تَارِيخُ الْقُدْسِ وَالْأَقْصَى وَعَدَاوَةُ الْيَهُودِ

تَارِيخُ الْقُدْسِ وَالْأَقْصَى وَعَدَاوَةُ الْيَهُودِ

مَجْمُوعُ الْخُطَبِ الْمِنْبَرِيَّةِ

 ((تَارِيخُ الْقُدْسِ وَالْأَقْصَى وَعَدَاوَةُ الْيَهُودِ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مُوجَزُ تَارِيخِ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى))

فَلَقَدْ مَضَى عَلَى احْتِلَالِ الْيَهُودِ لِشَرْقَيِّ الْقُدْسِ الَّذِي يَحْتَوِي عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى نَحْوُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُمْ يَعِيثُونَ بِهِ فَسَادًا، وَبِأَهْلِهِ عَذَابًا.

وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1396 هـ) أَصْدَرَتْ مَحْكَمَةٌ يَهُودِيَّةٌ حُكْمًا بِجَوَازِ تَعَبُّدِ الْيَهُودِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَضْمُونُ هَذَا الْحُكْمِ الْيَهُودِيِّ الطَّاغُوتِيِّ: إِظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَسْجِدٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ حُرْمَةً؛ فَإِنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَيْهِ لِيَعْرُجَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَى إِلَى اللهِ -جَلَّ وَتَقَدَّسَ وَعَلَا-، وَإِنَّهُ لَثَانِي مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ لِعِبَادَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَتَوْحِيدِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟)).

قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).

قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى)).

قُلْتُ: ((كَمْ بَيْنَهُمَا؟)).

قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً)).

إِنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لَثَالِثُ الْمَسَاجِدِ الْمُعَظَّمَةِ الَّتِي لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَيْهَا؛ وَهِيَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمَكَّةَ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فِي الْقُدْسِ.

إِنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي يَقَعُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُبَارَكَةِ؛ مَقَرِّ أَبِي الْأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَمَقَرِّ بَنِيهِ سِوَى إِسْمَاعِيلَ، مَقَرِّ إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ إِلَى أَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ إِلَى ابْنِهِ يُوسُفَ فِي مِصْرَ، فَبَقَوْا هُنَاكَ حَتَّى صَارُوا أُمَّةً بِجَانِبِ الْأَقْبَاطِ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَهُمْ حَتَّى خَرَجَ فِيهِمْ مُوسَى ﷺ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- نِعْمَتَهُ بِذَلِكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}  [البقرة: 49].

وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ؛ إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكًا، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فِي وَقْتِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِجِهَادِ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَبَشَّرَهُمْ بِالنَّصْرِ؛ حَيْثُ قَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21].

وَإِنَّمَا كَتَبَهَا اللهُ -تَعَالَى- لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَالشَّرِيعَةِ الْقَائِمَةِ، وَأَرْضُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَرِثُهَا مِنْ عِبَادِ اللهِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَائِمًا بِأَمْرِ اللهِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 104-106].

وَلَكِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِمُوسَى، وَنَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَقَالُوا لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

وَلِنُكُولِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَمُخَاطَبَتِهِمْ نَبِيَّهُمْ بِهَذَا الْعِنَادِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى مَاتَ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ إِلَّا مَنْ وُلِدُوا فِي التِّيهِ، وَذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- مَاتَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ.

وَخَلَفَهُمَا يُوشَعُ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّشْءِ الْجَدِيدِ، وَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَجَدَّدَا بِنَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ بَنَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا عَتَا بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنَ الْفُرْسِ يُقَالُ لَهُ (بُخْتُنُصَّرَ)، فَدَمَّرَ بِلَادَهُمْ، وَبَدَّدَهُمْ قَتْلًا، وَأَسْرًا، وَتَشْرِيدًا، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى.

ثُمَّ رَدَّ اللهُ -تَعَالَى- الْكَرَّةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَدَّهُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَجَعَلَهُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا؛ وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا مَا جَرَى عَلَيْهِمْ، وَكَفَرُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].

فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ مُلُوكِ الْفُرْسِ أَوِ الرُّومِ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاحْتَلُّوا بِلَادَهُمْ، وَأَذَاقُوهُمُ الْعَذَابَ، ثُمَّ بَقِيَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بِأَيْدِي النَّصَارَى مِنَ الرُّومِ مِنْ قَبْلِ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوِ ثَلَاثِ مِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى أَنْقَذَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ أَيْدِيهِمْ بِالْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى يَدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ (15 هـ)، فَصَارَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بِيَدِ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَرِثُوهُ بِحَقٍّ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

وَبَقِيَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الصَّلِيبِيُّونَ أَيَّامَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ الَّتِي حَدَثَتْ بَيْنَ الصَّلِيبِيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الصَّلِيبِيُّونَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ (23 شعبان 492 هـ)، فَدَخَلُوا الْقُدْسَ فِي نَحْوِ مِلْيُونِ مُقَاتِلٍ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ سِتِّينَ أَلْفًا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مَا فِي الْمَسْجِدِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.

وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَظْهَرَ الصَّلِيبِيُّونَ شَعَائِرَهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَنَصَبُوا الصَّلِيبَ، وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ، وَحَلَّتْ فِي الْمَسْجِدِ عَقِيدَةُ التَّثْلِيثِ، قَالُوا: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَعَقِيدَةُ وِحْدَةِ الْوُجُودِ وَالْحُلُولِ، قَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ، وَعَقِيدَةُ الْآبِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَهَذِهِ -وَاللهِ- مِنْ أَكْبَرِ الْفِتَنِ وَأَعْظَمِ الْمِحَنِ.

وَبَقِيَ الصَّلِيبِيُّونَ مُحْتَلِّينَ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ سَنَةً، حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ الْأَيُّوبِيِّ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (27 رجب 583 هـ)، فَكَانَ فَتْحًا مُبِينًا مَشْهُودًا، أَعَادَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَرَامَتَهُ، وَكُسِرَتْ فِيهِ الصُّلْبَانُ، وَنُودِيَ فِيهِ بَعْدَ النَّوَاقِيسِ بِالْأَذَانِ، وأُعْلِنَتْ فِيهِ عِبَادَةُ الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ.

ثُمَّ إِنَّ الصَّلِيبِيِّينَ أَعَادُوا الْكَرَّةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَضَيَّقُوا عَلَى الْمَلِكِ ابْنِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إِلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبِلَادِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسِتِّ مِائَةٍ (626 هـ)، فَعَادَتْ دَوْلَةُ الصَّلِيبِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَرَّةً أُخْرَى، وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَحَتْمًا مَفْعُولًا.

وَاسْتَمَرَّتْ أَيْدِي الصَّلِيبِيِّينَ عَلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ أَيُّوبُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّ مِائَةٍ (642 هـ)، وَبَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ.

وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ عَامِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1387 هـ) احْتَلَّهُ الْيَهُودُ أَعْدَاءُ اللهِ وَأَعْدَاءُ رُسُلِهِ بِمَعُونَةِ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ النَّصَارَى الصَّلِيبِيِّينَ.

وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1396 هـ) أَصْدَرُوا حُكْمًا بِجَوَازِ تَعَبُّدِ الْيَهُودِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.

وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1406 هـ) دَخَلَ الْمَسْجِدَ جَمَاعَةٌ مِنْ هَيْئَةِ حُكُومَتِهِمُ الْبَرْلَمَانِ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ (الْكِنِيسِت)، وَطَافُوا بِالْمَسْجِدِ، وَلَا نَدْرِي مَاذَا يُرِيدُونَ؛ لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى احْتِلَالِهِمْ لَهُ، وَلَقَدْ قَالَتْ رَئِيسَةُ وُزَرَائِهِمْ حِينَ احْتِلَالِهِمْ لِلْمَسْجِدِ: ((إِنْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَتَنَازَلَ الْيَهُودُ عَنْ تَلّ أَبِيب؛ فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَتَنَازَلَ عَنْ أُورْشَلِيم الْقُدْسِ)).

((سُبُلُ عَوْدَةِ الْقُدْسِ))

نَعَمْ؛ لَنْ يَتَنَازَلَ الْيَهُودُ عَنِ الْقُدْسِ إِلَّا بِالْقُوَّةِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِنَصْرٍ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا نَصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلَّا بِنَصْرِ دِينِهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

إِنَّ نَصْرَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَكُونُ إِلَّا بِعِبَادَتِهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ -تَعَالَى-، وَإِعْدَادِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِكُلِّ مَا نَسْتَطِيعُ، ثُمَّ الْقِتَالِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.

أَمَّا أَنْ نُحَاوِلَ طَرْدَ أَعْدَاءِ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ بِلَادِنَا، ثُمَّ نُسْكِنُهُمْ فِي قُلُوبِنَا بِالْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَفْكَارِهِمْ، وَالتَّلَطُّخِ بِسَافِلِ أَخْلَاقِهِمْ!

أَمَّا أَنْ نُحَاوِلَ طَرْدَهُمْ مِنْ بِلَادِنَا، ثُمَّ يُلَاحِقُهُمْ شَبَابٌ مِنْ مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِنَا يَتَجَرَّعُونَ أَوْ يَسْتَمِدُّونَ صَدِيدَ أَفْكَارِهِمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ يَتَقَيَّؤُونَهُ بَيْنَنَا!

أَمَّا أَنْ نُحَاوِلَ طَرْدَهُمْ مِنْ بِلَادِنَا، ثُمَّ نَسْتَقْبِلُ مَا يَرِدُ مِنْهُمْ مِنْ أَفْلَامٍ فَاتِنَةٍ، وَصُحُفٍ مُضِلَّةٍ!

أَمَّا أَنْ نُحَاوِلَ طَرْدَهُمْ مِنْ بِلَادِنَا وَنَحْنُ نُمَارِسُ هَذِهِ الْأُمُورَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُحَاوَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَكَ مَسْلَكًا غَيْرَ سَلِيمٍ!

إِنَّ الْفَجْوَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّصْرِ وَاسِعَةٌ، إِنْ سَلَكْنَا هَذَا الْمَسْلَكَ؛ لِأَنَّ لِلنَّصْرِ شُرُوطًا لَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِهَا، اسْمَعُوهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِأَمْرِهِ النَّصْرُ وَالْخِذْلَانُ، يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

فَمَنِ الَّذِي يَنْصُرُ اللهَ؟

اسْتَمِعْ إِلَى الْجَوَابِ مِنْ كَلَامِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

نَعَمْ، إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَحْمِلُهُمُ التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ.

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، وَأَقِيمُوا شَرِيعَتَهُ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

((دُرُوسٌ وَعِبَرٌ مِنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ))

الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى أُولَى الْقِبْلَتَيْنِ؛ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وُجِّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَالِابْتِهَالَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

((وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا أُمَّ بِشْرِ بِنْ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَصَنَعَتْ لَهُ طَعَامًا، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ فِي مَسْجِدٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَشَارَ أَنْ صَلِّ إِلَى الْبَيْتِ، وَصَلَّى جِبْرِيلُ إِلَى الْبَيْتِ، فَاسْتَدَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَاسْتَقْبَلَ الْمِيزَابَ، فَتَحَوَّلَتِ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ، وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَسْجِدُ (مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ)، فَخَرَجَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِبَنِي حَارِثَةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَالَ: ((أَشْهَدُ بِاللهِ! لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ الْبَيْتِ، فَاسْتَدَارُوا)).

قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: ((وَأَتَانَا آتٍ وَنَحْنُ نُصَلِّي فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ أُمِرَ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَدَارَنَا إِمَامُنَا إِلَى الْكَعْبَةِ وَدُرْنَا مَعَهُ)).

قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((وَبَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ)).

وَعَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ: أَخْوَالِهِ- مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ! لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ)) ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي بَنِي سَلِمَةَ لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الْعَصْرُ)).

وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِيرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ:

* قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَانَ للهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ تَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَقَالُوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا، وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهَا الْحَقُّ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَكَانَ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ، وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ، وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنَ اللهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ؛ لِيَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)).

* وَمِنَ الْفَوَائِدِ: عَنْ قَتَادَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لِمَ سُمُّوا الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ؟ قَالَ: مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْقِبْلَتَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ)).

وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: ((الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ أَدْرَكَ الْبَيْعَةَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)).

* وَمِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّنَا نَرَى فِي مَوْقِفِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ سُرْعَةَ مُبَادَرَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَالْخَبَرُ يَبْلُغُهُمْ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، فَيَسْتَدِيرُونَ وَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَعِنْدَمَا أَتَى رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: ((أَشْهَدُ بِاللهِ! لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ))؛ إِذَا بِهِمْ يُبَادِرُونَ بِالتَّحَوُّلِ إِلَى الْقِبْلَةِ الْجَدِيدَةِ فَوْرًا، دُونَ سُؤَالٍ أَوِ اسْتِفْسَارٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِ؛ الِاتِّبَاعُ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَمَلِ بِالنَّصِّ فَوْرَ بُلُوغِهِ لَهُ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ؛ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَحَيْثُمَا وَجَّهَنَا -سُبْحَانَهُ- تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ إِلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ؛ فَنَحْنُ عَبِيدُهُ، وَفِي تَصَرُّفِهِ، حَيْثُمَا وَجَّهَنَا تَوَجَّهْنَا)).

* وَالتَّمْهِيدُ لِلْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ حُصُولِهِ وَاضِحٌ فِي مَسْأَلَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ وَشَأْنُهَا عَظِيمًا، وَطَّأَ -سُبْحَانَهُ- قَبْلَهَا أَمْرَ النَّسْخِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالتَّوْبِيخِ لِمَنْ تَعَنَّتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ، وَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ تَوْطِئَةً وَمُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا يُفِيدُنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّدَرُّجِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

* وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: أَنَّهُ -يَعْنِي: تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ- كَانَ فُرْصَةً لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ لِإِثَارَةِ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَجْلِ هَذَا ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ((قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّ أُنَاسًا مِمَّنْ أَسْلَمَ رَجَعُوا فَقَالُوا: مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَا)).

وَفِتْنَةُ إِثَارَةِ الشُّبُهَاتِ مَا تَزَالُ حَيَّةً، يُحَاوِلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ خِلَالِهَا صَدَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا الدِّينِ، وَالشُّبُهَاتُ تُدْفَعُ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يُبْطِلُ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ.

* وَهَذِهِ الْقِبْلَةُ الَّتِي هَدَى اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَيْهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ وَهُمْ أَهْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْسَطُ الْقِبَلِ لِأَفْضَلِ الْأُمَمِ، كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرُّسُلِ، وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ، وَأَخْرَجَهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَخَصَّهُمْ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرَ الْمَنَازِلِ، وَمَوْقِفَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرَ الْمَوَاقِفِ.

* وَفِي قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] آيَةٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ؛ فَالْإِتْيَانُ بِـ(السِّينِ) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ بِهِ الرَّسُولَ ﷺ، وَوَقَعَتِ الْأُمُورُ كَمَا ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ.

* وَفِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ بَيَانٌ لِمَكَانَتِهِ، وَتَمَيُّزِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ؛ فَهُوَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمُنْطَلَقُ الرِّسَالَةِ، وَمَهْوَى الْأَفْئِدَةِ، وَمَقْصِدُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ، وَقِبْلَتُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَدْ شَرَّفَهُ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ- بِهَذَا الشَّرَفِ الَّذِي لَا مَزِيدَ بَعْدَهُ.

* وَفِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى مَكَّةَ تَأْكِيدٌ لِوَسَطِيَّةِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ جُغْرَافِيًّا، وَسَبَبُ اخْتِيَارِ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ لِتَكُونَ مُنْطَلَقًا لِلرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْجَزِيرَةَ وَسَطُ الْعَالَمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7].

وَهَذَا الِاخْتِيَارُ؛ يَعْنِي: أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ مُنْطَلَقَ تَحْدِيدِ الْجِهَاتِ؛ لَكِنَّنَا لِلْأَسَفِ تَابَعْنَا الْمُسْتَعْمِرِينَ، وَتَلَقَّيْنَا مُصْطَلَحَاتِهِمْ، وَسَلَّمْنَا لَهُمْ، وَلَوْ فَكَّرْنَا قَلِيلًا لَأَدْرَكْنَا الْمَعَانِيَ الْحَقِيقِيَّةَ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ، وَأَنَّهَا لَا ارْتِبَاطَ لَهَا بِوَاقِعِنَا وَلَا بِتَارِيخِنَا؛ فَمَثَلًا يَقُولُونَ: الشَّرْقُ الْأَدْنَى، وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَالشَّرْقُ الْأَوْسَطُ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَعْمِرَ الْأُورُوبِّيَّ اعْتَبَرَ نَفْسَهُ فِي مَرْكَزِ الْأَرْضِ، فَأَطْلَقَ هَذَا التَّوْزِيعَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِهِ، وَجَارَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَسِينَا أَنَّنَا نَحْنُ الْوَسَطُ وَالْمَرْكَزُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ تَحْدِيدُ الْجِهَاتِ مِنْهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي وَقْتِ قُوَّةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَعِزَّتِهَا.

أَمَّا الْآنَ فَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَا غَلَبَ مِنَ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ وَالتَّخَلُّفِ، فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِبُقْعَتِهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ عَنْهَا: الشَّرْقُ الْأَوْسَطُ -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عَدَاوَةُ الْيَهُودِ لِلْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَخَطَرُهُمْ عَلَيْهَا))

فَإِنَّ الْمَكَانَةَ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ وَاجَهَتْ تَحَدِّيَاتٍ جَمَّةً، وَلَاقَتْ عَدَاوَةً وَصَدًّا مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، وَأَكْثَرُهُمْ عَدَاءً وَكَرَاهِيَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ هُمُ الْيَهُودُ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].

ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا أَنَّ الْعَقَبَةَ الْكَؤُودَ الَّتِي تَقِفُ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ مُخَطَّطِهِمْ هِيَ الْأُمَّةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي تَسْتَمِدُّ قُوَّتَهَا مِنْ عَقِيدَتِهَا، فَسَعَوْا إِلَى تَحْقِيقِ عَدَدٍ مِنَ الْغَايَاتِ؛ لِلِانْتِقَاصِ مِنْ مَكَانَةِ الْأُمَّةِ، مِنْهَا: رَدُّ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَتَنْحِيَةُ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ مَوْقِعِ الْقِيَادَةِ لِلْبَشَرِيَّةِ، وَالْإِمْسَاكُ بِزِمَامِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، وَالسَّيْطَرَةُ عَلَى بِلَادِهَا، وَاغْتِصَابُ أَرْضِهَا، وَنَهْبُ خَيْرَاتِهَا، وَقَدْ سَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَسَالِكَ شَتَّى، يُدَعِّمُهَا فَيْضٌ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَسَانِيدِ الْمُحَرَّفَةِ؛ سَوَاءٌ الْعَقَدِيَّةٍ، أَوِ التَّارِيخِيَّةِ، مِمَّا يُلْبِسُ الْقَضِيَّةَ الْفِلِسْطِينِيَّةَ لِبَاسَ الصِّرَاعِ عَلَى الْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ.

وَهِيَ حَرْبُ عَقِيدَةٍ، وَثَأْرُ أَحْقَادٍ قَدِيمَةٍ، وَقَضِيَّةُ اسْتِرْدَادٍ، وَاسْتِيطَانٍ، وَاسْتِعْلَاءٍ، وَسَحْقٍ لِأَهْلِ الدِّيَارِ، ثُمَّ هِيَ أَحْلَامٌ مَجْنُونَةٌ يَنْفُخُ فِيهَا أَحْبَارُ السُّوءِ بِوَصَايَا الزَّيْفِ مِنَ التَّوْرَاةِ الْمُحَرَّفَةِ وَالتَّلْمُودِ، فَتُصْبِحُ حَقَائِقَ وَاقِعَةً بِغَفْلَةٍ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

((مَطَامِعُ الْيَهُودِ حَتَّى فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ!))

وَنَظْرَةٌ إِلَى خَرِيطَتِهِمُ الْمُعْلَنَةِ -(إِسْرَائِيلَ الْكُبْرَى) الَّتِي تَمْتَدُّ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ وَصَوْبٍ؛ خَاصَّةً فِي الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ، حَيْثُ الْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ، عَاصِمَةُ الْإِسْلَامِ الْأُولَى، وَمُهَاجَرُ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَثْوَاهُ الْعَقَائِدِيُّ-؛ نَظْرَةٌ إِلَى تِلْكَ الْخَرِيطَةِ تُؤَكِّدُ حَجْمَ الْأَحْقَادِ الْيَهُودِيَّةِ تِجَاهَ الْإِسْلَامِ وَرُمُوزِهِ وَتَارِيخِهِ، وَالسَّعْيَ بِالسُّبُلِ كَافَّةً لِلنَّيْلِ مِنْهُ، وَمَحْوِ آثَارِهِ.

فَبِالْأَمْسِ اقْتَحَمُوا الْقُدْسَ الشَّرِيفَ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ، وَهَا هُمُ الْيَوْمَ يُخَطِّطُونَ لِالْتِهَامِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا وَرَاءَهَا، وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي وَعْدِ الرَّبِّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.

((أَبَاطِيلُ الصُّهْيُونِيَّةِ الزَّائِفَةُ))

تَسْتَنِدُ الصُّهْيُونِيَّةُ عَلَى عِدَّةِ أَبَاطِيلَ ثَبَتَ زَيْفُهَا التَّامُّ، أَهَمُّهَا: فِكْرَةُ الشَّعْبِ الْمُخْتَارِ، وَالتَّوَاصُلُ الْوِرَاثِيُّ، وَأُسْطُورَةُ أَرْضِ الْمِيعَادِ، وَإِسْرَائِيلُ الْكُبْرَى.

وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْفَارَ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا الْيَهُودُ قَدْ كُتِبَتْ بَعْدَ مُوسَى بِقُرُونٍ، وَمَا بِهَا مِنْ تَزْيِيفٍ وَتَحْرِيفٍ وَتَنَاقُضَاتٍ لَا أَسَاسَ لَهَا مِنَ الْوَاقِعِ التَّارِيخِيِّ الْحَقِّ، كَمَا تُعْتَبَرُ فِكْرَةُ الشَّعْبِ الْمُخْتَارِ فِكْرَةً صِبْيَانِيَّةً مِنَ النَّاحِيَةِ التَّارِيخِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الشُّعُوبِ قَدْ عَبَّرَتْ فِي كِتَابَاتِهَا عَنْ تَحَمُّسِهَا لِتَمَيُّزٍ خَاصٍّ بِهَا، يُصَوِّرُ الْوَاحِدَ مِنْهَا بِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّهُ الْمُخَوَّلُ بِالْقِيَامِ بِمُهِمَّةٍ حَضَارِيَّةٍ إِزَاءَ الْأَجْنَاسِ الْأُخْرَى.

وَتُعَدُّ فِكْرَةُ الشَّعْبِ الْمُخْتَارِ فِكْرَةً مَرْفُوضَةً مِنَ النَّاحِيَةِ السِّيَاسِيَّةِ؛ إِذْ تُكَرِّسُ مَشْرُوعِيَّةَ الِاعْتِدَاءِ وَالتَّوَسُّعِ وَالتَّسَلُّطِ وَالْمَذَابِحِ.

وَأَمَّا خُرَافَةُ التَّوَاصُلِ الْوِرَاثِيِّ؛ فَالْوَهْمُ التَّارِيخِيُّ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الصُّهْيُونِيَّةُ يَتَمَثَّلُ فِي الِاعْتِقَادِ بِتَوَاصُلِ الْعِرْقِ، وَثَمَّةَ اخْتِلَافٌ فِي الْأَنْسَابِ يَرْمِي إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ يَهُودَ الْعَالَمِ جَمِيعًا هُمُ الَّذِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عِرْقٍ وَاحِدٍ؛ فَقَدْ صَدَرَ أَمْرٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ الْمَوْعُودَةِ لِيُهَاجِرَ إِلَى مِصْرَ؛ حَيْثُ يُنْقِذُهُ اللهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَرْضَ الْمِيعَادِ بِقِيَادِ يُوشَعَ عَنْ طَرِيقِ اسْتِئْصَالِ شَأْفَةِ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ، وَيُؤَسِّسُ مَمْلَكَةَ دَاوُدَ، ثُمَّ يُهْزَمُ وَيُشَرَّدُ فِي الْأَرْضِ فِي الْمَنْفَى وَالشَّتَاتِ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنْ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ عَاشَتْ مُحَافِظَةً عَلَى أَمَلِهَا بِالْخَلَاصِ الْأَخِيرِ عَبْرَ الْعَوْدَةِ إِلَى أَرْضِ الْمِيعَادِ الْمَفْقُودَةِ مُؤَقَّتًا.

وَقَدْ ثَبَتَ مِنَ النَّاحِيَةِ التَّارِيخِيَّةِ أَنَّ الْأَكْثَرِيَّةَ السَّاحِقَةَ مِنْ يَهُودِ الْيَوْمِ لَا يَمُتُّونَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقُدَامَى بِأَيِّ دَمٍ أَوْ عِرْقٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعُنْصُرِ الْيَهُودِيِّ مِنْ وُجُودٍ أَبَدًا؛ بَلْ كَانَ الْيَهُودُ خِلَالَ مَرَاحِلِ التَّارِيخِ أَحَدَ مُرَكَّبَاتِ الْفِئَاتِ السُّكَّانِيَّةِ كَطَائِفَةٍ دِينِيَّةٍ.

وَقَدْ أَصْدَرَ (تُومَاس كِيرْنَان) كِتَابًا عَنِ الْعَرَبِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1975 م) قَالَ فِيهِ: ((كَانَ الصَّهَايِنَةُ أُورُوبِّيِّينَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ أَبَدًا مِنْ رَابِطٍ حَيَوِيٍّ أَوْ عُضْوِيٍّ بَشَرِيٍّ بَيْنَ أَجْدَادِ أُورُوبَّا وَبَيْنَ الْقَبَائِلِ الْعِبْرَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ الْيَوْمَ طَائِفَتَانِ مُتَمَيِّزَتَانِ عِرْقِيًّا؛ هُمَا:

(الْأَشْكِنَاز): وَهُمْ يَهُودُ أُورُوبَّا وَأَمِرِيكَا، وَهُمُ الْأَكْثَرِيَّةُ الْعُظْمَى مِنْ يَهُودِ الْيَوْمِ، وَهُمْ مِنْ جِنْسٍ آرِيٍّ، لَيْسُوا مِنْ جِنْسٍ سَامِيٍّ، اعْتَنَقَ أَجْدَادُهُمُ الْيَهُودِيَّةَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى.

وَ(السَّفَارِدِيم)): وَهُمْ يَهُودُ آسْيَا وَشَمَالِ أَفْرِيقْيَا، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ دِمَاءٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الدِّمَاءَ قَدِ اخْتَلَطَتْ بِدِمَاءِ أُمَمٍ شَرْقِيَّةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ لَا يَبْلُغُونَ إِلَّا نِسْبَةَ الْعُشْرِ مِنْ مَجْمُوعِ الْيَهُودِ.

وَيَنْطَوِي تَعْرِيفُ الْيَهُودِيِّ بِأَنَّهُ مَنْ وُلِدَ مِنْ أُمٍّ يَهُودِيَّةٍ، أَوِ اعْتَنَقَ الْيَهُودِيَّةَ عَلَى يَدِ حَاخَامٍ تَقْلِيدِيٍّ.

هَذَا التَّعْرِيفُ يَنْطَوِي عَلَى تَمْيِيزٍ عُنْصُرِيٍّ؛ لِأَنَّ الِانْتِمَاءَ إِلَى مَجْمُوعَةٍ عِرْقِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَنْطَوِي إِمَّا عَلَى امْتِيَازَاتٍ أَوِ انْتِقَاصَاتٍ، وَقَدِ اخْتَلَقَتِ الصُّهْيُونِيَّةُ تَوَاصُلًا عُنْصُرِيًّا، مُسْتَعِينَةً بِأَنْسَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَرَفَضَتْ الِانْدِمَاجَ مِنْ أَجْلِ تَبْرِيرِ عَوْدَةِ الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَكَأَنَّ الْيَهُودَ الْحَالِيِّينَ هُمُ الْأَحْفَادُ وَالْوَرَثَةُ الطَّبِيعِيُّونَ لِإِسْرِائِيلِيِّي الْأَزْمِنَةِ الْقَدِيمَةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الرَّبَّ أَعْطَاهُمْ صَكًّا بِمِلْكِيَّةِ هَذِهِ الْأَرْضِ، يُتِيحُ لَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ طَرْدَ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْأَصْلِيِّينَ، وَالْحُلُولَ مَحَلَّهُمْ عَلَى أَرْضِ الْمِيعَادِ، وَسِيَادَةَ شَعْبِ اللهِ الْمُخْتَارِ عَلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ مَجْرَى سُيُولِ مِصْرَ وَبَيْنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ -نَهْرِ الْفُرَاتِ-.

وَكَانَتْ أُكْذُوبَةُ أَرْضِ الْمِيعَادِ وَرَاءَ قِيَامِ الدَّوْلَةِ الْيَهُودِيَّةِ بِسِلْسِلَةٍ مِنَ الْحُرُوبِ التَّوَسُّعِيَّةِ الرَّامِيَةِ إِلَى تَأْمِينِ مَجَالٍ حَيَوِيٍّ لِسِيَادَتِهَا، وَخُرَافَةِ تَمَيُّزِهَا الْعِرْقِيِّ.

إِنَّ التَّدَيُّنَ الصُّهْيُونِيَّ لَا يَسْتَطِيعُ التَّمَاسُكَ بِدُونِ سَنَدٍ مِنَ الْكَهَنُوتِ الْمَوْرُوثِ وَالْأَسَاطِيرِ الزَّائِفَةِ، وَإِلْغَاءُ مَفَاهِيمِ الشَّعْبِ الْمُخْتَارِ وَأَرْضِ الْمِيعَادِ يُقَوِّضُ أَرْكَانَ الصُّهْيُونِيَّةِ، وَيُصْبِحُ الِادِّعَاءُ بِالْحُقُوقِ التَّارِيخِيَّةِ مُجَرَّدَ خُرَافَةٍ لَفَّقَتْهَا الصُّهْيُونِيَّةُ لِتَمْوِيهِ مُخَطَّطَاتِهَا الْإِجْرَامِيَّةِ.

فَمِنَ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ: لَا يُمْلِكُ الصَّهَايِنَةُ قَدْرًا مِنَ الْحُقُوقِ التَّارِيخِيَّةِ فِي فِلِسْطِينَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَمْلِكُهُ الصَّلِيبِيُّونَ قَدِيمًا، فَبَعْدَ مُرُورِ قَرْنَيْنِ مِنَ الِاحْتِلَالِ الصَّلِيبِيِّ لِفِلِسْطِينَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَلْفٍ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ مِنَ التَّارِيخِ الْمِيلَادِيِّ (مِن 1096 م إِلَى 1291 م) عَلَى مُرُورِ قَرْنَيْنِ حَافِلَيْنِ بِحُرُوبٍ مُتَلَاحِقَةٍ ضِدَّ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ؛ تَمَّ طَرْدُهُمْ طَرْدًا نِهَائِيًّا سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلْفِ (1291 م)، وَتِلْكَ هِيَ عِظَةُ التَّارِيخِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْهَمَ الدَّرْسَ.

فَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُسَلِّمَ أُمَّتَنَا، وَأَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا، وَأَنْ يَرْحَمَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي غَزَّةَ وَالْقِطَاعِ.

اللهم ارْحَمْهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ يَا رَبَّنَا مِنْ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللهم ادْحَرْ أَعْدَاءَهُمْ، اللهم ادْحَرْ أَعْدَاءَهُمْ، اللهم أَهْلِكْهُمْ بَدَدًا، وَأَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: ((تَارِيخُ الْقُدْسِ وَالْأَقْصَى وَعَدَاوَةُ الْيَهُودِ))

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ
  الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  مَاذَا بَعْدَ الْحَجِّ؟
  حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ
  مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))
  الاستعداد لرمضان
  أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي ​الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان