مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى

مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى

((مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّقْوَى وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ))

فَقَدْ ضَمَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الْوَصَايَا، وَإِنَّهُ حَقِيقٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَرْعَى لِلْقُرْآنِ قَدْرَهُ وَلِلنَّبِيِّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ أَنْ يَضْرِبَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَيْدَانِ بِسَهْمٍ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ نَصِيبٌ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ وَصَّى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

فَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؛ فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَقْوَاهُ -يَعْنِي: مَا يَجْعَلُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِقَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُخْطِهِ وَعَذَابِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ- وِقَايَةً تَقِيهِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ عَذَابُ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَلْحَقَهُ سُخْطُ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالتَّقْوَى؛ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمَرْءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَضَبِ رَبِّهِ وِقَايَةً تَقِيهِ إِيَّاهُ -بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، وَأَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وِقَايَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَظَى النِّيرَانِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْعَاصِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}؛ فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

إِنَّ تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَنِ، وَأَلَّا يَكُونَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَسْتَحْيِيَ الْإِنْسَانُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ إِلَيْكَ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ؛ بَلْ عَالِمٌ عَلِيمٌ بِخَفَايَا مَا تُكِنُّهُ نَفْسُكَ وَبِطَوَايَاكَ، وَمَا هُوَ مُسْتَكِنٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي ضَمِيرِكَ.

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَحَقُّ مَنِ اسْتُحْيِيَ مِنْهُ، وَأَحَقُّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنْهُ الْعَبْدُ إِذَا كَانَ ذَا حَيَاءٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ صَادِقًا فِي حَيَائِهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَوْرَةِ الْإِنْسَانِ؛ مَا يُبْدِي مِنْهَا الْإِنْسَانُ وَمَا يُخْفِي، فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي بَعْضِ السُّؤَالِ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ)).

قَالَ: ((احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ)).

قَالَ: ((فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُرِيَهَا أَحَدًا فَلَا تُرِيَنَّهَا)).

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟)).

قَالَ: ((فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ)).

إِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؛ أَيَضَعُ عِنْدَئِذٍ ثِيَابَهُ مُتَجَرِّدًا لِأَنَّهُ قَدْ أَمِنَ مِنْ نَظَرِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ)).

((مَعْنَى التَّقْوَى وَحَقِيقَتُهَا))

عِبَادَ اللهِ! التَّقْوَى فِي مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا، وَفِي تَعْرِيفٍ مِنْ تَعْرِيفِهَا؛ فَهِيَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-: ((التَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ)).

 التَّقْوَى فِي كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ سَرِيعَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا تَفَلْسُفٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا مَزِيدِ كَلَامٍ، التَّقْوَى إِنَّمَا هِيَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، يَقُولُ: إِنَّ التَّقْوَى إِنَّمَا هِيَ  فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ.

 فَمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ؛ فَهُوَ مُتَّقٍ لِلَّهِ حَقًّا.

 وَفِي تَعْرِيفٍ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا سَأَلَهُ عَنِ التَّقْوَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا سِرْتَ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قَالَ: ((مَا صَنَعْتَ؟)).

قَالَ: ((شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ)).

 قَالَ: ((فَتِلْكَ التَّقْوَى)).

 إِذَنْ؛ التَّقْوَى أَنْ تَكُونَ سَائِرًا فِي طَرِيقِ الْحَيَاةِ مُشَمِّرًا مُجْتَهِدًا وَاعِيًا مُنْضَبِطًا، وَأَنْ تَكُونَ حَذِرًا وَأَنْتَ تَضَعُ الْقَدَمَ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ تَحْتَ الْقَدَمِ شَيْءٌ مِمَّا يُؤْذِيكَ.

قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- كَاشِفًا عَنْ رُوحِ التَّقْوَى: ((التَّقْوَى: أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، تَخَافُ عِقَابَ اللهِ)).

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُبَيِّنًا حَقِيقَةَ التَّقْوَى: ((بِأَنْ يَتَّقِيَ الْعَبْدُ رَبَّهُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا يَكُونُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ بَيَّنَ لِلْعِبَادِ الَّذِي يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].

لَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ أَنْ تَتَّقِيَهُ.

وَهَذَا الْمَلْحَظُ الدَّقِيقُ فِي التَّقْوَى يَحْتَاجُ إِلَى رُوحٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الذَّرَّةِ وَمِثْقَالِ الذَّرَّةِ، وَسَوْفَ نَرَى مِنْ أَعْمَالِنَا مَثَاقِيلَهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ فَلْنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا عَلَى تِلْكَ الْمَثَاقِيلِ -مَثَاقِيلِ الذَّرِّ- فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّنَا سَنُحَاسَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُتَّقِي أَشَدُّ مُحَاسَبَةً لِلنَّفْسِ مِنَ الشَّرِيكِ الشَّحِيحِ لِشَرِيكِهِ)).

وَتَلْحَظُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّقْوَى بِمِقْدَارِ مَا تَحْيَا فِي الْقَلْبِ تُحْيِي قُدْرَتَهُ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، فَلَيْسَ كَثِيرًا عَلَى نَفْسِكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ.

قَالَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَيْسَ تَقْوَى اللهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ)).

حَقِيقَةُ التَّقْوَى حِفْظُ الْجَوَارِحِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى-، وَلُزُومُهَا طَاعَتَهُ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْمَرْفُوعِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: ((الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى)).

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُلُ فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْقَلْبِ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُحَرَّمٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَيَتَضَمَّنُ -أَيْضًا- حِفْظَ الْبَطْنِ مِنْ إِدْخَالِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ.

فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ بِلَفْظٍ قَرِيبٍ».

 

((الْحَثُّ عَلَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ أَوْلَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عِنَايَةً كَبِيرَةً بِالتَّقْوَى، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرِ بِلُزُومِهَا، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18-19].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُوجِبُهُ الْإِيمَانُ وَيَقْتَضِيهِ مِنْ لُزُومِ تَقْوَاهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَنْ يُرَاعُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَشَرَائِعِهِ وَحُدُودِهِ، وَيَنْظُرُوا مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، وَمَاذَا حَصَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ أَوْ تَضُرُّهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا الْآخِرَةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَقِبْلَةَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْتَمُّوا لِلْمُقَامِ بِهَا؛ اجْتَهَدُوا فِي كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا، وَتَصْفِيَتِهَا مِنَ الْقَوَاطِعِ وَالْعَوَائِقِ الَّتِي تُوقِفُهُمْ عَنِ السَّيْرِ أَوْ تَعُوقُهُمْ أَوْ تَصْرِفُهُمْ، وَإِذَا عَلِمُوا -أَيْضًا- أَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ، وَلَا تَضِيعُ لَدَيْهِ وَلَا يُهْمِلُهَا؛ أَوْجَبَ لَهُمُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَهَا، فَإِنْ رَأَى زَلَلًا تَدَارَكَهُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ مُقَصِّرًا فِي أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ بَذَلَ جُهْدَهُ، وَاسْتَعَانَ بِرَبِّهِ فِي تَتْمِيمِهِ وَتَكْمِيلِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَيُقَايِسُ بَيْنَ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ وَبَيْنَ تَقْصِيرِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ الْحَيَاءَ لَا مَحَالَةَ.

وَالْحِرْمَانُ كُلَّ الْحِرْمَانِ أَنْ يَغْفُلَ الْعَبْدُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَيُشَابِهَ قَوْمًا نَسُوا اللَّهَ، وَغَفَلُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ وَشَهَوَاتِهَا؛ فَلَمْ يَنْجَحُوا، وَلَمْ يَحْصُلُوا عَلَى طَائِلٍ؛ بَلْ أَنْسَاهُمُ اللَّهُ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَغْفَلَهُمْ عَنْ مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا، فَصَارَ أَمْرُهُمْ فُرُطًا، فَرَجَعُوا بِخَسَارَةِ الدَّارَيْنِ، وَغُبِنُوا غَبْنًا لَا يُمْكِنُهُمْ تَدَارُكُهُ، وَلَا يُجْبَرُ كَسْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَاسِقُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَأَوْضَعُوا فِي مَعَاصِيهِ؛ فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ حَافَظَ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، وَنَظَرَ لِمَا قَدَّمَ لِغَدِهِ، فَاسْتَحَقَّ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالْعَيْشَ السَّلِيمَ -مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ-؛ وَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَنَسِيَ حُقُوقَهُ، فَشَقِيَ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ؟! فَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ، وَالْآخِرُونَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35].

((هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ، وَالْحَذَرِ مِنْ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْتَهِدَ الْعَبْدُ، وَيَبْذُلَ غَايَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَقْدُورِ فِي اجْتِنَابِ مَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَيَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَى تَرْكِهَا؛ لِيَنْجُوَ بِذَلِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ.

{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيِ: الْقُرْبَ مِنْهُ، وَالْحُظْوَةَ لَدَيْهِ، وَالْحُبَّ لَهُ، وَذَلِكَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ الْقَلْبِيَّةِ؛ كَالْحُبِّ لَهُ وَفِيهِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالْبَدَنِيَّةِ؛ كَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ ذَلِكَ؛ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ بِالْمَالِ، وَالْعِلْمِ، وَالْجَاهِ، وَالْبَدَنِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللَّهِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ حَتَّى يُحِبَّهُ اللَّهُ، فَإِذَا أَحَبَّهُ كَانَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ لَهُ الدُّعَاءَ.

ثُمَّ خَصَّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَيْهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قِتَالِ الْكَافِرِينَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالرَّأْيِ وَاللِّسَانِ، وَالسَّعْيِ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَلِأَنَّ مَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْقِيَامِ بِغَيْرِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى.

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: إِذَا اتَّقَيْتُمُ اللَّهَ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَابْتَغَيْتُمُ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَجَاهَدْتُمْ فِي سَبِيلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ.

وَالْفَلَاحُ هُوَ الْفَوْزُ وَالظَّفَرُ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ مَرْغُوبٍ، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ، فَحَقِيقَتُهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].

(({وَاتَّقُوا اللَّهَ}: بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: فَمُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَجَدَ جَزَاءَ التَّقْوَى عِنْدَهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ عَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، فَالْعِلْمُ بِالْجَزَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاعِي لِتَقْوَى اللَّهِ؛ فَلِهَذَا حَثَّ -تَعَالَى- عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231].

(({وَاتَّقُوا اللَّهَ} فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: فَلِهَذَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِغَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، الَّتِي هِيَ جَارِيَةٌ مَعَ الْمَصَالِحِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ)).

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].

(({وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}: بِتَرْكِ مَا يُوجِبُ دُخُولَهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا -وَخُصُوصًا الْمَعَاصِيَ الْكِبَارَ- تَجُرُّ إِلَى الْكُفْرِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ خِصَالِ الْكُفْرِ الَّذِي أَعَدَّ اللَّهُ النَّارَ لِأَهْلِهِ، فَتَرْكُ الْمَعَاصِي يُنْجِي مِنَ النَّارِ، وَيَقِي مِنْ سَخَطِ الْجَبَّارِ، وَأَفْعَالُ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ تُوجِبُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَدُخُولَ الْجِنَانِ، وَحُصُولَ الرَّحْمَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}: بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ امْتِثَالًا، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ فَطَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} الْآيَاتِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1].

((يُخَاطِبُ اللَّهُ النَّاسَ كَافَّةً بِأَنْ يَتَّقُوا رَبَّهُمُ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ فَحَقِيقٌ بِهِمْ أَنْ يَتَّقُوهُ بِتَرْكِ الشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَيَمْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ مَهْمَا اسْتَطَاعُوا.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ تَرْكِهَا، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}: لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ كُنْهُهُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهَا إِذَا وَقَعَتِ السَّاعَةُ رَجَفَتِ الْأَرْضُ وَارْتَجَّتْ، وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالَهَا، وَتَصَدَّعَتِ الْجِبَالُ وَانْدَكَّتْ، وَكَانَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا، ثُمَّ كَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، ثُمَّ انْقَسَمَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَزْوَاجٍ، فَهُنَاكَ تَنْفَطِرُ السَّمَاءُ، وَتُكَوَّرُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَتَنْتَثِرُ النُّجُومُ، وَيَكُونُ مِنَ الْقَلَاقِلِ وَالْبَلَابِلِ مَا تَنْصَدِعُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَتَجِلُّ مِنْهُ الْأَفْئِدَةُ، وَتَشِيبُ مِنْهُ الْوِلْدَانُ، وَتَذُوبُ لَهُ الصُّمُّ الصِّلَابُ)).

وَكَمَا أَوْلَى الْقُرْآنُ اهْتِمَامًا عَظِيمًا بِالتَّقْوَى؛ كَذَلِكَ دَلَّتْ كَثِيرٌ مِنْ نُصُوصِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى عِظَمِ مَنْزِلَةِ التَّقْوَى، وَأَمَرَتْ بِلُزُومِهَا؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: ((اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ -أَوْ: يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ-؟)).

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، وَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ؛ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ رِفَاعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ)).

فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ، وَالْغِنَى)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

((خَيْرُ الزَّادِ تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))

لَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى خَيْرِ زَادٍ نَتَزَوَّدُ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَالَ تَعَالَى:  {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

((الزَّادُ الْحَقِيقِيُّ الْمُسْتَمِرُّ نَفْعُهُ لِصَاحِبِهِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ هُوَ زَادُ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ زَادٌ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، وَهُوَ الْمُوصِلُ لِأَكْمَلِ لَذَّةٍ وَأَجَلِّ نَعِيمٍ دَائِمٍ أَبَدًا، وَمَنْ تَرَكَ هَذَا الزَّادَ فَهُوَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ الَّذِي هُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ شَرٍّ، وَمَمْنُوعٌ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى دَارِ الْمُتَّقِينَ، فَهَذَا مَدْحٌ لِلتَّقْوَى.

ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أُولِي الْأَلْبَابِ فَقَالَ: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} أَيْ: يَا أَهْلَ الْعُقُولِ الرَّزِينَةِ! اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي تَقْوَاهُ أَعْظَمُ مَا تَأْمُرُ بِهِ الْعُقُولُ، وَتَرْكُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَهْلِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

(({وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}: مِنَ اللِّبَاسِ الْحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ لِبَاسَ التَّقْوَى يَسْتَمِرُّ مَعَ الْعَبْدِ، وَلَا يَبْلَى وَلَا يَبِيدُ، وَهُوَ جَمَالُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.

وَأَمَّا اللِّبَاسُ الظَّاهِرِيُّ فَغَايَتُهُ أَنْ يَسْتُرَ الْعَوْرَةَ الظَّاهِرَةَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، أَوْ يَكُونَ جَمَالًا لِلْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْهُ نَفْعٌ.

وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ هَذَا اللِّبَاسِ تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي لَا يَضُرُّهُ كَشْفُهَا مَعَ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ لِبَاسِ التَّقْوَى فَإِنَّهَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ الْبَاطِنَةُ، وَيَنَالُ الْخِزْيَ وَالْفَضِيحَةَ)).

((جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُتَّقِينَ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5].

((حَقِيقَةُ التَّقْوَى: اتِّخَاذُ مَا يَقِي سَخَطَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَاهْتَدَوْا بِهِ، وَانْتَفَعُوا غَايَةَ الِانْتِفَاعِ.

وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ لِتَضَمُّنِ التَّقْوَى لِذَلِكَ، فَقَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ: هُوَ التَّصْدِيقُ التَّامُّ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، الْمُتَضَمِّنُ لِانْقِيَادِ الْجَوَارِحِ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْحِسِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ، إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَمْ نَرَهُ وَلَمْ نُشَاهِدْهُ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ لِخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ، فَهَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ مُجَرَّدٌ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَهُ؛ سَوَاءٌ شَاهَدَهُ أَوْ لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَسَوَاءٌ فَهِمَهُ وَعَقَلَهُ أَوْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَفَهْمُهُ، بِخِلَافِ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمُ الْقَاصِرَةَ الْمُقَصِّرَةَ لَمْ تَهْتَدِ إِلَيْهَا، فَكَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، فَفَسَدَتْ عُقُولُهُمْ، وَمَرَجَتْ أَحْلَامُهُمْ، وَزُكَّتْ عُقُولُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ الْمُهْتَدِينَ بِهُدَى اللَّهِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَحَقَائِقِ أَوْصَافِ اللَّهِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُؤْمِنُونَ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَوُجُودِهَا، وَيَتَيَقَّنُونَهَا وَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوا كَيْفِيَّتَهَا.

ثُمَّ قَالَ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} لَمْ يَقُلْ: يَفْعَلُونَ الصَّلَاةَ، أَوْ يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ الْإِتْيَانِ بِصُورَتِهَا الظَّاهِرَةِ، فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إِقَامَتُهَا ظَاهِرًا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَإِقَامَتُهَا بَاطِنًا بِإِقَامَةِ رُوحِهَا، وَهُوَ حُضُورُ الْقَلْبِ فِيهَا، وَتَدَبُّرُ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ مِنْهَا، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، فَلَا ثَوَابَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ فَرَائِضُهَا وَنَوَافِلُهَا.

ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: يَدْخُلُ فِيهِ النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ؛ كَالزَّكَاةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْمَمَالِيكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالنَّفَقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُنْفِقَ عَلَيْهِمْ؛ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ، وَتَنَوُّعِ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَأَتَى بِ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ؛ لِيُنَبِّهَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمْ إِلَّا جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ ضَارٍّ لَهُمْ وَلَا مُثْقِلٍ، بَلْ يَنْتَفِعُونَ هُمْ بِإِنْفَاقِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ إِخْوَانُهُمْ.

وَفِي قَوْلِهِ: {رَزَقْنَاهُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ لَيْسَتْ حَاصِلَةً بِقُوَّتِكُمْ وَملْكِكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ رِزْقُ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَكُمْ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَكَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَفَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ فَاشْكُرُوهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ ، وَوَاسُوا إِخْوَانَكُمُ الْمُعْدَمِينَ.

وَكَثِيرًا مَا يَجْمَعُ -تَعَالَى- بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، وَالزَّكَاةَ وَالنَّفَقَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِحْسَانِ عَلَى عَبِيدِهِ، فَعُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ: إِخْلَاصُهُ لِلْمَعْبُودِ، وَسَعْيُهُ فِي نَفْعِ الْخَلْقِ، كَمَا أَنَّ عُنْوَانَ شَقَاوَةِ الْعَبْدِ: عَدَمُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ، فَلَا إِخْلَاصَ وَلَا إِحْسَانَ.

ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}: وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فَالْمُتَّقُونَ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ بَعْضِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ، إِمَّا بِجَحْدِهِ، أَوْ تَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ بِمَا حَاصِلُهُ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِمَعْنَاهَا؛ وَإِنْ صَدَّقُوا بِلَفْظِهَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا.

وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}: يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، خُصُوصًا التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ، يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ، فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وَالْآخِرَةُ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ بَاعِثٍ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْيَقِينُ: هُوَ الْعِلْمُ التَّامُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى شَكٍّ، الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ.

{أُولَئِكَ} أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أَيْ: عَلَى هُدًى عَظِيمٍ؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ، وَأَيُّ هِدَايَةٍ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهَلِ الْهِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ إِلَّا هِدَايَتُهُمْ، وَمَا سِوَاهَا مِمَّا خَالَفَهَا فَهُوَ ضَلَالَةٌ.

وَأَتَى بِـ (عَلَى) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَفِي الضَّلَالَةِ يَأْتِي بِـ (فِي) كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهُدَى مُسْتَعْلٍ بِالْهُدَى مُرْتَفِعٌ بِهِ، وَصَاحِبَ الضَّلَالِ مُنْغَمِسٌ فِيهِ مُحْتَقَرٌ.

ثُمَّ قَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: وَالْفَلَاحُ هُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَرْهُوبِ، حَصَرَ الْفَلَاحَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفَلَاحِ إِلَّا بِسُلُوكِ سَبِيلِهِمْ، وَمَا عَدَا تِلْكَ السَّبِيلِ فَهِيَ سُبُلُ الشَّقَاءِ وَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ الَّتِي تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلَى الْهَلَاكِ)).

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

(({لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أَيْ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْبِرَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ كَثْرَةُ الْبَحْثِ فِيهِ وَالْجِدَالِ مِنَ الْعَنَاءِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ إِلَّا الشِّقَاقُ وَالْخِلَافُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ: بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: وَهُوَ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وَالْمَلائِكَةِ} الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُمْ رَسُولُهُ ﷺ، {وَالْكِتَابِ} أَيْ: جِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ، فَيُؤْمِنُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَالنَّبِيِّينَ عُمُومًا؛ وخُصُوصًا خَاتَمَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.

{وَآتَى الْمَالَ}: وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ؛ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ {عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: حُبِّ الْمَالِ، بَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، فَلَا يَكَادُ يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ، فَمَنْ أَخْرَجَهُ مَعَ حُبِّهِ لَهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ كَانَ هَذَا بُرْهَانًا لِإِيمَانِهِ، وَمِنْ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، يَأْمُلُ الْغِنَى، وَيَخْشَى الْفَقْرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ عَنْ قِلَّةٍ كَانَتْ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُحِبُّ إِمْسَاكَهُ؛ لِمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ، وَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّفِيسِ مِنَ الْمَالِ وَمَا يُحِبُّهُ مِنْ مَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}.

ثُمَّ ذَكَرَ المُنْفَقَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ تَتَوَجَّعُ لِمُصَابِهِمْ، وَتَفْرَحُ بِسُرُورِهِمْ، الَّذِينَ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاقَلُونَ؛ فَمِنْ أَحْسَنِ الْبِرِّ وَأَوْفَقِهِ: تَعَاهُدُ الْأَقَارِبِ بِالْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ وَالْقَوْلِيِّ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ.

وَمِنَ الْيَتَامَى الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، وَهَذَا مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ -تَعَالَى- أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، فَاللَّهُ قَدْ أَوْصَى الْعِبَادَ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمُ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ فُقِدَ آبَاؤُهُمْ؛ لِيَصِيرُوا كَمَنْ لَمْ يَفْقِدْ وَالِدَيْهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَمَنْ رَحِمَ يَتِيمَ غَيْرِهِ رُحِمَ يَتِيمُهُ.

{وَالْمَسَاكِينَ}: وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ، وَأَذَلَّهُمُ الْفَقْرُ، فَلَهُمْ حَقٌّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ بِمَا يَدْفَعُ مَسْكَنَتَهُمْ، أَوْ يُخَفِّفُهَا، بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَبِمَا يَتَيَسَّرُ، {وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، فَحَثَّ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى إِعْطَائِهِ مِنَ الْمَالِ مَا يُعِينُهُ عَلَى سَفَرِهِ؛ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْحَاجَةِ وَكَثْرَةِ الْمَصَارِفِ.

فَعَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَطَنِهِ وَرَاحَتِهِ، وَخَوَّلَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَنْ يَرْحَمَ أَخَاهُ الْغَرِيبَ الَّذِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى حَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ؛ وَلَوْ بِتَزْوِيدِهِ، أَوْ إِعْطَائِهِ آلَةً لِسَفَرِهِ، أَوْ دَفْعِ مَا يَنُوبُهُ مِنَ الْمَظَالِمِ وَغَيْرِهَا.

{وَالسَّائِلِينَ} أَيِ: الَّذِينَ تَعْرِضُ لَهُمْ حَاجَةٌ مِنَ الْحَوَائِجِ تُوجِبُ السُّؤَالَ؛ كَمَنِ ابْتُلِيَ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ، أَوْ ضَرِيبَةٍ عَلَيْهِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، أَوْ يَسْأَلُ النَّاسَ لِتَعْمِيرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ كَالْمَسَاجِدِ، وَالْمَدَارِسِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَهُ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.

{وَفِي الرِّقَابِ}: فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِتْقُ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَبَذْلُ مَالٍ لِلْمُكَاتَبِ لِيُوَفِّيَ سَيِّدَهُ، وَفِدَاءُ الْأَسْرَى عِنْدَ الْكُفَّارِ أَوْ عِنْدَ الظَّلَمَةِ.

{وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}: اللَّهُ -تَعَالَى- يَقْرِنُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ لِكَوْنِهِمَا أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ وَأَكْمَلَ الْقُرُبَاتِ، عِبَادَاتٍ قَلْبِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ، وَبِهِمَا يُوزَنُ الْإِيمَانُ، وَيُعْرَفُ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيقَانِ.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} وَالْعَهْدُ: هُوَ الِالْتِزَامُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ أَوْ إِلْزَامِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ كُلُّهَا؛ لِكَوْنِ اللَّهِ أَلْزَمَ بِهَا عِبَادَهُ وَالْتَزَمُوهَا، وَدَخَلُوا تَحْتَ عُهْدَتِهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَالْحُقُوقُ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْعَبْدُ؛ كَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أَيِ: الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ لِكَوْنِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْآلَامِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ تَنَعَّمَ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَأَلَّمَ، وَإِنْ جَاعَ أَوْ جَاعَتْ عِيَالُهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا غَيْرَ مُوَافِقٍ لِهَوَاهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ عُرِّيَ أَوْ كَادَ تَأَلَّمَ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا يَتَوَهَّمُهُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَسْتَعِدُّ لَهُ تَأَلَّمَ، وَإِنْ أَصَابَهُ الْبَرْدُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ تَأَلَّمَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ وَنَحْوِهَا مَصَائِبُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَالِاحْتِسَابِ، وَرَجَاءِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهَا.

{وَالضَّرَّاءِ} أَيِ: الْمَرَضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ؛ مِنْ حُمَّى، وَقُرُوحٍ، وَرِيَاحٍ، وَوَجَعِ عُضْوٍ؛ حَتَّى الضِّرْسِ، وَالْإِصْبَعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَضْعُفُ، وَالْبَدَنَ يَأْلَمُ، وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ؛ خُصُوصًا مَعَ تَطَاوُلِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ احْتِسَابًا لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-.

{وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ: وَقْتَ الْقِتَالِ لِلْأَعْدَاءِ الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجِلَادَ يَشُقُّ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَيَجْزَعُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْقَتْلِ، أَوِ الْجِرَاحِ، أَوِ الْأَسْرِ، فَاحْتِيجَ إِلَى الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ احْتِسَابًا وَرَجَاءً لِثَوَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّذِي مِنْهُ النَّصْرُ وَالْمَعُونَةُ الَّتِي وَعَدَهَا الصَّابِرِينَ.

{أُولَئِكَ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ آثَارُ الْإِيمَانِ وَبُرْهَانُهُ وَنُورُهُ، وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ جَمَالُ الْإِنْسَانِ وَحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ {الَّذِينَ صَدَقُوا} فِي إِيمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ صَدَّقَتْ إِيمَانَهُمْ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَحْظُورَ، وَفَعَلُوا الْمَأْمُورَ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُلِّ خِصَالِ الْخَيْرِ تَضَمُّنًا وَلُزُومًا؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ يَدْخُلُ فِيهِ الدِّينُ كُلُّهُ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ، وَمَنْ قَامَ بِهَا كَانَ بِمَا سِوَاهَا أَقْوَمَ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَبْرَارُ الصَّادِقُونَ الْمُتَّقُونَ.

وَقَدْ عُلِمَ مَا رَتَّبَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الثَّوَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 15-17].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ الْقَائِمِينَ بِعُبُودِيَّتِهِ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، فَلَهُمْ أَصْنَافُ الْخَيْرَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُمُ الْأَزْوَاجُ الْمُطَهَّرَةُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَنَقْصٍ، جَمِيلَاتُ الْأَخْلَاقِ، كَامِلَاتُ الْخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ، فَتَطْهِيرُهَا مِنَ الْآفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِوَصْفِهَا بِالْكَمَالَاتِ، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: فَيُيَسِّرُ كُلًّا مِنْهُمْ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسِّرُهُمْ لِلْعَمَلِ لِهَذِهِ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا يُعِينُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ وَالْإِعْرَاضِ فَيُقَيِّضُهُمْ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَيَرْضَوْنَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَطْمَئِنُّونَ بِهَا، وَيَتَّخِذُونَهَا قَرَارًا.

هَؤُلَاءِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ -أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ- يَتَوَسَّلُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بِإِيمَانِهِمْ؛ لِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، وَوِقَايَتِهِمْ عَذَابَ النَّارِ، وَهَذَا مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ أَنْ يَتَوَسَّلَ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إِلَى تَكْمِيلِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِحُصُولِ الثَّوَابِ الْكَامِلِ، وَانْدِفَاعِ الْعِقَابِ.

ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَجْمَلِ الصِّفَاتِ: بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ حَبْسُ النُّفُوسِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، يَصْبِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى أَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَبِالصِّدْقِ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ، وَهُوَ اسْتِوَاءُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَصِدْقُ الْعَزِيمَةِ عَلَى سُلُوكِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَبِالْقُنُوتِ الَّذِي هُوَ دَوَامُ الطَّاعَةِ مَعَ مُصَاحَبَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَبِالنَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ خُصُوصًا وَقْتَ الْأَسْحَارِ؛ فَإِنَّهُمْ مَدُّوا الصَّلَاةَ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ، فَجَلَسُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ -تَعَالَى-)).

وَقَالَ -تَعَالَى- ذَاكِرًا جُمْلَةً عَظِيمَةً مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133-136].

((وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-؛ هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَمِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللَّهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللَّهِ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ وَأَعْلَى وَأَجَلَّ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.

فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عَبِيدِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِذَارَهُمْ لِرَبِّهِمْ مِنْ جِنَايَاتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: صَدَرَ مِنْهُمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ؛ بَادَرُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَذَكَرُوا رَبَّهُمْ وَمَا تَوَعَّدَ بِهِ الْعَاصِينَ، وَوَعَدَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، فَسَأَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِهِمْ، وَالسَّتْرَ لِعُيُوبِهِمْ، مَعَ إِقْلَاعِهِمْ عَنْهَا، وَنَدَمِهِمْ عَلَيْهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

{أُولَئِكَ} الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ {جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}: تُزِيلُ عَنْهُمْ كُلَّ مَحْذُورٍ {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ وَالْبَهَاءِ، وَالْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، وَالْقُصُورِ وَالْمَنَازِلِ الْأَنِيقَةِ الْعَالِيَاتِ، وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ الْبَهِيَّةِ، وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَاتِ فِي تِلْكَ الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَاتِ، {خَالِدِينَ فِيهَا}: لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا، وَلَا يَبْغُونَ بِهَا بَدَلًا، وَلَا يُغَيَّرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: عَمِلُوا لِلَّهِ قَلِيلًا فَأُجِرُوا كَثِيرًا؛ فَـ (عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى)، وَعِنْدَ الْجَزَاءِ يَجِدُ الْعَامِلُ أَجْرَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ مِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ؛ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}، فَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَهُنَا قَالَ: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}: ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمْ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

((أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: أَعْلَامُ الدِّينِ الظَّاهِرَةُ، وَمِنْهَا: الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، وَمِنْهَا: الْهَدَايَا وَالْقُرْبَانُ لِلْبَيْتِ، وَمَعْنَى تَعْظِيمِهَا: إِجْلَالُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَتَكْمِيلُهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَمِنْهَا: الْهَدَايَا، فَتَعْظِيمُهَا بِاسْتِحْسَانِهَا وَاسْتِسْمَانِهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُكَمَّلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللَّهِ صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، فَالْمُعَظِّمُ لَهَا يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَإِجْلَالِهِ)).

((التَّقْوَى مِيزَانُ الْخَلَائِقِ عِنْدَ اللهِ))

التَّقْوَى هِيَ الْمِيزَانُ الَّذِي يَزِنُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الْخَلَائِقَ، عَلَى قَدْرِ التَّقْوَى يُعْطِي اللهُ وَيَمْنَعُ، وَعَلَى قَدْرِ التَّقْوَى يَرْفَعُ اللهُ وَيَضَعُ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: ١٣].

((الْكَرَمُ بِالتَّقْوَى، فَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ، وَهُوَ أَكْثَرُهُمْ طَاعَةً وَانْكِفَافًا عَنِ الْمَعَاصِي، لَا أَكْثَرُهُمْ قَرَابَةً وَقَوْمًا، وَلَا أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- عَلِيمٌ خَبِيرٌ، يَعْلَمُ مَنْ يَقُومُ مِنْهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ.)).

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي يَزِنُ بِهِ الْعِبَادَ، وَالَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ عِنْدَ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِنَّمَا هُوَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ.

((ثَمَرَاتُ التَّقْوَى))

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ أَنَّ تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- تُؤَدِّي إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَتَحْجُبُ الشَّرَّ كُلَّهُ.

يَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].

{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5].

* التَّقْوَى هِيَ عُنْوَانُ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((امْتِثَالُ الْعَبْدِ لِتَقْوَى رَبِّهِ عُنْوَانُ السَّعَادَةِ وَعَلَامَةُ الْفَلَاحِ، وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عَلَى التَّقْوَى مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَذَكَرَ هُنَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ حَصَلَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا:

الْأَوَّلُ: الْفُرْقَانُ: وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْهُدَى الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ صَاحِبُهُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَهْلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.

الثَّانِي وَالثَّالِثُ: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلٌ فِي الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُفَسَّرُ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ بِالذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِتَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ.

الرَّابِعُ: الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ، وَآثَرَ رِضَاهُ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ})).

* وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّقْوَى: الْجَنَّةُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْمُتَّقِينَ؛ فَتَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاَللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

((أَمَرَ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَكَيْفَ بِطُولِهَا؟! الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَكْلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: ((تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ))، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: ((الْفَمُ وَالْفَرْجُ)).

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: ((اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)).

قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي أُمَامَةَ: ((مُنْذُ كَمْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَذَا الْحَدِيثَ؟)).

قَالَ: ((سَمِعْتُهُ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً)). وَالْقَائِلُ هُوَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ الرَّاوِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

* وَأَهْلُ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ هُمُ الْمُتَّقُونَ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 53].

 ((أَيْ: أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَالْمَعَاصِيَ، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ)).

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ التَّقْوَى وَنَتَائِجِهَا: رَحْمَةُ اللهِ الْخَاصَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

(({وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}: مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ؛ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ؛ وَلَكِنَّ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَتْ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَنْهَا: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْمَعَاصِيَ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الْوَاجِبَةَ مُسْتَحِقِّيهَا، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ})).

* وَالْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوى} [طه: 132].

 (({وَالْعَاقِبَةُ}: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {لِلتَّقْوَى} الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، فَمَنْ قَامَ بِهَا كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ})).

* وَجَعَلَ اللهُ فَلَاحَ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَقْوَاهُ -سُبْحَانَهُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130].

((الْفَلَاحُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّقْوَى)).

* وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّقْوَى: الْفَوْزُ بِمَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76].

(({بَلَى} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا؛ فَإِنَّهُ {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} أَيْ: قَامَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَّقِي، وَاللَّهُ يُحِبُّهُ، أَيْ: وَمَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَفِ بِعَهْدِهِ وَعُقُودِهِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَلَا قَامَ بِتَقْوَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ النَّكَالِ)).

* وَمِنْ ثَمَرَاتِهَا: الْفَوْزُ بِمَعِيَّةِ اللهِ، وَهِيَ مَعِيَّةُ الْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].

((أَمَرَ -تَعَالَى- بِلُزُومِ تَقْوَاهُ الَّتِي هِيَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَعَدَمُ تَجَاوُزِهَا، وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ، أَيْ: بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ حَصَلَ لَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَمَنْ لَمْ يَلْزَمِ التَّقْوَى تَخَلَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَخَذَلَهُ فَوَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَصَارَ هَلَاكُهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)).

* وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالْأَمْنِ وَالسَّعَادَةِ وَالْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ، وَيَذْكُرُ أَعْمَالَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ وَثَوَابَهُمْ فَقَالَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِمَّا أَمَامَهُمْ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْأَهْوَالِ، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}: عَلَى مَا أَسْلَفُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْلِفُوا إِلَّا صَالِحَ الْأَعْمَالِ، وَإِذَا كَانُوا لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ ثَبَتَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَالسَّعَادَةُ، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ -تَعَالَى-.

ثُمَّ ذَكَرَ وَصْفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا}: بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِاسْتِعْمَالِ التَّقْوَى؛ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي؛ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَلِيًّا.

وَ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}: أَمَّا الْبِشَارَةُ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالْمَوَدَّةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَمَا يَرَاهُ الْعَبْدُ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ، وَتَيْسِيرِهِ لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَصَرْفِهِ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فَأَوَّلُهَا الْبِشَارَةُ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، وَفِي الْقَبْرِ مَا يُبَشَّرُ بِهِ مِنْ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَفِي الْآخِرَةِ تَمَامُ الْبُشْرَى بِدُخُولِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.

{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}، بَلْ مَا وَعَدَ اللَّهُ فَهُوَ حَقٌّ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ فِي قِيلِهِ، الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُخَالِفَهُ فِيمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ.

{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى النَّجَاةِ مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ، وَالظَّفَرِ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ مَحْبُوبٍ، وَحَصَرَ الْفَوْزَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا فَوْزَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبُشْرَى شَامِلَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَثَوَابٍ رَتَّبَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ)).

* وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّقْوَى: رِفْعَةُ الْقَدْرِ وَالْعِزُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَـ((بِاللهِ عَلَيْكَ يَا مَرْفُوعَ الْقَدْرِ بِالتَّقْوَى! لَا تَبِعْ عِزَّهَا بِذُلِّ الْمَعَاصِي، وَصَابِرْ عَطَشَ الْهَوَى فِي هَجِيرِ الْمُشْتَهَى، وَإِنْ أَمَضَّ وَأَرْمَضَ، فَإِذَا بَلَغْتَ النِّهَايَةَ مِنَ الصَّبْرِ فَاحْتَكِمْ وَقُلْ: فَهُوَ مَقَامُ: ((مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)).

تَاللهِ! لَوْلَا صَبْرُ عُمَرَ مَا انْبَسَطَتْ يَدُهُ بِضَرْبِ الْأَرْضِ بِالدِّرَّةِ.

بِاللهِ عَلَيْكَ! تَذَوَّقْ حَلَاوَةَ كَفِّ الْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ؛ فَإِنَّهَا شَجَرَةٌ تُثْمِرُ عِزَّ الدُّنْيَا وَشَرَفَ الْآخِرَةِ، وَمَتَى اشْتَدَّ عَطَشُكَ إِلَى مَا تَهْوَى فَابْسُطْ أَنَامِلَ الرَّجَاءِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ الرَّيُّ الْكَامِلُ، وَقُلْ: قَدْ عِيلَ صَبْرُ الطَّبْعِ فِي سِنِيِّهِ الْعِجَافِ، فَعَجِّلْ لِي الْعَامَ الَّذِي فِيهِ أُغَاثُ وَأَعْصِرُ.

بِاللهِ عَلَيْكَ! تَفَكَّرْ فِيمَنْ قَطَعَ أَكْثَرَ الْعُمُرِ فِي التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ فِي الْوَقْتِ الْأَخِيرِ، كَيْفَ نَطَحَ مَرْكَبُهُ الْجُرُفَ فَغَرِقَ وَقْتَ الصُّعُودِ!

يَا مَنْ لَا يَصْبِرُ لَحْظَةً عَمَّا يَشْتَهِي! بِاللهِ عَلَيْكَ! أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟!!

الرَّجُلُ -وَاللهِ- مَنْ إِذَا خَلَا بِمَا يُحِبُّ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَتَقَلْقَلَ عَطَشًا إِلَيْهِ؛ نَظَرَ إِلَى نَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ؛ فَاسْتَحَيَا مِنْ إِجَالَةِ هَمِّهِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، فَذَهَبَ الْعَطَشُ.

كَأَنَّكَ لَا تَتْرُكُ لَنَا إِلَّا مَا لَا تَشْتَهِي، أَوْ مَا لَا تَصْدُقُ الشَّهْوَةَ فِيهِ، أَوْ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ!

كَذَا -وَاللهِ- عَادَتُكَ! إِذَا تَصَدَّقْتَ أَعْطَيْتَ كِسْرَةً لَا تَصْلُحُ لَكَ، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ يَمْدَحُونَكَ!

هَيْهَاتَ وَاللهِ! لَا نِلْتَ وِلَايَتَنَا حَتَّى تَكُونَ مُعَامَلَتُكَ لَنَا خَالِصَةً، تَبْذُلُ أَطَايِبَكَ، وَتَتْرُكُ مُشْتَهَيَاتِكَ، وَتَصْبِرُ عَلَى مَكْرُوهَاتِكَ؛ عِلْمًا مِنْكَ بِأَنَّكَ أَجِيرٌ وَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ -أَيْ: لَمْ يَنْتَهِ يَوْمُ الْعَمَلِ لِكَيْ تَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ-، فَإِنْ كُنْتَ مُحِبًّا رَأَيْتَ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي جَنْبِ رِضَا حَبِيبِكَ عَنْكَ، وَمَا كَلَامُنَا مَعَ الثَّالِثِ -أَيِ: الَّذِي لَيْسَ بِالْمُحِبِّ وَلَا بِالْأَجِيرِ يَعْنِي الْعَاصِيَ-)).

* مِنْ ثَمَرَاتِ التَّقْوَى: طِيبُ الْعَيْشِ، وَالْمَخْرَجُ مِنَ الشِّدَّةِ، ((تَأَمَّلْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، فَوَجَدْتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ: أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِمَا؛ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ الضَّلَالِ بِلَا شَكٍّ، وَارْتَفَعَ فِي حَقِّهِ شَقَاءُ الْآخِرَةِ بِلَا شَكٍّ إِذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ شَقَاءُ الدُّنْيَا، فَلَا يَشْقَى أَصْلًا، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].

فَإِنْ رَأَيْتَهُ فِي شِدَّةٍ فَلَهُ مِنَ الْيَقِينِ بِالْجَزَاءِ مَا يُصَيِّرُ الصَّابَ عِنْدَهُ عَسَلًا؛ وَإِلَّا غَلَبَ طِيبُ الْعَيْشِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا تَنْزِلُ بِهِ شِدَّةٌ إِلَّا إِذَا انْحَرَفَ عَنْ جَادَّةِ التَّقْوَى، فَأَمَّا الْمُلَازِمُ لِطَرِيقِ التَّقْوَى فَلَا آفَةَ تَطْرُقُهُ، وَلَا بَلِيَّةَ تَنْزِلُ بِهِ، هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ)).

((مِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ: التَّقْوَى))

مِمَّا يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ: التَّقْوَى.

وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمُرَادَ بِالتَّقْوَى، فَعَرَّفَ الْأَصْبَهَانِيُّ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: ((حِفْظُ النَّفْسِ عَمَّا يُؤَثِّمُ، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَيُتِمُّ ذَلِكَ بِتَرْكِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ)).

وَعَرَّفَ النَّوَوِيُّ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: ((امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَعْنَاهُ: الْوِقَايَةُ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- )).

مَنْ لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ عَمَّا يُؤَثِّمُ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ؛ مَنْ شَاهَدَ بِعَيْنَيْهِ مَا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ بَطَشَ بِيَدَيْهِ مَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ -تَعَالَى-، أَوْ مَشَى إِلَى مَا يَمْقُتُهُ اللهُ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِمْ نَفْسَهُ مِمَّا يُؤَثِّمُ.

وَمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ -تَعَالَى-، وَارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ؛ فَلَيْسَ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

وَمَنْ عَرَّضَ بِالْمَعْصِيَةِ نَفْسَهُ لِسَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- وَعُقُوبَتِهِ فَقَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَفِّ الْمُتَّقِينَ.

وَرَدَتْ عِدَّةُ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].

فَبَيَّنَ -جَلَّ جَلَالُهُ- أَنَّ مَنْ تَحَقَّقَ لَدَيْهِ شَرْطُ التَّقْوَى فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَجْزِيهِ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} أَيْ: يُنْجِيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

الْأَمْرُ الثَّانِي: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ: رَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُؤَمِّلُ وَلَا يَرْجُو، وَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ أَوْ يَدُورُ لَهُ فِي خَيَالٍ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ)).

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَكْبَرَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَرَجًا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا})).

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُهُ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

 فَبَيَّنَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ فِي أَهْلِ الْقُرَى أَمْرَانِ، وَهُمَا: الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى؛ لَوَسَّعَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَيَسَّرَهُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُ اللهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66].

فَأَخْبَرَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ -كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ- لَأَكْثَرَ -تَعَالَى- بِذَلِكَ الرِّزْقَ النَّازِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِتَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ((وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، {{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، فَجَعَلَ -تَعَالَى- التُّقَى مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فَقَالَ: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7])).

فَكُلُّ مَنْ رَغِبَ فِي السَّعَةِ فِي الرِّزْقِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ فَلْيَحْفَظْ نَفْسَهُ مِمَّا يُؤَثِّمُ، وَأَنْ يَمْتَثِلَ أَوَامِرَ اللهِ -تَعَالَى-، وَلْيَجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ عَمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلِ مُنْكَرٍ أَوْ تَرْكِ مَعْرُوفٍ.

((السَّعِيدُ مَنْ لَازَمَ التَّقْوَى))

عِبَادَ اللهِ! ((اعْلَمُوا أَنَّ الزَّمَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ، كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١٤٠].

فَتَارَةً فَقْرُ، وَتَارَةً غِنَى، وَتَارَةً عِزُّ، وَتَارَةً ذُلُّ، وَتَارَةً يُفْرِحُ الْمَوَالِي، وَتَارَةً يُشْمِتُ الْأَعَادِي.

فَالسَّعِيدُ مَنْ لَازَمَ أَصْلًا وَاحِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ إِنِ اسْتَغْنَى زَانَتْهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ فَتَحَتْ لَهُ أَبْوَابَ الصَّبْرِ، وَإِنْ عُوفِيَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِ، وَإِنِ ابْتُلِيَ جَمَّلَتْهُ.

وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ نَزَلَ بِهِ الزَّمَانُ أَوْ صَعَدَ، أَوْ أَعْرَاهُ أَوْ أَشْبَعَهُ أَوْ أَجَاعَهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَزُولُ وَتَتَغَيَّرُ، وَالتَّقْوَى أَصْلُ السَّلَامَةِ، حَارِسٌ لَا يَنَامُ، يَأْخُذُ بِالْيَدِ عِنْدَ الْعَثْرَةِ، وَيُوَاقِفُ عَلَى الْحُدُودِ.

وَالْمُنْكَرُ مَنْ غَرَّتْهُ لَذَّةٌ حَصَلَتْ مَعَ عَدَمِ التَّقْوَى؛ فَإِنَّهَا سَتَحُولُ وَتُخَلِّيهِ خَاسِرًا.

وَلَازِمِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَإِنَّكَ لَا تَرَى فِي الضِّيقِ إِلَّا السَّعَةَ، وَفِي الْمَرَضِ إِلَّا الْعَافِيَةَ، هَذَا نَقْدُهَا الْعَاجِلُ، وَالْآجِلُ مَعْلُومٌ)).

((أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ!))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ وَهَذِهِ الصِّفَةَ -صِفَةَ التَّقْوَى- وَصَّى اللهُ بِهَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَقَالَ رَبُّنَا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: ١٣١].

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ وَهَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الَّتِي وَصَّى اللهُ بِهَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَهِيَ وَصِيَّتُهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَضْرِبَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِنَصِيبٍ جَلِيلٍ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؛ فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ دَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ رَقِيبًا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ ذَاتَهُ مُحَاسِبًا إِيَّاهَا عَلَى كُلِّ عَمَلِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَرْكٍ يَتْرُكُهُ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ يَقُولُهُ، وَصَمْتٍ يَصْمُتُهُ، وَعَلَى كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَعَلَى كُلِّ بَذْلٍ وَإِمْسَاكٍ، وَعَلَى كُلِّ إِعْطَاءٍ وَمَنْعٍ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ نَفْسِهِ رَقِيبًا عَلَى نَفْسِهِ، مُتَّقِيًا بِذَلِكَ غَضَبَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُخْطَهُ؛ حَتَّى يَجْعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي عِدَادِ الْمُتَّقِينَ، وَيَجْعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ مِنَ الْحِفْظِ بِالْكِفَايَةِ عَلَى قَدْرِ تَقْوَاهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيرُ وَالتَّحْقِيقُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].

وَهُوَ سُؤَالٌ ظَاهِرُهُ عَلَى ظَاهِرِ السُّؤَالِ، وَحَقِيقَتُهُ عَلَى التَّقْرِيرِ؛ يَعْنِي: اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَافٍ عَبْدَهُ.

يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-: إِنَّ الْكِفَايَةَ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ كِفَايَةٌ كَامِلَةٌ، وَمَنْ أَتَى بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ عَلَى قَدْرِ مَا أَتَى مِنْ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ.

((عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ!))

عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي فِعْلِ أَمْرِهِ

وَتَجْتَنِبُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتُبْعِدُ

وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ وَاحْذَرْ مِنَ الرِّيَا

وَتَابِعْ رَسُولَ اللهِ إِنْ كُنْتَ تَعْبُدُ

تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ حَقًّا وَثِقْ بِهِ

لِيَكْفِيكَ مَا يُغْنِيكَ حَقًّا وَتَرْشُدُ

تَصَبَّرْ عَنِ العِصْيَانِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ

وَصَابِرْ عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَّكَ تَسْعَدُ

وَكُنْ سَائِرًا بَيْنَ الْمَخَافَةِ وَالرَّجَا

هُمَا كَجَنَاحَيْ طَائِرٍ حِينَ تَقْصِدُ

وَقَلْبَكَ طَهِّرْهُ وَمِنْ كُلِّ آفَةٍ

وَكُنْ أَبَدًا عَنْ عَيْبِهِ تَتَفَقَّدُ

وَجَمِّلْ بِنُصْحِ الْخَلْقِ قَلْبَكَ إِنَّهُ

لَأَعْلَى جَمَالٍ لِلْقُلُوبِ وَأَجْوَدُ

وَصَاحِبْ إِذَا صَاحَبْتَ كُلَّ مُوَفَّقٍ

يَقُودُكَ لِلْخَيْرَاتِ نُصْحًا وَيُرْشِدُ

وَإِيَّاكَ وَالْمَرْءَ الَّذِي إِنْ صَحِبْتَهُ

خَسِرْتَ خَسَارًا لَيْسَ فِيهِ تَرَدُّدُ

خُذِ العَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ مَنْ قَدْ صَحِبْتَهُ

كَمَا يَأْمُرُ الرَّحْمَنُ فِيهِ وَيُرْشِـدُ

تَرَحَّلْ عَنِ الدُّنْيَا فَلَيْسَتْ إِقَامَةً

وَلَكِنَّهَا زَادٌ لِمَنْ يَتَزَوَّدُ

وَكُنْ سَالِكًا طُرْقَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا

إِلَى المَنْزِلِ البَاقِي الَّذِي لَيْسَ يَنْفَدُ

وَكُنْ ذَاكِرًا للهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ

فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ

فَذِكْرُ إِلَهِ الْعَرْشِ سِرًّا وَمُعْلَنًا

يُزِيلُ الشَّقَا وَالهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ

وَيَجْلِبُ لِلْخَيْرَاتِ دُنْيا وَآجِلَا

وَإِنْ يَأْتِكَ الْوَسْوَاسُ يَوْمًا يُشَـرِّدُ

فَقَدْ أَخْبَرَ المُخْتَارُ يَوْمًا لِصَحْبِهِ

بِأَنَّ كَثِيرَ الذِّكْرِ فِي السَّبْقِ مُفْرِدُ

وَوَصَّى مُعَاذًا يَسْتَعِينُ إِلَهَهُ

عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بِالْحُسْنِ يَعْبُدُ

وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدْ أَتَى لِنَصِيحَةٍ

وَقَدْ كَانَ فِي حَمْلِ الشَّـرَائِعِ يَجْهَدُ

بِأَنْ لا يَزَلْ رَطْبًا لِسَانُكَ هَذِهِ

تُعِينُ عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ وَتُسْعِدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لِأَهْلِهِ

بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالمَسَاكِنُ تُمْهَدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ

وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ يُسَدِّدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ يَبْقَى بِجَنَّةٍ

وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حِينَ يُخَلَّدُ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ

طَرِيقٌ إِلَى حُبِّ الْإِلَهِ وَمُرْشِدُ

وَيَنْهَى الفَتَى عَنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ

وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ مُفْسِدُ

لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيمٌ وَرَغْبَةٌ

بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ المُوَحَّدُ

وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا

كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلْإِلَهِ التَّعَبُّدُ

وَسَلْ رَبَّكَ التَّوْفِيقَ وَالفَوْزَ دَائِمًا

فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَقْصِدُ

وَصَلِّ إِلَهِي مَعْ سَلَامٍ وَرَحْمَةٍ

عَلَى خَيْرِ مَنْ قَدْ كَانَ لِلْخَلْقِ يُرْشِدُ

وَآلٍ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا

صَلَاةً وَتَسْلِيمًا يَدُومُ وَيَخْلُدُ

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((الْفَسَادُ صُوَرُهُ وَمَخَاطِرُهُ)) مُهَذَّبٌ مِنْ كِتَاب: ((حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
  رَمَضَانُ شَهْرُ الطَّاعَاتِ
  عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ
  تفجيرات بروكسل بين الغدر والخيانة
  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  تيقظ وانتبه !!
  وَلَكِنْ يُعَذِّبُكَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ
  تحقيق التوحيد في الكسوف والخسوف
  تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ
  الأسماء والصفات أصل العلم
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان