((تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، وَالْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ))
خُطْبَةُ لعِيدِ الْفِطْرِ: لِعَامِ ((1438هـ /2017م))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ))
فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- نَادَى النَّاسَ كُلَّهُمْ: مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ، عَرَبِيَّهُمْ وَعَجَمِيَّهُمْ بِأَوَّلِ نِدَاءٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا أَمْرًا وَاحِدًا؛ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ، وَأَنْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
وَهُوَ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَذَكَّرَهُم اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَلْقِهِ لَهُمْ، وَخَلْقِهِ لِآبَائِهِمُ الْأَقْدَمِينَ.
وَبِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ الْمَفْرُوشَةِ، وَالسَّمَاءِ الْمَرْفُوعَةِ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا.
وَنَهَاهُمْ جَمِيعًا نَهْيًا وَاحِدًا: أَلَّا يَجْعَلُوا لَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْدَادًا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ وَحْدَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِله أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!))
إِذَا كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.
وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!
إِنَّ تَوْحِيدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِرِيَاءٍ وَلَا بِسُمْعَةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخْلَطَ بِشِرْكٍ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِأَجْلِهِ، وَأَنْزَلَ الْكُتَبَ لِأَجْلِهِ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِأَجْلِهِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَالْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الْأَعْرَاف: 65].
فَكُلُّ رَسُولٍ أُرْسِلَ، وَكُلُّ نَبِيٍّ نُبِّئَ قَالَ لِقَوْمِهِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
فَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)).
فَالْفَلَاحُ كُلُّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلُ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
التَّوْحِيدُ تَتَحَرَّرُ بِهِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِمَنْ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَإِنَّهُ مُمَزَّقُ النَّفْسِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَهُوَ مُوَزَّعُ الْقُوَى، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْجَادَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ صِرَاطَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُسْتَقِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالْاتِّبَاعِ.
وَإِنَّ نَبِيَّنَا ﷺ قَدْ دَعَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ إِلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ حَمَى حِمَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَلَا مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يُغَالُوا فِيهِ ﷺ، فَنَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِيهِ، وَقَالَ ﷺ: ((قُولُوا: عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُهُ)).
فَالْعُبُودِيَّةُ الَّتِي حَقَّقَهَا أَعْظَمُ مَا حَقَّقَهَا مَخْلُوقٌ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَقَامَاتِ الَّتِي يُتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكَانَ ﷺ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَقُولُ: ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ)). وَهُوَ رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ خَلِيلُ اللهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ ﷺ.
((نِعْمَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، لَا يَقْبَل اللهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ؛ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [آل عِمْرَان: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عِمْرَان: 85].
وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُحَقِّقًا لِهَذَا الدِّينِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، حَتَّى يَنْقَادَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُسْتَسْلِمًا، فَيَأْتِيَ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَكُونَ مُذْعِنًا لِأَمْرِ رَبِّهِ الَّذِي بَلَّغَهُ نَبِيُّهُ ﷺ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكْفِي، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ لَمَّا اخْتَارَ لَكُمْ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ أَعْظَمُ نِعَمِ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ.
فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا دِينَ رَبِّكُمْ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوا إِلَيْهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَّقَ الْفَلَاحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [الْعَصْر: 1-3].
فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِيمَانَ بِدُونِ عَمَلٍ، إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ اللِّسَانُ، وَقَامَتِ الْجَوَارِحُ بِمَا أَلْزَمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ: عَقْدُ الْقَلْبِ، وَنُطْقُ اللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ أَعْظَمُ دِينٍ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ.
هُوَ الدِّينُ الَّذِي خَلَقَ اللهُ لِأَجْلِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَقَامَتْ بِسَبَبِهِ مَعْرَكَةُ الْجِهَادِ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ، وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.
وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ أَعْظَمُ مِنَّةٍ مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عَبْدٍ.
الدِّينُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، يَأْمُرُ بِالْبِرِّ وَيَنْهَى عَنِ الْعُقُوقِ، يَأْمُرُ بِالْأَمَانَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخِيَانَةِ، يَأْمُرُ بِالصِّلَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، يَأْمُرُ بِالْائْتِلَافِ وَيَنْهَى عَنِ الْاخْتِلَافِ.
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَنْهَى عَنِ البِدْعَةِ، يَأْمُرُ بِالْحَقِيقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخُـرَافَةِ.
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ.
((تَزْكِيَةُ النَّفْسِ سَبِيلُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ))
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَقْسَمَ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ مُتَوَالِيَةٍ عَلَى قَضِيَّةٍ هِيَ قَضِيَّةُ الْعُمُرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشَّمْس: 9-10].
وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، فَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَبِالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَبِالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَبِاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَأَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَبَانِيهَا، وَالْأَرْضِ وَطَاحِيهَا، وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالنَّفْسِ وَمَا سَوَّاهَا، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}، فَهَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْأَخْطَرُ فِي حَيَاةِ كُلِّ إِنْسَانٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ أَنَّ الْفَلَاحَ مَرْهُونٌ بِهَا، وَأَنَّ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ فِي مُجَانَبَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ زَكَّا نَفْسَهُ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ.
فَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعُظْمَى فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَالَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نَجَاحِهِ وَخُسْرَانِهِ، وَعَلَى مَدَارِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَكُونُ سَعَادَتُهُ دُنْيَا وَآخِرَةً.
وَالتَّأَمُّلُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَزِيدُ الْإِيمَانَ، يَزِيدُ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، يَزِيدُ الْمَرْءَ قُرْبًا مِنَ اللهِ، وَخُشُوعًا لَهُ، وَإِنَابَةً وَإِقْبَالًا عَلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَمِمَّا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ، وَيَزِيدُ بِهِ الْإِيمَانُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوْصُولَةً، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي اِفْتَرَضَ عَلَيْنَا، وَالَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا نَبِيُّنَا ﷺ، جَعَلَ لَهَا مَرْدُودًا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَفِي تَطْهِيرِهَا، وَبُعْدِهَا عَمَّا يُشِينُهَا دُنْيَا وَآخِرَةً.
فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّلَاةَ، وَبيَّنَ لَنَا أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
فَمَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ فَقَدْ حَسُنَ إْسَلَامُهُ، وَإِسْلَامُ الْمَرْءِ عَلَى قَدْرِ صَلَاتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ إِسْلَامَهُ وَأَنْ يَتَيَقَّنَ مِنْ حَقِيقَتِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ إِلَى صَلَاتِهِ، فَعَلَى قَدْرِ صَلَاتِكَ يَكُونُ إِسْلَامُكَ.
وَفَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّدَقَةَ؛ تَطْهِيرًا، وَتَنْمِيَةً، وَتَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ.
وَفَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ؛ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى- وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْذُورَاتِ-، وَليَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ كَيْفَ يَكُونُ زِمَامُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسِهِ بِيَدِهِ؛ حَتَّى لَا تُصَرِّفَهُ النَّفْسُ فِي أَهْوَائِهَا، وَحَتَّى لَا تَمْضِيَ بِهِ النَّفْسُ عَلَى شَهَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ.
وَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ إِلَى اللهِ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ
فَمَنْ قَدَّرَ الْقُرْآنَ قَدْرَهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَأَشْبَعَ بِهِ قَلْبَهُ وَنَفْسَهُ؛ زَكَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَإِنَّ مِمَّا يُزَكِّي بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الْمَعَاصِي؛ أَنْ يَفْعَلَ الْحَسَنَاتِ، أَنْ يَجْتَهِدَ فِي جَلْبِ الطَّاعَاتِ، مُخْلِصًا لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ السَّيِّئَاتِ.
فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ يُزَكِّي بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ.
((مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟))
إِنَّهُ وَإِنِ انْقَضَىٰ شَهْرُ رَمَضَانَ فَإِنَّ عَمَلَ المُؤْمِنِ لا يَنْقَضِي قَبْلَ المَوْتِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وَقَالَ تَعَالىٰ: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ اِنْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ»، فَلَمْ يَجْعَلْ لِانْقِطَاعِ الْعَمَلِ غَايَةً إِلَّا المَوْتَ.
فَلَئِنِ انْقَضَىٰ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّ المُؤْمِنَ لَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ عِبَادَةِ الصِّيَامِ بِذَلِكَ.
فَالصِّيَامُ لا يَزَالُ مَشْرُوعًا، وَللهِ الحَمْدُ، فِي الْعَامِ كُلِّهِ.
فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».
وَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَىٰ رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ ﷺ -وَذَكَرَ مِنْهَا-: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ».
وَالأَوْلَىٰ أَنْ تَكُونَ أَيَّامَ الْبِيضِ، وَهِيَ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالخَامِسَ عَشَرَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ».
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟
فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ».
وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ؟
فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ».
وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟
فَقَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ».
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟
قَالَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ».
وفي «الصَّحِيحَينِ» عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ»، وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلاً».
وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ.
فَلَئِنِ انْقَضَىٰ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ القِيَامَ لا يَزَالُ مَشْرُوعًا، وَللهِ الحَمْدُ، فِي كُلِّ لَيلَةٍ مِنْ لَيَالِي السَّنَةِ، ثَابِتًا مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَولِهِ.
فَفِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» عَنِ المُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيَقُومُ؛ لِيُصَلِّيَ حَتَّىٰ تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ».
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ».
وَصَلاةُ اللَّيِلِ تَشْمَلُ التَّطَوُّعَ كُلَّهُ وَالْوِتْرَ، فَيُصَلِّي مَثْنَىٰ، مَثْنَىٰ، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّىٰ وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ مَا صَلَّىٰ.
وَإِنْ شَاءَ صَلَّىٰ عَلىٰ مَا ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ السُّنَّةُ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّهُ «مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً».
وَفِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَىٰ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ».
وَالرَّوَاتِبُ التَّابِعَةُ لِلْفَرِائِضِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الفَجْرِ.
فَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي للهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ».
وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ صَلَّىٰ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالذِّكْرُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَحَثَّ عَليهِ رَسُولُهُ ﷺ؛ قَالَ تَعَالىٰ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النِّسَاء: 103].
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا سَلَّمَ اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». رَوَاهُ مْسْلِمٌ.
((الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَجَدَهُمْ يَحْتَفِلُونَ بِيَوْمَيْنِ، فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «إنَّ اللهَ أَبْدَلَكُمْ خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الْأَضْحَى».
فَهَذَانِ هُمَا عِيدَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ شَعَائِرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفَرَحُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَجَعَلَ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ بِعَقِبِ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَفَرْضَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ عِيدَ الْفِطْرِ هُوَ مِنْ أَجْلِ الْفِطْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يَفْرَحُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِأَدَاءِ هَذَا النُّسُكِ الْعَظِيمِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ مِنْ ذَبْحِ مَطَامِعِ النَّفْسِ وَشَهَواتِهَا؛ قُرْبَانًا للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
فَبَعْدَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ شَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفَرَحَ فِي يَومِ الْفِطْرِ: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الْبَقَرَة: ١٨٥].
وَشَرَعَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَيْضًا الْفَرَحَ فِي أَيَّامٍ هِيَ مِن أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَومُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيِقِ أَعْيَادُنَا أَهْلَ الإسْلَامِ».
وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْإِنْسَانُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ: الْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ بِعَقِبِ أَدَاءِ النُّسُكِ الجَلِيلِ الَّذِي يُيَسِّرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِن عِبَادِهِ؛ مِنَّةً مِنْهُ، وَعَطَاءً.
«الْفَرَحُ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ»:
فَهَذِهِ الْأَعْيَادُ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُعَظِّمَ شَعَائِرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَفْرَحَ فِيهَا، الْفَرَحُ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُعَظَّمَ.
وَهَذَا الْفَرَحُ كَالحُزْنِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدَ، وَلَيْسَ مُرْسَلًا مُطْلَقًا، فَالحُزْنُ الهَادِفُ وَالفَرَحُ الهَادِفُ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ دِينُ الإِسْلَامِ، فَلَا شَيْءَ مُنْفَلِتُ الزِّمَامِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَواءٌ تَعَلَّقَ بِالْمَشَاعِرِ أَمْ تَعَلَّقَ بالْعَوَاطِفِ، أَمْ تَعَلَّقَ بالْعَقْلِ أَمْ تَعَلَّقَ بِالجَوَارِحِ، بَلْ كُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَضْبُوطَةٌ بِضَابِطِ الشَّرْعِ، وَمَحْكُومَةٌ بِقَيْدِ الشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ.
الرَّسُولُ ﷺ فِي عَاطِفَةِ الحُزْنِ يَقُولُ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُ بِهَذَا أَوْ يَرْحَمُ -وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ ﷺ-».
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُذْهِبُ اللُّبَّ وَتَذْهَبُ بِالعَقْلِ، قَيَّدَهَا الْإِسْلَامُ العَظِيمُ بِقَوَاعِدَ وَأُصُولٍ، يَقُولُ: «إِنَّ القَلْبَ لَيَحْزَنُ، وَإِنَّ العَيْنَ لَتَدْمَعُ، وَلَا نَقُولُ فِي النِّهَايَةِ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا».
وَفِي الْفَرَحِ كَذَلِكَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يُونُس: ٥٨].
فَإِذَنْ؛ الْفَرَحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبِرَحْمَتِهِ، وَتَعَلَمُ أَنَّهُ لَنْ يَشْبَعَ مُؤمِنٌ مِنْ خَيْرٍ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةَ.
وَالْإِنْسانُ لَا يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ؛ حَتَّى يَطَأَ بِقَدِمِهِ الجَنَّةَ.
لَيَكُنِ الْمُسْلِمُ فَرِحًا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِإِدْرَاكِ رَمَضَانَ، وَعَمَلِ مَا تَيَسَّرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
فَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ وَقِيَامَهُ؛ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا مِنْ أَسْبَابِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْآثَامِ.
فَالْمُؤْمِنُ يَفْرَحُ بِإِكْمَالِهِ الصَّوْمَ وَالْقِيَامَ، وَلِتَخَلُّصِهِ بِهِ مِنَ الْآثَامِ، وَضَعِيفُ الْإِيمَانِ يَفْرَحُ بِإِكْمَالِهِ؛ لِتَخَلُّصِهِ مِنَ الصِّيَامِ الَّذِي كَانَ ثَقِيلًا عَلَيْهِ، ضَائِقًا بِهِ صَدْرُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرَحَيْنِ عَظِيمٌ!!
*مُخَالَفَاتٌ مُشْتَهِرَةٌ يَوْمَ الْعِيدِ:
وَنَحْرِصُ إِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَلَّا نَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخَالِفَةِ لِهَدْيِ نَبِيِّنَا ﷺ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ:
مِنَ التَّزَيُّنِ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الرِّجَالِ!!
وَمُصَافَحَةِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ.
وَالتَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ وَالْغَرْبِيِّينَ فِي الْمَلَابِسِ, وَاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ, وَتَبَرُّجِ النِّسَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اتِّخَاذِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنهُمْ».
*تَخْصِيصُ يَوْمِ الْعِيدِ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بِدْعَةٌ:
وَتَخْصِيصُ يَوْمِ الْعِيدِ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ لَيْسَ مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدَعِ الْمَرْذُولَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ؛ لَا مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ.
((لِمَاذَا لَا تَتُوبُ الْآنَ؟!))
عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَحْرِمَ نَفْسَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
كَمْ كَانَ مَعَنَا مِنْ عَامٍ خَلَا مِنْ أَقْوَامٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوُدِّ، وَالسَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ!
كَمْ كَانَ مَعَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَلَنْ يَعُودُوا!!
فَيَذْهَبُ الْمَرْءُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ جَعَلَهُ اللهُ غَيْبًا مُغيَّبًا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَعْلَمُ انْتِهَاءَهُ وَانْقِضَاءَهُ إِلَّا اللهُ.
وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّ أَمَامَهُ عُمُرًا طَوِيلًا مَدِيدًا!!
وَمَا أَهْلَكَ النَّاسَ شَيْءٌ كَالتَّسْوِيفِ وَالْأَمَلِ، بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْمَلَ كَأَنَّهُ سَيَمُوتُ غَدًا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِرْضَاءِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لِمَ لَا تَتُوبُ الْآنَ؟!
وَمَنْ أَدْرَاكَ أَنَّكَ تَعِيشُ بَعْدَ الْآنِ، وَلَوْ لَحْظَةً؟!
لِمَ لَا تَتُوبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْآنَ؟!
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى رَبِّهِ، وَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ كَلِمَةً يَقُولُهَا اللِّسَانُ، بَلْ قَوْلُ اللِّسَانِ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَعْزِمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهَا.
وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِإِخْلَاصٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلُعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَهَذَا أَوَانُ انْقِضَاءِ زَمَانِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبْةِ لِعُمُومِ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، فَقَدِ انْتَهَى وَقْتُ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَلَغَتْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ.
فَلِمَ تُسوِّفُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ؟!
لِمَ لَا تَسْتَدْرِكُ، وَأَنْتَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِكَ؟
لِمَ لَا تَتُوبُ إِلَى رَبِّكَ وَخَاصَّةً فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ؟!
فَإِذَا كَانَ لِأَحَدٍ عِنْدَكَ مَظْلِمَةٌ فَأَدِّهْا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، اِسْتَرْضِهِ، إِنْ كُنْتَ قَدْ ضَرَبْتَهُ؛ ظُلْمًا فَمَكِّنْهُ مِنْ ضَرْبِكَ.
إِنْ كُنْتَ قَدِ اغْتَبْتَهُ؛ فَحَاوِلْ أَنْ تَسْتَحِلَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْكَ مِمَّا وَقَعْتَ فِيهِ فِي حَقِّهِ بِلِسَانِكَ إِلَّا بِبَذْلِ مَالٍ؛ فَابْذُلْ لَهُ الْمَالَ الْآنَ؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَحِلَّهُ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ حَسَنَاتِكَ أَنْتَ!
وَقَدْ تَحْتَاجُ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَرْجَحُ بِهَا حَسَنَاتُكَ عَلَى سَيِّئَاتِكَ؛ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْجَنَّةِ.
لِمَ لَا تُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا؟!
لِمَ تَظْلِمُ الْخَلْقَ؟!
لِمَ تَتَنَاوَلُ الْأَعْرَاضَ؟!
لِمَ تَقَعُ عَلَى النَّاسِ فِي أَبْشَارِهِمْ؛ فِي أَجْسَادِهِمْ؛ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ فِي أَعْرَاضِهِمْ؟!
لِمَاذَا لَا تَخْزِنُ لِسَانَكَ؟!
لِمَ لَا تَتَّقِ اللهَ رَبَّكَ؟!
لِمَاذَا لَا تَتُوبُ؟!
لِمَاذَا أَنْتَ هَكَذَا كَالجَبَّارِ فِي الْأَرْضِ؟!
مَعَ أَنَّ الْمَرَضَ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْكَ لَأَقْعَدَكَ، لَشَلَّكَ، لَجَعَلَكَ لَاطِئًا فِي الْأَرْضِ، وَحَبَسَكَ رَبُّكَ فِي جِلْدِكَ.
اتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَتُبْ إِلَيْهِ، وَأَخْلِصْ فِي التَّوْبَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((نَصِيحَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلنِّسَاءِ يَوْمَ الْعِيدِ))
كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ لِلرِّجَالِ؛ تَوَجَّهَ إِلَى النِّسَاءِ يَعِظُهُنَّ، يَقُولُ: ((اتَّقِينَ اللهَ؛ فَإِنِّي اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فوَجَدْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ)).
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صِنْفَانِ مِنَ النَّاسِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلاَتٌ مُمِيلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا)) .
عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نَفْسِهَا، فِي عِرْضِهَا، فِي لَحْمِهَا، فِي دَمِهَا، فِي بَيْتِهَا، فِي زَوْجِهَا، فِي أَبْنَائِهَا، فِي دِينِهَا وَأُمَّتِهَا، فِي وَطَنِهَا، أَلَّا تَكُونَ مَثَارَ فِتْنَةٍ تَضِيعُ بِسَبَبِهَا الْأَعْمَارُ، وَتُهْدَرُ بِسَبَبِهَا الْقُوَى.
قَالَﷺ: ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي اِطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَوَجَدْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، يَكْفُرْنَ)).
فَقَامَتِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟
قَالَﷺ: ((لَا، يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، إِنَّ إِحْدَاكُنَّ لَوْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَسَاءَ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ قَالَتْ: مَا وَجَدْتُ مِنْكَ إِحْسَانًا قَطُّ)).
جُحُودٌ وَنُكْرَانٌ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا خَلَقَ اللهُ النِّسَاءَ، ((خَلَقَهَا اللهُ –أَيِ: الْمَرْأَةَ- مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ أَنْتَ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ؛ كَسَرْتَهُ، وَإِنِ اِسْتَمْتَعْتَ بِهَا؛ اِسْتَمْتَعْتَ بِهَا عَلَى عِوَجٍ)).
((رِسَالَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ: اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْكُلَّ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ -سَفِينَةِ الْوَطَنِ-، فَإِنْ كُسِرَتْ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ- غَرِقَ الْجَمِيعُ، لَنْ تَبْقَى حِينَئِذٍ عَدَاوَةٌ تَنْفَعُ، وَالْخِيَانَةُ هِيَ الْخِيَانَةُ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَنْفُسِكِمْ، وَفِيمَنْ وَرَاءَكُم، وَفِي وَطَنِكُمْ، فِي تُرَابِكُمْ، فِي أَرْضِكُمْ، فِي هَوَائِكُمْ وَمَائِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَتَوَجَّبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَأَنْ تُدَافِعُوا عَنْهُ.
وَقَدْ قَضَى رَبُّنَا وَقَدَّرَ أَنْ يَكُونَ أَمْنُ مِصْرَ أَمْنَ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَائِطُ الصَّدِّ الَّذِي إِذَا مَا هُدِمَ؛ اكْتَسَحَتِ الْأُمَّةَ سُيُولُ الضَّلَالَةِ، سُيُولُ الْإِلْحَادِ، سُيُولُ الْفَوَاحِشِ، حَتَّى لَا تَبْقَى فِيهَا مَكْرُمَةٌ.
جَمِيعًا مُسْتَهْدَفُونَ، مَنْ أَحَبَّ وَمَنْ كَرِهَ، مَنْ أَقْبَلَ وَمَنْ أَدْبَرَ، مَنْ جَاءَ وَمَنْ رَاحَ، مَنْ عَزَّ وَمَنْ ذَلَّ، الْكُلُّ مُسْتَهْدَفٌ.
أَفِيقُوا!
وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ الْوَاقِعَةُ.
سَلَّمَكُمُ اللهُ وَحَمَاكُمْ، وَسَلَّمَ اللهُ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْسَنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَرْحَمَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَ أَمْوَاتَنَا، وَجَمِيعَ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ، إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
رابط تحميل الخطبة PDF من موقع الشيخ الرسمي
http://www.rslan.com/book/view-30.html