الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ

الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ

((الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ خُلُقِ الْوَفَاءِ))

فَإِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى احْتِرَامِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَتَعْظِيمِ مَنْ أَتَى بِهَا.. إِنَّ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ: خُلُقَ الْوَفَاءِ.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، فَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))، فَلَمَّا رَأَوْا نُدْرَةَ هَذَا الْخُلُقِ وَعِزَّةَ وُجُودِهِ فِي النَّاسِ، وَيَظَلُّونَ الْأَمَدَ مُفْتَقِرِينَ إِلَيْهِ، بَاحِثِينَ عَنْهُ، فَنَادِرًا مَا يَلْقَوْنَهُ، وَقَلَّ مَا يَجِدُونَهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَعْبُ الْمَنَالِ جِدًّا، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ الْبَشَرِ.. ضَرَبُوا بِنُدْرَتِهِ الْمَثَلَ؛ فَقَالُوا: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ)).

فَجَعَلُوا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ جَعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ بِالْوَفَاءِ الْمَفْقُودِ.

كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ هَذَا الْخُلُقَ جِدًّا، فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ ارْتَكَزَ -بَعْدَ ارْتِكَازِهِ عَلَى مَوْرُوثِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ- عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَرْعِيَّةِ.

((مَعَانِي الْوَفَاءِ))

((الْوَفَاءُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: وَفِى يَفِي وفاءً، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (و ف ي) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى «إِكْمَالٍ وَإِتْمَامٍ».

يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((وَمِنْ هَذَا: الْوَفَاءُ؛ وَهُوَ إِتْمَامُ الْعَهْدِ وَإِكْمَالُ الشَّرْطِ، وَيَقُولُونَ مِنْهُ أَيْضًا: أَوْفَيْتُكَ الشَّيْءَ؛ إِذَا قَضَيْتَهُ إِيَّاهُ وَافِيًا، وَتَوَفَّيْتَ الشَّيْءَ وَاسْتَوْفَيْتَهُ؛ إِذَا أَخَذْتَهُ كُلَّهُ حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا)).

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْوَفَاءُ ضِدُّ الْغَدْرِ، يُقَالُ: وَفَى بِعَهْدِهِ وَأَوْفَى بِمَعْنًى، وَوَفَى الشَّيْءُ وُفِيًّا عَلَى وَزْنِ (فُعُولٍ)؛ أَيْ تَمَّ وَكَثُرَ.

وَالْوَفِيُّ الْوَافِي، وَوَفَى عَلَى الشَّيْءِ: أَشْرَفَ، وَأَوْفَاهُ حَقَّهُ وَوَفَاهُ بِمَعْنًى، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ وَتَوَفَّاهُ بِمَعْنًى، وَتَوَفَّاهُ اللهُ: قَبَضَ رُوحَهُ، وَوَافَى فُلَانٌ: أَتَى، وَتَوَافَى الْقَوْمُ: تَتَامُّوا)).

قَالَ الرَّاغِبُ: ((الْوَافِي: الَّذِي بَلَغَ التَّمَامَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَافٍ وَكَيْلٌ وَافٍ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35].

وَوَفَى بِعَهْدِهِ وَأَوْفَى إِذَا تَمَّمَ الْعَهْدَ وَلَمْ يَنْقُضْ حِفْظَهُ، وَاشْتِقَاقُ ضِدِّهِ وَهُوَ الْغَدْرُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ وَهُوَ تَرْكُ الْحِفْظِ.

وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَاءَ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ «أَوْفَى»، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].

وَتَوْفِيَةُ الشَّيْءِ: بَذْلُهُ وَافِيًا، وَاسْتِيفَاؤُهُ: تَنَاوُلُهُ وَافِيًا، وَقَدْ عُبِّرَ عَنِ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ بِالتَّوَفِّي)).

((وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَفَتْ أُذُنُكَ وَصَدَّقَ اللهُ حَدِيثَكَ))، كَأَنَّهُ جَعَلَ أُذُنَهُ فِي السَّمَاعِ كَالضَّامِنَةِ بِتَصْدِيقِ مَا حَكَتْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ الْخَبْرِ صَارَتِ الْأُذُنُ كَأَنَّهَا وَافِيَةٌ بِضَمَانِهَا خَارِجَةٌ مِنَ التُّهَمَةِ فِيمَا أَدَّتْهُ إِلَى اللِّسَانِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَوْفَى اللهُ بِأُذُنِهِ))؛ أَيْ: أَظْهَرَ صِدْقَهُ فِي إِخْبَارِهِ عَمَّا سَمِعَتْ أُذُنُهُ.

وَأَوْفَى الْكَيْلَ: أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ}.

وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ»؛ أَيْ: تَمَّتْ وَطَالَتْ.

وَالْمُوَافَاةُ: أَنْ تُوَافِيَ إِنْسَانًا فِي الْمِيعَادِ، تَوَافَيْنَا فِي الْمِيعَادِ وَوَافَيْتُهُ فِيهِ)).

((وَالْوَفَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْخُلُقُ الشَّرِيفُ الْعَالِي الرَّفِيعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَى الشَّعْرُ فَهُوَ وَافٍ إِذَا زَادَ، وَوَفَيْتُ لَهُ بِالْعَهْدِ أَفِي، وَوَافَيْتُ أُوَافِي)).

وَمِنْهُ: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ؛ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ بُلُوغِ تَمَامِ الْكَمَالِ فِي تَنْفِيذِ كُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ، وَفِي كُلِّ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِبَادَ اللهِ.

الْوَفَاءُ اصْطِلَاحًا:

قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الْوَفَاءُ: هُوَ مُلَازَمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَمُحَافَظَةُ عُهُودِ الْخُلَطَاءِ)).

الْوَفَاءُ: هُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا يَبْذُلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَرْهَنُهُ بِهِ لِسَانُهُ، وَالْخُرُوجُ مِمَّا يَضْمَنُهُ -بِمُقْتَضَى الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ- وَإِنْ كَانَ مُجْحِفًا بِهِ، فَلَيْسَ يُعَدُّ وَفِيًّا مَنْ لَمْ تَلْحَقْهُ بِوَفَائِهِ أَذِيَّةٌ وَإِنْ قَلَّتْ، وَكُلَّمَا أَضَرَّ بِهِ الدُّخُولُ تَحْتَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْوَفَاءِ)).

((الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: إِتْمَامُهُ وَعَدَمُ نَقْضِ حِفْظِهِ)).

وَ((الْوَفَاءُ: صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْفِعْلِ مَعًا)).

((أَنْوَاعُ الْوَفَاءِ))

لِلْوَفَاءِ أَنْوَاعٌ عَدِيدَةٌ بِاعْتِبَارِ الْمُوفَى بِهِ؛ فَهِيَ قَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْعَهْدِ، وَقَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ أَوِ الْمِيثَاقِ، وَقَدْ تَكُونُ وَفَاءً بِالْوَعْدِ.

((الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: إِتَمَامُهُ وَعَدَمُ نَقْضِ حِفْظِهِ، وَيَتَطَابَقُ مِنْ ثَمَّ صِدْقُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا)).

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «الْعُهُودُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ، وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ».

أَمَّا الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ: ((فَالْمُرَادُ بِهِ إِمَّا الْعَهْدُ، وَبِذَلِكَ يَتَطَابَقُ مَعَ النَّوْعِ الَّذِي سَبَقَ، وَقِيلَ: الْعُقُودُ هِيَ أَوْكَدُ الْعُهُودِ، وَقِيلَ: هِيَ عُهُودُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا يَتَعَاقَدُهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ)).

أَمَّا الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ: فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَصْبِرَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَدَاءِ مَا يَعِدُ بِهِ الْغَيْرَ وَيَبْذُلُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيَرْهَنُهُ بِهِ لِسَانُهُ، حَتَّى وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ: كُلَّمَا أَضَرَّ بِهِ الدُّخُولُ تَحْتَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْوَفَاءِ)).

((الْوَفَاءُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

((إِنَّ الْوَفَاءَ صِفَةٌ أَسَاسِيَّةٌ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الْأَفْرَادِ؛ فَإِذَا افْتَقَدَتِ الْأُمَّةُ الْأَمَانَةَ وَالثِّقَةَ، وَضَعُفَتِ الْأَوَاصِرُ وَتَهَاوَتِ الْعَلَاقَاتُ، وَفَقَدَتِ الْأُمَّةُ الْوَفَاءَ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْأَمَانَةِ وَقِوَامُ الصِّدْقِ؛ حَلَّ بِالْأُمَّةِ الضَّعْفُ وَالْهَزِيمَةُ)).

((إِنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا الْمُسْلِمُ، وَحَثَّ عَلَيْهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، وَمَنْ يَتَدَبَّرْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدْ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- قَدْ جَعَلَ الْوَفَاءَ قِوَامًا لِصَلَاحِ أُمُورِ النَّاسِ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ أَمْرًا صَرِيحًا فِي عَدَدٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34])).

وَأَوْفُوا بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ مَوَاثِيقَ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهَا بِلَا نَقْضٍ وَلَا إِخْلَافٍ وَلَا نَقْصٍ؛ إِنَّ مُعْطِيَ الْعَهْدِ كَانَ مَسْئُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ عَنْ حِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! نَفِّذُوا ارْتِبَاطَاتِكُمُ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ رَبِّكُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِكُمْ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ أَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ حَلِفِكُمْ وَنَذْرِكُمْ عَلَى أَلَّا تَفْعَلُوا فِعْلًا أَوْ تَكُفُّوا عَنْ فِعْلٍ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ مِن بَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَرَهْنٍ، وَشَرِكَةٍ، وَمُضَارَبَةٍ، وَزَوَاجٍ وَنَحْوِهَا، فَالْتَزِمُوا بِهَا، وَبِالْعُقُودِ الَّتِي تَعْقِدُهَا الدَّوْلَةُ الْمُسْلِمَةُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111].

((وَلَا وَاحِدَ أَعْظَمُ وَفَاءً بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النِّسَاء: 122])).

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَنْ أَحْسَنُ وَفَاءً بِمَا ضَمِنَ وَشَرَطَ مِنَ اللهِ)).

وَبَيَّنَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ كَمَالِ الْأَخْلَاقِ، وَأَثْنَى اللهُ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالْوَفَاءِ، يَقُولُ -تَعَالَى- عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {أمْ لَمْ يُنَبَّأ بِمَا فِيْ صُحُفِ مُوْسىٰ * وَإبْرَاهِيْمَ الَّذِيْ وَفَّىٰ}.

وَمَدَحَ بِهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِيْ الْكِتَابِ إسْمَاعِيْلَ إنَّه كَاْنَ صَاْدِقَ الْوَعْدِ وَكَاْنَ رَسُوْلًا نَبِيًّا} [مريم: 54].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِ رَبِّكَ- خَبَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُنَزَّلَ فِي الْقُرْآنِ وَاحْفَظْهُ وَتَدَبَّرْهُ، وَاسْتَذْكِرْهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَاتِ الدَّاعِيَاتِ؛ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، لَمْ يَعِدْ شَيْئًا إِلَّا وَفَى بِهِ، وَكَانَ رَسُولًا حَامِلًا لِوَظَائِفِ رِسَالَةٍ رَبَّانِيَّةٍ، نَبِيًّا مُخْبِرًا عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَوَفَّوْا بِهِ، فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ مَعَ اللهِ، وَأَدَّى نَذْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةَ أَوِ النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ.

وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ -الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَهُ حَتَّى غَايَتِهِ- مَا بَدَّلُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ تَبْدِيلًا مَا، بَلْ حَافَظُوا عَلَى عُهُودِهِمْ وَنَفَّذُوهَا وَوَفَّوْا بِهَا.

وَكَمَا أَمَرَ دِينُنَا الْحَنِيفُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ حَذَّرَنَا مِنْ نَقْضِهَا، وَنَهَانَا عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا، وَشَدَّدَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ وَعَدَمَ الْوَفَاءِ بِهِ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].

((وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا عَاهَدَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ رَبَّهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الَّتِي عَقَدَهَا إِذَا كَانَ الْوَفَاءُ بِهَا بِرًّا، وَيَشْمَلُ -أَيْضًا- مَا تَعَاقَدَ عَلَيْهِ هُوَ وَغَيْرُهُ؛ كَالْعُهُودِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدِينَ، وَكَالْوَعْدِ الَّذِي يَعِدُهُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ وَيُؤَكِّدُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَعَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَفَاءُ وَتَتْمِيمُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ عَنْ نَقْضِهَا فَقَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} بِعَقْدِهَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ -تَعَالَى- {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ} أَيُّهَا الْمُتَعَاقِدُونَ {كَفِيلا}؛ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَلَّا تُحْكِمُوا مَا جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْكَ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ، وَقَدْ رَضِيَ الْآخَرُ مِنْكَ بِالْيَمِينِ وَالتَّوْكِيدِ الَّذِي جَعَلْتَ اللَّهَ فِيهِ كَفِيلًا، فَكَمَا ائْتَمَنَكَ وَأَحْسَنَ ظَنَّهُ فِيكَ فَلْتَفِ لَهُ بِمَا قُلْتَ وَأَكَّدْتَهُ.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ عَلَى حَسَبِ نِيَّتِهِ وَمَقْصِدِهِ)).

الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ تَعْظِيمٌ للهِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهَا عَدَمُ تَعْظِيمٍ لَهُ؛ فَهُوَ قَدْحٌ فِي التَّوْحِيدِ.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}: بِالِالْتِزَامِ بِمُوجِبِهِ؛ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعَةِ، وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.

{وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ}؛ أَيْ: أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ، أَوْ مُطْلَقَ الْأَيْمَانِ.

{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}؛ أَيْ: شَاهِدًا عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ الْبَيْعَةِ.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}: مِنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ؛ وَهَذَا تَهْدِيدٌ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: يَأْمُرُ -تَعَالى- بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ جَعَلُوهُ -سُبْحَانَهُ- شَاهِدًا وَرَقِيبًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ أَفْعَالَهُمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ؛ مِنْ إِعْطَاءِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَى الْآيَةِ».

وَلِذَلِكَ كَانَ جَزَاءُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي كِتَابِ اللهِ، مَوْعُودُونَ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

((لَمَّا ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِعَكْسِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ ، فَقَالَ عَنْهُمْ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا أَكَّدَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ وَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ ، فَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ ، بَلْ قَابَلُوهُ بِالْإِعْرَاضِ وَالنَّقْضِ، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}: فَلَمْ يَصِلُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَلَا وَصَلُوا الْأَرْحَامَ وَلَا أَدَّوُا الْحُقُوقَ ، بَلْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَائِهَا عِوَجًا {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أَيِ : الْبُعْدُ وَالذَّمُّ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}: وَهِيَ الْجَحِيمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ)).

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْوَفَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَهِّلُ صَاحِبَهَا إِلَى الْفَوْزِ بِجَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 32 - 35].

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ مُرَاعُونَ حَافِظُونَ، مُجْتَهِدُونَ عَلَى أَدَائِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ.

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ.. شَامِلٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ: هَلْ قَامَ بِهِ وَوَفَّاهُ، أَمْ رَفَضَهُ وَخَانَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ؟

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا كِتْمَانٍ، وَلَا يُحَابِي فِيهَا قَرِيبًا وَلَا صَدِيقًا وَنَحْوَهُ، فَيَكُونُ الْقَصْدُ بِإِقَامَتِهَا وَجْهَ اللهِ.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ؛ أَيْ أَوْصَلَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

((الْوَفَاءُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْخِصَالِ السَّامِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالشَّمَائِلِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تَحَلَّى بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ: الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءَ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا، وَعَدَمَ الْغَدْرِ.

وَتَخَلُّقُ الرَّسُولِ ﷺ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ؛ سَوَاءٌ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، أَوْ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ أَزْوَاجِهِ، أَوْ أَصْحَابِهِ، أَوْ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ .

النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ هِرَقْلَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَلْ يَغْدِرُ؟

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ آنَذَاكَ مُشْرِكًا-: ((لَا)).

فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ -أَيْ: لَا أَنْقُضُهُ- وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ -أَيْ: الرُّسُلَ- وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي بِنَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ)).

قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْلَمْتُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلُ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا.

فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ.

فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ.

فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: ((انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعِنْدَهُ -أَيْضًا-: أَنَّ شَاعِرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ -يَعْنِي: حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- هَجَا بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ دِفَاعًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ=وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا تَقِيًّا=رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي=لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يِوَمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلَمْ يُؤْثَرْ أَبَدًا -وَلَا يَكُونُ.. وَحَاشَاهُ!- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ غَدْرٌ وَلَا خِيَانَةٌ؛ لَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ وَلَا بَعْدَهَا، شَهِدَ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.

وَقَدْ عَاهَدَ النَّبِيُّ ﷺ يَهُودَ الْمَدِينَةِ حِينَ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا، وَعَاهَدَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَوَفَّى لَهُمْ، حَتَّى كَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَغَدَرُوا.

وَفِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعَهْدِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَسْلَمَ، وَأَعْطَى النَّبِيَّ ﷺ الْمَالَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ)).

وَإِنَّمَا رَدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ لِأَنَّهُ أُخِذَ غَدْرًا.

وَأَمَّا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ فَقَدْ وَقَعَ حَادِثٌ جَلَلٌ؛ خَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِـ (الْقَرْقَرَةِ) مِنْ صَدْرِ قَنَاةٍ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، حَتَّى نَزَلَا مَعَهُ فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيَّيْنِ عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ.

وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلَا مِمَّنْ أَنْتُمَا؟

فَقَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ.

فَأَمْهَلَهُمَا، حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثَأْرَهُ مِنْ بَنِي عَامِرٍ بِمَا أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا)).

وَكَانَ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَبُو بَرَاءٍ.. كَانَ كَبِيرَ الْعَامِرِيِّينَ وَسَيِّدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَعْطَى النَّبِيَّ ﷺ جِوَارًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِيَأْتُوا لِدَعْوَةِ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْعِينَ رَجُلًا فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي بِئْرِ مَعُونَةَ، وَتَسَاهَلَ أَبُو بَرَاءٍ فِي نُصْرَتِهِمْ فِي جِوَارِهِ إِيَّاهُمْ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا)).

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ -يَعْنِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ-، وَقَالُوا: ائْتِ مُحَمَّدًا وَصَالِحْهُ، وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً أَبَدًا.

فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُقْبِلًا قَالَ: ((قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ)).

فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ تَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، فَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، فَلَمَّا الْتَئَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو.. اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ)).

فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْتَبُ الْكِتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ، وَكَانَ قَدْ فَارَقَ مِلَّةَ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَسَلْسَلَهُ أَبُوهُ وَجَعَلَهُ فِي مِحْبَسٍ هُنَالِكَ، فَانْفَلَتَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ ابْنَهُ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ -أَيْ بِثِيَابِ رَقَبَتِهِ- وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ لَجَّتِ الْقَضِيَّةُ -أَيْ تَمَّ الِاتِّفَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ- قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا -يُرِيدُ وَلَدَهُ-.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَدَقْتَ)).

فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ -أَيْ: يَجْذِبُهُ بِقُوَّةٍ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرُ الْمُسْلِمِينَ! أَأُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟!!

فَزَادَ ذَلِكَ النَّاسَ إِلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللهِ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ)) ﷺ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ؛ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا -أَيْ: طِفْلًا-، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ قَالَ: خِلَالٍ-؛ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ)).

عَنْ عُقْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)).

عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَاهُ تُوِفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَى الْيَهُودِيِّ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ تَمْرَ نَخْلِهِ بِالتَّيِ لَهُ؛ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: ((جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ))، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَوْفَاهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: ((أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ))، فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: ((هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟)).

فَإِذَا حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)).

فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: ((أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوِفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تُجَّارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ...)) الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ قَالَ -يَعْنِي: قَيْصَرَ-: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.

فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَا الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ.

وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ يَتِمَّ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ.

وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا، وَيُدَالُ عَلَيْكُمْ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ؛ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ.

وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.

قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ))، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ. الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ.. فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟

فَقَالَ: ((نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ؛ فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَذَا نَبِيُّ الْوَفَاءِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَوْفِ بِنَذْرِكَ))، فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَلَّا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْر خَمْسِ نِسْوَةٍ: أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ الْعَلَاءِ وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، أَوِ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ، وَامْرَأَةٍ أُخْرَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ؛ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ -وَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا-، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ.

فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا!

قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟

فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ.

قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ.

فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا!

قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ.

فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا!

قَالَ: صَدَقْتَ..

فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا.. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ بِهِ إِلَى بَلَدِهِ.

فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.

قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟

قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ.

قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الوَفَاءَ..

فَوَفَاؤُهُ وَفَاؤُهُ ﷺ.

وَإِذَا صُحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمَا فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

ﷺ.

((مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!))

يَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهِمْ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ)).. فَصَارَ مَثَلًا.

((وَالسَّمَوْأَلُ هُوَ ابْنُ حَيَّانَ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ مِنْ وَفَائِهِ: أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى قَيْصَرَ اسْتَوْدَعَ السَّمَوْأَلَ دُرُوعًا وَأَحِيحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ -أَيْضًا- دُرُوعًا.

فَلَمَّا مَاتَ امْرُؤُ الْقَيْسِ غَزَاهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ فَتَحَرَّزَ مِنْهُ السَّمَوْأَلُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ ابْنًا لَهُ وَكَانَ خَارِجًا مِنَ الْحِصْنِ، فَصَاحَ الْمَلِكُ بِالسَّمَوْأَلِ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُكَ فِي يَدَيَّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ ابْنُ عَمِّي وَمِنْ عَشِيرَتِي، وَأَنَا أَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ، فَإِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ الدُّرُوعَ وَإِلَّا ذَبَحْتُ ابْنَكَ.

فَقَالَ: أَجِّلْنِي.. فَأَجَّلَهُ، فَجَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَنِسَاءَهُ فَشَاوَرَهُمْ، فَكُلٌّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الدُّرُوعَ وَيَسْتَنْقِذَ ابْنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: لَيْسَ إِلَى دَفْعِ الدُّرُوعِ سَبِيلٌ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ!!

فَذَبَحَ الْمَلِكُ ابْنَهُ وَهُوَ مُشْرِفٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الْمَلِكُ بِالْخَيْبَةِ، فَوَافَى السَّمَوْأَلُ بِالدُّرُوعِ الْمَوْسِمَ فَدَفَعَهَا إِلَى وَرَثَةِ امْرَئِ الْقَيْسِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:

وَفَيْتُ بِأَدْرُعِ الْكِنْدِيِّ إِنِّي=إِذَا مَا خَانَ أَقْوَامٌ وَفَيْتُ

وَقَالُوا: عِنْدَهُ كَنْزٌ رَغِيبٌ=وَلَا وَاللهِ أَغْدِرُ مَا مَشَيْتُ

بَنَى لِي عَادِيَا حِصْنًا حَصِينًا=وَبِئْرًا كُلَّمَا شِئْتُ اسْتَقَيْتُ

طِمَرًّا تَزْلِقُ الْعِقَبَانُ عَنْهُ=إِذَا مَا نَابَنِي ظُلْمٌ أَبَيْتُ

وَيُرْوَى:

إِذَا مَا سَامَنِي ضَيْمٌ أَبَيْتُ

وَقَدْ تَنَاوَلَ الْأَعْشَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَوْأَلُ مِنْ مَضْرِبِ الْمَثَلِ فِي الْوَفَاءِ، فَقَالَ:

شُرَيْحٌ لَا تَتْرُكَنِّي بَعْدَمَا عَلِقَتْ=حِبَالُكَ الْيَوْمَ بَعْدَ الْقِدِّ أَظْفَارِي

كُنْ كَالسَّمَوْأَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ=فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ

بِالْأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ=حِصْنٌ حَصَينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ

إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ=مَهْمَا تَقُلْهُ فَإنِّي سَامِعٌ حَارِ

وَحَارِ: تَرْخِيمُ حَارِثٍ.

فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أنْتَ بَيْنَهُمَا=فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ

فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ=اذْبَحْ أَسِيْرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي

هَذَا لَهُ خَلَفٌ إِنْ كُنْتَ قَاتِلَهُ=وَإنْ قَتَلْتَ كَرٍيمًا غَيْرَ خَوَّارِ

فَقَالَ تَقَدِمَةً إِذْ قَامَ يَقْتُلُهُ=أَشْرِفْ سَمَوْأَلُ فَانْظُرْ لِلدَّمِ الْجَارِي

أَأَقْتُلُ ابْنَكَ صَبْرًا أَوْ تَجِيءُ بِهِ=طَوْعًا؟ فَأَنْكَرَ هَذَا أَيَّ إنْكَارِ

فَشَكَّ أَوْدَاجَهُ وَالصَّدْرُ فِي مَضَضٍ=عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا كَاللَّذْعِ بِالنَّارِ

وَاخْتَارَ أَدْرَاعَهُ أَلَّا يُسَبَّ بِهَا=وَلَمْ يَكُنْ عَهْدُهُ فِي غَيْرِ مُخْتَارِ

وَقَالَ لَا أَشْتَرِي عَارًا بِمْكرُمَةٍ=فَاخْتَارَ مَكْرُمَةَ الدُّنْيَا عَلَى الْعَارِ

وَالصَّبْرُ مِنْهُ قَدِيمًا شِيمَةٌ خُلُقٌ=وَزَنْدُهُ فِي الْوَفَاءِ الثَّاقِبُ الْوَارِي

وَقَدْ كَانَ فَتًى لَبِيبٌ يَخْدُمُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ مَرْوٍ عِنْدَهُ كِلَابٌ جَوَارِحُ يَرْمِي إِلَيْهَا بِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَخَافَ ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَتَنَكَّرَ لَهُ الْمَلِكُ يَوْمًا؛ فَأَخَذَ يُحْسِنُ إِلَى تِلْكَ الْكِلَابِ حَتَّى ارْتَاضَتْ لَهُ وَأَلِفَتْهُ، وَصَحَّ ظَنُّهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ يَوْمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُرْمَى بِهِ إِلَى تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْجَارِحَةِ السَّفَّاكَةِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ بِهِ سُوءًا وَلَا أَصَابَتْهُ بِأَذًى!!

وَحِينَ تَعَجَّبَ ذَلِكَ الْمَلِكُ مِنْ أَمْرِهِ، أَجَابَهُ الْفَتَى هَذِهِ الْإِجَابَةَ الْقَاسِيَةَ: طَالَمَا أَطْعَمْتُ هَذِهِ الْكِلَابَ فَغَدَتْ لِي صَدِيقًا، وَقَدْ أَمْضَيْتُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لَكَ غُلَامًا فَأَسْلَمْتَنِي إِلَى الْكِلَابِ لِهَفْوَةٍ ظَنَنْتَهَا بَدَرَتْ مِنِّي!!

الْكِلَابُ رَحِمَتْنِي حَيْثُ لَمْ تَرْحَمْنِي، وَرَعَتْ حَقِّي حَيْثُ لَمْ تَرْعَ، وَالْكِلَابُ تُسَالِمُ مِنْ أَجْلِ عَظْمَةٍ تُرْمَى لَهَا، وَالْخَسِيسُ لَا يَفِي وَلَوْ فَدَيْتَهُ بِالرُّوحِ!!

((حِفْظُ الْجَمِيلِ فِي الْإِسْلَامِ))

إِنَّ دِينَنَا الْإِسْلَامِيَّ الْحَنِيفَ دِينٌ يَحُثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَدْعُو إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ لِيُتَمِّمَ تِلْكَ الْمَكَارِمَ، وَيُعْلِيَ مِنْ شَأْنِهَا؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

وَ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَمِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِ: حِفْظُ الْمَعْرُوفِ، وَرَدُّ الْجَمِيلِ، وَمُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُكَافَأَةُ لِلْمَعْرُوفِ بِمِثْلِهِ أَوْ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَالدُّعَاءُ لِصَاحِبِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].

((أَحْسِنْ بِطَاعَةِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَتِهِ)).

((وَأَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

((هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَنَفْعِ عَبِيدِهِ إِلَّا أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْفَوْزِ الْكَبِيرِ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْعَيْشِ السَّلِيمِ)).

وَأَوْلَى وَأَحَقُّ مَنْ يُشْكَرُ عَلَى مَعْرُوفِهِ وَفَضْلِهِ، وَيُحْمَدُ عَلَى مِنَنِهِ وَنِعَمِهِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ عَادٌّ عَدَّهَا وَلَا مُحْصٍ إِحْصَاءَهَا إِنَّمَا هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالشُّكْرُ للهِ يَكُونُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ نَوَاهِيهِ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ لَهُ -سُبْحَانَهُ-، فَهَذَا هُوَ الشُّكْرُ الْحَقِيقِيُّ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ} [البقرة: 172].

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

((لَمَّا ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنَّتَهُ عَلَى آلِ دَاوُدَ أَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ}: وَهُمْ دَاوُدُ وَأَوْلَادُهُ وَأَهْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ عَائِدٌ لِكُلِّهِمْ {شُكْرًا} لِلَّهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ، وَمُقَابَلَةً لِمَا أَوْلَاهُمْ. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا اللَّهَ -تَعَالَى- عَلَى مَا أَوْلَاهُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَدَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ.

وَالشُّكْرُ: اعْتِرَافُ الْقَلْبِ بِمِنَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَتَلَقِّيهَا افْتِقَارًا إِلَيْهَا، وَصَرْفُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَصَوْنُهَا عَنْ صَرْفِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ)).

وَانْظُرْ إِلَى حَالِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ يُقَابِلُونَ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي عِبَادَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120-121].

((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِمَامًا فِي الْخَيْرِ، وَكَانَ طَائِعًا خَاضِعًا للهِ، لَا يَمِيلُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مُوَحِّدًا للهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ، وَكَانَ شَاكِرًا لِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ اللهُ لِرِسَالَتِهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا نِعْمَةً حَسَنَةً؛ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، وَالْقُدْوَةِ بِهِ، وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَإِنَّهُ عِنْدَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنَ الصَّالِحِينَ أَصْحَابِ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ)).

وَلَمَّا رَزَقَهُ اللهُ الْوَلَدَ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ قَالَ: {الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسمَاعِيلَ وَإِسحَقَ} [إبراهيم: 39].

((يُثْنِي إِبْرَاهِيمُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، فَيَقُولُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَزَقَنِي عَلَى كِبَرِ سِنِّي وَلَدَيَّ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ بَعْدَ دُعَائِي أَنْ يَهَبَ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ مِمَّنْ دَعَاهُ، وَقَدْ دَعَوْتُهُ وَلَمْ يُخَيِّبْ رَجَائِي)).

وَهَذَا دَاوُدُ وَابْنُهُ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَعْطَاهُمُ اللهُ مُلْكًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، أَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُمْ فَقَالَ: {وَلَقَد آتَينَا دَاوُدَ وَسُلَيمَانَ عِلمًا وَقَالا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِن عِبَادِهِ المُؤمِنِينَ} [النمل: 15].

((يَذْكُرُ اللهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ وَيُنَوِّهُ بِمِنَّتِهِ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ابْنِهِ بِالْعِلْمِ الْوَاسِعِ الْكَثِيرِ؛ بِدَلِيلِ التَّنْكِيرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} الْآيَةَ.

وَقَالا شَاكِرَيْنِ لِرَبِّهِمَا مِنَّتَهُ الْكُبْرَى بِتَعْلِيمِهِمَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} فَحَمِدَا اللَّهَ عَلَى جَعْلِهِمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ خَوَاصِّهِمْ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ: الصَّالِحُونَ، ثُمَّ فَوْقَهُمُ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ فَوْقَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، ثُمَّ فَوْقَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ مِنْ خَوَاصِّ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا دُونَ دَرَجَةِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، لَكِنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ الْفُضَلَاءِ الْكِرَامِ الَّذِينَ نَوَّهَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ وَمَدْحِهِمْ فِي كِتَابِهِ مَدْحًا عَظِيمًا، فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى بُلُوغِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَهَذَا عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ: أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يَرَى جَمِيعَ النِّعَمِ مِنْ رَبِّهِ، فَلَا يَفْخَرُ بِهَا وَلَا يُعْجَبُ بِهَا، بَلْ يَرَى أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شُكْرًا كَثِيرًا)).

وَهَذَا لُقْمَانُ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: {وَلَقَد آتَينَا لُقمَانَ الحِكمَةَ أَنِ اشكُر لِلَّهِ وَمَن يَشكُر فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنِ امْتِنَانِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْفَاضِلِ لُقْمَانَ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِالْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَهِيَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْأَحْكَامِ، فَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا، وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا.

وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ، بَلْ وَلِلْعَمَلِ، وَلِهَذَا فُسِّرَتِ الْحِكْمَةُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَلَمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمِنَّةَ الْعَظِيمَةَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ؛ لِيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ، وَلِيَزِيدَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ، يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ فَلَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، عَادَ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

{وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ حَمِيدٌ} فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، فَغِنَاهُ -تَعَالَى- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكَوْنُهُ حَمِيدًا فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ، حَمِيدًا فِي جَمِيلِ صُنْعِهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَاجْتِمَاعُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ زِيَادَةُ كَمَالٍ إِلَى كَمَالٍ)).

وَأَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَقَدْ كَانَ عَلَى الْقِمَّةِ الشَّمَّاءِ فِي شُكْرِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)) ﷺ.

إِنَّ حِفْظَ الْجَمِيلِ خُلُقٌ جَلِيلٌ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَوْفِيَاءِ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَا يَنْسُونَ الْمَعْرُوفَ وَلَوْ طالَتْ بِهِمُ الْأَعْمَارُ، فَلَا يَزَالُ الْكَرِيمُ أَسِيرًا لِصَاحِبِ الْجَمِيلِ، يُظْهِرُ لَهُ الْوُدَّ، وَيُمْطِرُهُ بِالثَّنَاءِ الْجَزِيلِ، وَأَمَّا اللَّئِيمُ فَهُوَ يَتَجَافَى عَنْ أَصْحَابِ الْعَطَايَا الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَحْسَنُوا إِلَيْهِ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا الْحَقِيرَةِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عَلَى حِفْظِ الْجَمِيلِ، وَمُكَافَأَةِ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِيهِ فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ فَكَأَنَّمَا لَبِسَ ثَوْبَيْ زُورٍ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السَّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

((مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِيهِ فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ..))؛ ((وَإِنْ كَتَمَهُ»؛ أَيْ: أَخْفَى الْمَعْرُوفَ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلنَّاسِ فَقَدْ كَفَرَهُ، «فَقَدْ كَفَرَهُ»: الْكُفْرُ أَنْوَاعٌ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ هُنَا: الْجُحُودُ وَالتَّغْطِيَةُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ طَلَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ ﷺ، وَيَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ الْمَدْحُ وَالدُّعَاءُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ؛ جَزَاءَ الْإِحْسَانِ، وَعِوَضًا مِنَ الْمَعْرُوفِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السَّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«مِنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ»: مُسْتَجِيرًا بِهِ مِنْ أَذَاكُمْ، أَوْ أَذَى غَيْرِكُمْ، أَوْ مُتَوَسِّلًا بِاللهِ تَعَالَى مُسْتَعْطِفًا بِهِ فَأَعِيذُوهُ، «فَأَعِيذُوهُ» أَيْ: ارْفَعُوا عَنْهُ الْأَذَى، وَاجْعَلُوهُ فِي حِصْنِكُمْ.

«مَنْ سَأَلَ بِاللهِ» أَيْ: بِحَقِّهِ عَلَيْكُمْ فَأَعْطُوهُ؛ تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللهِ، وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللهِ.

وَيَحْرُمُ سُؤَالُ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا بِوَجْهِ اللهِ -تَعَالَى-.

«وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ»: أَيْ: فَلْيُكَافِئِ الصَّانِعَ مِنَ الْمُكَافَأَةِ؛ أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ.

فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ الْحِمَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالْمُسَاعَدَةِ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِاللهِ، وَيَسْتَعِيذَ بِاسْمِ اللهِ.

وَوُجُوبُ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ لِلْمُحْسِنِ، وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لَدَى الْمُحْسَنِ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، وَتَأَمَّلْ فِي الْحُكْمِ «يَجِبُ».

وَتَلْبِيَةُ طَلَبِ مَنْ لَجَأَ إِلَيْكَ لِتَدْفَعَ عَنْهُ شَرًّا أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِهِ.

وَإِعْطَاءُ السَّائِلِ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَطِيبُ النَّفْسِ بِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ». الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

قَوْلُهُ: «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»:

قَالَ الْخَطَّابِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ وَعَادَتِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ النَّاسِ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ لِمَعْرُوفِهِمْ، كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللهِ، وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ.

الثَّانِي: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يَقْبَلُ شُكْرَ الْعَبْدِ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إِحْسَانَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَيَكْفُرُ مَعْرُوفَهُمْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ».

فِي الْحَدِيثِ: فَضْلُ الشُّكْرِ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى الْكَثِيرِ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَعَدَمُ الِاسْتِهَانَةِ بِالْقَلْيلِ.

وَوُجُوبُ شُكْرِ صَانِعِ الْمَعْرُوفِ كَمَا مَرَّ، وَوُجُوبُ مُكَافَأَتِهِ وَلَوْ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَأَنَّ الشُّكْرَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ؟)).

قَالَ: «لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالَ ﷺ: «لَا» أَيْ: لَا يَذْهَبُونَ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَإِنَّ فَضْلَ اللهِ وَاسِعٌ، فَلَكُمْ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ، وَلَهُمْ أَجْرُ الْمُسَاعَدَةِ، «ما دَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ»: مَا دُمْتُمْ تَدْعُونَ لَهُمْ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ يَقُومُ بِحَسَنَاتِهِمْ إِلَيْكُمْ، وَثَوَابُ حَسَنَاتِكُمْ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ.

فَالدُّعَاءُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ خَيْرُ وَسِيلَةٍ لِإِرْجَاعِ الثَّوَابِ، وَإِعَادَةِ الْحَسَنَاتِ إِلَى الدَّاعِي، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا أَهْدَتْ أَوْ تَصَدَّقَتْ قَالَتْ لِمَنْ أَرْسَلَتْ: «مَاذَا قَالُوا لَكِ؟».

فَإِذَا قَالَ: قَالُوا: ((جَزَاهَا اللهُ خَيْرًا)). قَالَتْ: «وَجَزَاهُمْ، وَيَبْقَى أَجْرُ صَدَقَتِنَا أَوْ هَدِيَّتِنَا». لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا، ما دَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا أَهْلَ أَمْوَالٍ، يَتَصَدَّقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَمْوَالٌ، فَشَكَا الْمُهَاجِرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ: قَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ-أَيِ الْأَمْوَالِ- بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟».

قَالُوا: ((يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)).

فَأَرْشَدَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؛ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ».

وَفِي رِوَايَةٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُوا: ((سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»؛ يَعْنِي مِنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَبَيْنَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ-عَزَّ وَجَلَّ- أَكْرَمَهُ بِهِ، فَلَا يُحْسَدُ، وَإِنَّمَا يُغْبَطُ، وَالْغِبْطَةُ هُنَا أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ صَاحِبِ الْمَالِ الْمُنْفِقِ فِي الْخَيْرِ، فَيَعْمَلُ كَمَا عَمِلَ الْآخَرُ فِي مَالِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُكَافِئُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا بِمَا فِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ كَافَأَهُ، وَشَكَرَ النِّعْمَةَ وَلَمْ يَكْفُرْهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَمَنْ يُسْدِ مَعْرُوفًا إِلَيْكَ فَكُنْ لَهُ       =  شَكُورًا يَكُنْ مَعْرُوفُهُ غَيْرَ ضَائِعِ

وَلَا تَبْخَلَنَّ بِالشُّكْرِ وَالْقَرْضُ فَاجْزِهِ   =   تَكُنْ خَيْرَ مَصْنُوعٍ إِلَيْهِ وَصَانِعِ

***

فَكُنْ شَاكِرًا لِلْمُنْعِمِينَ لِفَضْلِهِمْ       = وَأَفْضِلْ عَلَيْهِمْ إِذْ قَدَرْتَ وَأَنْعِمِ

وَمَنْ كَانَ ذَا شُكْرٍ فَأَهْل زِيَادَةٍ           =   وَأَهْلٌ لِبَذْلِ الْعُرْفِ مَنْ كُانَ يُنْعِمِ

***

أَحَقُّ النَّاسِ مِنْكَ بِحُسْنِ عَوْنٍ      =  لَمَنْ سَلَفَتْ لَكُمْ نِعَمٌ عَلَيْهِ

وَأَشْكَرُهُمْ أَحَقُّهُمْ جَمِيعًا              =    بِحُسْنِ صَنِيعَةٍ مِنْكُمْ إِلَيْهِ

((مِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ))

إِنَّ الْوَفَاءَ وَحِفْظَ الْجَمِيلِ مِنَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا دِينُنَا الْحَنِيفُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].

((وَلَا تَنْسُوا -أَيُّهَا النَّاسُ- الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ بَيْنَكُمْ، وَهُوَ إِعْطَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكُمْ، وَالتَّسَامُحُ فِي الْحُقُوقِ، {إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، يُرَغِّبُكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ، وَيَحُثُّكُمْ عَلَى الْفَضْلِ)).

وَإِنَّ لِلْوَفَاءِ مَظَاهِرَ مُتَعَدِّدَةً، وَمَعَالِمَ شَتَّى، وَصُوَرًا كَثِيرَةً فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَفِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْوَفَاءِ وَحِفْظِ الْجَمِيلِ لَهُمُ الْوَالِدَانِ؛ فَهُمْ أَصْحَابُ الْفَضْلِ التَّامِّ عَلَى أَبْنَائِهِمْ بَعْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَفَاءِ لَهُمَا؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ- مُذَكِّرًا الْأَبْنَاءَ بِجَمِيلِ آبَائِهِمْ بَعْدَمَا بَلَغَ الْآبَاءُ مَرْحَلَةَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].

((وَأَمَرَ رَبُّكَ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- وَأَلْزَمَ وَأَوْجَبَ أَنْ يُفْرَدَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَبِخَاصَّةٍ حَالَةُ الشَّيْخُوخَةِ، فَلَا تَضْجَرْ وَلَا تَسْتَثْقِلْ شَيْئًا تَرَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْهُمَا، وَلَا تُسْمِعْهُمَا قَوْلًا سَيِّئًا، حَتَّى وَلَا التَّأْفِيفَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْقَوْلِ السَّيِّئِ، وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فِعْلُ قَبِيحٍ، وَلَكِنِ ارْفُقْ بِهِمَا، وَقُلْ لَهُمَا -دَائِمًا- قَوْلًا لَيِّنًا لَطِيفًا.

وَكُنْ لِأُمِّكَ وَأَبِيكَ ذَلِيلًا مُتَوَاضِعًا؛ رَحْمَةً بِهِمَا، وَاطْلُبْ مِنْ رَبِّكَ أَنْ يَرْحَمَهُمَا بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، كَمَا صَبَرَا عَلَى تَرْبِيَتِكَ طِفْلًا ضَعِيفَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ)).

كَمَا يَتَّصِلُ الْوَفَاءُ لِلْوَالِدَيْنِ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ لَهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» .

«إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ»؛ أَيْ: أَفْضَلَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَالِدِهِ.

والْبِرُّ: الْإِحْسَانُ؛ وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ.

وَكَذَلِكَ تَدْخُلُ الْوَالِدَةُ.

«وُدِّ أَبِيهِ»: بِضَمِّ الْوَاوِ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ؛ أَيْ: أَصْحَابِ مَوَدَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَالْوُدُّ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ الصِّلَةِ لِأَصْدِقَاءِ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَتَلْتَحِقُ بِهِ صَدِيقَاتُ الْأُمِّ، وَأَصْحَابُ الْأَجْدَادِ.

النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الْأَبِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِإِكْرَامِ بِرِّ الْأَبِ وَإِحْسَانِهِ؛ لِكَوْنِهِ بِسَبَبِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَوَدَّ الرَّجُلُ -أَوْ يَصِلَ الرَّجُلُ- أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ)).

إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ حَتَّى مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ، يَصِلُ الرَّحِمَ وَيَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا.

وَالرَّجُلُ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((تُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدِ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُكَ، فَيَقُولُ بِمَ هَذَا؟)).

يَقُولُ لَهُ مَنْ يَقُولُ: ((إِنَّهُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ فِي الدُّنْيَا)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَجْعَلْهَا حَالَةً طَارِئِةً تَمُرُّ كَمَا تَنْقَشِعُ غُيُومُ الصَّيْفِ وَسُحُبُهَا، لَمْ يَجْعَلْهَا النَّبِيُّ ﷺ قِشْرَةَ طِلَاءٍ مُمَوَّهٍ عَلَى حَقِيقَةٍ رَخِيصَةٍ لَا قِيمَةَ لَهَا.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرَادَ حَقِيقَةً قَائِمَةً بِذَاتِهَا، إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ جَعَلَ ذَلِكَ خُلُقًا مُسْتَقِرًّا فِي الْقَلْبِ، ثَابِتًا فِي الضَّمِيرِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، لَا يَنْمَحِي بِذَهَابِهِمَا مِنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ.

بَلْ إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَفَاءَ هُوَ الْوَفَاءُ، وَأَنَّ الْجُحُودَ هُوَ الْجُحُودُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَدَحَ الْوَفَاءَ وَأَقَامَهُ قِيمَةً ظَاهِرَةً بَارِزَةً وَعَلَامَةً فَارِقَةً بِدُنْيَا النَّاسِ.

وَمِنْ أَرْقَى صُوَرِ الْوَفَاءِ: الْوَفَاءُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَحِفْظِ الْمَعْرُوفِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]: مِنْ جِنْسِكُمْ، مِنْ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}؛ أَيْ: وُدًّا وَتَرَاحُمًا وَشَفَقَةً، فَجَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ، فَهُمَا يَتَوَادَّانِ وَيَتَرَاحَمَانِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: فِي عَظَمَةِ اللهِ وَفِي قُدْرَتِهِ.

وَقَالَ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». أَخرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُلَاطَفَةُ النِّسَاءِ وَالْإِحسَانُ إِلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرُ عَلَى عِوَجِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَاحْتِمَالُ ضَعْفِ عُقُولِهِنَّ، وَكَرَاهِيَةُ طَلَاقِهِنَّ بِلَا سَبَبٍ، وَأنَّهُ لَا يُطْمَعُ بِاسْتِقَامَتِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ».

وَقَالَ ﷺ: «لا يَفْرِكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: يَنْبَغِي أَلَّا يُبْغِضَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَكْرَهُهُ؛ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَرْضَاهُ، بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الأَخلَاقِ؛ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ، أَوْ عَفِيفَةٌ، أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ».

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي حَيَاةِ نَبِيِّنَا ﷺ يَرَى أَنَّهُ صَاحِبُ الْيَدِ الْعُلْيَا فِي الْوَفَاءِ لِزَوْجَاتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، وَمِنْ ذَلِكَ: وَفَاؤُهُ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَدْ كَانَ ﷺ رُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَأَهْدَى عُظْمَهَا إِلَى صُوَيْحِبَاتِ خَدِيجَةَ، يَقُولُ: «اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا عَلَى عَهْدِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-» .

فَكَانَ النَّبِيُّ يُوَاسِي صَدِيقَاتِ خَدِيجَةَ، وَصِلَتُهُ لَهُنَّ مَعْرُوفَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

وَهَذَا مِنْ وَفَائِهِ ﷺ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى كَرَمِ الْعُنْصُرِ وَطِيبِ الْمَعْدِنِ؛ إِذْ فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ مَا فِيهَا عَلَى اسْتِحْكَامِ خَصْلَةِ الْوَفَاءِ فِي الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ وَالضَّمِيرِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَتْ أُخْتُ خَدِيجَةَ -وَكَانَ صَوْتُهَا أَشْبَهَ مَا يَكُونُ بِصَوْتِ خَدِيَجةَ- رَقَّ لِلصَّوْتِ جِدًّا لَمَّا سَمِعَهُ، حَتَّى غَارَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهِيَ أَحَبُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَتْ مَرَّةً لِلنَّبِيِّ ﷺ: «مَا أَكْثَرَ مَا أَرَاكَ تَذْكُرُ هَذِهِ -تَعْنِي خَدِيجَةَ- إِنْ كَانَتْ إِلَّا عَجُوزًا حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ مَعَ الدَّهْرِ أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا».

كَانَ ﷺ إِذَا مَا ذُبِحَتِ الشَّاةُ يَقُولُ: ((اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةٍ، وَاذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى فُلَانَةٍ، إِنَّهَا كَانَتْ تَصِلُنَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ))..

وَخَدِيجَةُ قَدْ غُيِّبَتْ فِي رَمْسِهَا، وَخَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَدْ أَصْبَحَتْ رَهِينَةَ قَبْرِهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يُجَزِّأُ الْقِيَمَ؛ لِأَنَّ الْقِيَمَ لَا تَتَجَزَّأُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ الْعَدْلُ ظُلْمًا وَلَا أَنْ يَصِيرَ الظُّلْمُ عَدْلًا، وَلَا أَنْ يَصِيرَ الْجَمَالُ قُبْحًا وَلَا أَنْ يَصِيرَ الْقُبْحُ جَمَالًا، وَلَا أَنْ يَصِيرَ الْوَفَاءُ غَدْرًا وَلَا أَنْ يَصِيرَ الْغَدْرُ وَفَاءً، بَلِ الْقِيَمُ هِيَ الْقِيَمُ لَا تَتَجَزَّأُ بِحَالٍ أَبَدًا.

وَمِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ: الْوَفَاءُ لِأَصْحَابِ الْفَضْلِ، وَيَتَجَلَّى فِي ذَلِكَ مَوْقِفُ نَبِيِّنَا ﷺ حِينَ طَيَّبَ خَاطِرَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ نَصَرُوهُ ﷺ بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَائِلًا لَهُمْ: ((أَوَجَدْتُمْ فِي نُفُوسِكُمْ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ- فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا أَسْلَمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى مَا قَسَمَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ!! أَفَلَا تَرْضَوْنَ -يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ- أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلَى رِحَالِهِمْ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟!! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ لَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرأً مِنَ الْأَنْصَارِ، اللهم ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ)).

فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وقالوا: ((رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَرَسُولِهِ قَسْمًا))، ثُمَّ انْصَرفَ، وَتَفَرَّقُوا)).

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ الْأَنْصَارَ قَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي عَلَيْكُمْ، فَأَحْسِنُوا إِلَى مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوِزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ)).

وَقَالَ ﷺ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي!! مَرَّتَيْنِ».

وَقَالَ : «لَوْ كُنْتُ مَتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ)).

فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَالَ: ((هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)).

بَلْ إِنَّ خُلُقَ الْوَفَاءِ مَعَ أَصْحَابِ الْفَضْلِ يَمْتَدُّ لِيَشْمَلَ الْمُخَالِفِينَ؛ بِحِفْظِ الْجَمِيلِ لَهُمْ، وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهِ، وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ حِينَ تَذَكَّرَ نَبِيُّنَا ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ، ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ فِي جِوَارِهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ رِحْلَةِ الطَّائِفِ؛ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ثُمَّ مَاتَتْ خَدِيجَةُ وَبَيْنَهُمَا يَسِيرٌ، اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ؛ رَجَاءَ أَنْ يَؤْوَوْهُ وَيَنْصُرُوهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَمْ يَنْصُرُوهُ بَلْ آذَوْهُ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَّا جَاءَهُ وَكَلَّمَهُ فَقَالُوا: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ، فَانْصَرَفَ رَاجِعًا مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ مَحْزُونًا، وَدَخَلَهَا فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا.

وَبَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ ﷺ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: ((لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ)).

لَأَطْلَقَهُمْ لَهُ جَمِيعًا دُونَ فِدْيَةٍ؛ ردًّا لِلْجَمِيلٍ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي مَكَّةَ.

وَمِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ وَحِفْظِ الْجَمِيلِ: الْوَفَاءُ لِلْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ؛ فَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَيَعْتَقِدَ كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مُعَلِّمِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ مُعَلِّمِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي))

وَلَا يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِإِلْقَاءِ السَّمْعِ مَعَ التَّوَاضُعِ؛ فَعَنِ الشَّعْبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ)).

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَظِّمُونَ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةٌ عَلَى آدَابِهِمْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَعَلَى تَوْقِيرِهِمْ لِمُعَلِّمِيهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ.

فَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: ((كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ -النَّخَعِيَّ- كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ)).

وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يَجلِسُ إِلَى الْحَسَنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ)).

وَعَنْ إِسْحَاقَ الشَّهِيدِيِّ قَالَ: ((كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّاذَكُونِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُم، يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: ((مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ)).

فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ ((أَنْ يَنْقَادَ لِشَيْخِهِ فِي أُمُورِهِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ كَالْمَرِيضِ مَعَ الطَّبِيبِ الْمَاهِرِ، فَيُشَاوِرُهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَتَعَمَّدُهُ، وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذُلَّهُ لِشَيْخِهِ عِزٌّ، وَخُضُوعَهُ لَهُ فَخْرٌ، وَتَوَاضُعَهُ لَهُ رِفْعَةٌ.

وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عُوتِبَ عَلَى تَوَاضُعِهِ لِلْعُلَمَاءِ، فَقَالَ:

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي فَهُمْ يُكْرِمُونَهَا=وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ: ((لَا أَقْعُدُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ)).

وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَنْظُرَ شَيْخَهُ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِهِ بِهِ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ وَقْعَهَا)).

وَقَالَ حَمْدَانُ الْأَصْفَهَانِيُّ: ((كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ؛ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ، فَعَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَستَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ؟!!

فَقَالَ شَرِيكٌ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ أَضَعَهُ! فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ)).

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُمَا اللهُ-: ((وَاللهِ مَا اجْتَرَأْتُ أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إِلَيَّ هَيْبَةً لَهُ)).

وَيَنْبَغِي أَلَّا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ.

قَالَ الْخَطِيبُ: ((يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، وَأَيُّهَا الْحَافِظُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ))، وَمَا تَقُولُونَ فِي كَذَا؟ وَمَا رَأْيُكُمْ فِي كَذَا؟ وَشِبْهَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَمِّيهِ فِي غَيْبَتِهِ أَيْضًا بِاسْمِهِ إِلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ الشَّيْخُ، أَوِ الْأُسْتَاذُ، أَوْ: قَالَ شَيْخُنَا كَذَا.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ لِلشَّيْخِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْسَى فَضْلَهُ، وَأَنْ يُعَظِّمَ حُرْمَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيْبَتَهُ وَيَغْضَبَ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَفَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ لِلشَّيْخِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ وَأَوِدَّاءَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَيَتَعَمَّدَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ، وَيَسْلُكَ فِي السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مَسْلَكَهُ، وَيُرَاعِيَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَادَتَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي عَادَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَلَا يَدَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ)).

((وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفَاءِ شَيْخِهِ، وَأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَكَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوكَ! فَقَالَ لِلْقَائِلِ: ((هُمْ إِذَنْ حَمْقَى مِثْلُكَ إِنْ تَرَكُوا مَا يَنْفَعُهُمْ لِسُوءِ خُلُقِي»».

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: ((لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ)).

وَعَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ)).

((وَإِذَا وَقَفَهُ الشَّيْخُ عَلَى دَقِيقَةٍ مِنْ أَدَبٍ، أَوْ نَقِيصَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ؛ فَلَا يُظْهِرْ أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَغَفَلَ عَنْهَا، بَلْ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى إِفَادَتِهِ ذَلِكَ وَاعْتِنَائِهِ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ وَكَانَ إِعْلَامُ الشَّيْخِ بِهِ أَصْلَحَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ بَيَانِ الْعُذْرِ مَفْسَدَةٌ فَيَتَعَيَّنُ إِعْلَامُهُ بِهِ)).

وَلْيَحْذَرْ طَالِبُ الْعِلْمِ أَشَدَّ الْحَذَرِ أَنْ يُمَارِيَ أُسْتَاذَهُ؛ فَإِنَّ الْمِرَاءَ شَرٌّ كُلُّهُ، وَهُوَ مَعَ شَيْخِهِ وَقُدْوَتِهِ أَقْبَحُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَوْغَلُ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ.

فَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((لَا تُمَارِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ خَزَنَ عَنْكَ عِلْمَهُ، وَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا)).

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو سَلَمَةَ يُمَارِي ابْنَ عَبَّاسٍ، فَحُرِمَ بِذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا)).

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الْوَفَاءِ وَحِفْظِ الْجَمِيلِ: الْوَفَاءَ لِلْوَطَنِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ شِيَمِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالنُّبْلِ، يَقُولُ الْأَصْمَعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ وَفَاءَ الرَّجُلِ وَوَفَاءَ عَهْدِهِ فَانْظُرْ إِلَى حَنِينِهِ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَتَشَوُّقِهِ إِلَى إِخْوَانِهِ))، وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ الْخُلُقُ النَّبِيلُ حِينَمَا وَقَفَ نَبِيُّنَا ﷺ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ، وَنَظَرَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ إِيذَاءِ أَهْلِهَا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، وَقَالَ ﷺ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ: أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَدُوَّ الَّذِي يُحَاوِلُ اغْتِصَابَهَا وَاحْتِلَالَهَا، وَأَنْ يُجَاهِدَ دُونَهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ احْتِفَاظًا بِمَا لِأَهْلِهَا فِي وَطَنِهِمْ؛ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْلُّبِهِمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَصَوْنِ حَرِيمِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي مَعَائِشِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ.

وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ، فَيَقْضِيَ عَلَى شَرَفِ دِينِهِمْ، وَيَمْنَعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَمُقْتَنَيَاتِهِمْ، وَيَهْتِكَ حُرَمَهُمْ، وَيَمْحُوَ تَارِيخَ مَجْدِهِمْ، وَيُفْنِيَ لُغَتَهُمْ وَعُلُومَهُمْ فِي رَطَانَتِهِ وَعَوَائِدِهِ.

فَكُلُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ مِمَّا يَنْوِيهِ الْعَدُوُّ الْغَاصِبُ لِلْوَطَنِ تِلْقَاءَ أَهْلِهِ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ دُونَهُ لِوَجْهِ اللهِ وَفِي سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَحَابُّوا وَلَا يَتَعَادَوْا، وَأَنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا، وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِمْ، وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَذْمُومَةِ؛ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْجِنْسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ.

أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: ((أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ)).

فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، إِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ)).

وَمِيزَانُ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَمَا أَشَدَّ جُرْمَ مَنْ يَسْعَى لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى، وَإِطْلَاقِ الْغَرَائِزِ مِنْ قُيُودِهَا!!

وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَنْ سَعْيُهُ لِإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الْإِسْلَامِ فِي بَلَدٍ يُنَعَّمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ!!

((ذَمُّ الْجُحُودِ وَنُكْرَانِ الْجَمِيلِ))

إِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَرْذُولَةِ وَالْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ: نُكْرَانَ الْجَمِيلِ، وَهُوَ شَيْءٌ أَشْبَهُ مَا يَكُونُ بِجُحُودِ النِّعْمَةِ، وَإِنْكَارِ مَا تَفَضَّلَ بِهِ الْمُتَفَضِّلُ، وَأَنْعَمَ بِهِ الْمُنْعِمُ.

نُكْرَانُ الْجَمِيلِ: أَلَّا يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ قَلْبُهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّنَائِعِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ وَصَلَتْ تِلْكَ الصَّنَائِعُ وَوَصَلَ ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ إِلَى الْمُنْكِرِ لِلْجَمِيلِ مِنَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، أَمْ وَصَلَتْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْجُحُودِ وَمِنْ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَقَرِيبٌ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوْ هُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، كُفْرَانُ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ، وَالْجُحُودُ، وَالْإِنْكَارُ، وَنُكْرَانُ الْجَمِيلِ.

((مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَنُكْرَانِ الْجَمِيلِ))

لَمْ يُقَصِّرْ بِالْخَلْقِ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالْغَفْلَةُ؛ فَإِنَّهُمْ مُنِعُوا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ النِّعَمِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ شُكْرُ النِّعْمَةِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِهَا نِعْمَةً.

ثُمَّ إِنَّهُمْ إِنْ عَرَفُوا نِعْمَةً ظَنُّوا أَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا أَنْ يَقُولَ بِاللِّسَانِ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ))، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَعْنَى الشُّكْرِ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعْمَةَ فِي إِتْمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ بِهَا؛ وَهِيَ طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الشُّكْرِ بَعْدَ حُصُولِ هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ إِلَّا غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ وَاسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ.

أَمَّا الْغَفْلَةُ عَنِ النِّعَمِ فَلَهَا أَسْبَابٌ:

وَأَحَدُ أَسْبَابِهَا: أَنَّ النَّاسَ بِجَهْلِهِمْ لَا يَعُدُّونَ مَا يَعُمُّ الْخَلْقَ وَيَسْلَمُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ نِعْمَةً؛ فَلِذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَ عَلَى مَا عَمَّ اللهُ بِهِ الْخَلْقَ مِنْ شَتَّى النِّعَمِ فِي الْكَوْنِ وَالنَّفْسِ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَاسْتِسَاغَةِ الطَّعَامِ؛ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى كَثْرَةً.

فَلِعُمُومِ هَذِهِ النِّعَمِ سَائِرُ الْخَلْقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ، وَأَيْقَظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ سُبَاتِ الْغَفْلَةِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَعُ فِي نِعَمٍ يَتَمَتَّعُ بِهَا سَائِرُ الْخَلْقِ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى كَوْنِهَا نِعْمَةً.

فَهَذَا مِنَ الْغَفْلَةِ، وَهِيَ نِعَمٌ شَتَّى لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ وَلَكِنَّهَا عَامَّةٌ لِلْخَلْقِ، مَبْذُولَةٌ لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، فَلَا يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُمُ اخْتِصَاصًا بِهِ؛ فَلَا يَعُدُّهُ نِعْمَةً‍‍!!

فَلَا تَرَاهُمْ يَشْكُرُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى رَوْحِ الْهَوَاءِ، وَلَوْ أُخِذَ بِمُخْتَنَقِهِمْ لَحْظَةً حَتَّى انْقَطَعَ الْهَوَاءُ عَنْهُمْ؛ مَاتُوا.

فَمَا أَجَلَّهَا مِنْ نِعْمَةٍ! وَمَا أَعْظَمَهَا! وَمَا أَقَلَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا!!

وَلَوْ حُبِسُوا فِي بَيْتِ حَمَّامٍ فِيهِ هَوَاءٌ حَارٌّ، أَوْ فِي بِئْرٍ فِيهِ هَوَاءٌ ثَقُلَ بِرُطُوبَةِ الْمَاءِ؛ مَاتُوا غَمًّا، كَمَا إِذَا لَوْ حُبِسَ عَنْهُمْ مَاتُوا خَنْقًا، فَإِنِ ابْتُلِيَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ نَجَا؛ رُبَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ نِعْمَةً، وَشَكَرَ اللهَ عَلَيْهَا.

فَالْمَصْدُورُ هُوَ الَّذِي يُحِسُّ بِنِعْمَةِ الْهَوَاءِ، وَيُدْرِكُ عَظِيمَ قَدْرِ نِعْمَةِ التَّنَفُّسِ عِنْدَ الْأَصِحَّاءِ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا يَكَادُ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا ابْتُلِيَ بِفَقْدِهِ!!

وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ؛ إِذْ صَارَ شُكْرُهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ تُسْلَبَ عَنْهُمُ النِّعْمَةُ، ثُمَّ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

وَالنِّعْمَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى بِأَنْ تُشْكَرَ فِي بَعْضِهَا، فَلَا تَرَى الْبَصِيرَ يَشْكُرُ صِحَّةَ بَصَرِهِ إِلَّا أَنْ تَعْمَى عَيْنَاهُ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَوْ أُعِيدَ عَلَيْهِ بَصَرُهُ أَحَسَّ بِهِ، وَشَكَرَهُ وَعَدَّهُ نِعْمَةً.

وَهَذَا الْجَاهِلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّرْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ مِثْلُ الْعَبْدِ السُّوءِ؛ حَقُّهُ أَنْ يُضْرَبَ دَائِمًا؛ حَتَّى إِذَا تُرِكَ ضَرْبُهُ سَاعَةً تَقَلَّدَ بِهِ مِنَّةً، فَإِنْ تُرِكَ ضَرْبُهُ عَلَى الدَّوَامِ غَلَبَهُ الْبَطَرُ، وَتَرَكَ الشُّكْرَ.

فَصَارَ النَّاسُ لَا يَشْكُرُونَ إِلَّا الْمَالَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاخْتِصَاصُ مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ، وَيَنْسَوْنَ جَمِيعَ نِعَمِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ.

وَلَوْ أَمْعَنَ الْإِنْسَانُ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِ لَرَأَى مِنَ اللهِ نِعَمًا كَثِيرَةً تَخُصُّهُ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا النَّاسُ كَافَّةً؛ بَلْ يُشَارِكُهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَرُبَّمَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ يَعْتَرِفُ بِهَا كُلُّ عَبْدٍ.

وَهَذَا مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ النَّاسُ، وَكُلٌّ قَدِ اخْتُصَّ مِنْهُ بِقَدْرٍ.

مِنْ ذَلِكَ: الْعَقْلُ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ لِلَّهِ -تَعَالَى- إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ عَنِ اللهِ فِي عَقْلِهِ، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ.

وَقَلَّ مَنْ يَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- الْعَقْلَ؛ وَلِذَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ شُكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَعْتَدُّ بِالنِّعْمَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِهَا، وَلَا يَعُدُّ النِّعَمَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعُمُومِ سَائِرَةٌ، وَعَلَى الْخَلْقِ دَائِرَةٌ.. لَا يَعُدُّهَا نِعْمَةً إِلَّا ابْتُلِيَ بِفَقْدِهَا، ثُمَّ أُعِيدَتْ إِلَيْهِ؛ فَحِينَئِذٍ يُدْرِكُ قَدْرَهَا.

فَهُنَاكَ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ جَمِيعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ وَالرِّزْقِ عَلَى حَالَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ:

فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِالْعَقْلِ؛ فَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي عَقْلِهِ، يَعُدُّ نَفْسَهُ أَعْقَلَ الْعَاقِلِينَ، وَهُوَ رَاضٍ عَنْ عَقْلِهِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْحَمْقَى وَأَسْفَهِ السُّفَهَاءِ.

وَأَمَّا مَا يَخُصُّ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَلَّ مَنْ يَرْضَى عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي رِزْقِهِ.

قَسَمَ اللهُ الْعَقْلَ، وَقَسَمَ الرِّزْقَ، كُلٌّ رَاضٍ بِعَقْلِهِ، وَمَا إِلَّا النَّادِرُ النَّادِرُ الَّذِي  يَرْضَى بِرِزْقِهِ.

إِذَن؛ وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ مِنْ نِعْمَةِ الْعَقْلِ الَّتِي يَعُدُّهَا كُلُّ مَنْ أُوتِيَ مِنْهُ قَدْرًا.. نِعْمَةً قَدِ اخْتُصَّ بِهَا، وَقَدْ لَا يَرَى أَحَدًا فَوْقَهُ فِيهَا.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: الْخَلْقُ؛ فَمَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَيَرَى مِنْ غَيْرِهِ عُيُوبًا يَكْرَهُهَا وَأَخْلَاقًا يَذُمُّهَا، وَإِنَّمَا يَذُمُّهَا مِنْ حَيْثُ يَرَى نَفْسَهُ بَرِيئًا مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَأَى نَفْسَهُ مُتَلَطِّخًا بِهَا مُتَلَوِّثًا بِأَرْكَانِهَا؛ مَا عَابَ غَيْرَهُ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهَا وَالْإِتْيَانِ بِهَا.

وَإِنَّمَا يَعُدُّ نَفْسَهُ فَوْقَهَا؛ وَحِينَئِذٍ يَرَى هَذَا الْخُلُقَ -الَّذِي آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيَحْسَبُهُ هُوَ كَامِلًا لَا خُلُقَ فَوْقَهُ- يَرَاهُ مَدْعَاةً لِلشُّكْرِ.

فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يُشْغَلْ بِذَمِّ غَيْرِهِ.

وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ؛ إِذْ حَسُنَ خُلُقُهُ، وَابْتُلِيَ غَيْرُهُ بِسُوءِ الْخُلُقِ -كَمَا يَرَى هُوَ نَفْسَهُ وَيَرَى النَّاسَ-.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ: الْعِلْمُ؛ فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيَعْرِفُ بَوَاطِنَ أُمُورِ نَفْسِهِ وَخَطَايَا أَفْكَارِهِ وَمَا هُوَ مُفْرَدٌ بِهِ، وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ حَتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لَافْتُضِحَ؛ فَكَيْفَ لَوِ اطَّلَعَ النَّاسُ كَافَّةً؟!!

أَلَا يُوجِبُ سَتْرُ الْقَبِيحِ وَإِخْفَاءُ الْمَذْمُومِ عَنْ عَيْنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ شُكْرَ هَذِهِ  النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؟!!

أَلَمْ يُسْبِلْ عَلَيْكَ السَّتْرَ مِنْهُ تَكَرُّمًا؟!!

أَلَمْ يَصْرِفْ عَنْكَ أَنْظَارَ النَّاسِ، وَلَمْ يَرْفَعِ الْغِطَاءَ عَنْكَ حَتَّى يَرَوْا مَا بِكَ حَقِيقَةً؟!!

أَلَيْسَتْ هَذِهِ نِعْمَةً؟!!

وَأَلَا تَسْتَوْجِبُ هَذِهِ النِّعْمَةُ شُكْرًا؟!!

أَلَا يُوجِبُ سَتْرُ الْقَبِيحِ وَإِخْفَاؤُهُ عَنْ عَيْنِ النَّاسِ شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؟!!

وَلَمْ يَصْرِفِ الْخَلْقَ عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَّا الْغَفْلَةُ وَالْجَهْلُ.

وَأَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أُمُورٌ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا وَقَدْ رَزَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- شَيْئًا مِنْهَا؛ فِي صُورَتِهِ، أَوْ أَخْلَاقِهِ، أَوْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ وَالِدِهِ، أَوْ مَسْكَنِهِ، أَوْ بَلَدِهِ، أَوْ رَفِيقِهِ، أَوْ زَوْجِهِ، أَوْ وَلَدِهِ، أَوْ عِزِّهِ، أَوْ جَاهِهِ، أَوْ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ سُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأُعْطِيَ مَا خُصِّصَ بِهِ غَيْرُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى، بِهِ.

فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ الْخَلْقِ أَنْ يَشْكُرُوهُ.. أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ عَلَى حَالِ الْآخَرِينَ.

وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ كُفْرُ النِّعْمَةِ!!

إِنَّهُ الْجُحُودُ، إِنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، إِنَّهَا خَصْلَةُ السَّوْءِ إِذَا مَا اسْتَحْكَمَتْ فِي الْإِنْسَانِ جَعَلَتْهُ جَاحِدًا لِكُلِّ مَعْرُوفٍ، سَاتِرًا لِكُلِّ جَمِيلٍ، مُنْكِرًا لِكُلِّ أَمْرٍ حَسَنٍ، وَ((لَا يَشْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ)).

وَمَا سَدَّ عَلَى الْخَلْقِ طَرِيقَ الشُّكْرِ إِلَّا جَهْلُهُمْ بِضُرُوبِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، أَوِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا لِحُصُولِهِمْ عَلَيْهَا بِلَا أَدْنَى سَبَبٍ.

هَذَا الْجُحُودُ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ إِذَا تَعَلَّقَ بِآيَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَقَدْ نَعَى الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ عَلَى الْمُشْـرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ جُحُودَهُمْ بِآيَاتِ اللهِ؛ فَقَدْ جَحَدُوهَا رَغْمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا، وَشَدَّدَ الْقُرْآنُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ، فَوَسَمَهُمْ بِالظُّلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.

وَقَدْ كَانَ هَذَا الْجُحُودُ سَبَبًا لِلَعْنَةِ قَوْمِ عَادٍ وَإِبْعَادِهِمْ: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.

وَقَدْ وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَنْ يَجْحَدُ بِآيَاتِ اللهِ بِالْكُفْرِ حِينًا، وَبِالظُّلْمِ حِينًا، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}.

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.

وَجَاءَ وَصْفُهُمْ يَعْنِي: الْجَاحِدِينَ- بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْخَتْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.

وَقَالَ -سُبْحَانُهُ-: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}.

وَقَدْ أَوْضَحَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ الْجُحُودَ مِنْ عَوَامِلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْغُرُورِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.

إِنَّ الْجَاحِدَ بِآيَاتِ اللهِ لَنْ يُغْنِيَ عَنْهُ سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَلَا فُؤَادُهُ، وَكَأَنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِ، يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}.

وَالنَّتِيجَةُ الْحَتْمُ لِلْجُحُودِ: هِيَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ؛ فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ: {ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.

يَتَعَلَّمُ الْإِنْسَانُ الْجُحُودَ فِي النَّاسِ، يَجْحَدُ الْمَعْرُوفَ، وَيُنْكِرُ الْجَمِيلَ، وَيَصُدُّ عَنْ كُلِّ حَسَنٍ، وَيُخْفِي أَمْرَ كُلِّ مُحْسِنٍ إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا كَالذُّبَابِ يَقَعُ عَلَى الْعَقِيرِ، لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَيْهِ، فَيَتَمَرَّسُ عَلَى الْجُحُودِ مَعَ الْخَلْقِ، وَإِذَا هُوَ جَاحِدٌ مَعَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ!!

((مَعْنَى الْجُحُودِ))

((الْجُحُودُ وَالْجَحْدُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: جَحَدَ يَجْحَدُ جَحْدًا وَجُحُودًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ: (الْجِيمِ وَالْحَاءِ وَالدَّالِ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْخَيْرِ.

يُقَالُ: عَامٌ جَحِدٌ، أَيْ: قَلِيلُ الْمَطَرِ.

وَالْجَحْدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الْقِلَّةُ)).

قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: ((أَجْحَدَ الرَّجُلُ وَجَحَدَ: إِذَا أَنْفَضَ وَذَهَبَ مَالُهُ)).

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْجُحُودُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عِلْمِ الْجَاحِدِ بِهِ أَنَّهُ صَحِيحٌ.

فَفَرْقٌ بَيْنَ الْجُحُودِ وَالنَّفْيِ -كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}؛ فَهُوَ يُنْكِرُ بِلِسَانِهِ مَا هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ؛ هَذَا هُوَ الْجُحُودُ.

مَا جَاءَ جَاحِدٌ بِخَيْرٍ قَطُّ!!

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ، يُقَالُ: جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ)).

وَالْجَحْدُ أَيْضًا: قِلَّةُ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ الْجُحْدُ بِالضَّمِّ، ((وَالْجَحَدُ -بِالتَّحْرِيكِ- مِثْلُهُ، يُقَالُ: نَكَدًا لَهُ وَجَحَدًا، وَجَحِدَ الرَّجُلُ -بِالْكَسْـرِ- جَحَدًا فَهُوَ جَحِدٌ: إِذَا كَانَ ضَيِّقًا قَلِيلَ الْخَيْرِ، وَأَجْحَدَ مِثْلُهُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((يُقَالُ: رَجُلٌ جَحْدٌ شَحِيحٌ قَلِيلُ الْخَيْرِ، يُظْهِرُ الْفَقْرَ. وَأَجْحَدَ: صَارَ ذَا جَحْدٍ)).

((وَالْجُحْدُ وَالْجَحْدُ: الضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، يُقَالُ: جَحِدَ عَيْشُهُمْ جَحَدًا؛ إِذَا ضَاقَ عَلَيْهِمْ وَاشْتَدَّ)).

((وَجَحَدَ فُلَانًا: صَادَفَهُ بَخِيلًا قَلِيلَ الْخَيْرِ، وَجَحِدَ: نَكِدَ، وَفَرَسٌ جَحِدٌ كَكَتِفٍ: غَلِيظٌ قَصِيرٌ، وَجَمْعُهُ: جِحَادٌ)).

الْجُحُودُ فِي اللُّغَةِ هُوَ هَذَا.

وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْعَامِّ؛ فَإِنَّ الْجُحُودَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ تَرْكِ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي.

الْجُحُودُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثبَاتُهُ، وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ.

وَهَذَا شَائِعٌ ذَائِعٌ فِي النَّاسِ كَادُوا أَنْ يُطْبِقُوا عَلَيْهِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- مَعَ الْخَلْقِ قَبْلَ الْخَالِقِ!!

فَمَا أَكْثَرَ الْجَحَدَةَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ الْمَعْرُوفَ، وَالَّذِينَ يُخْفُونَ كُلَّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِمْ!!

الْجُحُودُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثْبَاتُهُ، وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ.

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.

فَهُوَ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ، فَيَنْفِي مَا هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ، لَا يُنْكِرُهُ فُؤَادُهُ، وَيُثْبِتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ، وَلَا يَشْكُرُ إِنْسَانًا عَلَى مَعْرُوفٍ، وَلَا يُكَافِئُ أَحَدًا عَلَى نِعْمَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِ بِسَبِيلِهِ، مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَا شَكَرَ اللهَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ)).

فَجَعَلَ هَذَا مِنْ هَذَا، وَجَعَلَ مِنْ شُكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شُكْرَ النَّاسِ عَلَى النِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ بِسَبِيلِهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ضَاقَ النَّاسُ  بِصُنْعِ الْمَعْرُوفِ، وَأَهْمَلُوهُ، وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَيْهِ؛ لِكَثْرَةِ الْجَحْدِ وُقُوعًا فِي الْحَيَاةِ مَعَ ظُهُورِ الْأَمْرِ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ.

الْجَحْدُ: إِنْكَارُ مَا سَبَقَ لَهُ وُجُودٌ، وَالْجَحْدُ خِلَافُ النَّفْيِ؛ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ، فَالْجَحْدُ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي، وَالنَّفْيُ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمَاضِيَ وَالْحَاضِرَ.

الْجَحْدُ يُقَالُ فِيمَا يُنْكَرُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ؛ إِنْكَارٌ بِاللِّسَانِ مَعَ إِثْبَاتِ الْقَلْبِ مَا هُوَ بِاللِّسَانِ مُنْكَرٌ.

النَّفْيُ يُقَالُ فِي الْأَمْرَيْنِ؛ فَالنَّافِي إِذَا كَانَ كَلَامُهُ صَادِقًا يُسَمَّى كَلَامُهُ نَفْيًا، وَلَا يُسَمَّى جَحْدًا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}، هَذَا صِدْقٌ، وَهَذَا نَفْيٌ.

وَإِنْ كَانَ مَا يُخْبِرُ بِهِ كَذِبًا سُمِّيَ جَحْدًا وَنَفْيًا.

فَالنَّفْيُ أَعَمُّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-:  {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}.

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْجُحُودِ وَنُكْرَانِ الْجَمِيلِ))

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُطُورَةَ الْجُحُودِ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.

فَيُخْبِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَنْ خِلَافِ مَا هُوَ مُثْبَتٌ عَلَى صَفْحَاتِ قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْجَحْدُ وَهَذَا الْجُحُودُ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، هُمْ يَعْلَمُونَ فِي قَرَارَةِ ضَمَائِرِهِمْ وَيَعْلَمُونَ فِي أَفْئِدَتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيمَا بَلَّغْتَهُ، وَأَنَّكَ قَدْ وَفَّيْتَ بِمَا وَعَدْتَ، وَأَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكْذِبَ عَلَى اللهِ، هُمْ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ  * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}.

وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.

لَقَدْ بَيَّنَ  رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ الْجُحُودَ مِيرَاثٌ؛ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ))، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَوْ أَوَّلُ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْ ذَرَارِيَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ)).

مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ ذُرِّيَّتَهُ، فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ((فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى مِنْهُمْ رَجُلًا يَزْهَرُ -أَيْ: يُضِيءُ وَجْهُهُ حُسْنًا-، فَقَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ! مَنْ هَذَا؟

قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ.

قَالَ: أَيْ رَبِّ! كَمْ عُمُرُهُ؟

قَالَ: سِتُّونَ عَامًا.

قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ.

قَالَ: لَا؛ إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ.

وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ، وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا.

فَقِيلَ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ.

قَالَ: مَا فَعَلْتُ.

وَأَبْرَزَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ)).

أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الصَّغِيرِ)) وَ((الْأَوْسَطِ)) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا)).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا -أَيْ: لَمْ تُوَافِقْهُمْ، وَكَرِهُوهَا لِمَرَضٍ أَصَابَهُمْ-.

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا)).

فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ، وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ -أَيْ: فَقَأَهَا، وَأَذْهَبَ مَا فِيهَا-، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ -وَهِيَ أَرْضٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْمَدِينَةِ ذَاتُ حِجَارَةٍ سَوْدَاءَ-  حَتَّى مَاتُوا)).

لَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَإِنَّمَا قَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا لِجُحُودِهِمُ النِّعْمَةَ، وَلِنُكْرَانِهِمُ الْمَعْرُوفَ؛ لِأَنَّهُ زَوَّدَهُمْ بِذَوْدٍ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ نِيَاقِ الصَّدَقَةِ يَشْرَبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا اقْتَادُوهَا وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ، وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ كَافِرِينَ، فَعَاقَبَهُمْ هَذَا الْعِقَابَ الْأَلِيمَ.

وَنَبِيُّنَا هُوَ أَرْحَمُ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ؛ جَزَاءً وَفِاقًا -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  قَالَ: ((خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! تَصَدَّقُوا))، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَـرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)).

فَقُلْنَ: ((وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)).

((تَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)) أَيْ: لَا تَشْكُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ.

((مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ))، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَذِهِ زَيْنَبُ)).

فَقَالَ: ((أَيُّ الزَّيَانِبِ؟)).

فَقِيلَ: ((امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ)).

قَالَ: ((نَعَمْ، ائْذَنُوا لَهَا)).

فَأُذِنَ لَهَا، قَالَتْ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ -أَيْ: بِالْحُلِيِّ- عَلَيْهِمْ)).

فَطَلَبَ مِنْهَا أَيْ: مِنْ زَوْجِهِ.. مِنِ امْرَأَتِهِ- أَنْ تَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الذَّهَبِ بِتِلْكَ الْحُلِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهَا مِنْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ -أَيْضًا-.

وَفِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: ((فَإِنِّي اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَوَجَدْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ؛ يُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)).

كُفْرَانُ النِّعْمَةِ.. جُحُودُ الْمَعْرُوفِ.. عَدَمُ الْقِيَامِ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ لِلنَّاسِ كَانَ قَسِيمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَدَّتْ بِهِنَّ إِلَى النَّارِ؛ ((تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ)). كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِهِ وَشَرْحِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ أَيْ: لِأَجْلِهِ-.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْإِبِلُ.

قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.

فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذَرَنِي النَّاسُ.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْبَقَرُ.

فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا.

فَأَنْتَجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا.

قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ أَيِ: الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبْرَصَ مَفْلُوكًا صُعْلُوكًا لَا مَالَ لَهُ، فَأَتَاهُ فِي صُورَتِهِ، وَهَيْئَتِهِ-، فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي.

فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ.

فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللهُ مَالًا؟!!

فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.

جَحَدَ، فَلَمَّا جَحَدَ هَانَ عَلَى اللهِ، فَلَمَّا هَانَ عَلَى اللهِ رَدَّهُ اللهُ -تَعَالَى- إِلَى مَا كَانَ، وَسَلَبَ مِنْهُ النِّعْمَةَ.

فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ -وَأَتَاهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لِيُذَكِّرَهُ؛ لِكَيْ لَا يَأْتِيَ مِنْهُ بَدْأَةُ رَدِّ فِعْلٍ لَا تُحْمَدُ، فَأَرَادَ مِنْهُ الْأَنَاةَ-: أَلَمْ تَكُنْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؟

فَأَنْكَرَ وَجَحَدَ.

فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا.

فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.

فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي؛ فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ؛ فَوَاللهِ! لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ.

فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

نَجَّاهُ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ، نَجَّاهُ جُحُودُ الْجُحُودِ، فَجَحَدَ الْجَحْدَ، وَأَعْلَنَ نُكْرَانَ الْجُحُودِ مُقِرًّا بِالنِّعْمَةِ، فَأَمْسَكَ اللهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا، وَأَذْهَبَ اللهُ عَنِ الْجَاحِدِ النِّعْمَةَ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ)).

قِيلَ: ((يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟)).

قَالَ: ((يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)).

وَالْجُحُودُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ خُلُقِ النِّسَاءِ؛ فَلْيَتَخَيَّرْ عَاقِلٌ لِنَفْسِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)).

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ -أَيْ: عَلَى إِثْرِ مَطَرٍ كَانَ بِاللَّيْلِ-، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)).

قَالُوا: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا!!)).

أَيُّ جُحُودٍ هَذَا!!

وَأَيُّ جُحُودٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؟!!

((يُنْزِلُ اللهُ الْغَيْثَ وَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا!!))، وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ اللهُ بِفَيْضِ رَحْمَتِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَع ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ!! وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا؛ قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ)) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)).

 ((تَرْهِيبُ السَّلَفِ مِنَ الْجُحُودِ وَعَاقِبَتِهِ))

لَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (({إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قَالَ: أَيْ كَفُورٌ، وَكَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ)).

وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الْكَنُودُ: الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْكَنُودُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ)).

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (({إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} قَالَ: كَانَ أَصْحَابُهَا مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا (ضَرَوَانُ) عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ صَنْعَاءَ، وَكَانَ أَبُوهُمْ قَدْ خَلَفَ لَهُمْ هَذِهِ الْجَنَّةَ -وَالْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ الْعَظِيمُ-، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ يَسِيرُ فِيهَا -أَيْ: فِي الْجَنَّةِ، فِي الْبُسْتَانِ- سِيرَةً حَسَنَةً؛ فَكَانَ مَا اسْتَغَلَّهُ مِنْهَا؛ يَرُدُّ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَيَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ.

فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّتَهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ وَوَرِثَهُ بَنُوهُ قَالُوا: لَقَدْ كَانَ أَبُونَا أَحْمَقَ؛ إِذْ كَانَ يَصْرِفُ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّا مَنَعْنَاهُمْ لَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا.

فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عُوقِبُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، فَأَذْهَبَ اللهُ مَا بِأَيْدِيهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ: رَأْسَ الْمَالِ، وَالرِّبْحَ، وَالصَّدَقَةَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا)).

قَالَ كَعْبٌ: ((مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا فَشَكَرَهَا وَتَوَاضَعَ بِهَا لِلَّهِ إِلَّا أَعْطَاهُ نَفْعَهَا فِي الدُّنْيَا، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً فِي الْآخِرَةِ.

وَمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَشْكُرْهَا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَوَاضَعْ بِهَا إِلَّا مَنَعَهُ اللهُ نَفْعَهَا فِي الدُّنْيَا، وَفَتَحَ لَهُ طَبَقَاتٍ مِنَ النَّارِ يُعَذِّبُهُ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ)).

قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ((تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنَ التَّطْفِيفِ)).

وَالْمُكَافَأَةُ مَا يَكُونُ فِي مُقَابِلِ الْإِحْسَانِ.

((مَنْ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَقُولُوا: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا)).

وَتَرْكُ ذَلِكَ مِنَ التَّطْفِيفِ، كَمَا قَالَ وَهْبٌ: ((تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنَ التَّطْفِيفِ)) .

وَمَا يُكَلِّفُكَ أَنْ تَدْعُوَ لِمَنْ أَوْصَلَ اللهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْكَ عَنْ طَرِيقِهِ وَبِسَبِيلِهِ؟!!

وَهَلْ يَشُقُّ عَلَيْكَ؟!!

كَتَبَ ابْنُ السَّمَّاكِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِـ(الرَّقَّةِ): ((أَمَّا بَعْدُ: فَلْتَكُنْ تَقْوَى اللهِ -تَعَالَى- مِنْ بَالِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَخَفِ اللهَ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ -يَخَافُ اللهَ مِنَ النِّعْمَةِ، بَلْ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ- مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا مَعَ الْمَعْصِيَةِ بِهَا.

وَأَمَّا التَّبِعَةِ فِيهَا فَقِلَّةُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، فَعَفَى اللهُ عَنْكَ كُلَّ مَا ضَيَّعْتَ مِنْ شُكْرٍ، أَوْ رَكِبْتَ مِنْ ذَنْبٍ، أَوْ قَصَّرْتَ مِنْ حَقٍّ)).

قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ((سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفْرُ الْمَعْرُوفِ)).

الْبِرُّ بِي مِنْكَ وَطَّى الْعُذْرَ عِنْدَكَ لِي        فِيمَا فَعَلْتُ فَلَمْ تَعْذُلْ وَلَمْ تَلُمِ

وَقَـاَم عِلْمُكَ بِي فَاحْتَجَّ عِـنْدَكَ لِي        وَقَـامَ شَاهِدُ عَـدْلٍ غَـيْرُ مُتَّهَمِ

لَئِنْ جَحَـدْتُكَ مَعْـرُوفًـا مَـنَنْتَ بِهِ     إِنِّي لَفِي اللُّؤْمِ أَحْظَى مِنْكَ بِالْكَرَمِ

تَعْفُو بِعَدْلٍ وَتَسْطُو إِنْ سَطَوْتَ بِهِ         فَلَا عَـدِمْتُكَ مِـنْ عَافٍ وَمُنْتَقِمِ

 

يَدُ الْمَعْرُوفِ فِي غُنْمٍ حَيْثُ كَانَتْ         تَحَمَّلَهَا شَكُورٌ أَوْ كَفُورُ

فَفِي شُـكْـرِ الشَّكُـورِ لَهَا جَـزَاءٌ           وَعِنْدَ اللهِ مَا كَفَرَ الْكَفُورُ

مَنْ كَانَ عَادَتُهُ وَطَبْعُهُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ النَّاسِ، وَتَرْكَ شُكْرِهِ لَهُمْ؛ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِكُفْرِ نِعْمَةِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ يَتَمَرَّسُ عَلَى الْكُفْرَانِ، وَيَتَدَرَّبُ عَلَى الْجُحُودِ.

وَأَمَّا إِذَا مَا اعْتَادَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَكْرَمَهُ، وَأَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَهْمَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِهِ مِنْ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِ، إِذَا تَمَرَّسَ عَلَى ذَلِكَ وَتَدَرَّبَ عَلَيْهِ؛ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شَكُورًا، وَأَنْ يَكُونَ لِلَّهِ ذَكُورًا.

{أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.

قَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللهِ عَلَيْهِمْ جُحُودَهُمْ بِنِعْمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْتَعْمِلُ نِعَمَ اللهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَيَسْتَعِينُ بِكُلِّ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ)).

وَجُحُودُ النِّعْمَةِ كُفْرَانُهَا، جُحُودُ النِّعْمَةِ كُفْرَانٌ بِالنِّعْمَةِ.

وَلَوْ أَنَّكَ تَأَمَّلْتَ فِي أَحْوَالِكَ، وَتَأَمَّلْتَ فِي ظَاهِرِكَ وَبَاطِنِكَ؛ لَعَلِمْتَ عَظِيمَ حِيَاطَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَ؛ إِذْ يَنْتَشِلُكَ مِنْ وَادِي الظُّنُونِ تَعْبَثُ بِكَ، وَإِذْ يَأْتِي بِكَ مِنَ الشُّـرُورِ لِيُقِيمَكَ عَلَى الصِّـرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِذْ يُنْعِمُ عَلَيْكَ بِالْقَلْبِ الشَّاكِرِ، وَاللِّسَانِ الذَّاكِرِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ سِوَاهُ؛ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، وَهُوَ الْمَانُّ بِهِ لَا يَمُنُّ بِهِ إِلَّا هُوَ.

لَوْ تَأَمَّلْتَ لَعَلِمْتَ عَظِيمَ قَدْرِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَهُوَ بَعْدُ يُصَرِّفُكَ فِي أَحْوَالٍ مِنَ التَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْكَ السُّوءَ فِيهَا؛ مِنْ حَسَدِ حَاسِدٍ، وَحِقْدِ حَاقِدٍ، وَمَكْرِ مَاكِرٍ، وَهُوَ بِكَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((لَا يُزْهِدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ)) أَيْ: كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَجَحَدَ الْمَعْرُوفَ، لَا يَعْنِي الْكُفْرَ بِاللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّمَا يَعْنِي كُفْرَانَ النِّعْمَةِ وَجُحُودَهَا، وَإِنَّهُ لَمُؤْلِمٌ لِلْقَلْبِ حَقًّا كَأَنَّمَا يَمَسُّهُ بِمِيسَمٍ مِنْ نَارٍ؛ إِذْ تُبْسَطُ يَدُ الْمَعْرُوفِ فَتُقْبَضُ يَدُ الشُّكْرِ؛ بَلْ تُبْسَطُ يَدُ الْجَحْدِ، وَيَدُ الْإِهَانَةِ، وَيَدُ الِاسْتِهَانَةِ.

وَمَنْ يَقْوَى عَلَى تَحَمُّلِ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ قَوَّاهُ اللهُ، وَمَنْ يَثْبُتُ بَعْدُ عَلَى الْعَطَاءِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ!!

((لَا يُزْهِدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَ؛ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَى الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا تَصْنَعُهُ إِلَيْهِ)).

فَأَنْتَ إِذَا صَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَجَحَدَهُ مَنْ صُنِعَ مَعَهُ الْمَعْرُوفُ؛ حَمِدَكَ عَلَى الْمَعْرُوفِ الَّذِي صَنَعْتَهُ مَنْ لَمْ تَصْنَعْ لَهُ الْمَعْرُوفَ.

إِعْطَاءُ الْفَاجِرِ يُقَوِّيهِ عَلَى فُجُورِهِ، وَمَسْأَلَةُ اللَّئِيمِ إِهَانَةٌ لِلْعِرْضِ، وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ.

تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ، لَمَّا ابْتُذِلَ الْعِلْمُ لِأَوْلَادِ السِّفْلَةِ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا تَرَى، وَسَتَرَى!!

لَا بُدَّ مِنْ شَرَفِ النَّفْسِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَكَانُوا يَتَصَفَّحُونَ طُلَّابَهُمْ كَمَا يَتَصَفَّحُونَ طُلَّابَ حَرِيمِهِمْ، وَلَا يَبْذُلُونَ الْعِلْمَ إِلَّا لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ.

وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَهُوَ مَبْذُولٌ.

فَلَمَّا صَارَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مَبْذُولًا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْخَسِيسَةِ لِيَرْتَفِعُوا بِهِ دُنْيَا لَا دِينًا؛ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا تَرَى، وَسَتَرَى إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا!!

تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ، وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ الْكَفُورِ إِضَاعَةٌ لِلنِّعْمَةِ، فَإِذَا هَمَمْتَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَارْتَدِ الْمَوْضِعَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنْ مِنْ خَمْسَةٍ عَلَى حَذَرٍ: مِنْ لَئِيمٍ إِذَا أَكْرَمْتَهُ، وَكَرِيمٍ إِذَا أَهَنْتَهُ، وَعَاقِلٍ إِذَا أَحْرَجْتَهُ، وَأَحْمَقٍ إِذَا مَازَجْتَهُ، وَفَاجِرٍ إِذَا مَازَحْتَهُ)).

فَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى حَذَرٍ.

إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ                وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا

نُكْرَانُ الْجَمِيلِ وَجُحُودُ الْمَعْرُوفِ: أَلَّا يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِلِسَانِهِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ قَلْبُهُ وَفُؤَادُهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّنَائِعِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ؛ سَوَاءٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ.

احْذَرْ هَذَا الْخُلُقَ؛ فَإِنَّهُ مَدْعَاةٌ لِذَهَابِ نِعْمَةِ اللهِ عَنْكَ، وَتَعْذِيبِ اللهِ إِيَّاكَ إِنْ لَمْ يَرْحَمْكَ بِمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ إِنْ تَوَرَّطْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا مَرَّ فِي النُّصُوصُ، وَكَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ فِي الشُّرُوحِ.

اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ، كُنْ شَرِيفَ النَّفْسِ، وَإِذَا خَاصَمْتَ فَلَا تَفْجُرْ!

إِيَّاكَ وَالْفُجُورَ فِي الْخُصُومَةِ، لَا يَفْجُرُ فِي الْخُصُومَةِ مُؤْمِنٌ قَطُّ؛ لِأَنَّ الْفُجُورَ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ؛ ((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

أَمَّا الْمُؤْمِنُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا خَاصَمَ أَدْرَكَتْهُ خِصَالُ يَقِينِهِ، وَأَحْوَالُ مُرُوءَتِهِ، وَدَعَائِمُ إِيمَانِهِ، فَمَنَعَتْهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِيمَا لَا يَجْمُلُ.

اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرِيدُكَ؛ وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُرِيدُ الْيَوْمَ عَدًّا، لَا يُرِيدُ الْإِسْلَامُ الْيَوْمَ كَمًّا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِسْلَامُ الْيَوْمَ كَيْفًا، يُرِيدُ صِفَاتٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ كَثْرَةٌ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ)).

((دِينُ الْوَفَاءِ وَحِفْظِ الْجَمِيلِ))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى أَنْ نَتَحَلَّى بِخُلُقِ الْوَفَاءِ وَحِفْظِ الْجَمِيلِ؛ فَهُوَ خُلُقٌ عَظِيمٌ، بِهِ تَسْمُو النُّفُوسُ، وَيَزِيدُ الْإِيمَانُ.

نَبِيُّنَا ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَشْكُرَ النَّاسَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَا نُكَافِئُ بِهِ الْخَلْقَ عَلَى الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْنَا؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ نُثْنِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ نَدْعُوَ لَهُمْ، وَأَنْ نَقُولَ إِذَا لَمْ نَجِدْ فِي أَيْدِينَا مَا نَرُدُّ بِهِ عَلَى الْجَمِيلِ جَمِيلًا، وَعَلَى الْمَعْرُوفِ مَعْرُوفًا، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا؛ فَلْنُجَزِّيَهُمْ خَيْرًا، يَعْنِي: فَلْيَقُلِ الْوَاحِدُ مِنَّا: ((جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا))؛ فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا أَهْدَتْ إِلَى أَحَدٍ هَدِيَّةً؛ تَقُولُ لِلْجَارِيَةِ الَّتِي أَرْسَلَتْهَا بِالْهَدِيَّةِ: ((مَاذَا قَالَ أَهْلُ الْبَيْتِ لَكِ؟)).

فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ: قَالُوا عِنْدَمَا أَوْصَلْتُ إِلَيْهِمْ مَا أَرْسَلْتِنِي بِهِ.. لَقَدْ قَالُوا: ((جَزَاهَا اللهُ خَيْرًا)).

فَتَقُولُ هِيَ: ((وَأَقُولُ أَنَا: وَجَزَاهُمُ اللهُ خَيْرًا؛ فَأُجَزِّيهِمْ كَمَا جَزَّوْنِي، وَيَبْقَى الْأَجْرُ لِي)).

فَأَمَّا إِذَا مَا أَحْسَنْتَ إِلَى أَحَدٍ فَقَالَ: ((جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا))، فَلَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَقُلْ: ((وَجَزَاكَ))؛ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ يَكُونُ قَدْ ذَهَبَ بِجَمِيعِ مَا قَدْ أَنْعَمْتَ أَوْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ بِهِ.

أَهْلُ الْخَيْرِ إِذَا مَا وَصَلَتْهُمْ نِعْمَةٌ شَكَرُوا اللهَ -تَعَالَى- عَلَيْهَا، وَإِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُمْ يَشْكُرُونَهُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ شُكْرَ الْعِبَادِ فِي الْأَرْضِ مِنْ شُكْرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ((فَمَا شَكَرَ اللهَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ))، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَفِي هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْمُرُوءَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْفِطْرَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ فِيهِ -أَيْضًا-: تَقْوِيَةٌ لِلْمُحْسِنِ الَّذِي أَنْعَمَ وَأَوْصَلَ الْإِحْسَانَ عَلَى أَنْ يَتَوَالَى إِحْسَانُهُ وَلَا يَنْقَطِعَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ إِذَا مَا جُحِدَتْ نِعْمَتُهُمْ، وَإِذَا مَا كُفِرَ إِحْسَانُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِالْخَلْقِ؛ وَحِينَئِذٍ يُمْسِكُونَ مَعْرُوفَهُمْ، فَلَا يَصِلُ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمْ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْإِحْسَانَ إِلَّا مُقَابَلًا بِالنُّكْرَانِ، وَلَا يَرَوْنَ الْمَعْرُوفَ مُقَابَلًا إِلَّا بِالْمُنْكَرِ، وَلَا يَرَوْنَ النِّعْمَةَ مُقَابَلَةً إِلَّا بِجُحُودِهَا؛ وَحِينَئِذٍ يَسُوءُ ظَنُّ الْمُحْسِنِ بِالنَّاسِ؛ فَيَكُفُّ إِحْسَانَهُ حِينَئِذٍ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْخَلْقِ.

النَّبِيُّ ﷺ يُرِيدُ مِنَّا أَلَّا نُنْكِرَ النِّعْمَةَ، وَأَلَّا نُنْكِرَ الْجَمِيلَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخُلُقَ لَيْسَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَالْإِسْلَامُ إِنَّمَا جَاءَ بِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُولِيَنَا شُكْرَ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا وَعَلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا فِي ذُرِّيَّاتِنَا، وَأَنْ يُحْسِنَ خَاتِمَتَنَا بِمَنِّهِ، وَجُودِهِ، وَكَرَمِهِ، وَفَضْلِهِ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِسْلَامُ مَصْدَرُ السَّعَادَةِ وَالصَّلَاحِ لِلْعَالَمِ
  الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ
  إنَّهم قَتَلَةُ الحُسين - رضي الله عنه -
  داعش وذبح الأقباط المصريين
  كَيْفَ نَسْتَمْطِرُ الرَّحَمَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ؟
  مَظَاهِرُ الْكِبْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  الأسماء والصفات أصل العلم
  الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ
  صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  الرد على الملحدين:الفرق بين التصور والتعقل، وبيان أقسام المعلوم
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان