((تفريغ
خطبة عاشوراء والإخوان))
الجمعة
04 من محرم1435 هـ الموافق 08/11/2013م
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ
نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[آل عِمْرَان: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاء:
١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
عَظِيمًا﴾ [الْأَحْزَاب: ٧0-٧١].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ
كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
ففي السنةِ الثالثةِ أو
الرابعةِ مِن خِلافَةِ عُمَر -رضي اللهُ عنه- كَتَبَ إليه أبو موسى الأشعريُّ -رضي
الله عنه-: ((أنه يَأتينَا مِنْكَ كُتُبَ ليس لَهَا تَأريخ))، فَجَمَعَ عُمَرُ -رضي
الله عنه- الصَّحابةَ -رضي اللهُ عنهم- فاسْتَشَارَهُم.
فقالَ بَعْضُهُم:
((أَرِّخُوا كَمَا تُؤَرِّخُ الفُرْسُ بِمُلوكِهَا؛ كُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ أَرَّخُوا
بولايةِ مَنْ بَعْدَهُ))، فَكَرِهَ الصَّحَابَةُ ذلك.
فقالَ بعضُهُم:
((أَرِّخُوا بتاريخ الرُّومِ))، فَكَرِهُوا ذلك أيضًا.
فقال بَعْضُهُم:
((أَرِّخُوا مِن مَوْلِدِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم)).
وقال آخرون:
((مِنْ مَبْعَثِهِ)).
وقال آخرون:
((مِنْ هِجْرَتِهِ)).
فقالَ عُمر -رضي الله
عنه-: ((الهِجرةُ فَرَّقَت بينَ الحَقِّ والبَاطِلِ،
فَأَرِّخُوا بِهَا))، فَأَرَّخُوا مِن الهجرةِ، واتَّفَقُوا على ذلك ثُمَّ تَشَاوَرُوا
مِن أيِّ شَهْرٍ يَكُونُ ابتداءُ السَّنَةِ، فقال بعضهم: ((مِن رَمَضَان؛
لأنه الشَّهْر الذي أُنْزِلَ فيه القرآن))، وقالَ بعضُهُم: ((مِن ربيعٍ الأول؛
لأنه الشَّهْر الذي قَدِمَ فيه النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- مُهَاجِرًا))، واختارَ
عُمَرُ وعُثمانُ وعليٌّ -رضي اللهُ عنهم- أنْ يكونَ مِن المُحَرَّمِ؛ لأنه شَهْرٌ
حَرَام يَلي شَهْرَ ذِي الحَجَّةِ الذي يُؤدِّي المُسلمونَ فيه حَجَّهُم، الذي به
تَمَامُ أركانِ دينِهِم، وكانت فيه بَيْعَةُ الأنْصَارِ -رضيَ اللهُ عنهم- للنبيِّ
-صلى الله عليه وآله وسلم- والعزيمةُ على الهِجْرَةِ، فَكَانَ ابتداءُ السَّنَةِ
الإسلاميةِ الهجريةِ مِن الشَّهْرِ الحرامِ المُحَرَّمِ.
والأَشْهُرُ الحُرُمُ أَرْبَعَةٌ
منها ثلاثةٌ مُتَواليَات هي: ذو القَعْدَةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّمِ، وشَهْرٌ مُفْرَدٌ
هو رَجَبٌ الذي بين جُمَادَى وشَعْبَان، وفي الحديثِ المُتفقِ عليه مِنْ روايةِ
أبي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- خَطَبَ في حَجَّةِ
الوَدَاعِ؛ فَقَالَ في خُطْبَتِهِ: ((إنَّ الزمانَ قد استدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللهُ السَّمَاوات والأَرْض، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُم، ثَلاثَةٌ مُتَوَاليَات: ذو القِعْدَة وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّم، ورَجَب مُضَر
الذي بين جُمَادَى وَشَعْبَان)).
وفي الحديثِ إشارةٌ إلى
إبطالِ ما كانوا يفعلونَهُ في الجاهليةِ مِن تبديلِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّم مَكَانَ
صَفَر لَئِلَّا يَتَوَالَى عليهم ثلاثةُ أَشْهُرٍ بدونِ قِتَالٍ، فلذلك قالَ: ((ثَلاث
مُتَواليَات))، وأمَّا إضافةُ رَجَب إلى قبيلةِ مُضَر؛ فلأنَّهَا كانت تُحَافِظُ
على تحريمِهِ أَشَدَّ مِن محافظةِ سَائِرِ قَبَائِل العَرَب.
وقَد نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ الظُّلْمِ عَامَّةً
وَخَصَّ الأَشْهُرَ الحُرُمَ بالنَّهي عن ظُلْمِ النَّفْسِ فيها خاصة، فقالَ -جَلَّ
وَعَلَا-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾
[التوبة: 36]؛ أي بارتكابِ المَعَاصي وَغِشْيَانِ مَا حَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قال قتادة:
((اعلموا أنَّ الظُّلمَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خطيئةٍ ووِزْرًا مِن الظُّلمِ
فيما سِواهَا، وإنْ كان الظُّلْمُ على كلِّ حالٍ عظيمًا، ولَكِنَّ الله يُعَظِّم مِن
أَمْرِهِ مَا شاء، فإنَّ اللهَ اصْطَفَى مِن المَلائكةِ رُسُلًا ومِن النَّاسِ رُسُلًا،
واصْطَفَى مِن الكلامِ ذِكْرَهُ، ومِن الأرضِ المَسَاجِد، ومِن الشهورِ رَمَضَان والأَشْهُر
الحُرُم، ومِن الأيامِ يومُ الجُمُعَةِ، ومِن الليالي لَيْلَةُ القَدْرِ، فَعَظِّمُوا
مَا عَظَّمَ اللهُ، فإنَّمَا تُعَظَّمُ الأمورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللهُ به عند أَهْلِ
الفَهْمِ والعَقْلِ.
وقَد نَهَى اللهُ تَعَالَى
عَن الظُّلمِ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فكانَ الظُّلْمُ فيها أَوْكَدَ مِن الظلمِ
في غيرِهَا، فإنْ سَألَ سَائِلٌ وما هو ظُلْمُ النَّفْسِ؟
فالجواب:
ظُلْمُ النَّفْسِ يكونُ
بأمرين: إمَّا تَرْكُ لِمَا أوجبَ اللهُ وإمَّا
فِعْلُ لِمَا حَرَّمَ اللهُ، فإنَّ ذلك كلَّهُ ظُلْم للنَّفْسِ؛ لأنَّ النَّفْسَ
أمانةً عندك، وعليك أنْ تَرْعَاهَا حَقَّ رعايتِهَا، فَتَسْلُكُ بِهَا مَا فيه
سعادتُهَا وَصَلاحُهَا، وتتجنبَ بِهَا ما فيه شقائُهَا وفسادُهَا.
ومِن الأُشْهُرِ الحُرُمِ
شَهْرُ اللهِ المُحَرَّم، وقد شَرَّفَهُ اللهُ تعالى وفَضَّلَهُ وأضافَهُ النبيُّ -صلى
الله عليه وآله وسلم- إلى اللهِ وعَظَّمَهُ، فَقَد أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في ((صَحيحِهِ))
بِسَنَدِهِ عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضيَ اللهُ تَعَالَى عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ
اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ)).
وعن جُنْدُب بن سفيان -رضي
الله عنه- قال: كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((إنَّ أَفْضَلَ
الصَّلَاةِ بعد المَفْرُوضَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ
بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرِ اللهِ الذي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمِ».
أخرجَهُ النسائيُّ
والطبرانيُّ في ((الكبير))، وَصَحَّحَهُ لغيرِهِ الألبانيُّ.
والعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ
اللهِ المُحَرَّمِ هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاء وهو يَوْمٌ صَالِحٌ مُعَظَّمٌ، وعَاشُورَاء
يجوزُ فِيهَا المَدُّ والقَصْرُ والمَدَّ أَشْهَرُ.
قالَ القُرْطبيُّ:
((عَاشُورَاء مَعْدُولٌ عَن عَاشِرَة للمُبَالِغَةِ والتَّعْظِيمِ، وهو في الأَصْلِ
صِفَةٌ لليْلَةِ العَاشِرَةِ؛ لأنَّهُ مَأخُوذ مِن العَشْرِ الذي هو اسمُ العَقْدِ،
واليومُ مُضَافٌ إليْهَا، فإذا قيلَ: يَوْمُ عَاشُورَاء فَكَأنَّهُ قيل: يومُ الليْلَةِ
العَاشِرَةِ، إلَّا أَنَّهُم لَمَّا عَدَلُوا به عن الصِّفَةِ غَلَبَت عليه الاسميَّةُ،
فَاسْتَغْنَوا عن الموصوفِ فَحَذَفُوا الليْلَةَ، فَصَارَ هذا اللفْظُ عَلَمًا على
اليومِ العَاشِرِ -يعني لَفْظَ عَاشُوراء-.
وقد اخْتَلَفَ أهلُ العِلمِ
في تعيينِ يومِ عاشورَاء، فالأَكْثرونَ الأئمةُ وجماهيرُ أهلِ العِلمِ على أنَّ
عاشوراء اليومُ العاشِرُ مِن المُحَرَّمِ، وذَهَبَ بعضُهُم إلى أنه اليومُ التَّاسِعُ.
قال الزَّيْنُ بن المُنَيَّرِ:
الأكثرُ على أنَّ عاشوراء هو اليومُ العَاشِرُ مِن شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، وهو مُقتضى
التسميةِ والاشتقاق.
وقيل:
هو اليومُ التاسِعُ، فَعَلَى الأَوَّل: فاليومُ مُضَافٌ لليلةِ المَاضيةِ، وعلى الثاني:
فهو مُضَافٌ لليلةِ الآتية.
وقيل:
إنَّمَا سُمِّيَ يومُ التاسعِ عَاشوراء أَخْذًا مِن أورادِ الإِبْلِ، كانوا إذا رَعَوْا
الإِبَل ثمانية أيامٍ ثم أَوْرَدُوهَا في التاسعِ؛ قالوا: وَرَدْنَا عِشْرًا -عِشْرًا
بِكَسْرِ العين-.
قال الحافظُ في ((الفَتْحِ)): ((روى مُسْلِمٌ
عن الحَكَمِ بن الأَعْرَج: انتهيتُ إلى ابنِ عباس -رضي الله عنهما- وهو مُتَوَسِدٌ
رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: أخبرني عن يومِ عَاشُورَاء. فقال: ((إذا رأيتَ هِلالَ المُحَرَّمِ
فَاعْدُد وأَصْبِح يومَ التَّاسِع صَائِمًا)).
قُلت:
((أَهكذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يصومُهُ؟))
قال:
((نعم)).
وهذا ظَاهِرُهُ أنَّ يومَ
عَاشُورَاء هو اليومُ التاسِع، لَكِنْ قالَ الزَّيْنُ بن المُنَيَّرِ: ((قولُهُ: إذا أصبحتَ مِن تَاسِعِهِ فَأَصْبِح؛ يُشْعِر بأنهُ
أَرَادَ العَاشِر؛ لأنه لا يُصْبِح صائمًا بعد أنْ أصبحَ مِن تَاسِعِهِ إلَّا إذا نَوَى
الصَّوْمَ مِن الليلةِ المُقْبِلَةِ وهو الليلةُ العاشرة
ويَقوِّي هذا الاحتمال مَا
رواهُ مُسْلِمٌ أيضًا مِن وجهٍ آخر عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ
-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((لئن بَقيتُ إلى قَابِلٍ لأَصومنَّ التاسع))،
فَمَاتَ قَبْلَ ذلك -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإنه ظَاهِرٌ في أنه -صلى الله عليه
وآله وسلم -كان يصومُ العَاشِر وهَمَّ بِصَوْمِ التَّاسِعِ فَمَاتَ قَبْلَ ذلك -صلى
الله عليه وآله وسلم-)).
بل قد صَحَّ مِن الحديثِ
مَا هو نَصٌّ في أنَّ يومَ عَاشُوراء هو اليومُ العَاشِرُ، فَقَدْ رَوَى الدَّاراقطنيُّ
في ((الأفراد))، والدَّيْلَمِيُّ في ((مسند الفردوس)) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((عَاشُورَاء اليَوْمُ العَاشِرُ)).
فهذا نَصٌّ في المَسألةِ،
وهو قَاطِعٌ في أنَّ يومَ عَاشُوراء هو اليومُ العَاشرُ مِن شَهْرِ اللهِ الحَرَام
المُحَرَّمِ، والحديثُ الذي رواهُ الدَّاراقطنيُّ والدَّيْلميُّ صَحَّحَهُ اللألبانيُّ
في ((صحيح الجامع)) وفي غيرِهِ، وحينئذٍ تُحْمَلُ روايةُ الحَكَم بن الأَعْرَج
التي أَخرجَهَا مُسْلِمٌ في ((صحيحِهِ)) على أنَّ ابن عباس قد أَرْشَدَ الحَكَم إلى
صيامِ اليومِ التاسعِ مع العَاشِرِ ويوقي ذلك أنَّ حديثَ مُسْلِم: ((لأنْ حييتُ
إلى قَابِلٍ لأصومنَّ التاسع))، هو مِن روايةِ ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- نَفْسِهُ.
إذن هُمَا مَرْتَبَتَان:
الأولى:
أنْ يقتصرَ على صيامِ اليومِ العَاشِرِ.
والثانيةُ:
أنْ يصومَ التَّاسِعَ والعَاشِرَ.
والمرتبةُ الثانيةُ أَفْضَلُ،
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ ومِنْهُم الإمامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمهُ اللهُ-
صيامَ اليومِ الحادي عَشَر مع التَّاسِعِ والعَاشِرِ.
وَقَد رَغَّبَ النبيُّ -صلى
الله عليه وآله وسلم- في صيامِ يومِ عَاشُورَاء، رَغَّبَ في صيامِهِ كَمَا ثَبَتَ
في عِدَّةِ أحاديث مِنْهَا مَا رواهُ مُسْلِمٌ عن أبي قَتَادَة -رضي اللَّه عنه-،
أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- سُئِلَ عَن صيامِ يَومِ عَاشُورَاء فَقَالَ:
((يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضيةَ)).
ولَفْظُهُ عند ابن مَاجَه
بِسَندٍ صحيحٍ: ((صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاء إنِّي أَحْتَسِبُ على اللَّهِ أنْ
يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ)).
وفي ((الصحيحين)) مِن
روايةِ ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-
صَامَ يَوْم عَاشُورَاء وأَمَرَ بِصِيَامِهِ)).
وَرَوَى البَزَّارُ
بإسنادٍ صحيحٍ لِغَيْرِهِ عن أبي سعيد الخُدْريِّ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ
اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَة غُفِرَ لَهُ سَنَةٌ
أَمَامَهُ وَسَنَةٌ خَلْفَهُ، وَمَن صَامَ عَاشُورَاء غُفِرَ لَهُ سَنَةٌ)).
فهذا كُلُّهُ قَد وَرَدَ
صحيحًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، فَلَو أنَّ إِنْسَانًا صَامَ يَوْمَ
عَرَفَة مِن العامِ الذي مَضَى، فِإنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنوبَ
سَنَةٍ خَلَت وَذُنُوبَ سَنَةٍ يَسْتَقْبِلُهَا، فإذَا كانَ في السَّنَةِ التي بَعْدَهَا
فَصَامَ يَوْمَ عَرَفَة وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء، فِإنَّ التَّكفيرَ يَقَعُ على
تِلْكَ السَّنَةِ ثَلاثَ مَرَّات، فِحينَئذٍ يُقَالُ: إنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-
قَد غَفَرَ لَهُ الذُّنوبَ جميعَهَا أَمْ أنَّ في ذَلِكَ تَفْصِيلًا؟
الجواب:
في ذلك تَفصيلٌ لا مَحَالَة؛
فإنَّ الذنوبَ التي تُغْفَرُ وَتُكَفَّرُ بِمِثْلِ هذه الأعمالِ الصالحةِ مِن
الصيامِ وغيرِهِ إنَّمَا هي التي تَقْبَلُ التَّكفيرَ كاللَّمَمِ وكالصَّغَائِرِ دُونَ
الكَبَائِرِ، ودونَ حُقوق العِبَادِ، فِإنَّ الكبائرَ لا بُدَّ لَهَا مِن تَوْبَةٍ
مُسْتَقِلَّةٍ، وكذلك حُقوقُ العبادِ مِن شروطِ التَوبةِ مِن الظُّلمِ فيها أنْ تُرَدَّ
إلى أَصْحَابِهَا، فَمَهْمَا قالَ المَرْءُ أنه تَائِبٌ ولَم يَرُدّ الحَقَّ إلى
صاحبِهِ؛ مَا صَحَّت له تَوْبَةٌ ولا تَصِحُّ حَتَّى يُؤدِّيَ الحَقَّ إلى صَاحبِهِ.
وعليه فإنَّ الإنسانَ
عليه ألَّا يتورطَ في الظُّلمِ وألَّا يَظْلِم نَفْسَهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ أو بِتَرْكِ
واجبٍ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ ربُّ العَالَمِين في هذه الأَشْهُرِ الحُرُمِ خَاصَّة:
﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾
[التوبة: 36]، وكذلك نَهَى اللهُ عَن الظُّلمِ عَامَّة، وَأَمْرٌ حَرَّمَهُ اللهُ
ربُّ العَالَمِين على نَفْسِهِ؛ هَل تَظُنُّ أنَّ اللهَ ربَّ العَالَمِين يُبيِحُهُ
لغيرِهِ؟
يقولُ اللهُ ربُّ العَالَمِين
كَمَا في الحديثِ القُدُسيِّ الصحيح: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ
عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا))، وفي
روايةٍ بالتَّشديدِ: ((فَلَا تَظَّالَمُوا))، فَحَرَّمَ اللهُ ربُّ العالَمِين
الظُّلمَ على نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بين العِبَادِ مُحَرَّمًا، فَمَهْمَا تَوَرَّطَ
العَبْدُ فيه مِن أَمْرٍ يَظلمُ فيه أَحَدًا مِن الناسِ بَل أَحَد مِن الخَلْقِ؛
فعليه أنْ يَخْرُجَ مِن ذلك قَبْلَ أنْ يأتيَ يومٌ لا بُدَّ فيه مِن القصَاصِ ولا
يكونُ ذلك بِالدِّرْهَمِ والدينارِ وإنَّمَا يكونُ ذلك بالحسناتِ والسيئاتِ.
فَعَلَى المَرْءِ أنْ يجتهدَ
في صيامِ هذه الأيامِ التي نَدَبَ الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى صيامِهَا،
كهذا اليومِ الذي يَعْرِضُ لَنَا في هذه الأيامِ وهو يومُ عاشورَاء، وَكَمَا سيأتي
في مَراحل صيامِهِ أنه كان فَرْضًا قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ صيامُ شهرِ رَمَضَان، فَفَرَضَهُ
اللهُ ربُّ العَالَمِين على المُسْلِمِين قَبْلَ أنْ يَفْرِضَ عَليهم صيامَ شَهْرِ
رَمَضَان، فهذا اليومُ العظيمُ يُكَفِّرُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بصيامِهِ ذنوبَ سَنَةٍ
مَضَت، هذا إذا وَقَعَ هذا الصيامُ على النَّحْوِ المَرْضيِّ عند اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-،
والرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرَ إنه: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لهُ
مِن صيامِهِ إلَّا الجُوعُ والعَطَشُ))، وَبَيَّنَ النبيُّ -صلى الله عليه
وآله وسلم- أنَّ: ((مَنْ لَم يَدَع قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به فَلَيْسَ للهِ
حَاجَة في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))، وبَيَّنَ النبيُّ -صلى الله
عليه وآله وسلم- أنه إذا أصبحَ المَرْءُ صَائِمًا فعليه ألَّا يَصْخَب وألَّا يَرْفُث
وألَّا يقول الكلمةَ العَوْرَاء، بَلْ ينبغي عليه أنْ يصومَ عمَّا حَرَّمَ اللهُ كَمَا
هو صَائِمٌ عمَّا أَحَلَّ اللهُ، فإنَّ الذي قد كَفَّ عنه في يومِ الصيامِ هو مِمَّا
أَحَلَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِين مِن الطعامِ والشَّرَابِ والشَّهْوَةِ، أَفَيَكُفٌّ
عمَّا أَحَلَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- له وهو رَاتِعٌ فيما حَرَّمَ اللهُ عليه؟!!
فهذا لا يُعْقَل!!
فالتَفِت إلى هذه النُكْتَةِ
في هذه المسألةِ مِمَّا يُكَفِّرُ صيامُ يومِ عاشوراء وكذلك صيامُ يومِ عَرَفَة -والله
يَرْعَاك-.
وَقَد ذَكَرَ الحَافِظُ
ابن رَجَب في ((لَطَائِفِ المَعَارِف)):
((أنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشوراء قَد مَرَّ بِمَرَاحِل هي:-
*المَرحلةُ الأولى:
أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كانَ يصومُ يومَ عَاشُورَاء بِمَكَّةَ ولا يأمرُ
النَّاسَ بِالصَّوْمِ، ففي ((الصحيحين)) مِن روايةِ عائشةَ -رضي اللَّه عنها- قالت:
((كان يَومُ عَاشُورَاء تصومُهُ قُرَيْش في الجَاهليَّةِ، وكانَ رسولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وآله وسلم- يصومُهُ في الجَاهليَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدينةَ صَامَهُ،
وأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاء، فَمَن شَاءَ
صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)).
وَقَد ذَكَرَ ابنُ حَجَر:
((أنَّ صيامَ قُرَيْش لعَاشُورَاء لعلَّهُم تَلَقَّوْهُ مِن الشَّرْعِ السَّالِفِ؛
ولهذا كانوا يُعَظِّمُونَ يَوْمَ عَاشُورَاء بِكِسْوَةِ الكَعْبَةِ فيه وغيرِ ذلك،
وأَخَرَجَ ابنُ مَاجَة مِن روايةِ ابن عُمَر وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ عن رسولِ اللهِ
-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((كانَ عَاشُورَاء يَصُومُهُ أَهْلُ الجَاهليَّةِ،
فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنْ يَصُومَهُ فَليَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَليَدَعْهُ)).
*المرحلةُ الثانية:
أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا قَدِمَ المدينةَ وَرَأَى
اليهودَ يصومونَ يَوْمَ عَاشُورَا صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَكَانَ صيامُهُ
فَرْضًا في أَوَّلِ الأَمْرِ، ففي ((الصحيحين)) عن سَلَمَة بن الأَكْوَع -رضي اللَّه
عنه- وانفردَ به مُسْلِمٌ عن الرُّبيِّع
بِنْت مُعَوِّذ، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أَذِّن في النَّاسِ: أنَّ
مَنْ كَانَ أَكَلَ فَليَصُم بَقيَّةَ يَوْمِهِ، ومَنْ لَم يَكُن أَكَلَ فَليَصُم، فإنَّ
اليَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاء)).
وفي روايةٍ الرُّبيِّع -رضي اللَّه عنها-: ((فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ،
ونُصَوِّمُ صبيانَنَا الصِّغَار، وَنَذْهَبُ إلى المَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُم اللُّعْبَةَ
مِنْ العِهْنِ –أي:
مِن الصُّوفِ المَنْفُوشِ-، فِإذَا بَكَى أَحَدُهُم عَلَى الطَّعَامِ أَعْطيْنَاهُ
إيَّاهُ عِنْدَ الإفْطَارِ))،
وفي روايةٍ:
((فإذَا سَألونَا -تعني الصِّبيَان- الطَّعَامَ أَعْطينَاهُم اللُّعْبَةَ تُلهِيهُم،
حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُم)).
وهذا كُلُّهُ لتعظيمِ صِيَامِ
هذا اليَوْمِ المُعَظَّمِ.
*المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ:
لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ صَارَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاء مُسْتَحَبًّا غَيْرَ وَاجِبٍ
كَمَا في حديثِ عَائِشَة -رضي اللهُ عنها- في ((الصحيحين)) قَالت: لَمَّا فُرِضَ رَمَضَان؛
قالَ -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((مَنْ شَاءَ مِنْكُم صَامَهُ –تعني:
يَوْمَ عَاشُورَاء- وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)).
*المَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ:
أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- في آخرِ عُمُرِهِ عَزَمَ ألَّا يَصُومَهُ وَحْدَهُ
بَلْ يَضُمُّ إليه اليومَ التَّاسِعِ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُخَالِفَةِ اليَهودِ،
وكانَ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- حَريصًا على مُخَالفةِ اليَهودِ، فالنبيُّ
-صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا نَزَلَ المَدينةَ وَافَقَهُم في صيامِ يَوْمِ عَاشُورَاء
كَمَا سيأتي إنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَكِنْ أَرَادَ في آخرِ عُمُرِهِ
أنْ يُخَالِفَهُم بِصِيَامِ اليَوْمِ التَّاسِعِ مَعَ اليومِ العَاشِرِ.
فَكيفَ بِأقوامٍ مِنَّا
يُلْقُونَ بِأَنْفُسِهِم في أَحْضَانِ اليهودِ والصَّليبيينَ يَسْتَجْلِبُونَ مَوَدَّتَهُم،
ويَبْغُونَ مَصَالِحَهُم ويَتنازِلُونَ عِنْدَهُم عَن كُلِّ مَا هو غَالٍ وعَن كلِّ مَا هو ثَمِين حَتَّى لَو تَعَلَّقَ ذَلِكَ
بِالأَرْضِ الإسلاميَّةِ، لا يُبَالونَ ولا يَلتَفِتُونَ إلى مَسَائِل الشَّرْعِ
ولا إلى مَسَائِلِ المُعْتَقدِ، ولو أَنْصَفُوا أَنْفُسَهُم لَرَجِعُوا إلى دينِ
اللهِ ربِّ العَالَمِين وَتَرَكُوا الشَّغْبَ والفَوْضَى، وتَرَكُوا التَّقتِيلَ
والتَّفجيرَ والتَّدميرَ، وَأَقْبَلُوا على دينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِين يَتَعلَمُونَهُ؛
حَتَّى يُحْكِمُوا العَقيدةَ التي أَكْثَرُهُم لا يَدْرِي عَنْهَا خَبَرًا، التي أَكْثَرُهُم
يُخَالِفُهَا مُخَالَفَةً صَريحَةً في الأصولِ بِمَا لا يحتملُ التَّأويل؛ لِجَهْلِهِ
ولِعِنَادِهِ وعَدَمِ إِقْبَالِهِ على دينِ رَبِّهِ ليتعلمَهُ وَليَجْثُو بينَ
أيدي العُلماء الذين يَعَلِّمُونَ السُّنَّةَ؛ ليتعلمَ دينَهُ حتى يَنْجُو بذلك مِن
عذابِ النَّارِ -فاللهم تبارك وتعالى يَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اهْدِنَا واهْدهِم
إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم-.
النبيُّ -صلى الله عليه
وسلم- في آخرِ عُمُرِهِ عَزَمَ ألَّا يَصومَهُ وَحْدَهُ بَلْ يَضُمُّ إليه اليومَ
التَّاسِعِ كَمَا في حديثِ ابنِ عبَّاس -رضي الله عنهما-: ((لئن بَقيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومنَّ التَّاسِعَ))؛ يعني
مع يومِ عَاشُورَاء، وكذلك الحديثُ الذي رواهُ مُسْلِمٌ وعندهُ كذلك مِن روايةِ
ابن عباس -رضي اللَّه تعالى عنهما-: ((فإذا كانَ العَامُ المُقْبِلُ -إنْ شَاءَ
اللَّهُ- صُمْنَا اليَومَ التَّاسِع)).
قال:
فَلَم يَأْت العَامُ المُقْبِلُ حَتَّى تُوفِّيَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وآله وسلم-.
وصيامُ يومِ عَاشُورَاء
هو مَا ثَبَتَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَمَّا مَا رُوِيَ في فَضْلِ
الاكْتِحَالِ فيه والاخْتِضَابِ والاغْتِسَالِ فَمَوضوعٌ مَكذوبٌ عَلَى رسولِ اللهِ
-صلى الله عليه وآله وسلم-، وَأَمَّا التَّوْسِعَةُ عَلَى العِيَالِ في يَوْمِ عَاشُورَاء
فَلَم يَصِحُّ فِيِهَا شَيءٌ عَنْ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وَأَمَّا
اتخاذُهُ مَأْتَمًا كَمَا يَفْعَلُ حَميرُ اليَهودِ مِن الرَّوافِضِ لأَجْلِ مَقْتَلِ
الحُسيْن -رضي اللهُ عنه-؛ فَهَذَا الذي يَفْعَلُونَهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛
مِنْ عَمَلِ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُم يَحْسَبُونَ أَنَّهُم
يُحْسِنُونَ صُنْعًا، واللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَم يَأمُر بِذَلِك وَلَم يَأمُر بِهِ
نَبيُّهُ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وَلَم يَأمُر رَبُّنَا وَلَم يَأمُر نَبيُّنَا
-صلى الله عليه وآله وسلم- باتخَاذِ أَيَّامِ مَصَائِبِ الأَنبيَاءِ ولا أَيَّامِ مَوْتِهِم
مَأْتَمًا، فَكيفَ بِمَنْ دُونَ الأنبيَاءِ والمُرْسَلِينَ، فَالدِّينُ مِنْ هَذَا
الذي يَصْنَعُونَهُ بَرِيءٌ.
وهذا الذي يأتونَ به؛
جعلوا أهلَ الإسلامِ ضُحَكَةَ الأُمَمِ؛ لأنَّ الذي يأتونَ به يتنافَى مع
المُروءةِ، ويتنافَى قبلَ ذلك مع الشرعِ والدين، ولكنَّهُ في ظاهرِهِ يتنافى مع
المُروءةِ، بل يتنافَى مع العقلِ ظاهرًا وباطنًا، ويجعلُ أهلَ الإسلامِ ضُحَكَةً
عند أصحابِ الأديانِ الباطلة، وكثيرٌ منهم يحسبُ أنَّ أولئك الروافض مِن المعدودينَ
على أولئك المسلمين الذين يدْعُونَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ؛ بقال
اللهُ..قال رسولُهُ..قال الصحابةُ –رضي
الله تعالى عنهم-.
في ((الصحيحين)) عن ابنِ
عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قَدِمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدينةَ فَرَأَى
اليهودَ تَصُومُ عَاشُورَاء، فقال: ((مَا هَذَا؟))
قالوا:
يَوْمٌ صَالِحٌ؛ نَجَّى اللَّهُ فيه مُوسى وبَني إسرائيل، فَصَامَهُ مُوسى.
فقالَ النبيُّ -صلى الله
عليه وآله وسلم-: ((أَنَا أَحَقُّ بمُوسى مِنْكُم؛ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ
بِصِيَامِهِ)).
وقالَ -صلى الله عليه
وآله وسلم- في آخرِ حَيَاتِهِ: ((إِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ-
صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِع))، فَلَم يَأْتِ العَامُ المُقْبِلُ، حَتَّى تُوفِّيَ
رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وقالَ رسولُ اللهِ -صلى
الله عليه وآله وسلم-: ((صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاء يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضيَةً)).
فَصُومُوا -رَحِمَكُم
اللهُ- يَوْمَ التَّاسِع والعَاشِر؛ لتَحُوذُوا تَكفِيرَ ذُنُوبِكُم والاقتداءَ بِنَبيِّكُم،
وحُصولَ مَطلوبِكُم، وَمَن كانَ يَشَقُّ عليه الصيامُ وَعَلِمَ اللهُ مِن نِيَّتِهِ
أنهُ لَوْلَا العُذْرُ لصَام؛ فَليُبْشِر بحصولِ الأَجْرِ مِن المَليكِ العَلَّامِ،
لاسيَّمَا إذا كانَ قَد اعتادَ صيامَ يَوْمِ عَاشُورَاء فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ،
فإنه لن يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيءٌ؛ إِذْ حَبَسَهُ عن الصيامِ العُذْرُ، وَقَد
قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في الحديثِ الذي أخرجَهُ
البخاريُّ ومُسْلِم في ((صحيحِهِ)): ((مَنْ مَرِضَ أو سَافَرَ كُتِبَ له مَا
كانَ يَعْمَلُ صحيحًا مُقيمًا)).
فَمَن قَطَعَهُ العُذْرُ
عَن صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاء وله نِيَّةٌ صَالِحَةٌ، ويَعْلَمُ اللهُ رَبُّ العَالَمَين
مِن نِيَّتِهِ أنه لَوْلَا العُذْر لصَام، فَلْيُبْشِر بِالأَجْرِ الكاملِ كأنه قد
صَامَ، ((فَمَنْ مَرِضَ أو سَافَرَ؛ كُتِبَ له مَا كانَ يَعْمَلُ صحيحًا مُقيمًا)).
في يومِ عَاشوراء نَجَّى
اللهُ موسى وَقَوْمَهُ مِن فِرْعَوْنَ وجُنودِهِ، فِإنَّ مُوسى -عليه السلام- دَعَا
فِرْعَون إلى عبادةِ اللهِ، فَاسْتَكْبَرَ وأَبَى وَقَالَ: أنا رَبُّكُم الأَعْلَى،
ثُمَّ استطالَ على بني إسرائيلَ بالأَذَى، فَخَرَجَ بِهِم مُوسى يَسيرُ بِأَمْرِ
اللهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَوَجَدَ بني إسرائيل غَادروا بِلَادَهُ، اغْتَاظَ
لذلك، فَحَشَرَ جُمُوعَهُ وأَجْنَادَهُ، فَخَرَجَ بِهِم مِن الجَنَّاتِ والعيونِ
والكنوزِ والمَقَامِ الكريمِ يُريدُ موسى وقومَهُ، ليَسْتَأصِلَهُم ويُبيدَهُم عَن
آخرِهِم، فَوَصَلَ إليهم عند شروقِ الشَّمْسِ: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ
أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾
[الشعراء: 61]؛ لأنَّ البحرَ أمامَهُم وفِرْعَوْن بجنودِهِ ورائَهُم؛ فَأَجَابَهُم
مُوسى إجابةً ذي الإيمانِ واليَقين: ﴿قَالَ
كَلَّا ۖ إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].
فَلَمَّا وَصَلُوا البَحْرَ
وهو البَحْرُ الأَحْمَرُ أَمَرَ اللهُ نَبيَّهُ موسى -عليه السلام-: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾
[الشعراء: 63]، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ فَكانَ اثني عَشَرَ طريقًا بعددِ الأسباطِ،
فَصَارَ المَاءُ بين الطُّرُقِ كالجبالِ، وَصَارَ الطريقُ يَبَسًا، فَسَلَكَهُ
موسى وقومُهُ لا يخافُ دَرْكًا مِن فِرْعَوْن ولا يَخْشَى غَرَقًا، فَلَمَّا تَكَامَلَ
موسى وقومُهُ خارجين، إذا بِفِرْعَوْن بجنودِهِ قد دَخَلُوا أجمعين، فَأَوْحَى
اللهُ إلى البحرِ فَانْطَبَقَ فَصَارَت أجسادُهُم للغَرَقِ وأرواحُهُم للنَّارِ
والحَرَقِ، فانظروا كيف نَصَرَ اللهُ مَن نَصَرَهُ واتَّبَعَ رِضوانَهُ، وَلَم يَكُنْ
ذلك النَّصْرُ مِنْ كَثْرَتِهِم ولا كانَ هذا النَّصْرُ يدورُ لهم في خيال، ولا يَخْطُرُ
لَهُم على بَال، ولَكِنَّ اللهَ قَد وَعَدَ وهو أَصْدَقُ القَائِلينَ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]
فهذه هي المُناسبةُ
التي ذُكِرَت لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- فَقَالَ: ((نحنُ أَوْلَى
بِمُوسى مِنْهُم))، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وفي آخرِ حياتِهِ قَالَ: ((لئنْ
عِشْتُ إلى قَابِلٍ -إلى العامِ المُقْبِلُ- لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ))،
فَمَاتَ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
*****************
في بدايةِ
هذا العامِ الهِجْريِّ الجديد: نَدْعُو شبابَ الإخوان
والجماعات والفِرَق، نَدْعُوهُم جميعًا إلى تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، والحِرصِ
على العِلْمِ، والكَفِّ عن الإساءةِ للدِّينِ، والقتلِ بِاسْمِ الجِهَادِ والجِهَادُ
مِنْ ذلكَ بَريءٌ، نَدْعُوهم إلى العِلْمِ الصحيح، تَأَمَّلُوا قليلًا، تَوَقَّفُوا
مَليًّا، لا تَنْسَاقُوا كالأنعامِ مِن غيرِ عِبْرَةٍ ولا نَظَرٍ، فِإنَّمَا أَضَلَّكُم
مَن أَخَرَجَكُم، فَاتَّقُوا اللهَ في أَنْفُسِكُم، اتَّقُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-
في آخرتِكُم.
أيُّهَا المُغَرَّرُ بِهِم:
تَوَقَّفُوا قليلًا وراجِعُوا أَنْفُسَكُم، وانْظُرُوا فِيمَا في جُعْبَتِكُم مِن
العِلْمِ الشَّرعيِّ، اعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللهِ وكلامِ رسولِ اللهِ بِفَهْمِ
أصحابِ رسولِ اللهِ ومَن تَبِعَهُم بِإِحَسْانٍ، فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَمَا
خَالَفَ فَاجْعَلُوهُ تحتَ مَواطئ الأقدامِ؛ فإنَّمَا هو ضلالٌ مُبينٌ.
قالَ الإمامُ الشَّاطبيُّ
في ((المُوافَقَات)): ((فائدةُ وَضْعِ الشريعةِ:
إخراجُ المُكَلَّفِ مِن دَاعيةِ هَوَاهُ إلى طاعةِ سَيِّدِهِ وَمَوْلاه -الشريعةُ
لَم تُوضَع لتكونَ تَابِعَةً لهَواك وإنَّمَا وُضِعَت الشَّريعةُ لإخراجِ المُكَلَّفِ
مِن دَاعيةِ هَوَاهُ إلى طاعةِ سَيِّدِهِ وَمَوْلاهُ-، وتخييرُهُ بينَ القَوْليْن نَقْضٌ
لذلك الأصلِ الشَّرعيِّ، وهو غيرُ جَائِزٍ، فِإنَّ الشريعةَ قَد ثَبَتَ أَنَّهَا تَشْتَمَلُ
على مصلحةِ جُزئيةٍ في كلِّ مَسْأَلةٍ، وعلى مَصْلحةٍ كُليَّةٍ في الجُمْلَةِ، أمَّا
الجُزئيةُ: فَمَا يُعْرِبُ عَنْهَا دليلُ كلِّ حُكْمٍ وحِكْمَتِهِ، -فَتَأَمَّل في
هذا الكلامِ، فإنَّ الشريعةَ لا تُخيِّركَ بين القَولين؛ لأنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ لا
يَتَعَدَّد، فَابْحَث عن الحَقِّ والْزَمْهُ إذا عَرَفْتَهُ، وإيَّاكَ أنْ تَسْتَكبرَ
على الحقِّ، فإنَّ مَن استكبرَ على الحَقِّ فَقَد بَطَرَهُ، وَمَنْ بَطَرَ الحَقَّ؛
فَقَد حَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِين على الجنَّةِ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ، كَمَا
في حديثِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.
الشريعةُ ثَبَتَ أَنَّها تَشتملُ على مصلحةٍ جُزئيةٍ
في كلِّ مَسْألَة، وعلى مَصْلَحَةٍ كُليَّةٍ في الجُمْلَةِ، أَمَّا الجُزئيةُ: فَمَا
يُعْرِبُ عنها دليلُ كلِّ حُكْمٍ وحِكْمَتِهِ، وَأَمَّا الكليَّةُ: فهي أنْ يكونَ المُكَلَّفُ
دَاخِلًا تحتَ قانونٍ مُعيِّنٍ مِن تكاليفِ الشَّرعِ في جميعِ تصرفاتِهِ؛ اعتقادًا
وقَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَلا يكونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ كالبهيمةِ المُسَيَّبَةِ حَتَّى
يَرتاضَ بِلِجَامِ الشرعِ، ومتى خَيَّرْنَا المُقَلِّدِينَ في مَذَاهِبِ الأَئمةِ؛
ليَنْتَقُوا مِنْهَا أَطْيَبَهَا عندَهُم لَم يَبْق لَهُم مَرْجِعٌ إلَّا اتَّبَاعُ
الشَّهَواتِ في الاختيارِ، وهذا مُنَاقِضٌ لِقَصْدِ وَضْعِ الشريعةِ؛ ولا هي مَوضوعةٌ
على وجودِ الخِلافِ فيها أَصْلًا يرجعُ إليه مَقْصُودًا مِن الشَّارِعِ، بَلْ ذلك الخِلافُ
رَاجِعٌ إلى أنظارِ المُكَلَّفِينَ وإلى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِم مِن الابْتَلاءِ، وَصَحَّ
نَفيُ الاختلافِ في الشريعةِ وَذَمُّهُ على الإطلاقِ والعمومِ في أصولِهَا وفُروعِهَا؛
إذ لو صَحَّ فيها وَضْعُ فَرْعٍ واحدٍ على قَصْدِ الاختلافِ لَصَحَّ فيها وجودُ الاختلافِ
على الإطلاقِ؛ لأنه إذا صَحَّ اختلافُ مَا؛ صَحَّ كلُّ اختلافٍ، وذلك مَعْلُومُ البُطْلان؛
فَمَا أَدَّى إليه مِثْلَهُ)).
فَنَدْعُو أولئك الشباب
إلى تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وإلى العودةِ إلى دينِ اللهِ ربِّ العَالَمِين؛
ليَتَأَمَّلُوا فيه وليتعلمُوه وليعرفوا الأدلَّةَ، وليعلموا أنَّ فائدةَ وَضْعِ
الشريعةِ هي إخراجُ المُكَلَّفِ عن داعيةِ هَوَاهُ إلى طاعةِ سَيِّدِهِ ومَوْلاهُ،
وليكونَ المُكَلَّفُ مُرْتَاض بِلِجَامِ الشرعِ؛ فَيُصَرِّفُهُ الشرعُ أنَّى تَصَرَّف،
ويُوَجِّهُهُ الشرعُ أنَّى تَوَجَّهَ، أَمَّا أنْ يتوجهَ تَوَجُّهًا مَا، ثُمَّ بَعْدَ
ذلك يَتَقَمَّمُ الآراءَ والأقوالَ؛ لكي يَلوي عُنُقَ النصوصِ مِن أَجْلِ أنْ تكونَ
مُلْتَفِتَةً إلى الباطلِ الذي اعتقدَهُ أَوَّلًا؛ فَلَيْسَ هذا مِن دينِ اللهِ.
ليس مِن دينِ اللهِ: اعْتَقِد
ثُمَّ استَدِلّ، بَلْ اسْتَدِلّ ثُمَّ اعْتَقِد، لَيْسَ مِن دينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
اعْتَقِد أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَدِلّ وإنَّمَا دينُ اللهِ: اسْتَدِلّ ثُمَّ اعْتَقِد.
قالَ الشاطبيُّ -رَحِمَهُ
اللهُ في ((المُوَافَقَاتِ)) أيضًا: ((الشريعةُ كلُّهَا
ترجعُ إلى قَوْلٍ وَاحِدٍ في فروعِهَا وإنْ كَثُرَ الخِلافُ، كَمَا أَنَّهَا في أصولِهَا
كذلك؛ ولا يَصْلُحُ فيها غيرُ ذلك، والدليلُ على هذا الأَمْرِ أُمور:
أَحَدُهَا:
أَدلَّةُ القُرآن، مِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]؛ فَنَفَى الاختلافَ البَتَّةَ، ولو
كان فيه ما يَقتضي مُخْتَلفيْن لَم يَصْدُق عليه هذا الكلامُ على كلِّ حالٍ.
وفي القُرآنِ العظيم:
﴿فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول﴾ [النساء:
59]، وهذه الآيةُ صريحةٌ في رَفْعِ التَّنَازُعِ والاختلافِ؛ فإنه رَدَّ المُتَنازعيْن
إلى الشريعةِ، وليس ذلك إلا ليرتفعَ الخِلافُ، ولا يرتفعُ الخِلافُ إلَّا بِالرجوعِ
إلى شيءٍ واحِدٍ؛ إذ لو كانَ فيه ما يقتضي الاختلافَ لَم يَكُن في الرجوعِ إليه رَفْعُ
تَنَازُعٍ، وهذا بَاطِلٌ.
وقالَ تعالى:
﴿وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾
[آل عمران: 105]، والبَيِّنَاتُ الشريعةُ، فَلَوْلا أنها لا تقتضي الاختلافَ ولا تَقْبَلُهُ
البَتَّةَ لَمَا قبلَ مِنْهُم: مِن بعد كذا، ولكان لَهُم فيها أَبْلَغُ العُذْرِ، وهذا
غيرُ صحيحٍ؛ فالشريعةُ لا اختلافَ فيها.
وقالَ
-جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153]، فَبَيَّنَ أنَّ طريقَ
الحَقِّ وَاحِدٌ، وذلك عامٌ في جُملةِ الشريعةِ وتفاصيلِهَا)).
ورسولُ اللهِ -صلى الله
عليه وآله وسلم- كما في الحديثِ الصحيحِ الذي أخرجَهُ الإمامُ أحمد وغيرُهُ مِن
روايةِ ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- كان النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- جَالِسًا
يومًا ومعه بعضُ أصحابِهِ؛ فَخَطَّ على الأرضِ خَطًّا مُستقيمًا وجَعَلَ على جَانبيِّ
هذا الخَطِّ المُستقيمِ خُطوطًا قِصَارًا، ثُمَّ قال: ((هَذَا سبيلُ اللهِ،
وهذه طُرُقٌ؛ هذه سُبُلٌ على رَأْسِ كلِّ مِنْهَا شيطانٌ يَدْعُو إليْهَا، ثُمَّ تَلَى
هذه الآية العظيمة: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153])).
فالحقُّ وَاحِدٌ، صِرَاطُ وَاحِدٌ؛ لا يَتَعدد، صِرَاطٌ
وَاحِدٌ لا عَشَرَات، وَجَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ لا جَمَاعَات، جَمَاعَةُ المُسْلمين السَّوَادُ
الأَعْظَمُ، وَأَمَّا هذه الفُرْقَةُ وهذا الاختلافُ، أمَّا هذا التَّشَرْذُّمُ فهذا
كلُّهُ لَم يأتي به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-، بَلْ بَرَّأَهُ اللهُ رَبُّ
العَالَمِين مِنْهُ، فَنَبيُّنَا مُحَمَّد -صلى الله عليه وآله وسلم- بَيَّنَ لَنَا
تَأويلَ هذه الآيةِ العظيمةِ مِن كتابِ اللهِ؛ أنَّ الحقَّ وَاحِدٌ لا يتعدد، فَابْحَث
عنه وَجِدَّ في بَحْثِكَ، واتَّقِ اللهَ رَبَّك؛ فإنَّك إنْ مِتَّ بَاحِثًا عن الحقِّ
فَأنتَ على سبيلِ نَجَاة، وأمَّا إنْ أَخْلَدْتَ للأرضِ وأَخَذْتَ بِقَوْلِ فُلانٍ
وفُلان؛ فَمَا هذا بِصِرَاطِ اللهِ المُستقيم ولا طريق الشريعةِ القويم؛ بَلْ يَجبُ
على كلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَعْلَمَ أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتعدد، وأنَّ رسولَ اللهِ -صلى
الله عليه وآله وسلم- بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِين رَافِعًا للنِّزَاعِ قَاطِعًا
للاختلافِ بِهَذَا الوحي المَعْصُومِ مِنْ كلامِ رَبِّ العَالَمِين ومِمَّا جَاءَ
به سَيِّدُ المُرسلين.
لو أنَّهُم رَدُّوا مَا
تَنَازَعُوا فيه إلى كتابِ اللهِ وإلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-؛
لأنَّ الرَّدَّ إلى اللهِ، مَا هو؟
رَدٌّ إلى كتابِهِ.
ولأنَّ الرَّدَّ إلى الرسولِ،
ما هو؟
رَدٌّ إلى سُنَّتِهِ.
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول﴾ [النساء: 59]،
إلى كتابِهِ وسُنَّةِ رسولِهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إذا وَقَعَ هذا الرَّدُّ
بشروطِهِ؛ مِن الإخلاصِ والتَّجَرُّدِ والبَحْثِ عن الحقِّ، وإلقاءِ الشُّبُهَاتِ السَّابقةِ
جَانِبًا، بِتَجَرُّدٍ كاملٍ لتَقَبُّلِ الحقِّ وتَلقِّيه، إذا وَقَعَ الرَّدُّ عند
التَّنَازُعِ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ؛ فلا بُدَّ أنْ يُرْفَعَ التَّنَازُعُ
ولا بُدَّ أنْ يُقْطَعَ الخِلافُ.
فإذا مَا رُدَّ ظَاهِرًا
إلى الكتابِ والسُّنَّةِ، وبَقيَ التَّنَازُعُ قَائِمًا والخلافُ حَادِثًا؛ فَاعْلَم
أنه لَم يُرَدَّ أَصْلًا إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، أو
رُدَّ إليهما واتُّبِعَ الهوى مِن دونِ الحقِّ المُبين.
قالَ تعالى:
﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ﴾ [البقرة: 213]، ولا يكونُ حَاكِمًا بينهم إلَّا مع كَوْنِهِ قَوْلًا
وَاحِدًا فَصْلًا بين المُخْتَلِفِين وقال: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾
[الشورى: 13].
ثُمَّ
ذَكَرَ بني إسرائيل وحَذَّرَ الأُمَّةَ أنْ يَأخذوا بِسُنَّتِهِم؛ فقالَ: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 14].
وقال
تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: 176].
والآياتُ
في ذَمِّ الاختلافِ كثيرةٌ، والأمرُ بالرجوعِ إلى الشريعةِ كثيرٌ، كلُّهُ قَاطِعٌ في
أنها لا اختلافَ فيها، وإنما هي على مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وقَوْلٍ وَاحِدٍ)).
هي
شريعةُ اللهِ، جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ العَالَمِين للأُلْفَةِ والائتلافِ، لم يَجْعَلْهَا
اللهُ رَبُّ العَالَمِين للفُرْقَةِ والاختلاف، جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ العَالَمِين
للمحبةِ والتَّوَاصلِ بين قلوبِ المُؤمنين، والتَّنَاصُرِ والتَّلاحُمِ والتَّآزُرِ
بين المُسلمين.
قالَ
المُزَنيُّ صَاحِبُ الشَّافعيِّ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-: ((ذَمَّ اللهُ الاختلافَ وَأَمَرَ عندهُ بالرجوعِ إلى الكتابِ
والسُّنَّةِ)).
فهذا
كلُّهُ مِن أدلةِ الكتابِ.
وأمَّا
الدليلُ الثاني؛ فهو: ((أنَّ
عامةَ أَهْلِ الشريعةِ أثْبَتُوا في القرآنِ والسُّنَّةِ النَّاسِخَ والمَنْسوخَ على
الجُمْلَةِ، وحَذَّرُوا مِن الجَهْلِ به والخَطَأ فيه، ومَعْلُومٌ أنَّ النَّاسِخَ
والمَنْسوخَ إنَّمَا هو فيما بين دليليْن يَتَعَارَضَان؛ بحيثُ لا يَصِحُّ اجتماعُهُمَا
بحال، وإلَّا لَمَّا كان أحدُهُمَا نَاسِخًا والآخرُ مَنْسوخًا، والفَرْضُ خِلافُهُ؛
فلو كان الاختلافُ مِن الدينِ لَمَا كان لإثباتِ النَّاسِخِ والمَنسوخِ مِن غيرِ نَصٍّ
قَاطِعٍ فيه فائدة، ولكانَ الكلامُ في ذلك كلامًا فيما لا يَجْنِي ثَمَرَةً؛ إذ كان
يَصِحُّ العَمَلُ بِكُلِّ واحدٍ منهما ابتداءً ودَوَامًا، اسْتِنَادًا إلى أنَّ الاختلافَ
لا أَصْلَ له في الشريعة، وهكذا القَوْلُ في كلِّ دليلٍ مع مُعَارِضِهِ؛ كالعمومِ مع
الخصوص، والإطلاقِ مع التقييدِ، ومَا أَشْبَهَ ذلك؛ فكانت تَنْخَرِمُ هذه الأصولُ كلُّهَا،
وذلك فَاسِدٌ؛ فَمَا أَدَّى إليه مِثْلُهُ.
الثالثُ
مِن الأدلةِ: أنه لو كان
في الشريعةِ مَسَاغٌ للخِلافِ لأَدَّى ذلك إلى تكليفِ ما لا يُطاق؛ لأنَّ الدَّليليْن
إذا فَرَضْنَا تَعَارُضَهُمَا وفَرَضناهُمَا مقصوديْن -مقصوديْن مَعًا-، فَالجَمْعُ
ها هُنَا غيرُ صحيح؛ فالأوَّلُ يقتضي: افْعَل ولا تَفْعَل لِمُكَلَّفٍ واحدٍ مِن وَجْهٍ
وَاحِدٍ، وهو عَيْنُ التكليفِ بِمَا لا يُستطاع، والثاني بَاطِلٌ؛ لأنه خِلافُ الفَرْضِ،
وكذلك الثَّالِث؛ إذ كان الفَرْضُ تَوَجَّهَ الطلبُ بهما؛ فَلَم يَبْق الأوَّلُ فَيَلْزَمُ
منه ما تَقَدَّمَ.
لا
يُقال: إنَّ الدَّليليْن بِحَسَبِ شَخصيْن أو حاليْن؛ لأنه خِلافُ الفَرْضِ، وهو أيضًا
قَوْلٌ وَاحِدٌ لا قَوْلان؛ لأنه إذا انصرفَ كلُّ دليلٍ إلى جِهَةٍ لم يَكُن ثَمَّ
اختلاف، وهو المطلوب.
الرابعُ
مِن الأدلة: -على أنَّ
الشريعةَ لا اختلافَ فيها، بَل هي قَوْلٌ وَاحِدٌ؛ مَهْيَعٌ واحدٌ، صِرَاطٌ واحدٌ،
الحقُّ وَاحِدٌ لا يتعدد-، أنَّ الأصوليينَ اتَّفَقُوا على إثباتِ الترجيحِ بين الأدلةِ
المُتعارضةِ إذا لم يُمْكِنُ الجَمْعُ، وأنه لا يَصِحُّ إعْمَالُ أَحَدٍ دليليْن المتعارضيْن
جُزَافًا مِن غيرِ نَظَرٍ في ترجيحِهِ على الآخرِ، والقَوْلُ بثُبوتِ الخِلافِ في الشريعةِ
يَرْفَعُ بابَ الترجيحِ جُمْلَةً؛ إذ لا فائدةَ فيه ولا حَاجَةَ إليه على فَرْضِ ثُبوتِ
الخِلافِ أَصْلًا شَرْعيًّا لِصِحَةِ وقوعِ التَّعَارُضِ في الشريعةِ، ولَكِنَّ
ذلك فَاسِدٌ؛ فَمَا أَدَّى إليه مِثْلُهُ)).
نسألُ
اللهَ أنْ يهديَنَا جميعًا إلى الصراطِ المستقيم، وصلى
اللهُ وسلم على نبيِّنَا مُحَمَّد وعلى آله وأصحابِهِ أجمعين.
﴿الخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ﴾
الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ
إِلَى يَومِ الدِّين.
أَمَّا
بَعْدُ:
فالحديثُ مَوَجَّهٌ إلى
شبابِ الجَمَاعَاتِ التَّائهين، الذين اجتالتْهُم شياطينُ الإنْسِ والجِنِّ عن الصِّرَاطِ
المَستقيمِ، وأنتم تعلمونَ وتَعْلَمُ الدنيا كلُّهَا كما كُنَّا نُحَذِّرُ مِن ذلك
بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ العَالَمَين وحَولِهِ وقوتِهِ قَبْلَ أنْ يَقَعَ مَا وَقَعَ
مِن قَديم، الإخوانُ المُسْلمون أَقَلُّ وأَحْقَرُ وأَذَلُّ مِن أنْ يُحَرِّكُوا
القاعدةَ الشَّعبيةَ؛ لتَمْلأ الشوارعَ صُرَاخًا، ولِتَمْلأ الحَارَات هُتَافًا، هُم
أَقَلُّ وأَحْقَرُ وأَذَلُّ مِن أنْ يفعلوا ذلك، وإنما الذي فَعَلَ ذلك شيوخُ الضَّلالةِ
-عُلماءُ السُّوءِ ولَيْسُوا بِعُلماءَ في الحقيقةِ-، الذي فَعَلَ ذلك وقَلْقَلَ
القاعدةَ الشعبيَّةَ حتى خَرَجَت وانطلقَت ولَم يستطع أَحَدٌ بَعْدُ أنْ يَرُدَّهَا
إلى قواعدِهَا، الذي فَعَلَ ذلك ويَحْمَلُ وِزْرَهُ إنَّمَا هُم شيوخُ الضَّلالة؛
وَثقَ فيهم الناسُ وصَدَّقُوهم فَخَدَعُوهُم واجْتَالُوهُم عن الصِّرَاطِ المُستقيمِ
-فِعْل الشياطين-.
والكلامُ الآن مُوَجَّهٌ
للمغرورينَ: اتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِين
في الإسلامِ العظيمِ، واتَّقُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- في أَنْفُسِكُم، فأنتم على
شَفَا الخَطَرِ دُنيا وآخرة، واتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِين في وطنِكُم، في
وطنِكُم الإسلاميِّ، واعْلَمُوا أنَّ حُبَّ الوطنَ الإسلاميِّ مِن الإيمان، وأنَّ
الدفاعَ عنه مِن الإيمان.
فلا ينبغي أبدًا أنْ
يُسْلَمَ منه شيءٌ لأعداءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ولو كان هذا الشيءُ في مَرْأى
العينِ يسيرًا، فَقَاعدةُ الشرعِ ألَّا قليلٌ ولا كثيرٌ في ذلك، الخيانةُ خيانةُ
الدين، خيانةُ الإسلامِ العظيم، خيانةُ الوطن، تلكَ الخيانة قليلُهَا ككثيرِهَا،
كلُّهَا خيانة، وكلُّهَا ينبغي أنْ تكونَ عقوبتُهَا واحدة.
فاتَّقُوا اللهَ، وتَأَمَّلُوا
قليلًا، ابتعدوا قليلًا لِتَرَوْا أَفْضَل، لأنكم مُنْغَمِسُونَ في باطلٍ أحاطَ بِكُم؛
غَمَسْتُم أَنْفُسَكُم فيه مِن مَفَارَقِ رؤوسِكُم إلى أَخْمَصِ أقدامِكُم، تَطَهَّرُوا
بالرجوعِ إلى الحَقِّ، تَطَهَّرُوا بالتوبةِ إلى اللهِ رَبِّ العَالَمِين، حَافِظُوا
على وطنِكُم الإسلاميِّ، لا تُفَكِّكُوهُ، لا تُضَيِّعُوا جَيْشَهُ؛ فإنهُ عَمُودُ
الفِسْطَاطِ الآن، كالخَيْمَةِ تَقُومُ على ذلك العَمُودِ، فإذا سَقَطَ؛ سَقَطَت، اتَّقُوا اللهَ رَبَّ
العَالَمِين تَعَقَّلُوا، انْظُرُوا إلى المَآلات، لا تَتَّبِعُوا أولئك الحَمْقَى،
فهؤلاء لا عِلْمَ ولا حِلْمَ وإنَّما هُم مِنْ أَهْلِ الحَمَاسَةِ الفَارِغَةِ
والحَمَاقَةِ الكَاسِدَةِ، والله المُسْتَعَان.
يا أَيُّهَا المَغَرَّرِ بِهم في كلِّ مَكَانٍ،
لا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئانِي على ألَّا تَقْبَلُوا نُصْحِي، فإنِّي أُخْلِصُ النُّصْحَ
لَكُم، فلا يَجْرِمَنَّكُم شَنَئَانِي، ولا يَحْملنَّكُم على رَدِّ نَصِيحَتي، فَقَدْ
أَخْرَجَ الإمامُ مُسْلِم في ((صحيحِهِ)) بسندِهِ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله
عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-:((لا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).
قَالَوا يا رسول الله: إِنَّ
أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأن تكون نَعْلُهُ حَسَنَةً.
قَالَ: ((إِنَّ
اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).
بَطَرُ الحَقِّ:
رَدُّهُ على مَن جَاءَ به لكَرَاهَةٍ له، أو لاحتقارٍ شَأنِهِ، أو لذِلَّةٍ وقِلَّةٍ
في حَالِهِ، أو لِفَقْرِهِ، أو إلى غيرِ ذلك مِن الاعتباراتِ الأرضيةِ، فَمَنْ رَدَّ
الحَقَّ لأي اعتبارٍ مِن هذه الاعتباراتِ أو لغيرِهَا مِن اعتباراتِ الأرضِ الدَّنيَّةِ؛
ففي قَلْبِهِ كِبْرٌ كَمَا قَالَ رسولُ اللهِ، فَاحْذَرُوا فِإنَّكُم على شَفَا هَلكَةٍ.
وأنا مَعَ بُغْضِكُم
لي، وعَدَاوتِكُم وتَكفيرِكُم، أنا مَعَ ذلك كلِّهِ على مَا كان عليه شيخُ الإسلام
-رَحِمَهُ اللهُ- إذ قال: ((هَذا وَأَنَا في سعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفَنِي، فإنَّهُ
وإنْ تَعَدَّى حُدودَ اللهِ فيَّ بِتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو افتراءٍ أو عَصبيَّةٍ جاهليَّةٍ،
فأنا لا أَتَعَدَّى حُدودَ اللهِ فيه، بَلْ أَضْبِطُ مَا أقولُهُ وأَفْعَلُهُ، وأَزِنُهُ
بميزانِ العَدلِ، وأَجْعَلُهُ مُؤتَّمًا بالكتابِ الذي أنزلَهُ اللهُ وجَعَلَهُ هُدَى
للناسِ حَاكِمًا فيما اختلفوا فيه، قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾
[البقرة:213].
وقال تعالى:
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
[النساء:59].
وقال تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
وذلك أنكَ مَا جَزيتَ مَنْ عَصَى اللهَ فيكَ بِمِثْلِ
أنْ تُطِيعَ اللهَ فيه: ﴿إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾
[النحل: 128].
وقال تعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
[آل عمران: 120])).
وقالَ أيضًا -رَحِمَهُ
اللهُ تعالى- في ((الجوابِ الصحيحِ)):
((ولَمَّا كانَ أَتْبَاعُ الأنبياءِ أَهْلِ العِلْمِ والعَدْلِ، كان كلامُ أَهْلِ الإسلامِ
والسُّنَّةِ مع الكُفَّارِ وأَهْلِ البِدَعِ -وأهل البِدِع- بالعِلْمِ والعَدْلِ لا
بِالظَّنِّ وما تَهْوَى الأَنْفُسُ، ولِهَذَا قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وآله
وسلم-: ((القُضَاةُ ثَلاثَةٌ)). الحديث.
الحديثُ الذي ذَكَرَهُ
النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما بَيَّنَ أنَّ: ((القُضَاةَ ثلاثة؛ وَاحِدٌ
في الجَنَّةِ واثْنَان في النَّارِ، فَأمَّا الذي في الجَنَّةِ فالذي عَرَفَ الحَقَّ
وَقضَى به، وأمَّا اللذان في النَّارِ؛ فَأَحَدُهُمَا عَرَفَ الحَقَّ وخَالَفَهُ
ولم يَقْض به، وأحدُهُمَا قَضَى بِهَواهُ؛ قَضَى بِجَهْلِهِ فهذان في النَّارِ)).
فإذا
كانَ مَن يقضي بينَ الناسِ في الأموالِ والدِّمَاءِ والأعراضِ إذا لم يَكُن عَالِمًا
عَادِلًا كانَ في النَّارِ، فكيف بِمَن يَحْكُمُ في المِلَلِ والأديانِ وأصولِ الإيمانِ
والمَعارفِ الإلهيَّةِ والمَعَالِمِ العَليَّةِ!!
كيف
بِمَنْ يَحْكُمُ في ذلك بِلا عِلْمٍ ولا عَدْلٍ!!))
وقالَ أيضًا -رَحِمَهُ اللهُ- في ((الرَّدِّ على الإخنائيِّ)):
((وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أيْضًا العُدْوَانَ عَلَى أَحَدٍ -لاَ الْمُعْتَرِضِ وَلا
غَيرِهِ- وَ لاَ بَخْسَ حَقِّهِ وَلَا تَخْصيصَهُ بِمَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا
يَشْرِكُهُ فِيْهِ غَيْرُهُ، بَلْ الْمَقْصُودُ الكَلاَم بِمُوجِبِ العِلْمِ وَ العَدْلِ
وَ الدِّيْنِ كمَا قالَ تَعَالَى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾
[المائدة: 8])).
انتهى
كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ رحمةً واسعةً.
فَيَا أَيُّهَا المُغَرَّرُ
بِهِم في كلِّ قَبيلٍ وبِكُلِّ سبيلٍ:
عُودوا إلى اللهِ، وتُوبوا إليه مِن قَريب، واعَلَمُوا أنَّ عَوامِلَ إصلاحِ كلِّ مُجتمعٍ
في أَمْريْن: في
توحيدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ومُتابعةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-،
إفرادُ اللهِ رَبِّ العالمين بالعبادةِ وإفرادُ الرسولِ -صلى الله عليه وآله وسلم-
بالمُتابعةِ.
فبهذيْن الأمريْن تَصْلُحُ
أحوالُ العبادِ الدُّنيويةِ والأُخرويَّةِ وتستقيمُ أمورُهُم، ويفتحُ اللهُ ربُّ العَالَمِين
عليهم بَرَكَاتٍ مِن السَّمَاءِ والأَرْضِ، ويُؤَلِّفُ بين قُلوبِهِم، فَارْجِعُوا
إلى الدِّين، الدينُ الخَالِصُ؛ الدينُ الحَقُّ الذي جَاءَ به رسولُ اللهِ -صلى الله
عليه وآله وصَحْبِهِ وسَلَّم-، ودَعُوكُم مِن بُنيَّاتِ الطَّريقِ، ومِن شيوخِ الضَّلالةِ
وخُطَبَاءِ الفِتْنَةِ، دَعُوكُم
مِن المُخَرِّفينَ المُحَرِّفينَ المُتَهَوِّكِينَ الحَمْقَى؛ فإنَّهُم قَد تَرَصَّدُوا
للنَّاسِ بِكُلِّ سبيلٍ يَدْعُونَ النَّاسَ إلى الجَنَّةِ بِأَقْوَالِهِم ويَرَدُّونَهُم
ويَصُدُّونَهُم عَن الجَنَّةِ بأعمالِهِم وأحوالِهِم، إنَّهُم لن يُغْنُوا عنكم مِن
اللهِ شيئًا.
فاتَّقُوا اللهَ وَحْدَهُ
واحْرِصُوا على سلامتِكُم، وكونوا ضَنينِينَ لآخرتِكُم، أَشِّحَاء بحسناتِكُم، واتَّقُوا
اللهَ رَبَّكُم وصلى اللهُ وسَلَّم على نبيِّنَا مُحَمَّد وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.