حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله

حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله

((حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَفَضْلُ الدِّفَاعِ عَنْهُ

وَمَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ))

جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:

أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ»

فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى ذَاكِرًا الأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي القُلُوبِ: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: 66].

فَسَوَّى بينَ قَتْلِ أَنْفُسِهِم والخُرُوجِ مِن دِيَارِهِم، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لو كَتَبَ على عِبَادِهِ الأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِن قَتْلِ النُّفُوسِ، والْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.

وَنَسَبَ اللهُ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا: قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 40].

وَلَو قَنَعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ، مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِم أَقْنَعُ مِنْهُم بِأَرْزَاقِهِمْ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

فَدَعَا أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَأَخْرَجَ الْإمَامُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِليَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

«وَطَنُنَا إِسْلَامِيُّ، وَحُبُّهُ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ»

عَرَّفَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- دَارَ الْإِسْلَامِ فِي مَعْرِضِ تَعْرِيفِهِ لِدَارِ الشِّركِ فَقَالَ: «بَلَدُ الشِّرْكِ هُوَ: الَّذِي تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَلَا تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَةِ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ, وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ؛ لِيَخْرُجَ مَا تُقَامُ فِيهِ هَذِهِ الشَّعَائِرُ -يَعْنِي الْأَذَانَ وَالصَّلَاةَ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادَ وَالْجُمُعَةَ- عَلَى وَجْهٍ مَحْصُورٍ؛ كَبِلَادِ الْكُفَّارِ الَّتِي فِيهَا أَقَلِّيَّاتٌ مُسْلِمَةٌ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ بِلَادَ إِسْلَامٍ بِمَا تُقِيمُهُ الْأَقَلِّيَّاتُ الْمُسْلِمَةُ فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإسْلَامِ، أَمَّا بِلَادُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا هَذِهِ الشَّعَائِرُ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ».

فَبِلَادُنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ فُصُولِ فَتَاوِيهِ: أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِالْجُدْرَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالسُّكَّانِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَلَدِ وَنِظَامِهِمُ الْإِسْلَامَ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُحْكَمُونَ بِنِظَامٍ لَيْسَ إِسْلَامِيًّا صِرْفًا أَوْ مَحْضًا)).

وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يُسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

«حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- »

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ والصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ».

*اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ:

اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَى الْفَوْضَى وَالشِّقَاقِ.

إِنِّي لِأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ؟!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

وَقَدْ تَضِيقُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ فَيَظُنُّ أَنَّ وَطَنَهُ قَدْ ضَاقَ بِهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَرَبُّكَ مَا ضَاقَتْ بِلَادٌ بِأَهْلِهَا   ***   وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

وَحَالُ مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ هُوَ:

شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء

جُوعٌ إِلَيْهِ... كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء

شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الوِلَادَه

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُون

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَه؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُون؟!!

الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِن سِوَاهَا، وَالظَّلَام

حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهُوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه

وَا حَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَام

فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه 

مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟

فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.

«فَضْلُ مِصْرَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَعْلَامُهَا»

*فَضْلُ مِصْرَ فِي الْقُرْآنِ:

ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِين﴾ [يوسف: 99].

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ [يوسف: 21].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ [يوسف: 30].

وَالْمَدِينَةُ: مَنْفُ، وَالْعَزِيزُ: رَئِيسُ وُزَرَاءِ مِصْرَ حِينَئِذٍ.

وَقَالَ تَعَالَى:  ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾ [القصص: 15].

وَهِي مَنْفٌ مَدِينَةُ فِرْعَوْنَ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ [القصص: 20].

 هِيَ مَنْفٌ أَيْضًا.

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ وَافْتِخَارِهِ بِمِصْرَ: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف: 51].

وَقَالَ تَعَالَى حِينَ وَصَفَ مِصْرَ، وَمَا كَانَ فِيهِ آلُ فِرْعَوْنَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْمُلْكِ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ مَشْرِقًا وَلَا مَغْرِبًا، وَلَا سَهْلًا وَلَا جَبَلًا، وَلَا بَرًّا وَلَا بَحْرًا: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين﴾ [الدخان: 25-27].

وَالْمَقَامُ الْكَرِيمُ: مِصْرُ، فَقَدْ كَرَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَوَصَفَهَا بِالْكَرَمِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

فَهَلْ يُعْلَمُ أَنَّ بَلَدًا مِنَ الْبُلْدَانِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَثْنَى عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّنَاءِ، أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ هَذَا الوَصْفِ، أَوْ شَهِدَ لَهُ بِالْكَرَمِ غَيْرَ مِصْرَ؟

*فَضْلُ مِصْرَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ في «الصَّحِيحِ» عَنْ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرُ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَكُم مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».

وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُم ذِمَّةً وَرَحِمًا». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَرْفَعُهُ: «إِذَا فُتِحَتْ مِصْرُ فَاسْتَوْصُوا بِالقِبْطِ خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

فَأَمَّا الرَّحِمُ: فَإِنَّ هَاجَرَ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَرْيةٍ نَحْوَ (الْفَرَمَا)، يُقَالَ لَهَا -أَيْ: لِهَاجَرَ-: أُمُّ الْعَرَبِ.

وَأَمَّا الذِّمَّةُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ تَسَرَّى مِنَ الْقِبْطِ (مَارِيَةَ) أُمَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ ، وَهِيَ مِنْ قَرْيَةٍ نَحْوَ الصَّعِيدِ.

*الْأَعْلَامُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ نَزَلُوا مِصْرَ:

وَأَمَّا مَنْ كَانَ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَحْبَارِ وَالزُّهَّادِ, وَمَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالشِّعْرِ وَالنَّحْوِ وَالْخَطَابَةِ، وَكُلُّ مَنْ بَرَعَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، أَوْ نَجَمَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ، فَيَتَّسِعُ عَلَى الْحَاصِرِ حَصْرُهُ.

ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالرِّوَايَةِ أَنَّهُ دَخَلَ مِصْرَ فِي فَتْحِهَا مِمَّنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ مِئَةُ رَجُلٍ وَنَيِّفٌ.

وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: «وَقَفَ عَلَى إِقَامَةِ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ، مِنْهُمُ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَأَبُو ذَرٍّ, وَرَبِيعَةُ بْنُ شُرَحْبِيلَ بْنُ حَسَنَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَمْرُو ابْنُ عَلْقَمَةَ.

وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَخَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ، وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ، وَقَفُوا عَلَى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ -مَسْجِدِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بِأَفْرِيقِيَّةَ».

وَأَمَّا مَن كَانَ بِهَا مِنَ الفُقَهَاءِ والعُلَمَاءِ، فَمِنْهُم: يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَاللَّيثُ بْنُ سَعْدٍ، وَلَهُ مَذْهَبٌ انْفَرَدَ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الرَّشِيدَ مِنْ يَمِينِهِ الَّتِي عَجَزَ عَنْهَا فُقَهَاءُ الدُّنْيَا.

 وَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ يَفُوقُ بِتَصْنِيفِهِ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَهُ مِنْ تَصْنِيفِهِ نَحْوُ مِئَةِ جُزْءٍ.

 وَمِنْهُمْ: عَبْدُ اللهِ بْنُ لَهِيعَةَ، لَهُ مَنْزِلَةٌ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِنْهُمْ أَشْهَبُ، وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَالْمُزَنِيُّ.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ بَرَعَ فِي مَذْهَبِهِ، وَنَجَمَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ نَظِيرِهَا سَائِرُ أَهْلِ الدُّنْيَا.

«مِصْرُ أُمَّةٌ لَهَا تَارِيخٌ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْإِسْلَامِ»

إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مُدَافِعَةٌ، وَعَنِ الْإِيمَانِ مُنَافِحَةٌ.

 وَهِيَ لِلْقُرْآنِ حَامِلَةٌ، وَلِلْعِلْمِ نَاشِرَةٌ.

 هَذِهِ الْأُمَّةُ بِاللهِ عَالِمَةٌ.

 هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مِنَ الْأَتْقِيَاءِ الْأَنْقِيَاءِ الْأَخْفِيَاءِ مَنْ يَضْرَعُونَ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَنْ يُنَجِّيَهَا، وَيُنَجِّيَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَسُوءٍ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ هِيَ الصَّخْرَةُ الشَّمَّاءُ الَّتِي لَمَّا اتَّحَدَ أَبْنَاؤُهَا مَعَ أَهْلِ الشَّامِ تَحْتَ قِيَادَةِ الْمُظَفَّرِ (قُطُز)، تَمَّ انْحِسَارُ مَوْجَاتِ التَّتَارِ الْهَمَجِ عَلَى صَخْرَتِهِمُ الْقَائِمَةِ الْعَاتِيَةِ، وَنَجَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَضَارَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا بِهَذَا الرَّدِّ وَبِهَذَا الصَّدِّ، وَبِهَذَا الْكِفَاحِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 خَرَجَتْ جُيُوشُ الْمِصْرِيِّينَ مُوَحِّدَةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُنَافِحَةً عَنْ دِينِهِ الْعَظِيمِ، صَرْخَتُهَا: «وَا إِسْلَامَاهُ!»، تُنَافِحُ عَنْهُ وَتَمُوتُ دُونَهُ، وتُقَاتِلُ لِأَجْلِ رَفْعِ رَايتِهِ.

 هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةٌ مُجَاهِدَةٌ، تُجَاهِدُ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَمِيعَ الْمُعْتَدِينَ.

وَفِي عَهْدِ (الدَّوْلَةِ الْأَيُّوبِيَّةِ) لَمَّا خَرَجَ (صَلَاحُ الدِّين)، وَمَعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ الْمَيَامِينِ، مَعَ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ مِنْ جُنْدِ الْمِصْرِيِّينَ، كَانَ تَطْهِيرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ إِجْلَاءِ الصَّلِيبِيِّينَ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَنْسِفُوا الْإِسْلَامَ نَسْفًا، وَأَنْ يَقْضُوا عَلَى أَهْلِهِ قَضَاءً مُبْرَمًا، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.

((صَفْحَاتٌ مِنْ حَرْبِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ - السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر))

هَذِهِ الْأُمَّةُ تَصَدَّتْ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ لِلْيَهُودِ، مِنْ إِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَصَيْحَتُهُمْ: «اللهُ أَكْبَرُ».

 أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَكْبَرُ مِنَ الْعَتَادِ وَالْعُدَّةِ، أَكْبَرُ مِنَ التَّخْطِيطِ وَالتَّنْظِيمِ، أَكْبَرُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، أَكْبَرُ مِنَ الْمَعُونَةِ تَأْتِي مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ.

 اللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَكَبْرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَدُحِرُوا، وَأُذِلُّوا، وَأُهِينُوا -يَعْنِي الْيَهُودَ عَامَ 1973م-.

فَبَعْدَمَا كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلْفٍ «1967م»، وَمَا وَقَعَ مِنَ اِحْتِلَالِ سَيْنَاءَ؛ قَامَ الْيَهُودُ بِوَضْعِ حَوَاجِزَ خَطِيرَةٍ فِي طَرِيقِ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ الأَبِيِّ، كَانَ هُنَاكَ الْحَاجِزُ الْمَائِيُّ الْمُتَمَثِّلُ فِي قَنَاةِ السُّوَيسِ، وَالَّذِي كَانَ عُبُورُهُ يُعَدُّ مُشْكِلَةً أَمَامَ أَيِّ جَيْشٍ فِي الْعَالَمِ.

 ثُمَّ كَانَتْ هُنَاكَ مَادَّةُ «النَّابَالْمِ» الَّذِي يَلْتَهِبُ مَتَى اِتَّصَلَ بِالْمَاءِ، وَقَدْ وَضَعَ الْيَهُودُ مَقَادِيرَ هَائِلَةً مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ؛ لِتُطْلَقَ بِوَاسِطَةِ أَنَابِيبَ عِنْدَ اللُّزُومِ إِلَى مَاءِ الْقَنَاةِ.

 ثُمَّ كَانَ هُنَاكَ «السَّدُّ التُّرَابِيُّ الْهَائِلُ» الَّذِي وَضَعَهُ الْيَهُودُ عَلَى الضِّفَّةِ الشَّرْقِيَّةِ لِلْقَنَاةِ.

 وَأَخِيرًا؛ كَانَ هُنَاكَ «خَطُّ بَارْلِيف» الَمَنِيعُ، الْمُزَوَّدُ بِأَحْدَثِ الْمُعِدَّاتِ، وَالَّذِي كَانَ يَمْتَدُّ عَلَى طُولِ السَّاحِلِ الشَّرْقِيِّ لِلْقَنَاةِ.

فَهَذِهِ الْمَوَانِعُ كُلُّهَا مَعَ الْمَانِعِ النَّفْسِيِّ، وَمَا أَشَاعُوهُ مِنْ أَنَّهُمُ الْقُوَّةُ الَّتِي لَا تُقْهَرُ، وَأَخَذُوا يُرَوِّجُونَ لِذَلِكَ؛ حَتَى ثَبَتَ فِي أَذْهَانِ وَقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ-، فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيرِ الْمُسْلِمِينَ: أُسْطُورَةُ الْجَيْشِ الَّذِي لَا يُقْهَرُ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْحَوَاجِزِ وَمِنْ أَمْنَعِ الْمَوَانِعِ.

هَذَا الَّذِي وَقَعَ كَانَ اِجْتِيَازُهُ مُسْتَحِيلًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَلَكِنْ فِي «الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ «1393هـ» اِنْدَفَعَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ إِلَى سَيْنَاءَ، وَكَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُنَاكَ كَانَ عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ الزَّحْفِ المِصْرِيِّ، وَكَأَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تَنْتَظِرُ أَقْدَامَ بَنِيهَا الْمِصْرِيِّينَ؛ لِتَتَعَطَّرَ بِهَا وَتُرَحِّبَ بِخُطُوَاتِهَا.

 وَقَدْ نَالَتْ هَذِهِ الْحَرْبُ عِنَايَةَ المُؤَلِّفِينَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْعَرَبِ وَالْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَامَةً بَارِزَةً فِي تَارِيخِ الْحُرُوبِ، وَلِأَنَّهَا غَيَّرَتْ خُطَطَ الْحَرْبِ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ أَنِ اْسْتَطَاعَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى- أَنْ يَتَخَطَّى كُلَّ هَذِهِ الْعَقَبَاتِ الَّتِي مَرَّتِ الإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِنَجَاحٍ هَائِلٍ.

 وَأَوَّلُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ السُّلُطَاتِ الْمِصْرِيَّةَ نَجَحَتْ فِي تَحْقِيقِ الْمُفَاجَأَةِ، وَخَدَعَتِ الدَّوْلَةَ اللَّقِيطَةَ دَوْلَةَ الْيَهُودِ الْمَزْعُومَةَ- وَضَلَّلَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ وَمَعَهَا «الاسْتِخْبَارَاتُ الْأَمْرِيكِيَّةُ» أَنْ تَتَأَكَّدَ مِنْ عَزْمِ مِصْرَ عَلَى الْهُجُومِ.

وَأَمَّا مَادَّةُ النَّابَالْمِ؛ فَقَدِ اِسْتَطَاعَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ أَنْ يُبْطِلَ اِسْتِعْمَالَهَا، فَقَدْ قَامَتْ وَحْدَاتُ الصَّاعِقَةِ بِسَدِّ أَنَابِيبِ النَّابَالْمِ، وَتَخْرِيبِهَا قَبْلَ بَدْءِ الْهُجُومِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا حَاوَلَ الْعَدُوُّ اِسْتِعْمَالَهَا؛ فُوجِئَ بِنِهَايَتِهَا.

وَكَانَ الْيَهُودُ يُبَالِغُونَ فِي تَقْدِيرِ خَطِّ بَارْلِيف، وَقَدْ أَعْلَنَ «مُوشَى دَيَّان»: «أَنَّ اِقْتِحَامَ خَطِّ بَارْلِيف، وَالتَّغَلُّبَ عَلَيهِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَتَجَاوَزُ قُدْرَةَ الْمِصْرِيِّينَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُهَنْدِسِ الجَيْشَيْنِ السُّوفيتِيِّ وَقْتَهَا- وَالْأَمْرِيكِيِّ مَعًا».

وَجَاءَ يَومُ «الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ» أَوْ «يَومُ الْهَوْلِ» كَمَا سَمَّاهُ بَعْضُ الْيَهُودِ، وَبَعْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ بِقَلِيلٍ؛ اِنْطَلَقَتْ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَي طَائِرَةٍ مِصْرِيَّةٍ مُزَمْجِرَةٍ مِنَ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ، فَدَمَّرَتْ مَرَاكِزَ قِيَادَةِ اليَهُودِ، وَمَرَاكِزَ التَّنَصُّتِ، وَمَوَاقِعَ صَوَارِيخِ «هُوك» فِي عُمْقِ سَيْنَاءَ، فَأَصَابَتِ الْقِيَادَةَ الْيَهُودِيَّةَ بِشَلَلٍ تَامٍّ.

 وَعِنْدَمَا تَحَرَّكَتِ الطَّائِرَاتُ الْيَهُودِيَّةُ مُتَّجِهَةً لِمُوَاجَهَةِ الزَّحْفِ الْمِصْرِيِّ؛ سَرْعَانَ مَا تَسَاقَطَتْ هَذِهِ الطَّائِرَاتُ؛ بِسَبَبِ غَابَةِ الصَّوَارِيخِ الْمِصْرِيَّةِ الْمُضَادَّةِ لِلطَّائِرَاتِ.

 وَقَامَتْ مَعَارِكُ جَوِّيَّةٌ؛ قَالَ الْعَسْكَرِيُّونَ عَنْهَا: «إِنَّهَا كَانَتْ خَمْسِينَ مَعْرَكَةً، أُسْقِطَ لِلْيَهُودِ فِيهَا تِسْعُونَ طَائِرَةً، بِالإِضَافَةِ إِلَى آلَافِ الطَّلْعَاتِ الْجَوِّيَّةِ الَّتِي حَقَّقَتْ أَرْقَامًا قِيَاسِيَّةً، وَأَصَابَتِ الْأَهْدَافَ، وَقَصَفَتْ تَجَمُّعَاتِ الْجَيْشِ الْيَهُودِيِّ وَطَوَابِيرَهُ الْمُدَرَّعَةَ، مِمَّا أَفْقَدَ الْعَدُوَّ تَوَازُنَهُ».

وَمَعَ المَوْجَاتِ المُتَلَاحِقَةِ مِنَ الطَّائِرَاتِ؛ كَانَ هُنَاكَ أَلْفُ مِدْفَعٍ تَهْدِرُ فِي قَصْفَاتٍ مُتَلَاحِقَةٍ، وَاِنْدَفَعَتْ مَوْجَاتُ الْعُبُورِ مِنْ أَبْطَالِ مِصْرَ بِوَاسِطَةِ قَوَارِبَ مِنَ المَطَّاطِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ عُبُورُهُمْ تَحْتَ وَابِلٍ مِنَ النِّيرَانِ.

 وَوَصَلَ الْجُنُودُ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى النِّقَاطِ الْحَصِينَةِ رَغْمَ كُلِّ مُقَاوَمَةٍ، وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ النِّقَاطِ كَانَتْ عَنِيدَةً فِي دِفَاعِهَا؛ فَإِنَّ جُنُودَ مِصْرَ كَانُوا يَقْتَحِمُونَ بِالْمَدَافِعِ الرَّشَّاشَةِ وَالْقَنَابِلِ الْيَدَوِيَّةِ هَذِهِ الْحُصُونَ، وَكَانَ عَرْضُ السَّاتِرِ التُّرَابِيِّ فِي بَعْضِ المَوَاقِعِ مِائَتَيْ مِتْرٍ.

وَلَمْ تَكُنِ الأَرْضُ صَالِحَةً لِنَصْبِ جُسُورِ الْعُبُورِ؛ وَلَكِنَّ المُهَنْدِسِينَ المِصْرِيِّينَ كَانُوا فِي أَعْظَمِ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِمْ.

 وَكَانَ «مُدِيرُ سِلَاحِ المُهَنْدِسِينَ» يُشْرِفُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْجُسُورِ حَتَّى تَمَّتْ، وَقَضَى «نَائِبُ مُدِيرِ سِلَاحِ الْمُهَنْدِسِينَ» عَلَى أَحَدِ جُسُورِ الْعُبُورِ.

 وَتَحَرَّكَتْ قُوَّاتُنَا الْبَحَرِيَّةُ؛ لِتَضْرِبَ أَهْدَافًا حَيَوِيَّةً عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ الأَبْيَضِ وَعَلَى شَاطِئِ البَحْرِ الأَحْمَرِ عَلَى السَّوَاءِ.

 وَنَزَلَتِ القُوَّاتُ الخَاصَّةُ وَرَاءَ خُطُوطِ الْعَدُوِّ فِي عُمْقِ سَيْنَاءَ؛ لِتَضْرِبَ خُطُوطَ إِمْدَادِهِ، وَلتُعَطِّلَ هَجَمَاتِهِ المُضَادَّةَ وَتُعَرْقِلَهَا.

 وَاِسْتَمَرَّ التَّدَفُّقُ مِنَ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَنْقَطِعُ، وَفِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً كَانَتْ لَدَيْنَا فِي الشَّرْقِ خَمْسُ فِرَقٍ كَامِلَةٍ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَارِيخِ الْحُرُوبِ.

ونُسِفَتْ مَوَاقِعُ خَطِّ بَارْلِيف، وَأُزِيلَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا إِلَى الأَبَدِ، وَتُرِكَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا؛ لِلْعِبْرَةِ وَالذِّكْرَى، فَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ دُمِّرَ لِلْعَدُوِّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْقِعًا مِنْهَا، وَفِي اليَوْمِ التَّالِي دُمِّرَتْ تِسْعَةُ مَوَاقِعَ، وَهَكَذَا تَحَوَّلَتِ المَوَاقِعُ إِلَى رَمَادٍ، وَتَحَوَّلَ حِلْمُ اليَهُودِ فِي الأَمْنِ المُطْلَقِ إِلَى أَنْقَاضٍ وَرُكَامٍ.

وَفِي قَلْبِ سَيْنَاءَ دَارَتْ أَخْطَرُ مَعَارِكَ لِلدَّبَّابَاتِ فِي التَّارِيخِ، وَذَلِكَ خِلَالَ يَوْمَيِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَالخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ أُكْتُوبَر، المُوَافِقَينِ لِلثَّامِنَ عَشَرَ وَالتَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يَقُولُ العَسْكَرِيُّونَ: إِنَّ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي دُمِّرَتْ فِي هَذِهِ المَعَارِكِ كَانَتْ تُعَدُّ بِالْمِئَاتِ.

وَيَقُولُ أَحَدُ قَادَةِ الْأَلْوِيَةِ اليَهُودِيَّةِ «يَشْعِيَا بْنُ بُوَارَتْ» فِي كِتَابِهِ «التَّقْصِير»:

«إِنَّ المِصْرِيِّينَ كَانُوا يَرْكُضُونَ نَحْوَ دَبَّابَاتِنَا دُونَ وَجَلٍ، وكَانُوا يَتَسَلَّقُونَهَا وَيَقْتُلُونَ أَطْقُمَهَا بِالْقَنَابِلِ اليَدَوِيَّةِ وَالصَّوَارِيخِ وَهُمْ فِيهَا».

في غَمْرَةِ الهَزَائِمِ الَّتِي نَزَلَتْ بِاليَهُودِ؛ كَثِيرٌ مِنْ مَوَاقِعِ العَدُوِّ أَعْلَنَتِ اِسْتِسْلَامَهَا، وَرَفَعَتِ الرَّايَةَ البَيْضَاءَ.

 وَكَانَ الصَّلِيبُ الأَحْمَرُ يَتَدَخَّلُ مُعْلِنًا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ إِكْرَاهٌ عَلَى الاسْتِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّ كَثْرَةَ الضَّحَايَا، وَفِقْدَانَ الأَمَلِ جَعَلَا الاسْتِسْلَامَ أَمْرًا طَبْعِيًّا.

 وَأَدْرَكَ قَادَةُ اليَهُودِ أَنَّهُ لَا أَمَلَ فِي الانْتِصَارِ عَلَى المِصْرِيِّينَ أَوْ رَدِّهِمْ عَنْ سَينَاءَ، فَأَرْسَلَتْ رَئِيسَةُ وُزَرَاءِ إِسْرَائِيلَ «جُولَدَا مَائِير» تَطْلُبُ الغَوْثَ مِنَ الرَّئِيسِ الأَمْرِيكِيِّ-آنَذَاكَ- «رِيتشارَد نِيكسُون».

يقولُ الْعَسْكَرِيُّونَ: «إِنَّ اِسْتِغَاثَةَ «جُولدَا مَائِير» أَعَادَتْ إِلَى الأَذْهَانِ إِشَارَاتِ الاسْتِغَاثَةِ الَّتِي تُرْسِلُهَا السُّفُنُ المُوشِكَةُ عَلَى الغَرَقِ، وَكَانَتْ الاسْتِغَاثَةُ قَصِيرَةً وَحَاسِمَةً، وَهِيَ: «أَنْقِذُونَا......الزِّلْزَالَ!!!».

وَاِسْتَجَابَتْ أَمْرِيكَا اِسْتِجَابَةً هَائِلَةً لِهَذِهِ الاسْتِغَاثَةِ، فَأَسْرَعَتْ بِإِنْشَاءِ جِسْرٍ جَوِّيٍّ إِلَى اليَهُودِ يَحْمِلُ الدَّبَّابَاتِ وَالطَّائِرَاتِ وَقِطَعَ الغِيَارِ.

 وَكَانَتِ الدَّبَّابَاتُ تَنْزِلُ مِنَ الطَّائِرَةِ إِلَى المَيدَانِ بِأَطْقُمِهَا الْكَامِلَةِ وَاسْتِعْدَادَاتِهَا الشَّامِلَةِ.

 وَقَامَتْ وَزَارَةُ الدِّفَاعِ الْأَمْرِيكِيَّةِ «البِنْتَاجُون» بِتَجْرِيدِ بَعْضِ فِرَقِ الْجَيشِ الأَمْرِيكِيِّ مِنْ أَسْلِحَتِهَا؛ لِدَفْعِهَا بِسُرْعَةٍ إِلَى اليَهُودِ.

 وَكَذَلِكَ أَصْدَرَتْ تَعْلِيمَاتِهَا بِإِمْدَادِ الْجَيْشِ اليَهُودِيِّ بِالدَّبَّابَاتِ وَالصَّوَارِيخِ مِنَ المَخْزُونِ الاسْتِرَاتِيجِيِّ لِحِلْفِ الأَطْلَنْطِيِّ فِي القَارَّةِ الأُورُبِّيَّةِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى الأَسْلِحَةِ وَالذَّخَائِرِ؛ اِنْهَالَ الْمُتَطَوِّعُونَ الأَمْرِيكِيُّونَ مِنَ اليَهُودِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِيَأْخُذُوا مَكَانَهُمْ بِجَانِبِ الْجَيْشِ الْيَهُودِيِّ فِي أَزْمَتِهِ الْخَانِقَةِ.

ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّغْرَةُ، قَالَ «شَارُونَ»: «أَخَذَ الْمِصْرِيُّونَ زِمَامَ الْمُبَادَرَةِ، وَاِسْتَطَاعُوا أَنْ يُلْحِقُوا أَفْدَحَ الْخَسَائِرِ بِالْجَيْشِ الإِسْرَائِيلِيِّ كَذَا قَالَ-، وَكَانَ القِتَالُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ، وَمَوْقِفُنَا فِي غَايَةِ السُّوءِ، وَهَذَا سَيَكُونُ كَارِثَةً كَامِلَةً بِالنِّسْبَةِ لِإِسْرَائِيلَ وَسُمْعَتِهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ عَمَلِ شَيْءٍ.

فَأَلْحَحْتُ عَلَى الْقِيَادَةِ؛ لِتُوَافِقَ عَلَى تَنْفِيذِ خُطَّتِي بِالْعُبُورِ إِلَى الغَرْبِ فِي «الدِّفْرِسْوَار»، وَسَاعَدَتْنَا الْوِلَايَاتُ المُتَّحِدَةُ؛ فَأَخْبَرَتْنَا أَنَّ هُنَاكَ فَرَاغًا بَيْنَ الجَيْشَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ المِصْرِيَّيْنِ، وَأَشَارَتْ عَلَيْنَا بِالْعُبُورِ إِلَى الغَرْبِ.

وَيُواصِلُ شَارُونُ قَوْلَهُ: وَلَكِنَّنِي شَعَرْتُ فِي الأَيَّامِ الأُولَى لِهَذِهِ العَمَلِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الجُسُورِ إِلَى الغَرْبِ كَانَ خَطَأً عَسْكَرِيًّا؛ فَقَدْ كَانَ الْقَصْفُ الْمِصْرِيُّ بَالِغَ العُنْفِ، وَفَشِلْنَا تَمَامًا فِي حِصَارِ الجَيشِ الثَّالِثِ، وَانْتَهَزْنَا أَقْرَبَ فُرْصَةً؛ لِنَعُودَ أَدْرَاجَنَا إِلَى الشَّرْقِ».

وَإِزَاءَ التَّدَخُّلِ الْأَمْرِيكِيِّ؛ وَبِسَبَبِ صَرْخَاتِ مَجْلِسِ الْأَمْنِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إِيقَافِ الْمَعْرَكَةِ، وَلَوْلَا تَدَخُّلُ أَمْرِيكَا لَكَانَ اليَهُودُ كُلُّهُمْ فِي خَطَرٍ، وَوَقَفَتِ المَعْرَكَةُ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَبَدَأَ إِحْصَاءُ خَسَائِرِ إِسْرَائِيلَ.

يَقُولُ الْقَادَةُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ: «إِنَّ خَسَائِرَنَا حَتَّى اليَوْمِ الثَّالِثِ لِلْحَرْبِ كَانَتْ هَائِلَةً، فَقَدْ سَقَطَ آلَافٌ مِنَ الْقَتْلَى، وَجُرِحَ آلَافٌ آخَرُونَ، وَاِسْتَسْلَمَ عَدَدٌ كَبِيرٌ فَأُخِذُوا أَسْرَى، وَكَانَ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ «عَسَّافُ يَاجُورِي» قَائِدُ اللِّوَاءِ الْمِائَةِ وَالتِّسْعِينَ الْمُدَرَّعَةِ.

 وَقَدْ تَجَاوَزَتِ الْخَسَائِرُ الْبَشَرِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْيَومِ الرَّهِيبِ كُلَّ تَقْدِيرٍ، أمَّا عَنِ المُعِدَّاتِ؛ فَقَدْ شَمِلَتْ خَمْسِينَ وَمِائَتَينِ مِنَ الطَّائِرَاتِ، وَثَمَانِيَمِائَةٍ مِنَ الدَّبَّابَاتِ، وَذَلِكَ حَسَبَ تَقْدِيرَاتِ ((مَعْهَدِ الدِّرَاسَاتِ الاسْتِرَاتِيجِيَّةِ بِلَنْدَنَ».

وَكَذَلِكَ قَالَتِ المَصَادِرُ الإِسْرَائِيلِيَّةُ نَفْسُهَا.

وَقَالَتْ رَئِيسَةُ وُزَرَاءِ إِسْرَائِيلَ: «إِنَّ خَسَائِرَ بِلَادِهَا تَفُوقُ خَسَائِرَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي حُرُوبِ الْهِنْدِ وَالصِّينِ الَّتِي اِسْتَمَرَّتْ عَشْرَ سَنَوَاتٍ، وَكَانَ الآلَافُ مِنْ قَتْلَى اليَهُودِ مِنَ الشُّبَّانِ الَّذِينَ لَمْ يَتَجَاوَزِ الوَاحِدُ مِنْهُمُ الرَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْعُمُرِ؛ لِذَلِكَ أَطْلَقَ «مَنَاحِم بِيجِن» عَلَى هَذِهِ الْحَرْبِ «حَرْبَ الأَبْنَاءِ».

لَقَدْ أَحْسَنَ «أَنْوَرُ السَّادَات» الاسْتِعْدَادَ لِلْمَعْرَكَةِ، وَنَجَحَ نَجَاحًا عَظِيمًا فِي إِدَارَتِهَا، وَقَالَ مُعَلِّقًا عَلَى ذَلِكَ: «كَانَتْ ضَرْبَةُ الطَّيَرَانِ الْمِصْرِيَّةُ ضَرْبَةً رَائِعَةً، أَعَادَتْ لِقُوَّاتِنَا الْمُسَلَّحَةِ كَرَامَتَهَا الَّتِي اُنْتُهِكَتْ عَامَ سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ، وَعَامَ سَبْعَةٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ الْهُجُومُ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ طَائِرَةٍ، وَخَسَارَتُنَا كَانَتْ ضَئِيلَةً لَا تَزِيدُ عَنِ اثْنَينِ بِالْمِائَةِ «2%»، وَحَقَّقْنَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ بِالمِائَةِ مِنَ الأَهْدَافِ «99%»، أَمَّا خَسَارَةُ الْعَدُوِّ؛ فَكَانَتْ قَاتِلَةً».

وَقَالَ «رَئِيسُ الأَرْكَانِ» آنَذَاكَ: «إِنَّ تَحَرُّكَاتِ اِسْتِعْدَادِنَا كَانَ يَصْحَبُهَا تَحَرُّكَاتٌ أُخْرَى نَقُومُ بِهَا لِلْخِدَاعِ وَالتَّمْوِيهِ؛ لِنُحْدِثَ اِرْتِبَاكًا فِي تَقْدِيرَاتِ مَنْ يُرَاقِبُ التَّحَرُّكَاتِ، وَلِتَقُودَهُ إِلَى النَّتِيجَةِ الْخَاطِئَةِ.

 وَكَانَتْ أَصْعَبُ أَيَّامِ الْخِدَاعِ هِيَ الأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ الأَخِيرَةَ، فَقَدْ كَانَتْ تَقْتَضِي تَحَرُّكَاتٍ مُعَيَّنَةً،  فَاحْتَجْنَا إِلَى دِقَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي التَّقْدِيرِ؛ لِإِخْفَاءِ هَدَفِهَا، وَلَكِنَّهَا أَوَّلًا وَأَخِيرًا كَانَتْ رِعَايَةُ اللهِ لَنَا، الَّتِي مَكَّنَتْنَا مِنْ تَحْقِيقِ الْمُفَاجَأَتِ بِالصُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ بِهَا».

وَوَصَفَ «المُشِيرُ أَحْمَدُ إِسْمَاعِيلَ» تَحَرُّكَاتِ الْمَعْرَكَةِ فَقَالَ: «عِنْدَمَا اِنْطَلَقَتِ الشَّرَارَةُ وَبَدَأَتْ خُطَّةُ «بَدْرٍ» كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعَسْكَرِيِّينَ؛ بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَحَرَّكُ وَفْقًا لِهَذِهِ الْخُطَّةِ».

أَمَّا «وَزِيرُ الْجَيْشِ الْأَمْرِيكِيِّ»؛ فَقَدْ عَلَّقَ عَلَى هَذِهِ الْحَرْبِ، وَنَتَائِجِهَا بِقَوْلِهِ: «إِنَّ عُبُورَ الْقُوَّاتِ الْمَصْرِيَّةِ لِقَنَاةِ السُّوَيسِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّفَوُّقِ الْجَوِّيِّ الإِسْرَائِيلِيِّ لَيُعْتَبَرُ عَلَامَةً بَارِزَةً فِي الْحُرُوبِ الْحَدِيثَةِ، وَسَوْفَ يُؤَدِّي إِلَى تَغَيُّرَاتٍ فِي الاسْتِرَاتِيجِيَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، فَإِنَّ حَرْبَ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ قَدْ فَجَّرَتْ وَبَدَّدَتْ كَثِيرًا مِنَ المَفَاهِيمِ، فَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي التَّارِيخِ الْحَدِيثِ تَتَمَكَّنُ قُوَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ اقْتِحَامِ قَنَاةِ السُّوَيْسِ دُونَ أَنْ تَفْقِدَ أَيَّةَ طَائِرَةٍ مِنْ طَائِرَاتِهَا، وَذَلِكَ فِي مُوَاجَهَةِ عُدُوٍّ يَمْتَلِكُ سِلَاحًا جَوِّيًّا مُتَفَوِّقًا».

وَأَصْدَرَ «الْمَعْهَدُ الْبِرِيطَانِيُّ لِدِرَاسَاتِ الْحَرْبِ)) تَقْرِيرًا ذَكَرَ فِيه: «أَنَّ عُبُورَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ لِقَنَاةِ السُّوَيسِ الَّذِي تَمَّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر -أَيْ فِي الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ- كَانَ يَصْعُبُ تَحْقِيقُهُ بِهَذا النَّجَاحِ؛ حَتَّى لَو كَانَ الْأَمْرُ مُجَرَّدَ عَمَلِيَّةِ تَدْرِيبٍ بِدُونِ عَدُوٍّ مُوَاجِهٍ.

وَأَضَافَ الْمَعْهَدُ قَائِلًا: لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْذُ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مَنْ يُصَدِّقُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوهَا، لَقَدْ دَفَعُوا بِقُوَّاتِ هُجُومِهِمْ عَبْرَ الْقَنَاةِ، وَحَقَّقُوا أَعْظَمَ النَّتَائِجِ، لَقَدِ اِسْتَيْقَظَتْ رُوحُ الْقِتَالِ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ لَدَى الْمِصْرِيِّينَ».

وَيَقُولُ الْكَاتِبُ الْيَهُودِيُّ «آمِنُون كَابلويك» في كِتَابِهِ «اِنْتِهَاءُ الْخُرَافَةِ»: «لَمْ يَتَصَوَّرْ أَحَدٌ فِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ يُمْكِنُهُمُ الْقِيَامُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ.

يَقُولُ: وَلَا يَسَعُنَا الآنَ سِوَى أَنْ نُصَابَ بِالذُّهُولِ وَالوُجُومِ؛ لِأَنَّنَا جَمِيعًا وَقَعْنَا فِي هَذَا الوَهْمِ الهَشِّ الَّذِي كَانَ بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الوَاقِعِ».

*خَوَنَةٌ يُشَوِّهُونَ تَارِيخَنَا، وَيَخُونُونَ بَلَدَنَا الْحَبِيبَ:

فَهَذَا مَا كَانَ بِلِسَانِ أَعْدَائِنَا فِي الْجُمْلَةِ، وَبِشَهَادَاتِهِمْ.

أَفَنُصَدِّقُ هَؤُلاءِ، أَمْ نُصَدِّقُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ حَرْبًا، وَلَمْ يَحْمِلْ سِلَاحًا؟!!

وَلَو شَهِدَهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيهِ الآنَ- لَكَانَ خَائِنًا، فَهُمْ خَوَنَةٌ، يَخُونُونَ الدِّينَ، وَيَخُونُونَ الْأَرْضَ، وَيَخُونُونَ العِرْضَ، وَلَمْ يَحْدُثْ قَطُّ أَنْ هُزِمَتْ مِصْرُ فِي مَعْرَكَةٍ إِلَّا بِسَبَبِ الْخِيَانَةِ!!

 بِالْخِيَانَةِ وَحْدَهَا يَنْتَصِرُ أَعْدَاؤُنَا، وَإِنَّكَ لَتَشُمُّ رَائِحَةَ الْخِيَانَةِ النَّتِنَةَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا يُخَافُ عَلَى جَيْشِنَا الْأَبِيِّ وَلَا عَلَى دَوْلَتِنَا الْفَتِيَّةِ إلَّا مِنَ الخَوَنَةِ عَامَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعَدْلِهِ، وَكَشَفَ سِتْرَهُمْ، وَفَضَحَ أَمْرَهُمْ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

فَإِنَّهُ لا يُخْشَى عَلَى هَذَا الْبَلَدِ مِنْ عَدُوٍّ؛ مَا تَمَسَّكَ أَبْنَاؤُهُ بِدِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَإِنَّ الإِعْدَادَ الرُّوحِيَّ وَالدِّينِيَّ وَالنَّفْسِيَّ الَّذِي سَبَقَ حَرْبَ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ إِعْدَادًا صَحِيحًا.

 فَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْجُنُودِ الْمُقَاتِلِينَ عَلَى الْجَبْهَةِ، يَعِظُونَهُمْ، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِفَضْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ مَاتَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ دُونَ أَرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَيْسَ النصُّ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ مَفْهُومُ النَّصِّ: «مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَالْأَرْضُ مَالٌ؛ فَمَنْ مَاتَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ، فَإِذَا كَانَ يُدَافِعُ عَنْ أَرْضِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.

إِنَّهُمْ يُجَرِّدُونَنَا مِنْ كُلِّ مِيزَةٍ!!

إِنَّهُمْ يُعَرُّونَنَا مِنْ كُلِّ فَضْلٍ!!

وَلَا تَجِدُ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يُسَفِّهُ تَارِيخَ أُمَّتِّهِ، وَيَحْتَقِرُ مُقَدَّرَاتِهَا، وَيَطْعَنُ فِيهَا، وَيَلْعَنُ جِنْسَ أَبْنَائِهَا سِوَى الْخَوَنَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ!!

إِنَّ أَبْنَاءَ جُمْهُورِيَّاتِ الْمَوْزِ يَفْخَرُونَ بِأَرْضِهِمُ الَّتِي يَنْتَمُونَ إِلَيْهَا، وَبِأَعْرَاقِهِمُ الَّتِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهَا.

 وَأَمَّا الإِخْوَانُ المُسْلِمُونَ مُنْذُ نَشَأُوا فِي هَذِهِ الأَرْضِ الطَّاهِرَةِ؛ قَدْ دَنَّسُوا الْأَفْكَارَ، وَلَوَّثُوا الْمُعْتَقَدَاتِ، وَهَوَّنُوا عَلَى النَّاسِ كُلَّ عَزِيزٍ، وَحَرَّكُوا الثَّوِابِتَ فَجَعَلُوها مُتَغَيِّرَات؛ فَالْأَرْضُ لَا قِيمَةَ لَهَا، سَلِّمْ بَلَدَكَ لِعَدُوِّكَ وَلَا تَثْرِيبَ عَلَيكَ!!

 فَالْأَرْضُ للهِ، كَذَا كَانَ تَعْلِيمُ هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِدِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمِصْرِيِّينَ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا هُمْ عَلَيهِ.

تَرَى الْيَومَ جِيلًا فَاسِدًا مِنَ الشَّبَابِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَعْرِفُ اِنْتِمَاءً وَلَا يَعْرِفُ وَلَاءً، لَا يَنْتَمِي لِبَلَدٍ، وَلَا لِأَرْضٍ، وَلَا لِتَارِيخٍ، وَلَا لِجُغْرَافِيَا، وَلَا لِشَيْءٍ، وَلَا يُوَالِي إِلَّا عَلَى الأَهْوَاءِ وَالنَّزْعَاتِ؛ عَلَى الخِيَانَةِ الَّتِي لَنْ يُؤْتَى جَيْشُ مِصْرَ إِلَّا مِنْهَا، حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الخَوَنَةِ وَالخَائِنِينَ، وَجَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيهِمْ نِقْمَتَهُ وَسَخَطَهُ، وَكَشَفَ أَمْرَهُمْ، وَهَتَكَ سِتْرَهُمْ، وَفَضَحَ دَخِيلَتَهُمْ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

مِنْ مَفَاخِرِ الْعَصْرِ الحَدِيثِ:

أَنَّ هَذِهِ الْحَرْبَ الَّتِي اِنْتَصَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، هَلْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ -هَلْ عِنْدَ الْعَرَبِ- فِي هَذَا الْعَصْرِ الْحَدِيثِ نَصْرٌ إِذَا نَحَّيْنَا الْعَاشِرَ مِنْ رَمَضَانَ جَانِبًا؟!

أَيُّ نَصْرٍ عِنْدَهُمْ؟!

وَفِي أَيِّ مَجَالٍ اِنْتَصَرُوا؟!

هَذِهِ الْحَرْبُ الْعَظِيمَةُ، وَهَذَا النَّصْرُ اليَتِيمُ؛ لِمَاذَا نُحَقِّرُهُ؟!

أَمِنْ أَجْلِ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ -الَّذِي قَدَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَكُونَ حَاجِزَ الصَّدِّ ضِدَّ مُؤَامَرَاتِ كُلِّ مُؤْتَمِرٍ وَمَكَائِدِ كُلِّ كَائِدٍ- يَنْبَغِي أَنْ يُزَاحَ أَوْ أَنْ تَحْدُثَ فِيهِ ثَغْرَةٌ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْفُذَ تِلْكَ الْوُحُوشُ الضَّارِيَاتُ إِلَى أَهْلِ هَذَا الْوَطَنِ الآمِنِينَ الَّذِينَ تَرَبَّوْا فِي سَلَامٍ، وَنَعِمُوا بِالْأَمْنِ وَالاطْمِئْنَانِ، وَخَلَتْ نُفُوسُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِنَ الشُّرُورِ، وَلَا يَطْمَعُونَ إِلَّا فِي كِسْرَةٍ مِنَ الْخُبْزِ، وَإلَّا فِي خِرْقَةٍ مِنَ الثِّيَابِ، فَهَذِهِ تَسُدُّ الجَوْعَةَ، وَهَذِهِ تَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، ثُمَّ لْنَمْضِ قُدُمًا؛ مِنْ أَجْلِ رِفْعَةِ بَلَدِنَا عَلَى أَسَاسٍ مِنْ قِيَمِنَا وَمُثُلِنَا، وَعَلَى مَبَادِئِ دِينِنَا الْحَنِيفِ، وَلَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ رِفْعَةٌ إِلَّا بِمِثْلِ هَذَا الْجِدِّ الَّذِي لَا هَزْلَ فِيهِ؟؟!!

إِنَّ الْأُمَمَ لَا يَعْلُو شَأْنُهَا، وَلَا تَرْتَفِعُ مَكَانَتُهَا، وَلَا تُطْعَمُ مِنْ جُوعٍ، وَلَا تُثْرِي مِنْ بَعْدِ فَقْرٍ بِالْأَغَانِي؛وَلَا بِالْخَلَاعَةِ؛ وَلَا بِالْمُيُوعَةِ؛ وَلَا بِالانْفِكَاكِ مِنْ قَيْدِ الأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُؤَخِّرُ وَلَا يُقَدِّمُ.

 وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّكَ إِذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ تَأَخَّرْتَ، لَيْسَ هُنَالِكَ وُقُوفٌ فِي الْمُنْتَصَفِ، يَتَقَدَّمُ أَوْ يَتَأَخَّرُ، فَهَذِهِ الأُمَّةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الآنَ، تَحْتَاجُ إِلَى الْجِدِّ... إِلَى الْعَمَلِ... إِلَى الإِنْتَاجِ... إِلَى الإِخْلَاصِ... إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ.

وَالسَّوَاعِدُ الْفَتِيَّةُ تَعْمَلُ بِجِدٍّ وَإِخْلَاصٍ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْكَلَامِ فِي الِاسْتُودْيُوهَاتِ المُكَيَّفَةِ عَلَى الْمَقَاعِدِ الْوَثِيرَةِ، وَالمَآكِلِ وَالمَطَاعِمِ اللَّذِيذَةِ فِي مَدِينَةِ الإِنْتَاجِ الإِعْلَامِيِّ وَغَيْرِهَا، مَاذَا يَصْنَعُونَ؟!

يُؤَمَّنُونَ!! يُؤَمِّنُهُمُ الْجُنُودُ مِنَ الْجَيْشِ وَالشُّرْطَةِ فِي الْحَرِّ الْقَائِظِ الَّذِي لَوْ وَضَعْتَ فِيهِ قِطْعَةً مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الرِّمَالِ لَنَضَجَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَفِي اللَّيلِ الْقَارِصِ بِبَرْدِهِ، يُؤَمِّنُونَهُمْ، وَأَيْضًا يُؤَمِّنُونَ التَّيَّارَ الكَهْرُبَائِيَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيهِمْ لِتَصِلَ كَلِمَتُهُمْ هُمْ، وَهُمْ مَاذَا يَصْنَعُونَ؟!

يَنْخُرُونَ فِي أُسُسِ وَأُصُولِ هَذَا الْبَلَدِ!!

لِمَاذَا تَصْنَعُونَ ذَلِكَ؟!

أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْخِيَانَةِ؟!

لِمَاذَا لَا تَسِيرُونَ جَمِيعًا مَعَ قِيَادَةِ هَذَا الْبَلَدِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ؟!

لِمَاذَا تَكُونُونَ ضِدَّهَا، وَتَكُونُونَ عَيْلَةً؟!

لِمَاذَا تُحَارِبُونَ مَنْ يُرِيدُ بِإِخْلَاصٍ الْخَيْرَ لِهَذَا الْبَلَدِ؟!

أَلَا فَاصْمُتُوا، إِنْ لَمْ تَقُولُوا خَيْرًا فَاُصْمُتُوا؛ «فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».

مِنْ مَفَاخِرِ الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّصْرِ الْمُؤَزَّرِ: أَنَّ الأُمَّةَ قَدِ اِجْتَمَعَتْ كُلُّهَا فِي صَفٍّ وَاحِدٍ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

قَاتَلَتْ سُورِيَّا فِي الْمَيْدَانِ السُّورِيِّ بِشَجَاعَةٍ، فَشَغَلَتْ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ جَيْشِ الْعَدُوِّ.

وَقَدَّمَ الْعَرَبُ الْأَمْوَالَ لِلْمَعْرَكَةِ بِسَخَاءٍ وَبَعضَ الجُنُودَ، وَقَدَّمُوا الدَّعْمَ مَعْنَوِيًّا وَنَفْسِيًّا وَمَادِيًّا وَأَدَبِيًّا، كَمَا فَعَلَ الْعَظِيمُ فَيْصَلُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَقَدْ أَحْسَنَ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيهِ- اِسْتِخْدَامَ سِلَاحِ البُتْرُولِ فِي حَرْبِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ.

 وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَصْدُرُ عَنْ رُوحٍ إِسْلَامِيَّةٍ نَقِيَّةٍ، وَقَلْبٍ عَرَبِيٍّ أَبِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

وَكَانَ هذا التَّعَاوُنُ بَيْنَ الْعَرَبِ كَافَّةً مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ.

 فَلَيْتَ الْمُسْلِمِينَ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّآلُفِ، وَيَنْبِذُونَ الْأَحْقَادَ وَالْفُرْقَةَ، وَلَوْ فَعَلَوا ذَلِكَ؛ لَكَانَ لَهُمُ النَّصْرُ الدَّائِمُ بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أَلَا فَلْيَنْتَهِ أَقْوَامٌ عَنْ خِيَانَتِهِمْ لِدِينِهِمْ، وَعَنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَرْضِهِمْ وَوَطَنِهِمْ!!

أَلَا فَلْيَنْتَهِ أَقْوَامٌ عَنْ هَذِهِ الْآثَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ؛ فَلْيَكُفُّوا عَنِ الشَّرِّ.

إِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ؛ فَلْيَكُفُّوا عَنْهُمْ إِسَاءَتَهُمْ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ لَا تَسْتَحِقُّ مِنْ أَبْنَائِهَا أَنْ يَتَصَارَعُوا، وَأَنْ يَتَخَالَفُوا، وَأَنْ يَتَنَابَذُوا، وَأَنْ يَتَطَاحَنُوا، وَأَنْ يَسْعَوْا لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى بَيْنَ جَنَبَاتِهَا!!

مِصْرُ دُرَّةُ التَّاجِ عَلَى جَبِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، حَمَلَتْ كِتَابَ اللهِ، وَأَدَّتْهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ، وَكَانَ لَهَا مُشَارَكَةٌ جَيِّدَةٌ فِي حِفْظِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي نَشْرِهَا، وَكَانَتْ حَاضِرَةَ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لَمَّا انَحْسَرَتْ شَمْسُ الْخِلَافَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَدِمَشْقَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْرَقَتْ فِي الْقَاهِرَةِ.

«الْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ»

إِنَّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافِ وَالْغِنَى فِي الْعِلْمِ؛ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ: أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ الْمَصَالِحَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ، يُقَدِّمُونَ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْفَرْدِيَّةِ، لَا يَعْتَبِرُونَهَا وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ.

وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا نَالَ مِنَ الْأُمَّةِ عَدُوٌّ مِثْلَ مَا نَالَتِ الْأُمَّةُ مِنْ نَفْسِهَا بِاخْتِلَافِهَا وَتَدَابُرِ قُلُوبِ أَبْنَائِهَا، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَرَسُولُ اللهِ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».

النَّبِيُّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُصَلِّي فِيهَا بِالْمُسْلِمِينَ، يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا، وَهَادِيًا وَمُعَلِّمًا يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ: «أَلَا تَصُفُّونُ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ».

 يَأْمُرُهُمْ بِالْاِسْتِوَاءِ؛ حَتَّى يَكُونَ الصَّفُّ كَالْقِدْحِ اسْتِوَاءً وَاعْتِدَالًا، أَبْدَانٌ مُتَرَاصَّةٌ، وَقُلُوبٌ مُتَحَابَّةٌ مُتَلَاحِمَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ مُتَمَازِجَةٌ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيَهْبِطُ وَيَصْعَدُ وَرَاءَ إِمَامِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَلَا اخْتِلَافٍ: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».

فَيُحَذِّرُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- مِنَ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَيُنَبِّهُ إِلَى أَمْرٍ جَلِيلٍ خَطِيرٍ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْأُمَّةِ؛ وَهُوَأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَالَ فِي الِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ - وَهُوَ أَمْرٌ مَادِيٌّ مَحْضٌ- يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ بَاطِنِيٍّ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».

وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانُوا يُرَاعُونَ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ دَاعِيَةَ خِلَافٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.

عِبَادَ اللهِ! مَعْلُومٌ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ مَلِيكٍ غَشُومٍ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ، هَذَا كَلَامُ سَلَفِكُمْ، وَالْأَمْرُ لَا يَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي مِنْ هَاهُنَا -مِنْ عِنْدِ اللهِ-.

 وَاِعْلَمُوا أَنَّ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعِقَابِ إِنَّمَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، فَغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِكُمْ حَتَّى يُغَيَّرَ لَكُمْ.

 وَلَوْ وَقَفْتُمْ أَمَامَ مِرْآتِكُمْ شَعْبًا مَصْفُوفًا، فَنَظَرْتُمْ لَرَأَيْتُمْ صُوَرَكُمْ صُوَرَ حُكَّامِكُمْ وَأُمَرَائِكُمْ، فَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَيْءٍ فَأَصْلِحُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُصْلِحِ اللهُ لَكُمْ.

هَذَا سَبِيلُ السَّلَفِ، وَهُوَ مَدْعَاةُ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَصِلُ إِلَى حَقِيقَتِهِ إِلَّا بِتَعَلُّمِ حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ مُبِينٌ، كَيْفَ؟

كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ، بِفَهْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

اتَّقُوا اللهَ فِي وَطَنِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-، وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَوْطَانِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا؛ فَإِنَّهَا مُسْتَهْدَفَةٌ مُرَادَةٌ مَطْلُوبَةٌ.

تَآزَرُوا وَتَعَاوَنُوا، وَنَمُّوا الْمَوْجُودَ حَتَّى تُحَصِّلُوا الْمَفْقُودَ، وَلَا تَتَّبِعُوا السَّرَابَ؛ فَإِنَّهُ هَبَاءٌ يُفْضِي إِلَى يَبَابٍ.

وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضْلُ الْجِهَادِ وَمَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

*فَضْلُ الْجِهَادِ الشَّرْعِيِّ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى:

فَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا كَذَلِكَ طَائِعِينَ.

ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ.

تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].

وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].

فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ, بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.

إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ, وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ, وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.

وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ, وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ, وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.

إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ, وَمَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.

فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ, وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

*مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.

إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].

وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

*هَلْ يُحْكَمُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِالشَّهَادَةِ؟

هَلْ يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ؟

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَطَبَ، فَقَالَ: ((تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ -يَعْنِي فِي غَزَوَاتِكُمْ- تَقُولُونَ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَمَاتَ فُلَانٌ شَهِيدًا، وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ قَدْ أَوْقَرَ رَاحِلَتَهُ -يَعْنِي حَمَّلَهَا وِقْرًا، وَالْوِقْرُ هُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ- أَلَا لَا تَقُولُوا ذَلِكُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ)). وَهَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُور فِي ((سُنَنِهِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَابٌ: لَا يُقَالُ فُلَانٌ شَهِيدٌ)).

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ))؛ أَيْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: ((وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَلَا نُنْزِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ -أَيْ نَتْرُكُ- سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ -عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ-: ((يُرِيدُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّا لَا نَقُولُ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ شَاءُ اللَّهُ إِدْخَالَهُ النَّارَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ بَاطِنَةٌ، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِ، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيئِينَ)).

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

«نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوَطَنِ الْمُسْلِمِ»

إِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا، كَرِيمٌ مَآلُهَا،  وَبِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ يُحَجُّ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَتُعَمَّرُ الْمَسَاجِدُ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَاتِ، وَيَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ.

بِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ تُرَدُّ الْمَظَالِمُ لِأَهْلِهَا، فَيُنْتَصَرُ لِلْمَظْلُومِ وَيُرْدَعُ الظَّالِمُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَيَرْتَفِعُ شَأْنُ التَّوْحِيدِ مِنْ فَوْقِ الْمَنَابِرِ، وَيَجْلِسُ الْعُلَمَاءُ لِلْإِفَادَةِ، وَيَرْحَلُ الطُّلَّابُ لِلِاسْتِفَادَةِ، وَتُحَرَّرُ الْمَسَائِلُ، وَتُعْرَفُ الدَّلَائِلُ، وَيُزَارُ الْمَرْضَى، وَيُحْتَرَمُ الْمَوْتَى، وَيُرْحَمُ الصَّغِيرُ وَيُدَلَّلُ، وَيُحْتَرَمُ الْكَبِيرُ وَيُبَجَّلُ، وَتُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَتُعْرَفُ الْأَحْكَامُ، وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُكَرَّمُ الْكَرِيمُ، وَيُعَاقَبُ اللَّئِيمُ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبِالْأَمْنِ اسْتِقَامَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْأَمْنِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.

«اِنْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ،

وَتَحَدِّيَاتُ الْمُسْتَقْبَلِ»

إِنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ يُحَارِبُ الْعَالَمَ كُلَّهُ فِي سَيْنَاءَ, تَجَمَّعَ عَلَيْهِ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، وَلَنْ يَضُرُّوهُ شَيئًا -إِنْ شَاءَ اللهُ-, وَلَكِنْ تَجَمَّعَ عَلَيهِ مَنْ بِأَقْطَارِهَا فِي سَينَاءَ.

العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ الجَيْشَ المِصْرِيَّ فِي سَينَاءَ!!

وَالمُقَاتِلُ الْمِصْرِيُّ مِنْ فَجْرِ التَّارِيخِ, عَقِيدَتُهُ: «النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ», لَا يَعْرِفُ سِوَى هَذَا.

يُقَتَّلُونَ، فِي سَبِيلِ اللهِ يَمْضُونَ, تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ, تُكْلَمُ قُلُوبُ أُمَّهَاتِهِمْ، يَتَيَتَّمُ أَطْفَالُهُمْ, تَتَرَمَّلُ نِسَاؤُهُمْ, يَبْكِيهِمْ كُلُّ جَارٍ وَحَبِيبٍ، وَهُمْ يَتَسَاقَطُونَ لَا يُبَالُونَ, عَقِيدَتُهُم: النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ.

 لِمَاذَا يُقْتَلُونَ؟!

هُمْ يُقَاتِلُونَ مِنْ أَجْلِ القَضِيَّةِ, مِنْ أَجْلِ وَأْدِ المُؤَامَرَةِ.

الجَيْشُ المِصْرِيُّ يُعَانِي مُعَانَاةً مُرَّةً فِي سَيْنَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ هُنَالِكَ فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ, لَيْسَ كَمَا يَبْدُو لِلنَّظْرَةِ الأُولَى, وَالنَّظْرَةُ الْأُولَى حَمْقَاءُ.

 الْوَضْعُ مُعَقَّدٌ غَايَةَ التَّعْقِيدِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبَوَاسِلُ مِنَ الرِّجَالِ يُوَاجِهُونَ بِصُدُورٍ مَكْشُوفَةٍ, وَسَوَاعِدَ مَفْتُولَةٍ, وَعَقَائِدَ قَائِمَةٍ, لَا يُبَالُونَ, يَمُوتُونَ, يَتَسَاقَطُونَ....

لَا بَأْسَ... إِنَّ المَجْدَ لَا يُصْنَعُ إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْغَالِيَةِ, بِالدِّمَاءِ النَّازِفَةِ, بِالأَرْوَاحِ الزَّاهِقَةِ, إِنَّ الْقِيَمَ وَالمُثُلَ لَا يُؤَسَّسُ لَهَا وَلَا تُعْلَى إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْعَظِيمَةِ, إِنَّ المَجْدَ العَظِيمَ لَا يُصْنَعُ إِلَّا بِتَضْحِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.

يَا أَهْلَ مِصْرَ :

يَا أَهْلَ مِصْرَ, قَضَى الْعَزِيزُ بِلُطْفِهِ *** وَأَرَادَ أَمْرًا بِالْبِلَادِ فَكَانَا

إِنَّ الَّذِي أَمْرُ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا *** بِيَدَيْهِ أَحْدَثَ فِي«الْكِنَانَةِ»شَانَا

أَبْقَى عَلَيْهَا أَمْنَهَا فِي بُرْهَةٍ  *** تَرْمِي الْعُرُوشَ وَتَنْثُرُ التِّيجَانَا

وَكَسَا الْبِلَادَ سَكِينَةً مِنْ أَهْلِهَا *** وَوَقَى مِنَ الْفِتَنِ الْعِبَادَ وَصَانَا

أَوَ مَا تَرَوْنَ الْأَرْضَ خُرِّبَ نِصْفُهَا *** وَدِيَارُ مْصْرٍ لَا تَزَالُ جِنَانَا؟!

يَرْعَى كَرَامَتَهَا, وَيَمْنَعُ حَوْضَهَا *** جَيْشٌ يَعَافُ البَغْيَ وَالعُدْوَانَا!

كَجُنُودِ عَمْروٍ أَيْنَمَا رَكَزُوا القَنَا  *** عَفُّوا يَدًا , وَمُهَنَّدًا وَسِنَانَا

إِنَّ الشُّجَاعَ هُوَ الْجَبَانُ عَنِ الْأَذَى *** وَأَرَى الْجَرِيءَ عَلَى الشُّرُورِ جَبَانَا

أَلَا يَدْرِي الحَمْقَى الَّذِينَ يَسُوقُونَ الخَرَابَ إِلَى رُبُوعِ مِصْرَ مَنْ يَخْدُمُونَ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ؟!!

إِنَّ مِنَ الْحِكَمِ اللَّائِحَةِ أَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُسْتَقْبَلَ الْمَنْطِقَةِ مُعَلَّقًا بِالْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِنْ تَهَاوَتْ، تَهَاوَتِ الْمَنْطِقَةُ، وَإِنْ صَمَدَتْ، صَمَدَتِ الْمَنْطِقَةُ.

«عَقِيدَةُ الْخَوَنَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ إِسْقَاطَ الْجَيْشِ»

لِمَاذَا يُرِيدُ الخَوَنَةُ تَفْكِيكَ الجَيْشِ المِصْرِيِّ ؟!

إِنَّ عَقِيدَةَ التَّكْفِيرِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الجَيْشَ وَالشُّرْطَةَ فِي سَيْنَاءَ أَنَّ المُسْلِمِينَ مُرْتَدُّونَ, وَهُمْ أَكْفَرُ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى!!

وَمِنْ عَقِيدَتِهِمْ: أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ الْيَهُودُ الجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، فَهَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيُّونَ مَعَ اليَهُودِ ضِدَّ الجَيْشِ المِصْرِيِّ؛ لِأَنَّ اليَهُودَ عِنْدَهُم -وَكَذِلَكَ النَّصَارَى- أَهْلُ كِتَابٍ, وَأَمَّا الجَيْشُ عِنْدَهُمْ فَكَافِرٌ مُرْتَدٌّ, وَالمُرْتَدُّ أَشَدُّ كُفْرًا مِنَ الكِتَابِيِّ!!

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ هَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيِّينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَنْ يَهْدِيَ شَبَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

لَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَنَا الجَيْشَ المِصْرِيَّ، فَحَفِظَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ فِيمَا يَبْقَى؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

*عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ، وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا :

أَرَى مِصْرَ يَلْهُو بِحَدِّ السِّلَاحِ   ***   وَيَلْعَبُ بِالنَّارِ وِلْدَانُهَا

وَرَاحَ بِغَيْرِ مَجَالِ الْعُقُولِ          ***    يُجِيلُ السِّيَاسَةَ غِلْمَانُهَا

وَمَا الْقَتْلُ تَحْيَا عَلَيْهِ الْبِلَادُ     *** وَلَا هِمَّةُ الْقَوْلِ عُمْرَانُهَا

وَلَا الْحُكْمُ أَنْ تَنْقَضِي دَوْلَةٌ    *** وَتُقْبِلَ أُخْرَى وَأَعْوَانُهَا

وَلَكِنْ عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ *** وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا

«هَذِهِ هِيَ مِصْرُ الْغَالِيَةُ صَخْرَةُ الْإِسْلَامِ»

هَذِهِ مِصْرُ، وَهِيَ أَرْضٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَنْ يُدَافَعَ عَنْهَا عَصَبِيَّةً، وَإِنَّمَا يُدَافَعُ عَنْهَا بِالْحَمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِأَجْلِ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ولِيَظَلَّ الْأَذَانُ فِيهَا مَرْفُوعًا، وَلِتَظَلَّ الْجُمَعُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْأَعْيَادُ، وَلِتَظَلَّ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ فِيهَا قَائِمَةً رَغْمَ أَنْفِ الْخَوَارِجِ وَالتَّكْفِيرِيِّينَ -عَلَيْهِم مِن اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا يَسْتَحِقُّونَ-.

إِنَّهَا مِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا أَبْنَاؤُهَا، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخَيْرَ لَهَا؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بَيْعَهَا بَيْعًا رَخِيصًا فِي مَزَادَاتِ أَوْلَادِ الْخَنَا!!

إِنَّهَا مِصْرُ الَّتِي يُفَرِّطُ فِيهَا أَبْنَاؤُهَا مِمَّنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ!!

أَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ مَا يُبَيَّتُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمَخَاطِرِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ؛ مِنْ أَجْلِ طَمْسِ الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي بَلَدٍ هُوَ دُرَّةُ التَّاجِ عَلَى جَبِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؟!!

يُرِيدُونَ الْفَوْضَى فِيهَا، يُرِيدُونَ هَتْكَ الْأَعْرَاضِ، وَسَبْيَ النِّسَاءِ، واسْتِلَالَ الثَّرْوَاتِ، وَإِزْهَاقَ الْأَرْوَاحِ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

«رِسَالَةٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ»

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ:

الْكُلُّ مُسْتَهْدَفٌ, مُؤَسَّسَاتُكُمْ, أَمْوَالُكُمْ, أَبْنَاؤُكُمْ, أَعْرَاضُكُمْ, أَمْوَالُكُمْ, حَيَاتُكُمْ, مُسْتَقْبَلُكُمْ, وَمُسْتَقْبَلُ أَبْنَائِكُمْ, وَمُسْتَقْبَلُ حَفَدَتِكُمْ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعَةِ, فَكَيْفَ تَنَامُونَ؟!

كَيْفَ تَضْحَكُونَ؟!

كَيْفَ تَصْخَبُونَ؟!

كَيْفَ تَتَغَافَلُونَ؟!

أَلَا تُفِيقُون!!

اللهُ الْمُسْتَعَانُ, وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

اتَّقُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي دِينِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي بِلَادِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ المُسْلِمَةِ الَّتِي يُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَتُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ، وَيُصْدَعُ فِيهَا بِالسُّنَنِ.

لَا تُضَيِّعُوا المَوْجُودَ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ عَنِ المَفْقُودِ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مُغَامَرَاتٌ لَيْسَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ هَذَا الْبَلَدَ، وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ يُنَجِّيَهُ وَجَيْشَهُ الْبَاسِلَ مِنْ خِيَانَةِ الْخَائِنِينَ، وَكَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَائْتِمَارِ الْمُؤْتَمِرِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

 

المصدر :  حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَخَاطِرُ الْإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  حدث في رمضان
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  أَحْوَالُ الْفَرَجِ وَالشِّدَّةِ
  قِيمَةُ الِاحْتِرَامِ
  الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء
  الْآدَابُ وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّهِ وَبِنَاءِ حَضَارَتِهِ
  رِقَابَةُ السِّرِّ وَرِعَايَةُ الضَّمِيرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان