التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

((التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ َّ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ))

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ, وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ, وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ, وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ فَلِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِأَجْلِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ هَذَا كُلُّهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

{وَمَا خَلَقْتُ} أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.

{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا} أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}: الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.

الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].

بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.

((غَفْلَةُ الْخَلْقِ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ))

لَقَدْ حَذَّرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- بَنِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَفْلَةِ مُنْذُ أَنْ كَانُوا فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-:  {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

((يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أَيْ: أَخْرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ يَتَنَاسَلُونَ وَيَتَوَالَدُونَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.

وَحِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ وَأَصْلَابِ آبَائِهِمْ {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أَيْ: قَرَّرَهُمْ بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ فِي فِطَرِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمَلِيكُهُمْ.

قَالُوا: بَلَى قَدْ أَقْرَرْنَا بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ الْقَيِّمِ، فَكُلُّ أَحَدٍ فَهُوَ مَفْطُورٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ تُغَيَّرُ وَتُبَدَّلُ بِمَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ؛ وَلِهَذَا {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أَيْ: إِنَّمَا امْتَحَنَّاكُمْ حَتَّى أَقْرَرْتُمْ بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَكُمْ مِنْ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- رَبُّكُمْ، خَشْيَةَ أَنْ تُنْكِرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا تُقِرُّوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ مَا قَامَتْ عَلَيْكُمْ، وَلَا عِنْدَكُمْ بِهَا عِلْمٌ، بَلْ أَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا لَاهُونَ.

فَالْيَوْمَ قَدِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُكُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ)).

وَنَبَّهَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، لَا يَعْمَلُونَ لَهَا، وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أَجْلِهَا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1-3].

((هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ حَالَةِ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ تَذْكِيرٌ، وَلَا يَرْعَوُونَ إِلَى نَذِيرٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ قَرُبَ حِسَابُهُمْ وَمُجَازَاتُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالطَّالِحَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} أَيْ: غَفْلَةٍ عَمَّا خُلِقُوا لَهُ، وَإِعْرَاضٍ عَمَّا زُجِرُوا بِهِ.

كَأَنَّهُمْ لِلدُّنْيَا خُلِقُوا، وَلِلتَّمَتُّعِ بِهَا وُلِدُوا، وَأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَا يَزَالُ يُجَدِّدُ لَهُمُ التَّذْكِيرَ وَالْوَعْظَ، وَلَا يَزَالُونَ فِي غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} يُذَكِّرُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا يَضُرُّهُمْ وَيُرَهِّبُهُمْ مِنْهُ {إِلا اسْتَمَعُوهُ} سَمَاعًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أَيْ: قُلُوبُهُمْ غَافِلَةٌ مُعْرِضَةٌ لَاهِيَةٌ بِمَطَالِبِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَبْدَانُهُمْ لَاعِبَةٌ، قَدِ اشْتَغَلُوا بِتَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ، وَالْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ، وَالْأَقْوَالِ الرَّدِيَّةِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ تُقْبِلُ قُلُوبُهُمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَتَسْتَمِعُهُ اسْتِمَاعًا، تَفْقَهُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَتَسْعَى جَوَارِحُهُمْ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمُ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا، وَيَجْعَلُونَ الْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ؛ فَبِذَلِكَ يَتِمُّ لَهُمْ أَمْرُهُمْ، وَتَسْتَقِيمُ أَحْوَالُهُمْ، وَتَزْكُو أَعْمَالُهُمْ.

وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ آخِرُ الْأُمَمِ، وَرَسُولَهَا آخِرُ الرُّسُلِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَقَدْ قَرُبَ الْحِسَابُ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأُمَمِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»، وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقُرْبِ الْحِسَابِ: الْمَوْتُ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ قَامَتْ قِيَامَتُهُ، وَدَخَلَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ كُلِّ غَافِلٍ مُعْرِضٍ، لَا يَدْرِي مَتَى يَفْجَأُهُ الْمَوْتُ؛ صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً، فَهَذِهِ حَالَةُ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ أَدْرَكَتْهُ الْعِنَايَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَاسْتَعَدَّ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ)).

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيَّنَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ أَنَّهُ قَدْ ((دَنَا حِسَابُ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَنِعَمِهِمُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ فِيهَا فِي أَبْدَانِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ، وَمَطَاعِمِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ، وَمَلَابِسِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَسْأَلَتُهُ إِيَّاهُمْ مَاذَا عَمِلُوا فِيهَا؛ وَهَلْ أَطَاعُوهُ فِيهَا، فَانْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فِي جَمِيعِهَا، أَمْ عَصَوْهُ فَخَالَفُوا أَمْرَهُ فِيهَا؟!!

{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}: وَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَمَّا اللهُ فَاعِلٌ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ دُنُوِّ مُحَاسَبَتِهِ إِيَّاهُمْ مِنْهُمْ، وَاقْتِرَابِهِ لَهُمْ فِي سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، وَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوا الْفِكْرَ فِيهِ، وَالِاسْتِعْدَادَ لَهُ وَالتَّأَهُّبَ؛ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا هُمْ لَاقُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْبَلَاءِ، وَشَدِيدِ الْأَهْوَالِ)).

وَقَدْ ذَمَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَهْلَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهُ ((خَلَقَ لِلنَّارِ -الَّتِي يُعَذِّبُ فِيهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ- كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يَنْظُرُونَ بِهَا إِلَى آيَاتِ اللهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا آيَاتِ كِتَابِ اللهِ فَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا؛ هَؤُلَاءِ كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَا تَفْهَمُ مَا تُبْصِرُهُ، وَلَا تَعْقِلُ بِقُلُوبِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَتُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تُبْصِرُ مَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَتَتْبَعُ رَاعِيَهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَطَاعَتِهِ))، ((الَّذِينَ غَفَلُوا؛ سَهَوْا عَنْ آيَاتِي وَحُجَجِي, وَتَرَكُوا تَدَبُّرَهَا، وَالِاعْتِبَارَ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهَا)).

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُبَيِّنًا كَثْرَةَ الْغَاوِينَ الضَّالِّينَ، الْمُتَّبِعِينَ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أَيْ: أَنْشَأْنَا وَبَثَثْنَا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}: صَارَتِ الْبَهَائِمُ أَحْسَنَ حَالَةً مِنْهُمْ، {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} أَيْ: لَا يَصِلُ إِلَيْهَا فِقْهٌ وَلَا عِلْمٌ إِلَّا مُجَرَّدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} مَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ فَقَدُوا مَنْفَعَتَهَا وَفَائِدَتَهَا، {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} سَمَاعًا يَصِلُ مَعْنَاهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ.

{أُولَئِكَ} الَّذِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ {كَالأَنْعَامِ} أَيِ: الْبَهَائِمِ الَّتِي فَقَدَتِ الْعُقُولَ، وَهَؤُلَاءِ آثَرُوا مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، فَسُلِبُوا خَاصِّيَّةَ الْعَقْلِ؛ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} مِنَ الْبَهَائِمِ؛ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، وَلَهَا أَذْهَانٌ تُدْرِكُ بِهَا مَضَرَّتَهَا مِنْ مَنْفَعَتِهَا؛ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ.

{أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ، غَفَلُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَذِكْرِهِ، خُلِقَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ وَالْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ لِتَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَحُقُوقِهِ، فَاسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى ضِدِّ هَذَا الْمَقْصُودِ؛ فَهَؤُلَاءِ حَقِيقُونَ بِأَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ ذَرَأَ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، فَخَلَقَهُمْ لِلنَّارِ، وَبِأَعْمَالِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ.

وَأَمَّا مَنِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْجَوَارِحَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَانْصَبَغَ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَمْ يَغْفُلْ عَنِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَبِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ)).

((مَعْنَى الْغَفْلَةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))

((الْغَفْلَةُ لُغَةً: السَّهْوُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَصْدَرُ غَفَلَ يَغْفُلُ غَفْلَةً وَغُفُولًا.

يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((الْغَيْنُ وَالْفَاءُ وَاللَّامُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الشَّيْءِ سَهْوًا، وَرُبَّمَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ، وَالْغَفْلَةُ: غَيْبَةُ الشَّيْءِ عَنْ بَالِ الْإِنْسَانِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ لَهُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِيمَنْ تَرَكَهُ إِهْمَالًا وَإِعْرَاضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1])).

وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((يُقَالُ: غَفَلَ عَنْهُ يَغْفُلُ غُفُولًا وَغَفْلَةً، وَأَغْفَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَأَغْفَلَ الشَّيْءَ: تَرَكَهُ وَسَهَا عَنْهُ)).

الْغَفْلَةُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْغَفْلَةُ: فَقْدُ الشُّعُورِ بِمَا حَقُّهُ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ)).

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((سَهْوٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ قِلَّةِ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ)).

وَقِيلَ: ((مُتَابَعَةُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَشْتَهِيهِ)).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ: هِيَ أَلَّا يَخْطُرَ ذَلِكَ بِبَالِهِ، وَقِيلَ: إِبْطَالُ الْوَقْتِ بِالْبَطَالَةِ)).

وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الْغَفْلَةُ: عَدَمُ إِدْرَاكِ الشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ)))).

((التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

لَقَدْ حَذَّرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْغَافِلِينَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

وَلَا تُطِعْ مُثَبِّطًا لَكَ عَنْ عَمَلِكَ أَوْ مُسْتَدْرِجًا إِيَّاكَ إِلَى مَزَالِقِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ مَنْ وَجَدْنَا قَلْبَهُ غَافِلاً عَنْ ذِكْرِنَا، وَاتَّبَعَ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ مُتَفَلِّتًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، فَكَانَتْ حَيَاتُهُ وَطَاقَاتُهُ مُبَدَّدَةً ذَاهِبَةً سَرَفًا وَتَضْيِيعًا.

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27-28].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا حِينَ يَعَضُّ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ عَلَى يَدَيْهِ تَحَسُّرًا وَنَدَامَةً، يَقُولُ كُلُّ ظَالِمٍ: يَا لَيْتَنِي اتَّبَعْتُ الرَّسُولَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَاتَّخَذْتُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا طَرِيقًا إِلَى الْهِدَايَةِ وَالنَّجَاةِ.

وَيَتَحَسَّرُ وَيَتَوَجَّعُ مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَمِنْ تَرَقُّبِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الصَّائِرِ إِلَيْهِ، وَيَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ وَيَقُولُ: يَا وَيْلَتَى! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذِ الْكَافِرَ فُلَانًا صَدِيقًا تَخَلَّلَتْ مَوَدَّتُهُ قَلْبِي.

لَقَدْ أَضَلَّنِي فِي طُرُقِ الْغِوَايَةِ مُبْعِدًا إِيَّايَ عَنْ كِتَابِ اللهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا دَوَامًا لِلْعَمَلِ بِمَا جَاءَ فِيهِ بَعْدَ زَمَنِ مَجِيئِهِ إِلَيَّ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ الْمُتَمَرِّدُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَثِيرَ الْخِذْلَانِ لِلْإِنْسَانِ، يَتْرُكُهُ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.

وَأَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَقُلُوبُهُمْ لَا تَعِي الْحَقَّ، وَعُيُونُهُمْ لَا تُبْصِرُ آيَاتِ رَبِّهِمُ الْمَنْظُورَةَ وَالْمَسْطُورَةَ، وَآذَانُهُمْ لَا تَسْمَعُ مَا يَنْفَعُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

(({أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عَنِ اللهِ وَعَنْ مَصِيرِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ؛ بِسَبَبِ انْشِغَالِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-:  {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

سَأُحَوِّلُ وَأَرُدُّ عَنْ قَبُولِ آيَاتِي الْبَيَانِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ وَالْإِعْجَازِيَّةِ وَالتَّصْدِيقِ بِهَا الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، وَأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ كُلَّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تُرَى الْإِعْجَازِيَّةِ أَوِ التَّكْوِينِيَّةِ الْكُبْرَى لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِنْ يَرَوْا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ طَرِيقَ الْحَقِّ وَالتُّقَى وَالسَّدَادِ لَا يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَى الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِسُبُلِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ يَتَّخِذُوهُ طَرِيقًا وَدِينًا؛ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ لَهُمْ رَغَبَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ.

ذَلِكَ الَّذِي اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَرْكِ الرُّشْدِ وَاتِّبَاعِ الْغَيِّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَكَانُوا عَنِ التَّفَكُّرِ فِيهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا وَإِدْرَاكِ دَلَالَاتِهَا غَافِلِينَ.

وَقَدْ تَوَعَّدَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْغَافِلِينَ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7-8].

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ أَوْ بِالْعِقَابِ، فَلَا يُؤَمِّلُونَ ثَوَابَنَا، وَلَا يَخْشَوْنَ عِقَابَنَا، وَاخْتَارُوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَاكْتَفَوْا بِمَتَاعِهَا، وَسَكَنُوا إِلَيْهَا مُطْمَئِنِّينَ فِيهَا، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ إِدْرَاكِ آيَاتِنَا الْكَوْنِيَّةِ وَالْإِعْجَازِيَّةِ وَالْجَزَائِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا فِي كِتَابِنَا غَافِلُونَ غَفْلَةً تَامَّةً.

أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ مَقَرُّهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ؛ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.

ويقولُ تعالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].

 وَأَنْذِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ عَذَابَ يَوْمِ النَّدَامَةِ الشَّدِيدَةِ عَلَى مَا فَاتَ حِينَمَا فُرِضَ الْحِسَابُ، وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَهُمُ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي غَفْلَةٍ، قَدْ حُجِبَتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ سَمَاعِ بَيَانَاتِ الْهُدَى، وَحُجِبَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ آيَاتِ اللهِ بِغِشَاوَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مُسْتَقْبَلًا بِسَبَبِ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي غَفْلَاتِهِمْ.

وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ إِتْيَانِ السَّاعَةِ بَغْتَةً.. فَجْأَةً، وَأَخْبَرَنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ مَا أَخَذَ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغِرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ؛ فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللهِ؛ إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].

((وَلَا يَزَالُ الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ فِي شَكٍّ مِمَّا جِئْتُهُمْ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ فَجْأَةً وَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الزخرف: ٦٦].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].

(({وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}: وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَشْعُرُونَ)).

((ذَمُّ الْغَفْلَةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

لَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَرَهَّبَ مِنْ آثَارِهَا الْوَخِيمَةِ عَلَى الْعَبْدِ؛ ((فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَيُّهَا النَّاسُ فَسَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَعَنْ يُسَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ- قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ؛ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَخْبَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ». أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ.

قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ))، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ: ((أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟)).

فَقُلْنَا لَهُ: ((إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ)).

قَالَ: ((فَصَلُّوا الْعَصْرَ)).

فَقُمْنَا فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ إِلَّا كَأَنَّمَا تَفَرَّقُوا عَنْ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تِرَةٌ»)).

((وَعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي)) يَعْنِي: يَحْدُثُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَتْمَةِ وَالْغَمِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، ((وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ))، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، هَذَا وَهُوَ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؛ فَكَيْفَ بِنَا؟!!)).

 ((مِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ وَصُوَرِهَا))

إِنَّ لِلْغَفْلَةِ صُوَرًا وَمَظَاهِرَ، وَمِنْهَا: الْغَفْلَةُ عَنْ آيَاتِ اللهِ الْمَنْظُورَةِ، وَعَنْ آيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].

وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ حُجَجِنَا وَدَلَائِلِ قُدْرَتِنَا لَغَافِلُونَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].

وَآيَاتٌ كَثِيرَاتٌ دَالَّاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَعَظِيمِ صِفَاتِهِ، مُنْبَثَّاتٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا؛ لِانْصِرَافِهِمْ إِلَى شَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَلَيْسَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ بِأَعْجَبَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

 وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].

وَإِذَا تُتْلَى عَلَى هَذَا الضَّالِّ آيَاتُ الْقُرْآنِ أَدْبَرَ وَنَأَى عَنْهَا جَسَدِيًّا أَوْ نَفْسِيًّا، مُتَرَفِّعًا عَنْهَا بِشِدَّةٍ، لَا يَعْبَأُ بِهَا، وَلَا يَرْفَعُ لَهَا رَأْسَهُ، يُشْبِهُ حَالُهُ فِي نُفُورِهِ النَّفْسِيِّ عَنْ آيَاتِ اللهِ حَالَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ صَمَمًا وَثِقَلًا شَدِيدًا مَانِعًا عَنِ السَّمْعِ؛ فَبَشِّرْهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ مُتَهَكِّمًا بِهِ بِعَذَابٍ مُؤْلِمٍ مُوجِعٍ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

((وَلَا تُطِعْ مَنْ جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِنَا، وَآثَرَ هَوَاهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَصَارَ أَمْرُهُ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِ ضَيَاعًا وَهَلَاكًا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

وَاذْكُرْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ، اذْكُرْ رَبَّكَ سِرًّا فِي نَفْسِكَ، وَاسْتَحْضِرْ عَظَمَتَهُ فِي قَلْبِكَ، مُتَذَلِّلًا لَهُ، خَائِفًا مِنْهُ، وَاذْكُرْهُ -سُبْحَانَهُ- بِاللِّسَانِ ذِكْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي وَقْتَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُفَضَّلَيْنِ؛ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَفِي آخِرِ النَّهَارِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي خَلْقِهِ وَتَصَارِيفِهِ فِي كَوْنِهِ.

وَرَوَى البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: الْغَفْلَةُ عَنِ الْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 7].

فَهَلَاكٌ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمُ الَّتِي وَرِثُوا بَعْضَ مَظَاهِرِهَا عَنْ دِينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ؛ الَّذِينَ هُمْ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ غَافِلُونَ تَارِكُونَ، لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى تَرْكِهَا.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا».

وَمِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: الْغَفْلَةُ عَنِ الْآخِرَةِ: قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

أَكْثَرُ النَّاسِ سَبَبُ جَهْلِهِمْ بِشُؤُونِهِ -تَعَالَى-: أَنَّهُمْ يَقْصُرُونَ تَفْكِيرَهُمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ شُؤُونِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَلَذَّاتِهِمْ، وَكَيْفَ يَنْعَمُونَ بِهَا وَيَحْصُلُونَ عَلَيْهَا دُونَ أَنْ يُفَكِّرُوا فِيمَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الْعُلْيَا، وَهُمْ بِالتَّأْكِيدِ الْمُشَدَّدِ غَافِلُونَ عَنِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِيهَا غَفْلَةً تَامَّةً، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا، وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَلَا يَعْمَلُونَ لَهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39].

((وَأَنْذِرْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- النَّاسَ يَوْمَ النَّدَامَةِ حِينَ يُقْضَى الْأَمْرُ، وَيُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُذْبَحُ، وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَصِيرُ أَهْلُ الْإِيمَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ إِلَى النَّارِ، وَهُمُ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي غَفْلَةٍ عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ، فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ، وَلَا يَعْمَلُونَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

((دَنَا وَقْتُ حِسَابِ النَّاسِ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْكُفَّارُ يَعِيشُونَ لَاهِينَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا الْإِنْذَارِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97].

وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].

يُقَالُ لِلْكَافِرِ إِذَا عَايَنَ مَا لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِهِ فِي الدُّنْيَا لِغَفْلَتِهِ: نُؤَكِّدُ لَكَ إِنَّكَ كُنْتَ مُنْغَمِسًا فِي غَفْلَةٍ، غَارِقًا فِي مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، نَافِرًا مِنْ هَذَا الَّذِي تُعَانِيهِ، فَأَزَلْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ الَّذِي كَانَ عَلَى قَلْبِكَ وَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَزَالَتْ عَنْكَ الْغَفْلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحْجُبُكَ عَنْ أُمُورِ الْمَعَادِ، وَبَصَرُكَ الْيَوْمَ قَوِيٌّ وَثَابِتٌ وَنَافِذٌ، تُبْصِرُ بِهِ مَا كُنْتَ تَجْحَدُهُ فِي الدُّنْيَا.

مِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: غَفْلَةُ الظَّالَمِينَ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِهِمْ، وَبِظُلْمِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، وَسَائِرِ أَعْمَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].

وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكُمْ، بَلْ هُوَ مُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ؛ فَتَرَقَّبُوا عِقَابَهُ الشَّدِيدَ عَلَى ظُلْمِكُمُ الَّذِي هُوَ أَظْلَمُ الظُّلْمِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].

وَلَا تَتَوَهَّمَنَّ أَيُّهَا السَّامِعُ أَنَّ اللهَ يُعَامِلُ الظَّالِمِينَ مُعَامَلَةَ الْغَافِلِ عَنْهُمْ، الْمُنْصَرِفِ عَنْ مُلَاحَظَتِهِمْ وَمُرَاقَبَتِهِمْ؛ وَلَكِنْ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الرَّقِيبِ الْحَفِيظِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، مَا يُؤَخِّرُ عِقَابَهُمُ الشَّدِيدَ إِلَّا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ تَرْتَفِعُ فِيهِ أَبْصَارُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَتَبْقَى أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةً حَيْرَةً وَدَهْشَةً، وَخَوْفًا وَذُعْرًا مِنْ هَوْلِ مَا تَرَاهُ وَتُبْصِرُهُ.

مِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْكَبَائِرِ الْحِسِّيَّةِ وَاقِعُونَ فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ، أَوْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهَا ذُنُوبٌ لِيَتُوبُوا مِنْهَا.

 فَعِنْدَهُمْ مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَاحْتِقَارِهِمُ الشَّيْءُ الْعَظِيمُ، فَيُصِيبُهُمْ بِسَبَبِ مَا ظَنُّوهُ بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّرَفُّعِ عَنِ التَّلَطُّخِ بِهَذِهِ الْأَوْحَالِ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ وَالْأَنَفَةِ، وَاحْتِقَارِ النَّاسِ؛ مِمَّا لَعَلَّهُ يُصِيبُهُمْ بِهِ أَعْظَمُ مِمَّا أَصَابَ هَؤُلَاءِ.

 فَإِنْ تَدَارَكَ اللهُ أَحَدَهُمْ بِقَاذُورَةٍ يُوقِعُهُ فِيهَا لِيَكْسِرَ بِهَا نَفْسَهُ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَهُ، وَيُذِلَّهُ بِهَا فَهِيَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ.

 كَمَا أَنَّهُ إِذَا تَدَارَكَ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا عَلَى خَطَرٍ.

مِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: الْغَفْلَةُ عَنِ التَّوْبَةِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَالْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَبِذَا تَقْوَى فِيهِ إِرَادَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَضْعُفُ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ عَنِ التَّوْبَةِ: طُولُ الْأَمَلِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْقَوَاطِعِ فِي طَرِيقِ سَيْرِ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ الَّتِي تُعَوِّقُ الْإِنْسَانَ، وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ: طُولَ الْأَمَلِ، وَعَدَمَ تَذَكُّرِ الْمَوْتِ.

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَحْظُورِ، وَطَالَ أَمَلُهُ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ نِهَايَتَهُ وَأَجَلَهُ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ كَثِيرُ خَيْرٍ، بَلْ يَأْتِي مِنْهُ تَخْلِيطٌ وَتَقْصِيرٌ وَتَسْوِيفٌ.

وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَطُولُ أَمَلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا؛ فَهَؤُلَاءِ يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ النِّهَايَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَكُلِّ حِينٍ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرَادَ لَنَا فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَطُولَ فِي الْحَيَاةِ أَمَلُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي مَا سَيَكُونُ بَعْدَ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى التَّوْبَةِ، وَعَلَى تَرَقُّبِ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيَنْظُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا أَحْسَنَ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَسَاءَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.

طُولُ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ لَهُ سَبَبَانِ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ.

*السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: حُبُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنِسَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَعَلَاقَاتِهَا وَعَلَائِقِهَا؛ يَثْقُلُ قَلْبُهُ عَنْ مُفَارَقَتِهَا.

يَعْنِي: الْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ -النَّاسُ دَائِمًا يَكْرَهُونَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ-، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْإِنْسَانُ لِلْآخِرَةِ، لَمْ يَعْمَلْ لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ؛ لَمْ يَعْمَلْ لِلْقَبْرِ حِسَابًا.

الْقَبْرُ فِيهِ وَحْشَةٌ، فِيهِ ظُلْمَةٌ، فِيهِ وَحْدَةٌ، فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ.

الْقَبْرُ لَيْسَ فِيهِ مُتَعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ الْحِسِّ الْإِنْسَانِيِّ.

الْإِنْسَانُ يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ، فَيَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ، وَهَذَا مَجْبُولٌ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، هَذَا مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ.

وَأَمَّا إِذَا عَمَّرَ الْإِنْسَانُ آخِرَتَهُ، وَأَمَّا إِذَا الْتَفَتَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْخَرَابِ إِلَى الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّهُ سَيَرَى الدُّنْيَا خَرَابًا وَيَبَابًا، وَسَيَرَى الْآخِرَةَ عُمْرَانًا وَحَيَاةً بَاقِيَةً لَا تَزُولُ.

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَأْنَسُ بِشَهَوَاتِهَا، وَيَرْكَنُ إِلَى مَلَذَّاتِهَا، فَيَثْقُلُ عَلَى قَلْبِهِ أَنْ يُفَارِقَ الدُّنْيَا إِلَى غَيْرِهَا، وَيَمْتَنِعُ قَلْبُهُ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي مُفَارَقَةِ اللَّذَّاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهَوَاتِ.

إِذَا أَنِسَ الْقَلْبُ حُبَّ الدُّنْيَا، وَانْغَمَسَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّهَوَاتِ -الْمَوْتُ يَقْطَعُ هَذَا-؛ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ -حِينَئِذٍ-، يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَلَذَّاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَيُفَارِقَ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تُحِبُّهَا النَّفْسُ لِيَنْتَقِلَ إِلَى الْمَوْتِ.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ صِيَاحُهُمْ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُسَوِّفُونَ: سَوْفَ أَتُوبُ بَعْدَ كَذَا، وَسَوْفَ أَعْمَلُ كَذَا إِذَا حَدَثَ كَذَا!!

فَمَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ مُسَوِّفًا آخِذًا بِـ (سَوْفَ) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَوْتُ!!

وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَزَعُ وَالْحُزْنُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- فِي النَّارِ.

أَكْثَرُ حُزْنِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ مَرَّتْ وَانْقَضَتْ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ حَتَّى جَاءَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِعْدَادٍ.

سَيَأْتِي، هُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ..

مَا دَامَ الْمَوْتُ سَيَأْتِي فَاعْتَبِرْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ سَيَأْتِي فَسَيَأْتِي، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.

قَالَ ﷺ: ((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَوَزَّعَتْهُ هُمُومُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ تَعَالَى بِأَيِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ اللهِ عَذَّبَهُ)).

الَّذِي يَجْعَلُ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَمْعُ الشَّمْلِ هَذَا هُوَ اتِّحَادُ تِلْكَ الْهُمُومِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ.

وَالَّذِي يَجْعَلُ هَمَّهُ الدُّنْيَا، وَيَلْتَفِتُ عَنِ الْآخِرَةِ يُشَتِّتُ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، فَتَجِدُ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ عِدَّةَ أَشْغَالٍ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ عِدَّةُ أُمُورٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ هَذِهِ عِدَّةُ أَشْغَالٍ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ مُشَتَّتَ الْهَمِّ، وَيَجْعَلُ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَمَهْمَا الْتَفَتَ لَمْ يَرَ إِلَّا فَقْرَهُ، ((وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ)).

الْأَوَّلُ؛ ((جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)).

وَالْآخَرُ؛ ((شَتَّتَ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ)). فَعَلَامَ الْعَنَاءُ، وَعَلَامَ التَّعَبُ؟!!

حُبُّ الدُّنْيَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ سَبَبَيْ طُولِ الْأَمَلِ.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: الْجَهْلُ.

الْإِنْسَانُ قَدْ يُعَوِّلُ عَلَى شَبَابِهِ، فَيَسْتَبْعِدُ قُرْبَ وُقُوعِ الْمَوْتِ مَعَ الشَّبَابِ، وَهَلْ يَأْتِي الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ؟!!

فَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَكْبُرَ، وَأَنْ يَشِيخَ، وَأَنْ يَهْرَمَ، وَلَا يَتَفَكَّرُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَجْهَلُ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَعْمَارِ، وَلَا يُفَارِقُ أَحَدًا إِلَّا وَمَسَّهُ؛ يَجْهَلُ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّ مَشَايِخَ بَلَدِهِ يَعْنِي: كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ- لَوْ عُدُّوا.. لَوْ أَحْصَاهُمْ إِنْسَانٌ، وَعَمِلَ إِحْصَائِيَّةً لِكِبَارِ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ لَكَانُوا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ رِجَالِ الْبَلَدِ، وَرُبَّمَا أَقَلّ.

يَعْنِي: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحْسُبَ كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدٍ فَلَنْ يَصِلَ عَدَدُهُمْ إِلَى عُشْرِ سُكَّانِ الْبَلَدِ.

مَا الَّذِي جَعَلَهُمْ قِلَّةً إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ سَيَظَلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ وَيَكْبُرَ فِي السِّنِّ، وَيُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ؟!!

فَلِمَاذَا لَمْ يُتْرَكِ الْجَمِيعُ؟!!

لِمَاذَا قَلُّوا وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَّا عُشْرَ سُكَّانِ أَيِّ بَلَدٍ؟!!

لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَلَا يَصِلُ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ إِلَّا الْقِلَّةُ، إِلَّا عُشْرُ سُكَّانِ الْبَلَدِ، هُمُ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ -عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ-.

وَإِذَنْ؛ الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ.

فَمَنِ الَّذِي يُؤَمِّنُ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ كَانَ شَابًّا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَلْفِ؟!!

فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ، وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ يَصِلُونَ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا.

فَلَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا لَعَلِمَ أَنَّهُ وَاهِمٌ، وَأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَنْ يُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ وُصُولَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَأَنَّ مَوْتَهُ وَهُوَ فِي حَدَاثَةِ السِّنِّ وَفِي الشَّبَابِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَهَذَا يَحْدُثُ بِكَثْرَةٍ.

لَوْ تَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ الْغَافِلُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشِيبٍ وَكُهُولَةٍ، وَلَا لَهُ زَمَانٌ مِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَخَرِيفٍ وَرَبِيعٍ، وَلَا مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ؛ لَعَظُمَ اسْتِشْعَارُ الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ بِهَذَا الْمَوْتِ، وَاشْتَغَلَ اسْتِعْدَادًا لِوُقُوعِهِ؛ إِذْ هُوَ مِنْهُ قَرِيبٌ؛ وَلَكِنَّ الْجَهْلَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَحُبَّ الدُّنْيَا يَدْعُوَانِ الْإِنْسَانَ إِلَى طُولِ الْأَمَلِ، وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ أَبَدًا يَظُنُّ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُقَدِّرُ نُزُولَهُ بِهِ وَوُقُوعَهُ فِيهِ.

الْإِنْسَانُ -دَائِمًا وَأَبَدًا- عِنْدَهُ يَقِينٌ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ؛ وَلَكِنْ هُوَ قَرِيبٌ لَا يَقَعُ، يَعْنِي: هُوَ قَرِيبٌ نَعَمْ؛ وَلَكِنَّهُ لَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ!!

كَمَا يَتَحَدَّثُ الْإِنْسَانُ مَثَلًا عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، وَلَا يَتَيَقَّنُ هُوَ مِنْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ خَارِجَ الدَّائِرَةِ وَالْإِطَارِ، وَيَتَحَدَّثُ عَنْ شَيْءٍ لَنْ يَمَسَّهُ هُوَ!!

كَمَا يَعِظُ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِالتَّقْوَى، هَذِهِ التَّقْوَى كَأَنَّهَا لِلْمَوْعُوظِينَ، وَلَيْسَتْ لَهُ هُوَ، فَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْعُوظًا بِذَلِكَ!!

وَلِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنَّا يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ يُشَيَّعَ.

الْإِنْسَانُ مِنَّا مَا أَكْثَرَ مَا يُشَيِّعُ مِنَ الْجَنَائِزِ؛ وَلَكِنْ هَلْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ يَقِينٌ أَنَّهُ سَيُشَيَّعُ، وَسَتُشَيَّعُ جَنَازَتُهُ أَيْضًا؟!!

إِذَنْ؛ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْجَهْلُ سَبَبُ طُولِ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ سَبِيلِ الْآخِرَةِ.

مِنْ مَظَاهِرِ الْغَفْلَةِ: غَفْلَةُ الْأُمَّةِ عَنِ التَّوْبَةِ: إِذَا تَحَدَّثَ مُتَحَدِّثٌ عَنِ التَّوْبَةِ تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ تَوْبَةُ الْأَفْرَادِ فَحَسْبُ، أَمَّا تَوْبَةُ الْأُمَّةِ بِعَامَّةٍ فَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ.

وَهَذَا مِنَ الْأَخْطَاءِ الْعَظِيمَةِ فِي بَابِ التَّوْبَةِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ سُنَّتَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْأَفْرَادِ وَفِي مَغْفِرَتِهِ لِلتَّائِبِينَ وَعَفْوِهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ هِيَ هِيَ سُنَّتُهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ.

فَالْأُمَّةُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ، وَتَصْدُقُ فِي التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى رَبِّ الْعِبَادِ يَفْتَحُ اللهُ لَهَا، وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهَا، وَيُعِيدُهَا إِلَى عِزَّتِهَا وَمَجْدِهَا، وَيُنْقِذُهَا مِنَ وَهْدَتِهَا الَّتِي انْحَدَرَتْ إِلَيْهَا، وَيُنَجِّيهَا مِنَ الْخُطُوبِ الَّتِي تُحِيطُ بِهَا نَتِيجَةَ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبَتْهَا، وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي أَشَاعَتْهَا؛ مِنْ رِبًى، وَمُجُونٍ، وَفِسْقٍ، وَشِرْكٍ، وَبِدَعٍ، وَحُكْمٍ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَمُوَالَاةٍ لِأَعْدَاءِ اللهِ، وَتَقْصِيرٍ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ اللهِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُؤْذِنٌ بِالْعُقُوبَةِ وَحُلُولِ اللَّعْنَةِ.

فَإِذَا تَابَتِ الْأُمَّةُ إِلَى رَبِّهَا مَتَّعَهَا اللهُ بِالْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ، وَجَعَلَ لَهَا الصَّوْلَةَ وَالدَّوْلَةَ، وَرَزَقَها الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسِّلْمَ وَالسَّلَامَ، وَمَكَّنَ لَهَا فِي الْأَرْضِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

وَإِذَا أَرَدْتَ مِثَالًا عَلَى تَوْبَةِ الْأُمَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} [يونس: 98].

وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِين ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ قَوْمُ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَرْيَتُهُمْ هِي (نِينَوى) الَّتِي تَقَعُ شَرْقِيَّ مَدِينَةِ (الْمَوْصِلِ) فِي شَمَالِيِّ الْعِرَاقِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَظَلَّهُمُ الْعَذَابُ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ دَنَا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُم قَدْ فَقَدُوا يُونُسَ؛ قَذَفَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ أُنْثَى وَوَلَدِهَا، وَعَجُّوا إِلَى اللهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ: رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ وَالدُّعَاءِ.

فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ مِنْهُمْ صِدْقَ التَّوْبَةِ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَقَالَ: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} أَيْ: لَمْ نُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، فَاسْتَمْتَعُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى حِينِ مَمَاتِهِمْ وَقْتَ انْتِهَاءِ أَعْمَارِهِمْ.

فَمَا أَحْوَجَ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ أَنْ تَعُجَّ إِلَى اللهِ مُنِيبَةً تَائِبَةً؛ لِيَرْضَى عَنْهَا، وَيْرَفَعَ عَنْهَا مَا هِيَ فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ وَالْخَيْبَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ لِأَعْدَائِهَا.

((أَسْبَابُ الْغَفْلَةِ))

إِنَّ الْغَفْلَةَ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا:

*الْجَهْلُ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبِدِينِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: ٩].

قُلْ أَيُّهَا النَّاصِحُ الْمُرْشِدُ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟!!

لَا يَسْتَوُونَ، مَا يَتَذَكَّرُ هَذَا التَّذَكُّرَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ وَالسُّلُوكِ إِلَّا أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْوَاعِيَةِ الدَّرَّاكَةِ الَّتِي تَعْقِلُ الْمَعَارِفَ، وَتَعْقِلُ النَّفْسَ بِإِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالِاسْتِجَابَةِ لِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16].

قُلْ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ يَسْتَوِي الْكَافِرُ الَّذِي لَا يَعْتَدِي سَبِيلًا، وَالْمُؤْمِنُ الْبَصِيرُ؟!!

قُلْ لَهُمْ: هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ ظُلُمَاتُ الشِّرْكِ وَنُورُ الْإِيمَانِ؟!!

*وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: الْمَعَاصِي، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

((مَنْ رَانَ عَلَى قَلْبِهِ كَسْبُهُ، وَغَطَّتْهُ مَعَاصِيهِ؛ فَإِنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنِ الْحَقِّ؛ وَلِهَذَا جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ حُجِبَ عَنِ اللَّهِ كَمَا حَجَبَ قَلْبَهُ فِي الدُّنْيَا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ)).

((إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِياءً فِي الْوَجْهِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَزِيَادَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ، وَيَشْهَدُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، فَمَا حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَالٌ مَكْرُوهَةٌ قَطُّ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ)).

وَمِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: الْإِعْرَاضُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى؛ فَإِنَّهُمَا يُسَبِّبَانِ سَدَّ أَبْوَابِ الْهِدَايَةِ، وَفَتْحَ أَبْوَابِ الْغِوَايَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1-2].

((مَا مِنْ شَيْءٍ يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ يُتْلَى عَلَيْهِمْ مُجَدِّدًا لَهُمُ التَّذْكِيرَ إِلَّا كَانَ سَمَاعُهُمْ لَهُ سَمَاعَ لَعِبٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، قُلُوبُهُمْ غَافِلَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مَشْغُولَةٌ بِأَبَاطِيلِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، لَا يَعْقِلُونَ مَا فِيهِ)).

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].

وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ أَظْلَمَ مِنَ الَّذِي ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْطَى عَارِضَ وَجْهِهِ لَهَا اسْتِهَانَةً بِهَا، وَتَرَكَهَا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا بَعْدَ إِدْرَاكِهِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقَ، وَمَحَى مِنْ ذَاكِرَتِهِ مَعَ طُولِ التَّرْكِ مَا سَبَقَ أَنِ اكْتَسَبَ مِنْ كُفْرٍ وَجَرَائِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْشَ الْوَعِيدَ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الرَّبِّ؛ إِذْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا.

إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِنَا أَغْطِيَةً تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ هُدًى إِلَى عُمْقِهَا، وَتَحْجُبُهَا صَارِفَةً لَهَا عَنْ فِقْهِهَا وَفَهْمِهَا فَهْمًا سَدِيدًا؛ بِسَبَبِ انْصِرَافِ كُلِّ مَشَاعِرِهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ لِمَطَالِبِ أَجْسَادِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَجَعَلْنَا فِي آذَانِهِمْ ثِقَلاً وَصَمَمًا، فَهِيَ لَا تَسْمَعُ مَا تُذَكَّرُ بِهِ مِنْ آيَاتِنَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الْقَوْلِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ فَهْمِ الْمُرَادِ بِهِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ انْصَرَفَ سَمْعُهُ عَنْهُ، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ إِلَّا صَوْتًا لَا مَعْنَى لَهُ.

وَإِنْ تَدْعُهُمْ أَيُّهَا الدَّاعِي إِلَى اللهِ إِلَى هُدَى اللهِ الْمُنَزَّلِ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّخَذْتَ مَعَهُمْ كُلَّ وَسَائِلِ الْإِقْنَاعِ؛ فَلَنْ يَهْتَدُوا مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِكَ -حِينَئِذٍ- أَبَدًا؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مَحْجُوبَةٌ فِي أَكِنَّةٍ، وَلِأَنَّ آذَانَهُمْ مُصَابَةٌ بِدَاءِ الصَّمَمِ؛ نَتِيجَةَ كَسْبِهِمُ الْإِرَادِيِّ الْخَاضِعِ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كَوْنِهِ.

وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ؛ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ)).

مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: صُحْبَةُ الْغَافِلِينَ مِنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ،  قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

{وَلَا تُطِعْ} مُثَبِّطًا لَكَ عَنْ عَمَلِكَ، أَوْ مُسْتَدْرِجًا إِيَّاكَ إِلَى مَزَالِقِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ مَنْ وَجَدْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِنَا، وَاتَّبَعَ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ مُتَفَلِّتًا عَلَى غَيْرِ هُدًى؛ فَكَانَتْ حَيَاتُهُ وَطَاقَاتُهُ مُبَدَّدَةً ذَاهِبَةً سَرَفًا وَتَضْيِيعًا.

((إِنَّ كَثْرَةَ الْخُلْطَةِ تُورِثُ الْقَلْبَ امْتِلَاءً مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَيُوجِبَ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ؛ مِنْ مَئُونَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، مَعَ إِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقْسِيمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ؛ فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَلِلدَّارِ الْآخِرَةِ؟!!

هَذَا؛ وَكَمْ جَلَبَتْ خُلْطَةُ النَّاسِ مِنْ نِقْمَةٍ، وَدَفَعَتْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَأَنْزَلَتْ مِنْ مِحْنَةٍ، وَعَطَّلَتْ مِنْ مِنْحَةٍ، وَأَحَلَّتْ مِنْ رَزِيَّةٍ، وَأَوْقَعَتْ فِي بَلِيَّةٍ؟!! وَهَلْ آفَةُ النَّاسِ إِلَّا النَّاسُ؟!!

وَهَلْ كَانَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ أَضَرَّ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ؟!!

لَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ لَهُ سَعَادَةَ الْأَبَدِ -وَالنَّبِيُّ عِنْدَ رَأْسِهِ يَقُولُ: ((يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.. هِيَ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)).

فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانُ الْإِنْسِ: أَتَدَعُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ؟!!

فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: أَنَّهُ عَلَى دِينِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَدَخَلَ النَّارَ.

فَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِكَ، وَأَقْلِلْ مِنَ الْمُخَالَطَةِ عَلَى قَدْرِ وُسْعِكَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَقٌّ تُؤَدِّيهِ؛ مِنْ رَحِمٍ تَصِلُهُ، أَوْ بِرٍّ تَذْهَبُ بِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْزَمْ قَعْرَ بَيْتِكَ، وَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ نَبِيُّكَ ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ عَامَّتِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَضَرِّ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرٍ عَلَيْكَ.

وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوْعِ مَوَدَّةٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَضَاءِ وَطَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ هَذِهِ الْخُلْطَةُ تَنْقَلِبُ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ عَدَاوَةً، وَيَعَضُّ الْمُخَالِطُ عَلَيْهَا يَدَيْهِ نَدَمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].

 وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

 وَقَالَ خَلِيلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت: 25])).

*مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: تَرْكُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَوِ التَّهَاوُنُ بِهَا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)).

وَعَنْ أَبِي جَعْدٍ الضَّمْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ)).

*مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: تَرْكُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ)).

*مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: طُولُ الْأَمَلِ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].

هَذَا هُوَ الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا يَعْنِي: رَسَمَ مُرَبَّعًا عَلَى الْأَرْضِ-، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ يَعْنِي: مِنْ هَذَا الْمُرَبَّعِ-، وَخَطَّ خُطُوطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ.

وَقَالَ: ((هَذَا الْإِنْسَانُ، وَأَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ -فَالْأَمَلُ خَارِجَ الْأَجْلِ؛ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ؟!-، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ -أَعْرَاضُ الدُّنْيَا-، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنْكِبَيَّ، فَقَالَ: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ))، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: ((إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)).

*مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ: كَثْرَةُ الضَّحِكِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي خَمْسَ خِصَالٍ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا))، وَقَالَ: ((اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ)).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قَالَ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)).

((خُطُورَةُ الْغَفْلَةِ وَعَوَاقِبُهَا))

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الْغَفْلَةَ مَرَضٌ فَتَّاكٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ مِنْهَا، وَبَيَّنَ عِقَابَ مَنْ وَقَعَ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ آيَاتِ اللهِ وَالتَّكْذِيبَ بِهَا يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 135-136].

((فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ حِينَ جَاءَ الْأَجَلُ الْمُحَدَّدُ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَذَلِكَ بِإِحْلَالِ نِقْمَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ إِغْرَاقُهُمْ فِي الْبَحْرِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَكَانُوا عَنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ غَافِلِينَ، وَتِلْكَ الْغَفْلَةُ هِيَ سَبَبُ التَّكْذِيبِ)).

*مِنْ عَوَاقِبِ الْغَفْلَةِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ: عَدَمُ التَّوْفِيقِ لِلْهِدَايَةِ، وَالْحِرْمَانُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالْفِقْهِ لِلْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].

((سَأَصْرِفُ عَنْ فَهْمِ الْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِي وَشَرِيعَتِي وَأَحْكَامِي قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَالْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَلَا يَتَّبِعُونَ نَبِيًّا وَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ لِتَكَبُّرِهِمْ، وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا؛ لِإِعْرَاضِهِمْ وَمُحَادَّتِهِمْ للهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الصَّلَاحِ لَا يَتَّخِذُوهُ طَرِيقًا، وَإِنْ يَرَوْا طَرِيقَ الضَّلَالِ -أَيِ: الْكُفْرِ- يَتَّخِذُوهُ طَرِيقًا وَدِينًا؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي دَلَالَاتِهَا)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَرَدُّهُمْ لِآيَاتِ اللهِ، وَغَفْلَتُهُمْ عَمَّا يُرَادُ بِهَا، وَاحْتِقَارُهُمْ لَهَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْغَيِّ، وَتَرْكِ طَرِيقِ الرَّشَادِ مَا أَوْجَبَ)).

خَامِسًا: الْغَفْلَةُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7-8].

((إِنَّ الَّذِينَ لَا يَطْمَعُونَ فِي لِقَائِنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِوَضًا عَنِ الْآخِرَةِ، وَرَكَنُوا إِلَيْهَا، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ سَاهُونَ؛ أُولَئِكَ مَقَرُّهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ؛ جَزَاءً بِمَا يَكْسِبُونَ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الْآثَامِ وَالْخَطَايَا)).

*مِنْ عَوَاقِبِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَآيَاتِهِ: ضِيقُ الْمَعِيشَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

((مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِي الَّذِي أُذَكِّرُهُ بِهِ فَإِنَّ لَهُ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مَعِيشَةً ضَيِّقَةً شَاقَّةً -وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْيَسَارِ-، وَيُضَيَّقُ قَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعَذَّبُ فِيهِ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى عَنِ الرُّؤْيَةِ وَعَنِ الْحُجَّةِ)).

مِنْ عُقُوبَاتِ الْغَفْلَةِ: تَسَلُّطُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْغَافِلِ، فَالذَّاكِرُ رَبَّهُ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَالْغَافِلُ السَّاهِي عُرْضَةٌ لِسِهَامِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1-6].

((هَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِرَبِّ النَّاسِ وَمَالِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الشُّرُورِ كُلِّهَا وَمَادَّتُهَا، الَّذِي مِنْ فِتْنَتِهِ وَشَرِّهِ: أَنَّهُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ؛ فَيُحَسِّنُ لَهُمُ الشَّرَّ، وَيُرِيهِمْ إِيَّاهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَيُنَشِّطُ إِرَادَتَهُمْ لِفِعْلِهِ، وَيُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْخَيْرِ، وَيُرِيهِمْ إِيَّاهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ، وَهُوَ دَائِمًا بِهَذِهِ الْحَالِ؛ يُوَسْوِسُ ثُمَّ يَخْنَسُ؛ أَيْ: يَتَأَخَّرُ إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى دَفْعِهِ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ وَيَسْتَعِيذَ وَيَعْتَصِمَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ)).

وَعَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي)).

قَالَ: ((فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ.

وَذَكَرَ مِنْهَا: وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا, وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ, فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا, وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ))..

فَتَنْظُرُ -الْآنَ- إِلَى الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ: إِلَى رَجُلٍ يَتْبَعُهُ الْأَعْدَاءُ, وَهُوَ يَعْدُو جَاهِدًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ تَوَقَّفَ فَفِي التَّوَقُّفِ هَلَاكُهُ وَقَتْلُهُ, فَهُوَ يَمْضِي لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ, وَيَبْذُلُ غَايَةَ الْجَهْدِ، وَالْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ, وَالْعَدُوُّ يَكَادُ يُدْرِكُهُ, يَكَادُ يُمْسِكُ بِهِ يَلْحَقُهُ؛ ((فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)).

فَضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَثَلَ فِي هَذَا الَّذِي أَوْحَى بِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا (سلم2)؛ بِأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا ((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا))، وَقَيَّدَهُ بِالْكَثْرَةِ عَلَى إِطْلَاقِ الْكَثْرَةِ, وَلَمْ يَأْمُرْ بِذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ, وَإِنَّمَا ((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ -يَعْنِي: وَمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا- كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ, فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)).

فالَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا كَأَنَّمَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ, وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ.

*الْغَفْلَةُ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَذِكْرِهِ سَبَبٌ فِي الْحِرْمَانِ وَالْخُسْرَانِ؛ فَمَنِ اسْتَوْلَتِ الْغَفْلَةُ عَلَى قَلْبِهِ ضَلَّ وَتَاهَ وَفَقَدَ كُلَّ خَيْرٍ، فَتَرَاهُ يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَعِيشُ الْأَنْعَامُ؛ لَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهَوْتِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ اللهِ، وَعَنْ مَصِيرِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ؛ بِسَبَبِ انْشِغَالِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

*الْغَفْلَةُ سَبَبٌ فِي الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ؛ فَسَيَتَجَرَّعُ مَرَارَةَ الْحَسْرَةِ كُلُّ مَنْ غَفَلَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَآيَاتِهِ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ نَدَمٌ، وَلَا تُغْنِي حَسْرَةٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].

(({وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أَيْ: أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} أَيْ: فُصِلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَدَخَلَ كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، {وَهُمْ} أَيِ: الْيَوْمَ {فِي غَفْلَةٍ} عَمَّا أُنْذِرُوا بِهِ {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ)).

حِينَهَا يَلُومُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَيُعَاتِبُهَا عَلَى غَفْلَتِهَا وَضَلَالِهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ لَوْمٌ وَلَا عِتَابٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97].

(({وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ؛ أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ قَالَ الْكَافِرُونَ: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8]؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ: {يَا وَيْلَنَا} أَيْ: يَقُولُونَ: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا؛ {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}: يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ)).

((سَبِيلُ النَّجَاةِ مِنَ الْغُرُورِ وَالْغَفْلَةِ))

((كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ اعْتَمَدُوا عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ، وَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَنَسُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانِدِ.

قَالَ مَعْرُوفٌ: ((رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْكَ فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لَا تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا)).

وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: ((نَرَاكَ طَوِيلَ الْبُكَاءِ، فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ وَلَا يُبَالِي)).

وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ، لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ)).

وَسَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ: ((يَا أَبَا سَعِيدٍ! كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ؟)).

فَقَالَ: ((وَاللَّهِ! لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ)).

وَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَطُوفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)).

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: ((مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: ((أُفٍّ لَكَ، أُفٍّ لَكَ))، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي، قَالَ: ((لَا، وَلَكِنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا عَلَى آلِ فُلَانٍ، فَغَلَّ نَمِرَةً، فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلَهَا مِنْ نَارٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ!!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَسَنٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ! ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)).

فَقُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؛ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ)).

وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِّلْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ رَأَسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ تُحِلُّ سَخَطَ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِشَوَاهِدِهِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرْنَا؛ فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَامَى عَنْهَا، وَيُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْمَعَاصِي، وَيَتَعَلَّقَ بِحَبْلِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ.

قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: ((احْذَرْهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِهِ؛ فَإِنَّهُ قَطَعَ الْيَدَ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَجَلَدَ الْحَدَّ فِي مِثْلِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنَ الْخَمْرِ، وَقَدْ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، وَاشْتَعَلَتِ الشَّمْلَةُ نَارًا عَلَى مَنْ غَلَّهَا وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا)).

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا فِي كِتَابِ ((الزُّهْدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفٍ عَلَى سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: ((دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ)).

قَالُوا: ((وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

قَالَ: ((مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، قَالُوا: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ)).

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْعَبْدُ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

وَرُبَّمَا اتَّكَلَ بَعْضُ الْمُغْتَرِّينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 44])). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَاحْذَرْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ يَسْتَدْرِجُكَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 33-35].

وَقَدْ رَدَّ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مَنْ يَظُنُّ هَذَا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [سُورَةُ الْفَجْرِ: 15-17] أَيْ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ نَعَّمْتُهُ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ وَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، بَلْ أَبْتَلِي هَذَا بِالنِّعَمِ، وَأُكْرِمُ هَذَا بِالِابْتِلَاءِ)).

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((لَكِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ)).

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((رُبَّ مُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَرُبَّ مَغْرُورٍ بِسَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَرُبَّ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ)).

وَأَعْظَمُ النَّاسِ غُرُورًا مَنِ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَعَاجَلَهَا، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَرَضِيَ بِهَا مِنَ الْآخِرَةِ؛ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الدُّنْيَا نَقْدٌ، وَالْآخِرَةُ نَسِيئَةٌ، وَالنَّقْدُ أَنْفَعُ مِنَ النَّسِيئَةِ!

وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: ((ذَرَّةٌ مَنْقُودَةٌ، وَلَا دُرَّةٌ مَوْعُودَةٌ!)).

وَيَقُولُ آخَرُ مِنْهُمْ: ((لَذَّاتُ الدُّنْيَا مُتَيَقَّنَةٌ، وَلَذَّاتُ الْآخِرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَلَا أَدَعُ الْيَقِينَ لِلشَّكِّ!)).

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ، وَالْبَهَائِمُ الْعُجْمُ أَعْقَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا خَافَتْ مَضَرَّةَ شَيْءٍ لَمْ تُقْدِمْ عَلَيْهِ وَلَوْ ضُرِبَتْ، وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُ أَحَدُهُمْ عَلَى عَطَبِهِ وَهُوَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.

فَهَذَا الضَّرْبُ إِنْ آمَنَ أَحَدُهُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِقَائِهِ وَالْجَزَاءِ؛ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عِلْمٍ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَبْعِدْ بِهُ.

وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ: النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ!

جَوَابُهُ: أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ فَالنَّقْدُ خَيْرٌ، وَإِنْ تَفَاوَتَا وَكَانَتِ النَّسِيئَةُ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ فَهِيَ خَيْرٌ؛ فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْآخِرَةِ؟!!

كَمَا فِي ((مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)) وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْمُسْتَوْرَدِ بْنِ شَدَّادٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ؛ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ!)).

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ؛ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ!)).

فَإِيثَارُ هَذَا النَّقْدِ عَلَى هَذِهِ النَّسِيئَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ وَأَقْبَحِ الْجَهْلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا نِسْبَةَ الدُّنْيَا بِمَجْمُوعِهَا إِلَى الْآخِرَةِ؛ فَمَا مِقْدَارُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ؟!!

فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْعَاقِلِ؛ إِيثَارُ الْعَاجِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَحِرْمَانُ الْخَيْرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، أَمْ تَرْكُ شَيْءٍ صَغِيرٍ حَقِيرٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ قَرِيبٍ؛ لِيَأْخُذَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا خَطَرَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ لِعَدَدِهِ، وَلَا غَايَةَ لِأَمَدِهِ؟!!

وَأَمَّا قَوْلُ الْآخَرِ: لَا أَتْرُكُ مُتَيَقَّنًا لِمَشْكُوكٍ فِيهِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، أَوْ تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ فَمَا تَرَكْتَ إِلَّا ذَرَّةً عَاجِلَةً مُنْقَطِعَةً فَانِيَةً عَنْ قَرِيبٍ لِأَمْرٍ مُتَيَقَّنٍ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا انْقِطَاعَ لَهُ.

وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَكٍّ فَرَاجِعْ آيَاتِ الرَّبِّ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَتَجَرَّدْ وَقُمْ لِلَّهِ نَاظِرًا أَوْ مُنَاظِرًا؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ- عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ خَالِقَ هَذَا الْعَالَمِ وَرَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ وَيَتَنَزَّهُ وَيَجِلُّ عَنْ خِلَافِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ.

وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ شَتَمَهُ وَكَذَّبَهُ، وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ؛ إِذْ مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْحَقُّ عَاجِزًا، أَوْ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى، وَلَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ، وَلَا يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُرْسِلُ رُسُلَهُ إِلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ وَنَوَاحِيهَا، وَلَا يَعْتَنِي بِأَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، بَلْ يَتْرُكُهُمْ سُدًى، وَيُخَلِّيهِمْ هَمَلًا، وَهَذَا يَقْدَحُ فِي مُلْكِ آحَادِ مُلُوكِ الْبَشَرِ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ إِلَيْهِ؟!!

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ حَالَهُ مِنْ مَبْتَدَأِ كَوْنِهِ نُطْفَةً إِلَى حِينِ كَمَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ؛ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَنْ عُنِيَ بِهِ هَذِهِ الْعِنَايَةَ، وَنَقَلَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَصَرَّفَهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ وَيَتْرُكَهُ سُدًى، لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ، وَلَا يُعَرِّفُهُ بِحُقُوقِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُثِيبُهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ.

وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَكَانَ كُلُّ مَا يُبْصِرُهُ وَمَا لَا يُبْصِرُهُ دَلِيلًا لَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سُورَةُ الحاقة: 38-40].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 21].

إِنَّ الْإِنْسَانَ دَلِيلُ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ.

فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمُضَيِّعَ مَغْرُورٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: تَقْدِيرِ تَصْدِيقِهِ وَيَقِينِهِ، وَتَقْدِيرِ تَكْذِيبِهِ وَشَكِّهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيَتَخَلَّفُ الْعَمَلُ؟

وَهَلْ فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ غَدًا إِلَى بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْمُلُوكِ لِيُعَاقِبَهُ أَشَدَّ عُقُوبَةٍ، أَوْ يُكْرِمَهُ أَتَمَّ كَرَامَةٍ، وَيَبِيتُ سَاهِيًا غَافِلًا، لَا يَتَذَكَّرُ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَلَا يَسْتَعِدُّ لَهُ، وَلَا يَأْخُذُ لَهُ أُهْبَتَهُ؟!!

قِيلَ: هَذَا -لَعَمْرُ اللَّهِ- سُؤَالٌ صَحِيحٌ وَارِدٌ عَلَى أَكْثَرِ هَذَا الْخَلْقِ، فَاجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ:

أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْعِلْمِ، وَنُقْصَانُ الْيَقِينِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ فَقَوْلُهُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَبْطَلِهَا.

وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى عِيَانًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِيَزْدَادَ طُمَأْنِينَةً، وَيَصِيرَ الْمَعْلُومُ غَيْبًا شَهَادَةً عِنْدَهُ.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) وَ((الْكَبِيرِ))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ عَدَمُ اسْتِحْضَارِهِ، أَوْ غَيْبَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَقَاضِي الطَّبْعِ، وَغَلَبَاتُ الْهَوَى، وَاسْتِيلَاءُ الشَّهْوَةِ، وَتَسْوِيلُ النَّفْسِ، وَغُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَاسْتِبْطَاءُ الْوَعْدِ، وَطُولُ الْأَمَلِ، وَرَقْدَةُ الْغَفْلَةِ، وَحُبُّ الْعَاجِلَةِ، وَرُخَصُ التَّأْوِيلِ، وَإِلْفُ الْعَوَائِدِ؛ فَهُنَاكَ لَا يُمْسِكُ الْإِيمَانَ إِلَّا الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَبِهَذَا السَّبَبِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْقَلْبِ.

وَجِمَاعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ وَالصَّبْرِ؛ وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةَ الدِّينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ: 24]

وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ، وَأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَسَاقَ إِلَيْهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ دَعَا إِلَى الْبَطَالَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ غُرُورٌ، حُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ، فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ هَادِيًا لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، وَزَاجِرًا لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ؛ فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ، وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً، وَرَجَاؤُهُ بَطَالَةً وَتَفْرِيطًا فَهُوَ الْمَغْرُورُ.

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ غَلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ، فَأَهْمَلَهَا، وَلَمْ يَبْذُرْهَا، وَلَمْ يَحْرُثْهَا، وَحَسَّنَ ظَنَّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مَغَلِّهَا مَا يَأْتِي مِنْ غَيْرِ حَرْثٍ، وَبَذْرٍ، وَسَقْيٍ، وَتَعَاهُدِ الْأَرْضِ؛ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلَا زَوَاجٍ، أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ لِلْعِلْمِ، وَحِرْصٍ تَامٍّ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 218]

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ رَجَاءَهُمْ إِتْيَانَهُمْ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ؟

وَقَالَ الْمُغْتَرُّونَ: إِنَّ الْمُفَرِّطِينَ الْمُضَيِّعِينَ لِحُقُوقِ اللَّهِ، الْمُعَطِّلِينَ لِأَوَامِرِهِ، الْبَاغِينَ عَلَى عِبَادِهِ، الْمُجْتَرِئِينَ عَلَى مَحَارِمِهِ؛ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ.

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّجَاءَ وَحُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ بِهَا، ثُمَّ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ أَلَّا يَكِلَهُ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُوصِلَةً لِمَا يَنْفَعُهُ، وَيَصْرِفَ مَا يُعَارِضُهَا، وَيُبْطِلَ أَثَرَهَا.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ.

الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ.

الثَّالِثُ: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ.

وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ، وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ.

وَفِي ((جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)). صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 57-61].

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: ((أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَزْنُونَ، وَيَسْرِقُونَ؟)).

فَقَالَ: ((لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)).

وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ الْخَوْفِ، وَوَصَفَ الْأَشْقِيَاءَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ الْأَمْنِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمَعْنَا بَيْنَ التَّقْصِيرِ -بَلِ التَّفْرِيطِ- وَالْأَمْنِ؛ فَهَذَا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ)).

وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ بِلِسَانِهِ، وَيَقُولُ: ((هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)).

وَكَانَ يَبْكِي كَثِيرًا، وَيَقُولُ: ((ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا)).

وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأُتِيَ بِطَائِرٍ فَقَلَّبَهُ ثُمَّ قَالَ: ((مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ وَلَا قُطِعَتْ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ)).

وَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ لِعَائِشَةَ: ((يَا بُنَيَّةُ! إِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ، وَهَذِهِ الْحِلَابَ -وَهُوَ إِنَاءٌ يُحْلَبُ فِيهِ-، وَهَذَا الْعَبْدَ؛ فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ! لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ)).

وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: ((وَدِدْتُ أَنِّي خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ)).

وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ إِلَى أَنْ بَلَغَ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [سُورَةُ الطُّورِ: 77] فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ.

وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ: ((وَيْحَكَ! ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ؛ عَسَى أَنْ يَرَى ذُلِّي فَيَرْحَمُنِي، ثُمَّ قَالَ: وَيْلَ أُمِّي إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي (ثَلَاثًا)، ثُمَّ قُضِي وَمَضَى)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا.

وَكَانَ فِي وَجْهِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ.

وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ، وَفَعَلَ وَفَعَلَ)).

فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ)).

وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ يَبْكِي حَتَّى تَبْتَلَّ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ: ((لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي؛ لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ)).

وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنَ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْأَمَلِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةَ قَدْ جَاءَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَنُونُ؛ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ)).

وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَدْ عَلِمْتَ؛ فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)).

وَكَانَ يَقُولُ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعِيدِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ)).

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَسْفَلُ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ.

وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: ((يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ)).

وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقَالَ: ((عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا، وَأَحْمِرَةٌ نَنْقُلُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ فِيهَا)).

وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 21]، فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي، وَأَكَلُوا لَحْمِي، وَحَسَوْا مَرَقِي)).

وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ)).

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا)).

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ)).

وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((مَا خَافَ النِّفَاقَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ)).

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنْشُدُكَ اللَّهَ! هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -يَعْنِي: فِي الْمُنَافِقِينَ-؟)).

يَخْشَى عُمَرُ الْفَارُوقُ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ ذَكَرَهُ لِصَاحِبِ السِّرِّ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.

فَيَقُولُ: ((يَا حُذَيْفَةُ! أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -يَعْنِي: فِي الْمُنَافِقِينَ-؟)).

فَيَقُولُ: ((لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)) )).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا يَقُولُ: لَيْسَ مُرَادُهُ لَا أُبْرِئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفَاقِ، بَلِ الْمُرَادُ: لَا أَفْتَحُ عَلَى نَفْسِي هَذَا الْبَابَ، فَكُلُّ مَنْ سَأَلَنِي هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُزَكِّيهِ)) )).

وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنَ الْغُرُورِ وَالْغَفْلَةِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَ((أَفْضَلُ مَا اكْتَسَبَتْهُ النُّفُوسُ وَحَصَّلَتْهُ الْقُلُوبُ، وَنَالَ بِهِ الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث}.

وَقَوْلِهِ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات}.

وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُلَاصَةُ الْوُجُودِ وَلُبُّهُ، وَالْمُؤَهَّلُونَ لِلْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ؛ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ غَالِطُونَ فِي حَقِيقَةِ مُسَمَّى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا السَّعَادَةُ وَالرِّفْعَةُ، غَالِطُونَ فِي حَقِيقَتِهِمَا؛ حَتَّى إِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَظُنُّ أَنَّ مَا مَعَهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ هُوَ هَذَا الَّذِي بِهِ تُنَالُ السَّعَادَةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ إِيمَانٌ يُنْجِي، وَلَا عِلْمٌ يَرْفَعُ، بَلْ قَدْ سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ جَاءَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَدَعَا إِلَيْهِمَا الْأُمَّةَ، وَكَانَ عَلَيْهِمَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَابِعُوهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ وَآثَارِهِمْ.

فَكُلُّ طَائِفَةٍ اعْتَقَدَتْ أَنَّ الْعِلْمَ مَا مَعَهَا وَفَرِحَتْ بِهِ، {تقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فَرِحُونَ}.

وَأَكْثَرُ مَا عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَآرَاءٌ وَخَرْصٌ، وَالْعِلْمُ وَرَاءَ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: قُلْتُ لِأَيُّوبَ: ((الْعِلْمُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ أَوْ فِيمَا تَقَدَّمَ؟)).

فَقَالَ: ((الْكَلَامُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَكْثَرُ)).

فَفَرَّقَ هَذَا الرَّاسِخُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، فَالْكُتُبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْكَلَامُ وَالْجِدَالُ وَالْمُقَدَّرَاتُ الذِّهْنِيَّةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْعِلْمُ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَكْثَرِهَا، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120].

وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] أَي: وَفِيهِ عِلْمُهُ.

وَلَمَّا بَعُدَ الْعَهْدُ بِهَذَا الْعِلْمِ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى أَنِ اتَّخَذُوا هَوَاجِسَ الْأَفْكَارِ وَسَوَانِحَ الْخَوَاطِرِ وَالْآرَاءِ عِلْمًا، وَوَضَعُوا فِيهَا الْكُتُبَ، وَأَنْفَقُوا فِيهَا الْأَنْفَاسَ، فَضَيَّعُوا فِيهَا الزَّمَانَ، وَمَلَأُوا بِهَا الصُّحُفَ مِدَادًا، وَالْقُلُوبَ سَوَادًا؛ حَتَّى صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عِلْمٌ، وَأَنَّ أَدِلَّتَهُمَا لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ يَقِينًا وَلَا عِلْمًا، وَصَرَخَ الشَّيْطَانُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهِمْ، وَأَذَّنَ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى أَسْمَعَهَا دَانِيهِمْ لِقَاصِيهِمْ، فَانْسَلَخَتْ بِهَا الْقُلُوبُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ كَانْسِلَاخِ الْحَيَّةِ مِنْ قِشْرِهَا، وَالثَّوْبِ عَنْ لَابِسِهِ.

حَكَى الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا اجْتَمَعُوا إِنَّمَا يَتَذَاكَرُونَ كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ، لَيْسَ بَيْنَهُمْ رَأْيٌ وَلَا قِيَاسٌ)).

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

الْعِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ                =     قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً    =   بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ

كَلَّا وَلَا جَحْدَ الصِّفَاتِ وَنَفْيَهَا        =    حَذَرًا مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ)).

((مَسَاكِينُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ!!))

عِبَادَ اللهِ! الْعِبَادَةُ كَمَالُ مَحَبَّةٍ فِي كَمَالِ تَعْظِيمٍ.

فَكَيْفَ تَكُونُ عَابِدًا وَلَسْتَ مُحِبًّا كَمَالَ مَحَبَّةٍ, وَلَسْتَ مُعَظِّمًا كمَالَ تَعْظِيمٍ حَتَّى تَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ؛ فَلَنْ تَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ حَقًّا وَصِدْقًا حَتَّى تَجْمَعَ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ فِي كَمَالِ الذُّلِّ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِعِبَادَتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّتِهِ، وَكَمَالَ تَعْظِيمِهِ، وَالذُّلَّ لَهُ, وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ, وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ, وَعَلَى ذَلِكَ وَضَعَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ, وَأُسِّسَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ, وَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ, وَكَمَا أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ فَلَيْسَ كَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ وَخَوْفِهِ مَحَبَّةٌ وَإِجْلَالٌ وَمَخَافَةٌ.

فَالْمَخْلُوقُ كُلَّمَا خِفْتَهُ اسْتَوْحَشْتَ مِنْهُ، وَهَرَبْتَ مِنْهُ, وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- كُلَّمَا خِفْتَهُ أَنِسْتَ بِهِ، وَفَرَرْتَ إِلَيْهِ.

الْمَخْلُوقُ إِذَا خِفْتَهُ فَرَرْتَ مِنْهُ, وَأَمَّا اللهُ فَإِذَا خِفْتَهُ فَرَرْتَ إِلَيْهِ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50].

وَالْمَخْلُوقُ يُخَافُ ظُلْمُهُ وَعُدْوَانُهُ, وَالرَّبُّ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا يُخَافُ عَدْلُهُ وَقِسْطُهُ.

الْمَخْلُوقُ يُخَافُ ظُلْمُهُ وَجَوْرُهُ وَعُدْوَانُهُ, وَالْخَالِقُ الْعَظِيمُ وَالرَّبُّ الْكَرِيمُ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا يُخَافُ عَدْلُهُ وَقِسْطُهُ؛ فَاللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِفَضْلِكَ, وَلَا تُعَامِلْنَا بِعَدْلِكَ.

كَانَ الصَّالِحُونَ إِذَا اجْتَهَدُوا فِي الدُّعَاءِ عَلَى رَجُلٍ قَالُوا: اللَّهُمَّ عَامِلْهُ بِعَدْلِكَ, فَإِذَا عَامَلَهُ بِعَدْلِهِ أَهْلَكَهُ.

فَمَا ظَنُّكَ بِرَبٍّ إِنَّمَا يُخَافُ عَدْلُهُ, فَإِذَا عَدَلَ فِيكَ أَهْلَكَكَ, وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ لِفَضْلِهِ، لَا لِيُقِيمَ عَلَيْكَ عَدْلَهُ.

كَذَلِكَ الْمَحَبَّةُ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَخْلُوقِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ فَهِيَ عَذَابٌ لِلْمُحِبِّ وَوَبَالٌ عَلَيْهِ, وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ التَّأَلُّمِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ, وَكُلَّمَا كَانَتْ أَبْعَدَ عَنِ اللهِ كَانَ أَلَمُهَا وَعَذَابُهَا أَعْظَمَ, هَذَا إِلَى مَا فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْكَ، وَالتَّجَنِّي عَلَيْكَ, وَعَدَمِ الْوَفَاءِ لَكَ؛ إِمَّا لِمُزَاحَمَةِ غَيْرِكَ مِنَ الْمُحِبِّينَ لَهُ, وَإِمَّا لِكَرَاهَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ لَكَ, وَإِمَّا لِاشْتِغَالِهِ عَنْكَ بِمَصَالِحِهِ وَمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْكَ, وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآفَاتِ.

وَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ- فَشَأْنُهَا غَيْرُ هَذَا الشَّأْنِ, فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الْقُلُوبِ مِنْ خَالِقِهَا وَفَاطِرِهَا, فَهُوَ إِلَهُهَا وَمَعْبُودُهَا، وَوَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، وَرَبُّهَا وَمُدَبِّرُهَا وَرَازِقُهَا، وَمُمِيتُهَا وَمُحْيِيهَا، فَمَحَبَّتُهُ نَعِيمُ النُّفُوسِ، وَحَيَاةُ الْأَرْوَاحِ، وَسُرُورُ النُّفُوسِ، وَقُوتُ الْقُلُوبِ, وَنُورُ الْعُقُولِ, وَقُرَّةُ الْعُيُونِ, وَعِمَارَةُ الْبَاطِنِ, خَرَابُ الْبَاطِنِ فِي فَقْدِهَا, وَعِمَارَةُ الْبَاطِنِ فِي وُجْدَانِهَا.

فَلَيْسَ عِنْدَ الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ وَالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ وَالْعُقُولِ الزَّاكِيَةِ أَحْلَى وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَلَا أَسَرَّ وَلَا أَنْعَمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ, وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ, وَالْحَلَاوَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُؤْمِنُ فِي قَلْبِهِ بِذَلِكَ فَوْقَ كُلِّ حَلَاوَةٍ, وَالنَّعِيمُ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ أَتَمُّ مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ, وَاللَّذَّةُ الَّتِي تَنَالُهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ، كَمَا أَخْبَرَ بَعْضُ الْوَاجِدِينَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هذا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ.

وَقَالَ آخَرُ: ((إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَهْتَزُّ فِيهَا طَرَبًا بِأُنْسِهِ بِاللَّهِ وَحُبِّهِ لَهُ)).

وَقَالَ آخَرُ: ((مَسَاكِينُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ؛ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا)). وَأَطْيَبُ مَا فِيهَا الْأُنْسُ بِاللَّهِ, وَالِانْطِرَاحُ عَلَى عَتَبَاتِ الرَّحَمَاتِ فِي جَوْفِ الظُّلُمَاتِ, بِسَفْحِ الْعَبَرَاتِ، وَصُعُودِ الْأَنَّاتِ مَعَ الزَّفَرَاتِ.

أَمَا جَرَّبْتَ خَلْوَةً بِلَيْلٍ تَقُومُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيْهِ مُسْتَغْفِرًا طَالِبًا مُنِيبًا مُخْبِتًا بَاكِيًا مُسْتَعْبِرًا, فَتَجِدُ حَلَاوَةَ الْأُنْسِ, وَتَجِدُ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ يَغْشَيَانِ الْقَلْبَ؟!

أَمَا وَجَدْتَ تَفْرِيجَ الْكُرُوبِ، وَتَحْصِيلَ الْمَطْلُوبِ، وَزَوَالَ الْمَرْهُوبِ؟!

فَأَيُّ ضَيَاعٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ضَيَاعِ مَنْ لَمْ يَطْرُقْ بَابَ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا يَرُدُّ طَالِبًا؟!!

أَيُّ ضَيَاعٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ضَيَاعِ مَنْ لَا يَأْنَسُ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُ وَأَلَمَّ بِهِ مَا يُوئِسُهُ مِنَ الْخَلْقِ, فَيَفْزَعُ إِلَى خَالِقِهِمْ, وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ؟!!

فَهَذَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا؛ لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ.

فَوَجْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَذَوْقُهَا هُوَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ وَضَعْفِهَا, وَبِحَسَبِ إِدْرَاكِ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ.

وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ أَكْمَلَ, وَإِدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ أَتَمَّ, وَالْقُرْبُ مِنْهُ أَوْفَرَ؛ كَانَتِ الْحَلَاوَةُ وَاللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ وَالنَّعِيمُ أَقْوَى.

فَمَنْ كَانَ بِاللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَعْرَفَ، وَفِيهِ أَرْغَبَ, وَلَهُ أَحَبُّ وَإِلَيْهِ أَقْرَبُ؛ وَجَدَ مِنْ هَذِهِ الْحَلَاوَةِ فِي قَلْبِهِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ, وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ.

وَمَتَى ذَاقَ الْقَلْبُ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُقْدِّمَ عَلَيْهِ حُبًّا لِغَيْرِهِ, وَلَا أُنْسًا بِهِ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبًّا ازْدَادَ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا وَخُضُوعًا وَرِقًّا، وَحُرِّيَّةً عَنْ رِقِّ غَيْرِهِ بِتَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ لِوَجْهِهِ.

فَالْقَلْبُ لَا يُفْلِحُ وَلَا يَصْلُحُ وَلَا يَتَنَعَّمُ وَلَا يَبْتَهِجُ وَلَا يَلْتَذُّ وَلَا يَطْمَئِنُّ وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ, وَلَوْ حَصَلَ لَهُ جَمِيعُ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا, وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهَا, بَلْ لَا تَزِيدُهُ إِلَّا فَاقَةً وَقَلَقًا حَتَّى يَظْفَرَ بِمَا خُلِقَ لَهُ وَهُيِّأَ لَهُ؛ مِنْ كَوْنِ اللهِ وَحْدَهُ نِهَايَةَ مُرَادِهِ، وَغَايَةَ مَطَالِبِهِ؛ فَإِنَّ فِي الْعَبْدِ فَقْرًا ذَاتِيًّا إِلَى رَبِّهِ وَإِلَهِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَإِلَهُهُ وَمَطْلُوبُهُ, كَمَا أَنَّ فِيهِ فَقْرًا ذَاتِيًّا إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَرَازِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ.

وَكُلَّمَا تَمَكَّنَتْ مَحَبَّةُ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ وَقَوِيَتْ فِيهِ خَرَجَ مِنْهُ تَأَلُّهُهُ لِمَا سِوَاهُ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ، فَأَصْبَحَ حُرًّا عِزَّةً وَصِيَانَةً، عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ.

وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ مَحَبَّةٌ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَطُمَأْنِينَةٌ لِذِكْرِهِ, وَتَنَعُّمٌ بِمَعْرِفَتِهِ, وَلَذَّةٌ وَسُرُورٌ بِذِكْرِهِ, وَشَوْقٌ إِلَى لِقَائِهِ, وَأُنْسٌ بِقُرْبِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يُحِسَّ بِهِ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِغَيْرِهِ, وَانْصِرَافِهِ إِلَى مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ.

فَوُجُودُ الشَّيْءِ غَيْرُ الْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ بِهِ.

وُجُودُ الشَّيْءِ شَيْءٌ, وَالْإِحْسَاسُ بِهِ وَالشُّعُورُ بِهِ شَيْءٌ، قَدْ يُوجَدُ الشَّيْءُ وَلَا يُحَسُّ وَلَا يُدْرَكُ.

وَقُوَّةُ ذَلِكَ وَضَعْفُهُ وَزِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ هُوَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ, وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ, وَمَتَى لَمْ يَكُنِ اللهُ وَحْدَهُ غَايَةَ مُرَادِ الْعَبْدِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ, وَهُوَ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ لَهُ بِالذَّاتِ وَالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ تَبَعًا لِأَجْلِهِ؛ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَكَانَ فِيهِ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَالشِّرْكِ، وَلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ ذَلِكَ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْعَذَابِ بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ, وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ بِكُلِّ طَرِيقٍ, وَاسْتَفْتَحَ بِكُلِّ بَابٍ, وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ, مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ, مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ فِي حُصُولِهِ, مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَوْفِيقِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِعَانَتِهِ، لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَطْلُوبُهُ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ, وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ, فَلَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِ سِوَاهُ, وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِوَاهُ, وَلَا يُعْبَدُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ, وَلَا يُطَاعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَالْعَبْدُ فِي حَالِ مَعْصِيَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ عَنْهُ بِشَهْوَتِهِ وَلَذَّتِهِ تَكُونُ تِلْكَ اللَّذَّةُ وَالْحَلَاوَةُ الْإِيمَانِيَّةُ قَدِ اسْتَتَرَتْ عَنْهُ وَتَوَارَتْ، أَوْ نَقَصَتْ أَوْ ذَهَبَتْ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً كَامِلَةً لَمَا قَدَّمَ عَلَيْهَا لَذَّةً وَشَهْوَةً، لَا نِسْبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ, بَلْ هِيَ أَدْنَى مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

لِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فَإِنَّ ذَوْقَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَمُبَاشَرَتَهُ لِقَلْبِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْخَسِيسَ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا يُشَعِّثُهُ وَيَنْقُصُهُ.

وَلِهَذَا تَجِدُ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ مُنِيبًا إِلَيْهِ, مُطْمَئِنًّا بِذِكْرِهِ, مُشْتَاقًا إِلَى لِقَائِهِ؛ تَجِدُ قَلْبَهُ مُنْصَرِفًا عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا, وَيَرَى اسْتِبْدَالَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ فِيهِ كَاسْتِبْدَالِهِ الْبَعْرَ الْخَسِيسَ بِالْجَوْهَرِ النَّفِيسِ, وَبَيْعَهُ الذَّهَبَ بِأَعْقَابِ الْجَزَرِ، وَبَيْعَهُ الْمِسْكَ بِالرَّجِيعِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ فيِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ, إِنَّمَا يَصْبُو إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَيَمِيلُ إِلَى مَا يُشَاكِلُهُ, فَيَنْفِرُ مِنَ الْمَطَالِبِ الْعَلِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْكَامِلَةِ كَمَا يَنْفِرُ الْجُعَلُ مِنْ رَائِحَةِ الْوَرْدِ.

وَشَاهَدْنَا مَنْ يُمْسِكُ بِأَنْفِهِ عِنْدَ وُجُودِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ, وَيَتَكَرَّهُ بِهَا؛ لِمَا يَنَالُهُ بِهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ.

فَمَنْ خُلِقَ لِلْعَمَلِ فِي الدِّبَاغَةِ لَا يَجِيءُ مِنْهُ الْعَمَلُ فِي صِنَاعَةِ الطِّيبِ, وَلَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ.

وَالنَّفْسُ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ هُوَ أَشَقُّ عَلَيْهَا مِنْ فَوَاتِ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ.

فَالذَّنْبُ يُعْدَمُ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لَهُ تَارَةً، لِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلِوُجُودِ الْمَانِعِ تَارَةً, وَمِنْ خَوْفِ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ.

فَالْأَوَّلُ: حَالُ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَوْقِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ وَالتَّنَعُّمِ بِهِ مَا عَوَّضَ قَلْبَهُ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الذُّنُوبِ.

وَالثَّانِي: حَالُ مَنْ عِنْدَهُ دَاعٍ وَإِرَادَةٌ لَهَا, وَعِنْدَهُ إِيمَانٌ وَتَصْدِيقٌ بِوَعْدِ اللهِ وَوَعِيدِهِ، وَهُوَ يَخَافُ إِنْ وَاقَعَ الذُّنُوبَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا هُوَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ وَأَشَقُّ عَلَيْهِ.

فَالْأَوَّلُ لِلنُّفُوسِ الْمُطْمَئِنَّةِ إِلَى رَبِّهَا.

وَالثَّانِي لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ.

وَهَاتَانِ النَّفْسَانِ هُمَا الْمَخْصُوصَتَانِ بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ, قَالَ -تَعَالَى- فِي النَّفْسِ الْأُولَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27-30].

وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110].

فَالنُّفُوسُ ثَلَاثَةٌ: نَفْسٌ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى رَبِّهَا, وَهِيَ أَشْرَفُ النُّفُوسِ وَأَزْكَاهَا.

وَنَفْسٌ مُجَاهِدَةٌ صَابِرَةٌ.

وَنَفْسٌ مَفْتُونَةٌ بِالشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى, وَهِيَ النَّفْسُ الشَّقِيَّةُ الَّتِي حَظُّهَا الْأَلَمُ وَالْعَذَابُ، وَالْبُعْدُ عَنِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْحِجَابُ)).

((تَيَقَّظْ وَانْتَبِهْ!))

«تَيَقَّظْ!! فَإِنَّ الْيَقَظَةَ هِيَ أَوَّلُ مَفَاتِيحِ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْغَافِلَ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَالتَّزَوُّدِ لِمَعَادَهِ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ، بَلْ أَسْوَءُ حَالًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْغَافِلَ يَعْلَمُ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَهُ، وَمَا يَتَقَاضَاهُ أَوَامِرُ الرَّبِّ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَأَحْكَامُهُ مِنَ الْحُقُوقِ, لَكِنْ يَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِدْرَاكِ، وَيُقْعِدُهُ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ؛ سِنَةُ الْقَلْبِ، وَهِيَ غَفْلَتُهُ، الَّتِي رَقَدَ فِيهَا فَطَالَ رُقُودُهُ، وَرَكَدَ وَأَخْلَدَ إِلَى نَوَازِعِ الشَّهَوَاتِ، فَاشْتَدَّ إِخْلَادُهُ، وَانْغَمَسَ فِي غِمَارِ الشَّهَوَاتِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْعَادَاتُ وَمُخَالَطَةُ أَهْلِ الْبَطَالَاتِ، وَرَضِيَ بِالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ إِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ، فَهُوَ فِي رُقَادِهِ مَعَ النَّائِمِينَ، وَفِي سَكْرَتِهِ مَعَ الْمَخْمُورِينَ.

فَمَتَى انْكَشَفَ عَنْ قَلْبِهِ سِنَةُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ بِزَجْرَةٍ مِنْ زَوَاجِرِ الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، اسْتَجَابَ فِيهَا لِوَاعِظِ اللهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ هِمَّةٍ عَليَّةٍ أَثَارَهَا مِعْوَلُ الْفِكْرِ فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، فَضَرَبَ بِمِعْوَلِ فِكْرِهِ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهَا قُصُورُ الْجَنَّةِ فَقَالَ:

أَلَا يَا نَفْسُ وَيْحَكِ سَاعِدِينِي * * * بِسَعْيٍ مِنْكِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي

لَعَلَّكِ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَفُوزِي * * * بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي تِلْكَ الْعَلَالِي

فَأَنَارَتْ تِلْكَ الْفِكْرَةُ نُورًا، رَأَى فِي ضَوْئِهِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَمَا سَيَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ دَارِ الْقَرَارِ، وَرَأَى سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَمَ وَفَائِهَا لِبَنِيهَا، وَقَتْلَهَا لِعُشَّاقِهَا، وَفِعْلَهَا بِهِمْ أَنْوَاعَ الْمَثُلَاتِ.

فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سَاقِ عَزْمِهِ، قَائِلًا: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}، فَاسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَدْرِكًا بِهَا مَا فَاتَ، مُحْيَيًا بِهَا مَا أَمَاتَ، مَسْتَقِيلًا بِهَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَثَرَاتِ، مُنْتَهِزًا فُرْصَةَ الْإِمْكَانِ الَّتِي إِنْ فَاتَتْ، فَاتَهُ جَمِيعُ الْخَيْرَاتِ.

ثُمَّ يَلْحَظُ فِي نُورِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ وُفُودَ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، مِنْ حِينِ اسْتَقَرَّ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِهِ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، يَقَظَةً وَمَنَامًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

فَلَوِ اجْتَهَدَ فِي إِحْصَاءِ أَنْوَاعِهَا لَمَا قَدَرَ، وَيَكْفِي أَنَّ أَدْنَاهَا نِعْمَةُ النَّفَسِ، وَللهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نِعْمَةٍ، بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَفَسٍ، وَكُلُّ نَفَسٍ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَا يَعْلَمُ حَقَّهَا وَقَدْرَهَا إِلَّا الْمَصْدُورُ الَّذِي يُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِ الْهَوَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ، أَنَّهُ آيِسٌ مِنْ حَصْرِهَا وَإِحْصَائِهَا، عَاجِزٌ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهَا، وَأَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَا، إِنْ طَالَبَهُ بِحُقُوقِهَا، اسْتَوَعَبَتْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ حَقُّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.

فَيَتَيَقَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لَهُ فِي النَّجَاةِ إِلَّا بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْبِرِّ؛ لَاحْتَقَرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنْبِ عَظَمَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.

مَا يَبْلُغُ عَمْلُكَ، وَمَا يَكُونُ؟!!

فَائِدَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَيْكَ، وَعَائِدَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْكَ، وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْهُ وَعَنِ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَا يُمْكِنُ لِعَبْدٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، هَذَا لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُكَ مِنْكَ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَجُرَّدُ فَضْلِ اللهِ وَمِنَّتُهُ وَإِحْسَانُهُ، حَيْثَ يَسَّرَهَا لَكَ، وَأَعَانَكَ عَلَيْهَا، وَهَيَّأَهَا لَكَ، وَشَاءَهَا مِنْكَ.

وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلْعَبْدِ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرَى الْعَبْدُ أَعْمَالَهُ مِنْهُ، بَلْ يَرَى رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ- مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ، مُمْتَنًّا بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْإِحْسَانَ مِنَ اللهِ، لَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّرُّ وَأَسْبَابُهُ، وَمَا بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ، صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَفَضْلًا مِنْهُ سَاقَهُ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِسَبَبٍ، وَيَسْتَأْهِلَهُ بِوَسِيلَةٍ، فَيَرَى رَبَّهُ وَوَلِيَّهُ وَمَعْبُودَهُ أَهْلًا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ شَرٍّ، وَهَذَا أَسَاسُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي دِيوَانِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ».

عِبَادَ اللهِ! مَا أَعْظَمَ الْغَفْلَةَ!! وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعَلَمَهَا، فَرَاقِبْ نَفْسَكَ فِي خَرِيطَةِ يَوْمِكَ، وَتَأَمَّلْ مُحْصِيًا عَلَى ذَاتِكَ غِيبَتَكَ، وَكَذِبَكَ.

هَذَا هُوَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَّأَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَرَبَّاهُ، فَمَلَكَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَدَانَ الْعَالَمُ كُلَّهُ لـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ عَنْ وَصْفِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

مَا الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؟

((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ، عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ، حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).

هَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُفَاوِتُونَ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ؛ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ؟

هَلْ حَرَصُوا عَلَى الْكَمِّ يَوْمًا دُونَ الْكَيْفِ؟

مَا الْتَفَتُوا إِلَيْهِ.

{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وَكَانُوا فِي بَدْرٍ ثُلَّةً صَالِحَةً مُؤْمِنَةً مُوَحِّدَةً، وَكَانُوا فِي حُنَيْنَ كَثْرَةً كَاثِرَةً، وَتَفَاوَتَ مَا بَيْنَ النَّتِيجَتَيْنِ بَدْءًا وَمُنْتَهًى، فَتَأَمَّلْ...

فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا يَصْلُحُ آخِرُهَا إِلَّا بِمَا صَلُحَ عَلَيْهِ أَوَّلُّهَا، بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

يَا طُلَّابَ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النّبُّوةِ وَمَنْهَجِ السَّلَفِ، يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ فِي بَيَانِ مِنْهَاجِ النَّبُوَّةِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

وَهَذَا أَصْلٌ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ: ((أَخْبَرَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ، حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، وَيَعَمَلُوا بِهِنَّ)).

إِنَّمَا تَتَعَلَّمُ لِتَعْمَلَ، أَمَّا هَذَا الْهَرَجُ الْهَارِجُ، وَهَذَا الْعَبَثُ الْعَابِثُ، فَلَا يَزِيدُكَ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا.

تَيَّقَظْ، وَتُبْ، وَأَنِبْ، وَاسْتَغْفِرْ، وَعُدْ، وَاقْرِنْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَدَعْكَ مِنْ بَهَارِجِ الزِّينَةِ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ وَأَرْشَدَنَا إِلَى صِرَاطِهِ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  رِعَايَةُ الْأَيْتَامِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَمُجْتَمَعِيٌّ
  سُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  الأسماء والصفات أصل العلم
  الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر
  شعار الفاتيكان .. النجاسة من الإيمان !!
  الْإِسْلَامُ دِينُ النَّظَافَةِ
  فِقْهُ بِنَاءِ الدُّوَلِ
  الصَّانِعُ الْمُتْقِنُ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 2
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان