((الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نِعْمَةُ الْإِيمَانِ))
فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7- 8].
وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، وَحَسَّنَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْكُمْ، وَأَدْخَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حَتَّى اخْتَرْتُمُوهُ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ بِاللهِ وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الصَّغَائِرِ، أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُحَبَّبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانُ الْمُزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَهَذَا الْخَيْرُ الَّذِي حَصَلَ لَكُمْ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً عَلَيْكُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِكُمْ وَبِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ.
هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.
((حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ))
الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.
((الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ)).
قَوْلُ الْقَلْبِ: التَّصْدِيقُ وَالْإِيقَانُ.
وَقَوْلُ اللِّسَانِ: التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.
وَعَمَلُ الْقَلْبِ: النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ.
وَعَمَلُ اللِّسَانِ: هُوَ مَا لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهِ؛ كِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.
عَمَلُ الْجَوَارِحِ: هُوَ الِانْقِيَادُ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ.
فَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ تَصْدِيقٍ بِهِ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.
وَعَلَيْهِ؛ فَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.
الْإِيمَانُ: نُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((التَّوْضِيحِ وَالْبَيَانِ لِشَجَرَةِ الْإِيمَانِ)): ((أَمَّا حَدُّ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ:
فَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ، وَالِاعْتِرَافُ التَّامُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
فَهُوَ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ.
وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْقِيَامِ بِالدِّينِ كُلِّهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: ((الْإِيمَانُ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ)).
وَهُوَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
فَهُوَ يَشْمَلُ:
1*عَقَائِدَ الْإِيمَانِ.
2*وَأَخْلَاقَهُ.
3*وَأَعْمَالَهُ.
فَالْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ تَعَالَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا، وَالْأَفْعَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ الِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ التَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ للهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.
وَالِاعْتِرَافُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَالْمَوْجُودَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمِ- وَمَا وُصِفُوا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ.
كَلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.
كَمَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ:
1*الِاعْتِرَافُ بِانْفِرَادِ اللهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ.
2*وَعِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
3*وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ.
4*وَالْقِيَامُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَحَقَائِقِهِ الْبَاطِنَةِ.
كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.
وَلِهَذَا رَتَّبَ اللهُ عَلَى الْإِيمَانِ: دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
وَرَتَّبَ عَلَيْهِ: رُضْوَانَهُ، وَالْفَلَاحَ، وَالسَّعَادَةَ.
وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُمُولِهِ لِلْعَقَائِدِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى فَاتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، حَصَلَ مِنَ النَّقْصِ وَفَوَاتِ الثَّوَابِ وَحُصُولِ الْعِقَابِ بِحَسَبِهِ.
بَلْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ تُنَالُ بِهِ أَرْفَعُ الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].
وَ{الصِّدِّيقُونَ}: هُمْ أَعْلَى الْخَلْقِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ.
وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].
فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.
فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.
وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرِّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.
وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:
1*الْمَغْفِرَةُ: الْمُتَضَمِّنَةُ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.
2*وَرِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
3*وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: الْمُتَضَمِّنُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7-8].
هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْفَضْلِ، حَكِيمٌ فِي وَضْعِهِ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
فَذَكَرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: مَحَبَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ الْمَحَابِّ، وَذَكَرَ تَفْرِيقَهَا: بِأَنْ يُحِبَّ للهِ، وَيُبْغِضَ للهِ.
أَخْبَرَ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً فِي الْقَلْبِ، إِذَا وَجَدَهَا الْعَبْدُ سَلَّتْهُ عَنِ الْمَحْبُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَنِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَأَوْجَبَتْ لَهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَهَجَ بِذِكْرِ اللهِ طَبْعًا -فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ- وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَقَدَّمَ مُتَابَعَتَهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَعَلى إِرَادَةِ النُّفُوسِ، وَأَغْرَاضِهَا.
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ، مُسْتَحْلِيَةٌ لِلطَّاعَاتِ، قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُ صَاحِبِهَا لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
وَكَذَلِكَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).
وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ أَقْوَالَ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَالْأَخْلَاقَ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّ اللهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ.
((مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: الْعِلْمُ النَّافِعُ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لِلْإِيمَانِ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالنَّتَائِجِ الطَّيِّبَةِ وَالْفَوَائِدِ الْمُبَارَكَةِ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، فَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَمَرَدُّهُ إِلَى الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْيَقِينِ الْحَقِّ.
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَرْفَعُ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ دَرَجَاتٍ؛ فَأَهْلُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ يَرْفَعُ اللهُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ، وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالرِّضْوَانِ، وَبِأَعْلَى دَرَجَاتِ جَنَّاتِ الْخُلْدِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وَقَالَ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} [طه: 75-76].
مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِلْقِيَامِ بِذِرْوَةِ سَنَامِ الدِّينِ، وَهُوَ: الْجِهَادُ الْبَدَنِيُّ، وَالْمَالِيُّ، وَالْقَوْلِيُّ، جِهَادُ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُنْحَرِفِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ إِيمَانُ الْعَبْدِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، وَإِرَادَةً وَعَزِيمَةً؛ قَوِيَ جِهَادُهُ، وَقَامَ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، فَنَالَ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ وَالْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ، وَإِذَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ؛ تَرَكَ الْعَبْدُ مَقْدُورَهُ مِنَ الْجِهَادِ الْقَوْلِيِّ بِالْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَعُفَ جِهَادُهُ الْبَدَنِيُّ؛ لِعَدَمِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
فَصَادِقُ الْإِيمَانِ يَحْمِلُهُ صِدْقُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ مَرْتَبَةُ الطَّبَقَتَيْنِ الْعَالِيَتَيْنِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ: طَبَقَةِ الصِّدِّيقِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِالْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالنَّصِيحَةِ، وَطَبَقَةِ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ قُتِلُوا، أَوْ مَاتُوا مِنْ دُونِ قَتْلٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَمِنْ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ..
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلُّهُ فَرْعٌ عَنِ الْإِيمَانِ، وَمُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، وَالْهَلَاكُ وَالنَّقْصُ إِنَّمَا يَكُونُ بِفَقْدِ الْإِيمَانِ أَوْ نَقْصِهِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
((حَثُّ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعِلْمِ وَفَضَائِلُهُ))
((لَقَدْ مَدَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.
فَالْعِلْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ؛ عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا قَامَ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالْبُرْهَانُ.
وَالثَّانِي: الْقِتَالُ وَالسِّنَانُ.
فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ دِينُ اللهِ وَيَظْهَرَ إِلَّا بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُغِيرُ عَلَى قَوْمٍ حَتَّى تَبْلُغَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَكُونُ الْعِلْمُ قَدْ سَبَقَ الْقِتَالَ.
قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَابِلٍ؛ أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ أَيْ كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالطَّرَفُ الثَّانِي الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.
فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا أَوْ قَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ هُوَ مُسْتَكْبِرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ؟
الْجَوَابُ: لَا يَسْتَوِي؛ فَهَذَا الَّذِي هُوَ قَانِتٌ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ هَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ؟
الْجَوَابُ: عَنْ عِلْمٍ، وَلَذَلِكَ قَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
لَا يَسْتَوِي الَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ، كَمَا لَا يَسْتَوِي الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، وَالسَّمِيعُ وَالْأَصَمُّ، وَالْبَصِيرُ وَالْأَعْمَى.
الْعِلْمُ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الْعِلْمُ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؛ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وَلِهَذَا نَجِدُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مَحَلُّ الثَّنَاءِ، كُلَّمَا ذُكِرُوا أُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا رَفْعٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَرْتَفِعُونَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَامُوا بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَالْعَمَلِ بِمَا عَمِلُوا.
إِنَّ الْعَابِدَ حَقًّا هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيَتَبَيِّنُ لَهُ الْحَقُّ، وَهَذِهِ سَبِيلُ النَّبِيِّ ﷺ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَطَهَّرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، هَلْ هُوَ كَالَّذِي يَتَطَهَّرُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يَتَطَهَّرَا؟
أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ الْعِبَادَةِ؛ رَجُلٌّ يَتَطَهَّرُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ، وَأَنَّهَا هِيَ طَهَارَةُ النَّبِيِّ ﷺ فَيَتَطَهَّرُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْ رَجُلٌ آخَرُ يَتَطَهَّرُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُ؟
بِلَا شَكٍّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ.
فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ كُلِّ مِنْهُمَا وَاحِدًا، لَكِنْ هَذَا عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ يَرْجُو اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَشْعَرُ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ ﷺ.
بِالْعِلْمِ يَعْبُدُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِالْعِبَادَةِ وَيَتَنَوَّرُ قَلْبُهُ بِهَا، وَيَكُونُ فَاعِلًا لَهَا عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا عَلَى أَنَّهَا عَادَةٌ، وَلِهَذَا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وَمِنْ أَهَمِّ فَضَائِلِ الْعِلْمِ:
*أَنَّهُ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنْ إِرْثِ الْأَنْبِيَاءِ.
*وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَأَمَّا الْمَالُ فَيَفْنَى، وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَسْقُطُ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ وَمَا بِهِ سِوَى الْجُوعِ.
وَكَانَ يَسِيرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ يَسْتَقْرُؤُهُ الْآيَةَ وَهِيَ مَعَهُ؛ رَجَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى بَيْتِهِ وَأَنْ يَنْقَلِبَ بِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يُصِيبَ عِنْدَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا.
فَعَلى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِالْعِلْمِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيَّ ﷺ -وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ- قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) .
فَالْعِلْمُ يَبْقَى وَالْمَالُ إِنْ لَمْ يُوْضَعْ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يَفْنَى وَيَكُونُ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ.
*وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} {آل عمران: 18].
لَمْ يَقُلْ: ((وَأُولُو الْمَالِ))، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}.
وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُوَ أَحَدُ صِنْفَيْ وُلَاةِ الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ بِطَاعَتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].
فَوِلَاةُ الْأُمُورِ هَا هُنَا تَشْمَلُ وُلَاةَ الْأُمُورِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَوِلَايَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَيَانِ شَرِيعَةِ اللهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَوِلَايَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ اللهِ وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِهَا.
وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))؛ أَيْ: يَجْعَلْهُ فَقِيهًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ لَا يُقْصَدُ بِهِ فِقْهُ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي مُصْطَلَحِ الْفِقْهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ هُوَ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرِيعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَمِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ الْعَبْدُ فَيَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَكَيْفَ يُعَامِلُ عِبَادَهُ، فَتَكُونُ مَسِيرتُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ.
هَذِهِ الْفَضَائِلُ مِنْ فَضَائِلِ الْعِلْمِ قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ مِمَّا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ.
((أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا وَأَسْمَاهَا))
((إِنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّنَاءُ وَيَكُونُ الْحَمْدُ لِفَاعِلِهِ، وَلَكِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُلُومِ الْأُخْرَى فَائِدَةٌ، وَلَكِنَّهُا فَائِدَةٌ ذَاتُ حَدَّيْنِ: إِنْ أَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعَلَى نَصْرِ دِينِ اللهِ وَانْتَفَعَ بِهَا عِبَادُ اللهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا وَمَصْلَحَةً.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُهَا وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَعَلُّمَ الصِّنَاعَاتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَطْبُخُوا بِهَا، وَيَشْرَبُوا بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا)).
((اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ تَابِعٌ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ؛ لِوُثُوقِ النَّفْسِ بِأَدِلَّةِ وُجُودِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَلِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَعِظَمِ النَّفْعِ بِهَا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَجَلَّ مَعْلُومٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْبَرَهُ؛ فَهُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، الْمَوْصُوفُ بِالْكَمَالِ كُلِّهِ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَعَنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَتَشْبِيهٍ فِي كَمَالِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِه أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُهَا، وَنِسْبَتُهُ إِلَى سَائِرِ الْعُلُومِ كَنِسْبَةِ مَعْلُومِهِ إِلَى سَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا؛ فَهُوَ أَصْلُهَا كُلُّهَا، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ ذَاتِهِ وَآنِيَّتِهِ، وَكُلُّ عِلْمٍ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِ ذَاتِهِ إِلَيْهِ.
فَالْعِلْمُ بِاللهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُوجِدُهُ.
الْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَمَنْشَؤُهُ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ؛ عَرَفَ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ جَهِلَ رَبَّهُ؛ فَهُوَ لِمَا سِوَاهُ أَجْهَلُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}[الحشر: 19].
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ؛ تَجِدْ تَحْتَهَا مَعْنًى شَرِيفًا عَظِيمًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ نَسِيَ رَبَّهُ؛ أَنْسَاهُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ وَلَا مَصَالِحَهُ، بَلْ نَسِيَ مَا بِهِ صَلَاحُهُ وَفَلَاحُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَصَارَ مُعَطَّلًا مُهْمَلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ السَّائِبَةِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْأَنْعَامُ أَخْبَرَ بِمَصَالِحِهَا مِنْهُ؛ لِبَقَائِهَا عَلَى هُدَاهَا الَّذِي أَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا هَذَا؛ فَخَرَجَ عَنْ فِطْرَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَنَسِيَ رَبَّهُ، فَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا، وَمَا تَكْمُلُ بِهِ وَتَزْكُو بِهِ وَتَسْعَدُ بِهِ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
فَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، فَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَقَلْبُهُ، فَلَا الْتِفَاتَ لَهُ إِلَى مَصَالِحِهِ وَكَمَالِهِ، وَمَا تَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَقَلْبُهُ، بَلْ هُوَ مُشَتَّتُ الْقَلْبِ، مُضَيَّعُهُ، مُفَرِّطٌ فِي أَمْرِهِ حَيْرَانُ لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا.
عِبَادَ اللهِ! الْعِلْمُ بِاللهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ، وَهُوَ أَصْلُ عِلْمِ الْعَبْدِ بِسَعَادَتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَالْجَهْلُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ بِنَفْسِهِ، وَمَصَالِحِهَا، وَكَمَالِهَا، وَمَا تَزْكُو بِهِ وَتُفْلِحُ بِهِ.
فَالْعِلْمُ بِهِ تَعَالَى سَعَادَةُ الْعَبْدِ، وَالْجَهْلُ بِهِ تَعَالَى أَصْلُ شَقَاوَةِ الْعَبْدِ)).
*((وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ مَرْتَبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْعِلْمُ بِاللهِ.
فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَخَمْسُ مَرَاتِبَ: الْعِلْمُ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرْتَبَتَيِ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ بِدِينِهِ، وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: دِينُهُ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: دِينُهُ الْجَزَائِيُّ، الْمُتَضَمِّنُ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ)) .
((حَثُّ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ))
إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ وَالْعِلْمَ يَلْتَقِيَانِ وَيَتَكَامَلَانِ وَلَا يَتَنَاقَضَانِ أَبَدًا، فَالْإِيمَانُ الْحَقُّ يَدْفَعُ إِلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ مَصَالِحِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقَ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنَ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، تَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيْ: الْإِسْلَامُ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.
((الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ مَصْدَرَا قُوَّةِ الْأُمَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هِيَ أَعْظَمُ أُسُسِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا، قَالَ رَبُّنَا –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.
وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.
وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهَا بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.
وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ -وَهِيَ لَمْ تُشَاهَدْ- الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.
فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».
إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا، وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا، لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ، وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا، وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ، وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِإِعْدَادِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ -أَمَرَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَتَى مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْوُجُوبِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لِلْوُجُوبِ؛ فَهُوَ إِذًا أَمْرٌ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِذَا مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ عَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا بِذُلٍّ وَخَسْفٍ وَمَهَانَةٍ وَإِحْبَاطٍ، وَعَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا فَرَّطَتْ فِيهِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ، وَالْأَخْذِ بِتَنْفِيذِ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ حَالَ الْعَالَمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَيَعْلَمُ حَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ وَحِينٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُنَادُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ: أَيْنَ أَنْتَ يَا صَلَاحَ الدِّينِ؟!!
وَهَذَا وَهْمٌ كَبِيرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عَصْرٍ دَوْلَةً وَرِجَالًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعَثَ الرَّجُلَ الْمُجَاهِدَ الصَّالِحَ رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَامَ فِي الْأُمَّةِ الْيَوْمَ، فَإِنَّهُ لَنْ يُجَيِّشَ الْجُيُوشَ عَلَى سَهْمٍ وَسَيْفٍ، وَلَا عَلَى رُمْحٍ وَخَيْلٍ، وَإِنَّمَا سَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُتَبَصِّرًا، وَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُعْتَبِرًا، ثُمَّ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَسْبَابَ الْقُوَّةِ الَّتِي عَقَدَتِ الْأُمَّةُ رَجَاءَهَا فِي رَبِّهَا عَلَى شَبَابِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهَا مُحَصِّلِينَ وَلَهَا مُهْتَدِينَ.
وَأَعْلَمُ أَنَّ إِشْكَالًا عَظِيمًا يَقَعُ فِي أَذْهَانِ وَقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ شَبَابِنَا الصَّالِحِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَبْدَؤُوا حَيَاتَهُمْ بِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُمْ بِمَقَادِيرَ كَانُوا يَرْجُونَهَا أَنْ يُقْبِلُوا مُتَوَفِّرِينَ عَلَى دَرْسِ دِينِهِمْ، وَمَعْرِفَةِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، فَسَاقَتْهُمْ مَقَادِيرُهُمْ إِلَى حَيْثُ يَدْرُسُونَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الَّذِي هُمْ لَهُ هَاجِرُونَ، وَعَلَيْهِ غَيْرُ مُقْبِلِينَ.
هَذَا الَّذِي يَقَعُ مِنْ هَذَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الِاتِّزَانِ بِالذَّبْذَبَةِ مَا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ وَتَهْفُو إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ، وَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ دَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ تَغْيِيرًا؛ فَيَنْصَرِفُونَ عَمَّا هُمْ بِهِ مُكَلَّفُونَ، وَعَمَّا أَرْسَلَهُ أَهْلُوهُمْ إِلَيْهِ رَاغِبِينَ طَائِعِينَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ سَابِقِينَ، يَدَعُونَ ذَلِكَ جَانِبًا، يَجْعَلُونَهُ دَبْرَ الْآذَانِ، وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ، وَوَرَاءَ الْأَظْهُرِ -يَتَّخِذُونَهُ ظِهْرِيًّا-، ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، وَعِنْدَئِذٍ يَتَوَرَّطُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَتَاهَاتٍ لَا مَخْلَصَ مِنْهَا وَلَا مَنْجَى.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَ الْعِلْمَ الْفَرْضَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَى مَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، وَعَمَّا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَنْ تَكُونَ بِجَمْعِهَا وَفِي مَجْمُوعِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَحْذِقُونَ الْعِلْمَ الْكِفَائِيَّ، وَيُؤَدُّونَهُ إِلَى الْأُمَّةِ، بَلْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأُمَّةَ أَمْرًا وَاضِحًا: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122]، فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ أَنْ يُفَرِّطَ فِيهِ لَحْظَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا مَا حَصَّلَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ، وَلَا يَتَوَرَّطُ فِي الْوُقُوعِ بِالذَّبْذَبَةِ بَيْنَ غَايَتَيْنِ يَظَلُّ كَبَنْدُولِ السَّاعَةِ رَائِحًا وَغَادِيًا بَيْنَهُمَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إِلَى نِهَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى عَلَى قَرَارٍ مَكِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْخَبْطُ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ، فَلَا يَصِلُ بَعْدَ أَمَدٍ مُتَطَاوِلٍ لَا إِلَى عِلْمٍ شَرْعِيٍّ حَصَّلَهُ، وَلَا إِلَى عِلْمٍ مَادِّيٍّ نَفَعَ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِ مَا حَصَّلَ الْيَقِينَ بِفَضْلِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَتَعْلَمُونَ -حَفِظَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- أَنَّ خَالدًا رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْفَارِسُ الَّذِي لَمْ يُهْزَمْ قَطُّ، وَالْقَائِدُ الَّذِي لَمْ يُغْلَبْ قَطُّ، لَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ - لَمْ يَكُنْ أَقْرَأَ الْأَصْحَابِ، وَلَمْ يَكُنْ أَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ، وَلَمْ يَكُنْ أَثْبَتَهُمْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَإِحَاطَةً بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَجَالِهِ سَابِقًا، وَكَانَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَائِدًا مُسْتَفْرِغًا لِلْجَهْدِ فِيمَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا أَبْنَاءَنَا! اُتْرُكُوا الْمُنَاقَشَاتِ الْحِزْبِيَّةَ وَالْخِلَافَاتِ السِّيَاسِيَّةَ لِأَهْلِهَا، الْمُضْطَلِعِينَ بِهَا، الْمُنْقَطِعِينَ لَهَا، وَدَعُوا كُلَّ قَافِلَةٍ تَسِيرُ فِي طَرِيقِهَا، وَكُلَّ حَامِلٍ لِأَمَانَةٍ مِنْ أَمَانَاتِ الْوَطَنِ مُضْطَلِعًا بِحَمْلِهَا، قَائِمًا بِعَهْدِهِ فِيهَا، حَتَّى تَنْتَهِيَ تِلْكَ الْأَمَانَاتُ بِطَبِيعَتِهَا إِلَى جِيلِكُمْ، فَتَأْخُذُوهَا بِقُوَّةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ؛ لِيُضِلَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُضِلٌّ، وَكُلُّ مُضِلٍّ مُضِرٌّ؛ أَوْ لِيَسْتَكْثِرَ بِكُمْ فَهُوَ غَاشٌّ، وَكُلُّ غَاشٍّ مَمْقُوتٌ، أَوْ لِيُلْهِيَكُمْ بِمَا لَا تُحْسِنُونَ عَمَّا تُحْسِنُونَ، فَهُوَ مَاكِرٌ، وَكُلُّ مَاكِرٍ مَمْكُورٌ بِهِ.
إِنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ بِكُمْ لَا يَتَكَثَّرُ إِلَّا لِيُقَلِّلَكُمْ، وَلَا يَتَقَوَّى بِكُمْ حِسًّا إِلَّا عَلَى حِسَابِ إِضْعَافِكُمْ مَعْنًى، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ؛ فَإِنَّ الْوَطَنَ يَرْجُو أَنْ يَبْنِيَ بِكُمْ جِيلًا قَوِيَّ الْأَسْرِ، شَدِيدَ الْعَزَائِمِ، سَدِيدَ الْآرَاءِ، مَتِينَ الْعِلْمِ، مُتَمَاسِكَ الْأَجْزَاءِ، يَدْفَعُ عَنْهُ هَذِهِ الْفَوْضَى السَّائِدَةَ فِي الْآرَاءِ، وَهَذَا الْفُتُورَ الْبَادِيَ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْخُمُولَ الْمُخَيِّمَ عَلَى الْأَفْكَارِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابَ الْمُسْتَحْكِمَ فِي الْحَيَاةِ، وَهَذَا الْخِلَافَ الْمُسْتَمِرَّ عَلَى السَّفَاسِفِ، فَإِذَا جَارَيْتُمْ هَذِهِ الْأَهْوَاءَ الْمُتَبَايِنَةَ، وَاسْتَجَبْتُمْ لِهَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُتَنَافِرَةِ، ضَيَّعْتُمْ عَلَى الْوَطَنِ جِيلًا، وَزِدْتُمْ فِي بَلَائِهِ وَمِحْنَتِهِ، وَأَطَلْتُمْ مُدَّةَ الْمَرَضِ بِتَأْخِيرِ الْعِلَاجِ.
لَا يَعْذُلُكُمْ فِي حُبِّ وَطَنِكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ، وَلَا يَصْرِفُكُمْ عَنْ إِتْقَانِ وَسَائِلِ النَّفْعِ لَهُ إِلَّا أَظْلَمُ مِنْهُ.
أَنْتُمُ الْيَوْمَ جُنُودُ الْعِلْمِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتَكُونُوا غَدًا جُنُودَ الْعَمَلِ.
إِنَّ وَطَنَكُمْ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِيلٍ قَوِيِّ الْبَدَنِ، قَوِيِّ الرُّوحِ، مُسْتَكْمِلِ الْأَدَوَاتِ مِنْ فَضَائِلَ وَعَزَائِمَ، وَإِنَّ هَذَا الْجِيلَ لَمُنْتَظَرٌ تَكْوِينُهُ مِنْكُمْ، وَمُحَالٌ أَنْ تُخْرِجَ الْحَالَةُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا جِيلًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ)).
((لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ))
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَا تَقَابُلَ بَيْنَ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَالدِّينِ؛ بَلْ إِنَّ الدِّينَ الْحَقَّ يَعْتَرِفُ بِالْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الطَّبِيعِيِّ وَسِيلَةً إِلَى الْمَعْرِفَةِ؛ بَلْ إِنَّ الْمَنْهَجَ التَّجْرِيبِيَّ وَضَعَهُ عُلَمَاؤُنَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْمَنْهَجَ التَّجْرِيبِيَّ هُوَ «شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- »، وَسُرِقَ مِنْهُ، ثُمَّ رُوِّجَ فِي الْغَرْبِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ ابْتِكَارِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ فِي الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ!!
وَلَكِنَّ الثَّابِتَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمُجَادَلَةَ وَلَا النَّقْضَ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ أُسُسَ الْمَنْهَجِ التَّجْرِيبِيِّ هُوَ «شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- ».
إِذَنْ؛ فَالدِّينُ لَيْسَ مُقَابِلًا لِلْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ؛ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ –أَيِ الدِّينُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِالْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ-: أَنَّهُ لَيْسَ وَسِيلَةً -يَعْنِي: الْعِلْمَ الطَّبِيعِيَّ- إِلَى كُلِّ الْمَعَارِفِ؛ فَأَنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ بِالْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَصِلَ إِلَى كُلِّ الْمَعَارِفِ؛ بَلْ هُنَالِكَ مَعَارِفُ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، إِلَّا بِالْخَبَرِ، بَلْ هُنَالِكَ –أَيْضًا- مَعَارِفُ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِالِاسْتِنْتَاجِ الْعَقْلِيِّ.
فَهَذِهِ كُلَّهَا مِنْ وَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ وَمِنْ طُرُقِهَا: الْعَقْلُ وَالْحِسُّ، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ وَالْخَبَرُ.
وَأَيْضًا هُنَالِكَ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرُّسُلِ، وَهُوَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ، فَالْعَاقِلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْوَسَائِلِ بِحَسَبِ نَوْعِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ فِي بَعْضِهَا وَيُنْكِرُ غَيْرَهُ.
فَدِينُنَا يَدْعُو إِلَى الْعِلْمِ، وَيَحْضُ عَلَيْهِ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الِاغْتِرَافِ مِنْ مَعِينِهِ، وَإِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ طَلَبِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَتَمَامِ الْإِيمَانِ، وَدَوَامِ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَقْبِضَنَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِهِ ﷺ.
وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ