((أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَا لَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.
فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.
*وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ بِصُنُوفِهِ؛ مِنْ رِبًا، وَرِشْوَةٍ، وَتَزْوِيرٍ، وَأَكْلُ السُّحْتِ يَسْتَأْصِلُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُفْسِدُ أُمُورَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
حُكَّامُ الْيَهُودِ كَثِيرُو السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، كَثِيرُو الْأَكْلِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ؛ كَالرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ رَشَاهُمْ وَيَقْضُونَ لَهُ.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].
تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبُطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ، وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.
هَلَّا يَنْهَاهُمُ الْعُبَّادُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ كَانَ يَتَّبِعُهُمُ الْيَهُودُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ الْكَذِبِ بِإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَإِبْطَانِهِمْ الْكُفْرَ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
لَبِئْسَ مَا كَانَ عُبَّادُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ يَصْنَعُونَ؛ إِذْ لَمْ يَنْهَوْا غَيْرَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا، بَلْ صَارُوا أَشَدَّ جُرْمًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِنَاعَةً، وَهِيَ تَكُونُ بِمَهَارَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَرُّفٍ بِالْغَايَاتِ وَالنَّتَائِجِ.
*وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا -وُهَوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ- وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ: قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا أَخْذًا وَعَطَاءً، فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى بَارِئِهِمْ مِنْهُ، وَيَرَوْنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مُنْكَرًا، وَيَرْفُضُونَ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِهِ، حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -إِذْ يَسْلُبُ الْإِثْرَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ عَاطِفَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَجْعَلُ أَفْكَارَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ مُضْطَرِبَةً دَائِمَةَ التَّطَلُّعِ لِمُضَاعَفَةِ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ جَهْدِ الْآخِرِينَ، وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَاتِهِمْ-.
حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا كَالْمَجْنُونِ ذِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ، يَمْشِي وَيَتَعَثَّرُ، وَيَصْدِمُ الْأَشْيَاءَ، وَتَأْتِيهِ الْخَبْطَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ لَا يَرَى الشَّخْصَ الْمَسْئُولَ عَنِ الضَّرْبَاتِ الَّتِي تَتَهَاوَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَأَنَّمَا يَتَخَبَّطُهُ شَيْطَانٌ خَبِيثٌ عَدِيمُ الرَّحْمَةِ، خَفِيٌّ لَا تَرَاهُ أَعْيُنُ النَّاسِ.
ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِرَفْضِهِمْ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبَا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي نَظَرِهِمْ أَيْضًا.
مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُثْبِتُ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مِثْلَ الرِّبَا، فَالرِّبَا ظُلْمٌ وَاسْتِغْلَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَوَسِيلَةٌ لِمَنْعِ التَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ الِاجْتِمْاَعِيِّ عَنْ طَرِيقِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رِبْحٌ لَا يُقَابِلُهُ جَهْدٌ وَلَا ضَمَانُ خَسَارَةٍ.
وَرِبْحُ الْبَيْعِ يُقَابِلُهُ ضَمَانُ الْخَسَارَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا؟!!
وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِغْلَالٍ وَضَيَاعٍ وَهَلَاكٍ.
*وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَيْنِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدَيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.
ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ، يَمْنَعُ بِهِا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِعِيهِمَا، وَاللهُ قَوِيٌّ غَالِبٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، حَكِيمٌ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُحَرَّزًا مَصُونًا، مَعْنِيًّا بِحِفْظِهِ الْعِنَايَةُ الَّتِي تَلِيقُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ بِأَنْ يَتَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيُعِدُّونَهُ لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي طَلَبِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تُقْطَعُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ الْمَسْرُوقُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ مِقْدَارُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمٍ.
*وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ، سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيْدَخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا.
عِبَادَ اللهِ! إِذَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مَا كَانَ رَدِيئًا مِنَ الْحَلَالِ فَكَيْفَ بِالْحَرَامِ؟!!
أَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ -يَعْنِي هَذَا الْخَبِيثَ- إِذَا مَا أُعْطِيتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْإِغْمَاضِ.
كَأَنَّمَا يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ حَتَّى لَا يَرَى مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا هُوَ رَدِيءٌ، فَأَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ، فَكَيْفُ تُحِبُّونَ أَنْ يَقَعَ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الصدقة إِذَا مَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُتَصَدِّقُ فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ فِي يَدَيِ الْآخِذِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا تَصَدَّقَتْ بِصَدَقَةٍ طَيَّبَتْ مَا يَقْبَلُ الطِّيبَ مِنَ الصَّدَقَةِ.
فَلَمَّا رُوجِعَتْ فِي ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: ((إِنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْآخِذِ تَقَعُ فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقَعَ صَدَقَتِي فِي يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعَطَّرَةً)).
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! أَنْفِقُوا مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي كَسَبْتُمُوهُ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَلَا تَعْمَدُوا إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ فَتُنْفِقُونَهُ، وَلَوْ أُعْطِيَ لَكُمْ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ مُكْرَهِينَ عَلَى رَدَاءَتِهِ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ للهِ مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ نَفَقَاتِكُمْ، مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ الشَّدِيدُ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ:
عِبَادَ اللهَ! إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».
الْعَبْدُ يَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، وَالدَّمُ يَتَجَدَّدُ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ فِي فَتْرَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى خَلِيَّةٌ مِنْ خَلَايَا الدَّمِ جَارِيَةً سَارِيَةً فِي عُرُوقِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهَا، إِذْ تَتَكَسَّرُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، وَيَتَجَدَّدُ ذَلِكَ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْإْنْسَانُ الْحَيُّ.
فَإِذَا مَا دَفَعَ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، فَلَا جَرَمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحَرَامِ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ خَلَايَاهُ دَمًا وَلَحْمًا وَعَظْمًا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَ«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسْلِمِ حَرَجًا وَلَا ضِيقًا فِي شَيْءٍ، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ.
فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي)).
وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((فِي رُوعِيَ»: يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.
«إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»: وَتَجَمَّلُوا، وَأْتُوا بِالْأَمْرِ لَا عَلَى نَحْوٍ مُنْضَبِطٍ وَنَحْوٍ جَمِيلٍ، مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْدِفَاع، «فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ آجِلًا، كَمَا حَدَّدَ الْآجَاَل سَلَفًا، فَلَا الْأَجَلَ يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا الرِّزْقَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ حَدَّدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفًا.
دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)) .
الْحَلَالُ عِنْدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي الْيَدِ!! وَلَوْ كَانَ رِشْوَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً!! مَا دَامَ وَقَعَ فِي الْيَدِ فَهُوَ حَلَالٌ!! وَالْحَرَامُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْيَدِ!!
وَمَا كَذَلِكَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى هَذَا أَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِيثَاقَنَا أَمْرًا: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمَ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟))
وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟))
يَقُولُونَ: بَلَى.
((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟))
يَقُولُونَ: بَلَى.
يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةُ؟))
يَقُولُونَ: بَلَى.
فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))().
((وُجُوبُ تَحَرِّي الْحَلَالِ الطَّيِّبِ))
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَنَا بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَاتًا وَكَسْبًا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 171]، أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي كَسْبِهِ، فَتَعْلَقُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا.
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ بِمَا الْمَرْءُ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأَحْزَاب: 1].
فَيَأْمُرُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالتَّقْوَى، وَهُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا، وَيَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَهُمْ آكِلُونَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ مُعِينٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَعَانَهُ ذَلِكَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَمَلُ الصَّالِحِ هُوَ مَا كَانَ للهِ خَالِصًا، وَعَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ سَائِرًا ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}: وَأَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ، فَأَكَلَ مِمَّا فِيهِ حُرْمَةٌ أَوْ مِمَّا لَيْسِ بِطَيِّبٍ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْ مِمَّا حُصِّلَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِمُحَصِّلِهِ.
فَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَرَفَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُرْسَلِينَ؛ فَمَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى بِانْصِرَافِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ.
فَإِذَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُرْسَلِينَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ فَإِنَّ مَنْ دُونَهُمْ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ وَالتَّشْدِيدُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ؛ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ.
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البَقَرة: 172]: فَوَجَّهَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ.
*إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)) .
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ فِي ذَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي صِفَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَسْمَائِهِ، فَلَهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، لَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي تَحْصِيلِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَيُكْتَسَبُ اكْتِسَابًا تَلْحَقُهُ الْحُرْمَةُ فِيهِ؛ فَيَكُونُ حَرَامًا لِلْكَسْبِ، لَا حَرَامًا لِلذَّاتِ.
فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ قِيلَ: هَذَا مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِحُرْمَةِ ذَاتِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا مَا اغْتَصَبَ شَاةً؛ فَالْحُرْمَةُ تَلْحَقُ الْكَسْبَ هَاهُنَا، وَلَا تَلْحَقُ الذَّاتَ.
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)).
قَسَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبِلَادَ إِلَى طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا ثَالِثَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]، فَالْبِلَادُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ.
وَالنَّاسُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} {النور: 26].
فَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى قِسْمَينِ: طِيِّبٍ وَخَبِيثٍ، طَيِّبُونَ وَطِيِّبَاتٍ، وَخِبِيثُونَ وَخِبِيثَاتٍ.
وَقَسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَلَامَ قِسْمَيْنِ، فَطَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24-27].
فَالْكَلَامُ قِسْمَانِ: طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ، كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ.
وَالرَّسُولَ ﷺ فِي وَصْفِهِ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
فَالنَّبِيُّ ﷺ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ..}.
وَالمُؤْمِنُونَ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ، فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ طَيِّبِينَ، بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَجَعَلَ السَّلَامَ عَلَيهِمْ بِالطِّيبِ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73].
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرُّوحَّ الَّتِي تَكْتُبُ لَهُ الجَنَّةَ وَتُنَجِّى مِنَ النَّارِ مَوْصُوفَةً بِالطِّيبِ أَيْضًا، تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهَا: «أَيُّتَهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ».
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، فَلَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا فِيهِ شُبْهَةٌ.
((وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172])).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ، وَمُجَانَبَةُ الْحَرَامِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْخَبَائِثِ، وَتَحَرِّي الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ.
فَأَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَفِي هَذَا رَفْعٌ لِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الصَّفْوَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً مِنْ حَرَامٍ، فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ، أَوْ عَطَفَ بِهَا عَلَى يَتِيمٍ، أَوْ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، جُمِعَ ذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ قُذِفَ بِهِ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) يَقُولُ: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)).
((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَالْحَذَرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ))
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؛ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: لِكُلِّ شَيْءٍ أُمِرُوا بِهِ أَوْ نُهُوا عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا)) ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) ().
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى؛ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)) (). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)): مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَلَالَ الْمَحْضَ بَيِّنٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ الْمَحْضُ، وَلَكِنْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أُمُورٌ تَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَلْ هِيَ مِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ؟
وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هِيَ.
*صُنُوفٌ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَمِنَ الْحَرَامِ وَالسُّحْتِ، وَالْمُشْتَبِهِ:
فَأَمَّا الْحَلَالُ الْمَحْضُ فَمِثْلُ: أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلِبَاسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ، أَوِ الشَّعْرِ، وَكَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ.
وَأَمَّا الْحَرَامُ الْمَحْضُ: فَكَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَمِثْلِ الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ: كَالرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ، وَثَمَنِ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَدْلِيسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُشْتَبِهُ: فَمِثْلُ أَكْلِ بَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ:
إِمَّا مِنَ الْأَعْيَانِ: كَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالضَّبِّ، وَشُرْبِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا، وَلَيْسَ مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ لُبْسِهِ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا.
وَإِمَّا مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا: كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا الْعِينَةُ: فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْدًا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ السِّلْعَةُ وَتَخْرُجُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَجَلٍ، يَبْقَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَ نَقْدًا.
وَأَمَّا التَّوَرُّقُ: فَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى نَقْدٍ فَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي مِئَةً بِأَكْثَرَ لِيَتَوَسَّعَ بِثَمَنِهِ.
فَفِي الْجُمْلَةِ مَا تَرَكَ اللهُ وَرَسُولُهُ حَلَالًا إِلَّا مُبَيَّنًا، وَلَا حَرَامًا إِلَّا مُبَيَّنًا، لَكِنْ بَعْضُهُ كَانَ أَظْهَرَ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ فِي الْأُمَّةِ مِنْ عَالِمٍ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْحَقَّ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْعَالِمُ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَغَيْرُهُ يَكُونُ الْأَمْرُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَذَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا.
فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ مَهْجُورًا غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ أَوْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا أَبَدًا.
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، يَعْنِي الْحَلَالَ الْمَحْضَ وَالْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَقَالَ: مَنِ اتَّقَاهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ. وَفَسَّرَهَا تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ مُخْتَلِطٌ.
فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَرَامَ فَقَالَ أَحْمَدُ: ((يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ)).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَلَالَ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ وَالْأَكْلُ مِنْ مِالِهِ.
وَالْعُلَمَاءُ يُفَرِّقُونَ أَيْضًا بَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى الْكَسْبِ فَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْكَسْبِ فَحُرْمَتُهُ عَلَى كَاسِبِهِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ إِذَا وَصَلَهُ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوَرَعُ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يُعَامِلُونَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الْحَرَامَ كُلَّهُ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَهُوَ شُبْهَةٌ، وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، قَالَ سُفْيَانُ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ.
وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ؛ أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ؛ فَإِنَّه يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَرَامُ عَلَى التَّعْيِينِ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.
وَالْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ يَتَبَيَّنُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ؛ لِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ عِلْمٍ.
وَكَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ، مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ -أَيْ صَانَ دِينَهُ وَحَمَى عِرْضَهُ مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ- وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)). هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ.
فَجَعَل النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ، وَيَمْنَعُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ.
وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَمَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنَعَ عِبَادَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَسَمَّاهَا حُدُودَهُ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ حَدَّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَقْرَبُوا الْحَرَامَ وَلَا يَتَعَدَّوُا الْحَلَالَ، وَجَعَلَ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْحِمَى وَيَرْتَعَ فِيهِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَلَالَ وَوَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ قَارَبَ الْحَرَامَ غَايَةَ الْمُقَارَبَةِ، فَمَا أَخْلَقَهُ بِأَنْ يُخَالِطَ الْحَرَامَ الْمَحْضَ وَيَقَعَ فِيهِ.
الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ الْبَيِّنَانِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُمَا عَلَى النَّاسِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْحَرَامَ، وَلَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِمَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ.
وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْعَسَلِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1].
مِنْ حِكْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ يَخْفَى حُكْمُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمَآكِلِ أَوِ الْمَشَارِبِ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ الْمُنْقَادُ لِأَوَامِرِ اللهِ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لِأَسْبَابٍ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ مِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ النَّصُّ خَفِيًّا عَلَيْهِ لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَبْلُغْ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ أَوْ مَفْهُومِ أَوْ قِيَاسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَتَخْتَلِفُ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا كَثِيرًا، وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سِوَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ.
مَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهَا.
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَهُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ أَنْ يَدَعَهُ لِكَيْ يَسْلَمَ دِينُهُ مِنَ النَّقْصِ، وَلِيَسْلَمَ عِرْضُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ الْمَرْءِ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ))، كَمَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَه.
وَحِينَئِذٍ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ.
النَّبِيُّ ﷺ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَالْأَمْثَالُ تُقَرِّبُ الْمَعَانِيَ لِلْأَفْهَامِ قَالَ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى)).
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِمَوَاشِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنِ اقْتَرَبَ مِنْهَا بِمَوَاشِيهِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ وُقُوعُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ لِمَحَارِمِهِ حِمًى حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُسْلِمُ فِيهَا، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))(). أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ فِي جَانِبٍ وَهَذِهِ السَّبْعَ فِي جَانِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَعْنَى اجْتَنِبُوا، كَمَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]؛ أَيِ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَالْأَصْنَامَ وَعِبَادَتَهَا فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَلَّا يَقْتَرِبَ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَلَّا يُوَاقِعَ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ.
((عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!))
النَّاسُ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي مَوْضُوعِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، لَا لِصُعُوبَةِ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ مَعْرِفَةً لَدَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ صُعُوبَةَ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، وَلَا لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ، جَعَلَهُ اللهُ فِطْرَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَغَرِيزَةً جُبِلَ عَلَيْهَا الْبَشَرُ.
وَالنَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَكْلًا وَتَحْصِيلًا، وَالْكَلَامُ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ عُقُوبَةَ مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ عُقُوبَةً لِأَكْلِ الْحَرَامِ.
فَمَا الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْحَدِيثَ فِي أَمْرِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؟!!
الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ كَذَلِكَ، مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي فِيهِ الْمَرْءُ أَمِنْ حَلَالٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).
إِذَنْ؛ السَّبَبُ هُوَ الِاسْتِهْتَارُ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.
فَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ، وَعَدَمُ أَخْذِ الْأَمْرِ بِجِدٍّ كَمَا هُوَ شَأْنُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَأْنُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، هَذِهِ اللَّامُبَالَاةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَفِتِينَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ كَأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ قَالَ: ((إِنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَبَّدَ، قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: انْظُرُوا إِلَى مَطْعَمِهِ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ، قَالَ: دَعُوهُ، فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ عِبَادَةٌ مَعَ أَكْلِ الْحَرَامِ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا، وَقَدْ أَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ السَّبْتِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
فَأَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَبَاحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصَّيْدَ، لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْيَوْمَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمُ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ {شُرَّعًا}، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ}.
الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَوْضَحَ هَذَا بِأَجْلَى بَيَانٍ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).
((يُوشِكُ)): أَيْ اقْتَرَبَ ((أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ)): الْغَنَمُ: اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَعًا، وَيَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَحْدَهَا، وَعَلَى الْإِنَاثِ وَحْدَهَا، ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي يَتْبَعُ بِغَنَمِهِ رُؤُوسِ الْجِبَالِ ((وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي مَوَاقِعَ الْمَطَرِ، بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ، ((يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).
قَالَ الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قُرُونٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: ((يُوشِكُ)): يَعْنِي اقْتَرَبَ، فَاقْتَرَبَ ذَلِكَ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ.
((النَّبِيُّ ﷺ كَانَتْ أَبْيَاتُهُ تَظَلُّ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ لَا يُوقَدُ فِيهَا نَارٌ)).
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعِيشُ هَكَذَا، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ -كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -ابْنِ أُخْتِهَا -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، تَقُولُ: ((كُنَّا نَظَلُّ نَمْكَثُ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ لَا يُوقَدُ فِي أَبْيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ نَارٌ)).
قَالَ: فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ يَا خَالَةُ -فَمَا كَانَ قُوتُكُمْ إِذَنْ-؟!!
فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((قُوتُنَا الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ)).
وَلَكِنْ كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُهْدُونَ النَّبِيَّ ﷺ بَعْضَ اللَّبَنِ، فَهَذَا أَعْلَى مَا يَصِلُ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!
لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ ضِيقِ ذَاتِ يَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ تَعَفُّفًا وَضَرْبًا لِلْمِثَالِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ﷺ-.
النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَرَ بِعَيْنِهِ شَاةً سَمِيطًا قَطُّ، وَلَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ ﷺ خُبْزًا مُرَقَّقًا أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي يَطْعَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ جَعَلُوهُ طَعَامًا رُبَّمَا لِكِلَابِهِمْ!!
وَأَمَّا الْمُخْتَارُ ﷺ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَيْرُ الْخَلْقِ جَمِيعًا ﷺ فَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّعِيرُ يُجْعَلُ بَيْنَ شِقِّيِ الرَّحَى، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ فَوْقِ الثِّفَالِ -وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّحَى وَالْأَرْضِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَ الْمَطْحُونَ شَيْءٌ مِنْ تُرَابٍ-.
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كُنَّا نَأْخُذُ الشَّعِيرَ بَعْدَ طَحْنِهِ -لِأَنَّهُ كَانَ يُطْحَنُ بِقِشْرِهِ-، فَتَقُولُ: فَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مِنْ قِشْرِهِ مَا يَطِيرُ، وَيَبْقَى مِنْ قِشْرِهِ مَا يَبْقَى، ثُمَّ نَأْخُذُ مَا تَبَقَّى فَنُثَرِّيهِ بِالْمَاءِ -نَجْعَلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ- ثُمَّ نَعْجِنُهُ، فَنَخْبِزُهُ، فَهَذَا طَعَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَهَا هُوَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) يَقُولُ: ((إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا إِلَى فِي -إِلَى فَمِي، وَرُبَّمَا أَدْخَلَهَا فِي فَمِهِ ﷺ- ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَطْرَحُهَا -فَأَلْقِيهَا-)).
مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا بَعِيدٌ الْوُقُوعِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا الَّذِي يَأْتِي بِتَمْرَةٍ مِنْ تَمْرٍ الصَّدَقَةِ إِلَى فِرَاشِ الرَّسُولِ ﷺ، لَا إِلَى مُطْلَقِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا مَا تَزَالُ التَّمْرَةُ تَنْحَدِرُ حَتَّى تَكُونَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! وَلَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَابَ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ فَلَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ قَاطِعٍ.
الرَّسُولُ ﷺ يَتَحَرَّى الْحَلَالَ هَذَا التَّحَرِّي، وَأَصْحَابُهُ كَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَابِعُوا التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَتَبَعُ الْأَتْبَاعِ، وَالْفُقَهَاءُ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
((وَرَعُ السَّلَفِ الشَّدِيدُ عَنْ أَكْلِ السُّحْتِ))
عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَاتِ حَاجِزًا.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ الْعَبْدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ)) ().
يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَتْرُكُهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ)).
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ((إِنَّمَا سُمُّوا الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ لَا أَخْرِقُهَا)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((لَا يُصِيبُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلَالِ، وَحَتَّى يَدَع الْإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ)).
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَنَّ غُلَامًا لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ كَتَبَ لَهُ مِنَ الْأَهْوَازِ أَنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ قَدْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ؛ فَاشْتَرِ السُّكَّرَ الَّذِي قِبَلَكَ؛ فَاشْتَرَاهُ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَبِحَ فِيهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا, فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ الرِّبْحِ، فَذَهَبَ إِلَى الْبَائِعِ، فَقَالَ: يَا هَذَا! إِنَّ غُلَامِي قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْلَمْ؛ فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ.
فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ.
فَذَهَبَ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ, فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ, فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ وَجْهِهِ, فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ, فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ!!
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوَرَعِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْإِنْسَانِ دَائِمًا بِإِزَاءِ عَيْنِ بَصِيرَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ.
وَهَذَا رَجُلٌ جَاءَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، كَانَ يَتَوَرَّعُ، فَسَأَلَ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، فَدُلَّ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، أَبِي سَعِيدٍ الْإِمَامِ، الْوَرِعِ الزَّاهِدِ، الْعَفِيفِ الْمُتَعَفِّفِ.
فَقَالَ: يَا إِمَامَ! جِئْتُكَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ أَسْأَلُ عَنِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ -عَنِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ-.
فَقَالَ: يَا هَذَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْوُعَّاظِ أَكَلَ مِنْ هَدَايَا الْأَصْحَابِ، وَأَخَذَ مِنْ عَطَايَا الْأَحِبَّاءِ، فَلَسْتُ هُنَالِكَ، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ بِـ(طَرَسُوسَ).
فَهَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ مَزْرَعَةٌ، إِذَا مَا جِئْتَهُ وَجَدَتْهُ قَائِمًا فِيهَا، وَعِنْدَهُ بَقَرَةٌ، جَعَلَهَا تَمُرُّ بِطَرِيقٍ فِيهِ تِبْنٌ وَشَعِيرٌ، وَطَرِيقٌ بِهِ مَاءٌ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ عَرَضَهُمَا عَلَى الْبَقَرَةِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ يَعْرِضُهَا عَلَى الْمَاءِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْلَمُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ فَائْتِهِ.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ الْحَسَنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَوَصَفَ لِي مِنَ الْأَمْرِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَبَكَى الرَّجُلُ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سَعِيدٍ، وَلَكِنْ شُغِلْتُ يَوْمًا بِصَلَاتِي عَنِ الْبَقَرَةِ، فَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِ جَارِي، فَاخْتَلَطَ بِقَوَائِمِهَا طِينٌ مِنْ أَرْضِ جَارِي، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَلَطَ طِينُ أَرْضِ جَارِي بِأَرْضِي، فَصَارَتْ شُبْهَةً، فَلَمْ أَعُدْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَفَ لَكَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ، فَعُدْ إِلَيْهِ حَتَّى يَدُلَّكَ عَلَى غَيْرِي!!
لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا خَيَالًا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا صَارُوا أَئِمَّةً، تَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنًا؟!! هُوَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمًا.
*وَرَعُ نِسَاءِ السَّلَفِ، وَتَحَرِّيهِمْ أَكْلِ الْحَلَالِ:
لَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَعْجِنُ عَجِينَهَا، فِيَأَتْي نَعْيُ زَوْجِهَا، فَتُخْرِجُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ، وَتَقُولُ: ((هَذَا طَعَامُ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ، هَذَا طَعَامٌ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ وَرَثَةٌ مُشَارِكُونَ!!))
بَلْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الْوَاحِدَةُ تَجْلِسُ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، فَإِذَا جَاءَ نَعْيُ وَلِّيِهَا -نَعْيُ زَوْجِهَا- قَامَتْ، فَأَطْفَأَتِ الْمِصْبَاحُ، تَقُولُ: ((هَذَا زَيْت -زَيْتُ الْمِصْبَاحِ- أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءٌ!!))
لَقَدْ جَاءَتْ أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ, وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنَّ لَهَا مَسْأَلَةً, وَكَانَتْ مَسْأَلَتُهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، تَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَتَكَسَّبُ عَيْشَهَا مِنْ طَاقَاتِ غَزْلٍ تَأْتِي بِهَا مِنَ السُّوقِ, ثُمَّ تَقُومُ عَلَيْهَا غَزْلًا, ثُمَّ تَبِيعُهَا فِي الْأُسْبُوعِ بَعْدَهُ.
وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ بَيْعًا وَشِرَاءً هُوَ طَعَامُهَا وَهُوَ كَسْبُهَا الَّذِي مِنْهُ تَتَعَيَّشُ بِفَضْلِ رَبِّهَا، إِلَى هُنَا لَا شَيْءَ.
تَقُولُ: وَإِنِّي إِنَّمَا أَقُومُ بِذَلِكَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ سِرَاجًا يُضِيءُ بِاللَّيْلِ, إِنَّمَا تَقُومُ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي إِذَا كَانَتْ مُقْمِرَةً، فَتَكُونُ عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَغْزِلَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ.
قَالَتْ: فَمَرَّتْ لَيْلَةً جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسَسِ بِاللَّيْلِ, فَوَقَفُوا وَمَعَهُ السُّرُجُ بِإِزَاءِ بَيْتِنَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ أَوْ يَصْنَعُونَ شَيْئًا, قَالَتْ: فَغَزَلْتُ طَاقَةً أَوْ طَاقَتَيْنِ فِي ضَوْءِ تِلْكَ السُّرُجِ وَتِلْكَ الْمَصَابِيحِ, فَهَلْ يَلْحَقُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟
فَتَعَجَّبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ السُّؤَالِ قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟
قَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ، أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي.
قَالَ: أَمَّا لِلنَّاسِ جَمِيعًا فَحَلَالٌ, وَأَمَّا عَلَى آلِ بِشْرٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ آلُ بَيْتٍ يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْوَرَعِ.
وَكانَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْ نِسَاءِ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَخْرُجَ طَالِبًا الرِّزْقَ؛ تَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ تَقُولُ لَهُ: ((اتَّقِ اللهَ فِينَا وَلَا تُطعِمُنَا إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ؛ فَإِنَّنَا نَحْثُو التُّرَابَ -نَسْتَفُّهُ- وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، فَضْلًا عَنَ أنْ يَكُونَ مِنْ حَرامٍ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَتَى بِالْحَرَامِ فَأَكَلَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ ثُمَّ تَخَلَّقَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا, فَهَذَا الْجَنِينُ إِنَّمَا يُغَذَّى مِنْ هَذَا الْغِذَاءِ الَّذِي تَنَاوَلَتْهُ, وَهَذَا الْغِذَاءُ حَرَامٌ! فَهَذَا وَلَدُ حَرَامٍ, تَوَلَّدَ مِنْ حَرَامٍ, وَنَمَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنَ الْحَرَامِ, فَأَنَّى يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا؟!!
((بَعْضُ صُوَرِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي زَمَانِنَا!!))
إِنَّ النَّاسَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ قَائِمًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ لَا بِكُلٍّ مِنَ الْعِبَادَاتِ.
فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُخْرِجُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ مِنْ صَمِيمِ الْعِبَادَاتِ وَيَجْعَلُونَ الْعِبَادَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ- يَجْعَلُونَ الْعِبَادَةَ صَلَاةً وَصِيَامًا وَحَجًّا, وَلَا يَجْعَلُونَ حَتَّى مِنْ ذَلِكَ الزَّكَاةَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ رَحِمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
*مِنْ صُوَرِ أَكْلِ السُّحْتِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي زَمَانِنَا: حَبْسُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ:
كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقِينَ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ فَرَضَ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ لِلْفُقَرَاءِ فِي مَالِهِ زَكَاةً وَقَدْرًا وَنَصِيبًا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَدَّ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ لَا يَتَيَقَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجْهَلُهُ لَا لِأَنَّهُ يَرُدُّهُ أَوْ يَشُكُّ فِيهِ وَلَكِنْ هُوَ لَا يَعْلَمُ.
كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ يَحْسِبُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَهِيَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ تَمُرُّ الْأَعْوَامُ وَزَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ فَاعِلَةٌ تَزِيدُ وَتَرْبَحُ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَفِي أَعْمَالِهِمْ, وَفِيمَا يُزَاوِلُونَ فِي أَنْشِطَتِهِمُ الْمَالِيَّةِ, وَذَاكَ حَقُّ الْفَقِيرِ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ, وَهُمْ لَا يَدْرُونَ.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقْصِرُونَ الْعِبَادَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَلَى الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ, وَعَلَى مَا يَكُونُ مِنَ الْحَجِّ, وَلَا أَكْثَرَ مَعَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ صُوَرِ الْحَيَاةِ مِنْ بَاطِنٍ وَمِنْ ظَاهِرٍ, وَمِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ؛ فَكُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَغْفَلُ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِذَلِكَ لَا تَجِدُ الْمَرْدُودَ وَاضِحًا فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ.
*مِنْ صُوَرِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي زَمَانِنَا: تَقْصِيرُ الْمُوَظَّفِ فِي عَمَلِهِ:
إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ، وَكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَمَلٌ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَقَدْ أَكَلَ مِنْ حَرَامٍ إِنْ كَانَ مُتَحَصِّلًا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى أَجْرٍ؛ شَاءَ أَمْ أَبَى.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانَ مُوَظَّفًا يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ فِي مُقَابِلِ عَمَلِهِ؛ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -بَلْ جُلُّهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ، هُمْ أُجَرَاءُ، مُسْتَأْجَرُونَ عَلَى حَسَبِ عَقْدٍ مُبْرَمٍ وَلَائِحَةٍ لَهَا بُنُودٌ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ بَدْءًا.
وَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، وَهُوَ مُغَذٍّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَانٍ بَيْتَهُ، وَمُقْتَنٍ مَرْكُوبَهُ مِنْ حَرَامٍ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَظِيفَةُ فِي نَفْسِهَا بِعَقْدٍ عَلَى مَا يَحِلُّ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا شَرَعَ اللهُ.
فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي مَاخُورٍ يُقَدِّمُ الْخُمُورَ، وَيَقُومُ عَلَى الْعَمَلِ مُتَفَانِيًا فِيهِ بِإِخْلَاصٍ، يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِهِ بِعَرَقِ جَبِينِهِ!!
فَأَيُّ حُرْمَةٍ تَلْحَقُهُ، وَالْعَمَلُ حَرَامٌ فِي أَصْلِهِ؟!!
وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ حَلَالًا -كَالْغَالِبِ عَلَى جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ-، فَوَقَعَ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ هَاهُنَا يَكُونُ مِنْ حَرَامٍ، وَمَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ لَحِقَتْهُ الْحُرْمَةُ لَا مَحَالَةَ.
فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِي مِهْنَةٍ هِيَ حَلَالٌ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ؛ لَا يُؤَدِّيهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَيَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَعَاقَدَ عَلَيْهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ.
*مِنْ صُوَرِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي زَمَانِنَا: هَدَايَا الْمُوَظَّفِينَ!!
الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَقْبَلُ لَا أَقُولُ: الرِّشْوَةَ -حَاشَا للهِ-، وَهَلْ يَأْخُذُ مُوَظَّفٌ رِشْوَةً؟! هُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ، أَيْدِيهِمْ مُتَوَضِّئَةٌ!! لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ!! حَاشَا للهِ أَنْ نَظُنَّ بِمُسْلِمٍ سُوءًا؛ وَلَكِنْ نَحْنُ نُرَكِّزُ الْآنَ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ، الْهَدِيَّةُ لَا تَحِلُّ؛ ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ؛ لِنَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!)) .
*مِنْ صُوَرِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي زَمَانِنَا: وُقُوعُ بَعْضِ التُّجَّارِ فِي الْغِشِّ وَالتَّطْفِيفِ وَالِاحْتِكَارِ:
النَّبِيُّ ﷺ رَهَّبَ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.
وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرَّحْمَن: 7-9].
وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا» .
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ -وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ، وَحَبْسُهُ؛ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا, وَأَلَّا يَقْذِفَ فِي جَوْفِهِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ حَلَالٌ صِرْفٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ, لَا مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَم ٌ.
واَلْحَقُّ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَتَوَقُّونَ ذَلِكَ تَوَقِّيًا نَفْسِيًّا لَا تَوَقِّيًا عَمَلِيًّا, بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى الْحَرَامِ, وَهُوَ يَتَيَقَّنُ فِي نَفْسِهِ أَمَامَ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَرَامٌ, وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ عِلَّةٍ وَيَبْحَثُ عَنْ حُجَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَلِّلَ لِنَفْسِهِ مَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ, وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَانِبِ الْإِثْمِ.
لِذَلِكَ لَمَّا كَانَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- -هُوَ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْحِفْظِ -رَحِمَهُ اللهُ-- رَأَى النَّاسَ يَتَدَافَعُونَ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ بَعْضِ الْمُدِنِ يَتَدَافَعُونَ تَدَافُعًا.
فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَؤُلَاءِ؟
فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ.
يَبْدُو أَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَشْهُورًا بِمُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ أَوْ بِمُزَاوَلَةِ الْحَرَامِ!!
فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ, أَطِيبُوا مَطْعَمَكُمْ, وَصَلُّوا فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ!!
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرَ مِنَ الدِّينِ مَحْمُودَةٍ, دَلَّتْ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَحَضَّتْ عَلَيْهَا, وَتَمَسَّكَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ, وَلَكِنَّ الَّذِي يَعِيبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَحْتَرِزُونَ وَعَلَى الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ يَجْتَرِئُونَ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُقِيمَنَا عَلَى السَّوِيَّةِ, وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا, وَأَنْ يُفْضِلَ عَلَيْنَا, وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سُوءُ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا))
*مِنْ عَاقِبَةِ كَسْبِ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الدُّنْيَا: مَحْقُ بَرَكَتِهِ وَضَيَاعُهُ:
إِنَّ النَّاسَ حَتَّى إِذَا مَا تَحَلَّلُوا مِنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَانْطَلَقَتْ أَيْدِيهِمْ فِي ثَرْوَاتِ النَّاسِ وَفِي أَمْوَالِهِمْ تَعِيثُ فِيهَا فَسَادًا، وَتَكْسِبُ حَرَامًا، وَتُحَصِّلُ إِثْمًا وَسُحْتًا، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْأَمِينَ ﷺ يُرِي النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ آيَاتٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُبَارِكُ فِي الْحَرَامِ، وَآكِلُ الْحَرَامِ كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لَا يُرْوَى أَبَدًا، كَالْإِبِلِ الْهِيمِ -وَهِيَ الَّتِي فِي أَجْوَافِهَا دَاءٌ مَا تَزَالُ تَشْرَبُ وَتَشْرَبُ بِلَا وَعْيٍ حَتَّى تَنْقَضَّ مَعِدَاتُهَا مِمَّا تَشْرَبُ، لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ-.
تَشْرَبُ شُرْبَ الْهِيمِ مَتَى مَا أَخَذْتَ الْحَرَامَ، وَالدِّرْهَمُ الْحَرَامُ مَتَى دَخَلَ عَلَى الْحَلَالِ أَفْسَدَهُ، تَمَامًا كَقَطْرَةِ الدَّمِ تُخَالِطُ كُوبَ الْمَاءِ أَوْ كُوبَ اللَّبَنِ الْبَارِدِ الْعَذْبِ الَّذِي تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَلَكِنَّ قَطْرَةَ الْبَوْلِ إِذَا مَا خَالَطَتْهُ أَفْسَدَتْهُ، تَعَافُهُ النَّفْسُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ.
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَرْبِيُّ فِي ((غَرِيبِهِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فَتَجِدُهُ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)): ((أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ خَمْرًا عَلَى سَفِينَةٍ، فَكَانَ يَشُوبُ خَمْرَهُ بِالْمَاءِ -يَغُشُّ الْحَرَامَ، كَانَ يَغُشُّ الْخَمْرَ- يَبِيعُ خَمْرًا عَلَى سَفِينَةٍ، فَكَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ، فَجَمَعَ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ مَعَهُ قِرْدٌ فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ خَطْفًا، وَصَعِدَ الدَّقَلَ -وَهُوَ تِلْكَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُنْشَرُ عَلَيْهَا الشِّرَاعُ، يَقُولُ عَنْهَا أَهْلُ الْبَحَرِيَّةِ الصَّارِي-.
أَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ بِدَنَانِيرِ الرَّجُلِ، وَصَعِدَ الدَّقَلَ، فَكَانَ فِي أَعْلَاهُ الْآنَ هُوَ بَيْنَ الرِّيحِ وَالْمَاءِ وَالسَّمَاءِ، وَالْكِيسُ فِي يَدِهِ، وَهُوَ قِرْدٌ وَابْنُ قِرْدٍ، فَمَاذَا يَكُونُ؟
لَوْ أَنَّهُ أَلْقَى الْكِيسَ جُمْلَةً فِي الْمَاءِ، فَأَخْرِجْهُ إِنِ اسْتَطَعْتَ.
وَلَكِنْ انْظُرْ! بِمَاذَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((فَفَتَحَ الْكِيسَ، فَأَخَذَ دِينَارًا رَمَاهُ بِالْبَحْرِ، وَآخَرُ رَمَاهُ عَلَى السَّفِينَةِ، وَظَلَّ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ الْكِيسُ)). فَأَعَادَ مَا كَانَ مَغْشُوشًا إِلَى أَصْلِهِ، وَأَعَادَ لِلرَّجُلِ ثَمَنَ خَمْرِهِ.
كَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ، فَأَخَذَ الْكِيسَ، فَكَانَ يُلْقِي دِينَارًا فِي الْمَاءِ، وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَى فَرَغَ الْكِيسُ، فَنَزَلَ.
هَذِهِ الْخَمْرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، ذَمَّ النَّبِيُّ ﷺ شَوْبَهَا أَيْ غِشَّهَا، وَلَمْ يَذُمَّ بَيْعَهَا، لِمَ؟
لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي شَرِيعَةِ هَذَا الرَّجُلِ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَوَّلَ الْأَمْرِ, بْلْ كَانَتْ تُبَاعُ وَتْشْتَرَى وَتُشْرَبُ، ثُمَّ ذَمَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَمْرَ فِي أَصْلِهَا, ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدُ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَبَ الْمَرْءُ الصَّلَاةَ سَكْرَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا جَازِمًا، وَلَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا عَشْرَةً بِلَعْنَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَفِي بَدْءِ الْأَمْرِ كَانَ غِشُّ الْخَمْرِ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ مُحَرَّمًا، وَكَانَ شُرْبُهَا غَيْرَ حَرَامٍ حَتَّى حُرِّمَتْ.
فَهَذَا هَذَا؛ فَلَا تَسْتَهْوِلَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ.
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا كَانَ مُلْتَوِيَ السَّرِيرَةِ، إِذَا كَانَ مُعْوَجَّ الضَّمِيرِ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِ، وَفِي نَظَرِهِ إِلَى الْحَيَاةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنْ مُعْتَقَدِهِ فِي قَلْبِهِ وَيَقِينِهِ فِي فُؤَادِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ.
لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْهَلَاكَ وَالدَّمَارَ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا: عَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ:
النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ.. يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له؟!!».
هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ الصَّحِيحُ يُرَكِّزُ عَلَى أَصْلٍ خَطِيرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ، وَيُحَذِّرُ مِنْ خُطُورَةِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَيَجْعَلُ الرَّبْطَ مُبَاشِرٍ بَيْنَ أَكْلِ الْحَلالِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَيُبَيِّنَ أَنَّ أَعْظَمَ قَوَاطِعِ الدُّعَاءِ وَمَوَانِعِهِ هُوَ: أَكْلُ الْحَرَامِ.
فِي الْأَثَرِ: ((أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ قَائِمٍ يَدْعُو اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَمُدُّ يَدَيْهِ يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ زَمَانًا طَوِيلًا، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ، أَمَا اسْتَجَبْتَ لَهُ يَا رَبُّ)).
فَأَوْحَى اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «إِنَّ هَذَا لَوْ تَلَفَتْ نَفْسُهُ فِي الدُّعَاءِ وَمَدَّ يَدَيِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ».
فَقَالَ: ((وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَبُّ؟))
قَالَ: «إِنَّ فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلَى ظَهْرِهِ، وَفِي بَيتِهِ الحَرَامُ».
أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ هَذَا الثَّمَرَ الخَبِيثَ، وَهُوَ قَطْعُ الدُّعَاءِ؛ فَلَا اسْتِجَابَةَ، وَلَوْ ظَلَّ يَدْعُو حَتَّى تَفْنَى نَفْسُهُ في الدُّعَاءِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى السَّحَابِ، إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلى ظَهْرِهِ الْحَرَامُ، يُكْسَى مِنَ الْحَرَامِ، وَفِي بَيْتِهِ الْحَرَامُ، لَا يُسْتَجَابُ لَهُ.
*مِنْ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا: الْخَشْيَةُ مِنْ فَسَادِ الذُّرِّيَّةِ، وَانْفِلَاتِ الْأَوْلَادِ:
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَحَرُّونَ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ الْهُمَامُ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِنْ حَرَامٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَلَالٍ».
يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ نُطْفَتُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ بُوَيْضَتُهَا مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تَتَغَذَّى الْمَرْأَةُ عَلَى حَرَامٍ، فَيَدُورُ الدَّمُ بِالْغِذَاءِ إِلَى الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ، يُغَذِّي الْجَنِينَ مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تُرْضِعُ الْوَلِيدَ اللَّبَنَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يطعم بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَامِ، ثُمَّ تَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ!!
لَا تَعْجَبَنَّ مِمَّا يَحْدُثُ لِتِلْكَ الْأَجْيَالِ الَّتِي قَدْ انْفَلَتَتْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، فَإِنَّمَا هِيَ مِمَّنْ خُلِّقَ مِنْ حَرَامٍ، وَمِمَّنْ غُذِّيَ بِالْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَرَّعُ وَلَاةُ أُمُورِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَتَحَرُّونَ الْحَلَالَ الصِّرْفَ الْمَحْضَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً».
يَعْنِي فِي الْإِثْمِ، لَوْ وَقَعَ الْمَرْءُ فِي الزِّنَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لَكَانَ أَهْوَنَ وَأَقَلَّ إِثْمًا مِنْ دِرْهَمِ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا»: أَيْ إِثْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بابًا أَدْنَاهَا -أَدْنَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا- مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ».
أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعَلى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ أعَلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا هِيَ زِنَا الْمَحَارِمِ، وَأَعَلى دَرَجَةٍ فِي زِنَا الْمَحَارِمِ أَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ، وَأَعَلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعُونَ، فَإِذَا كَانَتْ أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ هِيَ مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، فَكَيْفَ بِأَعَلى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا؟!!
لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَلَالٍ، لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ وَلَا يُمْسِكُ عَنِ الْحَرَامِ!! فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟!! أَعْظَمُ بَابٍ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، بَلْ لَا يَتَأَتَّى الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ لِلْعَبْدِ إِلَّا مِنْ خِلَالِهِ، وَلَا يَنْفُذُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ بَابِهِ، أَكْبَرُ أَمْرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ.
*سُوءِ عَاقِبَةِ بَابٍ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ أَكْلِ السُّحْتِ وَهُوَ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ:
لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ ﷺ.
وَلِلْمَعْصِيَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا فِي حَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي كَوْنِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَفِي بَرْزَخِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ.
وَفِي الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
لَوْ أَخَذْتَ عَلَى ذَلِكَ مِثَالًا مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَثَرِ مَعْصِيَةِ الرِّبَا، وَالِاجْتَرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الْعَظِيمِ، وَأَثَرِهِ الْفَاعِلِ الْفَعَّالِ فِي الْخَلْقِ مِمَّنْ تَوَرَّطُوا فِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ؛ لَكَفَاكَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ إِنْسَانًا دَخَلَ حَرْبًا مَعَ مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ!!
مَعَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ!!
مَعَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَثَرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثَرَهَا فِي الْفَرْدِ وَفِي الْمُجْتَمَعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَفِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحَرْبِ مَعَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَمَعَ رَسُولِهِ ﷺ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اضْطِرَابَ نَفْسِهِ، وَقَلَقَ قَلْبِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اخْتِلَافَ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَرُّدَ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارٍ، وَلَا قَرَارٍ يَقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ اطْمِئْنَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، هَذَا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ الرَّسُولِ ﷺ -وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ- : ((رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَمَا أَتَاهُ آتِيَانِ فَأَخَذَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ.
وَرَأَى رَجُلًا يَقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ، وَعِنْدَهُ حِجَارَةٌ، فَيَسْبَحُ السَّابِحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَعْنِي يَفْتَحُ فَمَهُ إِلَى آخِرِهِ- عِنْدَ ذَلِكَ الْوَاقِفِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الدِّمَاءِ هَذَا، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ حَجَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهَا فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا -يَأْخُذُ هَذَا الْحَجَرَ فِي فَمِهِ-، ثُمَّ يَسْبَحُ فِي نَهْرِ الدَّمِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْبَحَ، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَفْتَحُ فَمَهُ- فَيُلْقَمُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَرًا، يَظَلُّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ)). فَهَذَا عِقَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.
وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ: فَإِنَّهُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ يُوفِضُونَ -يَنْطَلِقُونَ مُسْرِعِينَ-، وَأَمَّا هَذَا -أَيْ آكِلُ الرِّبَا- فَلَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ؛ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ آكِلَ الرِّبَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ)) .
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحَديد: 20]. -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
إِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ فِي النَّاسِ حُبَّ الذَّاتِ، فَلَا يَعْرِفُ الْمَرْءُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يُهِمُّهُ إِلَّا مَصْلَحَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، وَبِذَلِكَ تَنْعَدِمُ رُوحُ التَّضْحِيَةِ وَالْإِيثَارِ، وَتَنْعَدِمُ مَعَانِي حُبِّ الْخَيْرِ لِلْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا رُوحُ حُبِّ الذَّاتِ، وَالْأَثَرَةُ، وَالْأَنَانِيَةُ، وَتَتَلَاشَى الرَّوَابِطُ الْأَخَوِيَّةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الْإِنْسَانِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغَضَاءَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيَدْعُو إِلَى تَفْكِيكِ الرَّوَابِطِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتَمَاعِيَّةِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَيَقْضِي عَلَى كُلِّ مَظَاهِرِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالْإِحْسَانِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ.
((سُوءُ عَاقِبَةِ آكِلِ السُّحْتِ فِي الْآخِرَةِ))
إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا آخَرَ خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ -مِنْ حَرَامٍ- فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» .
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَرْضٍ ادَّعَتْ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهَا فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَتُلِيَتْ عَرِيضَةُ الدَّعْوَى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!
قَالَ مَرْوَانُ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؟
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)).
قَالَ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَهَا().
إِلَّا أَنَّ مَسَّ الظُّلْمِ أَلِيمٌ، إِلَّا أَنَّ وَقْعَهُ شَدِيدٌ.
وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ الثَّابِتِينَ الصَّالِحِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. لِوَقْعِ الظُّلْمِ وَعِظَمِ الِافْتِرَاءِ لَمْ يُطِقْ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا)).
فَأَعْمَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدُ بَصَرَهَا، فَكَانَتْ تَتَلَمَّسُ الْجُدُرَ لَا تَدْرِي طَرِيقَهَا، فَوَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فِي الْأَرْضِ الَّتِي خَاصَمَتْ سَعِيدًا فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا؛ لَمَّا دَعَا عَلَيْهَا اسْتُجِيبَ لَهُ فِيهَا().
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).
قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟
قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))().
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))، تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ، فَأَقْضِي لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ))().
يَعْنِي: إِذَا قَضَيْتُ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْحَنَ وَأَبْيَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ عَيِيٍّ ذِي حَقٍّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبِينَ وَلَا أَنْ يُعْرِبَ عَنْ حَقِّةِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبَيِّنَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ((فَإِنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِفَتْوَايَ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ))، إِذَا أَخَذَ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ ((أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الدِّينِ، وَجَعَلَ قَاعِدَتَهُ وَصُلْبَهُ وَأَسَاسَهُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آخِذًا بِالْحَلَالِ الصِّرْفِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
أَكْلُ الْحَلَالِ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ؛ لِتَحْصِيلِ الْخَيْرِ دُنْيَا وَآخِرَةً.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُسَامِحُ فِي الْحَرَامِ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا -كَمَا مَرَّ- ((وَلَوْ كَانَ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ)).
فَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُوصِلُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّبْهَةِ يُوصِلُ إِلَى شَيْءٍ، فَالْأَخْذُ بِالشُّبْهَةِ يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَ فِي الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَأَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللهم ارْزُقْنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُوَسَّعًا فِيهِ، مُبَارَكٌ فِيهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ