حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ

حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ  أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ

((حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ

أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رِسَالَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَالَمِيَّةٌ خَاتِمَةٌ))

فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 44-45].

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ الَّذِي شَرَّفْنَاكَ وَكَرَّمْنَاكَ بِالنُّبُوَّةِ! إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا مُتَّصِفًا بِخَمْسَةِ أَوْصَافٍ:

الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَرْسَلْنَاكَ مُبَلِّغًا رِسَالَةَ رَبِّكَ وَجَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِمَنْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُبَلِّغَهُمْ مِنَ النَّاسِ؛ لِتَكُونَ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِهِمُ الرِّسَالَةَ.

الْوَصْفُ الثَّانِي: وَأَرْسَلْنَاكَ مُبَشِّرًا لِمَنْ آمَنَ وَأَطَاعَ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

الْوَصْفُ الثَّالِثُ: وَأَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا لِمَنْ كَذَّبَ وَعَصَى بِالنَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.

الْوَصْفُ الرَّابِعُ: وَأَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَطَاعَتِهِ بِأَمْرِهِ إِيَّاكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَيَسَّرَ لَكَ أَمْرَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مَعَ شِدَّتِهَا وَثِقَلِهَا وَعَظِيمِ خَطَرِهَا.

الْوَصْفُ الْخَامِسُ: وَمُضِيئًا تَهْدِي بِذَاتِكَ، وَمُؤَثِّرًا فِي غَيْرِكَ بِضِيَائِكَ حَتَّى يَكُونَ ذَا نُورٍ يَهْدِي كَمَا تُؤَثِّرُ الشَّمْسُ بِضِيَائِهَا فِي الْقَمَرِ فَيَبْعَثُ نُورًا.

وَمِنَ الْمَزَايَا الَّتِي امْتَازَ بِهَا ﷺ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- أَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، بَلْ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ ﷺ ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 31-32].

وَقَالَ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي...»، فَذَكَرَ مِنْ بَيْنِهَا: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].

وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17])).

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»؛ يَعْنِي: أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَهُ ﷺ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

فَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْذُ بِعْثَتِهِ ﷺ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ.. كُلُّهُمْ أُمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

هُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، يَدْعُوهُمْ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفٌ بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ؛ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.

فَأُمَّةُ الدَّعْوَةِ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْذُ بِعْثَتِهِ إِلَى الْقِيَامَةِ؛ فَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالْبُوذِيُّونَ، وَالْمُلْحِدُونَ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ مِنَ الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ أُمَّةُ رَسُولِ اللهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].

وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ هِيَ إِرْسَالُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَ -لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.

فَعَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ؛ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَثِقُوا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِمُ الْأَمِينِ وُثُوقًا طَبْعِيًّا فِطْرِيًّا بِمَا أَنَّهُمْ آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَأَنَّ شَرْعَهُ صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ بَلْ كُلُّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ صَالِحٌ لِشَرْعِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَنَزَّلُ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ النَّاسُ، إِنَّمَا جَاءَ لِيَرْفَعَ النَّاسَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَتَدَنَّوْا إِلَيْهِ؛ {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151]: ارْتَفِعُوا إِلَى الطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ، اخْرُجُوا مِنَ الْقَذَارَاتِ وَالْحَمَاقَاتِ وَالْمَوْرُوثَاتِ الْبَائِدَةِ إِلَى صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَعَلَيْنَا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنْ نَتَّقِيَ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِنَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً؛ لِيُسَلِّمَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لَنَا دِينَنَا، وَإِيمَانَنَا، وَعَقِيدَتَنَا، وَتَبَعًا يُسَلِّمُ لَنَا وَطَنَنَا.


((سِيرَةُ النَّبِيِّ ﷺ مُحِيطَةٌ شَامِلَةٌ

وَجُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَمَائِلِهِ ﷺ))

عِبَادَ اللهِ! مَا مِنْ حَيَاةِ أَحَدٍ -مَهْمَا بَلَغَتْ صِحَّةُ التَّارِيخِ وَثُبُوتُ الرِّوَايَةِ- يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِلنَّاسِ أُسْوَةٌ تُتَّبَعُ وَمِثَالٌ يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِالْكَمَالِ، وَ ((لَا تَكُونُ حَيَاةُ أَحَدٍ كَامِلَةً وَمُنَزَّهَةً عَنِ الْعُيُوبِ وَالْمَثَالِبِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلنَّاسِ بِجَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَمُتَجَلِّيَةً لَهُمْ دَخَائِلُهَا مِنْ كُلِّ مَنَاحِيهَا.

وَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ مِيلَادِهِ إِلَى سَاعَةِ وَفَاتِهِ مَعْلُومَةٌ لِلَّذِينَ عَاصَرُوهُ، وَشَهِدُوا عَهْدَهُ، وَقَدْ حَفِظَهَا التَّارِيخُ عَنْهُمْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَحْتَجِبْ عَنْ عُيُونِ قَوْمِهِ إِلَّا مُدَّةً يَسِيرَةً؛ لِيُعِدَّ عُدَّتَهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَلِيُهَيِّئِ الْأسْبَابَ لِحَيَاتِهِ الْمُقْبِلَةِ.

إِنَّ جَمِيعَ شُئُونِهِ وَأَطْوَارِ حَيَاتِهِ، مِنْ وِلَادَتِهِ، وَرَضَاعِهِ، وَطُفُولَتِهِ، إِلَى أَنْ صَارَ يَافِعًا وَشَابًّا.. كُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ أَمْرُهُ، مَعْلُومَةٌ تَفَاصِيلُهُ.

وَقَدْ عَلِمَ التَّارِيخُ عَنْ هَذَا النَّبِيِّ ﷺ بِاشْتِغَالِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَكَيْفِيَّةِ زَوَاجِهِ، وَعَلِمَ النَّاسُ سَجَايَاهُ فِي صَدَاقَتِهِ، وَفِي وَفَائِهِ لِلنَّاسِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَاتَّصَلُوا بِهِ حِينَ اتَّخَذُوهُ أَمِينًا، وَأَقَامُوهُ حَكَمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ نَصْبِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ وَقَفُوا عَلَى أَمْرِهِ حِينَ حَبَّبَ اللهُ إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ فَاعْتَزَلَهُمْ فِي غَارِ حِرَاءَ، ثُمَّ عَلِمُوا حَالَهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَحِينَ بَدَأَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ يَظْهَرُ لِلْوُجُودِ، فَأَخَذَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ، وَيُبَلِّغُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ.

وَقَدْ رَأَى التَّارِيخُ كَيْفَ خَالَفُوهُ وَعَانَدُوهُ؛ وَهَلْ غَابَ عَنِ التَّارِيخِ مَا لَقِيَ ﷺ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ، وَمَا قَابَلَهُ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ حِينَ سَارَ إِلَيْهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ؟!!

وَهَلْ نَسِيَ التَّارِيخُ حِينَ أَخْبَرَ أَهْلَ مَكَّةَ -وَهُمْ أَقَلِّيَّةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرِيَّةٌ سَاحِقَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- بِخَبَرِ الْعُرُوجِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ؟!!

ثُمَّ هَلْ خَفِيَ عَنِ التَّارِيخِ أَمْرُ هِجْرَتِهِ، وَمَعَ مَنْ هَاجَرَ، وَالْغَزَوَاتُ الَّتِي غَزَاهَا، وَالْأَسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَيْهَا، وَمَوْقِفُهُ مِنَ الْهُدْنَةِ إِذَا هَادَنَ، وَعُهُودُهُ إِذَا عَاهَدَ؟!! وَمَا صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بِسِرٍّ.

وَالَّذِينَ طَالَعُوا كُتُبَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَفُوا عَلَى كُتُبِهِ ﷺ إِلَى الْمُلُوكِ، وَالْأَقْيَالِ، وَالْوُلَاةِ، يَدْعُوهُمْ فِيهَا إِلَى دِينِ اللهِ، دِينِ السَّلَامِ وَالْوِئَامِ، وَعَرَفُوا جِهَادَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَمَا بَذَلَهُ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى النَّاسِ، إِلَى أَنْ أَكْمَلَ اللهُ لِلْإِنْسَانِيَّةِ دِينَهَا، وَحَجَّ الرَّسُولُ ﷺ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ إِلَيْهِ.

فَهَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجْهَلُهُ التَّارِيخُ؟!!

وَهَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ وَرِسَالَتِهِ مَا أُسْدِلَ عَلَيْهِ سِتَارٌ مِنْ خَفَاءٍ؟!!

إِنَّ كُلَّ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ ﷺ أَوْ يُعْزَى إِلَيْهِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ، وَصَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ، مَعْلُومٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَوَاضِحٌ أَمْرُهُ لِلنَّاقِدِينَ.

إِنَّ رَسُولَ اللهِ مُحَمَّدًا ﷺ لَمْ يُحَاوِلْ أَنْ يُخْفِيَ عَنِ النَّاسِ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَلَا أَنْ يَكْتُمَهُمْ حَالَةً مِنْ حَالَاتِهِ؛ لِذَلِكَ عَرَفُوهُ كَمَا كَانَ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ الْآنَ فِي أَذْهَانِ عَارِفِيهِ كَمَا كَانَ فِي أَعْيُنِ مُشَاهِدِيهِ.

تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَقَدْ عَاشَرَتْهُ زَوْجَةً مُدَّةَ تِسْعِ سِنِينَ-: ((لَا تُصَدِّقُوا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ قَدْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ فَلَمْ يُبْدِهِ لِلنَّاسِ وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67])).

إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ وَأَجَلَّهُمْ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ فِيهِ رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ، وَوَاحِدًا كَآحَادِ النَّاسِ، وَلَقَدْ صَدَقَ (فُولْتِيرُ) فِي كَلِمَتِهِ الشَّهِيرَةِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا فِي دَاخِلِ بَيْتِهِ، وَلَا بَطَلًا فِي أُسْرَتِهِ»؛ يُرِيدُ أَنَّ عَظَمَةَ الْمَرْءِ لَا يَعْتَرِفُ بِهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى دَخِيلَتِهِ فِي مَبَاذِلِهِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ يَشِذُّ عَنْهُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِنَّ مَا قِيلَ عَنِ الْعُظَمَاءِ فِي مَبَاذِلِهِمْ لَا يَصِحُّ فِي مُحَمَّدٍ رَسُولِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَشْهَدَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ (جِيبُّونَ): «لَمْ يَمْتَحِنْ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَصْحَابَهُ كَمَا امْتَحَنَ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ، إِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا تَقَدَّمَ إِلَى الَّذِينَ عَرَفُوهُ إِنْسَانًا الْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ، فَطَلَبَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَغُلَامِهِ وَابْنِ عَمَّهِ وَأَقْرَبِ أَصْدِقَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ خِلَّانِهِ لَدَيْهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَكُلٌّ مِنْهُمْ صَدَّقَ دَعْوَاهُ، وَآمَنَ بِنُبُوَّتِهِ.

وَإِنَّ حَلِيلَةَ الْمَرْءِ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِبَاطِنِ أَمْرِهِ، وَدَخِيلَةِ نَفْسِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ، فَلَا يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنَ الزَّوْجَةِ بِهَنَاتِ وَنَقَائِصِ الزَّوْجِ، أَلَيْسَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ زَوْجُهُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي عَاشَرَتْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، وَاطَّلَعَتْ عَلَى دَخَائِلِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَأَحَاطَتْ بِهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَلَمَّا صَرَّحَ بِالنُّبُوَّةِ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَتْ بِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَعَظِيمِ أَخْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَنْ يُخْزِيَهُ أَبَدًا.

إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ لَا يَأْذَنُ لِزَوْجِهِ -وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ- بِأَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَاهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ تُعْلِنَ كُلَّ مَا شَاهَدَتْهُ مِنْ أَحْوَالِهِ، لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَتْ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تِسْعُ زَوْجَاتٍ، وَكَانَتْ كُلٌّ مِنْهُنَّ فِي إِذْنٍ مِنَ الرَّسُولِ بِأَنْ تَقُولَ عَنْهُ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا تَرَاهُ مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَهُنَّ فِي حِلٍّ مِنْ أَنْ يُخْبِرْنَ النَّاسَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ كُلَّ مَا رَأَيْنَ مِنْهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَتَحَدَّثْنَ فِي السَّاحَاتِ وَالْمَجَامِعِ بِمَا يُشَاهِدْنَ مِنْهُ فِي الْحُجُرَاتِ، فَهَلْ عَرَفَتِ الدُّنْيَا رَجُلًا كَهَذَا الرَّجُلِ يَثِقُ بِنَفْسِهِ كُلَّ هَذِهِ الثِّقَةِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَبِّهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَا يَخَافُ قَالَةَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ أَحَدٍ؟!! لِأَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ السُّوءِ.

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا مَا تَحَلَّتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دَمَاثَةِ الْخُلُقِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَحَصَافَةِ الرَّأْيِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَرَحَابَةِ الصَّدْرِ؛ فَإِنَّ كُتُبَ الْحَدِيثِ مَلْأَى بِتَفَاصِيلِهِ، وَأَحْسَنُ كِتَابٍ: ((الشِّفَا))، لِلْقَاضِي عِيَاضٍ الْأَنْدَلُسِيِّ.

وَقَدْ قَالَ مُسْتَشْرِقٌ اسْمُهُ (مَاسِنْيُو): ((يَكْفِي لِتَعْرِفَ أُورُبَّا مَحَاسِنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَحَامِدَهُ أَنْ يُنْقَلَ كِتَابُ ((الشِّفَا)) لِلْقَاضِي عِيَاضٍ إِلَى إِحْدَى اللُّغَاتِ الْأُورُبِّيَّةِ)).

لَقَدْ بَوَّبَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ عِنْدَ ذِكْرِ شَمَائِلِهِ ﷺ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: خَلْقُ رَسُولِ اللهِ، وَحِلْيَتُهُ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَشَعْرُهُ، وَمِشْيَتُهُ، وَكَلَامُهُ، وَضَحِكُهُ، وَتَبَسُّمُهُ، وَلِبَاسُهُ، وَخَاتَمُهُ، وَمِغْفَرُهُ، وَدِرْعُهُ، وَطَعَامُهُ، وَصِفَةُ أَكْلِهِ، وَسُنَنُ طَعَامِهِ، وَشَارَتُهُ، وَاللَّوْنُ الْمُحَبَّبُ إِلَيْهِ، وَاللَّوْنُ الَّذِي كَانَ يَرْغَبُ عَنْهُ، وَتَعَطُّرُهُ، وَحُبُّهُ لِلنَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَرُكُوبُهُ.

وَمِنْ أَشْغَالِهِ: مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي نَهَارِهِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ، ثُمَّ نَوْمُهُ، وَتَهَجُّدُهُ، وَوَظَائِفُهُ فِي الصَّلَوَاتِ، وَأُسْلُوبُ خُطْبَتِهِ، وَأَعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، وَأَعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ، وَسُنَّتُهُ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَعْزِيَتُهُ أَهْلَ الْمَيِّتِ، وَسُنَنُهُ فِي لِقَاءِ النَّاسِ، وَعَامَّةُ أَشْغَالِهِ.

وَعَنْ مَجْلِسِهِ ﷺ: مَجَالِسُ الْإِرْشَادِ، وَآدَابُ الْمَجْلِسِ، وَأَوْقَاتُ جُلُوسِهِ مَعَ النَّاسِ، وَطَرِيقَةُ هَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِقَاؤُهُ النَّاسَ بِالْبِشْرِ وَالْبَشَاشَةِ، وَتَأْثِيرُ صُحْبَتِهِ فِيمَنْ صَحِبَهُ، وَأُسْلُوبُ كَلَامِهِ مَعَهُمْ، وَأَنْوَاعُ خُطَبِهِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَثَرُهَا فِي السَّامِعِينَ.

وَمِنْ عِبَادَتِهِ: دُعَاؤُهُ، وَصَلَاتُهُ، وَصَوْمُهُ، وَزَكَاتُهُ وَصَدَقَاتُهُ، وَحَجُّهُ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ، وَشَوْقُهُ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَذِكْرُهُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي مَوَاقِفِ الْقِتَالِ، وَخَشْيَتُهُ مِنَ اللهِ، وَبُكَاؤُهُ، وَمَحَبَّتُهُ لِلهِ، وَتَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ، وَصَبْرُهُ، وَشُكْرُهُ لِمُفِيضِ النِّعَمِ -جَلَّ جَلَالُهُ-.

وَعَنْ أَخْلَاقِهِ ﷺ: أَخْلَاقُهُ بِالتَّفْصِيلِ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ، وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِ لِلنَّاسِ، وَعَدْلُهُ، وَجُودُهُ وَكَرَمُهُ، وَإِيثَارُهُ، وَضِيَافَتُهُ وَقِرَاهُ، وَكَرَاهَتُهُ سُؤَالَ النَّاسِ، وَإِبَاؤُهُ لِأَمْوَالِ الصَّدَقَةِ، وَقَبُولُهُ لِلْهَدِيَّةِ، وَتَرَفُّعُهُ عَنْ فَضْلِ الْغَيْرِ وَمِنَّتِهِ، وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْفَظَاظَةِ، وَمَوْقِفُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَكُرْهُهُ لِلْهِجَاءِ وَالْمَدْحِ، وَالْتِزَامُهُ عَدَمَ التَّكَلُّفِ فِي الْحَيَاةِ، وَبُعْدُهُ عَنِ التَّأَنُّقِ فِي الْمَشْرَبِ وَالْمَأْكَلِ، وَاجْتِنَابُهُ الرِّيَاءَ وَالْخُيَلَاءَ، وَمُسَاوَاتُهُ، وَتَوَاضُعُهُ، وَكَرَاهَتُهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْظِيمِ وَالْإِطْرَاءِ.

وَحَيَاؤُهُ، وَعَمَلُهُ بِيَدِهِ، وَعَزِيمَتُهُ، وَشَجَاعَتُهُ، وَصِدْقُهُ فِي الْقَوْلِ، وَوَفَاؤُهُ بِالْوَعْدِ، وَزُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَنَاعَتُهُ، وَحِلْمُهُ، وَعَفْوُهُ عَنِ النَّاسِ، وَصَفْحُهُ عَنْ أَعْدَائِهِ، وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِمْ، وَمُعَامَلَتُهُ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَحُبُّهُ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَعَفْوُهُ عَنْ أَشَدِّ أَعْدَائِهِ، وَدُعَاؤُهُ لِأَعْدَائِهِ بِالْخَيْرِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَمُعَامَلَتُهُ لِلنِّسَاءِ، وَرَحْمَتُهُ بِالْحَيَوَانِ، وَمَا فُطِرَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَلِينُ قَلْبِهِ وَرِقَّتُهُ، وَعِيَادَتُهُ لِلْمَرْضَى، وَسَجَاحَةُ خُلُقِهِ، وَدَمَاثَتُهُ، وَمَحَبَّتُهُ لِأَوْلَادِهِ، وَمُعَاشَرَتُهُ لِأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ، وَهَدْيُهُ فِي الْمُرَاسَلَاتِ، وَمُعَالَجَتُهُ لِأَمْرَاضِ النَّفْسِ وَأَمْرَاضِ الْبَدَنِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ وَلِمَنْ يَحْضُرُ مَجَالِسَهُ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَهَذَا الْإِذْنُ عَامٌّ لِمَا يَكُونُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، أَوْ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ فِي حَلْقَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، أَوْ مَا يَقِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عِنْدَ تَعَبُّدِهِ فِي مَسْجِدِهِ، أَوْ قِيَامِهِ عَلَى مِنْبَرِهِ خَطِيبًا، أَوْ جِهَادِهِ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ تِجَاهَ أَعْدَائِهِ، وَهُوَ يُسَوِّي صُفُوفَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ إِذَا خَلَا إِلَى رَبِّهِ فِي حُجْرَةٍ مُنْعَزِلَةٍ فِي بَيْتِهِ يَعْبُدُ اللهَ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، فَكَانَ أَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ جَمِيعًا بِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ آخِرُ مَسْجِدِهِ صُفَّةً يَأْوِي إِلَيْهَا فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بُيُوتٌ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، فَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْخُرُوجَ إِلَى مَا بَعْدَ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ يَحْتَطِبُونَ مِنْ أَشْجَارِ الصَّحَرَاءِ وَالْجَبَلِ، وَيَبِيعُونَ مَا يَأْتُونَ بِهِ لِيَقْتَاتُوا جَمِيعًا بِثَمَنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَائِرِهِمْ عَمَلٌ سِوَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَلُزُومِ مَجَالِسِهِ؛ لِيَحْفَظُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ وَمَا يَعْمَلُ، ثُمَّ يَرْوُونَهُ لِلنَّاسِ بِعِنَايَةٍ وَأَمَانَةٍ.

وَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ أَهْلِ الصُّفَّةِ هَؤُلَاءِ -فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ- أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، كَانَ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ صَحَابِيٌّ أَكْثَرَ مِنْهُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُؤَلَاءِ كَانُوا كَأَنَّهُمْ عُيُونٌ فِي نَشَاطِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ لِمَا يَسَّرَهُمُ اللهُ لَهُ مِنْ حِفْظِ كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُونَ حِفْظَهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَوْضُوعِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، لَا يَفْتُرُونَ عَنْ ذَلِكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَالُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمِيًّا مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا ارْتَحَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ فِي غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ كَانُوا مَعَهُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى لَمْ تَخْفَ عَنْهُمْ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي رِسَالَتِهِ.

وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَلَمَّا سَارَ إِلَى تَبُوكَ كَانَ فِي مُعْسَكَرِهِ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَلَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ حَجَّ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُسْلِمٍ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ عُنْوَانُ الصَّحَابَةِ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ يَحْرِصُ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ ثُمَّ يَتَحَدَّثُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ أَوْ يَرَوْنَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ هَلْ يَخْفَى عَنِ التَّارِيخِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ حَيَاتِهِ، أَوْ نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِيهَا؟!!

هَذَا مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِهِ.

وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُ؛ فَإِنَّهُمْ أَفْرَغُوا جُهْدَهُمْ، وَاسْتَنْفَذُوا سَعْيَهُمْ؛ لِيَقِفُوا عَلَى دَخِيلَةٍ مِنْ دَخَائِلِهِ، وَلِيُؤَاخِذُوهُ بِحَقِيقَةٍ يَعْلَمُونَهَا عَنْهُ؛ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجِدَ لَهُ نَاحِيَةَ ضَعْفٍ، وَلَا مَا يُنَدَّدُ بِهِ.

وَأَقْصَى مَا اسْتَطَاعَ أَعْدَاؤُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَنْ يَقُولُوهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَلَّ سَيْفَهُ لِلْقِتَالِ، وَأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَيَاتَهُ الطَّاهِرَةَ هِيَ حَيَاةُ الْعِصْمَةِ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَيَاةٍ لَا نَعْلَمُ عَنْهَا شَيْئًا، وَلَا تَزَالُ نَوَاحِيهَا وَجَوْهَرُهَا سِرًّا فِي ضَمِيرِ الزَّمَنِ؟!!

وَالرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَقْضِ حَيَاتَهُ كُلَّهَا بَيْنَ أَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، بَلْ قَضَى أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَكَانَ بَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ يَتَعَاطَى فِيهِمُ التِّجَارَةَ، وَيُعَامِلُهُمْ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ لَيْلَ نَهَارَ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْيَوْمِيَّةُ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكْشِفَ عَنْ أَخْلَاقِ الْمَرْءِ، فَيَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهَا وَصَلَاحُهَا، وَهِيَ عِيشَةٌ طَوِيلٌ طَرِيقُهَا، كَثِيرَةٌ مُنْعَطَفَاتُهَا، وَعْرَةٌ مَسَالِكُهَا، تَعْتَرِضُهَا وَهْدَاتٌ مِمَّا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْمَرْءِ مِنْ خِيَانَةٍ وَإِخْفَارِ عَهْدٍ، وَأَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَعَقَبَاتٍ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَتَطْفِيفِ الْكَيْلِ، وَبَخْسِ الْحُقُوقِ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ اجْتَازَ هَذِهِ السُّبُلَ الشَّائِكَةَ الْوَعْرَةَ، وَخَلُصَ مِنْهَا سَالِمًا نَقِيًّا، لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِمَّا يُصِيبُ عَامَّةَ النَّاسِ، حَتَّى لَقَدْ دَعَوْهُ «الْأَمِينَ».

وَقُرَيْشٌ بَعْدَ بِعْثَتِهِ وَتَصْرِيحِهِ بِالنُّبُوَّةِ كَانُوا يُودِعُونَ عِنْدَهُ وَدَائِعَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ لِعَظِيمِ ثِقَتِهِمْ بِهِ، وَهُوَ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ خَلَّفَ فِيهَا عَلِيًّا لِيَرُدَّ مَا كَانَ لَدَيْهِ مِنَ الْوَدَائِعِ إِلَى أَهْلِهَا.

فَقُرَيْشٌ خَالَفُوهُ أَشَدَّ الْخِلَافِ فِي دَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا سَبِيلًا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا سَلَكُوهُ، فَقَاطَعُوهُ، وَعَانَدُوهُ، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ سَلَا جَزُورٍ وَهُوَ يُصَلِّي، وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، وَكَادُوا لَهُ كَيْدَهُمْ، وَسَمَّوْهُ سَاحِرًا، وَدَعَوْهُ شَاعِرًا، وَفَنَّدُوا آرَاءَهُ، وَسَخَّفُوا حِلْمَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ فِي أَخْلَاقِهِ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَرْمِيَهُ بِالْخِيَانَةِ، أَوْ يَنْسُبَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ فِي الْقَوْلِ، أَوْ إِخْلَافَ الْوَعْدِ، أَوْ إِخْفَارَ الذِّمَّةِ، أَوْ نَقْضَ الْعَهْدِ)).

فَمَعَ عَدَاوَتِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْهُ: إِنَّهُ هُوَ ((الصَّادِقُ الْأَمِينُ)) ﷺ، وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ.

يَا مَنْ لَهُ الْأَخْلَاقُ مَا تَهْوَى الْعُلَا=مِنْهَا وَمَا يَتَعَشَّقُ الْكُبَراءُ

فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالْجُودِ الْمَدَى=وَفَعَلْتَ مَا لَا تَفْعَلُ الْبُذَلَاءُ

وَإِذَا عَفَوْتَ فَقادِرًا وَمُقَدَّرًا=لَا يَستَهِينُ بِعَفْوِكَ الْجُهَلَاءُ

وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ=هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُحَماءُ

وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّما هِيَ غَضْبَةٌ=فِي الْحَقِّ لَا ضِغْنٌ وَلَا بَغْضَاءُ

وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ=وَرِضَا الْكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ

وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِزَّةٌ=تَعْرُو الْنَدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ

وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا=جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ

وَإِذَا حَمَيْتَ الْمَاءَ لَمْ يُورَدْ وَلَوْ=أَنَّ الْقَيَاصِرَ وَالْمُلُوكَ ظِمَاءُ

وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللهِ لَمْ=يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرَ عِدَاءُ

وَإِذَا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ بِبِرِّهَا=وَلَوَ انَّ مَا مَلَكَتْ يَدَاكَ الشَّاءُ

وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيرُ زَوْجٍ عِشْرَةً=وَإِذَا ابْتَنَيْتَ فَدُونَكَ الْآبَاءُ

وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّدًا=فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ=فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

وَإِذَا مَشَيْتَ إِلَى الْعِدَا فَغَضَنْفَرٌ=وَإِذَا جَرَيْتَ فَإِنَّكَ النَكْبَاءُ

وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِيًا=حَتَّى يَضِيقَ بِعَرضِكَ السُّفَهَاءُ

صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَنَفْسِي، صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ، وَعَلَى آلِكِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.


((النَّبِيُّ ﷺ إِمَامُ الدُّنْيَا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ))

لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدُ))، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.

وَلَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

أَقُولُ لَكُمْ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ-: إِنَّهُ مَا وَقَعَتِ النَّفْسُ فِي كُرْبَةٍ، وَلَا ضَاقَتْ بِالْهَمِّ يَوْمًا، وَلَا نَاءَتْ بِالْغَمِّ دَهْرًا، إِلَّا وَفَزِعَتْ.. كَأَنَّمَا غُرِزَ فِيهَا ذَلِكَ غَرِيزَةً، وَأُوعِبَ فِيهَا إِيعَابًا، وَرُكِزَ فِيهَا طَبْعًا.. إِلَّا فَزِعَتْ إِلَى سِيرَتِهِ ﷺ.

يَحْمِلُ الْهَمَّ شَرِيفًا، يَبْسُطُ الْكَفَّ نَظِيفًا، يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الطَّاهِرَ هُوَ هَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَبَادِئِ الْعَظِيمَةِ الطَّاهِرَةِ.

لَا غَرْوَ؛ لَقَدْ أَدَّبَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَرَبَّاهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فَأَكْمَلَ تَرْبِيَتَهُ، وَأَعْطَاهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ.

الرَّسُولُ ﷺ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، النَّبِيُّ ﷺ يُحْصَى عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ تُصَادَمُ الدُّنْيَا كُلُّ الدُّنْيَا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْ ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ سِيرَتُهُ، وَبَاطِنُ أَحْوَالِهِ، وَدَقَائِقُ أَفْعَالِهِ، وَخَفِيُّ أَقْوَالِهِ، تُصَادَمُ الدُّنْيَا بِهَذَا كُلِّهِ مُتَحَدًّى بِمَا جَاءَ بِهِ، وَفِي ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ مُتَحَدًّى بِهِ سِيرَتُهُ وَحَرَكَةُ حَيَاتِهِ، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى نَقْصٍ يَعْتَوِرُ الصُّورَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الظِّلَالِ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ؟!!

حَاشَا وَكَلَّا.

النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ -تَعَالَى- خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.


((مَنْهَجُ النَّبِيِّ ﷺ الْعَمَلِيُّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

لَقَدِ ابْتَدَأَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ -سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ- بِتَكْلِيفِ الرَّسُولِ ﷺ بِالنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَالْقِيَامِ بِمُهِمَّةِ التَّبْلِيغِ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، وَبِإِنْذَارِ الْكُفَّارِ، وَبِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْفُجَّارِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1-2].

أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ بِالِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَاتِ اللهِ الْقَاصِرَةِ وَبِالِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَاتِ اللهِ الْمُتَعَدِّيَةِ، فَفِي سُورَةِ الْمُزَمَّلِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ الْقَاصِرَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَأَمَرَهُ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْإِعْلَانِ بِالدَّعْوَةِ، وَالصَّدْعِ بِالْإِنْذَارِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {قُمْ}؛ أَيْ: بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ {فَأَنذِرْ}: فَأَنْذِرِ النَّاسَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ وَبَيَانُ حَالِ الْمُنْذَرِ عَنْهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِتَرْكِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَبِّهِ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَاتٍ فِي مَوَاضِعَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا -وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَقِفُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ بَدْءِ السَّعْيِ فِي شَوْطِهِ الْأَوَّلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ دَاعِيًا مُتَأَمِّلًا مُسْتَمْتِعًا لِلْآمَالِ الْقَدِيمَةِ الْبَعِيدَةِ لِلْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الشَّامِخِ الْعَظِيمِ، الَّذِي وُلِدَ جَبَلًا وَوُلِدَ رَمْزًا، وَلَمْ يُولَدْ قِزْمًا وَلَا قَزْمًا، وَلَمْ يُولَدْ ضَئِيلًا وَلَا صَغِيرًا يَكْبُرُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا وُلِدَ شَامِخًا يَتَحَدَّى الدَّهْرَ كُلَّهُ، يَتَحَدَّى الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، هُوَ يَقِفُ عَلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ؛ ((وَاصَبَاحَاهُ!))؛ فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا، مَاذَا هُنَالِكَ؟

يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

يَقُولُونَ.. وَلَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ! هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا عَبَدَةَ الْبَيَانِ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ أُحْصِيَ مِنْهُمْ جُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ اجْتَرَءُوا عَلَى أَصْنَامِهِمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، وَلَمْ يُحْصَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَجْتَرِأُ عَلَى لُغَتِهِ بِالسَّبِّ وَالتَّنْقِيصِ وَالشَّتْمِ أَبَدًا، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَنَالُ لُغَتَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَسُوءُ لُغَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُفِظَ عَنْهُمْ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ مَقُولَاتِهِمْ فِي سَبِّ أَصْنَامِهِمْ، إِلَّا اللُّغَةُ هِيَ حِمًى مَحْمِيٌّ، وَهِيَ قَلْعَةٌ شَامِخَةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ لَا يَنَالُهُ شَتْمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ شَنَارٌ، وَلَا يَنْزِلُ بِسَاحَتِهِ عَارٌ.

انْظُرْ مَاذَا قَالُوا؟

يَقُولُ ﷺ: ((لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ وَرَاءَكُمْ بِالْوَادِي عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكُمْ))، فَالْأَمْرُ جِدٌّ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، الْأَمْرُ جِدٌّ؛ أَنْ تَكُونَ أَوْ لَا تَكُونَ، فَمَا الْحَلُّ إِذَنْ؟!!

((أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!))، أَمْ تُرِيدُونَ بُرْهَانًا؟!! أَمْ تُرِيدُونَ دَلَائِلَ وَيَقِينًا؟!!

أَنْتَ أَنْتَ هُوَ الْيَقِينُ، وَكَلَامُكَ هُوَ الصِّدْقُ وَلَا مَزِيدَ، وَلِذَلِكَ رَدُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ كَذَبًا)).

لَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ نُصَدِّقُكَ! وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّكَ عِنْدَنَا صَادِقٌ! لَا؛ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِدَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ، وَبِبَيِّنَةٍ قَاهِرَةٍ دَاحِضَةٍ فِي آنٍ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْطِقَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذَبًا قَطُّ)).

فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!! أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ، بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ. قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

فَمَاذَا قَالُوا؟!!

أُبْلِسُوا، وَأَمَّا النَّاطِقُ الرَّسْمِيُّ أَشْقَاهَا يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِكَيْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ النَّاطِقَ الرَّسْمِيَّ بِاسْمِ كُفَّارٍ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: ((تَبًّا لَكَ -يَعْنِي هَلَاكًا لَكَ مِنْ بَعْدِ هَلَاكٍ-! تَبًّا لَكَ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!!)).

وَيَنْزِلُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؛ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ، الْأُولَى دُعَاءٌ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وَتَب الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ عَنْهُ؛ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ.

فَالرَّسُولُ ﷺ أَتَى بِدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فِيهِ، فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى بَاطِنِهِ، وَمَنْطِقُهُ يَدُلُّ عَلَى جَوْهَرِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ يُدَافِعُ عَنْهُ، فَيَجِدُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السَّنَدَ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْخَارِجِ -فِي خَارِجِ الْبَيْتِ-، وَلَكِنَّهُ يَجِدُ الْعَنَتَ الْعَانِتَ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ وَجَدَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَكَانَ يَجِدُ السَّكَنَ ﷺ.

خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَهَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ؛ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ ﷺ -، عِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ)).

قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:

* الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَالتَّعْبِيرُ بِـ (عَلَى) وَهِيَ لِلِاسْتِعْلَاءِ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ في بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.

* وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ.

فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ)).

إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.

مِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي النَّبِيِّ ﷺ وَلَهُ: أَنَّ عَمَّهُ كَانَ يُنَاصِرُهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَهُوَ مُنَاصِرُهُ؛ لَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ بِالْعَصَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَمَّهُ قَدْ أَسْلَمَ، فَهُوَ يَنْصُرُ الْإِسْلَامَ عَصَبِيَّةً، بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ بِعَصَبِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ رَبُّهُ، هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ اللهُ.

فَيَبْقَى أَبُو طَالِبٍ عَلَى كُفْرِهِ، بَلْ يُخْرِجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ ﷺ مَنْ يُحَارِبُهُ عِنْدَمَا اسْتَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ، يَعْنِي لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ سِوَى أَبِي لَهَبٍ لِكَيْ يَقُولَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَمَّا جَمَعَهُمْ عِنْدَ الصَّفَا وَدَعَاهُم: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ إِلَّا هَذَا الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ هَذَا الْيَوْمِ!! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! هَذَا عَمُّهُ!!

بَلْ كَانَ يُؤْذِيهِ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْلَغَ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ -أَيْضًا- أَنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ يُنْصَرْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فِي مَجَامِعِهِمْ وَفِي مَوَاسِمِهِمْ وَفِي أَسْوَاقِهِمْ.

فَيَأْتِي الْعَرَبُ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَأْتُونَ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْأَسْوَاقِ؛ فِي عُكَاظٍ، وَذِي الْمَجَنَّةِ، وَذِي الْمَجَازِ، أَسْوَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ مَعْلُومَةً تُعْقَدُ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَعْرِضِ الْكِتَابِ، فَكَانُوا إِذَا جَاءُوا؛ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، قُولُوا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.. تُفْلِحُوا))، وَرَجُلٌ وَضِيءٌ أَحْوَلُ لَهُ غَدِيرَتَانِ -ضَفِيرَتَانِ- يَدُورُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ، كُلَّمَا دَعَا قَوْمًا أَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْقَوْمِ يَقُولُ: لَا تُصَدِّقُوهُ! هُوَ ابْنُ أَخِي، وَهُوَ مَجْنُونٌ!! فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّهُ أَدْرَى بِهِ! بَلَاءٌ عَظِيمٌ!!

فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَاللهِ مَا خَلُصَ إِلَيَّ أَحَدٌ بِأَذًى أَوْ بِشَيْءٍ أَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ)).

وَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَةَ بِمَرْكَزِهَا -مَرْكَزِ الثِّقَلِ فِي الدَّعْوَةِ- إِلَى الطَّائِفِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ اسْتَعْصَتْ -صَارَتْ حَالَتُهَا مُسْتَعْصِيَةً-؛ يَعْنِي كَمَا يَقُولُونَ: أَتَت بِآخِرِ مَا عِنْدَهَا!

الدَّعْوَةُ هَكَذَا وَصَلَتْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ فِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَرْكَزَ الدَّعْوَةِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ، فَذَهَبَ إِلَى ثَقِيفٍ وَحَدَثَ عِنْدَهُمْ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِيذَاءِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَغْرَوْا بِهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ وَالضُّعَفَاءَ يَقْذِفُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَبْتَعِدُ عَنْ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي مَرْمَى أَحْجَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فِي عَقِبِهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ التَّعَبُ مَبْلَغَهُ، حَتَّى مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا كَانَ.

مَعَ هَذَا الْأَسَى كُلِّهِ، وَمَعَ هَذَا الْعَنَتِ، وَمَعَ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَالْمَوْجِدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وَهُوَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالُوا خَيْرًا فَعَلَ، لَا يَدْخُلُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَمَا أَتَى مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَالَ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -أَيِ: الجَبَلَيْنِ-؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ)).

قَالَ: ((لَا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

فَصَدَقَ مَنْ سَمَّاهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ ﷺ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَأْخُذْهُمْ إِلَّا بِالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الرَّسُولُ ﷺ فِي السِّلْمِ يُعَلِّمُ التَّوْحِيدَ، وَفِي الْحَرْبِ يُعَلِّمُ التَّوْحِيدِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ لَمَّا مَرُّوا وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ عَلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ.

قَالَ: ((اللهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)).

يُعَلِّمُ التَّوْحِيدَ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ، رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَقَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، حَتَّى وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْتِ ﷺ جَعَلَ عَلَى وَجْهِهِ خَمِيصَةً، فَكُلَّمَا اغْتَمَّ بِهَا رَفَعَهَا وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْتِ يَقُولُ: ((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى! اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ؛ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا)).

الرَّسُولُ ﷺ إِلَى اللَّحْظَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ عُمُرِهِ يَدْعُو إِلَى حَقِيقَةِ الدِّينِ، يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ.

(الرَّسُولُ ﷺ إِمَامُ الصَّادِقِينَ))

((الرَّسُولُ ﷺ هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ، كَانَتْ حَيَاتُهُ ﷺ أَفْضَلَ مِثَالٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ الَّذِي اتَّخَذَ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْأَمَانَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ خَطًّا ثَابِتًا لَا يَحِيدُ عَنْهُ قِيدَ أُنْمُلَةٍ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ بِمَثَابَةِ السَّجِيَّةِ وَالطَّبْعِ، فَعُرِفَ بِذَلِكَ حَتَّى قَبْلَ الْبَعْثَةِ.

وَكَانَ لِذَلِكَ يُلَقَّبُ بِالصِّادِقِ الْأَمِينِ، وَاشْتُهِرَ بِهَذَا وَعُرِفَ بِهِ بَيْنَ أَقْرَانِهِ، وَقَدِ اتَّخَذَ ﷺ مِنَ الصِّدْقِ الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ مَدْخَلًا إِلَى الْمُجَاهَرَةِ بِالدَّعْوَةِ؛ إِذْ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ جَمَعَ أَهْلَهُ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَدَى تَصْدِيقِهِمْ لَهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَأَجَابُوا بِمَا عَرَفُوا عَنْهُ قَائِلِينَ: ((مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا الصِّدْقَ))؛ مَا عَرَفْنَا عَنْكَ إِلَّا الصِّدْقَ، وَمَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ!)) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا.

فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)).

قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.

قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!

فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.

لَقَدْ كَانَ الصِّدْقُ مِنْ خَصَائِصِ أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ مِنْ تَحْرِيفٍ فِي قَوْلٍ، وَاسْتِرْسَالٍ فِي خَبَرٍ يَكُونُ إِلَى الْكَذِبِ مَنْسُوبًا وَلِلصِّدْقِ مُجَانِبًا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا تَعْرِفُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَلَوْ حَفِظُوا عَلَيْهِ كِذْبَةً نَادِرَةً فِي غَيْرِ الرِّسَالَةِ لَجَعَلُوهَا دَلِيلًا عَلَى تَكْذِيبِهِ فِي الرِّسَالَةِ، وَمَنْ لَزِمَ الصِّدْقَ فِي صِغَرِهِ كَانَ لَهُ فِي الْكِبَرِ أَلْزَمَ، وَمَنْ عُصِمَ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حُقُوقِ اللهِ أَعْصَمَ)).

وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ الْمُبَارَكَةِ كَانَ تَصْدِيقُ الْوَحْيِ لَهُ مَدْعَاةً لِأَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ: الصِّادِقَ الْمَصْدُوقَ ﷺ، وَصَدَقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ قَالَ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2-4]».


((أَمَانَةُ النَّبِيِّ ﷺ.. الصِّفَةُ وَالتَّطْبِيقُ))

مُحَمَّدٌ ﷺ صَادِقٌ مَظْهَرًا وَمَخْبَرًا، قَوْلًا وَفِعْلًا ﷺ، مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَأْتِي إِلَيْهِ ﷺ، وَأَمَانَتُهُ لَا خِلَافَ عَلَيْهَا حَتَّى بَيْنَ أَعْدَائِهِ وَمُبْغِضِيهِ، حَتَّى بَيْنَ الَّذِينَ بَيَّتُوا قَتْلَهُ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيَّتُوا فِيهَا قَتْلَهُ، وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَبُّهُ، وَخَرَجَ فِيهَا مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كَانَتْ أَمَانَاتُهُمْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ، يَكْفُرُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَيَقُولُونَ كَاهِنٌ وَسَاحِرٌ وَمَجْنُونٌ؛ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ أَمَانَةٌ لَمْ يَجِدْ أَأْمَنَ وَلَا آمَنَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَجْعَلُ عِنْدَهُ أَمَانَتَهُ، وَإِنَّهُ لَيُكَذِّبُهُ وَيُبْغِضُهُ وَيَتَمَنَّى لَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَلَكِنَّ أَمَانَةَ مُحَمَّدٍ لَا خِلَافَ عَلَيْهَا بَيْنَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ جَعَلَ فِي لَيْلَةِ الْهِجْرَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي فِرَاشِهِ، وَجَعَلَهُ مُخَلَّفًا خَلْفَهُ فِي مَكَّةَ، وَذَهَبَ النَّبِيُّ مُهَاجِرًا، وَوَصَّى النَّبِيُّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِأَنْ يُرْجِعَ الْأَمَانَاتِ وَيَرُدَّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، حَتَّى فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ هُوَ أَمِينٌ ﷺ وَقَدْ أَكَلُوا مَالَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا عَادَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ وَدَخَلَ مَكَّةَ ظَافِرًا ﷺ لَمْ يَجِدْ بَيْتًا يُؤْوِيهِ، وَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَلْتَنْزِلْ فِي بَيْتِ أَبِيكَ!

فَقَالَ: ((وَهَلْ أَبْقَى لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟!!)).

فَنَزَلَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ فِي بَيْتِ ابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨].

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ: ((أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ, وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ, وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ, وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِىٍّ)).

وَسَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَلْ يَغْدِرُ؟

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ آنَذَاكَ مُشْرِكًا-: لَا.

فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) -، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).

فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.


((صَبْرُ النَّبِيِّ ﷺ))

النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَصْبَرِ النَّاسِ عَلَى أَذًى، بَلْ هُوَ أَصْبَرُ النَّاسِ عَلَى الْأَذَى ﷺ.

قَبْلَ الْهِجْرَةِ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أَجْدَادِهِ -بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ- وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَإِذَا مَا سَجَدَ؛ يُقْبِلُ كُفَّارُ قُرَيْشٌ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ رَأَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي ذُبِحَ الْأَمْسَ -وَسَلَا الْجَزُورِ: هِيَ اللَّفَائِفُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا وَلِيدُ الْحَيَوَانِ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهِيَ كَالْمَشِيمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآدَمِيَّةِ-.

يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ رَأَى سَلَا جَزَورِ بَنِي فُلَانٍ، أَيُّكُمْ يَأْتِي بِهِ فَيْجَعَلُهُ عَلَى كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ فِي بَلَدِ اللهِ الْحَرَامِ)).

وَيَذْهَبُ أَشْقَى الْقَوْمِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ -فَلَا رَحِمَ اللهُ فِيهِ مَغْرِزَ إِبْرَةٍ- فَيَأْتِي بِالْقَاذُورَاتِ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى كَتِفَيْ أَطْهَرِ الْكَائِنَاتِ ﷺ.

عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ وَلَمْ أَكُنْ مُسْتَضْعَفًا لَنَحَّيْتُ الْقَذَرَ عَنْ كَتِفَيْ رَسُولِ اللهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ مُسْتَضْعَفًا وَلَا مَنَعَةَ لِي، فَلَا حَوْلَ وَلَا حِيلَةَ.

وَظَلَّ النَّبِيُّ سَاجِدًا لَا يَلْتَفِتُ، وَذَهَبَ رَجُلٌ إِلَى فَاطِمَةَ -وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ صَغِيرَةٌ-، فَجَاءَتْ فَنَحَّتِ الْقَذَرَ عَنْ كَتِفَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

ثُمَّ رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ رَأْسَهُ، وَدَعَا عَلَى الْقَوْمِ، فَوَاللهِ مَا أَخْطَأَتْ دَعْوَةٌ مِنْ دَعَوَاتِهِ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ إِلَّا مَاتَ قَتِيلًا فِي بَدْرٍ، ثُمَّ جُعِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)) ﷺ.


((النَّبِيُّ ﷺ وَفَاءٌ مُجَسَّدٌ))

عِبَادَ اللهِ! وَأَمَّا وَفَاءُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعَهْدِ فَأَمْرٌ لَا تُحِيطُ بِهِ الْكَلِمَاتُ، لَمَّا وَقَعَتْ هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَصُلْحُهَا بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ؛ أَمْضَى النَّبِيُّ الْعَهْدَ وَوَقَّعَ الْعَقْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَلَمَّا وَقَّعَ النَّبِيُّ ﷺ بِخَاتَمِهِ -وَكَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ﷺ -؛ جَاءَ ابْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أَبُو جَنْدَلٍ يَرْسُفُ فِي أَغْلَالِهِ وَيَحْجِلُ فِي تِلْكَ الْقُيُودِ، وَكَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ، فَحَبَسَهُ أَبُوهُ لِكَيْ يَعُودَ إِلَى الْكُفْرِ.

وَجَاءَ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ، وَالنَّبِيُّ يَرَاهُ وَالْمُسْلِمُونَ يُبْصِرُونَهُ، يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! لَا تَدَعُونِي فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ فَيَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي، خُذُوا بِيَدِي إِلَيْكُمْ!)).

فَيَقُولُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا مُحَمَّدُ! قَدْ لَجَّتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَقَدْ خَتَمْتَ عَلَى هَذَا الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَهَذَا أَوَانُ الْوَفَاءِ)).

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي جَنْدَلٍ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! اصْبِرْ؛ إِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)).

يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَا تَدَعْنِي فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ!

يَقُولُ: ((اصْبِرْ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)) ﷺ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ وَفَاؤُهُ لِأَصْحَابِهِ، فَقَدْ كَانَ ﷺ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ رُبَّمَا، كَمَا فَعَلَ مَعَ بَعْضِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَكَانَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَا يُقَبِّحُ الْحَسَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إِسْرَافِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ، غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَفْعَلُ، وَكَانَ مُتَنَبِّهًا لِكُلِّ أَمْرٍ فِيهِمْ، فَكَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ تَخَوَّلَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ وَفَائِهِ لِأَصْحَابِهِ: وَفَاؤُهُ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذِكْرُهُ لِفَضَائِلِهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ قَالَ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ))؛ أَيْ: فَقَدْ رَكِبَ الْمَخَاطِرَ، أَوْ دَخَلَ أَمْرًا عَسِيرًا صَعْبًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: فَأَغْلَظْتُ لَهُ الْقَوْلَ وَأَخَذْتُهُ بِشَدِيدِهِ- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ: ((يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ - ثَلَاثًا)).

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: ((أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟)).

فَقَالُوا: لَا.

فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ -يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ عَلَى مَا وَجَدَ الصِّدِّيقُ مِنَ الْفَارُوقِ-.

فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا قَالَ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ وَفَعَلَ-: ((إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ! وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ! وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي - مَرَّتَيْنِ)).

قَالَ أُبُو الدَّرْدَاءُ ﷺ: ((فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).

وَمِنْ مَظَاهِرِ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا كَانَ مِنْ وَفَائِهِ لِزَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهَا؛ فَمِنْ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ قِيَامُهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَتَقْطِيعِ أَعْضَائِهَا، ثُمَّ الْأَمْرُ بِتَوْزِيعِ ذَلِكَ فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدُ.

وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْوَفَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْطِيعِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ، وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَى بُيُوتِ الصَّاحِبَاتِ مَعَ نُدْرَةِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ شَاةٌ يُطْعِمُهَا أَهْلَ بَيْتِهِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ جُودُهُ ﷺ، وَشَاهِدُهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا كَانَ يُبْقِي مِنَ الشَّاةِ شَيْئًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا»، وَلَوْلَا إِرْسَالُ جَمِيعِ الشَّاةِ لَقَالَتْ: ثُمَّ يَبْعَثُ مِنْهَا.

وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ ﷺ عِنْدَمَا تَزُورُهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَرَدَ: «فَارْتَاعَ لِذَلِكَ»؛ أَيْ هَشَّ لِمَجِيئِهَا، مَعَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْفَرَحِ عَلَى وَجْهِهِ.

فَمِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ ﷺ لِخَديجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ كَانَ يُحِبُّ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ»؛ أَيْ يَا رَبِّ! اجْعَلِ الْمُسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ هَالَةَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ، وَحِفْظِ الْوُدِّ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ».

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: ((مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ, وَمَا رَأَيْتُهَا)).

عَجِيبٌ!! هِيَ الَّتِي لَمْ تَرَهَا، وَهِيَ الَّتِي تَغَارُ مِنْهَا، وَبَلَغَتِ الْغَيْرَةُ مِنْهَا مَبْلَغَهَا، وَمَا غَارَتْ غَيْرَتَهَا مِنْهَا عَلَى وَاحِدَةٍ مِمَّنْ عَاصَرَتْهُنَّ تَحْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِمَ؟!

قَالَتْ: ((وَلَكِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا, وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً, ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -فِي صُوَيْحِبَاتِهَا-)). هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَة، أَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجةَ!

اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَيْهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ تَطْرُقُنَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَأَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجَةَ! اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى صَاحِبَةِ خَدِيجَةَ، وَهَكَذَا.

تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((فَرُبَّمَا قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ)).

فَيَقُولُ: ((إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)).

مَزَايَا عَدِيدَةٌ، وَخِصَالٌ حَمِيدَةٌ، وَمَآثِرُ مَجِيدَةٌ، وَمِنْ مَآثِرِهَا: أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهَا فِي عِشْرَتِهَا بِطُولِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا أَغْضَبَتْهُ مَرَّةً قَطُّ، وَلَا رَاجَعَتْهُ فِي شَيْءٍ أَبَدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَهَذَا الْوَفَاءُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَ كُلُّهُ بَعْدَ وَفَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، مَعَ مَا كَانَ مِنَ الْوَفَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ وَفَائِهِ ﷺ: وَفَاؤُهُ مَعَ أَعْدَائِهِ؛ فَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ -أَيْ: لَا أَنْقُضُهُ- وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ -أَيْ: الرُّسُلَ- وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي بِنَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ)).

قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا.

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ.

فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ.

فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: ((انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الوَفَاءَ..

فَوَفَاؤُهُ وَفَاؤُهُ ﷺ.

وَإِذَا صُحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمَا=فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ=فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

ﷺ.


((حُسْنُ عِشْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِيوَاءِ وَالنَّفَقَةِ.

وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَانَ يُسَرِّبُ إِلَى عَائِشَةَ بَنَاتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا -وَكَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ-، وَكَانَ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ تَابَعَهَا عَلَيْهِ.

وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ حَائِضًا، وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَأْتَزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يُمَكِّنُهَا مِنَ اللَّعِبِ، وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبِهِ تَنْظُرُ، وَسَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْمَنْزِلِ مَرَّةً.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ يَقُولُ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ، دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَدَنَا مِنْهُنَّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنَّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ، فَعَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟!

قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا رَجُلٌ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟!!

قَالَتْ: ((نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ)).

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)).

((يَفْلِي ثَوْبَهُ))؛ أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلِقَ بِهِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ قَذًى.

((قِيلَ لَهَا: ))؛ وَالْقَائِلُ لَهَا لَمْ يُعَيَّنْ.

((مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ))، وَمَهَّدَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي: ((يَفْلِي ثَوْبَهُ))؛ يَعْنِي: يُفَتِّشُهُ، لِيَلْتَقِطَ مَا فِيهِ مِمَّا عَلِقَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ شَوْكٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ لِيُرَقِّعَ مَا فِيهِ مِنْ نَحْوِ خَرْقٍ.

((وَيَحْلُبُ شَاتَهُ))؛ بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا: ((وَيَحْلِبُ شَاتَهُ)).

((يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((يَعْمَلُ عَمَلَ الْبَيْتِ))، وَأَكْثَرُ مَا يَعْمَلُ الْخِيَاطَةُ، يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ خِدْمَةُ نَفْسِهِ، وَخِدْمَةُ أَهْلِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَدَمِ تَرَفُّعِهِ وَتَكَبُّرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ.

وَمِنْ مَعَالِمِ حُسْنِ عُشْرَتِهِ وَطِيبِ مُعَامَلَتِهِ لِأَهْلِهِ مَا كَانَ مِنْهُ ﷺ مَعَ أَبْنَائِهِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ؛ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.

وَمَقَامُ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَقَامٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَعَلِيٌّ زَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنَتَهُمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: ((إِنَّ آلَ أَبِي جَهْلٍ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَلَا وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ فَلْيُفَارِقْ فَاطِمَةَ))، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ حَدَثَ؛ يَكُونُ فِتْنَةً لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ تَكُونُ ضَرَّتُهَا بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى عَلِيٍّ مَا يُمَاثِلُ مَا لِلْأُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي -وَالْبَضْعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ- يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا)). فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

لَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ، وَأَسَرَّ إِلَيْهَا كَلَامًا، فَبَكَتْ، ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي فِي آنٍ؟!!)).

فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: ((بِمَا أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَتْ: ((إِنِّي إِذَنْ لَبَذِرَةٌ -وَالْبَذِرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَنْقُلُ الْحَدِيثَ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ شَيْءٌ سَمِعَهُ، فَإِذَا جَلَسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ حَدَّثَ بِمَا كَانَ- وَمَا كُنْتُ لِأُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ)).

فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ؛ حَدَّثَتْ بِالَّذِي كَانَ، فَقَالَتْ: ((إِنِّي لَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى؛ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جَاءَهُ فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ دَنَا، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ؛ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنِّي -أَيْ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- أَسْرَعُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقًا بِهِ، قَالَتْ: فَضَحِكْتُ)).

فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَضْلُ فَاطِمَةَ وَعَظِيمُ قَدْرِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ بِرِّهِ بِأَهْلِهِ وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَحَبَّتُةُ ﷺ لِأَحْفَادِهِ وَبِرُّهُ بِهِمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ؛ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِي الْحَدِيثِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.

وَفِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَفِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً؛ -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ«».

وَلَمْ يَقِفْ بِرُّهُ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَحْفَادِهِ، وَإِنَّمَا امْتَدَّتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ الطَّيِّبَةُ إِلَى خَدَمِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي -وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- -، فَأَخَذَ بِيَدِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَّهُ هِيَ الَّتِي أَخَذَتْ ِبيَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ.

قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟!» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ فِي الْعَاشِرَةِ، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

حَتَّى إِنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَفْعَلُ مَا تَقْتَضِيهِ سِنُّهُ، كَمَا حَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَذْهَبَ لِحَاجَةٍ عَيَّنَهَا لِي، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ!

يَقُولُ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: «اذْهَبْ يَا أَنَسُ، فَافْعَلْ كَذَا!».

فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ! وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ.

قَالَ: فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخَذَ بِأُذُنِي مِنْ خَلْفِي وَيَقُولُ: «يَا أُنَيْسُ، هَلْ ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقُلْ لَهُ لِشَيْءٍ صَنَعَهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.

عَشْرُ سِنِينَ لَمْ يَقُلْ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ذَلِكَ!!

وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ الرَّسُولِ ﷺ.

«مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا»؛ أَيْ: لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِهِ ﷺ عَلَى أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْآدَابِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيهَا.

يَعْنِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخِدْمَتِهِ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ، أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!

فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

«أُفٍّ»: كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.

لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ! وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ-، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «قَوْلُهُ: «تِسْعَ سِنِينَ»، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ «عَشْرَ سِنِينَ»؛ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ تَحْدِيدًا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَخَدَمَهُ أَنَسٌ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى.

فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَحْسِبِ الْكَسْرَ، بَلِ اعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ حَسَبَهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ».

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.

لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وِلَا امْرَأَةً». الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.

«مَا ضَرَبَ» «بِيَدِهِ» لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَادَةً يَكُونُ بِالْيَدِ، فَلَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ» لَفُهِمَ أَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهَا أَكَّدَتْ بِقَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ».

«شَيْئًا»؛ أَيْ: آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.

«وَقَطُّ»، كَمَا مَرَّ؛ لِتَأْكِيدِ الْمَاضِي.

«إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ»؛ أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.

وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ، فَإِنَّ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

«وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً»؛ أَيْ: مَعَ وُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِمَا، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمَا غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا، فَالتَّنَزُّهُ عَنْ ضَرْبِ الْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ -حَيْثُ أَمْكَنَ- أَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا لِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَمَالِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ أَنَسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا هَكَذَا؟

فَالْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِنِسَائِهِ وَخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.


((وَاقِعٌ عَمَلِيٌّ مِنْ عَفْوِ النَّبِيِّ ﷺ وَحِلْمِهِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ؛ فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ؛ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.

قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).

فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.

ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.


((مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ قَوْلًا وَعَمَلًا))

عِبَادَ اللهِ! إنَّ مَنْ سَبَرَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-، وَمَنْ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ؛ وَجَدَ الرَّحْمَةَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي كَانَتْ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَلَهُ مِنْهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى.

فَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ لِذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وَلَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ مِنْ سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى امْتِثَالِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ يَعْسُرُ حَصْرُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ؛ لِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْدَانُ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْحَمَ الْإِنْسَانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ - وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ؛ يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ».

فَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّحْمَةِ فِي نَفْسِهِ ﷺ، حَتَّى كَانَتْ دَيْدَنَهُ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَلِينِهِ وَرِفْقِهِ؛ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَالْتَفَّتْ حَوْلَهُ أَبْدَانُهُمْ، وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ مِنْ أَذَى النَّاسِ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَقِمُ، بَلْ وَلَا يَضْجَرُ، فَرَحْمَتُهُ تَسْبِقُ غَضَبَهُ ﷺ.

فَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ دَاعٍ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

وَهَذِهِ نَمَاذِجُ عَمَلِيَّةٌ مُضِيئَةٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ رَحْمَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِنْ ذَلِكَ رَحْمَتُهُ ﷺ بِالْأَطْفَالِ؛ فَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَمَّانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يُوسُفَ، وَأَقْعَدَنِي عَلَى حِجْرِهِ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِي.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «الشَّمَائِلِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مُلَاطَفَةُ الصَّبْيِّ وَالرِّفْقُ بِهِ، وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَظِيمُ تَوَاضُعِهِ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ: رَحْمَتُهُ بِالْحَيَوَانِ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»؛ أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ إِنْسَانًا مِنْ بَنِي آدَمَ؟!

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلَّذِي كَانَ يَذْبَحُ شَاةً وَأُخْتُهَا تَنْظُرُ إليْهَا: «أنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ؟! تُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟!!».

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فَأَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا.

قَالَ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ» وَفِي غَيْرِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ().

هَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ -خُلُقُ الرَّحْمَةِ لَا يتَجَزَّأُ- كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي خُلُقِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ رَحْمَتُهُ عَامَّةً وَغَامِرَةً وَشَامِلَةً، وَقَدْ شَمِلَتِ الطُّيُورَ وَالْحَيَوَانَاتِ، بَلْ شَمِلَتِ الْحَشَرَاتِ لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ حَرْقًا، وَدُونَ ذَلِكَ فِي الْإْثِم أَنْ تُقْتَلَ بِالْمَاءِ إِغْرَاقًا، فَهَذَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ تَبْدُو مَظَاهِرُ رَحْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﷺ.


((دِينُ الْيُسْرِ وَالْوَسَطِيَّةِ الْحَقَّةِ وَالِاعْتِدَالِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ وَالاسْتِقَامَةَ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 6-7].

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي وَصَّانَا اللهُ -تَعَالَى- بِاتِّبَاعِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الجَائِرَةِ.

لَكِنَّ الجَوْرَ قَدْ يَكُونُ جَوْرًا عَظِيمًا عَنِ الصِّرَاطِ، وَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا كَالطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ السَّالِكَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجُورُ جَوْرًا فَاحِشًا، وَقَدْ يَجُورُ دُونَ ذَلِكَ.

فَالْمِيزَانُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالجَوْرِ عَنْهُ: هُوَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ.

وَالجَائِرُ عَنْهُ إِمَّا مُفَرِّطٌ ظَالِمٌ، أَوْ مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ، أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ، كَمَا أَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ الْمِلَلِ، وَلَمْ يُصِبِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مُتَوَرِّطٌ فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْهُمَا.

قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الْغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ؛ ((فَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77].

وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا: كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْي.

وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ: كَقِيامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).

فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْعَجِيبِ أَنَّهُ يَشَامُّ النَّفْسَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيُّ القُوَّتَيْنِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا: أَقُوَّةُ الْإِقْدَامِ، أَمْ قُوَّةُ الِانْكِفَافِ وَالْإِحْجَامِ وَالْمَهَانَةِ، وَقَدْ وَقَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا أَقَلَّ القَلِيلِ فِي هَذَيْنِ الْوَادِيَيْنِ: وَادِي التَّقْصِيرِ، وَوَادِي الْمُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي.

وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ جِدًّا الثَّابِتُ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ الْوَسَطُ)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77].

وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).

فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ، الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ.

وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى.

وَفِيهِ: مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.

وَالْحَيَاةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ -مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْوَحْي الْمَعْصُومِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ الْبُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.

فَلَا تُفَرِّطْ وَلَا تُفْرِطْ وَكُنْ وَسَطًا=وَمِثْلَ مَا أَمَرَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَقِمِ

سَدِّدْ وَقَارِبْ وَأَبْشِرْ وَاسْتَعِنْ بِغُدُوٍّ=وَالرَّوَاحِ وَأَدْلِجْ قَاصِدًا وَدُمِ

فَمِثْلَ مَا خَانَتِ الْكَسْلَانَ هِمَّتُهُ=فَطَالَمَا حُرِمَ الْمُنْبَتُّ بِالسَّأَمِ


((الْإِسْلَامُ وَاقِعٌ يُعَاشُ))

عِبَادَ اللهِ! قَالَ مُعاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ, فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ!)).

قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ رَسُولَ اللهِ!

قَالَ: ((تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)).

هَذَا حَقُّهُ؛ فَأظْلَمُ الظُّلْمِ أَنْ تَنْتَقِصَ مِنْ حَقِّ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَكَ وَسَوَّاكَ وَعَدَلَكَ.

اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ! وَأَدِّ إِلَيْهِ حَقَّهُ؛ أَنْ تَعبُدَهُ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا.

((وَأَمَّا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ فَأَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

وَهَذا الْحَقُّ أَحَقَّهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ عِنْدَ اللهِ ذِي الْجَلَالِ؛ وَإِنَّمَا أَحَقَّ اللهُ ذَلِكَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ؛ تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا.

فَإِذَا عَبَدْتَهُ وَلَمْ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا؛ لَمْ يُعَذِّبْكَ, وَدَخَلْتَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! اتَّقُوا اللهَ فِي الْإِسْلَامِ!

اتَّقُوا اللهَ فِي الدِّينِ! وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَتَمَسَّكُوا بِهِ فَلَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ وَرَاءَكُمْ!

إِذَا تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ الْإِسْلَامَ فَمَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ؟!!

أَهْلُ الْكِتَابِ؟!!

الْمُلْحِدُونَ؟!!

الْوَثَنِيُّونَ؟!!

الْبُوذِيُّونَ؟!!

مَنِ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِالْإِسْلَامِ إِنْ تَرَكَهُ أَهْلُهُ؟!!

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ كَلَامًا يُرْوَى وَلَا حِكَايَاتٍ تُحْكَى وَلَا قَصَصًا تُقَصُّ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ يُعَاشُ، وَلَنْ تُحِسَّ بِالْإِسْلَامِ وَلَنْ تَعْرِفَهُ إِلَّا إِذَا عِشْتَهُ.

تَعَلَّمْهُ، وَاجْعَلْهُ فِي عَقْلِكَ وَعَلَى لِسَانِكَ، تَتَكَلَّمُ بِهِ.. تَدْعُو بِهِ..

اكْتُبْهُ.. اجْعَلْهُ مُصَنَّفَاتٍ فِي مُجَلَّدَاتٍ وَلَا تَعِشْهُ؛ لَمْ تَعْرِفْهُ!!

الْإِسْلَامُ لَا يُعْطِي عَطَاءَهُ إِلَّا لِمَنْ عَاشَهُ، وَمَنْ عَاشَ الْإِسْلَامَ مَلَكَ زِمَامِ قَلْبِهِ وَصَرَّفَهُ, فَلَمْ يُصَرِّفْهُ هَوَاهُ, وَإِنَّمَا مَلَكَ -حِينَئِذٍ- زِمَامَ هَوَاهُ بِطَاعَةِ مَوْلَاهُ وَطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

لَا بُدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ..

هَذِهِ الْأُمَّةُ -الَّتِي هِيَ الْيَوْمَ عَلَى حَسَبِ مَا تَرَى فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ شَأْنِ الْأُمَمِ- فِي ذَيْلِ الْأُمَمِ!!

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا قُلْتَ إِنَّ مَا عِنْدَنَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِنَا مِنْهُ شَيْءٌ؛ قَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ وَيَحِنِّونَ إِلَى الْمَجْدِ الْغَابِرِ وَالْعِزِّ الدَّاثِرِ.. كَذَا يَقُولُونَ!!

فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تُدَغْدِغُونَ عَوَاطِفَ النَّاسِ بِذِكْرِ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَجْدٍ قَدْ ذَهَبَ، وَأَيْضًا تُذَكِّرُونَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَتَدَّعُونَ لَهُمُ ادِّعَاءَاتٍ فَارِغَةً، بِهَذَا يُدَنْدِنُ الْقَوْمُ!!

يَقُولُونَ: وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ شَاهِدٌ عَلَى الْمَذَلَّةِ, وَالْمَذَلَّةُ قَدْ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).

هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ مُقَوِّمَاتِ رَفْعِ هَذَا الذُّلِّ وَنَزْعِهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْأُمَّةِ، بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَنُصُوصُ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْآخِذُ بِذَلِكَ؟!! وَأَيْنَ الْمُتَوَفِّرُ عَلَيْهِ؟!! وَأَيْنَ الدَّالُّ إِلَيْهِ؟!!

قَدْ يَكُونُ هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ طَرَفٌ وَيَقَعُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَعَدَّى اللِّسَانَ، وَلَا يَقَعُ إِلَى الْقَلْبِ مُحْدِثًا الْوِجْدَانَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي الدُّنْيَا عَمَلًا بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ، هَذَا أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْبَرَ عَلَيْهِ.

يَنْبَغِي أَنْ تَتَحَوَّلَ النُّصُوصُ إِلَى وَاقِعٍ يُعَاشُ، يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَرْبِطَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّرْبِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَبَطَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- -وَهُمُ الْجِيلُ الْمِثَالِيُّ الَّذِينَ مَلَكُوا الدُّنْيَا الْقَدِيمَةَ، وَذَلَّتْ لَهُمُ الْأَبَاطِرَةُ، وَخَضَعَتْ لَهُمُ الْقَيَاصِرَةُ، كُلُّ ذَلِكَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)) - هَؤُلَاءِ كَانُوا يَرْبِطُونَ الْعِلْمَ بِالْعَمَلِ، لَا يُجَاوِزُونَ الْعِلْمَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِهِ عَمَلًا وَاقِعًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَاَلَ: ((أَخْبَرَنَا الَّذِينَ أَقْرَءُونَا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْقُرْآنَ أَوْ تَعَلَّمُوهُ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، قَاَلُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا))؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُجَاوِزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا.

فَهَذَا نَهْجُكُمْ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ، أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّمَا نَأْخُذُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؟!!

أَلَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ بِقَوْلِ نَّبِيِّكُمْ ﷺ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))؟!!

هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ نَبِيِّكُمْ ﷺ، فَإِنَّ أَرَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ بِغَيْرِ أَنْ تَكُونُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ فَقَدْ أَبْعَدْتُمُ النَّجْعَةَ وَسِرْتُمْ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، وَكُنْتُمْ مِنَ التَّائِهِينَ الْحَيَارَى، وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا حَيْرَةَ عِنْدَهُمْ، أَصْحَابُ نَبِيِّكُمْ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يُجَاوِزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ وَيَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا؟!!

عِنْدَنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ تَنْقَضِي الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَلَا يَنْقَضِي، عِنْدَنَا شَقْشَقَةُ اللِّسَانِ وَجَوْدَةُ الْبَيَانِ، عِنْدَنَا كَلَامٌ لَا يُجَاوِزُ الْآذَانَ وَلَا يَقَعُ فِي الْجَنَانِ، وَإِنَّمَا يُجَاوِزُ الْآذَانَ مُنْطَلِقًا تَمَامًا كَالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيبُ الرَّمِيَّةَ؛ يُجَاوِزُهَا وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، هَذَا مِمَّا عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ، قَاَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ -أَوَ قَاَلَ: لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ-، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)).

وَلَسْتُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ، الْخَوَارِجُ عِنْدَهُمْ شَقْشَقَةُ اللِّسَانِ، عِنْدَهُمْ تَحْرِيرٌ بِالْبَنَانِ لِلْبَيَانِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ عَمَلٌ مُنْضَبِطٌ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

أَهْلُ السُّنَّةِ يُجَانِبُونَ هَؤُلَاءِ، أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعَمَلِ يَرْبِطُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، يُحَصِّلُونَ الْمَقَامَاتِ تَرَقِّيًا لِلْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يُحَقِّقُونَ الْمَحَبَّةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، يُعَظِّمُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، يَتَوَقَّفُونَ عِنْدَ حُدُودِ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ، وَلَا يَتَعَدُّونَ حُدُودَ مَا نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِحَالٍ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا.

نَجَاةُ الْأُمَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا عِنْدَ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ -إِلَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ-، هُمُ الَّذِينَ يَرْبِطُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.

وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ: ((يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ))، هَذَا مِنْ وَصْفِهِمْ؛ يَقُولُونَ قَوْلًا حَسَنًا، يَتَكَلَّمُونَ كَلَامًا جَيِّدًا، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ، فَلَا يُثْمِرُ شَيْئًا وَلَا يُنْتِجُ أَثَرًا، وَإِذَا مَا وَقَعَ عَلَى الْقُلُوبِ انْزَلَقَ عَنْهَا كَالْوَابِلِ الصَّيِّبِ يَنْزَلِقُ عَلَى الصَّفْوَانِ وَلَا عَلَيْهِ تُرَابٌ!!

أَهْلُ السُّنَّةِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَيَعْمَلُونَ بِعَمَلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ.

ارْبِطُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ! لَا يَكُنْ مِنْ هَمِّ أَحَدِكُمْ أَنْ يَحْفَظَ وَلَا يَفْهَمُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْمَلَ!

تَأَمَّلُوا فِي النُّصُوصِ، تَوَفَّرُوا عَلَى الْعِلْمِ، وَاقْرِنُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَادْعُوا إِلَى اللهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَقْسَمَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ أَنَّهُ لَا فَلَاحَ وَلَا نَجَاحَ وَلَا نَجَاةَ وَلَا سُرُورَ وَلَا حُبُورَ إِلَّا لِمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ أُمُورٌ، وَأَقْسَمَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ إِلَّا مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ وَقَامَتْ بِهِ الْخِصَالُ، وَمِنْهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].

وَهَذَا سَبِيلُ كُلِّ سُنِّيٍّ عَلَى الْحَقِّ، مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِيهِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا فَهُوَ النَّاجِي حَقًّا، وَهُوَ الَّذِي فَرَّ مِنَ الْخُسْرَانِ، وَهُوَ الَّذِي حَقَّقَ النَّجَاحَ وَالْفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].

يَا أَهْلَ السُّنَّةِ! لَا تَكُونُوا آخِذِينَ بِكَلَامٍ لَا مَرْدُودَ لَهُ، فَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ، وَمَهْمَا حَصَّلْتُمْ مِنْ عِلْمٍ لَا يَتَحَوَّلُ عِنْدَكُمْ إِلَى خَشْيَةٍ وَعَمَلٍ فَهَذَا قَدْ أَقْمَتُمْ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُورِثُ الْخَشْيَةَ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وَالْعِلْمُ مَا أَوْرَثَكَ الْخَشْيَةَ، وَالْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ، الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكَ ضَرَّكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ كَانَ عَلَيْكَ؛ يَعْنِي: إِنْ لَمْ يَكُنُ الْعِلْمُ حُجَّةً لَكَ كَانَ حُجَّةً عَلَيْكَ، فَيُقَالُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ وَلَنْ تَزُولَا قَدَمَاكَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- حَتَّى تُسْأَلَ عَنْ أَسْئِلَةٍ مِنْهَا هَذَا السُّؤَالُ: ((مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)).

تَعَلَّمْ، وَاعْمَلْ، وَادْعُ النَّاسَ إِلَى مَا عَلِمْتَ وَعَمِلْتَ بِهِ، وَاصْبِرْ عَلَى الْأَذَى فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ ضَيَاعَ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْأُمَّةَ إِلَى مَا تَرَوْنَ.

اتَّقُوا اللهَ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ!

اتَّقُوا اللهَ يَا طُلَّابَ الْعِلْمِ! وَعَلَيْكُمْ بِالْعَمَلِ!

أَقِلُّوا مِنَ الْكَلَامِ -رَحِمَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، فَمَا الَّذِي أَدَّتْ إِلَيْهِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ؟!!

إِنَّمَا أَدَّتْ إِلَى الضَّيَاعِ.. إِلَى الشَّتَاتِ.. إِلَى الشُّرُودِ.. إِلَى الْحَيْرَةِ!!

كُونُوا كَأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ كُونُوا كَرَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَصْلٍ لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ كَمَا قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((وَلَكِنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ إِلَّا كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ)).

مَا الَّذِي تَحْتَاجُهُ الْأُمَّةُ الْيَوْمَ؟!!

الْكُتُبُ؟!! مَا أَكْثَرَهَا! وَمَا أَعْظَمَ تَحْقِيقَهَا! وَمَا أَفْخَمَ تَجْلِيدَهَا! وَمَا أَجْوَدَ وَرَقَهَا! وَمَا كُنَّا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ، بَلْ كَانَتِ الْكُتُبُ الْمُتَاحَةُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ كَانَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ الصَّفْرَاءُ هِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَى سُوقِ الْكُتُبِ، وَهَذِهِ الْكُتُبُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَ؟!! لَا تُقْرَأُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ، وَيَقَعُ ضَّلالٌ عَظِيمٌ فِي الْخَطَأِ فِي الْقِرَاءَةِ وَتَبَعًا فِي الْمَعْنَى، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْكُمْ وَصَارَتِ الْأُمُورُ مَبْذُولَةً لَدَيْكُمْ، بَلْ صَارَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ يَحْمِلُ مَعَهُ مَا لَوْ سَافَرَ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَائِكُمُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ لِكَيْ يُحَصِّلَ عُشْرَ مِعْشَارِهِ لَنَفَدَ عُمُرُهُ قَبْلَ أَنَّ يُحَصِّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، الْوَاحِدُ مِنْكُمْ يَحْمِلُ الْمَكْتَبَةَ الشَّامِلَةَ فِي يَدِهِ، فَمَاذَا تَعَلَّمْتُمْ؟!!

وِبِمَاذَا عَمِلْتُمْ مِمَّا عَلِمْتُمْ؟!!

وَبِمَاذَا عَمِلْتُمْ مِمَّا عَلِمْتُمْ؟!!

وَبِمَاذَا عَمِلْتُمْ مِمَّا عَلِمْتُمْ؟!!

اتَّقُوا اللهَ! فَإِنَّ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ نَاظِرَةٌ إِلَيْكُمْ، جَعَلَكُمُ اللهُ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ عِصْمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَوَالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ لَقَدْ عَصَمَ اللهُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ، أَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ.. عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، تَعَلَّمُوهُ، وَاعْمَلُوا بِهِ، وَادْعُوا إِلَيْهِ، وَاصْبِرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ، وَاللهُ يَرْعَاكُمْ وَيَتَوَلَّاكُمْ وَيُسَدِّدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاكُمْ.


((النَّبِيُّ ﷺ الْأُسْوَةُ وَالْمَثَلُ الْكَامِلُ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ الْأُسْوَةُ، أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَثَلًا كَامِلًا، وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتَّخِذُوهُ أُسْوَةً؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ فَلْيَلْزَمْ غَرْزَهُ، وَلْيَسِرْ عَلَى أَثَرِهِ، وَلْيَقْتَدِ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَفِي ذَلِكَ الْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، وَالْعِصْمَةُ مِنَ الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالنَّاظِرُ فِي أَخْلَاقِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِي زَمَانِنَا هَذَا يَجِدُهُمْ أَبْعَدَ مَا يَكُونُونَ عَنِ الِامْتِثَالِ الصَّحِيحِ لِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ بِتَعَالِيمِهِ وَهَدْيِهِ وَسَمَاحَتِهِ وَعَدْلِهِ وَوَفَائِهِ وَبِرِّهِ فِي وَادٍ، وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِسُلُوكِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِي وَادٍ آخَرَ.

وَلْنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ جَعَلَ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَالِاقْتِدَاءَ بِأَفْعَالِهِ، وَالتَّأَسِّيَ بِأَخْلَاقِهِ، دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

كَمَا أَنَّ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ ﷺ هِيَ طَاعَةٌ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَقَدْ قَرَنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بَيْنَ طَاعَتِهِ -تَعَالَى- وَطَاعَةِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، وَجَعَلَ قَبُولَ أَحَدِهِمَا مَقْرُونًا بِفِعْلِ الْآخَرِ؛ قَالَ تَعَالَى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى التَّأَسِّي بِرَسُولِنَا ﷺ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَثَرِهِ فِي نَشْرِ رِسَالَةِ النُّورِ وَالْهِدَايَةِ صَافِيَةً رَائِقَةً كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- إِلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ، وَالرَّحْمَةِ وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ؛ فَرِسَالَةُ الْإِسْلَامِ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، تَسَامُحٌ كُلُّهَا، وَنَفْعٌ كُلُّهَا، وَإِنْسَانِيَّةٌ كُلُّهَا.

وَفَّقَنَا اللهُ -تَعَالَى- لِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَلُزُومِ غَرْزِهِ حَتَّى يَتَوَفَّانَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الإسلام رحمة في السلم والحرب
  السَّمَاحَةُ عَقِيدَةً وَسُلُوكًا
  الرد على الملحدين:مبحث عن الطبيعة ما هي؟ وما هي مفاهيمها؟ وما حقيقة تأثيرها؟
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ وَدُرُوسٌ فِي المِنْحَةِ بَعْدَ المِحْنَةِ
  إلى أهل السودان الشقيق
  عَوَامِلُ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعَوَامِلُ سُقُوطِهَا
  أَكْلُ الْحَلَالِ
  الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا
  الشِّتَاءُ.. أَحْكَامٌ وَآدَابٌ وَمَحَاذِير
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان