((الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَيَّامٌ عَسِرَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ وَعَلَى فِلَسْطِينَ وَمِصْرَ خَاصَّةً))
فَهَذِهِ أَيَّامٌ عَسِرَةٌ تَمُرُّ عَلَى الْأُمَّةِ عَامَّةً، وَعَلَى الْفِلَسْطِينِيِّينَ خَاصَّةً، وَعَلَى مِصْرَ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، وَأَحْدَاثُهَا فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْمُؤَامَرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِإِعَادَةِ رَسْمِ خَرِيطَةِ الْمَنْطِقَةِ، وَهَذَا الْفَصْلُ الْحَدِيثُ مِنْ فُصُولِ الْمُؤَامَرَةِ الَّذِي تَدُورُ أَحْدَاثُهُ فِي الْقِطَاعِ شَبِيهٌ أَوْ مَثِيلٌ لِفَصْلِهَا الْمَعْرُوفِ بِـ(أَحْدَاثِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر سَنَةَ إِحْدَى وَأَلْفَيْنِ) 11/9/2001.
((حَقِيقَةُ أَحْدَاثِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر))
يَقُولُونَ عَنْ أَحْدَاثِ الْحَادِيَ عَشَرَ: هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْهَجْمَاتِ الْإِرْهَابِيَّةِ الَّتِي اسْتَهْدَفَتِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، الْمُوَافِقِ لِلْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر سَنَةَ إِحْدَى وَأَلْفَيْنِ (11/9/2001م).
وَجَرَتْ بِوَاسِطَةِ أَرْبَعِ طَائِرَاتِ نَقْلٍ مَدَنِيٍّ تِجَارِيَّةٍ، تَقُودُهَا أَرْبَعُ فِرَقٍ لِتَنْظِيمِ الْقَاعِدَةِ، وُجِّهَتْ لِتَصْطَدِمَ بِأَهْدَافٍ مُحَدَّدَةٍ، وَقَدْ نَجَحَتْ ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ الِاصْطِدَامُ بِبُرْجَيْ (مَرْكَزِ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ)، وَوَقَعَ الِاصْطِدَامُ بِمَقَرِّ (وَزَارَةِ الدِّفَاعِ الْأَمْرِيكِيَّةِ) الْمَعْرُوفِ بِـ(الْبِنْتَاجُون)، بَيْنَمَا لَمْ تُحَدِّدِ التَّحَرِّيَّاتُ حَتَّى الْيَوْمَ الْهَدَفَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ خَاطِفُو الطَّائِرَةِ الرَّابِعَةِ ضَرْبَهُ.
تَسَبَّبَتْ هَذِهِ الْأَحْدَاثُ عَنْ مَقْتَلِ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَخْصٍ، وَانْهَارَ كِلَا الْبُرْجَيْنِ الْمُكَوَّنَيْنِ مِنْ عَشْرَةٍ وَمِائَةِ طَابِقٍ (110)، وَتَسَبَّبَ الْحُطَامُ وَالْحَرِيقُ النَّاتِجَانِ عَنْ ذَلِكَ فِي انْهِيَارٍ جُزْئِيٍّ أَوْ كَامِلٍ لِجَمِيعِ الْمَبَانِي الْأُخْرَى فِي مُجَمَّعِ (مَرْكَزِ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ)، بِمَا فِي ذَلِكَ بُرْجُ مَرْكَزِ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ السَّابِعُ، الْمُكَوَّنُ مِنْ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ 47 طَابِقًا، نَاهِيكَ عَنْ أَضْرَارٍ كَبِيرَةٍ لَحِقَتْ بِعَشْرِ مَبَانٍ أُخْرَى كَبِيرَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ.
وَتَحَطَّمَتِ الطَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ بِالِاصْطِدَامِ بِمَبْنَى مَقَرِّ (وَزَارَةِ الدِّفَاعِ الْأَمْرِيكِيَّةِ)، مَا أَدَّى إِلَى انْهِيَارٍ جُزْئِيٍّ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْمَبْنَى.
وَتَحَطَّمَتِ الطَّائِرَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي كَانَتْ مُتَّجِهَةً إِلَى وَاشُنْطُن الْعَاصِمَةِ بَعْدَ أَنْ تَصَدَّى رُكَّابُهَا لِلْخَاطِفِينَ وَأَحْبَطُوهُمْ.
وُجِّهَتِ الِاتِّهَامَاتُ نَحْوَ (تَنْظِيمِ الْقَاعِدَةِ)، وَرَدَّتِ الْوِلَايَاتُ الْمُتَّحِدَةُ بِشَنِّ الْحَرْبِ عَلَى مَا سَمَّتْهُ بِالْإِرْهَابِ، وَبِغَزْوِ أَفْغَانِسْتَانَ لِخَلْعِ (حَرَكَةِ طَالِبَانِ) الَّتِي رَفَضَتْ الِامْتِثَالَ لِلْمَطَالِبِ الْأَمْرِيكِيَّةِ.
هَذَا مُلَخَّصُ الرِّوَايَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ لِأَحْدَاثِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر.
((وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدُ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ أَبَدًا؛ فَقَدْ كَانَتْ الِاسْتِخْبَارَاتُ الْأَمْرِيكِيَّةُ عَلَى عِلْمٍ بِالْأَحْدَاثِ قَبْلَ وُقُوعِهَا؛ وَلَكِنَّهَا غَضَّتِ الطَّرْفَ عَنْهَا؛ بَلْ أَغْمَضَتِ الْعَيْنَ عَنْهَا، وَمَهَّدَتْ لِوُقُوعِهَا، وَبِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُرِيدُهَا؛ لِتَدْمِيرِ أَفْغَانِسْتَانَ، وَالْحَرْبِ عَلَى الْعِرَاقِ، وَشَنِّ الْحَرْبِ الْمَزْعُومَةِ عَلَى الْإِرْهَابِ فِي جَمِيعِ طِبَاقِ الْأَرْضِ.
تَقُولُ ذَلِكَ (سُوزَان لِينْدَاوُر)، وَقَدْ عَمِلَتْ ضَابِطَ اتِّصَالٍ لَدَى (وَكَالَةِ اسْتِخْبَارَاتِ أَمِرِيكَا)، وَقَدَّمَتْ تَقَارِيرَ إِلَيْهَا تُحَذِّرُ مِنِ احْتِمَالِ وُقُوعِ هَجْمَاتٍ بِالطَّائِرَاتِ عَلَى (مَرْكَزِ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ) بِـ(نُيُو يُورْك) فِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر سَنَةَ إِحْدَى وَأَلْفَيْنِ (11/9-2001م)، وَحَذَّرَتْ -أَيْضًا- مِنَ الْمَآسِي الَّتِي سَتَنْتُجُ عَنْ غَزْوِ الْعِرَاقِ؛ وَلَكِنَّ إِدَارَةَ (بُوش) الصَّغِيرِ كَانَتْ -كَمَا تَقُولُ الْكَاتِبَةُ- مُصَمِّمَةً عَلَى احْتِلَالِ الْعِرَاقِ؛ سَوَاءٌ ثَبَتَ امْتِلَاكُهُ لِأَسْلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ أَمْ لَمْ يَثْبُتْ؛ وَلِذَلِكَ تَنَكَّرَتْ لَهَا الِاسْتِخْبَارَاتُ الْأَمْرِيكِيَّةُ، وَشَكَّكَتْ وَزَارَةُ الْعَدْلِ فِي سَلَامَةِ قُوَاهَا الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ اعْتُقِلَتْ عَامَ أَرْبَعٍ وَأَلْفَيْنِ (2004م)، وَوُجِّهَتْ لَهَا تُهْمَةُ الْعَمَالَةِ لِلْعِرَاقِ، ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَصَحَّةِ الْأَمْرَاضِ الْعَقْلِيَّةِ دَاخِلَ قَاعِدَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ، وَاحْتُجِزَتْ بِمُوجَبِ (قَانُونِ الْبَاتْرِيُوت) لِمُدَّةِ خَمْسِ سَنَوَاتٍ بِدُونِ تَوْجِيهِ أَيِّ تُهْمَةٍ إِلَيْهَا أَوْ مُحَاكَمَةٍ.
وَأَلَّفَتْ (لِينْدَاوُر) كِتَابًا تَحْكِي فِيهِ تَجْرِبَتَهَا، وَنَشَرَتْهُ فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ، وَكَشَفَتْ فِيهِ أَسْرَارَ هَجْمَاتِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر، وَذَكَرَتْ أَنَّهَا مِنْ تَدْبِيرِ الِاسْتِخْبَارَاتِ الْأَمْرِيكِيَّةِ وَالْمُوسَادِ الصُّهْيُونِيِّ، وَذَكَرَتْ أَنَّ (مَرْكَزَ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيَّ) لَمْ يُدَمَّرْ بِفِعْلِ اصْطِدَامِ الطَّائِرَتَيْنِ، وَإِنَّمَا دُمِّرَ بِاسْتِخْدَامِ (قَنَابِلِ الثِّرْمَايِت) الَّتِي نُقِلَتْ بِشَاحِنَاتٍ قَبْلَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْهَجْمَاتِ، وَهُوَ مَا يُفَسِّرُ السُّقُوطَ الْحُرَّ لِلْبُرْجَيْنِ مَعًا، وَيُفَسِّرُ انْصِهَارَ الْحَدِيدِ، وَتَحَوُّلَهُ إِلَى غُبَارٍ فِي مَوْقِعِ الْحَادِثِ، وَقَدْ أَكَّدَ رِوَايَتَهَا (الْمَعْهَدُ الْوَطَنِيُّ لِلْمَعَايِيرِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا) )).
كِتَابُ (سُوزَان لِينْدَاوُر) الَّتِي عَمِلَتْ كَضَابِطِ اتِّصَالٍ لَدَى (وَكَالَةِ الِاسْتِخْبَارَاتِ الْمَرْكَزِيَّةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ)، عُنْوَانُهُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ: ((عِنْدَمَا تُصْبِحُ الْحَقِيقَةُ خِيَانَةً))، وَالْكِتَابُ فِي تَرْجَمَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ مُتَاحٌ عَلَى الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ لِلِاطِّلَاعِ أَوْ لِلتَّنْزِيلِ مَجَّانًا، وَأَنْصَحُ بِقِرَاءَتِهِ وَفَهْمِهِ.
((قَانُونُ الْغَرْبِ فِي الِاسْتِعْمَارِ وَالسَّيْطَرَةِ))
لَقَدْ قَالَ شَاعِرُ الْمُسْتَعْمَرَاتِ (رُودْيَارْد كِيبْلِنْغ): ((الشَّرْقُ شَرْقٌ، وَالْغَرْبُ غَرْبٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَقِيَا)).
وَقَانُونُ الْغَرْبِ فِي الِاسْتِعْمَارِ وَالسَّيْطَرَةِ هُوَ: بَدَلَ أَنْ تُنْهِكَ نَفْسَكَ فِي السَّيْطَرَةِ عَلَى كُلِّ الْقُطْعَانِ فِي حَظِيرَتِكَ؛ اجْعَلِ الْقُطْعَانَ كُلَّهَا جَمِيعًا قَطِيعًا وَاحِدًا.
وَمِنَ الصَّعْبِ أَنْ تُسَيْطِرَ عَلَى شَخْصٍ يَحْمِلُ تَارِيخَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ؛ لِأَنَّكَ سَتُضْطَرُّ إِلَى مُحَارَبَةِ هَذَا التَّارِيخِ كُلِّهِ مِنْ خِلَالِهِ، جَرِّدْهُ مِنْ أَصَالَتِهِ، انْفِهِ عَنْ تَارِيخِهِ، فَكِّكْ رَوَابِطَهُ الْمُجْتَمَعِيَّةَ، حَارِبْهُ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الرَّوَابِطَ الْمُجْتَمَعِيَّةَ تُعَدُّ أَسَاسَ تَشْكِيلِ الْقَطِيعِ وَهَيْكَلَتِهِ.
((مُخَطَّطُ تَهْجِيرِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَتَصْفِيَةُ الْقَضِيَّةِ!))
مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ!
فَصْلُ الْمُؤَامَرَةِ الَّذِي يَجْرِي فِي فِلَسْطِينَ الْمُحْتَلَّةِ -وَفِي الْقِطَاعِ خَاصَّةً- اسْتِنْسَاخٌ لِفَصْلِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر، غَضَّتِ اسْتِخْبَارَاتُ الِاحْتِلَالِ الطَّرْفَ؛ بَلْ أَغْمَضَتِ الْعَيْنَ وَتَجَاهَلَتْ مَا عَلِمَتْهُ يَقِينًا؛ بَلْ وَأَفْسَحَتِ الْمَجَالَ لِوُقُوعِهِ؛ لِيَبْدُوَ هُجُومُ الْفِلَسْطِينِيِّينَ سَاحِقًا سَيَقْضِي عَلَى الْكِيَانِ وَيُبِيدُهُ، وَكَمَا ضَحَّتْ أَمِرِيكَا بِثَلَاثَةِ آلَافِ (3000) قَتِيلٍ فِي أَحْدَاثِ الْحَادِيَ عَشَرَ؛ لِتَصِلَ إِلَى جَنْيِ الثَّمَرَاتِ الَّتِي جَنَتْهَا بِمُحَارَبَةِ الْإِرْهَابِ -بِزَعْمِهَا-؛ ضَحَّى الْكِيَانُ وَيُضَحِّي بِأَلْفٍ.. بِأَلْفٍ وَنِصْفٍ؛ لِيَصِلَ إِلَى إِنْفَاذِ مُخَطَّطِ التَّهْجِيرِ، وَصُنْعِ الْوَطَنِ الْبَدِيلِ لِلْفِلَسْطِينِيِّينَ خَارِجَ فِلَسْطِينَ الْمُحْتَلَّةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَصْفِيَةِ الْقَضِيَّةِ.
وَهَدَفُ فَصْلَيِ الْمُؤَامَرَةِ الْأَمْرِيكِيُّ وَالصُّهْيُونِيُّ هُوَ: بِاخْتِيَارِكَ أَنْتَ سَتُعْطِينِي مُبَرِّرًا لِسَحْقِكَ وَمَحْقِكَ وَإِبَادَتِكَ، بِاخْتِيَارِكَ أَنْتَ فِيمَا يَبْدُو لَكَ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَنِّي أَغُضُّ الطَّرْفَ عَنْكَ، وَأَمُدُّ حَبْلَ التَّجَاهُلِ -بَلِ التَّعَامِي- عَمَّا تَظُنُّهُ أَنْتَ مِنْ خَالِصِ أَسْرَارِكَ وَصَمِيمِ خِدَاعِكَ، حَتَّى إِذَا مَا تَوَرَّطْتَ انْتَفَضْتُ كَأَنِّي انْتَبَهْتُ، وَقُمْتُ كَأَنِّي صَحَوْتُ؛ فَسَحَقْتُ وَمَحَقْتُ.
الْهَدَفُ: افْعَلْ مَا تَفْعَلُ بِإِيحَائِنَا وَسَمَاحِنَا؛ لِتُعْطِيَنَا مُبَرِّرًا وَحُجَّةً لِإِبَادَتِكَ؛ بَلْ لِتَأْلِيبِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ، وَسَوْقِ الْجُنُودِ وَالْعَتَادِ مِنْ أَرْكَانِ الْأَرْضِ حَرْبًا عَلَيْكَ، لَنْ نَقُولَ لَكَ: مِنْ فَضْلِكَ! أَعْطِنَا مُبَرِّرًا لِسَحْقِكَ وَمَحْقِكَ، وَلَكِنْ نَقُولُ لَكَ: رَغْمًا عَنْكَ سَتُعْطِينا مُبَرِّرًا، وَلَنْ يُوجَدَ بَعْدَ أَنْ تُعْطِيَنَا مُبَرِّرًا.. لَنْ يُوجَدَ مُبَرِّرٌ لِتَوَقُّفِنَا وَكَفِّنَا عَنْكَ حَتَّى نَصِلَ إِلَى غَرَضِنَا مِنْكَ!
((الْفَوْضَى هِيَ أَخْطَرُ مَا تُوَاجِهُهُ الْمُجْتَمَعَاتُ))
إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمَرْحُومَةَ مَرَّتْ فِي تَارِيخِهَا بِأَحْدَاثٍ كَثِيرَةٍ؛ وَلَكِنَّهَا مَا مَرَّتْ فِي تَارِيخِهَا قَطُّ بِمِثْلِ مَا تَمُرُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، تَكَالَبَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ، فَتَنَازَعَتْ أَحْوَالَهَا وَثَرْوَاتِهَا الْأَيَادِي النَّاهِبَةُ، وَصَارَ أَبْنَاؤُهَا فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ قَدْ يَكُونُ مُنْطَوِيًا عَلَى نِيَّةٍ صَالِحَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ يَسِيرُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُ أَعْظَمَ بِمَا لَا يُقَاسُ، بِمَا يَرْتَجِي مِنَ الصَّلَاحِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ صَلَاحٌ.
وَأَخْطَرُ مَا تُوَاجِهُهُ الْمُجْتَمَعَاتُ: أَنْ تَقَعَ فِي الْفَوْضَى الْقَاتِلَةِ الَّتِي تَنْفَلِتُ فِيهَا الشَّهَوَاتُ وَالْغَرَائِزُ مِنْ عُقُلِهَا، وَالَّتِي تَتَسَيَّبُ فِيهَا النُّفُوسُ مِنْ أَزِمَّتِهَا؛ وَحِينَئِذٍ تَتَبَدَّى الْوُحُوشُ النَّائِمَةُ الْهَاجِعَةُ فِي النُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ فَلَا دِينَ يَحُضُّ، وَلَا قَانُونَ يَصُدُّ، وَإِنَّمَا هُوَ انْفِلَاتٌ غَامِرٌ وَفَوْضَى عَارِمَةٌ.
وَكُلُّ مُحَاوَلَةٍ لِلْإِصْلَاحِ عَلَى غَيْرِ هَدْيٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ مَآلُهَا إِلَى الْخَرَابِ وَالْفَوْضَى وَالْيَبَابِ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الَّذِي يَقْصِدُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَامَرَةَ الَّتِي تَعْلَمُونَ أَوْ لَا تَعْلَمُونَ قَائِمَةٌ عَلَى تَمْزِيقِ الْمَنْطِقَةِ إِلَى دُوَيْلَاتٍ طَائِفِيَّةٍ، بَدَأَ هَذَا فِي لُبْنَانَ، قُسِّمَتْ وَمُزِّقَتْ، وَثُنِّيَ بَعْدُ بِالْعِرَاقِ، فَصَارَتْ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ، وَقَدْ تَصِيرُ إِلَى مَا لَا نَعْلَمُ، وَثُلِّثَ بِالسُّودَانِ، وَرُبِّعَ بِسُورِيَّا، وَخُمِّسَ بِالْيَمَنِ، وَيُحَاوِلُونَ تَقْسِيمَ لِيبْيَا -حَفِظَهَا اللهُ-، ثُمَّ يُرِيدُونَ كِنَانَةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ تَمْزِيقًا وَتَشْرِيدًا؛ لِتَنْقَسِمَ عَلَى دَوْلَتَيْنِ طَائِفِيَّتَيْنِ فِي جَنُوبٍ وَشَمَالٍ، ثُمَّ فَلْيَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَكُونُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْسَبُ أَنَّ الَّذِينَ يُعَادُونَ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يَتَحَرَّكُونَ عَلَى عَقِيدَةٍ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ بِالْعَقِيدَةِ، وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ، جَهْلٌ مَعِيبٌ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ عَدُوَّهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) عِنْدَمَا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَعَرَّفَهُ وَحَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْحُجَجِ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا قَدْ عَلِمْتَ وَحَاوَلْتَ وَرَدَدْتَ عَلَى شُبُهَاتِ الْوَثَنِيِّينَ؛ فَلْتَسْتَعِدَّ لَهُمْ، اعْرِفْ عَدُوَّكَ!
أَمَّا الْمُسْلِمُونَ! فَتُحَرِّكُهُمُ الْعَوَاطِفُ الثَّائِرَةُ، وَالْحَمَاسَاتُ الْفَائِرَةُ، وَلَا تُؤَدِّي إِلَى شَيْءٍ، بَلْ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَمَاسَكَ فِي هَذَا الظَّرْفِ الَّذِي قَدَّرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ نَشْهَدَهُ مِنْ تَارِيخِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَمَزَّقَتْ فَلَنْ يَجْتَمِعَ شَتَاتُهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا.
أَلَا إِنَّهُ تَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ!
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتِ الْوَطَنِ الرَّاهِنَةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا))
إِنَّ الْوَعْيَ بِقِيمَةِ الْوَطَنِ، وَبِالتَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا، وَبِالْمَخَاطِرِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ أَمْرٌ لَا غِنَى عَنْهُ؛ خَاصَّةً وَنَحْنُ فِي مَرْحَلَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرَجِ فِي تَارِيخِ مَنْطِقَتِنَا؛ فَالْمَخَاطِرُ جِسَامٌ، وَالتَّحَدِّيَّاتُ هَائِلَةٌ، وَالْأَعْدَاءُ بِنَا مُتَرَبِّصُونَ، وَالْأَمْرُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى زَمَنِ الْفِتَنِ الَّتِي تَجْعَلُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ؛ لِشِدَّةِ اخْتِلَاطِ الْأُمُورِ، وَاضْطِرَابِهَا، وَتَقَلُّبِهَا؛ اللهم إِلَّا عَلَى مَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، وَإِدْرَاكِ الْوَاقِعِ وَمَعْرِفَةِ حَجْمِ التَّحَدِّيَّاتِ.
وَإِنَّ الْوَعْيَ بِالْمَخَاطِرِ يَحْتَاجُ إِلَى الدِّرَاسَةِ، وَالْفَهْمِ، وَالتَّحْلِيلِ، وَإِعْمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي كَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهِ الْإِنْسَانَ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78].
وَقَدْ نَعَى الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَلَا يَسْتَخْدِمُونَهَا فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
وَلَعَلَّ مِنْ أَخْطَرِ التَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي تُوَاجِهُنَا: تِلْكَ التَّحَدِّيَّاتُ الَّتِي تُهَدِّدُ أَمْنَنَا وَاسْتِقْرَارَنَا فِي وَطَنِنَا؛ فَالْأَمْنُ نِعْمَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الْإِنْسَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فَبِدُونِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ لَا يَهْدَأُ لِلْإِنْسَانِ بَالٌ، وَلَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسٌ، وَلَا يَهْنَأُ بِالْحَيَاةِ؛ حَتَّى لَوْ أُوتِيَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا فِي تَحَقُّقِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَبِدُونِ الْأَمْنِ لَنْ تَقُومَ دَوْلَةٌ، وَلَنْ يَطْمَئِنَّ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ.
وَمِنْ أَجْلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ وَأَمْنِهِ وَأَمَانِهِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ جَمِيعًا فِي يَقَظَةٍ وَوَعْيٍ، وَحَيْطَةٍ وَحَذَرٍ، وَأَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ تَجَارِبِ الْحَيَاةِ وَخِبْرَاتِهَا.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].
وَقَالَ نَبِيُّنَا ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ)).
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ)).
وَلْنَعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ وَدَوَامَ أَمْنِ وَطَنِنَا أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا جَمِيعًا، كُلٌّ فِي مَجَالِهِ وَمَيْدَانِهِ؛ كَيْفَ لَا وَالْحِفَاظُ عَلَى الْوَطَنِ مِنْ أَهَمِّ الضَّرُورِيَّاتِ لِحِفْظِ الدِّينِ، وَبَقَاءِ الدُّنْيَا؟!
فَبِدُونِ الْوَطَنِ لَنْ نَتَمَكَّنَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِدُونِ الْوَطَنِ لَنْ نَسْتَطِيعَ إِعْمَارَ الْأَرْضِ الَّتِي أَمَرَنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِإِعْمَارِهَا.
((التَّحْذِيرُ مِنَ الْفَوْضَى وَإِسْقَاطِ الدُّوَلِ))
لَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ سَقَطَ حُكَّامُهُمْ، وَضَاعَتْ دُوَلُهُمْ -عَلَى عِوَجِهَا وَانْحِرَافِهَا- لَمْ تَعُدْ لَهُمْ كَرَامَةٌ -أَيْ: لِتِلْكَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ سَقَطَ حُكَّامُهُمْ- كَمَا كَانَتْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَرَأَيْنَاهُمْ مُشَتَّتِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ فِي الْبِلَادِ، أُهِينَ الْكَبِيرُ، وَتَنَكَّرَ لَهُمُ اللَّئِيمُ، وَاحْتُقِرَ الْعَزِيزُ الْمَنِيعُ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَحِيلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَوَالِدَيْهِ وَذَوِيهِ.
لِذَا يُقَالُ: ((شَعْبٌ بِلَا حُكُومَةٍ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، وَسُلْطَانٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ)).
((شَعْبٌ بِلَا حُكُومَةٍ شَعْبٌ بِلَا كَرَامَةٍ، وَسُلْطَانٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ)).
فَهَلْ يُرِيدُ المِصْرِيُّونَ الْيَوْمَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ بَلَدٍ، بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ؛ مِمَّا يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْحُكَّامِ -وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ-؛ فَنَكُونُ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ زُكَامًا فَأَحْدَثَ جُذَامًا، أَوْ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُطِبَّ جُذَامًا فَأَهْلَكَ الْأَصِحَّاءَ شِيبًا وَشُبَّانًا؟!!
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَعَبَثِ الْعَابِثِينَ.
أَلَا يَعْتَبِرُ الشَّبَابُ بِمَا جَرَى فِي عَدَدٍ مِنَ الدُّوَلِ عِنْدَمَا أَسْقَطُوا حُكَّامَهُمْ -وَهُمْ شَرٌّ مُسْتَطِيرٌ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ-؟!! فَقَدِ انْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ بِسُقُوطِهِمْ فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَزَادَ الْبَلَاءُ وَاسْتَفْحَلَ، وَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ لِيَتَمَنَّوْنَ رُجُوعَ الْأَيَّامِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ بَعْدَ أَنْ جَرَّبُوا الْفَوْضَى، وَذَاقُوا حَرَّهَا، وَاكْتَوَوْا بِلَظَاهَا؛ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!
وَقَدْ قُتِلَ وَجُرِحَ الْمَلَايِينُ مِنَ النَّاسِ، وَهُدِّمَتِ الْبُيُوتُ وَالْمَسَاجِدُ، وَانْتُهِكَتِ الْحُرُمَاتُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَقُطِعَتِ الطُّرُقُ -وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ-.
إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ لَا يُدَافِعُونَ بِذَلِكَ عَنِ الدُّوَلِ الْمُسْلِمَةِ الظَّالِمَةِ حُبًّا فِي الظُّلْمِ، أَوْ رُكُونًا إِلَى دُنْيَا الْحُكَّامِ؛ فَعُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ حَظًّا مِمَّا فِي يَدِ الْحُكَّامِ؛ وَلَكِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ يُنْكِرُونَ الْفِتْنَةَ، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْفِتْنَةُ، وَكُلَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ؛ اتِّبَاعًا لِمَنْهَجِ السَّلَفِ، اتِّبَاعًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، بِفَهْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَحِفَاظًا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ خَيْرٍ، وَصِيَانَةً لِلدِّمَاءِ مِنَ السَّفْكِ، وَلِلْحُرُمَاتِ مِنَ الِانْتِهَاكِ.
وَإِنْ كَانُوا -يَعْنِي: عُلَمَاءَ السُّنَّةِ- يَتَأَلَّمُونَ لِوُجُودِ الْمُنْكَرَاتِ، وَلَا يُنْكِرُونَ وُجُودَهَا، وَلَا يُبَالِغُونَ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يَنْصَحُونَ مَا أَمْكَنَ بِالْحَذَرِ مِنْ مَغَبَّةِ الذُّنُوبِ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ -تَعَالَى- بِاخْتِيَارِ الْأَصْلَحِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
لَوْ سَلَّمْنَا لِلشَّبَابِ فَنَقُولُ: أَسْقَطْتُمْ دَوْلَةً، مَعَ مَا يَكُونُ فِي جَرَّاءِ ذَلِكَ مِنْ إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَتَعْطِيلِ الْمَصَالِحِ، وَإِضَاعَةِ الثَّرْوَاتِ، وَإِضْعَافِ الْأُمَّةِ أَمَامَ أَعْدَائِهَا؛ فَلِمَنْ تُسْلِمُونَهَا؟!!
تَقُولُونَ: إِنَّمَا يَقُومُ الشَّبَابُ؛ فَمَنْ يَجْنِي الثَّمَرَةَ الْآنَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ؟!!
مَاذَا كَانَتْ مَطَالِبُهُمْ؟!!
مَاذَا لَوْ حُقِّقَتْ كُلُّهَا؟!!
فَمَاذَا يُرِيدُ الْقَوْمُ بَعْدُ؟!!
يُرِيدُونَ الْخَرَابَ وَالدَّمَارَ وَالْفَوْضَى.
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
حِينَئِذٍ يَتَدَخَّلُ الْأَعْدَاءُ بَعْدَ الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، وَإِضْعَافِ الْجَيْشِ الْمُدَافِعِ عَنْ دِينِ الْأُمَّةِ، وَأَرْضِهَا، وَأَبْنَائِهَا، وَشَعْبِهَا وَتُرَابِهَا؛ إِذْ يُوضَعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَيُكَلَّفُ بِغَيْرِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا نَشِبَتْ فِتْنَةٌ يُؤَجِّجُهَا مَنْ يُؤَجِّجُهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ لِكَيْ تَقَعَ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَجَيْشِهَا، حَتَّى يَصِيرَ الْجَيْشُ حَرْبًا عَلَى شَعْبِهِ، وَحَتَّى يَصِيرَ الشَّعْبُ عَدُوًّا لِجَيْشِهِ؛ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَ الدِّينِ حِينَئِذٍ؟!! وَكَيْفَ يَبْقَى؟!!
وَمَا بَقَاءُ الْوَطَنِ حِينَئِذٍ؟!! وَأَيْنَ يَبْقَى؟!!
وَأَيْنَ بَقَاءُ الْأَعْرَاضِ؟!!
وَكَيْفَ تُصَانُ الْحُرُمَاتُ؟!!
وَمَاذَا يَبْقَى لِلْأُمَّةِ بَعْدُ؟!!
أَلَا يَتَّقُونَ اللهَ؟!!
إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْوَطَنِ الْمُسْلِمِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَأَنْ يُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ.
سُئِلَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ، أَمِ الصِّحَّةُ؟
قَالَ: «الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ وَلَكِنَّهَا إِذَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ، وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْخَوْفِ تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَى أَنْ تَمُوتَ.
فَالْأَمْنُ أَفْضَلُ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا تَتَعَافَى بَعْدَ الْمَرَضِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَحْوَذَ الْخَوْفُ عَلَيْهَا قَتَلَهَا.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ».
وَاللهُ -تَعَالَى- أَجَابَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ آمِنًا، فَجَعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا)).
نِعْمَةُ الْأَمَانِ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَكُلِّ النِّعَمِ؛ تَتَطَلَّبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا؛ فَالنِّعْمَةُ صَيْدٌ، وَالشُّكْرُ قَيْدٌ.
وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْأَمَانِ بِالِاعْتِرَافِ بِهَا بِالْقَلْبِ بَاطِنًا، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَبِتَصْرِيفِهَا فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ بِهَا وَالْمُسْدِيهَا.
وَمِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ -نِعْمَةِ الْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ، نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي الدِّيَارِ-: الْعَبَثُ بِاسْتِقْرَارِ الْوَطَنِ وَأَمْنِهِ.
مِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: الْمُغَامَرَةُ بِمُسْتَقْبَلِ الْوَطَنِ، وَتَضْيِيعُ مَاضِيهِ.
مِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: تَأْجِيجُ نِيرَانِ الْأَحْقَادِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَتَقْوِيضُ دَعَائِمِ بِنَائِهِ.
مِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: اسْتِغْلَالُ مُعَانَاةِ الْجَمَاهِيرِ الْكَادِحَةِ الْمُرْهَقَةِ، الَّتِي أَرْهَقَهَا الْفَقْرُ، وَطَحَنَهَا الْغَلَاءُ؛ لِتَكُونَ وَقُودًا لِمَعْرَكَةٍ فَاشِلَةٍ ظَالِمَةٍ، الْغَالِبُ وَالْمَغْلُوبُ فِيهَا خَاسِرَانِ، وَالْمُضَيَّعُ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ هُوَ الْوَطَنُ؛ بِدِينِهِ، وَتَارِيخِهِ، وَتُرَاثِهِ، وَمَاضِيهِ، وَحَاضِرِهِ، وَمُسْتَقْبَلِهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
((تَحْذِيرٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْفَوْضَى الْخَلَّاقَةِ))
فَلَا أَسْأَمُ مِنْ تَذْكِيرِ إِخْوَانِنَا وَبَنِي وَطَنِنَا عَلَى اخْتِلَافِ وُجْهَاتِهِمْ، وَعَلَى تَنَافُرِ اتِّجَاهَاتِهِمْ؛ بَلْ عَلَى اخْتِلَافِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ؛ فَالْكُلُّ مُسْتَهْدَفٌ، وَالْكُلُّ مَطْلُوبٌ؛ لَا أَسْأَمُ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِمَا فِي ((سِفْرِ أَشْعِيَاءَ فِي الْأَصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ)): ((وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: هُوَ ذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ، وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، مَدِينَةٌ مَدِينَةً، وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً، وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا، فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ، وَالْعَازِفِينَ، وَأَصْحَابَ التَّوَابعِ وَالْعَرَّافِينَ، وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ، وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ وَتَضْعُفُ، وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ، وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ، وَالرِّيَاضُ عَلَى النِّيلِ، عَلَى حَافَةِ النِّيلِ، وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلَا تَكُونُ.
وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ، وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصًّا فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ، وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ، وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ، وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ، وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً، وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ، مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا -يَعْنِي: فِي وَسَطِ مِصْرَ- رُوحَ غَيٍّ، فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا؛ كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ)).
إِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِنْ غَفْلَتِنَا، لَا تَعْجَبْ مِنْ مَكْرِ الْقَوْمِ!
إِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِنْ غَفْلَتِنَا؛ إِذْ هَذَا الْكَلَامُ نَسْمَعُهُ، وَبَيْنَ أَيْدِينَا نَقْرَؤُهُ، ثُمَّ لَا يُؤَثِّرُ فِينَا عَمَلًا، وَلَا يُحَرِّكُ فِينَا فِكْرًا، بَلْ نَمُرُّ عَلَيْهِ مَرَّ الْكِرَامِ عَلَى اللَّغْوِ!
وَمَا هُوَ عِنْدَ الْقَوْمِ بِلَغْوٍ، هُوَ وَحْيٌ مُوحًى، وَكَلَامٌ مُقَدَّسٌ، وَوَعْدٌ مَوْعُودٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ وَإِنْجَازِهِ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ مُنْذُ كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُفْتَرًى، وَتَحْتَ أَعْيُنِهِمْ مُخْتَلَقًا، يَعْمَلُونَ لَهُ بِصَبْرٍ دَؤُوبٍ، وَبِهِمَّةٍ لَا تَكِلُّ، وَبِمَكْرٍ زَائِدٍ عَنِ الْحَدِّ.
فَإِنْ تَعْجَبْ فَلَا تَعْجَبْ مِنْ مَكْرِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا اعْجَبْ -إِنْ عَجِبْتَ- مِنْ غَفْلَتِنَا نَحْنُ، مِنْ ضِيقِ عَطَنِنَا، مِنْ ضِيقِ أُفُقِنَا، مِنْ ضِيقِ طَرِيقِنَا، وَقَدْ وَسَّعَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا!!
إِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ نِيَامٍ لَا يَنْتَبِهُونَ، فِي سُبَاتٍ لَا يَسْتَيْقِظُونَ، فِي بُلَهْنِيَةٍ لَا يَنْتَبِهُونَ!!
إِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِنْ أَقْوَامٍ تَرْعَى النِّيرَانُ فِي ثِيَابِهِمْ، لَا؛ بَلْ فِي أَطْرَافِهِمْ، ثُمَّ لَا يُفِيقُونَ مِنْ سَكْرَتِهِمْ، وَلَا يَنْتَبِهُونَ مِمَّا هُمْ فِيهِ سَادِرُونَ، وَلَا يَأْتَلِفُونَ، وَلَا يَتَّحِدُونَ، وَلَا عَلَى الْحَقِّ يَجْتَمِعُونَ!!
بَدَّدَتْ ثَارَاتِهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَصَارُوا فِي كُلِّ وِجْهَةٍ يَتَعَادُونَ يَتَنَاحَرُونَ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ أَعْدَاءَهُمْ رَبَّوْا شَبَابَهُمْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ بِنِفَايَاتِ الْقُرُونِ وَالْقُرُونِ، فَصَارُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَا عِنْدَ الْأَعْدَاءِ مِنْ هَذَا الْمَخْزُونِ، وَهُوَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، وَمِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ الْمُعَاصِرَةِ.
وَهُوَ مَشْرُوعُ الْغَرْبِ الصَّلِيبِيِّ، يُحَرِّكُهُ الْمَشْرُوعُ الصُّهْيُونِيُّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ إِنْشَاءِ الْهَيْكَلِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مَسِيحُهُمْ إِلَّا بِإِنْشَائِهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ تَحْتَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى -يَعْنِي: هَيْكَلَهُمْ-، فَإِذَنْ؛ لَا بُدَّ مِنْ إِزَالَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
مَدِينَةُ الرَّبِّ لَا بُدَّ أَنْ تُحَرَّرَ مِنْ أَعْدَاءِ الرَّبِّ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ، إِلَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ؛ لِأَجْلِ بِنَاءِ الْهَيْكَلِ الثَّالِثِ، تَضَافَرُوا عَلَى الْعَقِيدَةِ بِهِ لِقُدُومِ مَسِيحِهِمْ!
وَتَدْرِي مَنْ مَسِيحُهُمْ؟!
إنه الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ!!
قَالُوا: لَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ الْمَنْطِقَةِ إِلَى دُوَيْلَاتٍ طَائِفِيَّةٍ مُتَنَازِعَةٍ، مُتَنَاحِرَةٍ مُتَقَاتِلَةٍ، مُتَبَدِّدَةٍ مُتَنَاثِرَةٍ مُتَبَعْثِرَةٍ!! وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ بِمَشْرُوعِ (كُوندُو).
قَالَتْ: ((لَا بُدَّ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مِنْ إِحْدَاثِ الْفَوْضَى الْخَلَّاقَةِ)).
وَمَا الْفَوْضَى الْخَلَّاقَةُ هَذِهِ؟!
هِيَ تَفْكِيكُ الْمُجْتَمَعِ الْمِصْرِيِّ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ-، ثُمَّ إِعَادَةُ تَرْكِيبِهِ عَلَى الْأَجِنْدَةِ الصُّهْيُوصَلِيبِيَّةٍ.
هَذِهِ هِيَ الْفَوْضَى الْخَلَّاقَةُ.
((سُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَى مِصْرَ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الدَّقِيقَةِ))
إِنَّ الْحِفَاظَ عَلَى وَطَنِنَا فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الدَّقِيقَةِ يَتَطَلَّبُ مِنَّا أُمُورًا، أَهَمُّهَا:
-الِالْتِفَافُ صَفًّا وَاحِدًا خَلْفَ دَوْلَتِنَا وَقِيَادَتِنَا؛ فَهَذَا وَقْتُ الِالْتِفَافِ الْوَطَنِيِّ، لَيْسَ بِوَقْتِ الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَجْعَلَ كُلٌّ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ مُفْتِيًا وَخَبِيرًا فِيمَا لَا يَعْلَمُ، فِي وَقْتٍ نَحْنُ أَحْوَجُ مَا نَكُونُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَإِسْنَادِ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى أَهْلِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ، الْخُبَرَاءِ فِيهِ دُونَ سِوَاهُمْ؛ حَتَّى لَا يَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى فَوْضَى أَوْ فِتْنَةٍ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.
-وَأَلَّا نَسِيرَ خَلْفَ الشَّائِعَاتِ، وَأَنْ نَتَيَقَّنَ وَنَتَثَبَّتَ دَائِمًا مِنَ الْأُمُورِ وَالْحَقَائِقِ؛ حَيْثُ يَعْمَدُ أَهْلُ الشَّرِّ دَائِمًا إِلَى بَثِّ الشَّائِعَاتِ وَالْأَكَاذِيبِ، وَأَلَّا نَنْسَاقَ خَلْفَ جَمَاعَاتِ الْهَدْمِ الَّتِي لَا تُرِيدُ لَنَا وَلَا لِوَطَنِنَا خَيْرًا، وَهُنَا يَأْتِي دَوْرُ الْعُلَمَاءِ فِي بَيَانِ الْوَعْيِ الرَّشِيدِ.
-وَأَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ قُوَّةٍ عَلَى النُّهُوضِ بِمُجْتَمَعِنَا وَوَطَنِنَا عِلْمِيًّا، وَثَقَافِيًّا، وَاقْتِصَادِيًّا، بِمَزِيدٍ مِنَ الْجُهْدِ وَالْعَرَقِ وَالْعَمَلِ وَالْإِتْقَانِ؛ فَقَدْ حَثَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ وَإِتْقَانِهِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ)).
فَعَلَى أَبْنَاءِ وَطَنِنَا أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ الْوَعْيَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْبِنَاءُ لَا الْهَدْمُ، وَالْإِعْمَارُ لَا التَّخْرِيبُ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتَحِمُوا الصِّعَابَ، وَأَنْ يُوَاجِهُوا التَّحَدِّيَّاتِ بِعَزِيمَةٍ قَوِيَّةٍ، وَرُوحٍ وَثَّابَةٍ نَحْوَ الْبِنَاءِ وَالتَّعْمِيرِ، وَعِمَارَةِ الْكَوْنِ، وَحُبِّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ، مُؤْمِنِينَ بِحَقِّ الْجَمِيعِ فِي الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ.
وَإِنَّنَا لَنَدْعُو إِلَى حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَعَدَمِ تَرْوِيعِ الْآمِنِينَ، آمِلِينَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ ضَمِيرُ الْبَشَرِيَّةِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ؛ لِنَعْمَلَ جَمِيعًا عَلَى إِحْلَالِ السَّلَامِ الْإِنْسَانِيِّ الْعَادِلِ مَحَلَّ الدَّمَارِ وَالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر