إِذَا اسْتَنَارَ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ أَنَارَ الدُّنْيَا

إِذَا اسْتَنَارَ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ أَنَارَ الدُّنْيَا

((إِذَا اسْتَنَارَ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ أَنَارَ الدُّنْيَا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْعِلْمُ أَوَّلًا))

فَإِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَفْهَمَ طَبِيعَةَ الدِّينِ، هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ.

الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ الدِّينُ الْكَامِلُ الَّذِي كَمَّلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَكْمَلَهُ، لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا يَلْحَقُهُ نُقْصَانٌ، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

هَذَا الدِّينُ فِي طَبِيعَتِهِ تَسْلِيمٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَا لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّهِ.

لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ خَيْبَرَ، وَكَانَ فِيهِمْ جُوعٌ شَدِيدٌ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا تِلْكَ الْبَقْلَةَ -الثُّومَ- حَتَّى أَكَلُوا مِنْهَا أَكْلًا ذَرِيعًا، وَذَهَبُوا يُصَلُّونَ خَلْفَ الرَّسُولِ ﷺ، فَوَجَدَ الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ؛ فَقَالَ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ)).

فَقَالَ النَّاسُ: ((حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ)).

فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: أَوَّلَ يَوْمٍ: ((الثُّومِ))، ثُمَّ قَالَ: ((الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ؛ فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي مَسَاجِدِنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

فِي رِوَايَةٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقالَ: ((قَرِّبُوهَا)) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: ((كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي)).

فَكَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا ﷺ؛ لِمَوْضِعِ الرِّيحِ الْخَبِيثَةِ مِنْهَا، وَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ابْتَعَدَ عَنْهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ النَّاسِ فَإِذَا أَكَلُوهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّيحِ الْخَبِيثَةِ الْمُنَفِّرَةِ، وَأَمَّا إِذَا مَا قَتَلُوهَا طَبْخًا أَوْ أَكَلُوهَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَلَا حَرَجَ.

الشَّاهِدُ أَنَّهُ حَتَّى الرَّسُولُ ﷺ لَا يُحَلِّلُ وَلَا يُحَرِّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْلِيلُ شَيْءٍ وَلَا تَحْرِيمُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

نَفْهَمُ طَبِيعَةَ الدِّينِ.. طَبِيعَةُ الدِّينِ مَبْنِيَّةٌ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ- عَلَى أَنْ تَبْذُلَ الْجَهْدَ، وَأَنْ تَأْتِيَ بِالْمَجْهُودِ، وَلَا تَنْتَظِرَ النَّتِيجَةَ، فَلَيْسَتْ عَلَيْكَ، وَلَيْسَتْ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ كُنْ صَحِيحًا فِي اعْتِقَادِكَ، مُنْضَبِطًا فِي مَنْهَجِكَ وَحَرَكَةِ حَيَاتِكَ، وَلَا عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ؛ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ -يَعْنِي: يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَيَّنَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-- يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ -مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ- ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ -تَصْغِيرُ الرَّهْطِ-، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ؛ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى ﷺ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ)).

((وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ)).. قُدْوَةٌ سُلُوكِيَّةٌ، مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مَعْصُومٌ، أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَتَّبِعْهُ أَحَدٌ، فَهَلْ قَصَّرَ؟!

لَمْ يُقَصِّرْ.

هَلْ يُجَازَى بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ أَحَدٌ؟!

لَا عَلَيْهِ، الْمُهِمُّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بِهِ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَنَصَحَ أُمَّتَهُ، وَلَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَهُ مَنْ يَتَّبِعُهُ، أَوْ يَصُدَّ عَنْهُ مَنْ يَصُدُّ.

هَذِهِ وَاحِدَةٌ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ عَظِيمَةٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ -وَهُوَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ- كَانَ يُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا، يُؤْتَى بِالْجَمْرِ الْمَحْمِيِّ ثُمَّ يُجْعَلُ فِي ظَهْرِهِ، فَمَا يُطْفِئُ الْجَمْرَ إِلَّا الدُّهْنُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ ظَهْرِ خَبَّابٍ، وَالْجَوُّ تَنْتَشِرُ فِيهِ رَائِحَةُ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ مِنْ ظَهْرِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ فِي فَتْرَةِ الِاسْتِضْعَافِ وَفِي فَتْرَةِ الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ وَالْمَعَارِكِ الدَّامِيَةِ؛ مِنَ التَّشْرِيدِ، وَمِنَ الْقَتْلِ، وَمِنَ التَّعْذِيبِ، وَمِنَ الطَّرْدِ، وَمِنَ الِاضْطِهَادِ الَّذِي يَبْلُغُ إِلَى تَرْكِ مَرَاتِعِ الشَّبَابِ وَمَلَاعِبِ الصِّبَا، وَالْبُعْدِ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ الْحَنِينُ، يَخْرُجُ الْمَرْءُ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ يَتْرُكُ دَارَهُ، وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ، وَيَتْرُكُ عَشِيرَتَهُ، وَيَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ لِسَانُهُ لَا يُوَافِقُهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ لِسَانًا آخَرَ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا، وَلَا عَادَاتُهُمْ بِعَادَاتِهِ، وَلَا دِينُهُمْ بِدِينِهِ، وَيَعْبُرُ الْبَحْرَ وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُونُوا مُتَعَوِّدِينَ عَلَى رُكُوبِ الْأَمْوَاجِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَرْكَبُونَ الْجِمَالَ فِي الصَّحْرَاءِ.

قَالَ خَبَّابٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ))-: ((شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: ((أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟)).

فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ.. النَّبِيُّ ﷺ مُضْطَجِعٌ قَدْ تَوَسَّدَ -جَعَلَ وِسَادَةً تَحْتَ رَأْسِهِ- بُرْدَةً ﷺ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، جَاءَ خَبَّابٌ مُسْتَضْعَفٌ، مُعَذَّبٌ، مُضْطَهَدٌ، مُشَرَّدٌ، الدُّهْنُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ ظَهْرِهِ هُوَ الَّذِي يُطْفِئُ الْجَمْرَ الْمَحْمِيَّ فِي النَّارِ، وَقَدْ وُضِعَ فِي ظَهْرِهِ بِلَا هَوَادَةٍ، وَبِلَا رَحْمَةٍ-، يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ شَاكِيًا يَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟!)).

أَنْتَ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، ادْعُ عَلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؛ حَتَّى يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَيْنِ، حَتَّى يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، حَتَّى يَنْصُرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِلَا سَبَبٍ.

((أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟)).

قَالَ ﷺ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ -حَتَّى يَصِيرَ الْوَاحِدُ ثِنْتَيْنِ، وَكُلُّ نِصْفٍ يَسْقُطُ إِلَى جَانِبٍ-، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ -يَعْنِي: ذَلِكَ التَّعْذِيبُ- عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ! لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ -يَعْنِي: الدِّينَ، لَيَغْلِبَنَّ هَذَا الدِّينُ، وَلَيَعْلُوَنَّ شَأْنُهُ فِي الْعَالَمِينَ-، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)).

لِمَاذَا تَسْتَعْجِلُونَ؟!!

يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا صَحِيحِي الْمُعْتَقَدِ، آخِذِينَ بِالتَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ، مُلِمِّينَ بِجَوَانِبِهِ، خَارِجِينَ مِنَ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَنْصُرَ دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَنْ بِهِ شِرْكٌ.

وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).

((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ)).

((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ)).

ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.

هُوَ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَشِرْكٌ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ شِرْكٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

لَا يَحْلِفُ الْعَبْدُ إِلَّا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-!

وَلَا يُقَدِّسُ الْقُبُورَ!

وَلَا يَطُوفُ بِهَا!

وَلَا يَنْذِرُ لَهَا!

وَلَا يَذْبَحُ إِلَّا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!

أُمَّةٌ مُوَحِّدَةٌ، هَذِهِ خَاصِّيَّتُهَا الْأُولَى الَّتِي جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ، لَا يَقْبَلُ فِيهَا هَوَادَةً أَبَدًا، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

((مَا شَاءَ وَشِئْتَ)).. النَّاسُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ أَقْبَحَ مِنْهَا بِكَثِيرٍ؛ يَقُولُونَ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَدْ يَقْلِبُونَهَا فَيَقُولُونَ: أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَيْكَ وَعَلَى اللهِ، أَنَا بِكَ، ثُمَّ بِاللهِ!

لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصُّورَةُ هَكَذَا أَصْلًا!

وَأَمَّا ((مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ))؛ يَغْضَبُ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ، وَيَقُولُ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا -يَعْنِي: مُسَاوِيًا-، مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شِئْتَ)).

إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَقُلْ: ((مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شِئْتَ)).

(الْوَاوُ) وَ (ثُمَّ) هَلْ هَذَا أَمْرٌ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَحَدٌ الْآنَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِهَا هَكَذَا فَقَدْ جَعَلَ للهِ نِدًّا، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

أُمَّةٌ مُوَحِّدَةٌ صَحِيحَةٌ فِي مُعْتَقَدِهَا، لَا هَائِمَةٌ عَلَى وَجْهِهَا.

هَذَا الدِّينُ قَاعِدَتُهُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ: عَلِّمْ وَثَقِّفْ، ثُمَّ كَتِّلْ وَجَمِّعْ، لَا جَمِّعْ وَكَتِّلْ، ثُمَّ عَلِّمْ وَثَقِّفْ، قَطِيعٌ هُوَ؟!!

هَذَا لَا يَجُوزُ، لَيْسَ زَفَّةً وَلَيْسَ مَوْلِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُنْتَهَى دِينٌ، وَهَذِهِ قَاعِدَتُهُ: عَلِّمْ وَثَقِّفْ، ثُمَّ كَتِّلْ ثُمَّ جَمِّعْ.

مَنْ تَعَلَّمَ، وَمَنْ تَثَقَّفَ، وَمَنْ وَحَّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ لِكَيْ يَكُونُوا الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الرَّايَةَ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيَنْصُرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا: كَتِّلْ جَمِّعْ، ثُمَّ يَكُونُ كَالْقَطِيعِ بِهُتَافٍ نَاعِقٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيمَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَثَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النِّهَايَةِ تَمْرِينَاتٌ نَافِعَةٌ لِلْحَنْجَرَةِ هِتَافًا، وَتَمْرِينَاتٌ نَافِعَةٌ لِلْأَيْدِي تَشْوِيحًا، وَتَمْرِينَاتٌ نَافِعَةٌ لِلْأَرْجُلِ عِنْدَ وُقُوعِ الصِّدَامِ، لَا شَيْءَ.

حَقِيقَةُ الدِّينِ وَطَبِيعَتُهُ، ((وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ تَسْتَعْجِلُونَ))، لَا تَسْتَعْجِلُوا، هُوَ دِينُ اللهِ، وَهُوَ مَنْصُورٌ، وَلَكِنْ أَدُّوا مَا عَلَيْكُمْ، كُونُوا رِجَالًا مُؤْمِنِينَ مُوَحِّدِينَ بِحَقٍّ، مُتَّبِعِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِصِدْقٍ، ثُمَّ عِنْدَكَ الْفَلَاحُ مِنَ اللهِ مُقْسَمٌ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُلْجِئُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْءٌ إِلَى الْقَسَمِ أَبَدًا؛ إِذْ هُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الصِّدْقُ، وَالَّذِي فِعْلُهُ وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 1-3]: عَلِمُوا الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ.

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}: الْعِلْمُ أَوَّلًا.

{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.. الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ}، وَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ الْعَمَلُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.

مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}.. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]: لَا فَاصِلَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحَرَكَةِ لِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، إِذَا وُجِدَتْ فَجْوَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ يَمْلَأُهَا النِّفَاقُ وَيَرْدُمُهَا الرِّيَاءُ، لَا فَاصِلَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ مُبَاشِرٌ، لَا فَاصِلَ بَيْنَ عِلْمٍ وَعَمَلٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ إِذَا مَا جَاءَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُنْضَبِطِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُتَقَبَّلِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: دَعْوَةً إِلَيْهِ، وَحَضًّا وَحَثًّا لِلنَّاسِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ يَأْتِي الْأَذَى وَلَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَكُلَّ آمِرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَنَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَذَى، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].

وَفِي الْمُنْتَهَى هُوَ التَّوْحِيدُ بِتَجْرِيدِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ بِتَجْرِيدِهِ لِلنَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَإِلَّا فَلَا نَجَاةَ لَا عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ وَلَا عَلَى مُسْتَوَى الْمَجْمُوعِ.

وَالْأُمَّةُ تَحْتَاجُ الْيَوْمَ هَؤُلَاءِ الْأَبْنَاءَ مِنْ أَبْنَائِهَا الْبَرَرَةِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا النَّبِيَّ الْأَمِينَ ﷺ، وَأَنْ يَجْمَعَهُمْ طَرِيقٌ وَاحِدٌ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَحْتَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ -رَايَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ-.

((فَضَائِلُ الْعِلْمِ))

((لَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.

فَالْعِلْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ.. عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا قَامَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالْبُرْهَانُ.

وَالثَّانِي: الْقِتَالُ وَالسِّنَانُ.

فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ دِينُ اللهِ وَيَظْهَرَ إِلَّا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُغِيرُ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى تَبْلُغَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَكُونُ الْعِلْمُ قَدْ سَبَقَ الْقِتَالَ.

قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].

فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَابِلٍ، أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ أَيْ: كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟! وَالطَّرَفُ الثَّانِي الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.

فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا أَوْ قَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ هُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ؟

الْجَوَابُ: لَا يَسْتَوِي؛ فَهَذَا الَّذِي هُوَ قَانِتٌ يَرْجُو ثَوَابَ اللهَ وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ، هَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ؟

الْجَوَابُ: عَنْ عِلْمٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

لَا يَسْتَوِي الَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ، كَمَا لَا يَسْتَوِي الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، وَالسَّمِيعُ وَالْأَصَمُّ، وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى.

الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

وَلِهَذَا نَجِدُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مَحَلُّ الثَّنَاءِ، كُلَّمَا ذُكِرُوا أُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا رَفْعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَرْتَفِعُونَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا.

إِنَّ الْعَابِدَ حَقًّا هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ، وَهَذِهِ سَبِيلُ النَّبِيِّ ﷺ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَطَهَّرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، هَلْ هُوَ كَالَّذِي يَتَطَهَّرُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يَتَطَهَّرَا؟

أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ؛ رَجُلٌ يَتَطَهَّرُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ، وَأَنَّهَا هِيَ طَهَارَةُ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَتَطَهَّرُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَمْ رَجُلٌ آخَرُ يَتَطَهَّرُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُ؟

بِلَا شَكٍّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ.

فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدًا، لَكِنْ هَذَا عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ يَرْجُو اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَشْعُرُ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ ﷺ.

بِالْعِلْمِ يَعْبُدُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِالْعِبَادَةِ، وَيَتَنَوَّرُ قَلْبُهُ بِهَا، وَيَكُونُ فَاعِلًا لَهَا عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا عَادَةٌ، وَلِهَذَا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.

وَمِنْ أَهَمِّ فَضَائِلِ الْعِلْمِ:

* أَنَّهُ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ إِرْثِ الْأَنْبِيَاءِ.

إِذَا كُنْتَ فِي هَذَا الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَأَنْتَ مِنْ وُرَّاثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْفَضَائِلِ.

* وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ يَبْقَى، وَأَمَّا الْمَالُ فَيَفْنَى؛ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَسْقُطُ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، وَمَا بِهِ سِوَى الْجُوعِ!

وَكَانَ يَسِيرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَسْتَقْرِئُهُ الْآيَةَ وَهِيَ مَعَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى بَيْتِهِ وَأَنْ يَنْقَلِبَ بِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يُصِيبَ عِنْدَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا.

وَأَسْأَلُكُمْ بِاللهِ؛ هَلْ يَجْرِي لِأَبِي هُرَيْرَةَ ذِكْرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا أَوْ لَا؟ نَعَمْ يَجْرِي كَثِيرًا، فَيَكُونُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَجْرُ مَنِ انْتَفَعَ بِمَا نَقَلَ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَالْعِلْمُ يَبْقَى، وَالْمَالُ يَفْنَى.

فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِالْعِلْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ -وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ- قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عَمَلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)).

فَالْعِلْمُ يَبْقَى، وَالْمَالُ إِنْ لَمْ يُوْضَعْ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يَفْنَى، وَيَكُونُ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ.

وَصَاحِبُ الْعِلْمِ لَا يَتْعَبُ فِي حِرَاسَتِهِ، بَلِ الْعِلْمُ يَحْرُسُهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَالِ فَهُوَ لِلْمَالِ حَارِسٌ؛ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ.

إِذَا رَزَقَكَ اللهُ عِلْمًا فَمَحَلُّهُ فِي الْقَلْبِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى صَنَادِيقَ، أَوْ مَفَاتِيحَ، أَوْ غَيْرِهَا.

هُوَ فِي الْقَلْبِ مَحْرُوسٌ، وَفِي النَّفْسِ مَحْرُوسٌ، وَهُوَ حَارِسٌ لَكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِيكَ مِنَ الْخَطَرِ -بِإِذْنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-- فَالْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَمَّا الْمَالُ فَأَنْتَ تَحْرُسُهُ، تَجْعَلُهُ فِي الصَّنَادِيقِ وَرَاءَ الْأَغْلَاقِ، وَتُعَيِّنُ لَهُ حَارِسًا مِنْ نَفْسِكَ أَوْ مِنْ سِوَاهَا، وَتَكُونُ غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

* وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْحَقِّ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].

لَمْ يَقُلْ: ((وَأُولُو الْمَالِ))؛ وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.

فَاسْتَشْهَدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَيْرِ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ هُوَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، وَهَذَا أَجَلُّ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ فَشَهِدَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدَ -جَلَّ وَعَلَا- خِيَارَ خَلْقِهِ: {وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.

فَيَكْفِي طَالِبَ الْعِلْمِ فَخْرًا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ شَهِدَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَحَدُ صِنْفَيْ وُلَاةِ الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].

فَوُلَاةُ الْأُمُورِ هَاهُنَا تَشْمَلُ وُلَاةَ الْأُمُورِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَوِلَايَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَيَانِ شَرِيعَةِ اللهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَوِلَايَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ اللهِ وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِهَا.

وَالْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ، فَلَيْسَ فَوْقَ الْعَالِمِ أَحَدٌ مِمَّنْ يَتَوَلَّى وِلَايَةً أَوْ يَتَوَلَّى مَمْلَكَةً أَوْ يَحْكُمُ أُمَّةً، إِلَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ هُمُ الْقَائِمُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ؛ كما في حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ مُعْطٍ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَا تَزَالُ ظَاهِرَةً لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ -تَعَالَى- وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ: ((إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ)) .

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الْحَدِيثِ)).

فَلَا يَذْهَبَنَّ وَهْمُ وَاهِمٍ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ يُقْبِلُونَ عَلَى الْعِلْمِ -عِلْمِ الْحَدِيثِ- تَعَلُّمًا لَهُ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ أُمِّيٌّ وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِي طَلَبِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

فَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي الِاعْتِقَادِ، فِي الْعِبَادَةِ، فِي الْمُعَامَلَةِ، فِي الْأَخْلَاقِ، فِي السُّلُوكِ، بِالْجُمْلَةِ فِي الْمِنْهَاجِ، مَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَهُوَ مِنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ الَّتِي جُعِلَ لَهَا النَّجَاةُ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَمِنَ الْفَضَائِلِ الْعَظِيمَةِ لِلْعِلْمِ: أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يُرَغِّبْ أَحَدًا أَنْ يَغْبِطَ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا إِلَّا عَلَى نِعْمَتَيْنِ؛ هُمَا:

1- طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ.

2- التَّاجِرُ الَّذِي جَعَلَ مَالَهُ خِدْمَةً لِلْإِسْلَامِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)).

هَذَا الْحَسَدُ هُوَ الْغِبْطَةُ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ أَنْ يُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ الْمَغْبُوطُ مَعَ بَقَاءِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ، بَلْ وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُنْعِمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ فِي تَعْرِيفِهِ الصَّحِيحِ هُوَ كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا.

فَمَهْمَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَخِيكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَكَرِهْتَ هَذِهِ النِّعْمَةَ عِنْدَهُ فَأَنْتَ لَهُ حَاسِدٌ، لَا تَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْهُ؛ هَذَا إِمْعَانٌ وَتَوَغُّلٌ فِي الْحَسَدِ!!

((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)): هَذَا الْحَسَدُ لَيْسَ بِالْحَسَدِ الْمَذْمُومِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ الْغِبْطَةُ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ.

وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ؛ فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا وَرَعَوْا.

وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى؛ إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)).

عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُصَنِّفَ نَفْسَهُ الْآنَ -كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ- عَلَى طَائِفَةٍ مِمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، كُلٌّ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى حَسَبِ مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَبُولِ الْأَرْضِ لِلْغَيْثِ.

فَمِنَ الْأَرْضِ مَا يَقْبَلُ الْغَيْثَ -غَيْثَ السَّمَاءِ- لِيُنْبِتَ الزَّرْعَ وَالْكَلَأَ، وَمِنَ الْأَرْضِ مَا يُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا يُسَرِّبُهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا كَلَأً، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَمْسَكَتْهُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْأَرْضِ.

وَمِنَ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ لَا تُنْبِتُ زَرْعًا، وَلَا تُمْسِكُ مَاءً.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَائِفَ الْأَرْضِ هَذِهِ -فِي اسْتِقْبَالِهَا لِمَاءِ الْغَيْثِ- مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ؛ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))؛ أَيْ: يَجْعَلْهُ فَقِيهًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ لَا يُقْصَدُ بِهِ فِقْهُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي مُصْطَلَحِ الْفِقْهِ؛ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرِيعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْفِقْهِ فِيهَا.

((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)): مَنْطُوقٌ ظَاهِرٌ، مَفْهُومُهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا.

وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللهَ يَرْفَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ يَرْفَعُهُمْ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا يَرْفَعُهُمُ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

هَذِهِ الْفَضَائِلُ مِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ مِمَّا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ.

((الْعِلْمُ النَّافِعُ وَغَيْرُ النَّافِعِ))

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعِلْمَ تَارَةً فِي مَقَامِ الْمَدْحِ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَتَارَةً فِي مَقَامِ الذَّمِّ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]..

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وَمَا قَصَّهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ، وَعَرْضِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلِهِمْ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].

وَمَا قَصَّ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْخَضِرِ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66].

فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ أُوتُوا عِلْمًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ عِلْمُهُمْ، فَهَذَا عِلْمٌ نَافِعٌ فِي نَفْسِهِ؛ لَكِنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175-176].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ} [الجاثية: 23]: عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ: {عَلَىٰ عِلْمٍ}: عِنْدَ مَنْ أَضَلَّهُ اللهُ.

وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لَهُ فَقَوْلُهُ فِي السِّحْرِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

وَلِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَقْسِيمِ الْعِلْمِ إِلَى نَافِعٍ وَغَيْرِ نَافِعٍ، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَسُؤَالِ الْعِلْمِ النَّافِعِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)).

وَخَرَّجَهُ أَهْلُ السُّنَنِ: أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَفِي بَعْضِهَا: ((وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ)).

وَفِي بَعْضِهَا: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ)). كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ)).

وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ)).

وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدْعُو: ((اللهم انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ)).

((الْعِلْمُ النَّافِعُ وَعَلَامَاتُهُ))

الْعِلْمُ النَّافِعُ مَا عَرَّفَ الْعَبْدَ بِرَبِّهِ، وَدَلَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ وَوَحَّدَهُ، وَأَنِسَ بِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْ قُرْبِهِ، وَعَبَدَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ.

وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: ((إِنَّ أَوَّلَ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ)).

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ؛ فَذَاكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ؛ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ)).

وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاللهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِاللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ، وَأَكْمَلُهُمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي يَخْشَى اللهَ، وَيَعْرِفُ أَحْكَامَهُ)).

فَالشَّأْنُ كُلُّهُ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلْمِ عَلَى رَبِّهِ، فَيَعْرِفُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ فَقَدْ وَجَدَهُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَمَتَى وَجَدَهُ مِنْهُ قَرِيبًا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ، وَأَجَابَ دُعَاءَهُ.

وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ: ((مَعَهُ أَصْلُ الْعِلْمِ؛ خَشْيَةُ اللهِ)).

فَأَصْلُ الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِاللهِ؛ الَّذِي يُوجِبُ خَشْيَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَالْقُرْبَ مِنْهُ، وَالْأُنْسَ بِهِ، وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَتْلُوهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ اللهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْعَبْدِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ حَالٍ، أَوِ اعْتِقَادٍ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا نَافِعًا، وَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْقَلْبُ الْخَاشِعُ، وَالنَّفْسُ الْقَانِعَةُ، وَالدُّعَاءُ الْمَسْمُوعُ.

مَنْ فَاتَهُ هَذَا الْعِلْمُ النَّافِعُ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ، وَصَارَ عِلْمُهُ وَبَالًا وَحُجَّةً عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ لِرَبِّهِ، وَلَمْ تَشْبَعْ نَفْسُهُ مِنَ الدُّنْيَا، بَلِ ازْدَادَ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَلَها طَلَبًا، وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ؛ لِعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ، وَعَدَمِ اجْتِنَابِهِ لِمَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ؛ هَذَا إِنْ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ الْمُتَلَقَّى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُتَلَقًّى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، بَلْ ضَرُّ هُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ.

وَعَلَامَةُ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ: أَنْ يُكْسِبَ صَاحِبَهُ الزَّهْوَ وَالْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَطَلَبَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُنَافَسَةَ فِيهَا، وَطَلَبَ مُبَاهَاةِ الْعُلَمَاءِ، وَمُمَارَاةِ السُّفَهَاءِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُلُومِ مَعْرِفَةَ اللهِ وَطَلَبَهُ، وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ، وَلَيْسَ غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا طَلَبَ التَّقَدُّمِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِحْسَانِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ، وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِمْ، وَالتَّعَاظُمِ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.

وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: إِظْهَارُ دَعْوَى الْوِلَايَةِ، كَمَا كَانَ يَدَّعِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَكَمَا ادَّعَاهُ الْقَرَامِطَةُ، وَالْبَاطِنِيَّةُ، وَنَحْوُهُمْ، وَهَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ احْتِقَارِ نُفُوسِهِمْ، وَازْدِرَائِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ)).

وَمِنْ عَلَامَاتِ ذَلِكَ: عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، وَالتَّكَبُّرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ؛ خُصُوصًا إِذَا كَانَ دُونَهُمْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْبَاطِلِ خَشْيَةَ تَفَرُّقِ قُلُوبِ النَّاسِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَرُبَّمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ ذَمَّ أَنْفُسِهِمْ وَاحْتِقَارَهَا عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ؛ لِيَعْتَقِدَ النَّاسُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مُتَوَاضِعُونَ فَيُمْدَحُونَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ قَبُولِ الْمَدْحِ وَاسْتِجْلَابِهِ مَا يُنَافِي الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ؛ فَإِنَّ الصَّادِقَ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، فَهُوَ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنْ قَبُولِ الْمَدْحِ وَاسْتِحْسَانِهِ.

* فَلِهَذَا كَانَ مِنْ عَلَامَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ النَّافِعِ: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا وَلَا مَقَامًا، وَيَكْرَهُونَ بِقُلُوبِهِمُ التَّزْكِيَةَ وَالْمَدْحَ، وَلَا يَتَكَبَّرُونَ عَلَى أَحَدٍ.

قَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّمَا الْفَقِيهُ: الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِدِينِهِ، الْمُوَاظِبُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: ((الَّذِي لَا يَحْسُدُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَسْخَرُ مِمَّنْ دُونَهُ، وَلَا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ أَجْرًا)).

وَهَذَا الْكَلَامُ الْأَخِيرُ قَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مِنْ قَوْلِهِ.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ كُلَّمَا ازْدَادُوا فِي هَذَا الْعِلْمِ ازْدَادُوا تَوَاضُعًا للهِ، وَخَشْيَةً، وَانْكِسَارًا وَذُلًّا.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ مَعْرِفَةً بِرَبِّهِ وَعِلْمًا بِهِ ازْدَادَ مِنْهُ خَشْيَةً، وَلَهُ مَحَبَّةً، وَازْدَادَ لَهُ ذُلًّا وَانْكِسَارًا)).

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعِلْمِ النَّافِعِ: أَنَّهُ يَدُلُّ صَاحِبَهُ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ الدُّنْيَا وَعِظَمِهَا، وَالرِّيَاسَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْمَدْحِ؛ فَالتَّبَاعُدُ عَنْ ذَلِكَ وَالِاجْتِهَادُ فِي مُجَانَبَتِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ كَانَ صَاحِبُهُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ عَاقِبَتِهِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا، كَمَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَخَافُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ اشْتِهَارِ اسْمِهِ وَبُعْدِ صِيتِهِ.

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْعِلْمِ النَّافِعِ: أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَدَّعِي الْعِلْمَ، وَلَا يَفْخَرُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَنْسُبُ غَيْرَهُ إِلَى الْجَهْلِ إِلَّا مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا؛ فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ غَضَبًا للهِ، لَا غَضَبًا لِنَفْسِهِ، وَلَا قَصْدًا لِرِفْعَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَحَدٍ.

وَأَمَّا مَنْ عِلْمُهُ غَيْرُ نَافِعٍ؛ فَلَيْسَ لَهُ شُغُلٌ سِوَى التَّكَبُّرِ بِعِلْمِهِ عَلَى النَّاسِ، وَإِظْهَارِ فَضْلِ عِلْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْجَهْلِ، وَتَنَقُّصِهِمْ؛ لِيَرْتَفِعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْخِصَالِ وَأَرْدَاهَا، وَرُبَّمَا نَسَبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْجَهْلِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالسَّهْوِ، فَيُوجِبُ لَهُ حُبُّ نَفْسِهِ وَحُبُّ ظُهُورِهَا إِحْسَانَ ظَنِّهِ بِهَا، وَإِسَاءَةَ ظَنِّهِ بِمَنْ سَلَفَ.

وَأَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ؛ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيُقِرُّونَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِفَضْلِ مَنْ سَلَفَ عَلَيْهِمْ، وَبِعَجْزِهِمْ عَنْ بُلُوغِ مَرَاتِبِهِمْ، وَالْوُصُولِ إِلَيْهَا وَمُقَارَبَتِهَا.

وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ: ((أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟)).

فَقَالَ: ((وَاللهِ! مَا نَحْنُ بِأَهْلٍ أَنْ نَذْكُرَهُمْ؛ فَكَيْفَ نُفَضِّلُ بَيْنَهُمْ!!)).

وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِذَا ذَكَرَ أَخْلَاقَ مَنْ سَلَفَ يُنْشِدُ:

لَا تَعْرِضَنَّ بِذِكْرِنَا مَعَ ذِكْرِهِم      =      لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالْمُقْعَدِ

وَمَنْ عِلْمُهُ غَيْرُ نَافِعٍ إِذَا رَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي الْمَقَالِ وَتَشَقُّقِ الْكَلَامَ؛ ظَنَّ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ فَضْلًا فِي الْعُلُومِ أَوِ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ؛ لِفَضْلٍ خُصَّ بِهِ عَمَّنْ سَبَقَ، فَاحْتَقَرَ مَنْ تَقَدَّمَ، وَأَزْرَى عَلَيْهِ بِقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَلَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ قِلَّةَ كَلَامِ مَنْ سَلَفَ إِنَّمَا كَانَ وَرَعًا وَخَشْيَةً للهِ، وَلَوْ أَرَادَ الْكَلَامَ وَإِطَالَتَهُ لَمَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ.

كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِقَوْمٍ سَمِعَهُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الدِّينِ: ((أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ للهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةُ اللهِ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بَكَمٍ، وَإِنَّهُمْ لَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُصَحَاءُ وَالنُّبَلَاءُ؛ الْعُلَمَاءُ بِأَيَّامِ اللهِ؛ غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا عَظَمَةَ اللهِ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ، وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ يُسَارِعُونَ إِلَى اللهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ، يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ وَإِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَقْوِيَاءُ، وَمَعَ الظَّالِمِينَ وَالْخَاطِئِينَ وَإِنَّهُمْ لَأَبْرَارٌ بُرَآءُ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لَهُ -تَعَالَى- الْكَثِيرَ، وَلَا يَرْضَوْنَ لَهُ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ، حَيْثُمَا لَقِيتَهُمْ مُهْتَمُّونَ مُشْفِقُونَ وَجِلُونَ خَائِفُونَ)). خَرَّجَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَبُو نُعَيْمٍ، وَغَيْرُهُ.

فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ مَنْ سَلَفَ عَرَفَ أَنَّ سُكُوتَهُمْ عَمَّا سَكَتُوا عَنْهُ مِنْ ضُرُوبِ الْكَلَامِ، وَكَثْرَةِ الْجَدَلِ وَالْخِصَامِ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ؛ أَنَّ سُكُوتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِيًّا وَلَا جَهْلًا وَلَا قُصُورًا، وَإِنَّمَا كَانَ وَرَعًا وَخَشْيَةً للهِ، وَاشْتِغَالًا عَمَّا لَا يَنْفَعُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَفِي الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَلَّمُوا فِيهِ، فَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، وَدَخَلَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَالْبَحْثِ وَالْجِدَالِ، وَالْقِيلِ وَالْقَالِ؛ فَإِذَا اعْتَرَفَ لَهُمْ بِالْفَضْلِ، وَعَلَى نَفْسِهِ بِالنَّقْصِ؛ كَانَتْ حَالُهُ قَرِيبَةً.

وَقَدْ قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ لَا يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ إِلَّا وَهُوَ أَحْمَقُ)).

قِيلَ لَهُ: ((فَمَا عَيْبُكَ؟)).

قَالَ: ((كَثْرَةُ الْكَلَامِ)).

وَإِنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْفَضْلَ، وَلِمَنْ سَبَقَهُ النَّقْصَ وَالْجَهْلَ؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، وَخَسِرَ خُسْرَانًا عَظِيمًا.

وَفِي الْجُمْلَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْفَاسِدَةِ -هَذَا الَّذِي يَقُولُ هُوَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَقَدْ تُوُفِّيَ آخِرَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ (795 هـ)، وَقَدْ كَتَبَ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ لَوْ شَهِدَ أَيَّامَنَا هَذِهِ؟!!- قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْفَاسِدَةِ إِمَّا أَنْ يَرْضَى الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عِنْدَ اللهِ، أَوْ لَا يَرْضَى إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِ الزَّمَانِ عَالِمًا، فَإِنْ رَضِيَ بِالْأَوَّلِ فَلْيَكْتَفِ بِعِلْمِ اللهِ فِيهِ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ مَعْرِفَةٌ اكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ اللهِ إِيَّاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا عِنْدَ النَّاسِ؛ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ))، وَغَيْرِهِ)).

قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: ((رُبَّ عَالِمٍ يَقُولُ لَهُ النَّاسُ عَالِمٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ اللهِ مِنَ الْجَاهِلِينَ)).

فَإِنْ لَمْ تَقْنَعْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، حَيْثُ كَانَ أَهْلُ الزَّمَانِ لَا يُعَظِّمُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ؛ فَقَدِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقَلَ مِنْ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ إِلَى دَرَجَةِ الظَّلَمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَمَّا أُرِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَاهُ: ((إِنَّمَا تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ لِأُحْشَرَ بِهِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَعَ الْمُلُوكِ)).

فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يُحْشَرُونَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْقُضَاةُ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُلُوكِ!

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- عِلْمًا نَافِعًا، وَنَعُوذُ بِهِ -تَعَالَى- مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ.

فَالْعِلْمُ النَّافِعُ مَا عَرَفَ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَمَا أَثْمَرَ الْخَشْيَةَ، وَزَادَ فِي الْيَقِينِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَفَى بِخَشْيَةِ اللهِ -تَعَالَى- عِلْمًا، وَالِاغْتِرَارِ بِهِ جَهْلًا)).

وَقِيلَ لِسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: ((مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟)).

قَالَ: ((أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

فَالْخَشْيَةُ وَالْخُشُوعُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ الْحَقِّ، لَا يَنْفَكَّانِ عَنْهُ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ لَوَازِمِ الْفَهْمِ الْحَقِّ، وَهُوَ -أَيِ: الْفَهْمُ الْحَقُّ، وَلَيْسَ الْوُقُوفَ عَلَى رُسُومِ الْأَلْفَاظِ وَصُورَةِ الْعِلْمِ- الْفَهْمُ الْحَقُّ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ الْحَقِّ.

وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- حَالَ الَّذِينَ يَقِفُونَ عِنْدَ رُسُومِ الْأَلْفَاظِ وَصُورَةِ الْعِلْمِ دُونَ النَّفَاذِ إِلَى لُبِّهِ وَلُبَابِهِ فَقَالَ: ((رَأَيْتُ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ مَشْتَغِلِينَ بِصُورَةِ الْعِلْمِ دُونَ فَهْمِ حَقِيقَتِهِ وَمَقْصُودِهِ، فَالْقَارِئُ مَشْغُولٌ بِالرِّوَايَاتِ -أَيْ: بِالْقِرَاءَاتِ-، عَاكِفٌ عَلَى الشَّوَاذِّ، يَرَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ التِّلَاوَةِ، وَلَا يَتَلَمَّحُ عَظَمَةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا زَجْرَ الْقُرْآنِ وَوَعْدَهُ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَتَرَاهُ يَتَرَخَّصُ فِي الذُّنُوبِ، وَلَوْ فَهِمَ لَعَلِمَ أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ أَقْوَى مِمَّنْ لَمْ يَقْرَأْ، وَالْمُحَدِّثُ يَجْمَعُ الطُّرُقَ، وَيَحْفَظُ الْأَسَانِيدَ، وَلَا يَتَأَمَّلُ مَقْصُودَ الْمَنْقُولِ، وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ حَفِظَ عَلَى النَّاسِ الْأَحَادِيثَ، فَهُوَ يَرْجُو بِذَلِكَ السَّلَامَةَ، وَرُبَّمَا تَرَخَّصَ فِي الْخَطَايَا؛ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ مَا فَعَلَ فِي خِدْمَةِ الشَّرِيعَةِ يَدْفَعُ عَنْهُ.

وَالْفَقِيهُ قَدْ وَقَعَ لَهُ أَنَّهُ بِمَا عَرَفَ مِنَ الْجِدَالِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ خِصَامُهُ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي عَرَفَ فِيهَا الْمَذْهَبَ قَدْ حَصَلَ بِمَا يُفْتِي بِهِ النَّاسَ مَا يَرْفَعُ قَدْرَهُ، وَيَمْحُو ذَنْبَهُ، فَرُبَّمَا هَجَمَ عَلَى الْخَطَايَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُمَا يَنْهَيَانِ عَنِ الْفَوَاحِشِ بِزَجْرٍ وَرِفْقٍ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ بِهِمَا حُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَإِيثَارُ الْغَلَبَةِ فِي الْجَدَلِ، فَتَزِيدُ قَسْوَةُ قَلْبِهِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ، صُوَرُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ صِنَاعَةٌ، فَهِيَ تُكْسِبُهُمُ الْكِبْرَ وَالْحَمَاقَةَ.

وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُعْتَبَرِينَ عَنْ شَيْخٍ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ فُتِنَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بِفِسْقٍ أَصَرَّ عَلَيْهِ، وَبَارَزَ اللهَ بِهِ، فَكَانَتْ حَالُهُ تُعْطِي بِمَضْمُونِهَا أَنَّ عِلْمِي يَدْفَعُ عَنِّي شَرَّ مَا أَنَا فِيهِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَكَانَ كَأَنَّهُ قَطَعَ لِنَفْسِهِ بِالنَّجَاةِ، فَلَا يُرَى عِنْدَهُ أَثَرٌ لِخَوْفٍ، وَلَا نَدَمٌ عَلَى ذَنْبٍ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَلَازَمَهُ الْفَقْرُ، فَكَانَ يَلْقَى الشَّدَائِدَ، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ قُبْحِ حَالِهِ، إِلَى أَنْ جُمِعَتْ لَهُ يَوْمًا قَرَارِيطُ -جَمْعُ قِيرَاطٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّينَارِ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِينَارٍ-، فَجُمِعَتْ لَهُ يَوْمًا قَرَارِيطُ عَلَى وَجْهِ الْكُدْيَةِ -أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ-، فَاسْتَحْيَا مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: يَا رَبِّ! إِلَى هَذَا الْحَدِّ!

قَالَ الْحَاكِي: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ غَفْلَتِهِ؛ كَيْفَ نَسِيَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَرَادَ مِنْهُ مَعَ نِسْيَانِهِ حُسْنَ التَّدْبِيرِ لَهُ، وَالصِّيَانَةَ، وَسَعَةَ الرِّزْقِ، وَكَأَنَّهُ مَا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، وَلَا عَلِمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَسُدُّ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَأَنَّ مَنْ ضَيَّعَ أَمْرَ اللهِ ضَيَّعَهُ اللهُ!!

فَمَا رَأَيْتُ عِلْمًا مَا أَفَادَ كَعِلْمِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ انْكَسَرَ، وَهَذَا مُصِرٌّ لَا تُؤْلِمُهُ مَعْصِيَتُهُ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ عِلْمَهُ يُجَوِّزُ لَهُ مَا فَعَلَ، أَوْ كَأَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي الدِّينِ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا، فَمَرِضَ عَاجِلًا، وَمَاتَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ.

قَالَ الْحَاكِي: وَرَأَيْتُ شَيْخًا آخَرَ حَصَّلَ صُوَرَ الْعِلْمِ فَمَا أَفَادَتْهُ، كَانَ أَيُّ فِسْقٍ أَمْكَنَهُ لَا يَتَحَاشَى مِنْهُ، وَأَيُّ أَمْرٍ لَمْ يُعْجِبْهُ مِنَ الْقَدَرِ عَارَضَهُ بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُقَدَّرِ وَاللَّوْمِ، فَعَاشَ أَكْدَرَ عَيْشٍ، وَعَلَى أَقْبَحِ اعْتِقَادٍ حَتَّى دَرَجَ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَى الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ صُوَرَ الْأَلْفَاظِ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَذَاكَ يُورِثُ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ، وَيُرِي الْمِنَّةَ لِلْمُنْعِمِ بِالْعِلْمِ، وَقُوَّةَ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ، وَالِاغْتِرَارُ بِالْعِلْمِ دَاعِيَةُ الْبَطَالَةِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ)).

وَفِي رَصْدٍ دَقِيقٍ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ مِنْ ظَوَاهِرِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ يُظْهِرُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَوَارَ أَقْوَامٍ وَسَمَهُمُ الْعِلْمُ بِوَسْمِهِ، وَلَمْ تَنْفُذْ بَشَاشَتُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانَ الْعِلْمُ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَنِقْمَةً مَسُوقَةً إِلَيْهِمْ، وَاللهُ الْعَاصِمُ مِنَ الضَّلَالِ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.

قَالَ: ((رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَتَفَسَّحُونَ -أَيْ: يَتَوَسَّعُونَ فِي اسْتِعْمَالِ الرُّخَصِ-، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْعِلْمَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ، وَمَا يَدْرُونَ أَنَّ الْعِلْمَ خَصْمُهُمْ، وَأَنَّهُ يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ؛ وَذَاكَ أَنَّ الْجَاهِلَ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالْحَقِّ، وَالْعَالِمَ لَمْ يَتَأَدَّبْ مَعَهُ.

وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْقَوْمِ يَقُولُ: أَنَا قَدْ أَلْقَيْتُ مِنْجَلِي بَيْنَ الْحَصَّادِينِ وَنِمْتُ، ثُمَّ يَتَفَسَّحُ فِي أَشْيَاءَ لَا تَجُوزُ، فَتَفَكَّرْتُ؛ فَإِذَا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرُ فِي سِيَرِ الْقُدَمَاءِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ الْقَوْمِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَمَا يَجِبُ لَهُ؛ لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ صُوَرُ أَلْفَاظٍ يَعْرِفُونَ بِهَا مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْعِلْمَ النَّافِعَ، إِنَّمَا فَهْمُ الْأُصُولِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَعْبُودِ وَعَظَمَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالنَّظَرُ فِي سِيَرِ الرَّسُولِ ﷺ وَصَحَابَتِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِمْ، وَفَهْمُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يَدَعُ أَعْظَمَ الْعُلَمَاءِ أَحْقَرَ عِنْدَ نَفْسِهِ مِنْ أَجْهَلِ الْجُهَّالِ.

وَرَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ تَعَبَّدَ مُدَّةً، ثُمَّ فَتَرَ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: قَدْ عَبَدْتُهُ عِبَادَةً مَا عَبَدَهُ بِهَا أَحَدٌ، وَالْآنَ قَدْ ضَعُفْتُ، فَقُلْتُ: مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هَذِهِ سَبَبًا لِرَدِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ مَعَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا وَقَفَ يَسْأَلُ النَّجَاةَ بِطَلَبِ الدَّرَجَاتِ؛ فَفِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعَلَ، وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا كَمَثَلِ مَنْ وَقَفَ يُكْدِي، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْمُعْطِي، وَإِنَّمَا سَبَبُ هَذَا الِانْبِسَاطِ الْجَهْلُ بِالْحَقَائِقِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْمُعَامَلَةِ، الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ مِثْلُ صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ؛ إِذَا رَآهُ السَّبُعُ هَرَبَ مِنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ إِذَا انْقَضَى اللَّيْلُ عِنْدَ صَلَاتِهِ: ((يَا رَبِّ! أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، أَوَ مِثْلِي يَسْأَلُ الْجَنَّةَ!)).

وَأَبْلَغُ مِنْ ذَا قَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَدِدْتُ أَنْ أَنْجُوَ كَفَافًا، لَا لِي وَلَا عَلَيَّ)).

وَقَوْلُ سُفْيَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: ((أَتَرْجُو لِمِثْلِي أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!)).

وَقَوْلُ أَحْمَدَ: ((لَا، بَعْدُ)).

فَأَنَا أَحْمَدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ تَخَلَّصْتُ مِنْ جَهْلِ الْمُتَسَمَّيْنَ بِالْعِلْمِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَمَمْتُهُمْ -وَالْكَلَامُ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ--، وَبِالزُّهْدِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عِبْتُهُمْ؛ فَإِنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ عَظَمَةِ الْخَالِقِ وَسِيَرِ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَا يُخْرِسُ لِسَانَ الِانْبِسَاطِ، وَيَمْحُو النَّظَرَ إِلَى كُلِّ فِعْلٍ، وَكَيْفَ أَنْظُرُ إِلَى فِعْلِي الْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ الَّذِي وَهَبَهُ لِي، وَأَطْلَعَنِي عَلَى مَا خَفِيَ عَنْ غَيْرِي؟! فَهَلْ حَصَلَ ذَلِكَ بِي أَوْ بِلُطْفِهِ؟! وَكَيْفَ أَشْكُرُ تَوْفِيقِي لِلشُّكْرِ؟! ثُمَّ أَيُّ عَالِمٍ إِذَا سَبَرَ أُمُورَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْقُدَمَاءِ لَمْ يَحْتَقِرْ نَفْسَهُ؟!

أَيُّ عَالِمٍ إِذَا سَبَرَ أُمُورَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْقُدَمَاءِ لَمْ يَحْتَقِرْ نَفْسَهُ؟!

هَذَا فِي صُورَةِ الْعِلْمِ، فَدَعْ مَعْنَاهُ.

وَأَيُّ عَابِدٍ يَسْمَعُ بِالْعُبَّادِ وَلَا يَجْرِي فِي صُورَةِ التَّعَبُّدِ؟! فَدَعِ الْمَعْنَى.

نَسْأَلُ اللهَ مَعْرِفَةً تُعَرِّفُنَا أَقْدَارَنَا؛ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْعُجْبِ بِمُحْتَقَرِ مَا عِنْدَنَا أَثَرٌ فِي قُلُوبِنَا، وَنَرْغَبُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةٍ لِعَظَمَتِهِ تُخْرِسُ الْأَلْسُنَ أَنْ تَنْطِقَ بِالْإِدْلَالِ، وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ تَوْفِيقًا نُلَاحِظُ بِهِ آفَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا نَزْهُو؛ حَتَّى تُثْمِرَ الْمُلَاحَظَةُ لِعُيُوبِهَا الْخَجَلَ مِنْ وُجُودِهَا؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- قَرِيبٌ مُجِيبٌ)).

((الْعِلْمُ النَّافِعُ مَا أَوْرَثَ الْخَشْيَةَ))

الْخُشُوعُ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، لَهَا مَعَالِمُ، وَعَلَيْهَا شَوَاهِدُ.

وَالْخُشُوعُ: قِيَامُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالْجَمْعِيَّةُ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَثَمَرَتُهُ الْجَوَارِحُ، وَهِيَ تُظْهِرُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((التَّقْوَى هَاهُنَا))، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: ((حُسْنُ أَدَبِ الظَّاهِرِ عُنْوَانُ أَدَبِ الْبَاطِنِ)).

وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا خَاشِعَ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْبَدَنِ فَقَالَ: ((يَا فُلَانُ! الْخُشُوعُ هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ، لَا هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ)).

وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- -وَهُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ- يَقُولُ: ((إِيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ)).

فَقِيلَ لَهُ: ((وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟)).

قَالَ: ((أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا، وَالْقَلْبَ غَيْرَ خَاشِعٍ)).

إِذَا أَثْمَرَ الْعِلْمُ فِي الْقَلْبِ خَشْيَةً وَخُشُوعًا فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ-، وَإِذَا لَمْ يُثْمِرِ الْعِلْمُ فِي الْقَلْبِ خَشْيَةً وَإِخْبَاتًا فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَعَوَّذَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهُ، وَأَمَرَ الْأُمَّةَ أَنْ تَتَعَوَّذَ بِاللهِ مِنْهُ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)).

فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: ((كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟! فَوَاللَّهِ! لَنَقْرَأَنَّهُ، وَلَنُقْرِأَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا؟)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ! إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟!)).

قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، قُلْتُ: ((أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟! فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ)).

قَالَ: ((صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

فَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ مَا بَاشَرَ الْقَلْبَ فَأَوْجَبَ لَهُ السَّكِينَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالْإِخْبَاتَ للهِ، وَالتَّوَاضُعَ وَالِانْكِسَارَ، وَإِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْقَلْبَ ذَلِكَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى اللِّسَانِ؛ فَهُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ، يَقُومُ عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ صَاحِبَهُ)).

فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا مَوْجُودٌ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمَّا فَقَدُوا الْمَقْصُودَ مِنْهُ -وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ- حَتَّى يَجِدُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَمَنْفَعَتَهُ بِحُصُولِ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ لِقُلُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ تُقَامُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعُلَمَاءَ بِالْخَشْيَةِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وَقَالَ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

وَوَصَفَ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بِالْخُشُوعِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109].

وَقَدْ عَاتَبَ  اللهُ مَنْ لَا يَخْشَعُ قَلْبُهُ لِسَمَاعِ كِتَابِ اللهِ وَتَدَبُّرِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عُوتِبْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، ثُمَّ يَقُولُ: ((أُقْسِمُ لَكُمْ! لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَّا صُدِعَ قَلْبُهُ)).

قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤْلِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ                       =         هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنَا      =     كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

وَأَرَاكَ تُلْقِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا                  =       أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا             =       فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى            =       بِالْعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ               =       عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

((الْإِخْلَاصُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ))

قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ)): ((يَنْبَغِي لِمَنِ اتَّسَعَ وَقْتُهُ وَأَصْلَحَ اللهُ لَهُ جِسْمَهُ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجَ عَنْ طَبَقَةِ الْجَاهِلِينَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْعَزِيمَةَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ أَنْ يَغْتَنِمَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى ذَلِكَ؛ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ أَمْرٍ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَتَجَدُّدِ حَالٍ تَمْنَعُهُ مِنْهُ، وَلْيَسْتَعْمِلِ الْجِدَّ فِي أَمْرِهِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي قَصْدِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَى اللهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ عِلْمًا يُوَفِّقُهُ فِيهِ، وَيُعِيذَهُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِيمَا يَطْلُبُ الْمُجَادَلَةَ بِهِ، وَالْمُمَارَاةَ بِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَمِ إِلَيْهِ، وَأَخْذَ الْأَعْوَاضِ عَلَيْهِ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَاحْذَرِ الْمِرَاءَ، وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ مَرَّ كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ لَكَانَ هَيِّنًا، وَكَانَ مُحْتَمَلًا؛ وَلَكِنَّ الْعِقَابَ مُرٌّ أَلِيمٌ، وَالْعَذَابَ مُهِينٌ عَظِيمٌ!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ؛ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.

قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.

قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟

قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ.

قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْغَازِيَ، وَالْعَالِمَ، وَالْجَوَادَ الَّذِينَ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَبْتَغُونَ بِهَا وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: ((قَوْلُهُ ﷺ فِي الْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْجَوَادِ، وَعِقَابِهِمْ عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللهِ، وَإِدْخَالِهِمُ النَّارَ دَلِيلٌ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ، وَعَلَى الْحَثِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وَفِيهِ أَنَّ الْعُمُومَاتِ فِي فَضْلِ الْجِهَادِ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ أَرَادَ اللهَ -تَعَالَى- بِذَلِكَ مُخْلِصًا، وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى الْمُتَفَقِّهِينَ فِي الدِّينِ، وَالْمُنْفِقِينَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ للهِ -تَعَالَى- مُخْلِصًا)).

فَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى- ابْتِغَاءً لِشَهْوَةٍ فَارِغَةٍ، وَشُهْرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَطَلَبًا لِشَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَسَعْيًا وَرَاءَ تَقْدِيرٍ يَصِيرُ إِلَى عَدَمٍ، وَعَدْوًا خَلْفَ فَرَحٍ يَؤُولُ إِلَى نَدَمٍ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِلُ فِي دَائِرَةِ الْوَعِيدِ، وَيَنْظِمُ فِي سِلْكِ التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ.

عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ)).أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ هَلَاكًا عَلَى صَاحِبِهِ إِذَا طَلَبَهُ لِغَيْرِ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النِّيَّةَ هِيَ رُكْنُ الْعَمَلِ أَوْ شَرْطُهُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ إِلَّا بِهَا، فَإِذَا عُدِمَتْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ شَيْئًا)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) يَعْنِي: رِيحَهَا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْعِلْمُ فِي ذَاتِهِ مَشْرُوعًا غَيْرَ مَمْنُوعٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي تُبْتَغَى بِهِ الدُّنْيَا مَحْظُورًا؛ فَالْوَعِيدُ مُحِيطٌ بِمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ -أَوْ: فَالنَّارَ النَّارَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

((لَا تَعَلَّمُوا)) أَيْ: لَا تَتَعَلَّمُوا -بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ-.

((وَلَا تَخَيَّرُوا)) أَيْ: لَا تَخْتَارُوا بِهِ خِيَارَ الْمَجَالِسِ وَصُدُورَهَا.

((فَالنَّارُ)) أَيْ: فَلَهُ النَّارُ، أَوْ فَيَسْتَحِقُّ النَّارَ -وَالنَّارُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلِ مَنْصُوبٌ عَلَى الثَّانِي-.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ جَهَنَّمَ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه))، وَصَحَّحَهُ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي ((الْمُصَنَّفِ)) مَوْقُوفًا عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي أَوْ بَعْدِي أَنْ يُؤْخَذَ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْبَرِيءُ فَيُؤْشَرُ كَمَا يُؤْشَرُ الْجَزُورُ -أَيْ: فَيُنْشَرُ كَمَا تُنْشَرُ النَّاقَةُ الْمَجْزُورَةُ-، وَيُشَاطُ لَحْمُهُ كَمَا يُشَاطُ لَحْمُهَا -أَيْ: إِذَا دُخِّنَ وَلَمْ يُنْضَجْ-، وَيُقَالُ: عَاصٍ وَلَيْسَ بِعَاصٍ)).

قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ -وَهُوَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ-: ((وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَوَ بِمَا تَشْتَدُّ الْبَلِيَّةُ، وَتَظْهَرُ الْحَمِيَّةُ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، وَتَدُقُّهُمُ الْفِتَنُ كَمَا تَدُقُّ الرَّحَى ثِفْلَهَا -وَالثِّفْلُ: هُوَ الْجِلْدُ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَ الرَّحَى-، وَكَمَا تَدُقُّ النَّارُ الْحَطَبَ)).

قَالَ: ((وَمَتَى ذَلِكَ يَا عَلِيُّ؟))

قَالَ: ((إِذَا تُفِقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَتُعِلِّمَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ)). وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ -أَيْضًا- مِنْ طَرِيقِ ((الْمُصَنَّفِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).

لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْجَامِعِ)) بَابٌ مَعْقُودٌ فِي بَيَانِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، قَالَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ فِي طَلَبِهِ، وَيَكُونَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبِيلًا إِلَى نَيْلِ الْأَعْرَاضِ، وَطَرِيقًا إِلَى أَخْذِ الْأَعْوَاضِ؛ فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ لِمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، وَلْيَتَّقِ الْمُفَاخَرَةَ وَالْمُبَاهَاةَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ نَيْلَ الرِّئَاسَةِ، وَاتِّخَاذَ الْأَتْبَاعِ، وَعَقْدَ الْمَجَالِسِ؛ فَإِنَّ الْآفَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَكْثَرُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلْيَجْعَلْ حِفْظَهُ لِلْحَدِيثِ حِفْظَ رِعَايَةٍ، لَا حِفْظَ رِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ رُوَاةَ الْحَدِيثِ كَثِيرٌ، وَرُعَاةَ الْعُلُومِ قَلِيلٌ، وَرُبَّ حَاضِرٍ كَالْغَائِبِ، وَعَالِمٍ كَالْجَاهِلِ، وَحَامِلٍ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ إِذْ كَانَ فِي اطِّرَاحِهِ لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذَّاهِبِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- سَائِلُهُ عَنْ عِلْمِهِ فِيمَا طَلَبَهُ، وَمُجَازِيهِ عَلَى عَمَلِهِ بِهِ)).

فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا عَاجِلَةٌ، وَمَحْقٌ لِبَرَكَةِ الْعُمُرِ، وَذَهَابٌ لِخَيْرِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَعِقَابٌ أَلِيمٌ.

قَالَ الْحَسَنُ: ((عُقُوبَةُ الْعَالِمِ مَوْتُ الْقَلْبِ)).

قِيلَ لَهُ: ((وَمَا مَوْتُ الْقَلْبِ؟)).

قَالَ: ((طَلَبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ)).

وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبًا لِدُنْيَاهُ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ)).

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: ((إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِيُتَّقَى بِهِ اللهُ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّه يُتَّقَى بِهِ اللهُ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((زَيِّنُوا الْعِلْمَ وَلَا تَزَيَّنُوا بِهِ)).

قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَرْجَمَةِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ: ((هُوَ الْحَافِظُ، الْحُجَّةُ، الْإِمَامُ، الصَّادِقُ أَبُو بَكْرٍ هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَصْرِيُّ الرَّبَعِيُّ، صَاحِبُ الثِّيَابِ الدَّسْتُوَائِيَّةِ، كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْقُمَاشِ الَّذِي يُجْلَبُ مِنْ (دَسْتُوَا) -وَدَسْتُوَا: بُلَيْدَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْأَهْوَازِ-.

قَالَ عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقُولُ: ((وَاللهِ! مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ إِنِّي ذَهَبْتُ يَوْمًا قَطُّ أَطْلُبُ الْحَدِيثَ أُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَاللهِ! وَلَا أَنَا؛ فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ للهِ فَنَبُلُوا، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، وَطَلَبَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَوَّلًا لَا للهِ، وَحَصَّلُوهُ، ثُمَّ اسْتَفَاقُوا، وَحَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ، فَجَرَّهُمُ الْعِلْمُ إِلَى الْإِخْلَاصِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: طَلَبْنَا هَذَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ النِّيَّةَ بَعْدُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: طَلَبْنَا هَذَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ إِلَّا للهِ، فَهَذَا -أَيْضًا- حَسَنٌ، ثُمَّ نَشَرُوهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ.

وَقَوْمٌ طَلَبُوهُ بِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلِيُثْنَى عَلَيْهِمْ، فَلَهُمْ مَا نَوَوْا، وَتَرَى هَذَا الضَّرْبُ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَا لَهُمْ وَقْعٌ فِي النُّفُوسِ، وَلَا لِعِلْمِهِمْ كَبِيرُ نَتِيجَةٍ مِنَ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَقَوْمٌ نَالُوا الْعِلْمَ، وَوَلَوْا بِهِ الْمَنَاصِبَ، فَظَلَمُوا، وَتَرَكُوا التَّقَيُّدَ بِالْعِلْمِ، وَرَكِبُوا الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، فَتَبًّا لَهُمْ، فَمَا هَؤُلَاءِ بِعُلَمَاءَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَتَّقِ اللهَ فِي عِلْمِهِ، بَلْ رَكِبَ الْحِيَلَ، وَأَفْتَى بِالرُّخَصِ، وَرَوَى الشَّاذَّ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَبَعْضُهُمُ اجْتَرَأَ عَلَى اللهِ، وَوَضَعَ الْأَحَادِيثَ، فَهَتَكَهُ اللهُ، وَذَهَبَ عِلْمُهُ، وَصَارَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ.

وَهَؤُلَاءِ الْأَقْسَامُ كُلُّهُمْ رَوَوْا مِنَ الْعِلْمِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَتَضَلَّعُوا مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ بَانَ نَقْصُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَتَلَاهُمْ قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى الْعِلْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ يَسِيرٍ، أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ فُضَلَاءُ، وَلَمْ يَدُرْ فِي أَذْهَانِهِمْ قَطُّ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْخًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ، فَصَارُوا هَمَجًا رَعَاعًا، غَايَةُ الْمُدَرِّسِ مِنْهُمْ أَنْ يُحَصِّلَ كُتُبًا مُثَمَّنَةً يَخْزِنُهَا وَيَنْظُرُ فِيهَا يَوْمًا مَا، فَيُصَحِّفُ مَا يُورِدُهُ وَلَا يُقَرِّرُهُ، فَنَسْأَلُ اللهَ النَّجَاةَ وَالْعَفْوَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَنَا عَالِمٌ وَلَا رَأَيْتُ عَالِمًا)). انْتَهَى كَلَامُ الذَّهَبِيِّ.

فَإِذَا كَانَ الذَّهَبِيُّ يَقُولُ هَذَا، وَيُعقِّبُ مُقْسِمًا عَلَى كَلَامِ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ -وَقَدْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ- أَنَّهُ مَا ذَهَبَ يَوْمًا يَطْلُبُ الْحَدِيثَ لِوَجْهِ اللهِ، ثُمَّ يَقُولُ الذَّهَبِيُّ: ((وَاللهِ! وَلَا أَنَا)) يَعْنِي: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُقْسِمَ أَنِّي ذَهَبْتُ يَوْمًا أَطْلُبُ الْحَدِيثَ لِوَجْهِ اللهِ؛ لِخَفَاءِ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَلِخْوَفْهِ مِنْ نِيَّتِهِ وَضَمِيرِهِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامُ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَمَاذَا نَقُولُ نَحْنُ؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَسْتُرَنَا دُنْيَا وَآخِرَةً.

((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).. عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((مَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ؟))

وَلَكِنْ مَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ؟

الْعُلَمَاءُ: هُمُ الْعَارِفُونَ بِشَرْعِ اللهِ، الْمُتَفَقِّهُونَ فِي دِينِهِ، الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ عَلَى هُدًى وَبَصِيرَةٍ، الَّذِينَ وَهَبَهُمُ اللهُ الْحِكْمَةَ، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

الْعُلَمَاءُ: هُمُ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- عِمَادَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ فِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

الْعُلَمَاءُ: هُمْ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ دَارَتِ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، وَعُنُوا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ.

الْعُلَمَاءُ: هُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ، نَالُوا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَظِيمَةَ بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّبْرِ وَكَمَالِ الْيَقِينِ، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

الْعُلَمَاءُ: هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَرِثُوا عَنْهُمُ الْعِلْمَ، فَهُمْ يَحْمِلُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَيَنْطَبِعُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ النَّاسَ.

الْعُلَمَاءُ: هُمُ الْفِرْقَةُ الَّتِي نَفَرَتْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِتَفْقَهَ دِينَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ قَامَتْ بِوَاجِبِ الدَّعْوَةِ، وَمُهِمَّةِ الْإِنْذَارِ، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

الْعُلَمَاءُ: هُمْ هُدَاةُ النَّاسِ، الَّذِينَ لَا يَخْلُو زَمَانٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ؛ فَهُمْ رَأْسُ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ)).

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ-:  ((إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ)).

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَكُونُ مُفَرَّقَةً بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمْ شُجْعَانُ مُقَاتِلُونَ، وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُمْ زُهَّادٌ، وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ أَنْوَاعِ أُخْرَى مِنَ الْخَيْرِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ.

وَأَيًّا مَا كَانَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَإِنَّ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ رُؤُوسُهَا الْمُقَدَّمُونَ فِيهَا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ تَبَعٌ لَهُمْ)).

إِنَّ الْعُلَمَاءَ إِنْ غَابَتْ شُخُوصُهُمْ فَآثَارُهُمْ مَوْجُودَةٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَآثَارُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ)).

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَنَجَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ.

((جَهْلُ الْعَمَلِ))

لَقَدْ سَمَّى الْعُلَمَاءُ عَدَمَ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الْحَقِّ النَّافِعِ وَالْعِلْمِ الرَّشِيدِ (جَهْلَ الْعَمَلِ).

وَهَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعِظُ خَلَّادَ بْنَ يَزِيدَ الْأَرْقَطِ، وَكَانَ أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ إِذَا ذَكَرَ خَلَّادًا قَالَ: ((كَانَ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي نُبْلًا))، يَصِفُ جَلَالَتَهُ وَنُبْلَهُ.

قَالَ خَلَّادٌ: أَتَيْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: ((إِنَّمَا يَأْتِي بِكَ الْجَهْلُ، لَا ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، لَوِ اقْتَصَرَ جِيرَانُكَ عَلَى عِلْمِكَ كَفَاهُمْ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً مِنْ بَطْحَاءَ، ثُمَّ شَقَّهُ بِأُصْبُعِهِ فَقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ أَخَذْتَ نِصْفَهُ، ثُمَّ جِئْتَ تَبْتَغِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ، فَلَوْ قِيلَ: أَرَأَيْتَ مَا أَخَذْتَهُ؛ هَلِ اسْتَعْمَلْتَهُ؟ فَإِذَا صَدَقْتَ قُلْتَ: لَا، فَيُقَالُ لَكَ: مَا حَاجَتُكَ إِلَى مَا تَزِيدُ بِهِ نَفْسَكَ وِقْرًا عَلَى وِقْرٍ؟! اسْتَعْمِلْ مَا أَخَذْتَ أَوَّلًا)).

فَالسَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَذُمُّونَ جَهْلَ الْعَمَلِ ذَمًّا شَدِيدًا، وَيُحَذِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ لَهُمْ ظَاهِرٌ يَغُرُّ، وَبَاطِنٌ يَضُرُّ، وَيُفِيضُونَ فِي رَمْيِهِمْ بِكُلِّ نَقِيصَةٍ وَتُهْمَةٍ، وَيَضْرِبُونَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ.

هَذَا وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَضْرِبُ الْمَثَلَ فَيَقُولُ: ((مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ كَمَثَلِ حَجَرٍ دُفِعَ فِي سَاقِيَةٍ، فَلَا هُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا هُوَ يُخَلِّي عَنِ الْمَاءِ فَيَحْيَا بِهِ الشَّجَرُ)).

وَلَوْ أَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ نَصَحُوا للهِ فِي عِبَادِهِ فَقَالُوا: يَا عِبَادَ اللهِ! اسْمَعُوا مَا نُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْ نَبِيِّكُمْ وَصَالِحِ سَلَفِكُمْ، فَاعْمَلُوا بِهِ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى أَعْمَالِنَا فَإِنَّا مَفْتُونُونَ؛ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَالُوهُ لَكَانُوا قَدْ نَصَحُوا للهِ فِي عِبَادِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْعُوا عِبَادَ اللهِ إِلَى أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ فَيَدْخُلُوا مَعَهُمْ فِيهَا.

وَهَذَا شَأْنُ الْعِلْمِ؛ إِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ النَّفْعُ اسْتُجْلِبَ بِهِ الضُّرُّ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ)).

قَالَ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ- شَارِحًا وَمُفَسِّرًا: ((يَعْنِي: إِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهِ ضَرَّهُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ)).

وَتُوَضِّحُ حِكْمَةُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ الْأَمْرَ إِذْ يَقُولُ: ((إِنِّي وَجَدْتُ فِي بَعْضِ الْحِكْمَةِ: لَا خَيْرَ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ مَا لَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا، فَحَزَمَ حُزْمَةً، ذَهَبَ لِيَحْمِلَهَا فَعَجَزَ عَنْهَا، فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى)).

وَأَحْرَى بِمَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُخْبِتًا للهِ قَانِتًا، وَأَنْ يَكُونَ بِعِلْمِهِ عَامِلًا، وَأَنْ يَدَعَ الْغَفْلَةَ جَانِبًا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ جَهْلِهِ بِعَدَمِ مُوَاقَعَةِ السَّيِّئَاتِ؛ إِذِ السَّيِّئَاتُ أَصْلُهَا الْجَهْلُ، وَهُوَ إِلَى الْعِلْمِ مُنْتَسِبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَنْ هَذَا الْجَهْلِ بَعِيدًا.

وَقَدْ رَوَى كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَثَرًا ضَعِيفًا ذَكَرَ فِيهِ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَصْنَافَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ شَرَحَ ذَلِكَ الْأَثَرَ شَرْحًا مُسْتَفِيضًا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ فِي شَرْحِهِ: ((ذَكَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَصْنَافَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَا يَصْلُحُونَ لِحَمْلِهِ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ:

أَحَدُهُمْ: مَنْ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي أُوتِيَ ذَكَاءً وَحِفْظًا؛ وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ زَكَاءً، فَهُوَ يَتَّخِذُ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الدِّينِ آلَةَ الدُّنْيَا، يَسْتَجْلِبُهَا بِهِ، وَيَتَوَسَّلُ بِالْعِلْمِ إِلَيْهَا، وَيَجْعَلُ الْبِضَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَتْجَرُ الْآخِرَةِ مَتْجَرَ الدُّنْيَا، وَهَذَا غَيْرُ أَمِينٍ عَلَى مَا حَمَلَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا يَجْعَلُهُ اللهُ إِمَامًا فِيهِ قَطُّ؛ فَإِنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي لَا غَرَضَ لَهُ وَلَا إِرَادَةَ لِنَفْسِهِ إِلَّا اتِّبَاعُ الْحَقِّ وَمُوَافَقَتُهُ، فَلَا يَدْعُو إِلَى رِيَاسَتِهِ وَلَا دُنْيَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَدِ اتَّخَذَ بِضَاعَةَ الْآخِرَةِ وَمَتْجَرَهَا مَتْجَرًا لِلدُّنْيَا قَدْ خَانَ اللهَ، وَخَانَ عِبَادَهُ، وَخَانَ دِينَهُ؛ فَلِهَذَا قَالَ: غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعِمَهِ عَلَى عِبَادِهِ، هَذِهِ صِفَةُ هَذَا الْخَائِنِ، إِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ اسْتَظْهَرَ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ، وَإِذَا تَعَلَّمَ عِلْمًا اسْتَظْهَرَ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَمَعْنَى اسْتِظْهَارِهِ بِالْعِلْمِ عَلَى كِتَابِ اللهِ: تَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُهُ وَإِقَامَتُهُ دُونَهُ، وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ عِلْمٌ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي بِهِ، وَيَسْتَظْهِرُ بِهِ وَيُحَكِّمُهُ، وَيَجْعَلُ كِتَابَ اللهِ تَبَعًا لَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالَ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الْعَالِمَ حَقًّا يَسْتَظْهِرُ بِكِتَابِ اللهِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيُقَدِّمُهُ وَيُحَكِّمُهُ، وَيَجْعَلُهُ عِيَارًا عَلَى غَيْرِهِ، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، كَمَا جَعَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- كَذَلِكَ، فَالْمُسْتَظْهِرُ بِهِ سَعِيدٌ مُوَفَّقٌ، وَالْمُسْتَظْهِرُ عَلَيْهِ مَخْذُولٌ شَقِيٌّ، وَهَذَا حَالُ مَنِ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللهِ عَنْهُ، وَاكْتَفَى بِغَيْرِهِ مِنْهُ، وَقَدَّمَ غَيْرَهُ، وَأَخَّرَهُ.

وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ: الْمُنْقَادُ الَّذِي لَمْ يَثْلُجْ لَهُ صَدْرَهُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ بِهِ قَلْبُهُ، بَلْ هُوَ ضَعِيفُ الْبَصِيرَةِ فِيهِ؛ لَكِنَّهُ مُنْقَادٌ لِأَهْلِهِ، وَهَذِهِ حَالُ أَتْبَاعِ الْحَقِّ مِنْ مُقَلِّدِيهِمْ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ فَلَيْسُوا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ مُكَثِّرِي سَوَادِ الْجَيْشِ، لَا مِنْ أُمَرَائِهِ، وَلَا مِنْ فُرْسَانِهِ.

وَقَوْلُهُ: ((يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ))؛ هَذَا لِضَعْفِ عِلْمِهِ، وَقِلَّةِ بَصِيرَتِهِ، إِذَا وَرَدَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَدْنَى شُبْهَةٍ قَدَحَتْ فِيهِ الشَّكَّ وَالرَّيْبَ، بِخِلَافِ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ؛ لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهِ بِعَدَدِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ مَا أَزَالَتْ يَقِينَهُ، وَلَا قَدَحَتْ فِيهِ شَكًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَسَخَ فِي الْعِلْمِ، فَلَا تَسْتَفِزُّهُ الشُّبُهَاتُ، بَلْ إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ رَدَّهَا حَرَسُ الْعِلْمِ وَجَيْشُهُ مَغْلُولَةً مَغْلُوبَةً.

وَالشُّبْهَةُ وَارِدٌ يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ انْكِشَافِ الْحَقِّ لَهُ، فَمَتَى بَاشَرَ الْقَلْبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَمْ تُؤَثِّرْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِيهِ، بَلْ يَقْوَى عِلْمُهُ وَيَقِينُهُ بِرَدِّهَا، وَمَعْرِفَةِ بُطْلَانِهَا، وَمَتَى لَمْ يُبَاشِرْ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ قَلْبُهُ قَدَحَتْ فِيهِ الشَّكَّ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ، فَإِنْ تَدَارَكَهَا وَإِلَّا تَتَابَعَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَمْثَالُهَا حَتَّى يَصِيرَ شَاكًّا مُرْتَابًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِاشْتِبَاهِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فِيهَا؛ فَإِنَّهَا تَلْبَسُ ثَوْبَ الْحَقِّ عَلَى جِسْمِ الْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ أَصْحَابُ حُسْنٍ ظَاهِرٍ، فَيَنْظُرُ النَّاظِرُ فِيمَا أُلْبِسَتْهُ مِنَ اللِّبَاسِ فَيَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِذَلِكَ، بَلْ يُجَاوِزُ نَظَرُهُ إِلَى بَاطِنِهَا وَمَا تَحْتَ لِبَاسِهَا، فَيَنْكَشِفُ لَهُ حَقِيقَتُهَا.

وَمِثَالُ هَذَا: الدِّرْهَمُ الزَّائِفُ؛ فَإِنَّهُ يَغْتَرُّ بِهِ الْجَاهِلُ بِالنَّقْدِ نَظَرًا إِلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسِ الْفِضَّةِ، وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ يُجَاوِزُ نَظَرُهُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَيَطَّلِعُ عَلَى زَيْفِهِ، فَاللَّفْظُ الْحَسَنُ الْفَصِيحُ هُوَ لِلشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ مِنَ الْفِضَّةِ عَلَى الدِّرْهَمِ الزَّائِفِ، وَالْمَعْنَى كَالنُّحَاسِ الَّذِي تَحْتَهُ، وَكَمْ قَتَلَ هَذَا مِنْ خَلْقٍ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ.

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ الْفَطِنُ هَذَا الْقَدْرَ وَتَدَبَّرَهُ؛ رَأَى أَكْثَرَ النَّاسِ يَقْبَلُ الْمَذْهَبَ وَالْمَقَالَةَ بِلَفْظٍ، وَيَرُدُّهَا بِعَيْنِهَا بِلَفْظٍ آخَرَ، فَإِذَا أَرَدْتَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُنْهِ الْمَعْنَى: هَلْ هُوَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؛ فَجَرِّدْهُ مِنْ لِبَاسِ الْعِبَارَةِ، وَجَرِّدْ قَلْبَكَ عَنِ النَّفْرَةِ وَالْمَيْلِ، ثُمَّ أَعْطِ النَّظَرَ حَقَّهُ نَاظِرًا بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي مَقَالَةِ أَصْحَابِهِ وَمَنْ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِهِ نَظَرًا تَامًّا بِكُلِّ قَلْبِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي مَقَالَةِ خُصُومِهِ وَمَنْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِهِ كَنَظَرِ الشَّزْرِ وَالْمُلَاحَظَةِ؛ فَالنَّاظِرُ بِعَيْنِ الْعَدَاوَةِ يَرَى الْمَحَاسِنَ مَسَاوِئَ، وَالنَّاظِرُ بِعَيْنِ الْمَحَبَّةِ عَكْسُهُ، وَمَا سَلِمَ مِنْ هَذَا إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللهُ كَرَامَتَهُ، وَارْتَضَاهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ.

وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: رَجُلٌ نَهْمَتُهُ فِي نَيْلِ لَذَّتِهِ؛ فَهُوَ مُنْقَادٌ لِدَاعِي الشَّهْوَةِ أَيْنَ كَانَ، وَلَا يَنَالُ دَرَجَةَ وِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ مَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَنَالُ الْعِلْمَ إِلَّا بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ، وَتَطْلِيقِ الرَّاحَةِ.

وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ حِرْصُهُ وَهَمُّهُ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ، وَتَثْمِيرِهَا، وَادِّخَارِهَا؛ فَقَدْ صَارَتْ لَذَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَفَنِيَ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا يَرَى شَيْئًا أَطْيَبَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ؛ فَأَيْنَ هَذَا وَدَرَجَةَ الْعِلْمِ؟!

فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسُوا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَلَا مِنْ طَلَبَتِهِ الصَّادِقِينَ فِي طَلَبِهِ، وَمَنْ تَعَلَّقَ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ مِنَ الْمُتَسَلِّقِينَ عَلَيْهِ، الْمُتَشَبِّهِينَ بِحَمَلَتِهِ وَأَهْلِهِ، الْمُدَّعِينَ لِوِصَالِهِ، الْمَبْتُوتِينَ مِنْ حِبَالِهِ، وَفِتْنَةُ هَؤُلَاءِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ لِمَا يَظُنُّونَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَيَقُولُونَ لَسْنَا خَيْرًا مِنْهُمْ، وَلَا نَرْغَبُ بِأَنْفُسِنَا عَنْهُمْ، فَهُمْ حُجَّةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ)).

قَالَ الْمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ لِلْمَأْمُونِ: ((أَيَحْسُنُ بِالشَّيْخِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟)).

فَقَالَ: ((إِنْ كَانَ الْجَهْلُ يَعِيبُهُ فَالتَّعَلُّمُ يَحْسُنُ بِهِ)).

وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَنْ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ؟)).

قَالَ: ((أَعْلَمُهُمْ -أَعْلَمُ النَّاسِ أَحْوَجُهُمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ-؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ قَبِيحٌ)).

((ثَمَرَاتُ الْعِلْمِ))

لَقَدْ مَدَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الْعِلْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَخَصَّهُمْ بِالْخَشْيَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَخْشَى وَأَرْجَى.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ ﷺ: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «يَا كُمَيْلُ! الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو وَيَزِيدُ عَلَى الْإِنْفَاقِ».

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ».

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «النَّاسُ إِلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَحَاجَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ».

* وَبِالْعِلْمِ يُعْرَفُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُعْبَدُ وَيُوَحَّدُ.

* وَالْعِلْمُ أَسَاسُ صِحَّةِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ.

* وَالْعِلْمُ طَلَبُهُ عِبَادَةٌ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

* وَالْعِلْمُ طَرِيقُ الْوُصُولِ إِلَى الْجَنَّةِ، ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ بِهِ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)). كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).

* وَالْعِلْمُ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ الْخَشْيَةَ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

((إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.. كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ؛ كَانَتِ الْخَشْيَةُ لَهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قَالَ: ((الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ)).

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((الْعَالِمُ بِالرَّحْمَنِ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ وَمُحَاسَبٌ بِعَمَلِهِ)).

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ((الْخَشْيَةُ هِيَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سَخِطَ اللَّهُ فِيهِ، ثُمَّ تَلَا الْحَسَنُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ})).

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ عَنْ كَثْرَةِ الْخَشْيَةِ)).

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: ((إِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ))

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ: ((مَعْنَاهُ: أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تُدْرَكُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُتَّبَعَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ((نُورٌ)): يُرِيدُ بِهِ فَهْمَ الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَةَ مَعَانِيهِ)).

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّمِيمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: ((كَانَ يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاللَّهِ عَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٌ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ، فَالْعَالِمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ: الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ، وَالْعَالِمُ بِاللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللَّهِ: الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَلَا يَعْلَمُ الْحُدُودَ وَلَا الْفَرَائِضَ، وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللَّهِ: الَّذِي يَعْلَمُ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ، وَلَا يَخْشَى اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

* وَالْعِلْمُ يُورِثُ صَاحِبَهُ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

((الْعِلْمُ نُورٌ لِلْعُقُولِ وَالدُّنْيَا))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعِلْمَ الْحَقَّ هُوَ نُورُ الْعُقُولِ وَالْعَالَمِ؛ فَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ الْعَبْدُ، فَيَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَكَيْفَ يُعَامِلُ عِبَادَهُ، فَتَكُونُ مَسِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ.

وَالْعَالِمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ((وَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، وَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَابِدٍ -لَا يُشَارِكُ فِي الْعِلْمِ، وَلَا مُشَارَكَةَ لَهُ فِيهِ- فَسَأَلَهُ: قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ فَقَالَ: لَا، تَقْتُلُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا وَتَكُونُ لَكَ تَوْبَةٌ؟!!

فَلَمَّا آيَسَهُ، وَمِنَ الْخَيْرِ أَيْأَسَهُ.. قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ، مَا دَامَ بَابُ التَّوْبَةِ قَدْ أُغْلِقَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مِائَةً، فَقَتَلَهُ فَأَتَمَّ بِهِ الْمِائَةَ.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَالِمٍ فَسَأَلَهُ: قَتَلْتُ مِائَةً، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى بَلَدٍ أَهْلُهُ صَالِحُونَ لِيَخْرُجَ إِلَيْهَا، فَخَرَجَ، فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ)).

الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ               =       أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

الْعِلْمُ غَايَتُهُ الْقُصْوَى وَرُتْبَتُهُ الْــ            =  عَلْيَاءُ فَاسْعَوْا إِلَيْهِ يَا أُولِي الْهِمَمِ

الْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالِبُهُ                  =    للهِ أَكْرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ              =      أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُلَمِ

الْعِلْمُ أَعْلَى حَيَاةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا               =      أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بِجَهْلِهِمِ

لَا سَمْعَ لَا عَقْلَ بَلْ لَا يُبْصِرُونَ       =           وَفِي السَّعِيرِ مُعْتَرِفٌ كُلٌّ بِذَنْبِهِمِ

فَالْجَهْلُ أَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ قَاطِبَةً           =     وَأَصْلُ شِقْوَتِهِمْ طُرًّا وَظُلْمِهِمِ

وَالْعِلْمُ أَصْلُ هُدَاهُمْ مَعْ سَعَادَتِهِمْ   =    فَلَا  يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ذَوُو الْحِكَمِ

وَالْخَوْفُ بِالْجَهْلِ وَالْحُزْنُ الطَّوِيلُ بِهِ        =     وَعَنْ أُولِي الْعِلْمِ مَنْفِيَّانِ فَاعْتَصِمِ

الْعِلْمُ وَاللهِ مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ لَا                 =    مِيرَاثَ يُشْبِهُهُ طُوبَى لِمُقْتَسِمِ

لِأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍّ دَائِمٍ أَبَدًا                       =    وَمَا سِوَاهُ إِلَى الْإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ

وَمِنْهُ إِرْثُ سُلَيْمَانَ النُّبُوَّةَ وَالْـ             =     فَضْلَ الْمُبِينَ فَمَا أَوْلَاهُ بِالنِّعَمِ

الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ           =      أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ من لَمَمِ

كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ فِي لُجَجٍ             =     مِنَ الْبِحَارِ لَهُ فِي الضَّوْءِ وَالظُّلَمِ

وَخَارِجٌ فِي طِلَابِ الْعِلْمِ مُحْتَسِبًا            =    مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيُّ كَمِي

وَإِنَّ أَجْنِحَةَ الْأَمْلَاكِ تَبْسُطُهَا             =     لِطَالِبِيهِ رِضًا مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمِ

يَا طَالِبَ الْعِلْمِ!

إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مُمَارَاةَ السَّفِيهِ بِهِ            =     كَذَا مُبَاهَاةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَرُمِ

فَإِنَّ أَبْغَضَ كُلِّ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ            =    إِلَى الْإِلَهِ أَلَدُّ النَّاسِ فِي الْخِصَمِ

 

((الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ بِهِ سَبِيلُ نَجَاةِ الْأُمَّةِ))

مَا أَحْوَجَ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ إِلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ لَهَا مِمَّا تَوَرَّطَتْ فِيهِ وَمِنَ الْمَأْزِقِ الَّذِي فِيهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَذَلِكَ هُوَ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، كَمَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ ﷺ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9].

فَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقُّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَا نَجَاةَ لِلْأُمَّةِ مِمَّا تَوَرَّطَتْ فِيهِ إِلَّا بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي أُلُوهِيَّتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ شَيْءٌ مِثْلُ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلْمًا نَافِعًا فِي نُفُوسٍ زَاكِيَةٍ، وَقُلُوبٍ زَكِيَّةٍ، وَفِي عُقُولٍ نَقِيَّةٍ، وَفِي أَجْسَادٍ قَائِمَةٍ عَلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهِيَ مُجَانِبَةٌ لِمَعَاصِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَمَا حَذَّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ لِسَانَ الْحَالِ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ.

وَإِنَّهُ لَيَكُونُ أَجْدَى لِأَلْفِ رَجُلٍ حَالُ رَجُلٍ وَفِعْلُهُ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ، فَفِعْلُ رَجُلٍ أَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ، وَإِنَّمَا هِيَ الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَأَسِّينَ بِرَسُولِهِ، الْقَائِمِينَ عَلَى حُرْمَةِ دِينِهِ، الدَّاعِينَ إِلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ عَلَى بَصِيرَةٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: إِذَا اسْتَنَارَ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ أَنَارَ الدُّنْيَا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الخَوْفُ مِن اللهِ وَثَمَرَاتُهُ وآثَارُهُ عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ
  الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ
  الرد على الملحدين:دليل العناية على وجود الله عز وجل
  بَيَانُ الشَّيْخِ رَسْلَان حَوْلَ تَهْجِيرِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ
  الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر
  وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ
  أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ
  تَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة وَحُقُوقُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
  خوارج العصر والتكفير
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان