((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))

((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ  وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))

 ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ:

أَذْكَارٌ  وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ: أَنَّهَا دَارُ مِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

 ((وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.

وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ)) .

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا؛ فَقَدْ وَجَبَ الْحَذَرُ، وَتَأَكَّدَتِ الْحَيْطَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَائِشًا بِهَذِهِ النَّفْسِيَّةِ.. نَفْسِيَّةِ الْمُحِسِّ الْمُدْرِكِ الْمُتَيَقِّنِ بِأَنَّهُ مُبْتَلًى بِكُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ، فَإِذَا أُصِيبَ بِالسَّرَّاءِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالسَّرَّاءِ، وَإِذَا أُصِيبَ بِالضَّرَّاءِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالضَّرَّاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا وَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَإِذَا وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى الطَّاعَةِ؛ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ.

الْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ دَائِمًا، لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ حَالَةِ الِابْتِلَاءِ إِلَّا إِذَا تَوَفَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

لَقَدْ تَمَسَّكَ الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي أَصْعَبِ الْمِحَنِ بِأَدْعِيَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَذْكَارٍ جَلِيلَةٍ..

 لَقَدْ أَثْنَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى صَحَابَةِ رَسُولِهِ ﷺ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ هُمُ الَّذِينَ خَاضُوا غِمَارَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَسَقَطَ مِنْهُمْ مَنْ سَقَطَ شَهِيدًا، وَجُرِحَ مَنْ جُرِحَ، وَأَصَابَهُمُ الرَّهَقُ وَالتَّعَبُ؛ فَدَعَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي أَصَابَهُمْ فِيهَا الْقَرْحُ إِلَى الْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَدْ خَشِيَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يَنْطَلِقَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ يُفَكِّرُوا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى مَكَّةَ.

وَقَدِ انْتَدَبَ الرَّسُولُ ﷺ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ لِلْخُرُوجِ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكينَ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ؛ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّهَا قَالَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}.. قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ((يَا ابْنَ أُخْتِي! كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ؛ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: ((مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ؟))، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ مُخْتَصَرًا.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ الْجَيْشَ كُلَّهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي إِثْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فِي أُحُدٍ؛ بِاسْتِثْنَاءِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَسَارَ الرَّسُولُ ﷺ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى (بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ) عَلَى بُعْدِ ثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَقَدْ حَدَثَ مَا تَوَقَّعَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ تَلَاوَمُوا فِي عَدَمِ اسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَزِيمَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَشَاوَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَرَجُوا فِي إِثْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ صَارُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ؛ فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُمْ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَأَسْرَعُوا عَائِدِينَ إِلَى مَكَّةَ.

الْقَرْحُ الَّذِي أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ: الْجِرَاحَةُ وَالتَّعَبُ اللَّذَانِ كَانَا لِلْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَحْسَنُوا بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَاسْتَجَابُوا لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ؛ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ مَا بِهِمْ مِنْ تَعَبٍ وَآلَامٍ وَجُرْحٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ.

عِنْدَمَا عَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِخُرُوجِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ فِي إِثْرِهِمْ؛ هَزَّهُ الْخَبَرُ، وَخَشِيَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَحَوَّلَ نَصْرُهُ إِلَى هَزِيمَةٍ، فَسَارَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَعْمَلَ مَا يُسَمَّى بِالْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَدْ حَمَّلَ قَوْمًا مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا مُنْطَلِقِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يَقُولُوا لِلرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ مُقَابِلَ جُعْلٍ جَعَلَهُ لَهُمْ: إِنَّنَا رَاجِعُونَ إِلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ.

فَلَمَّا أَخْبَرُوا الرَّسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِذَلِكَ؛ ازْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا؛ لِتَوَكُّلِهِمْ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ})).

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَدَى ثَبَاتِ الرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَمَعْنَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ}؛ أَيِ: اللهُ كَافِينَا، وَاللهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

أَخْبَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ خُرُوجَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ بَعْدَ (أُحُدٍ) كَانَ سَفَرَ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ؛ فَقَدْ أَلْقَى خُرُوجُهُمُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، وَانْقَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ عَائِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّبِعُونَ مَا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}، وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ: صَرْفُ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَإِعَادَتُهُمْ سَالِمِينَ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ تَاجَرُوا وَرَبِحُوا.

{فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}: فَانْصَرَفَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ عَنْ وَجْهِهِمُ الَّذِي تَوَجَّهُوا فِيهِ -وَهُوَ سَيْرُهُمْ فِي إِثْرِ عَدُوِّهِمْ- إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ}؛ يَعْنِي: بِعَافِيَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، لَمْ يَلْقَوْا بِهَا عَدُوًّا، {وَفَضْلٍ}؛ يَعْنِي: أَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ بِتِجَارَتِهِمُ الَّتِي اتَّجَرُوا بِهَا، وَالْأَجْرُ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ، {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}؛ يَعْنِي: لَمْ يَنَلْهُمْ بِهَا مَكْرُوهٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَلَا أَذًى.

{وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ أَرْضَوُا اللَّهَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ رَسُولَهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ أَثَرِ الْعَدُوِّ، وَطَاعَتِهِمْ.

{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}؛ يَعْنِي: وَاللَّهُ ذُو إِحْسَانٍ وَطَوْلٍ عَلَيْهِمْ -بِصَرْفِ عَدُوِّهِمُ الَّذِي كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالْكَرَّةِ إِلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ- بِنِعَمِهِ {عَظِيمٌ} عِنْدَ مَنْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ)).

وَأَخْبَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ تِلْكُمُ الْمَقَالَةَ الَّتِي حَمَّلَهَا أَبُو سُفْيَانَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ التُّجَّارِ مُرْسِلًا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ؛ لِيُرْعِبَهُمْ وَيُخَوِّفَهُمْ؛ هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، يُخَوِّفُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْكَافِرِينَ.

وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخَافُوا الْمُشْرِكِينَ، وَطَالَبَهُمْ بِأَنْ يَخَافُوهُ وَحْدَهُ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ؛ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

فَهَذَا ذِكْرٌ عَظِيمٌ قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي شِدَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الشَّدَائِدِ:  ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) قَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ هَذَا الذِّكْرَ فِي مِحْنَةِ الْمِحَنِ، وَشِدَّةِ الشَّدَائِدِ؛ ((فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ مَعَ قَوْمِهِ فِي دَعْوَةٍ وَجِدَالٍ، وَقَدْ أَفْحَمَهُمْ، وَكَسَرَ جَمِيعَ حُجَجِهِمْ وَشُبَهِهِمْ، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ يُقَاوِمَهُمْ بِأَعْظَمِ الْحُجَجِ، وَأَنْ يَصْمُدَ لِبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا وَجِلٍ.

فَلَمَّا خَرَجُوا ذَاتَ يَوْمٍ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَطْلُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَظَاهَرَ بِعَدَاوَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنَّهْيِ الْأَكِيدِ عَنْهَا، وَجِهَادِ أَهْلِهَا، فَلَمَّا بَرَزُوا جَمِيعًا إِلَى الصَّحْرَاءِ؛ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَيْتِ أَصْنَامِهِمْ، فَجَعَلَهَا جُذَاذًا كُلَّهَا إِلَّا صَنَمًا كَبِيرًا أَبْقَى عَلَيْهِ؛ لِيُلْزِمَهُمْ بِالْحُجَّةِ.

فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ؛ بَادَرُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ صَبَابَةً وَمَحَبَّةً، فَرَأَوْا فِيهَا أَفْظَعَ مَنْظَرٍ رَآهُ أَهْلُهَا، فَقَالُوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 59-60]؛ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَذْكُرُهَا بِأَوْصَافِ النَّقْصِ وَالسُّوءِ: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ الَّذِي كَسَرَهَا: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]؛ أَيْ: بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَوَبَّخُوهُ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ، ثُمَّ نَكَّلُوا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ؛ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ بِمَرْأَى الْخَلْقِ وَبِمَسْمَعِهِمْ، فَلَمَّا جُمِعَ النَّاسُ وَحَضَرُوا، وَحَضَّرُوا إِبْرَاهِيمَ؛ قَالُوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62-63]، مُشِيرًا إِلَى الصَّنَمِ الَّذِي سَلِمَ مِنْ تَكْسِيرِهِ، وَهُمْ فِي هَذِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ عَقْلَ أَحَدٍ؛ أَنَّ جَمَادًا مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ مَوَادَّ مَعْرُوفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: نَعَمْ، هُوَ الَّذِي فَعَلَهَا، وَأَنْتَ سَالِمٌ نَاجٍ مِنْ تَبِعَتِهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ.

قَالَ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وَهَذَا تَعْليِقٌ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ؛ فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَبَانَ، وَاعْتَرَفُوا هُمْ بِالْحَقِّ: {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 64-65]، أَيْ: مَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا إِلَّا وَقْتًا قَصِيرًا، ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ مُبَاشَرَةً الَّتِي لَا يُمْكِنُ مُكَابَرَتُهَا؛ وَلَكِنْ مَا أَسْرَعَ مَا عَادَتْ عَقَائِدُهُمُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي رَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَصَارَتْ صِفَاتٍ مُلَازِمَةً لَهُمْ، إِنْ وُجِدَ مَا يُنَافِيهَا؛ فَإِنَّهُ عَارِضٌ يَعْرِضُ ثُمَّ يَزُولُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].

فَحِينَئِذٍ وَبَّخَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الَّتِي اعْتَرَفَ بِهَا الْخُصُومُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67].

فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عُقُولٌ صَحِيحَةٌ؛ لِمَ تُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يُرِيدُهُ بِسُوءٍ؟!!

فَلَمَّا أَعْيَتْهُمُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ؛ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، فَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا، فَأَلْقَوْهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ-: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا لِيَنْصُرُوا آلِهَتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ، وَالْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ، وَالْحَادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ وَالرُّؤَساءِ وَالْمَرْؤُوسِينَ)) .

وَهَذَا ((يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِظَامِ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى -مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ-، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.

ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ، فَأَبَوْا، فَوَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَلَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ الَّذِي يَنْبَغِي، وَلَكِنَّهُ أَبَقَ مُغَاضِبًا لَهُمْ.

وَهُمْ لَمَّا ذَهَبَ نَبِيُّهُمْ؛ أُلْقِيَتْ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةُ إِلَى اللهِ وَالْإِنَابَةُ بَعْدَمَا شَاهَدُوا مُقَدِّمَاتِ الْعَذَابِ، فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ يُونُسَ عَلِمَ انْكِشَافَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِي ذَهَابِهِ عَنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87 ].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140 ].

فَرَكِبَ فِي سَفِينَةٍ مُوَقَّرَةٍ مِنَ الرُّكَّابِ وَالْأَحْمَالِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْبَحْرَ؛ شَارَفَتْ عَلَى الْغَرَقِ.

وَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَبْقَوْا جَمِيعًا فِيهَا فَيَهْلِكُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُلْقُوا بَعْضَهُمْ بِمِقْدَارِ مَا تَخِفُّ السَّفِينَةُ فَيَسْلَمَ الْبَاقُونَ، فَاخْتَارُوا الْأَخِيرَ؛ لِعَدْلِهِمْ وَتَوْفِيقِهِمْ.

فَاقْتَرَعُوا، فَأَصَابَتِ الْقُرْعَةُ أُنَاسًا مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ: يُونُسُ ﷺ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [ الصافات: 141 ]؛ أَيْ: الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ.

فَأُلْقُوا، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ فِي الْبَحْرِ ابْتِلَاعًا، لَمْ يَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا، وَلَمْ يَمْضُغْ لَهُ لَحْمًا.

فَلَمَّا صَارَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ؛ نَادَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87].

-فَكَانَ فِي ظُلْمَةِ جَوْفِ الْحُوتِ، فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ-.

فَأَمَرَ اللهُ الْحُوتَ أَنْ تُلْقِيَهُ بِالْعَرَاءِ، فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا كَالْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ مِنَ الْبَيْضَةِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْهُونِ، فَلَطَفَ اللهُ بِهِ، وَأَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فَأَظَلَّتْهُ بِظِلِّهَا الظَّلِيلِ حَتَّى قَوِيَ وَاشْتَدَّ.

وَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ فَيُعَلِّمَهُمْ وَيَدْعُوَهُمْ، فَاسْتَجَابَ لَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ؛ مِئَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) .

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ، دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.

وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.

فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ-، تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ، قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.

أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.

وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.

عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ؛ فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.

وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا، ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ؛ جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.

فَتَأَمَّلْ فِيمَا دَعَا بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْعِظَامُ: مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَيُونُسُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمْ-، وَتَأَمَّلْ فِي الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- إِيَّاهَا؛ فَأَمَّا مُحَمَّدٌ ﷺ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، وَالْعَاقِبَةُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ}.

وَأَمَّا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.

إِنَّ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ فِي الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّ الْمُتَأَسِّيَ بِهِ سَالِكٌ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَ إِلَى كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ، مِنْ حَقِّهَا: أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْهِدَايَةِ؛ فَاتَّبِعْ يَا رَسُولَ اللهِ هُدَاهُمْ، وَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ-الجزء الأول

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ وَحِمَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَشَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  قِصَّةُ الذَّبِيحِ وَمَظَاهِرُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ فِي الْحَجِّ
  التَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ فِي الْمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ
  السعي في حاجة الآخرين
  مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
  فَضْلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَحْدَةِ صَفِّهَا
  الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر
  رَمَضَانُ شَهْرُ الطَّاعَاتِ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 1
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان