((حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْجَارُ مَفْهُومُهُ وَحُقُوقُهُ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((عِظَمُ حَقِّ الْجَارِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَيَّنَ لَنَا الْوَاجِبَاتِ الْمُتَحَتِّمَاتِ عَلَيْنَا كَمُسْلِمِينَ بَدْءًا بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا وَانْتِهَاءً بِحَقِّ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَيْنَا مُرُورًا بِحَقِّ النَّفْسِ عَلَيْنَا.
وَإِنَّ مِمَّا بَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ مَا فَرَّطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- مِنَ الْحُقُوقِ الْكَبِيرَةِ الْمُتَحَتِّمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي إِذَا مَا تَرَكَهَا الْمُسْلِمُ وَفَرَّطَ فِيهَا وَقَعَ فِي الْكَبِيرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَحْجِبُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَتُقَرِّبُ مِنَ النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَاَللَّه لَا يُؤْمِن, وَاَللَّه لَا يُؤْمِن, وَاَللَّه لَا يُؤْمِن)).
قِيلَ: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).
قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
يَعْنِي: لَا يَأْمَنُ جَارُهُ غَدْرَهُ وَمَكْرَهُ وَشَرَّهُ وَسُوءَ فَعَالِهِ.
هَكَذَا يَحْلِفُ مُحَمَّدٌ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَكَرِّرَاتٍ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- الَّذِي إِذَا مَا نَطَقَ نَطَقَ صِدْقًا وَإِذَا مَا فَاهَ فَاهَ حَقًّا ﷺ، وَلَكِنْ هَكَذَا جَرَى قَدَرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا التَّأْكِيدِ الْعَظِيمِ.
بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حَقَّ الْجَارِ أَمْرًا عَظِيمًا مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ.
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَدْ شَدَّدَ فِي هَذَا الْأَمْرِ جِدًّا، وَحَذَّرَ مِنَ الطُّغْيَانِ فِيهِ تَحْذِيرًا أَكِيدًا، وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ بَلْ نَدُرَ مَنْ يُرَاعِي فِيهِ حَقَّ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَقَّ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَحَقَّ تَعَالِيمِ مُحَمَّدٍ الْكَرِيمِ ﷺ.
((مَفْهُومُ الْجَارِ وَحَدُّ الْجِوَارِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))
الْجَارُ فِي اللُّغَةِ: قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْجِوَارُ: الْمُجَاوَرَةُ، وَالْجَارُ الَّذِي يُجَاوِرُكَ.
وَجَاوَرَ الرَّجُلَ مُجَاوَرَةً وَجِوَارًا وَجُوَارًا، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ: سَاكَنَهُ.
وَإِنَّهُ لَحَسَنُ الْجِيرَةِ: لِحَالٍ مِنَ الْجِوَارِ وَضَرْبٍ مِنْهُ.
وَقَالَ: وَجَارُكَ: الَّذِي يُجَاوِرُك، وَالْجَمْعُ: أَجْوَارٌ وَجِيرَةٌ وَجِيرَانٌ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ إِلَّا قَاعٌ وَأَقْوَاعٌ وَقِيعَانٌ وَقِيعَةٌ.
الْجَارُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ مَنْ جَاوَرَكَ جِوَارًا شَرْعِيًّا سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، صَدِيقًا أَوْ عَدُوًّا، مُحْسِنًا أَوْ مُسِيئًا، نَافِعًا أَوْ ضَارًّا، قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، بَلَدِيًّا أَوْ غَرِيبًا.
وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، تَزِيدُ وَتَنْقُصُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ، وَقَرَابَتِهِ، وَدِينِهِ، وَتَقْوَاهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيُعْطَى بِحَسَبِ حَالِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ)).
الْجَارُ: يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ، وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ.
فَلَفْظُ «الْجَارِ» يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ ﷺ بِالْجَارِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا حُدُودُ الْجِوَارِ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَارِ، فَقَالَ: ((أَرْبَعِينَ دَارًا أَمَامَهُ، وَأَرْبَعِينَ خَلْفَهُ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَسَارِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْجِوَارِ عَلَى أَقْوَالٍ:
جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ».
وَقِيلَ: «مَنْ صَلَّى مَعَكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ جَارٌ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «حَدُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ».
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَكُلُّ مَا جَاءَ تَحْدِيدُهُ عَنْهُ ﷺ بِأَرْبَعِينَ فَلَا يَصِحُّ.
فَالظَّاهِرُ: أَنَّ الصَّوَابَ تَحْدِيدُهُ بِالْعُرْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».
فَالصَّوَابُ أَنَّ تَحْدِيدَهُ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ.
((حُقُوقُ الْجَارِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
إِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجَارِ قِيمَةٌ نَبِيلَةٌ تُقَوِّي أَوَاصِرَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ، وَتُشِيعُ رُوحَ التَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ، وَتَنْشُرُ الِاسْتِقْرَارَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ لِذَلِكَ اهْتَمَّتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْجَارِ اهْتِمَامًا عَظِيمًا؛ فَأَوْصَتْ بِحَقِّهِ، وَعَظَّمَتْ حُرْمَتَهُ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجَارِ مَعَ عِبَادَةِ اللهِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي دَلَالَةٍ وَاضِحَةٍ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ، وَالِانْقِيَادُ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ مَحَبَّةً وَذُلًّا وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ بِهِ شَيْئًا؛ لَا شِرْكًا أَصْغَرَ وَلَا أَكْبَرَ، لَا مَلِكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا وَلِيًّا وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، بَلِ الْوَاجِبُ الْمُتَعَيِّنُ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِمَنْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَهُ التَّدْبِيرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
ثُمَّ بَعْدَ مَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ الْكَرِيمِ وَالْخِطَابِ اللَّطِيفِ وَالْفِعْلِ الْجَمِيلِ بِطَاعَةِ أَمْرِهِمَا وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا وَإِكْرَامِ مَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِمَا وَصِلَةِ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا بِهِمَا، وَلِلْإِحْسَانِ ضِدَّانِ؛ الْإِسَاءَةُ وَعَدَمُ الْإِحْسَانِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
{وَبِذِي الْقُرْبَى} أَيْضًا إِحْسَانًا، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْأَقَارِبِ، قَرُبُوا أَوْ بَعُدُوا؛ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِرَحِمِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ.
{وَالْيَتَامَى} أَيِ: الَّذِينَ فُقِدَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ، فَلَهُمْ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا أَقَارَبَ أَوْ غَيْرَهُمْ؛ بِكَفَالَتِهِمْ، وَبِرِّهِمْ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، وَتَرْبِيَتِهِمْ أَحَسْنَ تَرْبِيَةٍ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
{وَالْمَسَاكِينِ}: وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ، فَلَمْ يَحْصُلُوا عَلَى كِفَايَتِهِمْ، وَلَا كِفَايَةِ مَنْ يَمُونُونَ، فَأَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، بِسَدِّ خَلَّتَهُمْ وَبِدَفْعِ فَاقَتِهِمْ، وَالْحَضِّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقِيَامِ بِمَا يُمْكِنُ مِنْهُ.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أَيِ: الْجَارِ الْقَرِيبِ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، فَلَهُ عَلَى جَارِهِ حَقٌّ وَإِحْسَانٌ رَاجِعٌ إِلَى الْعُرْفِ، (وَ) كَذَلِكَ {الْجَارِ الْجُنُبِ} أَيِ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ قَرَابَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَ الْجَارُ أَقْرَبَ بَابًا كَانَ آكَدَ حَقًّا، فَيَنْبَغِي لِلْجَارِ أَنْ يَتَعَاهَدَ جَارَهُ بِالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالدَّعْوَةِ وَاللَّطَافَةِ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَعَدَمِ أَذِيَّتِهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قِيلَ: الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَقِيلَ: الزَّوْجَةُ، وَقِيلَ الصَّاحِبُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الصَّاحِبَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَيَشْمَلُ الزَّوْجَةَ، فَعَلَى الصَّاحِبِ لِصَاحِبِهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ إِسْلَامِهِ، مِنْ مُسَاعَدَتِهِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَالنُّصْحِ لَهُ، وَالْوَفَاءِ مَعَهُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَكُلَّمَا زَادَتِ الصُّحْبَةُ تَأَكَّدَ الْحَقُّ وَزَادَ.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} وَهُوَ: الْغَرِيبُ الَّذِي احْتَاجَ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ، فَلَهُ حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ، وَكَوْنِهِ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى مَقْصُودِهِ أَوْ بَعْضِ مَقْصُودِهِ وَبِإِكْرَامِهِ وَتَأْنِيسِهِ.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَيْ: مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ؛ بِالْقِيَامِ بِكِفَايَتِهِمْ، وَعَدَمِ تَحْمِيلِهِمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ، وَتَأْدِيبِهِمْ لِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ.
فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ فَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ، الْمُتَوَاضِعُ لِعِبَادِ اللَّهِ، الْمُنْقَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ، الَّذِي يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ عَبْدٌ مُعْرِضٌ عَنْ رَبِّهِ، غَيْرُ مُنْقَادٍ لِأَوَامِرِهِ، وَلَا مُتَوَاضِعٌ لِلْخَلْقِ، بَلْ هُوَ مُتَكَبِّرٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ فَخَوْرٌ بِقَوْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} أَيْ: مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مُتَكَبِّرًا عَلَى الْخَلْقِ {فَخُورًا} يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ وَيَمْدَحُهَا عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ وَالْبَطَرِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ مَا بِهِمْ مِنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ)).
بَدَأَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آيَةَ الْمُحَرَّمَاتِ الْعَشْرَةِ هَذِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، بَدَأَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمِنْهَاجَ لِكَيْ يَسِيرَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ فِي أَرْضِهِ، وَمِنْ أَجْلِهِ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرُّسُلَ، وَنَبَّأَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْبِيَاءَ، وَالَّذِي لِأَجْلِهِ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ؛ فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ مِنْ أَمَامَ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: فَهَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ بَعْدُ جَمِيعُ الْحُقُوقِ الَّتِي سَيَذْكُرُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي آيَةِ الْحُقُوقِ الْعَشْرَةِ.
فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا عَلَى حِمَارٍ -لِتَوَاضُعِهِ ﷺ وَلِينِ جَانِبِهِ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- ثُمَّ يَقُولُ لِمُعَاذٍ مُتَلَطِّفًا: ((يَا مُعَاذُ!)).
فَيَقُولُ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).
يَقُولُ: ((أَتْدَرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
فَيَقُولُ مُعَاذٌ: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).
فَيَقُولُ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
قَالَ مُعَاذٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَّا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟)).
قَالَ: ((لَا، فَيَتَّكِلُوا)).
فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ خُرُوجًا مِنْ إِثْمِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ هُوَ إِمَامُ الْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((يَأْتِي مُعَاذٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ -يَعْنِي: إِمَامًا لَهُمْ- بِرَتْوَةِ حَجَرٍ -يَعْنِي: بِرَمْيَةِ حَجَرٍ-))، فَيَكُونُ مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَامَ الْعُلَمَاءِ سَابِقًا.
يُرْدِفُهُ النَّبِيُّ ﷺ وَيَسْأَلُهُ عَنْ حَقِّ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى خَلْقِهِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَكْلَؤُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَرْعَاهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقِيتُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ عَنْهُمُ الْأَذَى وَالضُّرَّ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ، فَكَانَ حَقًّا لَازِمًا عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْرِفُوا الْعِبَادَةَ كُلَّهَا خَالِصَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ حَقًّا لَازِمًا عَلَيْهِمْ أَلَّا يُشْرِكُوا شَيْئًا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ، وَهُوَ نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ، وَهُوَ فِيهِمْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ يَأْتِي سُؤَالُ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَا حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
أَوَلِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَى اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!!
إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ التَّفَضُّلِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَلْقِهِ، جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ حَقًّا عَلَيْهِ؛ مِنَّةً مِنْهُ وَتَفَضُّلًا.
((أَتْدَرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
جَعَلَهَا كَذَلِكَ لِتَكُونَ بُشْرَى وَحَافِزًا، فَقَالَ: ((وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).
فَيَأْتِي جَوَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).
أُوصِيكُمْ بِهَذِهِ الْوَصَايَا الْعَشْرِ:
الْأُولَى: وَحِّدُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ شَرِيكًا.
وَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا؛ بِالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمَا، وَتَحْصِيلِ مُرَادِهِمَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ.
وَالْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى ذِي الْقَرَابَةِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَأَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ؛ لِصِلَتِهِمْ، وَسَدِّ حَاجَتِهِمْ، وَإِحْسَانِ صُحْبَتِهِمْ.
وَالْوَصِيَّةُ الرَّابِعَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْيَتَامَى الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ دُونَ بُلُوغِ الْحُلُمِ؛ بِإِيوَائِهِمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْعَطَاءِ، وَيَسْأَلُونَ الصَّدَقَةَ؛ بِكَفَالَتِهِمْ، وَسَدِّ حَاجَتِهِمْ.
وَالْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْجَارِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ رَحِمٍ، أَوِ الَّذِي تَكُونُ دَارُهُ قَرِيبَةً مِنْ دَارِكُمْ.
وَالْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْجَارِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ رَحِمٍ، أَوْ الَّذِي تَكُونُ دَارُهُ مُجَانِبَةً لَيْسَتْ بِمُلَاصِقَةٍ.
وَالْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الرَّفِيقِ فِي أَمْرٍ حَسَنٍ؛ كَتَعَلُّمٍ، وتِجَارَةٍ، وَصِنَاعَةٍ، وَسَفَرٍ، يَصْحَبُكَ فِي ذَلِكَ وَيَكُونُ فِي جَنْبِكَ وَجِوَارِكَ بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ أَوْ مُؤَقَّتَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا وَالزَّوْجُ مَعَ امْرَأَتِهِ.
وَالْوَصِيَّةُ التَّاسِعَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْمُسَافِرِ الْمُحْتَاجِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، أَوِ الضَّيْفِ الَّذِي يَمُرُّ بِكَ فَتُكْرِمُهُ، وَتُسَاعِدُهُ، وَتُحْسِنُ إِلَيْهِ.
وَالْوَصِيَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَحْسِنُوا إِلَى الْمَمَالِيكِ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ وَفِتْيَانِكُمْ؛ فَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَلَا تُؤْذُوهُمْ بِالْكَلَامِ الْخَشِنِ، وَأَعْطُوهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى مِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ يَنْصَرِفُ إِلَى الرَّقِيقِ فَهُوَ بِعُمُومِ لَفْظِهِ يَشْمَلُ كُلّ مَا تَحْتَ يَدِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيَوَانَاتٍ وَمِنْ أَجْهِزَةٍ وَالَآتٍ وَأَشْيَاءَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا وَيَصُونَهَا وَيَرْعَاهَا وَلَا يُبَدِّدُهَا؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا مُسْتَخْلَفٌ فِيهَا.
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ يَتَخَيَّلُ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالسَّجَايَا وَالْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَخُورًا عَلَى النَّاسِ، يَعُدُّ مَنَاقِبَهُ تَكَبُّرًا وَتَطَاوُلًا، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، وَمْن لَا يُحِبُّهُ اللهُ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.
إِنَّ الرَّوَابِطَ بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، وَالصِّلَاتِ الَّتِي تَصِلُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ مُتَعَدِّدَةٌ، فَهُنَاكَ رَابِطَةُ الْقَرَابَةِ، وَرَابِطَةُ النَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ، وَرَابِطَةُ الصَّدَاقَةِ، وَرَابِطَةُ الْجِوَارِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الرَّوَابِطِ الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْمُجْتَمَعُ، وَلِلْجَارِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ حُرْمَةٌ مَصُونَةٌ وَحُقُوقٌ وَآدَابٌ كَثِيرَةٌ لَمْ تَعْرِفْهَا قَوَانِينُ وَشَرَائِعُ الْبَشَرِ ..
لَقَدْ أَوْصَانَا النَّبِيُّ ﷺ بِمَا فِيهِ خَيْرُنَا وَصَلَاحُ أَمْرِنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَمِمَّا وَصَّانَا بِهِ أَنْ نُحْسِنَ إِلَى الْجِيرَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْأَقَارِبِ أَوْ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ الْجَارَ لَهُ حَقٌّ بِإِطْلَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ كَانَ طَائِعًا أَمْ كَانَ عَاصِيًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ كَانَ جَاهِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُصَالِحًا أَمْ كَانَ مُخَاصِمًا.
الْجَارُ مُطْلَقُ الْجَارِ لَهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ.
وَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْجَارِ مِنْ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِنَبِيِّنَا ﷺ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعِظَمِ حَقِّ الْجَارِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«يُوصِينِي بِالْجَارِ» أَيْ: يَأْمُرُنِي بِحِفْظِ حَقِّهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ، «حَتَّى ظَنَنْتُ»: اعْتَقَدْتُ وَتَرَقَّبْتُ، «حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» أَيْ: يَأْمُرُ بِتَوْرِيثِ الْجَارِ مِنْ جَارِهِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ مَعَ الْأَقَارِبِ الْآخَرِينَ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانٌ لِعَظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَفَضْلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ حِفْظَ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ.
وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». الْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»: خَصَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِشَارَةً إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ؛ أَيْ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْشَاهُ وَبَرَأَهُ وَسَوَّاهُ، وَآمَنَ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- سَيُجَازِيهِ بِعَمَلِهِ فَلْيَفْعَلِ الْخِصَالَ الْمَذْكُورَةَ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْجَارِ -قَوْلًا أَوْ فِعْلًا-مُنَافٍ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، مُنَاقِضٌ لِصِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ.
وَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ابْنَ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.
«لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ»: «أَلْ» فِي «الْمُؤْمِنِ» لِلْجِنْسِ، الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيْنْقُصُ.
«وَجَارُهُ جَائِعٌ»: «الْوَاوُ» لِلْحَالِ؛ أَيْ: وَهُوَ عَالِمٌ بِحَالِ اضْطِرَارِ جَارِهِ وَقِلَّةِ اقْتِدَارِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْجَارِ الْغَنِيِّ أَنْ يَدَعَ جِيرَانَهُ جَائِعِينَ.
فَلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَامِلَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ جَارِهِ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُوَاسِيهِ عَلَى حَسَبِ الْمُسْتَطَاعِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ بِثَلَاثٍ: «أَسْمَعُ وَأَطِيعُ وَلَوْ لِعَبْدٍ مُجَدَّعِ الْأَطْرَافِ.
وَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ.
وَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ وَجَدْتَ الْإِمَامَ قَدْ صَلَّى، فَقَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ، وَإِلَّا فَهِيَ نَافِلَةٌ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مُفَرَّقًا.
«أَوْصَانِي خَلِيلِي»: «الخُلَّةُ»: هِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ الْقَلْبَ، فَصَارَتْ خِلَالَهُ؛ أَيْ: فِي بَاطِنِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ لَيْسَ لَهُ خَلِيلٌ يَتَّخِذُهُ هُوَ، وَأَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَقُلْ: أَوْصَانِي مِنَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا أَحَدًا خَلِيلًا لَاتْخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ»، فَأَبُو ذَرٍّ هُوَ الَّذِي اتَّخَذَ النَّبِيَّ ﷺ خَلِيلًا.
«أَسْمَعُ وَأَطِيعُ وَلَوْ لِعَبْدٍ مُجَدَّعِ الْأَطْرَافِ» أَيْ: لِعَبْدٍ مُقَطَّعِ الْأَطْرَافِ.
وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، لِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَعَالَى- أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»، وَإِنَّمَا يَسْمَعُ وَيُطِيعُ، وَلَا يَشْرَئِبُّ بِعُنُقِهِ عَنْهُ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَالَى عَلَى مَقَامِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ.
«وَإِذَا صَنَعْتَ»: هُنَا الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ؛ أسْمَعُ وَأَطِيعُ: الْآنَ هُوَ يَتَكَلَّمُ ثُمَّ الْتَفَتَ مِنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ، «وَإِذَا صَنَعْتَ الْمَرَقَةُ»: يَقْصِدُ طَعَامًا ذَا مَرَقٍ، مِنْ لَحْمٍ وَدَجَاجٍ وَنَحْوِهِمِا، «فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ» أَيْ: أَعْطِهِمْ مِنْهُ شَيْئًا.
إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَحْرِصُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى التَّهَادِي بَيْنَ الْجِيرَانِ، وَلِأَنَّكَ لِقُرْبِ الدَّارِ وَتَلَاصُقِ الْجِوَارِ، فَإِنَّكَ إِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً شَمَّ الْجَارُ رَائِحَتَهَا، وَقَدْ يَكُونُ فَقِيرًا مَحْرُومًا، وَلَمْ يُكَلِّفْكَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَمْرِكَ عُسْرًا، وَإِنَّمَا قَالَ: صُبَّ مَاءً فَزِدْ فِي مَرَقَتِكَ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْهُ شَيْئًا فَهَذَا لَا يُكَلِّفُكَ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهُ رَبُّنَا -تَعَالَى- سَبَبًا لِلتَّوَادُدِ وَالتَّحَابُبِ بَيْنَ الْجِيرَانِ.
«فَقَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ»؛ يَعْنِي: صَلَّيْتَهَا فِي بَيْتِكَ.
«وَإِلَّا فَهِيَ نَافِلَةٌ» يَعْنِي: الصَّلَاةَ الَّتِي تُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ فِي بَيْتِكَ ثُمَّ جِئْتَ فَوَجَدْتَ الْإِمَامَ يُصَلِّى فَصَلِّ مَعَهُ مَرَّةً أُخْرَى- فَقَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ بِالْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ نَافِلَةٌ لَكَ كَمَا قَالَ ﷺ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ التَّهَادِي بَيْنَ الْجِيرَانِ؛ فذَلِكَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ وَيَزِيدُ الْمَوَدَّةَ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَ الْمَرَقَةِ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ، أَوِ اقْسِمْ فِي جِيرَانِكَ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«تَعَاهَدْ جِيرَانَكْ»؛ أَيْ: تَفَقَّدْهُمْ بِزِيَادَةِ طَعَامِكَ لِتَحْفَظَ بذَلِكَ حَقَّ الْجَارِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ يَسِيرٌ:
ألَا إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ = وَجْهٌ طَلِيقٌ وَلِسَانٌ لَيِّنُ
تَلْقَى النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَلْقَوْكَ بِهِ، وَتَتَعَاهَدُ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَتَعَاهَدُوكَ بِهِ.
«تَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»: تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ عِنَايَةٍ بِهِمْ، «تَعَاهَدْ» مِنَ التَّفَاعُلِ، «مِنْ مَاءِ الْمَرَقَةِ»: الَّذِي لَا يُكَلِّفُكَ شَيْئًا.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَذه الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟)).
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ)) ﷺ.
فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا, فَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ, وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ, وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا, وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا, وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
((وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا)).
فَإِنْ لَمْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ, تَكُونُ مَاذَا؟!!
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا)), مَعَ أَنَّ هَذِهِ -الْيَوْمَ- مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ جِدًّا, لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا الصِّدِّيقُونَ, الصِّدِّيقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ؛ أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ!!
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَفَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، فَكَانُوا مُوَفَّقِينَ غَايَةَ التَّوْفِيقِ.
حَقُّ الْجَارِ حَقٌّ لَازِمٌ أَحَقَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ مِنَّةً مِنْكَ وَلَا تَفَضُّلًا، إِذَا مَا وَصَلْتَ جَارَكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنَّةً مِنْكَ، بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى رَقَبَتِكَ، هُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حِيَاطَتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ وَعَظِيمٌ.
((التَّهَادِي بَيْنَ الْجِيرَانِ))
لَقَدْ أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ بِإِكْرَامِ الْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَمِنْ صُوَرِ الْإِحْسَانِ بَيْنَ الْجِيرَانِ: التَّهَادِي بَيْنَهُمْ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَحْقِرَ الْجَارُ هَدِيَّةً جَاءَتْهُ مِنْ جَارِهِ مَهْمَا كَانَتْ، وَأَلَّا يَسْتَقِلَّ هَدِيَّةً يُرْسِلُهَا إِلَيْهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
«يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ»: هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى صِفَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ «نِسَاء» بِفَاضَلَاتٍ؛ أَيُّ: فَاضِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا يُقَالُ: «رِجَالُ الْقَوْمِ»؛ أَيْ: سَادَتُهُمْ وَأَفَاضِلُهُمْ.
«الْفِرْسِنُ»: هُوَ عَظْمٌ قَلِيلُ اللَّحْمِ، أَصْلُهُ يَخْتَصُّ بِالْبَعِيرِ، وَهُوَ مِنْهُ كَمَوْضِعِ الْحَافِرِ مِنَ الْفَرَسِ، وَيُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ.
فِي الْحَدِيثِ: الْحَضُّ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، مَهْمَا كَانَ شَيْئًا قلِيلًا؛ لِأَنَّهُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا فَتْحٌ لِبَابِ التَّحَابِّ؛ «تَهَادُوا تَحَابُّوا»، وَبِمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَصَنُّعِ، حَتَّى لَا يَشُقَّ الْأَمْرُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّ بِمَا وَجَدَ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ ضَرَبَ هَاهُنَا مَثَلًا بِشَيْءٍ قَلِيلٍ، وَنَهَى عَنِ احْتِقَارِهِ؛ «لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» فَحَضَّ عَلَى التَّهَادِي، وَنَهَى عَنِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ ضِمْنًا وَمَفْهُومًا.
وَفِيهِ: اسْتِحْبَابُ التَّوَاصُلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّةً الْجِيرَانَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ: ((أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟)).
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
«أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟» يَعْنِي: هَلْ أَعْطَيْتَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟
فَحَمَلَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْجَارَ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَذَا الرَّحِمِ وَالْبَعِيدَ.
فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ التَّهَادِي بَيْنَ الْجِيرَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ وَيَزِيدَ الْمَوَدَّةَ.
وَفِيهِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْعَابِدِ لَهُ عَظِيمُ الْأَثَرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِشَرْطِ أَمْنِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ لَهُ جَارٌ فَاسِقٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاتَهُ -وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ- يَقُولُ لَا أُعْطِيهِ، أَوْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّهُ يَحْجُبُ هَدِيَّتَهُ عَنْهُ، هَذَا خَطَأٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَاهَدُهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْتَحَ قَلْبَهُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَلِلْخَيْرِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُومُ اللَّيْلَ وَيُطِيلُ الْقِرَاءَةَ وَالتَّرْتِيلَ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَجِدَارُهُ مُلَاصِقٌ لِجِدَارِهِ، فَكَانَ هُوَ يُقْبِلُ عَلَى صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَجَارُهُ يُقْبِلُ عَلَى شَرَابِهِ، فَإِذَا انْتَشَى جَارُهُ يَقُولُ مُتَرَنِّمَا:
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا = لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
يَظَلُّ يَقُولُ ذَلِكَ لَيْلًا طَوِيلًا، فَفَقَدَ أَبُو حَنِيفَةَ الصَّوْتَ لَيْلَةً، فَلَمَّا خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ سَأَلَ عَنْ جَارِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَسَسَ قَدْ دَهَمُوا بَيْتَهُ بِلَيْلٍ، فَأَخَذُوهُ.
فَذَهَبَ هُوَ مُتَشَفِّعًا فِيهِ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى أَطْلَقَهُ وَرَجَعَ بِهِ، فقَالَ لَهُ: يَا شَابُّ أَتَرَى أَنَّا قَدْ أَضَعْنَاكَ؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَرَنَّمُ بَقَولِ الشَّاعِرِ:
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا = لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
قَالَ: لَا -وَاللَّهِ- بَلْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ.
فَأَقْلَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُجُونِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟)).
قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ».
«إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» يَعْنِي: الْجِيرَانَ؛ لِأَنَّ الْجَارَ الْقَرِيبَ يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جَارِهِ؛ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَتَاعِ، فَيَتَشَوَّفُ لَهَا، بِخِلَافِ الْأَبْعَدِ؛ وَلِأَنَّ الْجَارَ الْأَقْرَبَ أَقْرَبُ اسْتِمَاعًا لِخَبَرِ جَارِهِ، وَأَسْرَعُ إِجَابَةً لَهُ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَلَاسِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ.
فَيَنْبَغِي مُرَاعَاةُ مَشَاعِرِ الْجَارِ الْأَقْرَبِ.
((تَرْهِيبُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ أَذَى الْجَارِ))
إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَهَّبَ تَرْهِيبًا شَدِيدًا مِنْ أَذَى الْجَارِ, وَأَكَّدَ تَأْكِيدًا شَدِيدًا فِي حَقِّهِ.
قَالَ الْمِقْدَادُ ابْنُ الْأَسْوَدِ: ((سَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَصْحَابَهُ عَنِ الزِّنَى؟)).
قَالُوا: ((حَرَامٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
فَقَالَ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ».
وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ؟
قَالُوا: ((حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ)).
فَقَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»: يَتَضَمَّنُ الزِّنَى، وَيَتَضَمَّنُ إِفْسَادَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَاسْتِمَالَةَ قَلْبِهَا إِلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ حِلٍّ، وَذَلِكَ أَفْحَشُ وَفِيهِ خِيَانَةٌ عَظِيمَةٌ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ الْعَظِيمُ مِنْ أَذَى الْجَارِ بِأَيِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْجَارِ عَلَى الْجَارِ أَلَّا يَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ وَلَا فِي مَالِهِ.
وفيه: بَيَانُ أَنَّ لِلْجَارِ حَقًّا عَظِيمًا، يَجِبُ حِفْظُ جِوَارِهِ وَمُرَاعَاتُهُ، بِإِيصَالِ دُرُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ حَسَبَ الطَّاقَةِ، وَيَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ.
وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ بَعْضَ الْمَعَاصِي أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ إِلَى فَاحِشَةِ الزِّنَى الْخِيَانَةَ -مَعَ قُرْبِ الدَّارِ وَتَلَاصُقِ الْجِدَارِ وَمَعَ سُهُولَةِ هَذَا الْأَمْرِ- وَفِيهِ خِيَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَضْيِيعٌ لِحُقُوقِ الْجَارِ، مَعَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ، مَعَ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ، مَعَ انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ؟
قَالُوا: ((حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ))؟
فَقَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
قَالُوا: ((وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«إِنَّ فُلَانَةَ»: وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَكَوْا عَمَّنْ أَتَى بِأَمْرٍ وَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ مِمَّا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عِقَابٌ؛ أَبْهَمُوا مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اسْمَهُ سَتْرًا عَلَيْهِ.
«وَتَفْعَلُ»: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تَعْنِي الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ بِهِ -حَذَفَ مَا تَفْعَلُ- وَإِبْهَامُهُ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَكَذَلِكَ «وَتَصَّدَّقُ» وَحَذَفَ الْمُصَّدَّقَ بِهِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَتِهِ وَوَفْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ.
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ في الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تُؤْذِي أَحَدًا «وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ».
«بِأَثْوَارٍ»: الْأَثْوَارُ: جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ الْأَقِطِ، وَهُوَ: الْجُبْنُ الْمُجَفَّفُ، يُتَّخَذُ مِنْ مَخِيضِ لَبَنِ الْغَنَمِ، لَا كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْإِنْسَانِ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ الْعَامِيِّ الْمُسْتَخْدَمِ فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ.
لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ: «وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ» جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهَذَا بَذْلٌ عَظِيمٌ وَعَطَاءٌ جَلِيلٌ، وَلَكِنَّ الْأَثْوَارَ هَاهُنَا جَمْعُ ثَوْرٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ.
سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَفْعَلُ؛ أَيْ: مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ، وَتَصَّدَّقُ؛ أَيْ: بِالصَّدَقَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا، لَا بِيَدَيْهَا وَإِنَّمَا بِلِسَانِهَا، فقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيهَا»، فَنَفَى الْخَيْرِيَّةَ عَنْهَا مَعَ مَا تَأْتِي بِهِ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ: مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْقِيَامِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ.
قَوْلُهُ ﷺ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» أَعْظَمُ خُطُورَةً وَأَجَلُّ دَلَالَةً مِنْ قَوْلِ: «هِيَ فِي النَّارِ» لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ هَاهُنَا -بِهَذِهِ الْمُصَاحَبَةِ فِي أَهْلِ النَّارِ- تَدُلُّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ؛ وَذَلِكَ لِشَنَاعَةِ فِعْلَتِهَا وَلِقُبْحِ مَا أَتَتْ بِهِ.
«وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ»: لَا تَقُومُ اللَّيْلَ.
«وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ»: بِصَدَقَةٍ قَلِيلَةٍ ظَاهِرًا.
((وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ النَّبِيِّ ﷺ لِأَهَمِّيَّةِ الْحِفَاظِ عَلَى الْجِوَارِ وَرِعَايَةِ الْجَارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْعَ حَقَّ الْجَارِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى حَقِّ الْجِوَارِ فَهُوَ فِي النَّارِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ، وَإِنْ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ.
وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ كَفَّ الْأَذَى عَنِ الْجِيرَانِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ.
تَأْكِيدُ حَقِّ الْجَارِ هَاهُنَا ظَاهِرٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ لِوَعِيدِهِ بِالنَّارِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تُؤْذِي الْجِيرَانَ، مَعَ أَنَّهَا تَهْتَمُّ بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ -فَضْلًا عَنِ الْفَرَائِضِ-؛ فَهِيَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهَا مُقَصِّرَةٌ فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ تَصُومُ النَّهَارَ، فَهِيَ تَأْتِي بِمَا فَرَضَ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَتَهْتَمُّ بِالنَّوَافِلِ هَذَا الِاهْتِمَامَ، وَمَعَ ذَلِكَ بَشَّرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنَّارِ تَأْكِيدًا لِحَقِّ الْجَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَدَّدَ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجَارِ تَبَعًا لِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِهِ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».
بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ فَشَهِدَ لَهُ مِنْ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيِينَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
بَلْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَامَةَ صِحَّةِ الْمَسْلَكِ فِي الْحَيَاةِ -فِيمَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ- جَعَلَ عَلَامَةَ ذَلِكَ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكَ الْجِيرَانُ بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَنَا أَحْسَنْتُ أَنِّي أَحْسَنْتُ، وَإِذَا أَنَا أَسَأْتُ أَنِّي أَسَأْتُ؟)).
قَالَ: «إِذَا قَالَ جِيرَانُكَ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا قَالُوا أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ».
فَالَّذِي يَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ مِنْهَاجِكَ، وَحُسْنِ فِعْلِكَ فِي هَذَا الْوُجُودِ -مِنَ الْإِحْسَانِ وَضِدِّهِ- هُوَ شَهَادَةُ الْجِيرَانِ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، فَقَدْ أَرْجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى شَهَادَةِ الْجَارِ هَذِهِ الْعَلَامَةَ الْفَارِقَةَ الَّتِي يُحَدِّدُ بِهَا الْإِنْسَانُ مَسْلَكَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ.
* قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ:
وَلَكِنَّ الْجَارَ قَدْ يَكُونُ طَالِحًا، بَلْ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤذِيًا وَمُعَانِدًا، فَلْيَكُنْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ حَقُّ اللهِ -تَعَالَى- وَهُوَ كَذَلِكَ، فَهِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّكَ قَدْ أَحْسَنْتَ حَقًّا وَصِدْقًا؛ لِأَنَّ لِلْجَارِ حَقًّا فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَمَعَ كُلِّ صِفَةٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- لَمَّا ذُبِحَتْ الشَّاةُ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: ((هَلْ أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟))؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْعُمَومَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ» فَلَمْ يُحَدِّدْ كَافِرًا وَلَا مُسْلِمًا وَلَمْ يُحَدِّدْ بَرًّا وَلَا فَاجِرًا.
إِذَنْ؛ فَهَذَا الْعُمُومُ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ مَعَ رِعَايَةِ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ فِتْنَةٌ وَأَنْ تُرَاعَى الضَّوَابِطُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَالْجَارُ إِذَا كَانَ كَافِرًا فَلَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقُّ الْجِوَارِ.
وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا غَيْرَ ذِي قُرْبَةٍ فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ.
وَإِذَا كَانَ مُسْلِمًا جَارًا ذَا قُرْبَةٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ.
فَيُؤْتَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيُرَاعَي حَقُّ اللهِ -تَعَالَى- فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
إِذَنْ؛ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ تَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ النَّاسَ لَوْ أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ لَاسْتَقَامَتْ جَمِيعُ أُمُورِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ رَاقَبُوا حَقَّ الْجِوَارِ وَأَدَّوْا حَقَّ الْجَارِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لَرُفِعَتِ النِّزَاعَاتُ، وَقُطِعَتِ الْمُنَازَعَاتُ، وَلَمْ يُظْلَمْ جَارٌ مِنْ جَارِهِ، وَلَاسْتَقَامَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ مَا يَحْدُثُ فِي الدُّنْيَا -مِمَّا يَسُوءُ النَّاسَ- إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ رُسُلِهِ ﷺ.
بَشَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا تُؤْذِي أَحَدًا، هَذَا مَقَامٌ جَلِيلٌ جِدًّا، وَهُوَ يَرْفَعُ الْعَبْدَ دَرَجَاتٍ وَيُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ وَمِنَ الْعَذَابِ - وَلَوْ كَانَ قَلِيلَ الْعَمَلِ- كَمَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَلَمِ يَذْكُرُوا نَفْلًا وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، فَهِيَ تَصَّدَّقُ بِمَا تَجِدُ وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَدْ تَكُونُ قَلِيلَةَ ذَاتِ الْيَدِ؛ يَعْنِي: لَا تَمْلِكُ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ وَمِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا حَتَّى تَتَوَسَّعَ فِي الصَّدَقَةِ.
لَقَدْ دَلَّنَا الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ».
قَالُوا: ((كَيْفَ ذَلِكَ يا رَسُولَ الله؟)).
قَالَ: «رَجُلٌ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَرَجَلٌ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَتَصَدَّقَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ بِمِئَةِ أَلْفٍ».
فَهَذَا الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ يَسْبِقُ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَا يَسْتَقِلَّنَّ الْإِنْسَانُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَمْلِكُ إِلَّا تَمْرَةً وَاحِدَةً فَيَتَصَدَّقُ بِشِقِّهَا، فَهَذَا تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَا يَمْلِكُ، وَأَمَّا الَّذِي عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَيَأَخُذُ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِئَةَ أَلْفٍ لَا تُمَثِّلُ شَيْئًا فِي مَجْمُوعِ مَالِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ صَاحِبُ الْمِئَةِ أَلْفٍ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سُئِلَ: ((الْمَرْأَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، -ثُمَّ جِيءَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْعَظِيمِ-: وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا)).
قَالَ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«بَوَائِقَهُ»: جَمْعُ بِائِقَةٍ، وَهِيَ الْغَائِلَةُ أَوِ الدَّاهِيَةُ.
قَوْلُهُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ»:
هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى:
مَنْ يَسْتَحِلُّ الْإِيذَاءَ لِلْجَارِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الْإِيذَاءِ، فَهَذَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لِاسْتِحْلَالِهِ.
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا فيكون هَذَا جَزَاؤُهُ أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَقْتَ دُخُولِ الْفَائِزِينَ، إِذَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا لَهُمْ، بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ.
مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيْدِ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ؛ فَهُوَ إِلَى مَشِيْئَةِ اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، هَذِهِ هِيَ قَاعِدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ دُونَ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَاتَ وَمَعَهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ -التَّوْحِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ-.
فَنَحْنُ نَفْهَمُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ضَوْءِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ -وَهِيَ قَاعِدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ-، حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقِيدَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ وَمَا أَشْبَهَ فَقَطْ، وَإِنَّمَا حَتَّى فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ.
أَهْلُ السُّنَّةِ يَجْمَعُونَ النُّصُوصَ الوَارِدةَ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ كُلَّهَا، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ مِنْ أَجْلِ فَحْصِ مَا هُوَ ثَابِتٌ مِمَّا هُوَ دَخِيلٌ لَمْ يَثْبُتْ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فِيمَا ثَبَتَ وَيُؤَلِّفُونَ بَيْنَهَا عَلَى حَسَبِ قَوَاعِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ.
فَنَحْنُ هُنَا نَنْظُرُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: «لَا يَدْخُلُ» هُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، إِذَنْ فَهُوَ كَافِرٌ: هَذَا مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ، هُمُ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْكَبِيرَةِ، فَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، أَنَّ الرَّجُلَ يُؤْذِي جَارَهُ، و يَفْعَلُ الْغَائِلَةَ وَالدَّاهِيَةَ لِجَارِهِ، وَلَا يَرْقُبُ فِيهِ إِلَّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُ، فَمَاذَا يَكُونُ مَصِيرُهُ فِي الْآخِرَةِ؟
إِمَّا أَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ فِي حَالِ الِاسْتِحْلَالِ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ؛ فَيَأْتِيهِ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى إِيذَاءِ الْجَارِ مَا يَأْتِيهِ، ثُمَّ يَسْتَحِلُّ إِيذَاءَ الْجَارِ، وَيَقُولُ: لَا يَلْزَمُنِيْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَذَا كَافِرٌ، فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا لِكُفْرِهِ، لَا لِإِيذَائِهِ، لِاسْتِحْلالِهِ مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّحْرِيمِ.
وَإِمَّا أَنَّهُ يُؤَخَّرُ، فَلَا يُدْخَلُ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِذَا فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ جَزَاءً وِفَاقًا؛ لِإِيذَائِهِ جَارَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
فِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى كَفِّ الْأَذَى عَنِ الْجِيرَانِ، وَبَيَانُ أَنَّ كَفَّ الْأَذَى عَنِ الْجِيرَانِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ جَنَّةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ، أَوْ قَالَ: حِينٌ، وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ»
((هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي)) أَيْ: دُونَ الْجَارِ، أَغْلَقَ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنَعَ مَعْرُوفَهَ أَنْ يَصِلَ إِلَى جَارِهِ -حَتَّى وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْهُ-.
يَا لَهُ مِنْ دِينٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ، وَمَا أَضْيَعَ أَحْكَامَهَ عَلَى أَبْنَائِهِ، وَعَلَى الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!
((ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ))؛ يَقُولُ هَذَا فِي زَمَانِهِ، فَكَيْفَ بِزَمَانِنِا نَحْنُ؟!!
فِي الْحَدِيثِ: تَأْكِيدٌ عَظِيمٌ عَلَى رِعَايَةِ حَقِّ الْجَارِ، وَالْحَثُّ عَلَى مُوَاسَاتِهِ -وَإِنْ جَارَ- لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلِائتِلَافِ وَالِاتِّصَالِ وَالتَّحَابُبِ وَالتَّوَادُدِ بَيْنَ الْجَارِ وَالْجَارِ.
وَفِيهِ: بَيَانُ حَالِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَمَعَ الْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ خُصُوصًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُهَاجِرِينَ دُورٌ وَلَيْسَ لَهُمْ أَمْوَالٌ؛ تَصَدَّى الْأَنْصَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَأَعْطَوْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَسْكَنُوهُمْ وَأَعْطَوْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، يَجْعَلُ الْأَنْصَارِيَّ أَخًا لِلْمُهَاجِرِيِّ، فَكَانَ مَا يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ أَخِيهِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةَ نَفْسِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَالَ الزَّمَنُ وَأَحَبَّ النَّاسُ الْأَمْوَالَ، لَكِنَّهَا مَهْمَا كَانَ مِنْ حُبٍّ مِنْهُمْ لِلْمَالِ فَإِنَّ الْقُرُونَ الْمُفَضَّلَةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ الْخَيْرُ فِيهَا كَثِيرٌ، لِذَا شَهِدَ النَّبِيُّ ﷺ لَهَا بِالْخَيْرِيَّةِ، وَشَهَادَتُهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، وَذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَكَانُوا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْخَيْرِ عَظِيمٍ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ بَعْضِهِمُ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَالِ الْحَلَالِ، وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْبَعْضِ، ثُمَّ تَتَابَعَ الزَّمَنُ، فَلَا يَأْتِي زَمَنٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
تَكْثُرُ الشُّرُورُ عَبْرَ مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَعْوَامِ، فَلَا يَأْتِي عَامٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لِظُهُورِ مَا يَقَعُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْفِتَنِ، وَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ وَالزُّهْدِ فِي الْخَيْرِ.
وَالْوَاجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَّعِظُ وَيَتَذَكَّرُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى اللهِ إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، مِنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ؛ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَاللِّقَاءُ مَهْمَا طَالَ الْعُمُرُ فَإِنَّ لِقَاءَ اللهِ قَرِيبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الْعَمَلِ:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15].
{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123].
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94].
فَالْوَاجِبُ تَعَاهُدُ النَّفْسِ وَتَمْرِينُهَا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَالْأَقَارِبِ خُصُوصًا، وَإِلَى الْجَارِ كَذَلِكَ خُصُوصًا، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مُؤْمِنًا حَقًّا، وَمُحْسِنًا حَقًّا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْجَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيْكَ فَيَدُقَّ بَابَكَ فَتُغْلِقَ الْبَابَ دُونَهُ، وَتَمْنَعَهُ حَاجَتَهُ الَّتِي تَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا، فَإِذَا دَقَّ الْجَارُ بَابَكَ لَهُ حَاجَةٌ فَقَابِلْهُ، فَإِنْ قَضَى اللهُ الْحَاجَةَ عَلَى يَدَيْكَ فَكَمْ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ! قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وَإِنْ تَعَسَّرَ الْأَمْرُ فَكَلِمَةُ الْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَدِّمَ اعْتِذَارًا إِلَيْهِ، أَوْ تُقَدِّمَ وَعْدًا وَأَنْتَ صَادِقٌ فِيهِ، فَيَنْقَلِبَ وَهُوَ مُرْتَاحٌ وَمُحِبٌّ لَكَ، وَمُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَاضٍ عَنْ جَارِهِ.
وَأَمَّا إِغْلَاقُ الْبَابِ دُونَ الْجَارِ فَلَا يَجُوزُ، فَقَدْ يَدُقُّ الْبَابَ لِحَاجَتِهِ أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ فَيُغْلَقُ دُونَهُ، فَهَذَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقِ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ لِجِيرَانِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ؛ أَنْ يَدُقُّوا الْبَابَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَابِلَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَابِلُهُ، وَلَا يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، بَلْ يَرُدُّهُ خَائِبًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ قَضَاءَ حَاجَتِهِ، وَلَوْ بِكَلِمَةِ الْمَعْرُوفِ.
وَلِأَهَمِيَّةِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ الَّذِي يَرُدُّ جَارَهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى طَلَبِهِ فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُحَاكِمَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَشْكُوهُ، وَيَقُولُ لِرَبِّهِ: هَذَا مَنَعَنِي حَقِّي وَأَغْلَقَ دُونِي بَابَهُ!!
((خُطُورَةُ إِيذَاءِ الْجِيرَانِ وَعَوَاقِبُهُ))
إِنَّ الْأَذَى عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمٌ، وَأَذِيَّةُ الْجَارِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَلَهَا أَخْطَارٌ جَسِيمَةٌ وَعَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي)).
فَقَالَ: «انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ».
فَانْطَلَقَ فَأَخْرِجَ مَتَاعَهُ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: ((مَا شَأْنُكَ؟)).
قَالَ: ((لِي جَارٌ يُؤْذِينِي)).
فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ».
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ اخْزِهِ)).
فَبَلَغَهُ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: ((ارْجِعْ إِلَى مَنْزِلِكَ، فَوَاللَّهِ لَا أُوذِيكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.
«فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ»؛ أَيْ: مَتَاعَ بَيْتِهِ فَسَكَنَ الطَّرِيقَ.
«فَبَلَغَهُ»؛ أَيْ: بَلَغَ الْجَارَ الْمُؤْذِيَ لِجَارِهِ.
وَجَّهَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى اخْتِيَارِ الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِدَفْعِ الْبَغْي، وَلِإِزَالَةِ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ أَثَّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْحَسَنُ، وَتِلْكَ السِّيَاسَةُ الدَّقِيقَةُ فِي النُّفُوسِ أَبْلَغَ التَّأْثِيرِ، حَتَّى رَجَعَ الرَّجُلُ عَمَّا كَانَ يَأْتِيهِ مِنْ أَذَى الْجَارِ.
في هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ -وَكُلُّ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ عَظِيمَةٌ-: أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، وَهُوَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِرَدْعِ الْجَارِ الْمُؤْذِي لِجَارِهِ.
وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ السَّيِّئَةَ مَعَ الْجِيرَانِ لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ الْأَكَارِمُ، فَإِنَّ النَّاسَ لَمَّا مَرُّوا عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَذِيَّةِ جَارِهِ لَهُ، جَعَلُوا يَقُولُونَ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللَّهُمَّ اخْزِهِ))؛ إِذْ يَبْلُغُ أَذَاهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، حَتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ مَتَاعَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، كَمَا أَمَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ.
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: ((شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ جَارَهُ، فَقَالَ: «احْمِلْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ».
فَمَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟)).
فَقَالَ: «إِنَّ لَعْنَةَ اللهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ».
ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي شَكَا: «كُفِيتَ»، أَوْ نَحْوَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَهُوَ «حَسَنٌ صَحِيحٌ».
«إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ»؛ أَيْ: إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ مَنْ يَلْعَنُهُ مِنَ النَّاسِ لِسُوءِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُؤْذِيَ لِجَارِهِ جَاءَ شَاكِيًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنَ لَعْنِ النَّاسِ إِيَّاهُ؛ فَقَالَ شَاكِيًا: مَا لَقِيْتُ مِنَ النَّاسِ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ».
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَشْكُو جَارَهُ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ)).
يَعْنِي: أَخْرِجْ أَثَاثَ بَيْتِكَ وَمَا عِنْدَكَ فَاجْعَلْهُ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ.
فَطَرَحَهُ؛ فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ, يَعْنِي يَلْعَنُونَ جَارَهُ الَّذِي أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِكَ, فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ, فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ!)).
قَالَ: ((وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟)).
قَالَ: ((يَلْعَنُونَنِي)).
قَالَ: ((لَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ))؛ يَعْنِي: الرَّجُلُ الَّذِي آذَى جَارَهُ.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَذَى أَنْ يُخْرِجَ أَثَاثَ بَيْتِهِ وَمَتَاعِهِ إِلَى الطَّرِيقِ, فَكَانَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا شَأْنُكَ؟!! لِمَ أَخْرَجْتَ مَتَاعَ بَيْتِكَ؟!!
فَيَقُولُ: آذَانِي جَارِي, فَشَكَوْتُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ, فَأَمَرَنِي أَنْ أَطْرَحَ مَتَاعِي -هَكَذَا- فِي الطَّرِيقِ؛ فَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْمُؤْذِي, فَلَمَّا بَلَغَهُ اللَّعْنُ, وَوَقَعَ عَلَيْهِ الْأَذَى بَعْد أَنْ كَانَ وَاقِعًا مِنْهُ, ذَهَبَ يَشْكُو إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ)).
يَعْنِي: لَقِيتُ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ لَعْنِهِمْ إِيَّايَ، كُلَّمَا مَرُّوا عَلَى ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَذَى فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي كَانَ, قَالُوا: لَعَنَهُ اللهُ؛ يَعْنِي: عَلَى الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ الْأَذَى.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا جَاءَ يَشْكُو إِلَيْهِ: ((لَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ)).
فَقَالَ: ((فَإِنِّي لَا أَعُودُ يَا رَسُولَ اللهِ)).
فَجَاءَ الَّذِي شَكَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((ارْفَعْ مَتَاعَكَ, فَقَدْ كُفِيتَ)).
وَعَنْ أَبِي عَامِرٍ الْحِمْصِيِّ قَالَ: كَانَ ثَوْبَانُ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلَيْنِ يَتَصَارَمَانِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَيَهْلِكُ أَحَدُهُمَا، فَمَاتَا وَهُمَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُصَارَمَةِ، إِلَّا هَلَكَا جَمِيعًا، وَمَا مِنْ جَارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ وَيَقْهَرُهُ، حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا هَلَكَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
«يَتَصَارَمَانِ» أَيْ: يَهْجُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَقْطَعَانِ الْكَلَامَ.
«فَيَهْلِكُ أَحَدُهُمَا»؛ أَيْ: فَيَمُوتُ.
«حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ»؛ أَيْ: الظُّلْمُ وَالْقَهْرُ.
«إِلَّا هَلَكَ»: اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِسُوءِ فِعْلِهِ -نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ ثَوْبَانَ هَذَا، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَجِّلُ الْمُتَهَاجِرَيْنِ، لَا يَنْظُرُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمَا وَهِيَ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا، يَقُولُ: «أَنْظِرُوا هَذَينِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».
بَلْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ-: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»؛ أَيْ: فِي الْإِثْمِ.
وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ وَسَفْكُ دَمِهِ إِثْمُهُ عَظِيمٌ جِدًّا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ هِجْرَانَهُ سَنَةً فِي الْإِثْمِ كَقَتْلِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ.
دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَيَانِ عَمَلَيْنِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ الْعَاجِلَةُ وَالْآجِلَةُ، الْعَمَلُ الْأَوَّلُ: الْمُصَارَمَةُ الَّتِي هِيَ الْهَجْرُ وَالتَّدَابُرُ، بِحَيْثُ يَهْجُرُ الْجَارُ جَارَهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ لِحُظُوظٍ دُنْيَوِيَّةٍ، لِحُظُوظِ نَفْسِهِ، لِمَالٍ أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، يَهْجُرُهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِذَا هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَمَّتِ الْعُقُوبَةُ مَنْ مَاتَ وَمَنْ بَقِيَ، فَإِذَا مَاتَا جَمِيعًا عَمَّتِ الْعُقُوبَةُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هَيِّنًا وَلَا سَهْلًا، بَلْ أَمْرٌ يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهِيَ الْمُصَارَمَةُ؛ بِمَعْنَى لَا تُكَلِّمُهُ وَلَا تُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمُكَ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا مُصَارَمَةٌ لِحُظُوظٍ شَخْصِيَّةٍ، إِمَّا مَالِيَّةٍ، وَإِمَّا نَفْسِيَّةٍ، وَلَيْسَتْ فِي دِينِ اللهِ، فَهَذَا مِنَ الْمَآثِمِ الْعَظِيمَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً كَقَتْلِهِ»؛ أَيْ: كَأَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَعُقُوبَةُ الْقَاتِلِ عَمْدًا شَنِيعَةٌ وَعَظِيمَةٌ وَفَظِيعَةٌ فِي الْإِسْلَامِ.
فَالْوَاجِبُ إِنْ حَصَلَ سُوءُ تَفَاهُمٍ بَيْنَ جَارَيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَا يَتَجَاوَزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا وَتُنَاقَشُ الْقَضِيَّةُ ، وَالْمُحِقُّ -أَيْ صَاحِبُ الْحَقُّ- يَكُونُ عِنْدَهُ سَمَاحَةٌ، وَصَاحِبُ الِاعْتِدَاءِ يَعْتَرِفُ بِخَطَئِهِ وَيَبْذُلُ الْمَعْرُوفَ، وَيُبَدِّلُ مَا كَانَ سَيِّئًا بِالْحَسَنِ؛ فَالدُّنْيَا حَقِيرَةٌ، وَالنَّاسُ مُرْتَحِلُونَ مِنْهَا، وَالْجَزَاءُ عِنْدَ اللهِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
فِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى إِزَالَةِ الْهِجْرَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى الِابْتِعَادِ عَنِ الْمُشَاجَرَةِ وَالُمُقَاطَعَةِ لِلْجِيرَانِ وَلِغَيْرِهِمْ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنَ الْحَدِيثِ عَامُّ.
فَحَاوِلْ أَنْ تُعِيدَ بِنَاءَ الْجُسُورِ الْمَقْطُوعَةِ..
خَاصِمْ لِلَّهِ، وَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْكَ وَلَا حَرَجَ..
وَاهْجُرْ لِلَّهِ، لَا تَثْرَيبَ وَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ..
بَلْ إِنَّ الْمُصَارَمَةَ للهِ الْهِجْرَانَ لِلَّهِ مِنَ الْإِيْمَانِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ تُعْطِيَ لِلَّهِ، وَأَنْ تَمْنَعَ لِلَّهِ، وَأَنْ تَصِلَ لِلَّهِ، وَأَنْ تَقْطَعَ لِلَّهِ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ الْهِجْرَانَ هَجَرْنَاهُ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ الْمُصَارَمَةَ صارَمْنَاهُ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالتَّشَهِّي وَالْهَوَى، فَهَذَا هُوَ الْهَلَاكُ بِعَيْنِهِ، كَمَا بَيْنَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَنَحْرِصُ عَلَى إِعَادَةِ بِنَاءِ الْجُسُوِرِ الْمُهَدَّمَةِ الَّتِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ -خَاصَّةً مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ- كَالْأَقَارَبِ، وَكَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَكَالْجِيرَانِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ هَؤُلَاءِ حَقَّهُمْ، وَأَنْ نُؤْتِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْهَلَاكُ، كَمَا ذَكَرَ ثَوْبَانُ فِي الْمُتَصَارِمَيْنِ وَالْجَارِ الْبَاغِي: «إِلَّا هَلَكَ».
وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامُ حَرِيصٌ جِدًّا عَلَى تَمَاسُكِ الْمُجْتَمَعِ، وَعَلَى تَرَاصِّ بُنْيَانِ أَبْنَائِهِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْجِيرَانِ، وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ الْوَخِيمَةِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُعْتَدِينَ.
((مَثُوبَةُ الصَّبْرِ عَلَى أَذِيَّةِ الْجَارِ السُّوءِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى مِنْهُ، لَا عَلَى كَفِّ الْأَذَى عَنْهُ.
إِنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْجَارِ وَالْإِتْيَانَ بِالْحَقِّ الْكَامِلِ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ الْأَغَرِّ أَنْ تَتَحَمَّلَ الْأَذَى مِنْهُ، لَا أَنْ تَكُفَّ الْأَذَى عَنْهُ.
أَنْ تَكُفَّ الْأَذَى عَنْهُ مَرْحَلَةٌ، أَمَّا أَنْ تَسْمَعَ مِنْهُ الْإِسَاءَةَ، وَأَنْ تَجِدَ مِنْهُ الْأَذَى ثُمَّ إِنَّكَ تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ مِنْهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَحَبَّةٍ فِي النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ؛ فَذَلِكَ شَيْءٌ فَوْقَ الْوَصْفِ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]. (({وَلَمَنْ صَبَرَ} عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ {وَغَفَرَ} لَهُمْ؛ بِأَنْ سَمَحَ لَهُمْ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أَيْ: لَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَثَّ اللَّهُ عَلَيْهَا وَأَكَّدَهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَلْقَاهَا إِلَّا أَهْلُ الصَّبْرِ وَالْحُظُوظِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُوَفَّقُ لَهَا إِلَّا أُولُو الْعَزَائِمِ وَالْهِمَمِ، وَذَوُو الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ.
فَإِنَّ تَرْكَ الِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِنْ أَشَقِّ شَيْءٍ عَلَيْهَا، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى، وَالصَّفْحُ عَنْهُ، وَمَغْفِرَتُهُ، وَمُقَابَلَتُهُ بِالْإِحْسَانِ أَشَقُّ وَأَشَقُّ، وَلَكِنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَجَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى الِاتِّصَافِ بِهِ، وَاسْتَعَانَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَلَاوَتَهُ، وَوَجَدَ آثَارَهُ؛ تَلَقَّاهُ بِرَحْبِ الصَّدْرِ، وَسَعَةِ الْخَلْقِ، وَالتَّلَذُّذِ فِيهِ)).
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
((يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى- وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا؛ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ!
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ، لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ، خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ، إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ، فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنَّ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا؛ فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ، وَتَرَكَ خِطَابَكَ، فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ، وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، حَصَلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ.
{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ)).
وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: ((كَانَ يَبْلُغُنِى عَنْ أَبِى ذَرٍّ حَدِيثٌ, فَكُنْتُ أَشْتَهِى لِقَاءَهُ, فَلَقِيتُهُ -يَعْنِي لِأَجْلِ الْحَدِيثِ-, فَقُلْتُ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! كَانَ يَبْلُغُنِى عَنْكَ حَدِيثٌ, وَكُنْتُ أَشْتَهِى لِقَاءَكَ)).
قَالَ: ((لِلَّهِ أَبُوكَ! لَقَدْ لَقِيتَنِي؛ فَهَاتِ)).
قُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَكَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ ثَلاَثَةً وَيُبْغِضُ ثَلاَثَةً)).
قَالَ -أَبُو ذَرٍّ يَرُدُّ عَلَيْهِ- هُوَ لَا يَحْفَظُ إِلَّا هَذَا, يَعْنِي أَنَا بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَكَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثَةً, أَنَّ اللهَ يُحِبُّ ثَلاَثَةً, وَيُبْغِضُ ثَلاَثَةً, وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟
فَقَالَ أَبُوذَرٍّ: ((فمَا إِخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رسول الله ﷺ )).
قَالَ: فَقُلْتُ: ((فَمَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ يُحِبُّهم اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؟)).
قَالَ: ((رَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا, فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ, وَأنتُمْ تَجِدُّونَه عِنْدَكُمْ مَكْتُوبًا فِى كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, ثُمَّ تَلَا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4])).
قُلْتُ: ((وَمَنْ؟)).
قَالَ: ((رَجُلٌ كان لَهُ جَارُ سَوْءٍ يُؤْذِيهِ, فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ, حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِحَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ)).
((الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْجَارُ السُّوءُ))
إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ وَرَاحَتُهُ فِي الْحَيَاةِ الْجَارَ الصَّالِحَ، وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَا يُؤْذِي جِيرَانَهُ، وَيُوَصِّلُ الْمَنَافِعَ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ فِي الْحَيَاةِ الْجَارُ السُّوءُ، وَهُوَ الْجَارُ الَّذِي يُؤْذِي جِيرَانَهُ، وَيَمْنَعُ عَنْهُمُ الْمَنَافِعَ؛ فَعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ: الْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ لِغَيْرِهِ فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ - فَزَادَ عَنِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَاحِدًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ-؛ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ».
«الْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ»: لَا تَتَكَشَّفُ فِيهِ الْعَوْرَاتُ، وَيُمْكِنُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَيُمْكِنُ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الضِّيفَانِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا حَرَجٍ يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ.
«وَالْجَارُ الصَّالِحُ»: يُعِينُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ اْلُمنْكَرِ.
«وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ»: لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّالِحَاتِ.
الْجَارُ الصَّالِحُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِلْمَرْءِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ -تَعَالَى- عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ إِذَا لَمْ يَشْغَلْ قَلْبَ رَاكِبِهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَهُوَ -أَيْضًا- مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْكَ، إِذْ يُعِينُكَ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَيُبَلِّغُكَ الْغَايَاتِ مِنْ غَيْرِ مَا وُقُوعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَشَقَّاتِ، بِشَرْطِ أَلَّا يَشْغَلَ قَلْبَكَ، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالُوا لَهُ: ((تَدْخُلُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ؟)).
قَالَ: «فَمَا تُرِيدُونَ؟».
قَالُوا: ((نَأْتِي لَكَ بِبِرْذَوْنٍ)).
فَلَمَّا رَكِبَ هَمْلَجَ بِهِ، فَقَالَ: «رُدُّوا عَلَيَّ دَابَّتِي، إِنَّمَا حَمَلْتُمُونِي عَلَى شَيْطَانٍ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ، فَإِنَّ جَارَ الدُّنْيَا يَتَحَوَّلُ». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
«اللَّهُمَّ»: «الْمِيمُ»: عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّدَاءِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ «يَاللَّهُ».
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّ الْمِيمَ إِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ عَنْ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى، فَمْنَ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَكَأَنَّمَا قَالَ: يَاللَّهُ، يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ، يَا حَكِيمُ، يَا عَلِيمُ، يَا سَمِيعُ، يَا بَصِيرُ، إِلَى آخِرِ أَسْمَاءِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُسْنَى».
«أَعُوذُ»: أَلْتَجِئُ وَأَحْتَمِي وأَسْتَجِيرُ.
«جَارِ السُّوءِ»: الَّذِي لَا يَأْتَمِرُ بِأَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَلَا يَنْتَهِي عَنْ نَوَاهِيهِ.
«فِي دَارِ الْمُقَامِ»: فِي رِوَايَةٍ: «فِي دَارِ الْمُقَامَةِ»، وَ«دَارَ الْمُقَامِ» هِيَ: دَارُ الْإِقَامَةِ.
«فَإِنَّ جَارَ الدُّنْيَا يَتَحَوَّلُ»: لِأَنَّ الْجَارَ السَّيِّئَ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ أَحَقُّ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، لِتَتَابُعِ الْأَذَى مِنْهُ وَلَا يَزُولُ عَنْهُ ظَنُّ الْأَذَى فِي كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ أَذًى لِلْقُرْبِ وَلِلْجِوَارِ، فَاسْتَعَاذَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ جَارِ السُّوءِ.
النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ)).
الْجَارُ الْمُرْتَحِلُ كَمَا يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ يَأْتِي بِخَيْمَتِهِ فَيَنْصِبُهَا إِلَى جَانِبِ خَيْمَةِ أَخِيهِ أَوْ جَارِهِ مَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَحَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْمَطَرَ يُصَرِّفُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَيْفَ شَاءَ.
وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ يَعْنِي كَمَا يَكُونُ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْإِقَامَةِ وَالْمَعِيشَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ فِيهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ)).
فِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى شُؤْمِ جَارِ السُّوءِ، وَمَدَى ضَرَرِهِ لِجِيرَانِهِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ وَاقِعِ النَّاسِ أَنَّ الْجَارَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَارُ خَيْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَارَ سُوءٍ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ تَعَوَّذَ مِنْ جَارِ السُّوءِ الَّذِي يُسِيءُ إِلَى جِيرَانِهِ؛ إِمَّا بِلِسَانِهِ، وَإِمَّا بِعَصَاهُ، وَإِمَّا بِأَيٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ، فَلِشِدَّةِ خَطَرِهِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَارُ سُوءٍ، وَهَكَذَا الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّ الْمُسْلِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَارٌ صَالِحٌ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، وَمِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ، وَمِنْ أَهْلِ كَفِّ الْأَذَى؛ فَيَكْسَبُ الْأَجْرَ، وَيَرْتَاحُ جَارُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»،. وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
فِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى تَعْظِيمِ الصُّحْبَةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَتَعْزِيزِهَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا تَحَابَّ الرَّجُلَانِ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ».
فِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى حِفْظِ الْجَارِ وَالْإِحَسانِ إِلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي بَذْلِ الْمَعْرُوفِ عُمُومًا وَلِلْأَصْحَابِ وَلِلْجِيرَانِ خُصُوصًا.
فَمَنْ بَذَلَ الْمعْرُوفَ أَكْثَرَ، وَوَالَى الْإِحْسَانَ إِلَى أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ وَيَعْرِفُهُمْ، وَقَدْ تَمَّتِ الصُّحْبَةُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، صُحْبَةً عَلَى الْخَيْرِ، عَلَى مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، وَعَلَى الْعَمَلِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْغَيْرِ، وَالْقَاصِرِ عَلَى النَّفْسِ، اصْطَحَبُوا عَلَى ذَلِكَ، فَأَكْثَرُهُمْ إِحْسَانًا إِلَى صَاحِبِهِ هُوَ خَيْرُهُمْ، وَالثَّانِي وَإِنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْخَيْرِ عَظِيمٍ، غَيْرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهَا، وَالْجَزَاءُ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ، وَحُسْنِ النِّيَّةِ.
وَهَكَذَا الْجِيرَانُ خَيْرُهُمْ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ؛ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَغَيْرِهِ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الثَّانِي، وَالثَّانِي عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْخَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعَمَلِ، وَمِنْ ثَمَّ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجَزَاءِ.
وَعَلَى الْعُمُومِ فَالْحَدِيثُ فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْغَيْرِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْأَرْحَامُ، وَيَلِيهِمُ الْأَصْحَابُ الَّذِينَ تَمَّتْ صُحْبَتُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى الْخَيْرِ، جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَالْجِيرَانُ كَذَلِكَ.
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِبَيَانِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَرِّبُ الْعَبْدَ إِلَى اللهِ زُلْفًى عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ مِنْ فَرَائِضَ وَوَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ، وَمِنْ فَضَائِلَ يُرَغَّبُ فِي فِعْلِهَا الْإِنْسَانُ؛ لِيُجْزَى الْجَزَاءَ الْأَوْفَى مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
((اتَّقُوا اللهَ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى مِنَ الْجِيرَانِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الشَّقَاءِ أَنْ تُرْزَقَ جَارًا شَقِيًّا؛ كُلَّ حِينٍ يَطَّلِعُ عَلَى حَرِيمِكَ وَأَهْلِكَ، وَكُلَّ حِينٍ يُؤْذِيكَ بِصَوْتِ الْمِذْيَاعِ وَالتِّلْفَازِ!!
وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَ الْمِذْيَاعِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَسْمَعَهُ الْجَارُ، فَهَذَا أَذِيَّةٌ لِلْجَارِ وَلَوْ كَانَ الْمَسْمُوعُ قُرْآنَ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّكَ لَا تَضْمَنُ الْحَالَ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا، لَعَلَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ فِي كُلِّ حِينٍ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
أَلَا كَمْ مِنْ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ ثَانِيَةً وَاحِدَةً مِنْ غُمْضٍ!
أَلَا كَمْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ يَحْتَاجُ دَقِيقَةً وَاحِدَةً مِنَ الزَّمَانِ!
أَلَا كَمْ مِنْ تَعِبٍ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَاحَ!
أَلَا كَمْ مِنْ عَيْنٍ سَاهِرَةٍ تَبْحَثُ عَنْ لَذِيذِ الْغُمْضِ بَعْدَ طُولِ السُّهَادِ، ثُمَّ يَقْتَحِمُ عَلَيْكَ دَارَكَ كُلُّ مَا يَسُوءُ، وَلَيْتَهُ كَانَ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَلَكِنْ مَا يَأْثَمُ بِهِ الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ وَيَتَحَمَّلُ الْعَاقِبَةَ عَلَيْهِ فِي أُخْرَاهُ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ-.
((حُقُوقُ الْجَارِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَوَامِرَ مُشَدَّدَاتٍ يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي يَرْضَى بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا أَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَوْفَرِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ الْحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا، وَهَذِهِ حُقُوقٌ حَقَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَجَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ قَائِمَةً عَلَى سُوقِهَا، فَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فِيهَا فَهُوَ بِمَبْعَدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِمَقْرَبَةٍ مِنَ النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَحْوَالَنَا تَسُوءُ؛ لِأَنَّنَا نُفَرِّطُ فِي جَنْبِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِأَنَّنَا نُضَيِّعُ الْحُقُوقَ الْمُؤَكَّدَاتِ، ثُمَّ نَحْمِلُ عَلَى مَنْ نَحْمِلُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فُلَانًا مِنْ أَسْبَابِ الضَّيَاعِ وَأَنَّ فُلَانًا مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسكتْ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)).
هَذِهِ الْأُمُورُ مُلْزِمَةٌ، لَيْسَتْ نَفْلًا, وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَفْرَضِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ.
((الزَّمَالَةُ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْجِوَارِ))
إِنَّ الْجِوَارَ لَهُ صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي بَيَانِهَا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
((وَاعْبُدُوا اللهَ وَانْقَادُوا لَهُ وَحْدَهُ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَأَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمَا، وَحُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ، وَالْيَتَامَى وَالْمُحْتَاجِينَ، وَالْجَارِ الْقَرِيبِ مِنْكُمْ وَالْبَعِيدِ، وَالرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ، وَالْمُسَافِرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْمَمَالِيكِ مِنْ فِتْيَانِكُمْ وَفَتَيَاتِكُمْ، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يُحِبُّ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ عِبَادِهِ، الْمُفْتَخْرِينَ عَلَى النَّاسِ)).
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ}: هُوَ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَقِيلَ: هُوَ الزَّوْجَةُ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّفِيقُ مُطْلَقًا فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَهَذَا أَشْمَلُ؛ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
وَمِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْجِوَارِ جِوَارُ الزَّمَالَةِ فِي الْعَمَلِ، سَوَاءٌ فِي الدِّرَاسَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، أَمْ فِي الْعَمَلِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ أَيَّا كَانَ نَوْعُ هَذَا الْعَمَلِ؛ إِدَارِيًّا، أَمْ مِهَنِيًّا، أَمْ حِرَفِيًّا، أَمْ قِيَادِيًّا، أَمْ مُجْتَمَعِيًّا أَوْ تَطَوُّعِيًّا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْجِوَارِ، وَالزُّمَلَاءُ فِي الْعَمْلِ أَصْحَابٌ وَجِيرَانٌ، يَنْبَغِي أَنْ تَسُودَ بَيْنَهُمْ رُوحُ التَّآلُفِ وَالتَّكَامُلِ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
((جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الصَّاحِبِ لِصَاحِبِهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ إِسْلَامِهِ؛ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَالنُّصْحِ لَهُ، وَالْوَفَاءِ مَعَهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَكُلَّمَا زَادَتِ الصُّحْبَةُ تَأَكَّدَ الْحَقُّ وَزَادَ.
مِنْ أَهَمِّ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ: التَّعَاوُنُ فِيمَا بَيْنَ الزُّمَلَاءِ، وَنَقْلُ الْخِبْرَاتِ، وَالتَّنَاصُحُ، وَتَبَادُلُ الْمَعْلُومَاتِ بِمَا يُحَقِّقُ صَالِحَ الْعَمَلِ وَإِتْقَانَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ؛ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَمِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ: كَفُّ الْأَذَى؛ فَإِنَّ فِي أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِثْمًا عَظِيمًا، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأَحزاب: 58].
((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ عَمِلُوهُ فَقَدِ ارْتَكَبُوا أَفْحَشَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَأَتَوْا ذَنْبًا ظَاهِرَ الْقُبْحِ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ)).
((وَإِنْ كَانَتْ أَذِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمَةً، وَإِثْمُهَا عَظِيمًا؛ وَلِهَذَا قَالَ فِيهَا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أَيْ: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُمْ مُوجِبَةٍ لِلْأَذَى؛ {فَقَدِ احْتَمَلُوا} عَلَى ظُهُورِهِمْ {بُهْتَانًا} حَيْثُ آذَوْهُمْ بِغَيْرِ سَبَبٍ، {وَإِثْمًا مُبِينًا} حَيْثُ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَكُوا حُرْمَةً أَمَرَ اللهُ بِاحْتِرَامِهَا)).
وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى أَخِيهِ بِأَذًى فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
مِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ: مَحَبَّةُ كُلِّ زَمِيلٍ الْخَيْرَ لِزَمِيلِهِ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمُ الشَّرَّ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ مِنَ الشَّحْنَاءِ، مِنَ الحِقْدِ، مِنَ الْغِلِّ، مِنَ الْحَسَدِ، مِنَ الْبَغْضَاءِ تَنْطَوِي عَلَيْهَا نَفْسٌ مُشَوَّهَةٌ حَتَّى يَتَشَوَّهَ الظَّاهِرُ تَبَعًا؟!!
مِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ: الْبُعْدُ عَنْ أَسْبَابِ التَّشَاحُنِ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاقُدِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْوَقِيعَةِ بَيْنَ الزُّمَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْأَرْزَاقَ مَقْسُومَةٌ وَفْقَ حِكْمَةٍ أَرَادَهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: (((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ؛ فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي)).
وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي» يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.
«إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
وَمِنْهَا -أَيْ: مِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ-: تَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ، وَالتَّكَافُلُ عِنْدَ الْمُهِمَّاتِ وَالْمُلِمَّاتِ بِمَا يُحَقِّقُ مَعْنَى الْجَسَدِ الْوَاحِدِ الَّذِي أَكَّدَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
لَا شَكَّ أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الزَّمَالَةِ: ضَبْطَ النَّفْسِ، وَتَحَمُّلَ الْأَذَى إِنْ وَقَعَ مِنَ الْبَعْضِ، وَاحْتِسَابُ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَتَحَمُّلُ أَذَى الْجَارِ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43].
وَمِنَ الْمُؤَكَّدَ؛ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الظُّلْمِ وَالْأَذَى مِمَّنْ ظَلَمَهُ وَبَغَى عَلَيْهِ وَأَسَاءَ إِلَيْهِ، وَضَبَطَ نَفْسَهُ عَنْ الِانْدِفَاعِ بِعَوَامِلِ الْغَضَبِ، أَوِ الطَّيْشِ، أَوِ الرُّعُونَةِ، وَغَطَّى إِسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَنْشُرْهَا، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُجَازَاتِهِ بِمِثْلِ سَيِّئَتِهِ؛ إِنَّ ذَلِكَ الْخُلُقَ الرَّفِيعَ وَالسُّلُوكَ الْبَدِيعَ لَمِنْ إِرَادَةِ الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ، وَالَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ جِدًّا هِيَ مِنْ مُسْتَوَى الْعَزْمِ.
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤].
وَلَا تَسْتَوِي فِي فِطَرِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَوَاعِدِ التَّعَامُلِ الْإِنْسَانِيِّ مُفْرَدَاتُ جِنْسِ الْحَسَنَةِ وَمُفْرَدَاتُ جِنْسِ السَّيِّئَةِ؛ فَأَفْرَادُ جِنْسِ الْحَسَنَةِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَفْرَادُ جِنْسِ السَّيِّئَةِ مُتَفَاوِتَةٌ.
ادْفَعْ مَنْ يُرِيدُ مُقَاوَمَةَ دَعْوَتِكَ بِمَا يَضُرُّكَ أَوْ يُؤْذِيكَ، وَيُقْبِلُ عَلَيْكَ بِشَرٍّ.. ادْفَعْهُ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ خُلُقٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ؛ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ صَدِيقٌ قَرِيبٌ مُصَافٍ لَكَ، لَا يَحْمِلُ عَدَاوَةً لَكَ وَلَا كَرَاهِيَةً، بَلْ يَحْمِلُ وُدًّا وَوَلَاءً.
حُقُوقُ الْجَارِ عَلَى جَارِهِ.. حُقُوقُ الزُّمَلَاءِ عَلَى زَمِيلِهِمْ.. حُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ؛ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا: قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ))؛ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.
((حُقُوقُ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ حُقُوقٌ مُلْزِمَةٌ))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ الْحُقُوقُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَدَلَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ حُقُوقٌ يُسْأَلُ عَنْهَا الْمَرْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَهِيَ حُقُوقٌ مُلْزِمَةٌ, فَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا فَهُوَ آثِمٌ مُتَخَلِّفٌ عَنْ أَمْرِ وَاجِبٍ, وَهُوَ وَاقِعٌ فِي حَرَامٍ, وَمُحِيطٌ بِهِ الْفَشَلُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَ, وَأَنْ يَنْفَعِلَ مَعَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ مِنْ كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَإِذَا مَا انْفَعَلَ وِجْدَانِيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَوِّلَ هَذَا الِانْفِعَالَ إِلَى عَمَلٍ مُبَاشِرٍ.
لَوْ تَمَّ ذَلِكَ لَكَفَانَا قَلِيلُ عِلْمٍ نَتَعَلَّمُهُ يَتَحَوَّلُ فِي حَيَاتِنَا إِلَى سُلُوكٍ, وَإِلَى حَرَكَةٍ وَإِلَى وَاقِعٍ نَتَفَاعَلُ بِهِ, وَيَتَفَاعَلُ مَعَنَا، وَحِينَئِذٍ؛ تَجِدُ هَذَا الْمُجْتَمَعَ الْمَائِجَ بِالشُّرُورِ الْمُتَلَاطِمَ بِالذُّنُوبِ وَالْآثَامِ كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ إِذَا مَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ ﷺ؛ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَوِّلَ كَلَامَ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى عَمَلٍ, وَأَلَّا نَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ الْمَعْرِفَةِ النَّظَرِيَّةِ, فَنَسْتَزِيدَ مِنْ حُجَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ, وَأَنْ يَعْفُوَ عَنَّا, وَأَنْ يَرْحَمَنَا, وَأَنْ يُسَدِّدَنَا, وَأَنْ يُسَدِّدَ أَلْسِنَتَنَا, وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَنَا, وَأَنْ يَهْدِيَ قُلُوبَنَا, وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْخَيْرِ, وَأَنْ يَهْدِيَنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا هُوَ, وَأَنْ يَصْرِفَ عَنَّا سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا هُوَ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر: حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ