِالزَّعْفَرَانِ-.
فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَّخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ.
فَقَالَ جَابِرٌ: ((فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَهَذَا الْأَدَبُ؛ بَلْ هَذَا الْوَاجِبُ مِمَّا يُغْفِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَعَمَّدُ تَوْسِيخَ الْمَسْجِدِ.
كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُبَالِي، وَيُعَامِلُ الْمَسْجِدَ مُعَامَلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ مُعَامَلَتِهِ لِبَيْتِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي بَيْتِهِ يَتَحَرَّزُ، فَلَا يُلْقِي شَيْئًا لَا يَحْتَاجُهُ، وَلَا يَتَعَامَلُ مَعَ فَرْشِ بَيْتِهِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ لَائِقَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ!!
وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ رَاحَتَهُ -كَمَا يَقُولُونَ-، وَهَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ -كَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ-، بَلْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ فَوْقَ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَبَيْتُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبَيْتُ اللهِ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ.
وَأَهْلُ التُّقَى وَالْعِلْمِ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ رَجُلًا طَرَحَ فِي مَسْجِدِ الْبُخَارِيِّ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ شَيْئًا مِنَ الْأَذَى أَوْ مِنَ الْهَوَامِّ، فَكَان الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- -كَمَا يَرْوِي الرَّاوِي عَنْهُ- يُغَافِلُ النَّاسَ حَتَّى إِذَا وَجَدَ مِنْهُمْ غَفْلَةً أَخَذَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، فَأَخَذَ الْأَذَى أَوِ الْقَذَى الَّذِي طَرَحَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ.
فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ.
وَأَخَذَهُ بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ؛ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ؛ لِيَكُونَ عَمَلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَرَحَهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِذَلِكَ كَانَ الْبُخَارِيَّ.
أَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصِلُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَى مَبَالِغَ عَالِيَةٍ وَهُمْ لَا يُرَاعُونَ حُرْمَةَ بَيْتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَدُونَ وُصُولِهِمْ خَرْطُ الْقَتَادِ؛ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ!!
وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الزِّينَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّخِذَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ثَوْبًا جَمِيلًا يَتَجَمَّلُ بِهِ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْجَمِيلِ مِنَ الثِّيَابِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ مُرَغَّبٌ فِيهِ مِنَ الشَّارِعِ.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مَا حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سُيَرَاءَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ)). الْحَدِيثَ.
وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اتِّخَاذَ الْحُلَّةِ الْجَمِيلَةِ لِلْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْوُفُودِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ لُبْسَ مِثْلِ هَذِهِ الْحُلَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحَرِيرُ.
فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّجَمُّلَ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِلْوُفُودِ مُرَغَّبٌ فِيهِ.
وَمِنَ الزِّينَةِ: أَنْ يَمَسَّ الْقَادِمُ إِلَى الْجُمُعَةِ مِنَ الطِّيبِ أَوِ الدُّهْنِ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ؛ فَقَدْ رَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَلِلنِّسَاءِ مَزِيدُ آدَابٍ يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يُرَاعِينَ ذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ:
لَا تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ مِنْ شُهُودِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا يَنْبَغِي مَنْعُهَا مِنْهَا مَا دَامَتْ أَنَّهَا لَمْ تَرْتَكِبْ مَحْذُورًا شَرْعِيًّا.
جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
قَالَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ: ((يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُسْتَتِرَةً، وَلَا يَبْدُو مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ مِمَّا يَحْرُمُ نَظَرُ الْأَجَانِبِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَتِ اللَّجْنَةُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَتِ الْأَدِلَّةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ إِذَا الْتَزَمَتْ أَدَبَ الْإِسْلَامِ فِي مَلَابِسِهَا، وَتَجَنَّبَتْ مَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، وَيَسْتَمِيلُ ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الْمُغْرِيَةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ تُغْرِي بِهَا أَهْلَ الشَّرِّ، وَتَفْتِنُ مَنْ فِي قَلْبِهِ رَيْبٌ وَمَرَضٌ؛ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ؛ بَلْ تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا، وَمِنْ حُضُورِ الْمَجَامِعِ الْعَامَّةِ)).
تَنْفَرِدُ النِّسَاءُ عَنِ الرِّجَالِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ بِأُمُورٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا:
أَلَّا تَتَطَيَّبَ أَوْ تَتَزَيَّنَ بِمَا يَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ.
فَأَمَّا الطِّيبُ فَوَرَدَ فِيهِ نَصٌّ بِخُصُوصِهِ؛ قَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الزِّينَةُ الْأُخْرَى؛ فَمَتَى تَجَمَّلَتِ الْمَرْأَةُ تَجَمُّلًا يُحَرِّكُ الْغَرَائِزَ، أَوْ يُوقِظُ الْفِتْنَةَ؛ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ دَرْءًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِغْلَاقًا لِمَوَارِدِ الشَّرِّ.
وَلَا تَمْكُثُ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَلَا الْجُنُبِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا إِذَا كَانُوا عَابِرِي سَبِيلٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَنْعِ الْحَائِضِ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالنُّفَسَاءِ قِيَاسًا عَلَيْهَا: مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ)).
قَالَتْ: فَقُلْتُ: ((إِنِّي حَائِضٌ)).
فَقَالَ: ((إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنِّي حَائِضٌ))؛ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَلَا تَمْكُثُ فِيهِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، وَالْعِلَّةُ هِيَ: خَوْفُ تَلَوُّثِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ بِنَجَاسَةِ الدَّمِ، فَإِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ؛ بَلْ وَتَعْتَكِفَ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَائِمَةٌ الَّتِي مُنِعَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ يَنْزِلُ عَلَيْهَا الدَّمُ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ -رُبَّمَا-، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَهِيَ تُصَلِّي، وَتَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلَكِنْ مَعَ التَّحَرُّزِ مِنْ تَلَوُّثِ الْمَسْجِدِ بِالنَّجَاسَةِ.
رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
النِّسَاءُ يُصَلِّينَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَلَا يَخْتَلِطْنَ بِهِمْ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ حِرْصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى ابْتِعَادِ الرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى يَمْكُثُ فِي مُصَلَّاهُ يَسِيرًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ الرِّجَالِ، وَيَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَحْدُثَ الِاخْتِلَاطُ بِهِنَّ.
فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَامَ الرِّجَالُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ تَتَعَلَّقُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّجَالِ وَحْدَهُمْ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْآدَابَ، وَأَنْ يَلْتَزِمَهَا، وَأَنْ يُعَلِّمَهَا أَهْلَهُ وَمَنْ تَحْتَ يَدِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُمَّ الْتِزَامُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي طُرُقَاتِهِمْ، وَفِي مَسَاجِدِهِمْ، وَفِي جَمِيعِ مَحِلَّاتِهِمْ؛ عَسَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَرْحَمَنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((دَوْرُ الْمَسْجِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ))
((إِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَيْسَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ هَمُّهَا أَنْ تَعِيشَ بِأَيِّ أُسْلُوبٍ، أَوْ تَخُطَّ طَرِيقَهَا فِي الْحَيَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ، وَمَا دَامَتْ تَجِدُ الْقُوتَ وَاللَّذَّةَ فَقَدْ أَرَاحَتْ وَاسْتَرَاحَتْ، كَلَّا؛ فَالْمُسْلِمُونَ أَصْحَابُ عَقِيدَةٍ تُحَدِّدُ صِلَتَهُمْ بِاللهِ، وَتُوَضِّحُ نَظْرَتَهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ، وَتُنَظِّمُ شُئُونَهُمْ فِي الدَّاخِلِ عَلَى أَسَالِيبَ خَاصَّةٍ، وَتَسُوقُ صِلَاتِهِمْ بِالْخَارِجِ إِلَى غَايَاتٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ امْرِئٍ يَقُولُ لَكَ: هَمِّي فِي الدُّنْيَا أَنْ أَحْيَا فَحَسْبُ، وَآخَرَ يَقُولُ لَكَ: إِذَا لَمْ أَحْرُسِ الشَّرَفَ، وَأَصُنِ الْحُقُوقَ، وَأُرْضِ اللهَ، وَأَغْضَبْ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَلَا سَعَتْ بِي قَدَمٌ، وَلَا طَرَفَتْ لِي عَيْنٌ.
وَالْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ بَلَدِهِمُ ابْتِغَاءَ ثَرَاءٍ أَوِ اسْتِعْلَاءٍ، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ اسْتَقْبَلُوهُمْ، وَنَاصَبُوا قَوْمَهُمُ الْعَدَاءَ، وَأَهْدَفُوا أَعْنَاقَهُمْ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِيَعِيشُوا كَيْفَمَا اتَّفَقَ!
إِنَّهُمْ جَمِيعًا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَضِيئُوا بِالْوَحْيِ، وَأَنْ يَحْصُلُوا عَلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَأَنْ يُحَقِّقُوا الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خُلِقَ النَّاسُ وَقَامَتِ الْحَيَاةُ.
مِنْ هُنَا شُغِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوَّلَ مُسْتَقَرِّهِ بِالْمَدِينَةِ بِوَضْعِ الدَّعَائِمِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ رِسَالَتِهِ، وَتَبْيِينِ مَعَالِمِهَا، كَمَا اتَّضَحَ ذَلِكَ فِي صِلَةِ الْأُمَّةِ بِاللهِ، وَصِلَةِ الْأُمَّةِ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَصِلَةِ الْأُمَّةِ بِالْأَجَانِبِ عَنْهَا مِمَّنْ لَا يَدِينُونَ دِينَهَا.
فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَادَرَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ؛ لِتَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا حُورِبَتْ، وَلِتُقَامَ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي تَرْبِطُ الْمَرْءَ بِرَبِّهِ، وَتُنَقِّي الْقَلْبَ مِنْ أَدْرَانِ الْأَرْضِ وَدَسَائِسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».
لَقَدْ بَلَغَ مِنَ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَسْجِدِ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِضْعَةِ أَيَّامٍ، وَسَاهَمَ فِي بِنَاءِ كِلَا الْمَسْجِدَيْنِ، وَارْتَجَزَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ هَذَا الْبَيْتَ وَهُوَ يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ، أَوْ يُرْسِي الْقَوَاعِدَ، أَوْ يَرْفَعُ الْجُدُرَ:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرَّسُولُ يَعْمَلُ = فَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
وَرُبَّمَا أَنْشَدُوا يُرَوِّحُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ:
لَاهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَة = فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَبْلَغِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْمَسْجِدِ، وَبَالِغِ مَكَانَتِهِ فِيهِ؛ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ أَعْمَالِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ؛ فَالْمَسْجِدُ بُؤْرَةُ التَّوْحِيدِ، وَمَرْكَزُ الْإِشْعَاعِ الرُّوحِيِّ، وَمُنْطَلَقُ التَّوْجِيهِ الدِّينِيِّ، فَهُوَ الْمُجْتَمَعُ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْإِسْلَامِ الْكُبْرَى وَشَعِيرَتِهِ الْأُولَى، وَهُوَ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي تُتَلَقَّى فِيهَا التَّعَالِيمُ الْإِسْلَامِيَّةُ.
وَهُوَ الْمَصْنَعُ الَّذِي تُصَاغُ فِيهِ الْأَمْثِلَةُ التَّطْبِيقِيَّةُ الصَّحِيحَةُ النَّمُوذَجِيَّةُ لِلْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْمِصْفَاةُ تَجْلُو صَدَأَ الْقُلُوبِ، وَتَنْفِي عَنْهَا أَدْرَانَ الدُّنْيَا وَخَبَثَ الْمَادَّةِ، وَهُوَ مَرَاحُ الْأَرْوَاحِ، فِيهِ غِذَاءُ الْعُقُولِ وَجِلَاءُ الْأَفْهَامِ، وَمَنَارُ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِعْرَاجُ لِمَنْ يَشَاءُ الصِّلَةَ بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ.
إِنَّ الْمَسْجِدَ مَهْوَى أَفْئِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُتَرَدَّدُ الْمُصَلِّينَ، وَمَعْلَمَةُ هَذَا الدِّينِ، يَتَلَقَّى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ دُرُوسًا عَمَلِيَّةً فِي الْمُسَاوَاةِ الرَّفِيعَةِ، وَالطَّاعَةِ الْمُثْلَى، وَالِانْقِيَادِ الْخَاضِعِ الْخَاشِعِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفِيهِ تَشِيعُ الْمَحَبَّةُ الْمُخْلِصَةُ الْمُتَرَفِّعَةُ عَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْحُطَامِ، وَتَنْعَقِدُ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تُفَجِّرُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُصَلِّينَ التَّرَاحُمَ، وَتُدَفِّقُ فِيهِمْ مَعَانِيَ الْإِيثَارِ، وَتُوَطِّدُ عُرَى التَّنَاصُرِ وَالتَّآلُفِ، فَيَعْرِفُ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ حَقَّهُ، وَيَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وَيُوَاسِيهِ فِي مِحْنَتِهِ، وَيَمْنَحُهُ بِرَّهُ، وَيَبْذُلُ لَهُ الْكَثِيرَ مِنْ مَالِهِ وَوَلَائِهِ وَمَوَدَّتِهِ.
مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْحَيَوِيَّةِ النَّبِيلَةِ حَرَصَ الْإِسْلَامُ عَلَى إِقَامَةِ الْمَسَاجِدِ، وَبَثَّهَا الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مَصْرٍ إِسْلَامِيٍّ؛ حَتَّى كَانَتْ رَمْزَ الْإِسْلَامِ وَعَلَامَةَ التَّوْحِيدِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ.
((وَلَمْ يَكُنِ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ وَتَوْجِيهَاتِهِ، وَمُنْتَدًى تَلْتَقِي فِيهِ الْعَنَاصِرُ الْقَبَلِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزْعَاتُ الْجَاهِلِيَّةُ وَحُرُوبُهَا، وَقَاعِدَةً لِإِدَارَةِ جَمِيعِ الشُّئُونِ، وَبَثِّ الِانْطِلَاقَاتِ، وَبَرْلَمَانًا لِعَقْدِ الْمَجَالِسِ الِاسْتِشَارِيَّةِ وَالتَّنْفِيذِيَّةِ)) ؛ كَمَا فِي لِسَانِ أَهْلِ الْعَصْرِ.
((وَأَصْبَحَ الْمَسْجِدُ مُنْذُ بِنَائِهِ مَكَانًا لِلْعِبَادَةِ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانًا لِكُلِّ أَمْرٍ يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ إِيوَاءِ ضُعَفَاءِ وَفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، الرِّجَالِ الْعُزَّابِ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُصُولِ عَلَى مَنَازِلَ خَاصَّةٍ بِهِمْ، وَعُرِفُوا بِأَهْلِ الصُّفَّةِ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) )) .
وَفِيهِ -أَيْضًا-: مَا كَانَ مِنْ إِيوَاءِ ضُعَفَاءِ النِّسَاءِ اللَّائِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَجِدْنَ مَأْوًى سِوَى الْمَسْجِدِ حِينَ قُدُومِهِنَّ الْمَدِينَةَ؛ كَالْوَلِيدَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي اتَّخَذَتْ خِبَاءً أَوْ حِفْشًا -وَهُوَ الْبَيْتُ الْقَرِيبُ السَّقْفِ مِنَ الْأَرْضِ-؛ اتَّخَذَتْهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) .
كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِتَعْلِيمِ الْمُسْلِمِينَ أُمُورَ دِينِهِمْ، وَكَان مَكَانًا لِإِنْشَادِ الشِّعْرِ ذَبًّا عَنِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَقَدِ اتَّخَذَ حَسَّانٌ فِي الْمَسْجِدِ مِنْبَرًا كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيُنْشِدُ شِعْرَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَخِلَافَتِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِ نَظَرَ إِلَيْهِ شَزْرًا، فَقَالَ: ((إِلَيْكَ عَنِّي يَا عُمَرُ؛ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ!!)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((صَدَقْتَ!!))، وَتَوَلَّى عَنْهُ.
كَانَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِاعْتِقَالِ أَسِيرِ الْحَرْبِ الْمُشْرِكِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ عِظَةٌ لِمَنْ يَرَاهُ مِنَ النَّاسِ، وَعِظَةٌ لَهُ عِنْدَمَا يَرَى الصَّلَاةَ، وَيَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَأَحَادِيثَ الرَّسُولِ ﷺ، كَمَا فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ تُنْصَبُ فِيهِ الْخَيْمَةُ لِعِلَاجِ جَرْحَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، كَمَا فِي قِصَّةِ خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ أَيَّامَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ.
وَكَانَ مَكَانًا لِاسْتِقْبَالِ الرُّسُلِ -أَيِ: السُّفَرَاءِ- الَّذِينَ يَفِدُونَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ.
وَكَانَ مَكَانًا لِعَقْدِ أَلْوِيَةِ جُيُوشِ وَسَرَايَا الْمُجَاهِدِينَ.
وَكَانَ مَكَانًا لِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِقَائِدِهِمْ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: احْتِكَاكُ الْقَائِدِ بِالرَّعِيَّةِ عَنْ قُرْبٍ، وَدِرَاسَةُ أَحْوَالِهِمْ، وَبَثُّ الرَّعِيَّةِ شُجُونَهُمْ لِقَائِدِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: احْتِكَاكُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَتَآلُفُ قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ غَابَ هَذَا الْفَهْمُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا هَذَا!!
((كَانَ الْمَسْجِدُ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اللَّاجِئِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أَهْلٌ، وَلَا بَنُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُجَالِسُهُمْ وَيَأْنَسُ بِهِمْ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الصُّفَّةِ، وَالصُّفَّةُ: مَوْضِعٌ مُظَلَّلٌ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ.
قَالَ الْحَافِظُ: ((كَانَتِ الصُّفَّةُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مُعَدَّةً لِفُقَرَاءِ أَصْحَابِهِ ﷺ غَيْرِ الْمُتَأَهِّلِينَ، وَكَانُوا يَكْثُرُونَ تَارَةً حَتَّى يَبْلُغُوا الْمِائَتَيْنِ، وَيَقِلُّونَ أُخْرَى؛ لِإِرْسَالِهِمْ فِي الْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ)) .
تَمَّ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ فِي حُدُودِ التَّقَلُّلِ، فِرَاشُهُ الرِّمَالُ وَالْحَصْبَاءُ -وَالْحَصْبَاءُ: الْحَصَى الصِّغَارُ-، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَأَعْمِدَتُهُ الْجُذُوعُ، وَرُبَّمَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَأَوْحَلَتْ أَرْضُهُ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ -هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-: ((سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا -أَوْ نُسِّيتُهَا-؛ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوِتْرِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَلْيَرْجِعْ))، فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً -أي: قِطْعَةً مِنْ سَحَابٍ رَقِيقَةً-، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ؛ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ)) .
هَذَا الْبِنَاءُ الْمُتَوَاضِعُ هُوَ الَّذِي رَبَّى مَلَائِكَةَ الْبَشَرِ، وَمُؤَدِّبِي الْجَبَابِرَةِ، وَرَبَّى مُلُوكَ الدَّارِ الْآخِرَةِ.
إِنَّ مَكَانَةَ الْمَسْجِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ تَجْعَلُهُ مَصْدَرَ التَّوْجِيهِ الرُّوحِيِّ وَالْمَادِّيِّ؛ فَهُوَ سَاحَةٌ لِلْعِبَادَةِ، وَمَدْرَسَةٌ لِلْعِلْمِ، وَنَدْوَةٌ لِلْآدَابِ، وَقَدِ ارْتَبَطَتْ بِفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ وَصُفُوفِهَا أَخْلَاقٌ وَتَقَالِيدُ هِيَ لُبَابُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ».
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الْمَسْجِدُ.. مَكَانَتُهُ وَآدَابُهُ وَدَوْرُهُ فِي الْمُجْتَمَعِ