رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ

رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ

وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِبَادَاتِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ))

((فَرَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَنْوَاعُ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَجْتَمِعُ جَمِيعًا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ؛ صِيَامٌ، وَقِيَامٌ، وَاعْتِكَافٌ، وَزَكَاةٌ وَصَدَقَةُ فِطْرٍ، وَتِلَاوَةُ قُرْآنٍ، وَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً))، كَمَا فِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ)).

 ((وَالصَّوْمُ يَهْدُفُ فِي أُسُسِهِ السَّلِيمَةِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي قَوَاعِدِهِ الصَّافِيَةِ الْمَتِينَةِ، إِلَى حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ الْمَادَّةِ حِرْمَانًا تَجْرِيبِيًّا عَمَلِيًّا؛ يَسْتَطِيعُ فِيهِ الْغَنِيُّ أَنْ يَعِيشَ مَعَ الْفَقِيرِ فَتَرَاتٍ مُتَوَالِيَةً مِنَ الزَّمَنِ, فَيَعْرِفُ لَا بِاللَّفْظِ وَالْوَصْفِ وَإِنَّمَا بِالْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ أَلَمَ الْحِرْمَانِ وَمَا يَعِيشُ فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ وَالْمَحْرُومُ.

وَالصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ يُحَبِّبُ إِلَى النَّفْسِ طَرِيقَ الْإِحْسَانِ؛ كُلَّمَا تَقَدَّمَ بِهِ الزَّمَانُ وَاتُّخِذَتِ الْمُجَالَدَةُ وَالتَّرْوِيضُ وَالْمِرَانُ الْعَمَلِيُّ سَبِيلًا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ, وَلَمَسَ لَمْسًا صَحِيحًا صَائِبًا عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ حَتَّى يَجِدَ مَا فَقَدَهُ مِنْ لَذَّةٍ وَمَا نَقَصَ مِنَ اسْتِمْتَاعٍ تَعْلُو بِهِ نَفْسُهُ, فَيُقْبِلُ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمَحْرُومِينَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ.

وَالنَّفْسُ -وَصِيَامُهَا- الَّتِي تَعَوَّدَتِ الْبِرَّ وَالْإِحْسَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْعَمَلِيَّةِ التَّدْرِيبِيَّةِ لَمْ يَتْرُكْهَا الدِّينُ حُرَّةً فِي أَدَاءِ وَتَصْرِيفِ طَاقَةِ الْإِحْسَانِ, فَقَدْ فَرَضَ عَلَيْهَا فَرْضًا لَازِمًا وَاجِبَ الْأَدَاءِ؛ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ مَالِهَا مِقْدَارًا مُعَيَّنًا لِلْمَسَاكِينِ وَالْمَحْرُومِينَ وَالْفُقَرَاءِ؛ كَيْلَا يَكُونَ التَّدْرِيبُ اخْتِيَارِيًّا, وَإِنَّمَا يُصْبِحُ ضَرُورَةً وَاجِبَةً.

وَفِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ سَامِيَةٌ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ سَيَنْتَهِي بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ وَالْفَرْحَةِ الْعَامَّةِ, فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ الدِّينُ أَنْ يَتْرُكَ الْفَقِيرَ مَحْرُومًا مُعْدَمًا وَالْفَرْحَةُ قَدْ أَقْبَلَتْ مُتَوَثِّبَةً وَمِيعَادُهَا قَدْ قَرُبَ؟!! فَلَا تَكُونُ لِلْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَعُمَّ النَّاسَ جَمِيعًا؛ فَكَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ.

فَفِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مُشَارَكَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ لِإِحْسَاسٍ عَامٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَتَقَبَّلُونَ مَوْعِدًا وَلِقَاءً تَهْتِفُ بِهِ النَّفْسُ, فِي هَذَا اللِّقَاءِ يَجِبُ أَنْ نَنْسَى الْحِرْمَانَ وَأَعْبَاءَ الدَّهْرِ وَتَكَالِيفَ الْمَشَقَّةِ وَالشَّظَفِ, وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ, فَجَاءَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ حِكْمَةً مَادِّيَّةً تَتَحَوَّلُ إِلَى أُفُقٍ رُوحِيٍّ يَشْعُرُ فِيهِ الْجَمِيعُ بِالْوَحْدَةِ وَبِالْفَرْحَةِ الَّتِي تُوَحِّدُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا, لَا حَاقِدَ وَلَا حَاسِدَ, وَلَا كَاظِمَ غَيْظٍ)) .

 ((وَكَذَلِكَ لِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ مَزِيَّةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ؛ فَيُبَادِرُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَدَائِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: إِطْعَامُ الطَّعَامِ))، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ بَلَاغَةً وَبَلَاغًا فِي الْوُصُولِ إِلَى رُضْوَانِ اللهِ.

 ((كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْعَبْدُ رَحْمَةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ))  )).

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالْإِطْعَامِ))

إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمُبَارَكَ مَيْدَانٌ لِلتَّنَافُسِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ؛ حَيْثُ يَتَسَابَقُ فِيهِ الْعِبَادُ بِخَالِصِ الْأَعْمَالِ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا حَالُ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَمَضَانَ)) ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))  بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ -وَأَجْوَدَ، بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ مَعًا، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ- مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَلنَّبِيُّ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ مَنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).

إِنَّ رَمَضَانَ مَجَالٌ وَاسِعٌ لِلْبِرِّ، وَبِخَاصَّةٍ إِطْعَامُ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ سِمَاتِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ، وَسِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ دِينِنَا الْحَنِيفِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوَّلَ مَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنْ جَاءَهُ، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُ وَجْهَهُ وَاسْتَثْبَتُّهُ؛ عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ.

قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)) .

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ قَالَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضْيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلْكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلْكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

يَحْفِرُ الْمُسْلِمُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.

وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَسْتَصْغِرَ أَوْ يَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَّ عَمَلٍ يَقْبَلُهُ اللهُ؛ فَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ جَابِرٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُحْتَبٍ فِي بُرْدَةٍ، وَإِنَّ هُدَّابَهَا لَعَلَى قَدَمَيْهِ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي.

قَالَ: «عَلَيْكَ بِاتِّقَاءِ اللهِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ لِلْمُسْتَسْقِي مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ، أَوْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَلَا يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَإِنِ امْرُؤٌ عَيَّرَكَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ مِنْكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِشَيْءٍ تَعْلَمُهُ مِنْهُ، دَعْهُ يَكُونُ وَبَالُهُ عَلَيْهِ، وَأَجْرُهُ لَكَ، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا».

قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدُ دَابَّةً وَلَا إِنْسَانًا. وَالْحَدِيثُ  صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: «هُدَّابَهَا»: هُدْبُ الثَّوْبِ، وَهُدْبَتُهُ، وَهُدَّابُهُ، طَرَفُ الثَّوْبِ مِمَّا يَلِي طُرَّتَهُ.

وَقَوْلُهُ: «وَهُوَ مُحْتَبٍ فِي بُرْدَتِهِ»؛ أَيْ: كَانَ جَالِسًا عَلَى هَيْئَةِ الِاحْتِبَاءِ وَأَلْقَى رِدَاءَهُ فَوْقَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَخَذَ بِكُلِّ يَدٍ طَرَفًا مِنَ الرِّدَاءِ؛ لِيَكُونَ كَالْمُتَّكِئِ عَلَى الشَّيْءِ، وَهَذَا مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يَتَّكِئُوا عَلَى الشَّيْءِ.

((وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا»: الْمَعْرُوفُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ.

وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ؛ أَيْ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ: النَّصَفَةُ، وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَلَقِّي النَّاسِ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».

قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟

قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».

قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».

حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ.

وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.

 ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ بِالْأَرْحَامِ وَصِلَتِهِمْ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْبِرَّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ، قَالَ ﷺ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الْبِرِّ الصِّلَةُ وَالتَّوَاصُلُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَالنَّاسِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ عَوَامِلِ التَّآلُفِ وَالتَّرَابُطِ، وَنَشْرِ قِيَمِ التَّرَاحُمِ بَيْنَ النَّاسِ كَافَّةً.

قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْبِرِّ: صِلَةَ الْأَقَارِبِ وَإِعْطَاءَهُمْ مِنَ الْمَالِ، ((وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أَعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)) ، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وَبِبِرِّكَ وَإِعْطَائِكَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ)) .

إِنَّ رَمَضَانَ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلتَّشَاحُنِ وَلَا لِلْمُتَشَاحِنِينَ، وَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ شَهْرَ الصِّلَةِ؛ فَفِي مُقَدِّمَةِ هَذِهِ الصِّلَةِ يَأْتِي أَمْرَانِ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ مَكَانَةَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَقَدْرَهَا؛ وَرَهَّبَ -سُبْحَانَهُ- مِنْ قَطْعِهَا؛ فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21].

فَمِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مُنْقَطِعًا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ إِلَّا وَصَلُوهُ؛ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأُخُوَّةِ فِي اللهِ، وَصِلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].

وذَوُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ، فَأَحْكَامُ الْمُوَالَاةِ الْعَامَّةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ أَوْلَوِيَّةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَصْحَابُ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَمِنْهَا أَحْكَامُ التَّوَارُثِ.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وَالْحَدِيثُ «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

وَالْمَعْنَى: «قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، «وَاشْتَقَقْتُ»: أَيْ أَخْرَجْتُ وَأَخَذَتُ اسْمَهَا «مِنِ اسْمِي»: الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ، «فَمَنْ وَصَلَهَا»: رَاعَى حُقُوقَهَا، «وَصَلْتُهُ»: رَاعَيْتُ حُقُوقَهُ وَوَفَّيْتُ ثَوَابَهُ، «وَمَنْ قَطَعَهَا»: وَمَنْ قَطَعَ الرَّحِمَ، «قَطَعْتُهُ»: مِنْ رَحْمَتِي الْخَاصَّةِ.

«وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»: وَالْبَتُّ الْقَطْعُ، فَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَعْظِيمُ شَأْنِ الرَّحِمِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ وَصْلِهَا، وَعِظَمِ الْإِثْمِ بِقَطِيعَتِهَا.

وَقَرَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَقَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَقَرُبُوا مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].

فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ وَأَصْحَابَ الْقُوَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِخَرَابِ الْعُمْرَانِ الْحَضَارِيِّ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَفْكَارِهِمْ وَمَفْهُومَاتِهِمْ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضِكُمُ الشَّخْصِيَّةِ وَمَصَالِحِكُمُ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : ((أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.. كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ- يُفَتِّحُ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ؛ فَيَغْفِرُ اللهُ -رَبُّ الْعَالَمِينَ- لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ -كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ بَغْضَاءُ- فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنْظِرَا -أَيْ: أَجِّلَا، أَيْ: دَعَا، أَيْ: اتْرُكَا- هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)).

فَلَا يَنْعَمَانِ بِالْغُفْرَانِ الَّذِي يَلْحَقُ غَيْرَ الْمُشَاحِنِينَ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ, إِذْ تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ, وَإِذْ تَهُبُّ نَسَمَاتُ.. نَفَحَاتُ.. رَحَمَاتُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ؛ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ أَنْ نَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

لَيْسَ الْوَاصِلُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بَلْ يُعْطِي مَنْ مَنَعَهُ مِنْ مَعْرُوفِهِ.

وَالْمُكَافِئُ: مَنْ يَصِلُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَأْخُذُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَصِلُ كَمَا يُوصَلُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِي كَمَا أَخَذَ، فَهَذَا مُكَافِئٌ؛ مَنْ زَارَهُ زَارَهُ، ومَنْ أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ، ومَنْ بَرَّهُ بَرَّهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي تِلْكَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ الَّتِي يُحَصِّلُهَا وَاصِلُ الرَّحِمِ؛ هَذَا الْمُكَافِئُ.

فَإِذَنْ؛ وَاصِلُ الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي يَصِلُ مَا قُطِعَ مِنْهُ، لَا الَّذِي يُكَافِئُ عَلَى الْوَصْلِ يُوصَلُ هُوَ بِهِ، وَإِنَّمَا تُقْطَعُ رَحِمُهُ فَيَصِلُهَا هُوَ، فَهَذَا هُوَ وَاصِلُ الرَّحِمِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَأَ فِي صِلَةِ أَرْحَامِهِ وَيَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يُقَابِلُوا صَنِيعَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْوَصْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِخْلَاصِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلهِ، فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَوَامِرِ اللهِ وَأَوَامِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَثَوَابًا مِنْ أَحَدٍ، كَلَّفَهُ اللهُ وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ فَهُوَ يَصِلُهَا.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177].

{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}؛ أَيْ: أَخْرَجَهُ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ رَاغِبٌ فِيهِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ)).

وَقَوْلُهُ: {ذَوِي الْقُرْبَى}؛ وَهُمْ: قَرَابَاتُ الرَّجُلِ، وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أُعْطِيَ مِنَ الصَّدَقَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ اثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)) .

فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وَبِبِرِّكَ وَإِعْطَائِكَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ -أَيْ إِلَى ذِي الْقُرْبَةِ- فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الضَّبِّيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ التَّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : ((أَجْرَانِ؛ أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).

وَالْجَانِبُ الْآخَرُ مِنَ الصِّلَةِ هُوَ صِلَةُ كُلِّ مَنْ حَوْلَكَ، فَلَا تَقْطَعُ أَحَدًا -إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ، فَنَهْجُرُهُمْ وَنُبْغِضُهُمْ فِي اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. نُبْغِضُ أَهْلَ الْبِدَعِ، وَنَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِبُغْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَبْعَدَةٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ سُنَّةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ-.

النَّبِيُّ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا حَرَّمَ مِنْ أُمُورِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَعَلَ الْكَبَائِرَ بَارِزَاتٍ وَاضِحَاتٍ، جَعَلَ مِنْهَا هَذَا التَّدَابُرَ وَالتَّنَاحُرَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ : «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»؛ يَعْنِي: الَّذِي يُخَاصِمُ أَخَاهُ سَنَةً هُوَ فِي الذَّنْبِ وَالْوِزْرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَالَّذِي يَقْتُلُهُ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الرَّسُولُ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ».

النَّبِيُّ ﷺ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا النَّارَ، «فَمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ».

وَيُوَضِّحُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَنَّ النِّزَاعَ وَالْخِلَافَ وَالْخِصَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا، يَقُولُ الرَّسُولُ : «مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فِي اللهِ -أَوْ قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ- فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا».

الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يُرَخِّصْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ...)).

ثُمَّ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا نَفْسِيًّا يَعْتَرِي النَّاسَ عِنْدَمَا لَا يَكْسِرُونَ حِدَّةَ الْبَشَرِيَّةِ الْمُوغِلَةِ فِي الطِّينِيَّةِ فِيهِمْ، فَيَتَرَفَّعُ الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، عِنْدَمَا يَلْقَاهُ وَهُوَ لَهُ مُخَاصِمٌ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((... يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)) .

النَّبِيُّ ﷺ يَرْعَى هَذَا الْجَانِبَ النَّفْسِيَّ فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ثُمَّ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَجَاءَ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ مُتَّسِقًا مَعَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا قِيدَ أُنْمُلَةٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ النَّاسُ عَلَى أَمْرِ الْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ رَبُّهُمْ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ أَمْرَ الْخِصَامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَفْشِيًا، وَيَكُونُ مُتَأَصِّلًا فِي بَعْضِ الصُّدُورِ، مُتَغْلْغِلًا فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، فَمَا الْحَلُّ إِذَا عَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ؟

يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ، فَلْيَلْقَهُ -أَيْ: فَلْيُقَابِلْهُ- فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ, وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنَ الْهِجْرَةِ)).

فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثٌ عَلَى مُتَخَاصِمَيْنِ، ثُمَّ لَقِيَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَخْرُجَ مِنَ الْهِجْرَةِ الْمَذْمُومَةِ -أَيْ: مِنْ هَجْرِهِ لِأَخِيهِ- إِلَّا أَنَّ الْآخَرَ قَدْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَقَادَهُ شَيْطَانُهُ إِلَى مَهَاوِي الضَّلَالِ وَالْعِنَادِ وَالزَّيْغِ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ أَخُوهُ فَيُلْقِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، إِنْ رَدَّا فَقَدْ بَرِئَا مِنْ أَمْرِ الْهِجْرَةِ وَمِنْ أَمْرِ الْخِصَامِ، وَإِنْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَأَبَى إِلَّا الْخِصَامَ وَالْمُخَاصَمَةَ وَالْعِنَادَ وَالْمُعَانَدَةَ، فَإِنَّ الَّذِي سَلَّمَ -أَيِ: الْمُسَلِّمُ- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَرِئَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَا يُعَدُّ هَاجِرًا، وَبَاءَ الْآخَرُ بِالذَّنْبِ.

الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ هَذَا الْخِصَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّمُ الْهِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمُرُ بِالتَّوَاصُلِ وَبِالتَّوَادِّ، وَبِالتَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ يُضَيِّقُ الدَّائِرَةَ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ تَضْيِيقًا مِنْ بَعْدِ تَضْيِيقٍ، فَيُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْهَجْرِ هَذَا الْهَجْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.

فَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ بَيَّنَ فِيمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ أَرْحَامَهُمْ وَيَهْجُرُونَ إِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، هَؤُلَاءِ لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.

عِبَادَ اللهِ! بِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ، فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.

وَقَدْ قِيلَ: اصْبِرْ وَصَابِرْ تُدْرِكِ الْمَكَارِمَ.

((رَمَضَانُ شَهْرُ التَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعَطَايَا الَّتِي أَعْطَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْأُمَّةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ هِيَ أَجَلُّ الْعَطَايَا.

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَنْ  جَعَلَ صِيَامَهُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ إِنَّ الدَّائِرَةَ مَا تَزَالُ تَتَّسِعُ لِتَشْمَلَ أَكْبَرَ عَدَدٍ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ خَيْرٍ؛ مِنْ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ؛ لِكَيْ يَدْخُلَ فِي عَطَاءِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَنْ قَامَ لَيْلَةً وَاحِدَةً؛ فَبِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَادَفَهَا، وَبِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَافَقَهَا.. بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ مَوْصُولًا، وَالْفَضْلَ زَاخِرًا، وَالْمِنَنَ نَازِلَةً، وَالْعَطَايَا سَابِغَةً، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مُوَافَقَةً بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ غَفَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

ثُمَّ مَا تَزَالُ الْمِنَنُ تَتَوَالَى: ((إِنَّ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ)) .

الْمَلِكُ الْجَلِيلُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ الْعَبِيدُ يَتَحَرَّكُونَ فِي طَاعَتِهِ، يَبْتَغُونَ مَرْضَاتَهُ.. الْمَلِكُ الْجَلِيلُ إِذَا مَا أَدَّى عَبِيدُهُ مَا كُلِّفُوا بِهِ أَتَتْ فَوَاضِلُهُ سَابِغَةً، وَعَطَايَاهُ غَامِرَةً.

وَهَذَا فِي دُنْيَا النَّاسِ فِي عَالَمِ الْبَشَرِ عِنْدَ السَّيِّدِ الْكَرِيمِ الَّذِي عِنْدَهُ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ وَعِنْدَهُ التَّقْدِيرُ؛ فَإِنَّهُ مَا كَلَّفَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ فَأَتَى بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، أَوْ وَقَعَ مُقَارِبًا لِلْهَدَفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، أَوْ بَذَلَ الْجُهْدَ وَالْوُسْعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَا يُرْضِي سَيِّدَهُ عَلَى النَّحْوِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَا انْتَهَى الْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ تَأْتِي الْعَطَايَا وَتَأْتِي الْفَوَاضِلُ وَتَأْتِي النِّعَمُ سَابِغَةً، فَكَيْفَ بِصَاحِبِ الْقُوَى وْالْقُدَرِ؟!! فَكَيْفَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

((إِنَّ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ))، هَذَا عَتِيقُ الرَّحْمَنِ فَلَا يَشْهَدُ نَارًا، وَلَا يَقْرَبُهَا، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَبْعَدَةٍ وَمَنْجَاةٍ مِنْهَا، فَمَا أَجْمَلَهُ!

ثُمَّ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ آخِذٍ بِتَوَجُّهٍ إِلَيْهِ مُقْبِلٍ عَلَيْهِ.. يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِكُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ، يَأْذَنُ الْمَلِيكُ الْأَجَلُّ لِعَبْدِهِ الضَّعِيفِ الْمُسْتَكِينِ الْمُسْتَذِلِّ بَيْنَ يَدَيْهِ.. يَأْذَنُ لَهُ بِأَنْ يَرْوِيَ ظَمَأَهُ، وَأَنْ يُشْبِعَ نَهْمَتَهُ، وَأَنْ يَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَحَاجَتَهُ، وَيَأْتِي الْإِفْرَاجُ عَنِ الْإِمْسَاكِ بِهَذِهِ السَّعَةِ وَقَبْلَ ذَلِكَ إِنْ دَعَوْتَ اسْتُجِيبَ لَكَ، فَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ إِفْطَارِ الْعَبْدِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً.

 ((مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ, وَجَعَلَهُ فَجْرًا تَبْدَأُ مَعَهُ رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ بِقُلُوبٍ مُنْكَسِرَةٍ, وَدُمُوعٍ مُنْسَكِبَةٍ, وَجِبَاهٍ خَاضِعَةٍ.

قَالَ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 50].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

وَقَالَ -تَعَالَى- حَاثًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالْأَوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)).

وَهَذَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَتَأَمَّلْ فِي فَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى التَّائِبِ الْعَائِدِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)) )). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.

((وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً, ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ, فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَدُلَّ عَلَى عَابِدٍ, فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

قَالَ: لَا, فَقَتَلَهُ؛ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ, ثُمَّ حَنَّتْ نَفْسُهُ إِلَى التَّوْبَةِ, فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ, فَقَالَ: قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

قَالَ: وَمَنِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟!!

وَلَكِنْ أَرْضُكَ أَرْضُ سُوءٍ, فَدَعْهَا وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ كَذَا؛ فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ.

فَخَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ فَقُبِضَ, فَتَنَازَعَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, تَقُولُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: مَا عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ!! وَتَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: إِنَّهُ خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ تَائِبًا.

فَأَرْسَلَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَيْهِمْ مَلَكًا عَلَى هَيْئَةِ رَجُلٍ فَحَكَّمُوهُ, فَقَالَ: قِيسُوا بَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ, وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي ذَهَبَ مُهَاجِرًا إِلَيْهِ, فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ فَلْتَقْبِضْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ بِشِبْرٍ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ)).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ؛ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ, وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ, وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ)).

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ وَلِيَّهَا, فَقَالَ: ((أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي)), فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟!

فَقَالَ: ((لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ, وَهَلْ وَجَدَتْ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟))، رَوَاهُ مُسْلِمٌ)).

((إِنَّ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوْبَةِ لِمَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَلَا يَكُونَنَّ الْمُفَرِّطُ مِمَّنْ رَغِمَ أَنْفُهُ وَخَسِرَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ؛ فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ)) .

((رَغِمَ أَنْفُهُ))؛ أَيْ: أَذَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقَهَرَهُ, وَجَعَلَ أَنْفَهُ عَلَى الرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَابِ.

فَلَا يَأْخُذَنَّ الْهَوَى وَمُلْهِيَاتُ النَّفْسِ عَبْدًا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى))؛ أَيْ: إِلَّا مَنْ رَفَضَ وَامْتَنَعَ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ؛ إِلَّا صِنْفًا مِنْهُمْ لَا يُرِيدُونَ دُخُولَ الْجَنَّةِ، لَا زُهْدًا فِيهَا، وَلَكِنْ جَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا، وَتَرَاخِيًا وَتَكَاسُلًا عَنْ دُخُولِهَا، وَتَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْمُتَعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ.

فَجِدَّ فِي التَّوْبَةِ، وَسَارِعْ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا تَحْتَ شَجَرَةِ طُوبَى، وَلَا لِلْمُحِبِّ قَرَارٌ إِلَّا يَوْمَ الْمَزِيدِ، فَسَارِعْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهُبَّ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِكَ يَوْمُ الْعَوْدَةِ إِلَى رَبِّكَ، فَاصْدُقْ فِي ذَلِكَ الْمَسِيرِ، وَلْيَهْنِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: ((لَلهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

يَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ وَفِطْنَةٍ أَنْ يَحْذَرَ عَوَاقِبَ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَبَيْنَ اللهِ -تَعَالَى- قَرَابَةٌ وَلَا رَحِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، حَاكِمٌ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ حِلْمُهُ يَسَعُ الذُّنُوبَ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ عَفَا، فَعَفَا عَنْ كُلِّ كَثِيفٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَخَذَ بِالْيَسِيرِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ!

وَكُلُّنَا أَصْحَابُ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَكِنْ خَيْرُنَا مَنْ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيُبَادِرُ إِلَى الْعَوْدَةِ، تَحْثُّهُ الْخُطَى، وَتُسْرِعُ بِهِ الدَّمْعَةُ، وَيُعِينُهُ أَهْلُ الْخَيْرِ رُفَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِ الْأُخُوَّةِ فِي اللهِ: عَدَمَ تَرْكِ الْعَاصِي يَسْتَمِرُّ فِي مَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ يُحَاطُ بِإِخْوَانِهِ، وَيُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ، وَلَا يُهْمَلُ وَلَا يُتْرَكُ فَيَضِلُّ وَيَشْقَى.

أَرَأَيْتَ إِنْ نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ شَأْنٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَقِفُ مَعَهُ وَتُعِينُهُ؟!!

فَالْآخِرَةُ أَوْلَى وَأَبْقَى.

وَلَوْ تَفَقَّدَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَخَاهُ وَقَرِيبَهُ وَجَارَهُ؛ لَصَلَحَتِ الْحَالُ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، خَاصَّةً فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي صَفَتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَاطْمَأَنَّتْ فِيهِ النُّفُوسُ، وَسَارَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهَا فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُصْحِ الْمُذْنِبِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ.

وَالْحَالُ كَمَا ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((رَأَيْتُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي صَفِّ مُحَارَبَةٍ، وَالشَّيَاطِينُ يَرْمُونَهُمْ بِنَبْلِ الْهَوَى، وَيَضْرِبُونَهُمْ بِأَسْيَافِ اللَّذَّةِ، فَأَمَّا الْمُخَلِّطُونَ فَصَرْعَى مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ اللِّقَاءِ، وَأَمَّا الْمُتَّقُونَ -جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ- فَفِي جُهْدٍ جَهِيدٍ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ، فَلَا بُدَّ مَعَ طُولِ الْوقُوفِ فِي الْمُحَارَبَةِ مِنْ جِرَاحٍ، مِنْهُمْ يُجْرَحُونَ وَيُدَاوُونَ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنَ الْقَتْلِ مَحْفُوظُونَ، بَلْ إِنَّ الْجِرَاحَةَ فِي الْوَجْهِ شَيْنٌ بَاقٍ؛ فَلْيَحْذَرْ ذَلِكَ الْمُجَاهِدُونَ)) )) .

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا تَوْبَةً نَصُوحًا لَا نَعْصِيهِ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا, وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهَا حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَى الْإِخْلَاصِ مُؤْمِنِينَ مُتَّقِينَ مُحْسِنِينَ.

 ((التَّعَرُّضُ لِلرَّحَمَاتِ فِي الْعَشْرِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ))

((إِنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ جَعَلَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فُرْصَةً لِلْمُحْسِنِ أَنْ يَسْتَزِيدَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَلِلْمُقَصِّرِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَ؛ فَهِيَ أَيَّامٌ مَلِيئَةٌ بِالنَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعَطَايَا الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِيهَا لِرَحَمَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )) .

((فَمَا زِلْنَا نَعِيشُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ الَّتِي هِيَ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رَمَضَانَ, وَالَّتِي كَانَ يَخُصُّهَا النَّبِيُّ ﷺ بِمَزِيدِ عِبَادَةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا, وَمِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَ لَيْلَةً فِي هَذِهِ الْعَشْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ -فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) - قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ, وَأَحْيَا لَيْلَهُ, وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)).

((وَشَدَّ مِئْزَرَهُ))؛ أَيِ اعْتَزَلَ نِسَاءَهُ لِيَتَفَرَّغَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ, ((وَأَحْيَا لَيْلَهُ)): بِالْقِيَامِ, وَالْقِرَاءَةِ, وَالذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ, وَيُوقِظُ أَهْلَهُ؛ لِيَشْتَغِلُوا بِالصَّلَاةِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ, وَالذِّكْرِ, وَالدُّعَاءِ, وَالتَّضَرُّعِ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ حِرْصًا مِنْهُ ﷺ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ بِمَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ, فَإِنَّهَا فُرْصَةُ الْعُمُرِ, وَغَنِيمَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْخَيْرِ.

وَعَلَى هَذَا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ أَنْ يُفَوِّتَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ وَهَذِهِ اللَّيَالِيَ الثَّمِينَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ, فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَاتٌ قَلِيلَةٌ وَلَيَالٍ مَعْدُودَةٌ رُبَّمَا يُدْرِكُ فِيهَا الْإِنْسَانُ نَفْحَةً مِنْ نَفَحَاتِ الْمَوْلَى -جَلَّ وَعَلَا- فَتَكُونُ سَعَادَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَيَزِيدُ مِنْ شَرَفِ هَذِهِ اللَّيَالِي وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهَا أَنْ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلَ فِيهَا لَيْلَةً خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ -ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ-، وَهِيَ نِعْمَةٌ أَعْظِمْ بِهَا مِنْ نِعْمَةٍ, وَمِنْحَةٌ أَكْرِمْ بِهَا مِنْ مِنْحَةٍ, وَفُرْصَةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا يُوَفَّقُ لَهَا إِلَّا الْمُخْلِصُونَ لِلهِ أَعْمَالَهُمْ, الْعَامِلُونَ لِلصَّالِحَاتِ, التَّائِبُونَ لِرَبِّهِمْ, الْخَائِفُونَ مِنْهُ -تَعَالَى-, الرَّاجُونَ لِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ -فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ -يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ- هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ, وَأَلْفُ شَهْرٍ: ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ, مَعَ أَنَّ مُتَوَسِّطَ عُمُرِ الْمُسْلِمِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ.

فَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ عُمُرِهِ كُلِّهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ, وَقَلِيلٌ مَنْ يُجَاوِزُ)) .

فَلَيْلَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ, خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ-.

يَقُولُ فِيهَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5].

وَيَقُولُ -تَعَالَى- أَيْضًا: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 1-8].

فَهِيَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ لِكَثْرَةِ خَيْرِهَا وَبَرَكَتِهَا وَفَضْلِهَا, وَكَيْفَ لَا وَهَذَا الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ أُنْزِلَ فِيهَا؟

وَفِيهَا يُفْصَلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ مِنَ الْأَرْزَاقِ, وَالْآجَالِ, وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ, وَالْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.

وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي الْفَضْلِ وَالْبَرَكَةِ وَالشَّرَفِ, وَكَثْرَةِ الثَوَابِ وَالْأَجْرِ.

وَفِيهَا تَتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ, يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ, يَتَنَزَّلُونَ إِلَى الْأَرْضِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ.

وَهِيَ سَلَامٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يُعْتَقُ فِيهَا مِنَ النَّارِ, وَيَسْلَمُ مِنْ عَذَابِهَا, وَفِيهَا تُغْفَرُ الذُّنُوبُ, وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ, وَيُعْفَى عَنِ الزَّلَّاتِ, وَتُسْتَجَابُ الدَّعَوَاتُ؛ لِمَنْ قَامَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُؤْمِنًا بِرَبِّهِ, وَاثِقًا مِنْ عَطَايَاهُ, مُحْتَسِبًا لِلْأَجْرِ وَالثَّوَابِ, مُخْلِصًا نِيَّتَهُ, مُقْتَدِيًا بِنَبِيِّهِ ﷺ.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ تَحْدِيدِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهِيَ فِي الْأَوْتَارِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَشْفَاعِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)).

وَفِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ أَقْرَبُ؛ لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ -يَعْنِي: اتَّفَقَتْ- فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ؛ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهْا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَقْرَبُ أَوْتَارِ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ), وَلَكِنْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا تَخْتَصُّ بِلَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ؛ بَلْ تَنْتَقِلُ مِنْ عَامٍ لِآخَرَ.

وَقَدْ أَخْفَى اللهُ -تَعَالَى- عِلْمَهَا عَنِ الْعِبَادِ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِيُكْثِرُوا عَمَلَهُمْ فِي طَلَبِهَا فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ كُلِّهَا بِمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ -تَعَالَى-؛ مِنَ الصَّلَاةِ, وَالذِّكْرِ, وَالدُّعَاءِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ, وَالصَّدَقَةِ, وَالْبِرِّ, وَإِعَانَةِ الْمُحْتَاجِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ -فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ قَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ, فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَقَدْ أَعْلَمَ بِعَلَامَةٍ يَرَاهَا فِي صُبْحِهَا: أَنَّهُ يَسْجُدُ فِي صُبْحِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ, فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا الْمَطَرَ حَتَّى أَصَابَ أَرْضَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَلَمَّا سَجَدَ بَدَا أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ ﷺ , وَكَانَتْ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.

وَكَذَلِكَ لَيَالِي الْأَشْفَاعِ لَا تَسْتَهِنْ بِهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((التَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى, فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى...)) الْحَدِيثَ.

فَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا, فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى)) تَكْوُن لَيْلَةَ عِشْرِينَ، فَلَيْلَةُ عِشْرِينَ قَدْ تَكُونُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ وَلِذَلِكَ فَالْعُلَمَاءُ عَلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الْعَشْرِ جَمِيعِهَا, مَعَ رِعَايَةِ أَوْتَارِهَا, وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ لِيَخُصَّ بِمَزِيدِ طَلَبٍ وَاجْتِهَادٍ-.

هَذِهِ اللَّيْلَةُ فُرْصَةٌ قَدْ لَا تَمُرُّ وَلَا تَسْنَحُ لِلْإِنْسَانِ مَرَّةً أُخْرَى, فَاجْتَهِدْ غَايَةَ جَهْدِكَ, وَقَدِّمْ فِيهَا مَا تَسْتَطِيعُ تَقْدِيمَهُ, وَلَا تُضَيِّعْ فِيهَا وَقْتَكَ؛ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهَا ثَمِينٌ, وَمَا مَرَّ رُبَّمَا لَا يَعُودُ, وَهَذِهِ الْفُرْصَةُ رُبَّمَا لَا تَسْنَحُ لِلْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى, فَمَنْ يَدْرِي إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ بَعْدُ نَكُونُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَعَلَيْنَا أَلَّا نَنْسَى أَنْفُسَنَا وَلَا أَوْلَادَنَا وَلَا أَهْلِينَا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ؛ فَلْنَقْتَدِ بِنَبِيِّنَا ﷺ؛ كَانَ يُحْيِي لَيْلَهُ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ, وَكَفَى تَفْرِيطًا فِيمَا مَرَّ مِنْ سَالِفِ الْعُمُرِ.

التَّاجِرُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَقْفَةً لِلْحِسَابِ مَعَ نَفْسِهِ؛ لِيُرَاجِعَ أَمْوَالَهُ, وَيُدَقِّقَ حِسَابَهُ, وَلِيُنِيبَ إِلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ.

الْمُوَظَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْتَنِمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الشَّرِيفَةَ الْعَظِيمَةَ؛ لِيُصَحِّحَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ زَلَّاتٍ وَأَخْطَاءٍ, وَلِيُعَالِجَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ.

الْمَرْأَةُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تُرَاجِعُ حِسَابَاتِهَا مَعَ رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهَا، وَلْتَجْعَلْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ خُطْوَةً تَتَقَدَّمُ بِهَا إِلَى الْأَمَامِ)) .

لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُ فَضَائِلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْعَظِيمَةِ, وَعَلِمَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَحْصُورَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لَجَدَّ وَاجْتَهَدَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُهُ ﷺ: ((جَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ)).

«أَحْكَامُ زَكَاةِ الفِطْرِ»

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي خِتَامِ شَهْرِنَا هَذَا -شَهْرُ رَمَضَان- أَنْ تُؤَدَّى زَكَاةُ الفِطرِ قَبْلَ صَلَاةِ العِيدِ.

* فَأَمَّا حُكْمُهَا:

فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَمَا فَرَضَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَمَرَ بِهِ؛ فَلَهُ حُكمُ مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى أَوْ أَمَرَ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء:80].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر:7].

 وَزَكَاةُ الفِطْرِ فَرِيضَةٌ عَلَى الكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنثَى، وَالحُرِّ وَالعَبدِ مِنَ المُسلِمِينَ.

قَالَ عَبدُ اللهِ بنِ عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ». وَالحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

*وَلَا تَجِبُ عَن الحَمْلِ الَّذِي فِي البَطْنِ إِلَّا أَنْ يُتَطَوَّعَ بِهَا عَنهُ فَلَا بَأسَ؛ فَقَدْ كَانَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُخْرِجُهَا عَنِ الحَمْلِ.

*وَيَجِبُ إِخْرَاجُهَا عَن نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ تَلزَمُهُ مَئُونَتُهُم مِن زَوْجَةٍ أَوْ قَرِيبٍ؛ إِذَا لَمْ يَستَطِيعُوا إِخْرَاجَهَا عَنْ أَنْفُسِهِم، فَإنْ اسْتَطَاعُوا فَالْأَوْلَى أَنْ يُخرِجُوهَا عَنْ أَنْفُسِهِم؛ لِأَنَّهُم المُخَاطَبُونَ بِهَا أَصْلًا.

*وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً زَائدَةً عَمَّا يَحتَاجُهُ مِنْ نَفَقَةِ يَومِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ أَخرَجَهُ؛ لِقَولِهِ تَعَالَى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، وَلِقَولِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إذَا أَمَرتُكُم بِأَمرٍ فَأَتُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم»كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

* وَحِكمَةُ صَدَقَةِ الفِطْرِ ظَاهِرَةٌ جِدًّا:

*فَفِيهَا إِحْسَانٌ إِلَى الفُقَرَاءِ، وَكَفٌّ لهُم عَنِ السُّؤالِ فِي يَومِ العِيدِ؛ لِيُشَارِكُوا الأَغنِيَاءَ فِي فَرَحِهِم وَسرُورِهِم بِهِ، وَلِيَكُونَ عِيدًا لِلْجَمِيعِ.

*وَفِيهَا الاتِّصَافُ بِخُلُقِ الكَرَمِ وَحُبِّ المُوَاسَاةِ.

*وَفِيهَا تَطْهِيرُ الصَّائِمِ مِمَّا يَحصُلُ فِي صِيَامِهِ مِنْ نَقصٍ وَلَغْوٍ وَإِثْمٍ.

*وَفِيهَا إِظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ بِإِتْمَامِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ، وَفِعْلِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ.

عَن ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِين؛ فَمَنْ أدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَنْ أدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ». أَخرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

* وَجِنْسُ الوَاجِبِ فِي الفِطرَةِ -أَي: فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ-:

 هُوَ طَعَامُ الآدَمِيِّينَ مِن تَمرٍ، أَو بُرٍّ، أَو أُرْزٍ، أَو زَبِيبٍ، أَو أَقِطٍ -وَهُوَ اللَّبَنُ المُجَفَّف الَّذِي لَمْ تُنزَع زُبدَتُهُ- إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنْ طَعَامِ بَنِي آدَمَ.

فَعَن ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطرِ مِن رَمَضَانَ صَاعًا مِن تَمرٍ، أو صَاعًا مِن شَعِيرٍ -وَكَانَ الشَّعِيرُ يَومَ ذَاكَ مِن طَعَامِهِم-» كَمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ -: «كُنَّا نُخرِجُ يَومَ الفِطرِ فِي عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِن طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالأقِط وَالتَّمرَ». وَهَذَا أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحيح».

الصَّاع: أَربَعَةُ أَمدَادٍ، وَأَمَّا المُدُّ: فَحَفنَةٌ بِكَفَّيِ الرَّجُلِ المُعتَدِلِ الكَفَّينِ.

أَربَعَةُ أَمْدَادٍ صَاعٌ؛ فَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ.

المُدُّ أَنْ تَأخُذَ بِكَفَّيكَ مِلأَهُمَا؛ فَهَذَا مُدٌّ -أَربَعَةُ أَمدَادٍ صَاعٌ-.

 *لَا يُجزِئُ إِخرَاجُ طَعَامِ البَهَائِمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَضَهَا طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ لَا لِلْبَهَائِمِ.

 *وَلَا يُجزِئُ إِخرَاجُهَا مِنَ الثِّيَاب وَالفُرُشِ وَالأَوَانِيِ وَالأَمتِعَةِ وَغَيرِهَا مِمَّا سِوَى طَعَامِ الآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَضَهَا مِنَ الطَّعَامِ؛ فَلَا تَتَعَدَّ مَا عَيَّنَهُ الرَّسُولُ ﷺ.

((لَا يُجزِئُ إِخرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قِيمَةِ الطَّعَامِ))

 *وَلَا يُجزِئُ إِخرَاجُ قِيمَةِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَد ثَبَتَ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». أخرَجَهُ مُسلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ».

 وَرَدٌّ أَي: مَردُودٌ؛ لِأَنَّ إِخرَاجَ القِيمَة مُخَالِفٌ لِرَسُولِ اللهِ، وَمُخَالِفٌ لِأَصحَابِ رَسُولِ اللهِ؛ فَقَد كَانُوا يُخرِجُونَهَا صَاعًا مِن طَعَامٍ، وَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَلَيكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ مِن بَعدِي».

 وَلِأَنَّ زَكَاةَ الفِطرِ عِبَادَةٌ مَفرُوضَةٌ مِنْ جِنسٍ مُعَيَّنٍ؛ فَلَا يُجزِئُ إِخرَاجُهَا مِنْ غَيرِ الجِنسِ المُعَيَّنِ، كمَا لَا يُجزِئُ إِخرَاجُهَا فِي غَيرِ الوَقتِ المُعَيَّنِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَيَّنَهَا مِن أَجنَاسٍ مُختَلِفَةٍ، وَأَقيَامُهَا مُختَلِفَةٌ غَالِبًا؛ فَلَو كَانَت القِيمَةُ مُعتَبَرَةً لَكَانَ الوَاجِبُ صَاعًا مِنْ جِنسٍ وَمَا يُقَابِلُ قِيمَتُهُ مِنَ الأَجنَاسِ الأُخرَى.

وَلِأَنَّ إِخرَاجَ القِيمَة يُخرِجُ الفِطرَةَ عَن كَونِهَا شَعِيرَةً ظَاهِرَةً إِلَى كَونِهَا صَدَقَةً خَفِيَّةً؛ فَإِنَّ إِخرَاجُهَا صَاعًا مِن طَعَامٍ يَجعَلُهَا ظَاهِرَةً بَينَ المُسلِمِينَ، مَعلُومَةً لِلصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، يُشَاهِدُونَ كَيلَهَا وَتَوزِيعَهَا، وَيَتَبَادَلُونَهَا بِينَهُم، بِخِلَافِ مَا لَو كَانَت دَرَاهِمَ يُخرِجُهَا الإِنسَانُ خُفيَةً بَينَهُ وَبَينَ الآخِذ.

وَالأَحْنَافُ يَقُولُونَ -فِي زَكَاةِ الفِطْرِ- بِالقِيمَةِ، وَلَمْ يُخَالِف إِلَّا أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ إِمَامٌ مُعْتَبَرٌ مُتَّبَعٌ لَا خِلَافَ عَلَى هَذَا-، وَلَيسَ مِنَ الحَطِّ مِنْ شَأْنِ أَيِّ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ إِذَا مَا خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يُقَالَ خَالَفَ، هَذَا لَا يَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُمْ جَمِيعًا قَولُهُمْ: ((إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي))، فَالأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ صَحَّ عَنْهُمْ هَذَا القَولُ العَظِيمُ، وَكَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِذَا جَاءَكَ القَولُ مِنْ قَولِي مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَاضْرِبْ بِقَولِي عَرْضَ الحَائِطِ، وَلَا تَلتَفِتْ إِلَى قَولِي)). وَمَنْ يَكُونُ المَرْءُ حَتَّى يُخَالِفَ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟!!

فَأَنْتَ إِذَا مَا خَالَفْتَ الإِمَامَ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَصِلُهُ، أَو لِأَنَّ الحَدِيثَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِمَّا يُعْمَلُ بِهِ، كَأَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي نَظَرِهِ، أَو أَنْ يَرَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَو لَا تَتَبَيَّنُ لَهُ الدَّلَالَةُ مِنْهُ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلأَئِمَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُخَالِفَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ سُنَّةَ النَّبِيِّ الأَمِينِ ﷺ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- خَالَفَ فِي هَذَا الأَمْرِ، كَمَا خَالَفَ فِي مَسْأَلَةِ الوَلِّيِّ، وَلِذَلِكَ نَقولُ لِلذِّينَ يَقُولُونَ بِالقِيمَةِ قَولًا وَاحِدًا -وَيَقُولُونَ لَنَا إِمَامٌ مُعْتَبَرٌ، هُوَ مُعْتَبَرٌ وَهُوَ إِمَامٌ، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ فِي هَذَا الأَمْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَن النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَن الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى عَصْرِهِ.

وَالأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ أَلَيسُوا بِمُعْتَبَرِينَ؟! الإِمَامُ مَالِكٌ وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالإِمَامُ أَحْمَد كُلُّهُمْ عَلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ القِيمَةِ قَولًا وَاحِدًا، فَالمَسْأَلَةُ لَيسَتْ انْتِقَاءً، يَعْنِي أَنْتَ تَنْتَقِي، لِأَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ إِمَامٍ تَجَمَّعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.

فَنَقُولُ لِلذِّينَ يَقُولُونَ إِنَّمَا هِيَ القِيمَةُ قَولًا وَاحِدًا -أَخْذًا بِقَولِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، نَقُولُ: وَقَدْ رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ المَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، فَهَل تَقْبَلُ أَنْ تُزَوِّجَ ابْنَتَكَ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَأْتِي بِزَوجِهَا وَتَدْخُلُ بِهِ عَلَيكَ؟!!

هُوَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا لَا شَيءَ فِيهِ، هَل تَقْبَلُ هَذَا لِابْنَتِكَ أَو لِأُخْتِكَ؟!!

نَحْنُ نَسْأَلُ لِمَاذَا تَقْبَلُ هَذَا وَلَا تَقْبَلُ هَذَا؟

فَإِذَا خَالَفَ الإِمَامُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ؛ نَعُودُ إِلَى مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا يَنْقُصُ هَذَا مِنْ قَدْرِ الإِمَامِ فِي شَيءٍ؛ لِأَنَّنِي عِنْدَ مُخَالِفَتِهِ أَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُ، كَيفَ أَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُ عِنْدَ مُخَالَفَتِي إِيَّاهُ؟

لِقَولِهِ هُوَ، فَكُلُّهُمْ صَحَّ عَنْهُمْ: ((إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي))، فَإِذَنْ؛ أَنَا إِذَا أَخَذْتُ بِالحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَكُونُ مُتَّبِعًا لِلإِمَامِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَنِي، قَالَ: ((إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي)).

* مِقدَارُ الفِطرَةِ -وَالفِطرَةُ هِيَ صَدَقَةُ الفِطرِ-:

صَاعٌ بِصَاعِ النَّبِيِّ ﷺ الذِي يَبلُغُ وَزنُهُ بِالمَثَاقِيلِ أَربَعَ مِئةٍ وَثَمَانِينَ مِثقَالًا مِنَ البُرِّ الجَيِّدِ، وَبِالجِرَامَاتِ يَبلُغُ كِيلُوَينِ اثنَين وَأَربَعِينَ جِرَامًا مِنَ البُرِّ الجَيِّدِ؛ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعرِفَ الصَّاعَ النَّبوِيَّ فَلَيَزِن كِيلُوَينِ وَأَربَعِينَ جِرَامًا مِنَ البُرِّ، وَيَضَعَهَا فِي إِنَاءٍ بِقَدرِهَا بِحَيثُ تَملَؤهُ ثُمَّ يَكِيلُ بِهِ.

يَكِيلُ بِهِ بَعدَ ذَلِكَ مَا يُخرِجُهُ مِنْ أُرزٍ، أَو مِنْ أَقِطٍ، أَو مِنْ دَقِيقٍ، أَو مَا أَشبَهَ مِنْ طَعَامِ بَنِي آدَم؛ المُهِم أَنَّهُ صَارَ عِندَهُ صَاعُ رَسُولِ اللهِ  ﷺ.

 * وَوَقتُ وُجوبِ الفِطرَةِ:

غُرُوبُ الشَّمسِ مِن لَيلَةِ العِيد؛ فَمَن كَانَ مِن أَهلِ الوُجُوبِ حِينَذَاك وَجَبَت عَلَيهِ، وَإِلَّا فَلَا.

وَعَلَى هَذَا فِإِذَا مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ وَلَو بِدَقَائقَ؛ لَمْ تَجِب صَدَقَةُ الفِطر عَلَيهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعدَ الغُرُوبِ وَلَو بِدَقَائقَ؛ وَجَبَ إِخرَاجُ فِطرَتِه.

*وَلَو وُلِدَ شَخصٌ بَعدَ الغُرُوبِ وَلَو بِدَقَائقَ؛ لَمْ تَجِب فِطرَتُهُ، وَلَكِن يُسَنُّ إِخرَاجُهَا كَمَا فَعَلَ عُثمَانُ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - وَلَو وُلِدَ قَبلَ الغُرُوبِ وَلَو بِدَقَائقَ؛ وَجَبَ إِخرَاجُ الفِطرَةِ عَنهُ.

وَإِنَّمَا كَانَ وَقتُ وُجُوبِهَا غُرُوبَ الشَّمسِ مِن لَيلَةِ العِيدِ؛ لِأَنَّهُ الوَقتُ الذِي يَكُونُ بِهِ الفِطرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: زَكَاةُ الفِطرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَكَانَ مَنَاطُ الحُكمِ ذَلِكَ الوَقت.

* وَأَمَّا زَمَنُ دَفعِهَا: فَلَهُ وَقتَان، وَقتُ فَضِيلَةٍ، وَوَقتُ جَوَازٍ.

*أَمَّا وَقتُ الفَضِيلَة: فَهُوَ صُبحُ يَوم العِيدِ قَبلَ الصَّلَاة؛ لِمَا رُوِيَ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:  «كُنَّا نُخرِجُ يَومَ الفِطرِ فِي عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِن طَعَامٍ».

وَفِيهِ أَيضًا مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ». رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ ابنُ عُيَينَةَ فِي تَفسِيرِهِ:

عَن عَمرِو بنِ دِينَارٍ عَن عِكرِمَةَ قَالَ: يُقَدِّمُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ يَومَ الفِطرِ بَينَ يَدَي صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى15،14]، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الأَفضَلِ تَأخِيرُ صَلَاةِ العِيدِ يَومَ الفِطر؛ لِيَتَّسِعَ الوَقتُ لِإِخرَاجِ الفِطرَةِ؛ فَهَذَا وَقتُ الفَضِيلَة.

*وَأَمَّا وَقتُ الجَوَازِ: فَهُوَ قَبلَ العِيدِ بَيَومٍ أَو يَومَين.

 عِندَ البُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» عَن نَافعٍ قَال: «كَانَ ابنُ عُمَرَ يُعطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُعطِي عَن بَنِيَّ،  وَكَانَ يُعطِيهَا الَّذِينَ يَقبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعطُونَ قَبلَ الفِطرِ بِيَومٍ أَو بِيَومَين».

 وَلَا يَجُوزُ تَأخِيرُهَا عَن صَلَاةِ العِيد؛ فَإِنْ أَخَّرَهَا عَن صَلَاةِ العِيدِ بِلَا عُذرٍ لَمْ تُقبَل مِنهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ  -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: «مَن أَدَّاهَا قَبلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ».

إِنْ أَخَّرَهَا لِعُذرٍ فَلَا بَأَس، كَأَنْ يُصَادِفَهُ العِيدُ لَيسَ عِندَهُ مَا يَدفَعُ مِنهُ، أَو لَيسَ عِندَهُ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيهِ، أَو يَأتِي خَبَرُ ثُبُوتِ العِيدِ مُفَاجِئًا بِحَيثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِن إِخرَاجِهَا قَبلَ الصَّلَاةِ, أَو أَنْ يَكُونَ مُعتَمِدًا عَلَى شَخصٍ فِي إِخرَاجِهَا فَيَنْسَى أَنْ يُخْرِجَهَا؛ فَلَا بَأسَ أَنْ يُخرِجَهَا وَلَو بَعدَ العِيدِ؛ لِأَنَّهُ مَعذُورٌ فِي ذَلِكَ، وَالوَاجِبُ أَنْ تَصِلَ إِلَى مُستَحِقِّهَا أَو وَكِيلِهِ فِي وَقتِهَا قَبلَ الصَّلَاةِ.

وَقَتْ الجَوَازِ -كَمَا مَرَّ لِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الفِطْرِ- قَبْلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو بِيَومَينِ.

الأَحْنَافُ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُخْرَجَ زَكَاةُ الفِطْرِ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ، فَكَيفَ تَكُونُ طُعْمَةً لِلمَسَاكِينَ فِي يَومِ العِيدِ، وَكَيفَ تَكُونُ إِغْنَاءً؟!!

هَذَا مُصَادِمٌ لِلحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُرِضَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا تَكُونُ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى العَبْدِ بِتَوفِيقِ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَهُ بِأَدَاءِ فَرْضِ الصِّيَامِ وَسُنَّةِ القِيَامِ وَمَا تَيَسَّرَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكُلُّ هَذَا يَنْتَفِي عِنْدَمَا نَقُولُ نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ أَوَّلِ يَومٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا نَتَّبِعُ الوَارِدَ عَن الرَّسُولِ ﷺ وَعَنْ صَحَابَتِهِ.

* وَمَكَانُ دَفعِهَا:

تُدفَعُ إِلَى فُقَرَاءِ المَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَقتَ الإِخرَاجِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَحَلّ إِقَامَتِهِ أَو غَيرهِ مِنْ بِلَادِ المُسلِمِينَ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَكَانًا فَاضِلًا كَمَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، أَو كَانَ فُقَرَاؤُهُ أَشَدَّ حَاجَةً؛ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَيسَ فِيهِ مَنْ يَدفَعُ إِلَيهِ، أَو كَانَ لَا يَعرِفُ المُستَحِقِّينَ فِيهِ؛ وَكَّلَ مَنْ يَدفَعُهَا عَنهُ فِي مَكَانٍ فِيهِ مُستَحِق.

*وَالمُستَحِقُّونَ لِزَكَاةِ الفِطرِ:

هُم الفُقَرَاءُ -الفقراءُ المَسَاكِينُ كَمَا بَيَّنَهُم رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: «طُعمَةً لِلمَسَاكِين»، فَلَا تُدفَعُ عَلَى حَسَبِ مَصَارِفِ زَكَاةِ المَالِ، وَإِنَّمَا لَهَا مَصرِفٌ وَاحِدٌ وَهُمْ المَسَاكِينُ وَالفُقَرَاءُ؛ فَيَدفَعُ زَكَاةَ الفِطرِ إِلَيهِم.                                                                      

مُجْتَمَعٌ مُتَكَافِلٌ، هَذَا هُوَ الْمُجْتَمَعُ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِنْشَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِبَعْثَةِ رَسُولِ اللهِ، لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا وُجِدَ فِي الْأَرْضِ مُحْتَاجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَتَكَافَلُوا وَتَنَاصَرُوا، وَتَآزَرُوا وَتَعَاطَفُوا، وَتَسَانَدُوا وَتَعَاضَدُوا، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، وَلَكِنَّ النُّفَوسَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْآفَاتِ وَالْأَمْرَاضِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا أَجْمَعِينَ.

هَذَا هُوَ مُلَخَّصُ- مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي فَرَضَهَا الرَّسُولُ ﷺ.

وَأَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالتَّعَرُّضِ لِرَحَمَاتِ اللهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الإدمان والإفساد في الأرض
  الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  مصر بين حاضر الكفايات وماضي المجاعات
  ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ
  فَضَائِلُ الِاسْتِغْفَارِ
  التَّضْحِيَةُ لِأَجْلِ الْوَطَنِ سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان