الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ

الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ

((الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.  

أَمَّا بَعْدُ:

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ))

فَالْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ دِينُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْدِلُوا مَعَ إِخْوَانِهِمْ وَغَيْرِ إِخْوَانِهِمْ, أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى النَّاسِ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ أَجْمَعِ مَا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

فَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْعَدْلَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَحْدَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْجَوْرِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا قَدْ يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ كُلُّهُ, لَكِنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَدْلَ وَمَعَهُ الْإِحْسَانَ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ، وَالْقَوَّامُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ؛ أَيْ: كُونُوا فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ اللهِ أَلَّا يُسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، بَلْ تُصَرَّفُ فِي طَاعَتِهِ.

وَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَنْ تُؤَدَّى جَمِيعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ كَمَا تَطْلُبُ أَنْتَ حُقُوقَكَ، فَتُؤَدِّي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالدِّيُونَ، وَتُعَامِلُ النَّاسَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْمُكَافَأَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْقِسْطِ: الْقِسْطُ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْقَائِلِينَ، فَلَا يُحْكَمُ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِانْتِسَابِهِ أَوْ مَيْلِهِ لِأَحَدِهِمَا، بَلْ يَجْعَلُ وِجْهَتَهُ الْعَدْلَ بَيْنَهُمَا.

وَمِنَ الْقِسْطِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ الَّتِي عِنْدَكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، حَتَّى عَلَى الْأَحِبَّاءِ؛ بَلْ عَلَى النَّفْسِ، وَلِهَذَا قَالَ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا أَيْ: فَلَا تُرَاعُوا الْغَنِيَّ لِغِنَاهُ، وَلَا الْفَقِيرَ -بِزَعْمِكُمْ- رَحْمَةً لَهُ، بَلْ اشْهَدُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَنْ كَانَ.

وَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ، وَأَدَلِّهَا عَلَى دِينِ الْقَائِمِ بِهِ وَوَرَعِهِ وَمَقَامِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ نَجَاتَهَا أَنْ يَهْتَمَّ لَهُ غَايَةَ الِاهْتِمَامِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَمَحَلَّ إِرَادَتِهِ، وَأَنْ يُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ مَانِعٍ وَعَائِقٍ يَعُوقُهُ عَنْ إِرَادَةِ الْقِسْطِ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ.

وَأَعْظَمُ عَائِقٍ لِذَلِكَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِهَذَا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ هَذَا الْمَانِعِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا}؛ أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمُ الْمُعَارِضَةِ لِلْحَقِّ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَبِعْتُمُوهَا عَدَلْتُمْ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَمْ تُوَفَّقُوا لِلْعَدْلِ، فَإِنَّ الْهَوَى إِمَّا أَنْ يُعْمِيَ بَصِيرَةَ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَإِمَّا أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَتْرُكَهُ لِأَجْلِ هَوَاهُ، فَمَنْ سَلِمَ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ وُفِّقَ لِلْحَقِّ وَهُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ نَهَى عَنْ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ لَيُّ اللِّسَانِ عَنِ الْحَقِّ فِي الشَّهَادَاتِ وَغَيْرِهَا، وَتَحْرِيفُ النُّطْقِ عَنِ الصَّوَابِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَحْرِيفُ الشَّهَادَةِ وَعَدَمُ تَكْمِيلِهَا، أَوْ تَأْوِيلُ الشَّاهِدِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ اللَّيِّ؛ لِأَنَّهُ الِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ.

{أَوْ تُعْرِضُوا} أَيْ: تَتْرُكُوا الْقِسْطَ الْمَنُوطَ بِكُمْ، كَتَرْكِ الشَّاهِدِ لِشَهَادَتِهِ، وَتَرْكِ الْحَاكِمِ لِحُكْمِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ.

{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أَيْ: مُحِيطًا بِمَا فَعَلْتُمْ، يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ خَفِيَّهَا وَجَلِيلَهَا، وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلَّذِي يَلْوِي أَوْ يُعْرِضُ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى لِلَّذِي يَحْكَمُ بِالْبَاطِلِ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جُرْمًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ تَرَكَا الْحَقَّ، وَهَذَا تَرَكَ الْحَقَّ وَقَامَ بِالْبَاطِلِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].

أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ وَعَدَوَاتُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَيْكُمْ -حَيْثُ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ طَلَبًا لِلِاشْتِفَاءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ أَمْرَ اللهِ وَيَسْلُكَ طَرِيقَ الْعَدْلِ، وَلَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُلِمَ أَوْ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ يَخُونَ مَنْ خَانَهُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

أَيْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بِمَا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ, قُومُوا بِلَازِمِ إِيمَانِكُمْ, بِأَنْ تَكُونُوا {قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}, بِأَنْ تَنْشَطَ لِلْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ حَرَكَاتُكُمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَامُ للهِ وَحْدَهُ, لَا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ تَكُونُوا قَاصِدِينَ لِلْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ, لَا الْإِفْرَاطُ وَلَا التَّفْرِيطُ فِي أَقْوَالِكُمْ وَلَا أَفْعَالِكُمْ، وَقُومُوا بِذَلِكَ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ, وَالصَّدِيقِ وَالْعَدُوِّ.

{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عَدْلَ عِنْدَهُ وَلَا قِسْطَ، بَلْ كَمَا تَشْهَدُونَ لِوَليِّكُمْ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِ, وَكَمَا تَشْهَدُونَ عَلَى عَدُوِّكُمْ فَاشْهَدُوا لَهُ, وَلَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهِ, وَقَبُولُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا لِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَا يُرَدُّ الْحَقُّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ, فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْحَقِّ.

{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أَيْ: كُلَّمَا حَرَصْتُمْ عَلَى الْعَدْلِ, وَاجْتَهَدْتُمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ, كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ لِتَقْوَى قُلُوبِكُمْ, فَإِنْ تَمَّ الْعَدْلُ؛ كَمُلَتِ التَّقْوَى، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَمُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ؛ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا, صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا, جَزَاءً عَاجِلًا وَآجِلًا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ المُؤمِنِينَ آذيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجَعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَجَاءَ بِلَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «اللهم إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البَشَرُ...)). وَذَكَرَهُ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ:

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الْمُفْهِمِ»: «قَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَرَامُوا التَّخَلُّصَ مِنْ ذَلِكَ بِأَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْضَحُهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ: أَنَّ النَّبِيَّ إِنَّمَا يَغْضَبُ لِمَا يَرَى مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، فَغَضَبُهُ للهِ تَعَالَى لَا لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَنْتَقِمُ لَهَا.

قَالَ: وَقَدْ قَرَّرَنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ غَضَبِهِ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَغْضُوبِ مِنْ أَجْلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُخَالِفَ لَهُ بِاللَّعْنِ وَالسَّبِّ وَالْجَلْدِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَةِ الْمُخَالِفِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قَدْ يَكُونُ مَا صَدَرَ مِنْهُ فَلْتَةً أَوْجَبَتْهَا غَفْلَةٌ، أَوْ غَلَبَةُ نَفْسٍ، أَوْ شَيْطَانٌ، وَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى عَمَلٌ خَالِصٌ وَحَالٌ صَادِقٌ، يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَثَرَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ.

وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا -اللهُ تَعَالَى- لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

 ((عَدْلُ الْإِسْلَامِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ))

لَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِنْسَانَ مُطْلَقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَلتَفْضِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِبَنِي آدَمَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ؛ لِهَدَايَتِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ, فَمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَحَمَلَ الْأَمَانَةَ؛ نَالَ هَذَا الشَّرَفَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهِ, وَمَنْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَاعْتَنَقَ طَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ خَسِرَ  هَذِهِ الْكَرَامَةَ، وَنَزَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ الْحَضِيضِ فِي الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ, كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

وَالْإِسْلَامُ حَفِظَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ مَا دَامُوا لَمْ يُنَاصِبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعِدَاءَ, وَلَمْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى؛ فَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

بَلْ أَمَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-:

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) ؛ أَيْ: النَّاسَ عُمُومًا.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا, وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَصِلَ مَنْ يَصِلُنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

فَالْإِسْلَامُ مَا جَاءَ لِقَتْلِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ, وَأَمَّا الْقِتَالُ فَهُوَ عِلَاجٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ, لَكِنَّ الْأَصْلَ؛ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن.

ثُمَّ إِنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ  يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَدْلِ وَدِينُ الرَّحْمَةِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فَالْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ, وَقَتْلَ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ رَأَيٌ فِي الْقِتَالِ, وَيُحَرِّمُ قَتْلَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ شَرُّهُمْ وَكُفْرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ, وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ, وَلِهَذَا نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ قَتْلِهِمْ, ثُمَّ إِذَا وَقَعَ الْأَسِيرُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الانسان: 8-9].

فَإِذَا رَأَى الْأَسِيرُ هَذَا التَّعَامُلَ الطَّيِّبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبَّمَا شَرَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ, وَذَهَبَتْ عَنْهُ الْعُنْجُهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ صَدَّتْهُ عَنِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ -بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرَحمَةِ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ- فِي دِينِ اللهِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا أَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمِنَ الْبِلَادِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ))، يَأسِرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ, وَلَكِنْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ, فَأَحْسَنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَادُوا التَّعَامُلَ مَعَهُمْ, وَأَخَذُوا يَرْفُقُونَ بِهِمْ؛ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِدْخَالِهُمُ الْجَنَّةَ.

وَالْإِسْلَامُ يُجِيزُ الصُّلْحَ مَعَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

لَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَكَّرُوا وَتَرَوَّوْا وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَاقْتِنَاعٍ.

وَصَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْيَهُودَ عِنْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَفَوْا بِالْعَهْدِ لَوَفَى لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ, وَلَكِنَّهُمْ خَانُوا الْعَهْدَ فَأَوْقَعَ اللهُ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ.

وَإِذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ إِمَّا بِالْعَهْدِ وَإِمَّا بِالْأَمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْمُعَاهَدِ أَوْ عَلَى حَيَاتِهِ, فَيَكُونُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَمَنْ تَعَدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, ((وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كَافِرٌ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُعَاهَدٌ، فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ, مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ كَافِرًا!!

لَكِنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَيَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].

فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

 ((رِسَالَةُ الْمُسْلِمِينَ:

دَعْوَةُ الْعَالَمِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ إِلَى التَّوْحِيدِ))

إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَتَبَ كُتُبَهُ، وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأْقَوامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ.

الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ، لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ  يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!

((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)) .

الْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَيَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَلَوْ كَانَ مَقْتُولًا عَلَى الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، عِنْدَمَا تَشْتَبِكُ الرِّمَاحُ، وَعِنْدَمَا تَتَشَابَكُ الْأَسِنَّةُ، وَعِنْدَمَا تُسَلُّ السُّيُوفُ لَامِعَةً؛ يَأْتِي النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ حَامِلَ السَّيْفِ وَمُسَدِّدَ الرُّمْحِ لَا يَخْبِطُ بِهِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ .

قَالَ ﷺ: ((لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَغُلُّوا)) ، فَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، نَهَى عَنْ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَتِيلٍ؛ تُشَوَّهُ صُورَتُهُ أَوْ تُمَزَّقُ أَعْضَاؤُهُ أَوْ يُعْبَثُ بِجُثَّتِهِ.

فَنَهَى النَّبِيُّ عَنِ امْتِهَانِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلَّا يَدَعُوا جُثَثَ الْكَافِرِينَ نَهْبًا لِجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا تُخَدُّ لَهُمُ الْأَخَادِيدُ، ثُمَّ يُلْقَوْا فِيهَا، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ احْتِرَامًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ كَافِرًا كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ مَعَ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِـ(بَدْرٍ)، وَجِيءَ بِهِمْ، فَجُعِلُوا فِي الْقَلِيبِ، وَكَانَ جَافًّا يَابِسًا، ثُمَّ أُهِيلَ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ، وَجُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِعَدَمِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَيَأْمُرُ بِأَنْ يُحْتَرَمَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ.

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ، بِدِينِ الرَّحْمَةِ، بِالدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ، هُوَ دِينُ الْحَقِّ دِينُ اللهِ.

 ((الْعَدْلُ هُوَ أَسَاسُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ))

لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ -وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ سَائِرَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ- لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَإِرْشَادِهِمْ، إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْمِيزَانَ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كُلُّهُ عَدْلٌ وَقِسْطٌ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَفِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ قِيَامًا بِدِينِ اللَّهِ، وَتَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا وَعَدُّهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ مُتَّفِقُونَ فِي قَاعِدَةِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].

نُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّنَا بِعَظِيمِ رُبُوبِيَّتِنَا أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالدَّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ الْمُتَضَمِّنَ لِلْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ؛ لِنُبَيِّنَ لَهُمْ طَرِيقَ نَجَاتِهِمْ وَفَوْزِهِمْ فِي رِحْلَةِ امْتِحَانِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ النُّظُمَ وَالْقَوَاعِدَ وَالْوَصَايَا وَالْأَحْكَامَ الَّتِي يُوصِلُ اتِّبَاعُهَا إِلَى تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، لِيَتَعَامَلَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي كُلِيَّاتِ الدِّينِ الْعَامَّةِ ضِمْنَ اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ، فَهُمْ مُطَالَبُونَ بِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ أَوْ بِالِاقْتِرَابِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ الْبَشَرِيَّةِ.

وَمِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ رِوَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ -الَّذِي تُرِيدُونَ مُحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ- وَلَوْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، الْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ بِفِطْرَةٍ مَغْرُوزَةٍ فِيهِ، هِيَ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، لَا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ إِخْوَانِهِ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ.

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا. وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى.

*جَعَلَ اللهُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ مُؤَسَّسَةً عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ: فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِعَدَمِ ظُلْمِ النَّفْسِ: فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29-30].

وَلَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَلَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَقَتْلُ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لِلْآخَرِ قَتْلٌ لِأَنْفُسِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَلِرَحْمَتِهِ بِكُمْ نَبَّهَكُمْ عَلَى مَا فِيهِ صِيَانَةُ أَمْوَالِكُمْ وَحِفْظُ أَبْدَانِكُمْ، وَنَهَاكُمْ عَنْ كُلِّ مَا يُسَبِّبُ لَكُمْ مَشَقَّةً أَوْ مِحْنَةً.

*وَحَثَّ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ ﷺ عَلَى مُعَامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ: فَحَقُّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا!! بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا!! وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبِ خَاطِرٍ.

فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).

.

وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ؛ فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)) .

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

*الْعَدْلُ فِي الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ:

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقَابُلَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ، فَمَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ يُقَابِلُهُ الْحَقُّ، وَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَقًّا وَهُوَ حَقٌّ كَبِيرٌ، كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا.

لَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ: ((لَوْ كَانَ مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمِهِ قُرْحَةٌ تَبُضُّ قَيْحًا وَصَدِيدًا، فَاسْتَقْبَلَتْهُ فَلَعَقَتْهُ بِلِسَانِهَا، مَا وَفَّتْهُ حَقَّهُ عَلَيْهَا)) .

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَوْمًا: ((أَلَكِ بَعْلٌ؟))

فَأَجَابَتْ بِالْإِيجَابِ.

فَقَالَ: ((انْظُرِي كَيْفَ أَنْتِ لَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ أَوْ نَارُكِ)) .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ حَقِّ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ عَلَّقَ دُخُولَ الْمَرْأَةِ الْجَنَّةَ عَلَى رِضَا زَوْجِهَا عَنْهَا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا؛ دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ)) .

فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهَا، وَلَا تُقَصِّرُ فِي طَاعَتِهِ شَيْئًا إِلَّا مَا عَجَزَتْ عَنْهُ.

وَفِي الْمُقَابِلِ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا نَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ دَوْحَةً نَسْتَظِلُّ بِهَا.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)).

وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:

الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَلْ أَدَّى إِلَيْهَا حَقَّهَا أَمْ فَرَّطَ وَضَيَّعَ؟

قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال» .  

وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا رِعَايَتُهَا وَحِفْظُهُ لَهَا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

الرِّجَالُ قَائِمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ النِّسَاءِ وَرِعَايَتِهِنَّ وَحِفْظِهِنَّ لِسَبَبَيْنِ:

الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ مَا فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ خَصَائِصَ نَفْسِيَّةٍ  وَجَسَدِيَّةٍ.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي: بِمَا أَعْطَوْا مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ.

فَعَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْعَلَاقَاتِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ أَجَلِّ الْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَوْ سَارَتْ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

*وَمِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتِهِ الْحَثُّ عَلَى رِعَايَةِ الْأَهْلِ مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ وَخَادِمٍ: فَإِطْعَامُكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ، فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا النَّارَ، وَوَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِبَعْضِ صِفَاتِهَا كَمَا وَصَفَ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا بِبَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَحَذَّرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَقِيَ أَنْفُسَنَا وَأَهْلِينَا ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، وَهُوَ وُرُودُ النَّار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْبُيُوتُ مُنِيرَةً بِآيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ بِقُرْآنِ الرَّحْمَنِ لَا بِقُرْآنِ الشَّيْطَانِ.

لَقَدْ كَانَتْ أَبْيَاتُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ لَهَا دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

فَلْنُوَجِّهْ أَهْلِينَا، وَلْنُوَجِّهْ أَنْفُسَنَا إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ إِلَّا بِتَرْكِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لِلنَّفْسِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}: عَلِّمُوهُمْ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ، دُلُّوهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالرَّشَادِ.

عَلِّمُوهُمْ دِينَ رَبِّهِمْ: عَقِيدَتَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمُعَامَلَتَهُ، وَأَخْلَاقَهُ، وَسُلُوكَهُ؛ لِيَفُوزُوا بِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا فَقَدْ خُنْتُمُ الْأَمَانَةَ، وَإِلَّا فَمَا أدَّيْتُمْ حَقَّ ذَوِيكُمْ عَلَيْكُمْ.

تَعَلَّمُوا أُصُولَ الِاعْتِقَادِ وَعَلِّمُوهَا.

اتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي أَهْلِيكُمْ؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَمَانَةٌ.

*عَدْلُ الْإِسْلَامِ وَرَحْمَتُهُ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَإِخْوَانِهِ وَجِيرَانِهِ:

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).

وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)) ، فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.

*وَاجِبُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ جِيرَانِهِ:

وَالْجَارُ فِي الْإِسْلَامِ لَهُ حَقٌّ بِإِطْلَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ كَانَ طَائِعًا أَمْ كَانَ عَاصِيًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ كَانَ جَاهِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُصَالِحًا أَمْ كَانَ مُخَاصِمًا.

الْجَارُ -مُطْلَقُ الْجَارِ- لَهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا نَبِّيُكُمْ ﷺ يَقُولُ قَوْلًا مُرْسَلًا -عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ-: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ))؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

*وَأَقَامَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَلَاقَاتِ التِّجَارِيَّةَ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَمُعَامُلَاتٍ عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ: فَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا».

وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ المَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلاعُبَ فِي المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 1-6].

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ، فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الكَيْلَ وَالوَزْنَ، فَإِنَّ المُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ العَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِأَصْحَابِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ: «إِنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا فِيهِ هَلَكَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَكُمْ».

قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: «وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ يَبِيعُ بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؛ وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ جِبَالَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ: «وَلَمْ يُنْقِصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ».

وَكَذَلِكَ حَرَّمَ الشَّارِعُ الِاحْتِكْارَ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ».

وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.

*بِالْجُمْلَةِ؛ تَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ بِالْعَدْلِ فِي الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ:

عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحْسِنَ الْمُعَاشَرَةَ مَا اسْتَطَاعَ، وَقَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ الَّذِي نَاطَهُ اللهُ بِعُنُقِهِ وَفَرَضَهُ عَلَيْهِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا طَالَبَ الْمَرْأَةَ بِالْحَقِّ عَلَيْهَا أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا الْحَقَّ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ؛ تَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ ظُلْمٌ وَفِيهِمْ قَسْوَةٌ؛ الْأَبُ يَقُولُ لِابْنِهِ -وَلَا يُرَاعِي فِيهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَلَا يُعْطِيهِ حَقًّا- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ لَهُمَا فَاخْرُجْ))، وَيَقُولُ الْوَلَدُ لِأَبِيهِ -وَلَا يُرَاعِي حَقَّ أَبِيهِ- يَقُولُ لَهُ:  قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).

يَقُولُ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: ((فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ كَانَ قِيْحَةً تَبِضُّ دَمًا وَصَدِيدًا مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمِهِ فَاسْتَقْبَلَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَعَقَتْهُ بِلِسَانِهَا مَا وَفَّتْهُ حَقَّهُ عَلَيْهَا))، ((وَلَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا))، وَهِيَ تَقُولُ لَهُ: أَلَمْ تَسْمَع قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، وَ((أَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ)).

فَكُلٌّ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ الَّذِي عَلَيْهِ، لَوْ جَمَعْنَا هَذِهِ الْمُتَقَابِلَاتِ؛ اسْتَقَامَتِ الْحَيَاةُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْعَدْلُ أَسَاسُ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيمَا شَرَعَ، إِنَّ اللهَ نِعْمَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ.

وَوَعَدَ اللهُ الْعَادِلِينَ فِي وَلَايَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِمَحَبَّتِهِ وَالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ فِيمَا وَلُووا وَحَكَمُوا فِيهِ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى عَدْلِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

النبيُّ ﷺ قال: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ فِي بيتهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَالَّذِي عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَحَدُهُمَا عَرَفَ الْحَقَّ وَخَالَفَهُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَأَحَدُهُمَا قَضَى بِهَوَاهُ؛ قَضَى بِجَهْلِهِ، فَهَذَانِ فِي النَّارِ)).

عِبَادَ اللهِ! مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُشَاعَ بَيْنَهُمُ الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ وَالْخَيْرُ وَالْعِفَّةُ وَالْعَفَافُ.

 ((الْعَدْلُ وَالْفَضْلُ مُجَسَّدَانِ فِي النَّبِيِّ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ خِصَالَ الْخَيْرِ بِحَذَافِيرِهَا، وَأَمَّا عَدْلُهُ فَهُوَ فِي أَقْصَى الْغَايَةِ، وَقَدْ أَرْبَى عَلَى النِّهَايَةِ ﷺ، وَدُونَكَ حَادِثَةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ حَادِثَاتٍ لَا يُحِيطُ بِهَا الْحَصْرُ وَلَا يُدْرِكُهَا إِحْصَاءٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بِغَزْوَةٍ بَدْرٍ، وَقَدْ أَخَذَ قِدْحًا كَعُودٍ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ كَرُمْحٍ يُقِيمُ بِهِ الصُّفُوفَ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا بِطَعْنَةٍ فِي بِطَنْهِ يُسْمَّى سَوَادَ بْنِ غُزِيَّةَ، فَقَالَ: ((اسْتَوِ يَا سَوَادُ)).

فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوَّه، لَقَدْ أَوْجَعْتَنِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَقِدْنِي؛ أَيْ مَكِّنِي أَنْ أَقْتَصَّ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

يُرِيدُ الرَّجُلُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ الْعَادِلُ ﷺ؟

أَعْطَى الْقِدْحَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِسَوَادٍ، وَقَالَ: ((اسْتَقِدْ مِنِّي يَا سَوَادُ))، اقْتَصّ مِنِّي يَا سَوَادُ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّمَا ضَرَبْتَنِي وَبَطْنِي عَارٍ، فَمَكِّنِي مِنْ ضَرْبِكَ وَبَطْنُكَ عَارِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ!

فَكَشَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَطْنِهِ، وَأَهْوَى الرَّجُلُ عَلَى بَطْنِ النَّبِيِّ ﷺ يُقَبِّلُهُ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! شَلَّتْ يَمِينِي إِنْ مُدَّتْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا حَضَرَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا حَضَرَ، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ الْعَهْدِ بِلِقَائِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِي بِلِقَائِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِخَيْرٍ.

فَأَمَّا عَدْلُهُ فَقَدْ أَوْفَى عَلَى النِّهَايَةِ، وَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ ﷺ، وَهَلْ رَأَيْتَ عَدْلًا يَعْدِلُ الْعَادِلُ حَتَّى مَعَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ؟!!

صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَالْعَدْلُ كُلُّهُ، وَالْفَضْلُ كُلُّهُ؛ عَلَّمَنَا إِيَّاهُ مُحَمَّدٌ ﷺ.

 ((الظُّلْمُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الظُّلْمَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [ابراهيم: 42-43].

وَهَدَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظَّالِمِينَ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَشَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، أَفَيَرْضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؟!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا أَخْبَرَ أَنَّ ((دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)), وَأَنَّ اللهَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ الْمَظْلُومِ -قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((وَلَوْ كَانَ كَافِرًا))- وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ حَكَمٌ عَدْلٌ، يُحِبُّ الْعَدْلَ، وَيُبْغِضُ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي أَرْضٍ ادَّعَتْ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهَا فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَتُلِيَتْ عَرِيضَةُ الدَّعْوَى بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!

قَالَ مَرْوَانُ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؟

قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)).

قَالَ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَهَا.

إِلَّا أَنَّ مَسَّ الظُّلْمِ أَلِيمٌ، إِلَّا أَنَّ وَقْعَهُ شَدِيدٌ.

وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ الثَّابِتِينَ الصَّالِحِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. لِوَقْعِ الظُّلْمِ وَعِظَمِ الِافْتِرَاءِ لَمْ يُطِقْ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا)).

فَأَعْمَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدُ بَصَرَهَا، فَكَانَتْ تَتَلَمَّسُ الْجُدُرَ لَا تَدْرِي طَرِيقَهَا، فَوَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فِي الْأَرْضِ الَّتِي خَاصَمَتْ سَعِيدًا فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا؛ لَمَّا دَعَا عَلَيْهَا اسْتُجِيبَ لَهُ فِيهَا().

فَلَا تَظْلِمْ؛ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ.

وَمَهْمَا عَادَيْتَ مِنْ أَحَدٍ بِحَقٍّ فَالْتَزَمْتَ فِيهِ أَمْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُنْتَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ فَالِجًا، وَفِي الْأَمْرِ كُلِّهِ مَنْصُورًا، فَإِذَا ظَلَمْتَ تَوَرَّطْتَ، فَأَمْسَكَ بِكَ مِنْ رَقَبَتِكَ.

بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقْتَصُّ مِنَ الْأَبْعَدِ؛ إِذْ ظَلَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.

حَتَّى إِنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِقَامَةً لِلْحَقِّ وَإِحْقَاقًا لِلْعَدْلِ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُوزَنُ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَيُحْشَرُ كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى الذَّرِّ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((يُقَادُ مِنَ الذَّرَّةِ))() وَهِيَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ - لِلذَّرَّةِ كَمَا ((يُقَادُ لِلْجَلْحَاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ))()، مِنَ الشِّيَاهِ، إِقَامَةً لِأَمْرِ اللهِ حَقًّا وَعَدْلًا.

فَتُحْشَرُ الْوُحُوشُ كُلُّهَا مِنْ أَجْلِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ مُحَرَّمًا.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).

 قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟

قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))().

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))، تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ، فَأَقْضِي لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

يَعْنِي: إِذَا قَضَيْتُ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْحَنَ وَأَبْيَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ عَيِيٍّ ذِي حَقٍّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبِينَ وَلَا أَنْ يُعْرِبَ عَنْ حَقِّةِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبَيِّنَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ((فَإِنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِفَتْوَايَ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ))، إِذَا أَخَذَ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ ((أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ الظُّلْمَ لَا يُقِيمُ شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِحَالٍ أَبَدًا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ يَعْلَمُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُرَاقِبًا لِرَبِّهِ عَابِدًا لَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاهُ.

احْذَرِ الظُّلْمَ وَأَعْلَاهُ مَا تَعَلَّقَ بِالدِّمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟))

وَهُمْ يَقُولُونَ:  اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةُ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))().

لَا تَهَاوُنَ فِي هَذَا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الدَّوَاوِينَ عِنْدَ اللهِ ثَلَاثَةٌ:

دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا، وَهُوَ ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَعْبَأُ بِهَذَا الدِّيوَانِ.

وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ الشِّرْكُ.

نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.

وَدِيوَانٌ لَا يَدَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ ظُلْمِ الْعَبْدِ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَابُدَّ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ إِحْقَاقًا لِلْحَقِّ وَإِقَامَةً لِلْعَدْلِ.

وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَةِ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا وَسَوْقِهَا لِأَرْبَابِهَا {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}.

قَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِرِعَايَةِ الْحُقُوقِ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ كَانَ مُحْصَنًا فَزَنَا؛ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مِائَةَ جَلْدَةٍ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهَذَا الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ أَنْ جُلِدَ حَدَّ الْبِكْرِ يُؤْتَى بِهِ فِي الْيَوْمِ تَالِيهِ؛ لِكَيْ يُنَصَّبَ لِلْمُسْلِمِينَ يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ.

وَيَكُونَ الْحَدُّ زَاجِرًا وَجَابِرًا فِي آنٍ، فَيَجْبُرُ كَسْرَهُ وَيَرْفَعُ اللهُ عَنْهُ بِالْإِقَامَةِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ وِزْرَهُ، وَيَكُونُ زَاجِرًا لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} حَتَّى لَا تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

وَمِنَ الظُّلْمِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ تُشَاعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا بِالْعُرْيِ  الْفَاجِرِ، وَالسُّفُورِ الْمُضْنِي، الْمُحَرِّكِ لِلشَّهَوَاتِ، الْمُثِيرِ لِلْغَرَائِزِ.

هَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ يَتَنَزَّلُ بِالْفَحْشَاءِ عَلَى رُؤُوسِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا عَمَّ الْخَبَثُ فَانْتَظِرْ عِقَابًا وَشِيكًا.

نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟!)).

قَالَ: ((نَعَمْ؛ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))().

عِبَادَ اللهِ! اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَرْفَعُ الْكَرْبَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِذَنْبٍ إِلَّا بِتَوْبَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ بَلَاءٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ.

حَتَّى إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ لَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ يَشْكُو ظُلْمَ الْحَجَّاجَ، فَقَالَ: ((إِنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَابْتِلَاءُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَعُقُوبَتُهُ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُدْفَعُ بِالْأَكُفِّ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ بِالتَّوْبَةِ؛ فَتُوبُوا إِلَى اللهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)).

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَنَا مِنَ الظُّلْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 ((اسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعِ بِالْعَدْلِ وَهَدْمُهُ وَهَلَاكُهُ بِالظُّلْمِ))

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِالْعَدْلِ عَلَى وَجْهِهِ بِتَخْلِيصِ قَلْبِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَشُوبُهُ مِنْ شِرْكٍ وَهَوًى وَاتِّبَاعٍ لِلنَّفْسِ فِي سُلْطَانِهَا وَنَزَوَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا ((وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

وَإِذَا تَظَالَمَ الْمُجْتَمَعُ فَصَارَ عَلَى قِسْمَيْنِ ظَالِمٍ وَمَظْلُومٍ، وَتَوَفَّرَ الْمَظْلُومُونَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَى ظُلْمِ الظَّالِمِينَ فَسَدَ أَمْرُ الْمُجْتَمَعِ، وَصَارَ إِلَى تَفَكُّكٍ وَانْهِيَارٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْأَمْرَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا الْعَدْلُ.

وَلَا يُؤَسَّسُ مُلْكٌ صَحِيحٌ إِلَّا عَلَى الْعَدْل..

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ فِي دِينِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْعَدْلَ أَسَاسُ الْمُلْكِ..

لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَفْسِهِ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ؛ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ))().

وَلَا يَعْجَبَنَّ أَحَدٌ مِنْ تَأْسِيسِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، ضِمْنَ أُصُولٍ.

 فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُ بِالْبَدْءِ بِالتَّوْحِيدِ تَحْقِيقًا وَدَعْوَةً؛ فَإِنْ أَجَابُوا فَمَظْهَرُ التَّوْحِيدِ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْمَجِيدِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا فَرَضَ بِأَنْ يَأْتُوا بِالصَّلَوَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنْ يُخْرِجُوا حَقَّ الْمَالِ، ثُمَّ أَخْرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أَخْرَجَ مِنْ أَصْلٍ عَظِيمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ: ((وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

 لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَقْبَلُ وَيَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.

 فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ ﷺ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُؤَسِّسُ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي الْيَمَنِ، أَرْشَدَهُ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَحَذَّرَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مِنَ الظُّلْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَإِنَّ الَّذِي يَنْخَرُ فِي جَمِيعِ بِنَايَاتِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا وَفِي جَمِيعِ مُدَدِهَا إِنَّمَا هُوَ الظُّلْمُ..

أَمَّا إِذَا أُسِّسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَدْلِ فَأَبْشِرْ بِأُمَّةٍ قَائِمَةٍ عَزِيزَةٍ مُسْتَبْشِرَةٍ بِنَصْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُؤَيِّدُ ظَالِمًا، وَلَا يَنْصُرُهُ، وَإِنَّمَا يَخْذُلُهُ وَيَقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ دُنْيَا وَآخِرَةً.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13].

وَالظُّلْمُ عُقُوبَتُهُ مُعَجَّلَةٌ، وَالظُّلْمُ الْمُعَجَّلَةُ عُقُوبَتُهُ يَشْمَلُ ظُلْمَ الْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِذَا أَصْبَحَ ظَاهِرَةً فَاشِيَةً، وَظُلْمُ الدُّوَلِ لِرَعَايَاهَا، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الظُّلْمُ الِاجْتِمَاعِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ وَالِاقْتِصَادِيُّ.

وَالْمُلُوكُ وَالسَّلَاطِينُ أَكْثَرُ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِعَوَاقِبِ الظُّلْمِ الْوَخِيمَةِ، وَلَهُمْ كَلِمَاتٌ تَشْهَدُ بِذَلِكَ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-:  ((إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةَ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ، وَلِهَذَا يُرْوَى: اللهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً.

وَأُمُورُ النَّاسِ تَسْتَقِيمُ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْلِ الَّذِي فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فِي أَنْوَاعِ الْإِثْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ مَعَ الظُّلْمِ فِي الْحُقُوقِ وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِكْ فِي إِثْمٍ؛ لِهَذَا قِيلَ: إِنَّ اللهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَالدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ، وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ ذَنْبٌ أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ))، فَالْبَاغِي يُصْرَعُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَرْحُومًا فِي الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ نِظَامُ كُلِّ شْيْءٍ، فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْلِ قَامَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْلِ لَمْ تَقُمْ وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ.

تَأَمَّلْ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي جَعْلِ مُلُوكِ الْعِبَادِ وَأُمَرَائِهِمْ وَوُلَاتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِهِمْ، فَكَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وَلَاتِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ، فَإِنْ اسْتَقَامُوا اسْتَقَامَتْ مُلُوكُهُمْ، وَإِنْ عَدَلُوا عَدَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ جَارُوا جَارَتْ مُلُوكُهُمْ وَوُلَاتُهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِمُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فَوُلَاتُهُمْ كَذَلِكَ، وَإِنْ مَنَعُوا حُقُوقَ اللهِ لَدَيْهِمْ وَبَخِلُوا بِهَا مَنَعَتْ مُلُوكُهُمْ وَوُلَاتُهُمْ مَا لَهُمْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَبَخِلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ.

وَإِنْ أَخَذُوا مِمَّنْ يَسْتَضْعِفُونَهُ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ أَخَذَتْ مِنْهُمُ الْمُلُوكُ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَضَرَبَتْ عَلَيْهِمُ الْمُكُوثَ وَالْوَظَائِفَ، وَكُلُّ مَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنَ الضَّعِيفِ يَسْتَخْرِجُهُ الْمُلُوكُ مِنْهُمْ بِالْقُوَّةِ، فَعُمَّالُهُمْ ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ أَعْمَالِهِمْ.

وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يُوَلَّى عَلَى الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ خِيَارَ الْقُرُونِ وَأَبَرَّهَا كَانَتْ وُلَاتُهُمْ كَذَلِكَ، فَلَمَّا شَابُوا شِيبَتْ لَهُمُ الْوُلَاةُ.

فَحِكْمَةُ اللهِ تَأْبَى أَنْ يُوَلَّى عَلَيْنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِثْلُ مُعَاوِيَةَ وَعُمْرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، بَلْ وُلَاتُنَا عَلَى قَدْرِنَا، وَوُلَاةُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى قَدْرِهِمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُوجِبُ الْحِكْمَةِ وَمُقْتَضَاهَا.

وَمَنْ لَهُ فِطْنَةٌ إِذَا سَافَرَ بِفِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ رَأَى الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ سَائِرَةً فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً فِيهِ كَمَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ سَوَاءً، فَإِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ بِظَنِّكَ الْفَاسِدِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ عَارٍ عَنِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، بَلْ جَمِيعُ أَقْضِيَتِهِ تَعَالَى وَأَقْدَارِهِ وَاقِعَةٌ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، لَكِنَّ الْعُقُولَ الضَّعِيفَةَ مَحْجُوبَةٌ بِضَعْفِهَا عَنْ إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَنَّ الْأَبْصَارَ الْخُفَّاشِيَّةَ مَحْجُوبَةٌ بِضَعْفِهَا عَنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ.

وَهَذِهِ الْعُقُولُ الصِّغَار إِذَا صَادَفَهَا الْبَاطِلُ جَالَتْ فِيهِ وَصَالَتْ وَنَطَقَتْ وَقَالَتْ، كَمَا أَنَّ الْخُفَّاشَ إِذَا صَادَفَهُ ظَلَامُ اللَّيْلِ طَارَ وَسَارَ!!

خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ   ***  وَلَازَمَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأُمُورَ لَا تَسْتَقِيمُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَأَقْبَحُ الظُّلْمِ أَنْ يَظْلِمَ الْمُجْتَمَعُ نَفْسَهُ مَعَ رَبِّهِ؛ فِي بُعْدِهِ عَنْ شَرِيعَتِهِ، وَفِي تَنَكُّبِهِ لِطَرِيقَتِهِ، وَفِي مُحَادَّتِهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَفِي اسْتِدْبَارِهِ لِوَحْيِ رَبِّهِ، فَهَذَا أَقْبَحُ ظُلْمٍ يَكُونُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْبَشَرِ إِنَّمَا يَؤُولُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا أُمُورُ الْآخِرَةِ؛ فَإِذَا ظَلَمَ الْعَبْدُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَإِذَا ظَلَمَ الْمُجْتَمَعُ فِيهَا نَفْسَهُ مَعَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَأَيُّ عَاقِبَةٍ تَكُونُ؟!!

إِنَّ الدُّوَلَ لَا تَدُومُ إِلَّا مَعَ الْعَدْلِ؛ لِذَا كُلَّمَا بَعُدَ النَّاسُ عَنِ الْحَقِّ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ سَامَهُمُ اللهُ الْخَسْفَ وَسُوءَ الْعَذَابِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اِعْدِلُوا وَلَا تَجُورُوا وَلَا تَظْلِمُوا؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَوَرَّطْتُمْ أُمْكِنَ مِنْكُمْ، وَإِنْ أُمْكِنَ مِنْكُمْ فَلَنْ تُفْلِحُوا أَبَدًا.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّنَا جَمِيعًا إِلَى الْحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا جَمِيعًا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يُعَافِيَنَا جَمِيعًا مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُوءٍ، وَأَنْ يُطَهِّرَنَا جَمِيعًا مِنَ الظُّلْمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِسْلَامُ دِينُ النَّظَافَةِ
  اللجان النوعية والثورة المسلحة
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ وَوُجُوبُ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
  السير إلى الله والدار الآخرة
  اسْمُ اللهِ الْوَلِيُّ
  موقف المسلم من العلم المادي
  إِتْقَانُ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْمِهَنِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ
  الاستعداد لرمضان
  مصر وخيانة الأمانة
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان