«الرد على الملحدين»
«دليل العناية، وبيان ما يتعلق بهداية بعض الحيوان»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
ففي معرض الرد على الملحدين مر ذكر بعض ما يتعلق
بِحَيَوَاتِ بعضِ الحشرات، كما مَرَّ التعرض لكثير من هذه الأدلة التي تتعلق بالفطرة
الإنسانية وبغيرها مما جعله الله تبارك وتعالى دليلًا على العناية بالخلق، ودليلًا
على هداية الخلق في الأرض؛ من أجل الإتيان بالواجب الذي كلَّف الله رب العالمين به
الإنسانَ، وجَعَلَ هذه الأمورَ مُسَخَّرةً له؛ ليؤدي هذه لوظيفة على النحو الذي كلفه
الله تبارك وتعالى به، على أن الإنسان إذا ما نظر إلى هذه الأمور في أقل الأشياء كما
مر فيما يتعلق بالأميبا، وهي خلية واحدة جعل الله لها إحساسًا، وجعل لها حياةً تنتهي
بالتكاثر، وفيها تغذيةٌ وتَنَفُّسٌ وإخراجٌ، إلى غير ذلك من الوظائف الحيوية، وهي في
النهاية وهي خلية واحدة مجموعة من الأحماض الأمينية؛ إلا أن معرفة تركيب تلك الخلية
لا يمكن أن يكون سائقًا ولا مُؤَدِّيًا إلى تكوينها؛ لأن فيها خاصيةً هي مما يتعلق
بالله تبارك وتعالى وحده، فيها الروح، والروح من أمر الله رب العالمين.
فهذه الحياة لا يَهَبُهَا أحدٌ ولا يُعْطِيها
سوى الله، والبشر يمكن أن يأتوا بمثل هذه الأمور المركبة على حسب تركيبها الذي جعله
الله رب العالمين فيها؛ ولكنَّ هذه المركباتِ لاروحَ فيها.
ومَرَّ ذكرُ بعضِ ما يتعلق بالنحل مما ذكره العلامة
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في «شفاء العليل»، ونقله عنه بِلَوْنٍ من التصرفِ
اليسيرِ صاحبُ كتاب «العقيدة في الله»، ونَقَلَ أيضًا عن بعض الْمُحْدَثين من الذين
يهتمون بأمثال هذه الشؤون وقد تخصصوا فيها، وهو: الدكتور يوسف عز الدين، فكان مما قال:
النحلة الشغالةُ تُكَوِّنُ العددَ الأكثرَ فِي
الخلية، كما أَنَّهُا العنصرُ الفَعَّالُ فِيها، وهي التي تقوم بالأعمال المختلفة والمهمات
الصعبة؛ فالشغالة من النحل هي التي تجني الرحيق، وتجمع غبار الطلع، وتصنع العسل، وتمدّ
الملكة بغذائها الخاص، وتبني الأقراص التي يُحْفَظُ فِيها العسلُ، وتُرَبِّي فِيها
الأجيالَ الجديدةَ من النحل، وتَحْرُسُ الخليةَ، وتقوم بتنظيفها والمحافظة عليها؛ بل
تقوم بتهويتها وتدفئتها.
والمهمات فِي خلية النحل موزعة فِي تخصصات وهذه
التخصصات ترتبط بعمر النحلة، فلكل سن من النحل عمل يقوم به، وكلما امتد العمر بالنحلة
فإنها تتحول إِلَى عمر آخر، كأنما ترتقي كالبشر في الوظيفةِ تَرَقِّيًَا وَتَدَرُّجًَا
وَظِيفِيًَّا، وبذَلِكَ تقوم النحلة بعد أن تستكمل عمرها بالمرور على كل الأعمال والمهمات
التي تحتاج إِلَيْهِا الخلية، ويلاحظ أن النحلة تبدأ بالأعمال السهلة التي لا تحتاج
إِلَى جهد كبير، وتنتهي إِلَى أشق الأعمال وأصعبها، وهي الجولان فِي الْحَقول، وجَنْيِ
الرحيقِ، وغُبَارِ الطَّلْعِ والماء، ثم تَصْنَعُ العسلَ وتُخَزِّنُهُ، ونلاحظ أَيْضًا
أَنَّها تتدرج فِي الوظائف بحسب تكامل الخصائص التي يهبها الله إياها، فكل مهمة تصير
إِلَيْهِا وتعمل فِيها تتلاءم مع تكامل أجهزتها التي تمكنها من القيام بالدور الجديد
والمهمة الجديدة.
فالنحلة الشغالة فِي يومها الأول والثاني تقوم
بمهمةِ تنظيف البيوت التي خرجت منها أجيال النحل التي تَكَامَلَ خلقها، فتنظف هذه البيوت،
وتعدها لأجيال أخرى، ولا تضع الملكةُ البيضَ فِي هذه البيوت إلا بعد أن تتفحصها وتجدها
نظيفة تمامًا.
وفي يوم النحلةِ الثالثِ، وكذا في يومها الرابعِ
تقوم بدور الحاضنة ليرقات النحل الشغالة والذكور التي يزيد عمرها على ثلاثة أيام، فتقدم
لها ما يسميه الْعلماء (بخبز النحل) وهو مزيج من العسل وحبوب اللقاح، تأخذه مما خزنته
النحل فِي العيون السُّدَاسية.
وبعد اليوم الخامس حتى اليوم الثانيَ عشر من
عمر النحلة تقوم بتغذية النحلة الملكة بالغذاء الْمَلِكِيِّ طيلة عمرها، كما تمدّ بهذا
الغذاء الفاخر صغيرات الشغالة والذكور فِي يومهن الأول والثاني وكذا في اليومالثالث،
والنحل يقوم بهذه المهمة فِي هذه السن؛ من خمسة ايام إلى اثني عشر يومًا (5-12) لنمو
غدد خاصة فِي هذه الفترة فِي جانبي البلعوم، تتمكن بها النحل من صناعة الغذاء الملكي.
وبعد اليوم الثانيَ عشر تتمكن النحلة من الطيران،
ولَكِنها لا تذهب بعيدًا، كل ما تفعله أن تتعلم وتتمرن، ومهمتها الرئيسة من اليوم الثاني
عشر إِلَى اليوم الثامن عشر: هو بناء الأقراص الشمعية التي تعد لتخزين العسل، وتربية
أجيال النحل الجديدة.
والسبب فِي تخصصها بهذا الدور فِي هذه السن:
هو نمو أربعة أزواج من الغدد الموجودة على حلقات البطن، ومن هذا الشمع باستخدام النحلة
فَكَّيْهَا، تقوم النحل فِي هذه السن ببناء تلك البيوت التي بلغت الغاية فِي الدقة
والإتقان بأبعاد محددة، وأشكالٍ هندسية فِي غاية الروعة والتنظيم.
وفي اليوم التاسع عشر واليوم العشرين تقوم النحلة
بتنظيف الخلية وحراستها، وبعد اليوم العشرين تقوم النحلة بالانطلاق إِلَى الْحَقول،
وجمع الرحيق، وغبار الطلع، وصُنع العسل، وجلبِ الماء إِلَى الخلية، وهذه المرحلة الأخيرة
تمثل الجزء الأكبر من عمر النحلة.
أجيالٌ تذهب من النحل، وأجيال تأتي، ويترقى النحل
فِي سلسلة متوالية من الأعمال تضمن القيام بالأعمال كلها باستمرارٍ من غير أن تتخصص
طائفة من النحل بعمل طيلة عمرها، ولَكِنَّ التخصص يأتي فِي كل مرحلة من مراحل العمر.
فسبحان الواحد الأحد، الإلهِ الصمد، الَّذِي
خلق هذه الكائنات الصغيرة، وعلمها أن تقوم بهذه الأعمال بمثل هذه الدقة والإتقان.
إنَّهُ إبداع وإعجاز يدل على العليم الخبير.
ومن الإبداع الإلهي فِي النحلة: هذا التكوين
الَّذِي أعطاه الله إياها، فقد جعل لها الباري سبحانه معدتين، فللنحلة معدتان، إحداهما
تستعملها لجمع المواد الأولية التي تستخلصها من رحيق الأزهار، أو تحمل بها الماء، وتنقله
إِلَى الخلية، والمعدة الثانية مخصصة للطعام الَّذِي تهضمه وتتغذى به.
ومن عجبٍ أن النحلة إذ تجمع فِي معدتها الأولى
ما تجنيه من الرحيق، لا تكتفي بنقله، ولَكِنها فِي أثناء حملها له وتوصيله للخلية تقوم
بعملية أولية لتحويله إِلَى العسل، وذَلِكَ بإفراز الخمائر اللازمة لتحقيق ذَلِكَ.
والنحلة تحتاج إِلَى غبار الطلع لأمور مختلفة
فِي الخلية، وقد زودها خالقها بتجويف خاص لِخَزْنِ هذه الحبوب فِي الوجه الخارجي لساق
الرِّجْل الخلفية، تُسَمَّى «سَلَّةَ الطَّلْع»، وجعل لها على الوجه الداخلي لِرُسْغِ
الرِّجْلِ الخلفيةِ ما يشبه الفرشاة، تستعملها الشغالة فِي تمشيط غبار الطلع وتكتيله؛
تمهيدًا لجمعه فِي سلة الطلع.
ومن العجائب المذهلة التي اكتشفها الْعلماء فِي
النحلة: تلك الغدة التي فِي مؤخَّرَةِ البطن، وقد سماها الْعلماءُ (غُدَّة نَاسَانُوف)،
وهذه الغدة تفرز رائحة خاصة.
ومن العجيب: أن نحل كل خلية يتعارف على رائحة
تميز نحلها عَنْ غيره، وتستطيع النحلة أن تعود إِلَى بيتها من مكان بعيد، تَهْدِيها
تلك الرائحةُ المميزة عَنْ رائحة غيرها من النحل، وبَوَّابُوا الخلية وحُرَّاسُها يعرفون
النحلة التي تَتْبَعُ الخلية عَنْ طريق تلك الرائحة المميزة المنبعثة من النحلة.
والعجب أن النحل قادر على التعارف على رائحة
جديدة عَنْدما يحصل ما يستدعي ذَلِكَ، فمثلًا عَنْدما تخرج طائفة من النحل لِتُشَكِّلَ
خليةً جديدة؛ فإن الخلية الجديدة تتعارف على رائحة جديدة، وعندما مزج الْعلماء بطريقةٍ
علميةٍ طائفةً من النحل مع طائفة أخرى؛ وجدوا أن النحل بعد دَمْجِهِ تَعَارَفَ فيما
بينه على رائحةٍ واحدةٍ جديدةٍ تميزه عَنْ غيره.
ومن عجائب هداية النحل: أَنَّهُ يبني جدرانَ
البيوتِ السُّدَاسيةَ من الشمع الخالص الَّذِي لا ينفذ منه الهواء؛ ولَكِنه عَنْدما
يغلق أبواب البيوت التي تحوي يرقات النحل؛ يخلط الشمع بحبوب اللقاح، وبهذا يتسرب الهواء
من خلال حبوب اللقاح، فتبقى اليرقات حيّة، ولو لم يَهْدِها ربها إِلَى ذَلِكَ لماتت
اليرقات، وزال النحل من فوق ظهر البسيطة.
وقد حَدَّثَنَا ربُّنا فِيما حَدَّثَنَا عَنْه
من آياته الباهرة التي تستدعي التأمل والتفكر إِلَى هدايته العجيبة للنحل؛ «وَأَوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69») [النحل:
68-69].
وقد اهتدى المسلمون للمنافع الْعَظِيمة التي
فِي العسل، ولَكِن الضالون عَنْ هدى الله لم يكتشفوا ما فِيه من المنافع إلا فِي هذه
الأيام، وقد اكتشف الباحثون حقائق مذهلة، فوجدوا أن العسل غذاءٌ ودواءٌ، وهو غذاء من
نوع راقٍ، يحوي خصائص لا تكاد توجد فِي غيره، ووجدوا أَنَّهُ علاج يكاد يَصْلُحُ لجميع
أنواع الأمراض، ولا يزال الْعِلْم يكتشف فِي كل يومٍ فِي العسل نفعًا جديدًا.
فهذا بعض ما يتعلق بحياة النحل داخلَ خلاياه.
وأما كيف يدل النحل بعضُه بعضًا على مكان الغذاء؟
فمما لاحظه الْعلماء المعاصرون: الطريقةَ التي
يدل بها النحل بعضه بعضًا على مكان الغذاء.
يَقُول الدكتور يوسف عز الدين:
" لو اكتشف أحد عمال النحل حقلًا أو كميةً
من النباتات تعتبر مصدرًا للغذاء؛ فإنّه يعود للمستعمرة ليخبر باقيَ العمال عَنْ هذا
الَكِنز الَّذِي اكتشفه، وذَلِكَ عَنْ طريقِ طقوسِ رقصٍ عجيبةٍ تفعلُها النحلة بطريقة
غريزية دون أن تدري لماذا تفعل هذا.
إنها ترقص رقْصاتٍ غريبةً ذاتَ مدلولاتٍ معينةٍ،
إذ إن جسمها يصنع فِي أثناء الرقص زاويةً تَدُلّ على زاوية الشَّمْس، وإذا كَانَ الْحَقل
الَّذِي اكتشفه قريبًا من المستعمرة؛ فإنّ الرقصة فِي هذه الحال تختلف عَنْها فِي حال
بُعد الْحَقل مسافة أطول.
ومن هذه الرقصات يفهم النحل أنّ حقلًا من البِرْسيم
أو غيرِه من النباتات ذات الأزهار التي يحضر النحل غذاءه منها، يقع على بعد معين، والطريق
إِلَيْهِ يقتضي السير بزاوية معينة بالنسبة لمكان الشَّمْس.
فيؤدي بعض العمال حينئذ الرقصةَ نفسها، عَنْد
ذَلِكَ تطمئن النحلة التي اكتشفت الْحَقل إِلَى أنّ باقي النحل قد فهم ما تريد أن تقوله،
فيطير باقي الأفراد، ويصلون مباشرة إِلَى ذَلِكَ الْحَقل لإحضار مزيد من الغذاء.
إنّ النحلة المكتشِفة قد نقلت إِلَى النحل الَّذِي
فِي المستعمرة عددًا من المعلومات بحركاتها تلك، ولو حاولنا نحن البشرَ أن نتوصل إِلَى
ما توصل إِلَيْهِ النحلُ مِنْ فَهْمٍ لهذه الطَّلَاسِمِ عَنْ طريقِ رَسْمٍ بَيَانِيٍّ؛
لاستغرق منا وقتًا لا يقل عَنْ ثلث ساعة إن كَانَ لدينا إلمام كاف بالعلوم الرياضية؛
ولَكِن النحل يفهم كلّ ذَلِكَ فِي الحال، ويطير نحو الْحَقل فِي خط مستقيم ليُحْضِرَ
ما يلزمه من غذاء.
شيء مذهل لا يمكن تفسيره إلا إِذَا آمنا بوجود
إلهٍ خالقٍ أودع هذه المخلوقاتِ التي لا تملك قدرًا من العقل أو قدرةً على التفكير
ما يُمَكِّنُها من القيام بما يلزمها ".
ومن عجائب النحل: رؤيته لونًا لا نراه نحن البشرَ،
ولا يمكن أن نتصوره، وهو اللون فوقَ البَنَفْسِجِيّ الَّذِي نراه نحن أسودَ، فالنحل
يرى الأشعة فوق البنفسجية.
ما الحكمة فِي ذَلِكَ؟
الحكمة فِي ذَلِكَ هي: أن تلك الأشعة هي الوحيدة
القادرة على اختراق السحاب.
والنحل قد يعيش فِي مناطقَ يَكْسُوها السحابُ
مُعْظَمَ شهورِ السَّنَةِ، ورؤية الشَّمْس ضرورية لمعرفة مكان الْحَقول التي بها الغذاء،
وهنا تكمن الحكمة فِي رؤية النحل لِذَلِكَ اللون فوقَ البنفسجي، فإنها بذَلِكَ يصبح
فِي إمكانها رؤية الشَّمْس من خلال السحاب، فلا يموت النحل جوعًا فِي حالة اختفاء الشَّمْس
خلف الغمام.
حقيقة مذهلة تَدُلّ على وُجُود خالقٍ مُدَبِّرٍ
مُقَدِّرٍ يَعْلَمُ ما خلق، إذ إن القدرة على رؤية ذَلِكَ اللونِ لا يمكن أن تكون قد
اكتسبها النحل مع مرور الزمن، بل لا بد أن تكونَ قد وُجِدْت منذ أولِ لحظةٍ خَلَقَ
اللهُ فِيها النحلَ، إذ لو لم توجد من أول الأمر؛ لانقرض النحل فِي تلك المناطق منذ
أمد بعيد ".
العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بعد
أن ذَكَرَ ما ذَكَرَ فِيما يتعلق بهدايات النحل؛ ذَكَرَ فِي «شفاء العليل» بعض ما يتعلق
بهدايات النمل، فقال رحمه الله تعالى:
وهذا النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتُها من
أعجب شيء، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها، وتطلب قوتها وإن بَعُدَتْ عليها الطريق،
فإذا ظفِرت به؛ حَمَلَتْهُ وسَاقَتْهُ فِي طرقٍ مُعَوَّجَةٍ بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ
فِي غاية من التَّوَعُّرِ، حتى تصلَ إِلَى بيوتها، فَتَخْزِنُ فِيها أقواتَها فِي وقتِ
الإمكانِ، فإذا خَزَنَتْهَا عَمَدَتْ إِلَى ما يَنْبُتُ منها فَفَلَقَتْهُ فِلْقَتَيْنِ
لئلا يَنْبُتَ، فإن كَانَ يَنْبُتُ مع فَلْقِهِ واحدةً – أي بعد أن يُفْلَقَ باثنتين -؛ فإنها
تَفْلِقُهُ بأربعةٍ، فإذا أصابه بَلَلٌ وخافت عليه العفنَ والفسادَ؛ انتظرت به يومًا
ذا شمس، فخرجت به فَنَشَرَتْهُ على أبواب بيوتها، ثم أعادته إِلَى بيوتها، ولا تتغذى
منها نملةٌ مما جَمَعَهُ غيرُها.
ويكفي فِي هداية النمل ما حكاه الله سبحانه فِي
القرآن عَنْ النملة التي سَمِعَ سليمانُ كلامَها وخطابَهَا لأصحابِها بقولها: «يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ»، فاسْتَفْتَحَتْ خطابَها بالنداء الَّذِي يسمعه من خاطبته،
ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يُثْبِتُهُ مِنَ اسمِ الجنسِ إرادةً للعموم، ثم
أَمَرَتْهُمْ بأنْ يدخلوا مساكنَهم فَيَتَحَصَّنُوا من العسكر، ثم أَخْبَرَتْ عَنْ
سبب هذا الدخول، وهو خشيةُ أن يُصِيبَهم مَعَرَّةُ الجيشِ فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم
اعتذرت عَنْ نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذَلِكَ، وهذا من أعجب الهداية.
وتَأَمَّلْ كيف عَظَّمَ اللهُ سبحانه شأنَ النملِ
بقوله: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ»، ثم قَالَ: «حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ».
فأخبر أَنَّهُم بأجمعهم مَرُّوا على ذَلِكَ الوادي،
ودل على أن ذَلِكَ الوادي معروفٌ بالنمل؛ كوادي السباع ونحوه، ثم أخبر بما دل على شدة
فطنةِ هذه النملة ودقةِ معرفتِها، حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصةَ بهم، فقد
عرفت هي والنملُ أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يَدْخُلُ عليهم فِيه سواهم، ثم قَالَت:
«لا يحطمنكم سليمان وجنوده»، فجمعت بين اسمه وعينه، وعَرَّفَتْهُ بهما، وعَرَّفَتْ
جنودَه وقائدَها، ثم قَالَت: «وهم لا يشعرون»، فكأنها جمعت بين الاعتذار عَنْ مضرةِ
الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لَوْمِ أمةِ النملِ حيث لم يأخذوا حِذْرَهم ويدخلوا مساكنَهم،
لِذَلِكَ تبسم نبي الله سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لَمَوْضِعُ تَعَجُّبٍ وتَبَسُّمٍ.
قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله -:
ولقد حُدِّثْتُ أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت
شِقَّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تُطِقْ، فذهبت وجاءت معها بأعوانٍ يَحْمِلْنَه معها،
قَالَ: فرفعت ذَلِكَ من الْأَرْض، فطافت فِي مكانه فلم تجدْه، فانصرفوا وتركوها، قَالَ:
فوضَعْتُهُ، فعادت تحاول حَمْلَه فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فَرَفَعْتُهُ، فطافت فلم
تجده، فانصرفوا، قَالَ: ففعلتُ ذَلِكَ مرارًا، فلما كَانَ فِي المرة الأخرى استدار
النملُ حَلْقَةً ووضعوها – أي النملةَ - فِي وسط الحلْقة، وقَطَّعُوها عضوًا عضوًا،
قَالَ شيخنا ـ يعني شيخ الإسلامِ ابنَ تيميةَ رحمه الله ـ وقد حكيتُ له هذه الحكايةَ
فقال: هذا النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب.
قال العلامة الإمام ابن القيم - رحمه الله
-:
والنمل من أحرص الحيوان، ويُضْرَبُ بحرصَه المَثَلُ،
ويذكر أن سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء؛
استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من الطعام كل سنة؟ قَالَت: ثلاث حبات من الحنطة،
فأمر بإلقائها فِي قارورة، وسَدَّ فَمَ القارورة، وجعل معها ثلاثَ حباتِ حنطةٍ، وتركها
سنةً بعد ما قَالَت، ثم أمر بفتح القارورة عَنْد فراغ السنة، فوجد حبةً ونصفَ حبةٍ،
فقال: أين زعمكِ؟! أنتِ زعمت أن قوتَك كلَّ سنةٍ ثلاثُ حَبَّاتٍ، فقالت: نعم، ولَكِنْ
لما رأيتك مشغولًا بمصالح بني جنسك حسبتُ الَّذِي بقي من عمري، فوجدته أكثر من المدة
المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه استبقاءً لنفسي، فعجب سليمان من شدة
حرصها، وهذا من أعجب الهداية والعطية!!
ومن
حرصها: أَنَّهُا تَكِدُّ طُولَ الصيف وتجمع للشتاء، علمًا منها بإعواز الطلب فِي الشتاء
وتَعَذُّرِ الكسب فِيه، وهي على ضعفها شديدة القوى، فإنها تحمل أضعافَ أضعافِ وزنها،
وتجره إِلَى بيتها.
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل؛
إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات، وكل نملة
تجتهد فِي صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئًا لنفسها دون صَواحِبَاتِهَا.
ومن عجيب أمرها: أن الرجل إِذَا أراد أن يحترز
من النمل لا يَسْقُطُ فِي عسلٍ أو نحوِه؛ فإنه يَحْفِرُ حُفَيْرَةً، ويجعلُ حولَها
ماءً، أو يتخذُ إناءً كبيرًا ويملأُه ماء، ثم يضع فِيه ذَلِكَ الشيء الذي يريد حفظه
من النمل، فيأتي الَّذِي يُطيف به، فلا يقدر عليه، فيتسلق فِي الحائط ويمشي على السقف،
إِلَى أن يحاذي ذَلِكَ الشيء، فَتُلْقِي نفسَها عليه.
قال: وجَرَّبْنَا نحن ذَلِكَ.
هذا كلام العلامة ابن القيم رحمه الله: وجربنا
نحن ذَلِكَ.
قال: وأحمى صانعٌ مرةً طَوْقًَا بالنار، ورماه
على الْأَرْض لِيَبْرُدَ، واتفق أنِ اشتمل الطوق على نمل في داخل هذا الطوق، فتوجه
فِي الجهات ليخرج، فلحقه وَهَجُ النار، فلزم النملُ المركزَ وَسَطَ الطَّوْقِ، وكان
ذَلِكَ مركزًا له، وهو أبعد مكانٍ من المحيط.
قال يوسف عز الدين عما كشف الْعِلْم من أسرار
النمل الأبيض:
قال: ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات
الضئيلة ما هو مذهل، يجعل كل ذي عقل من البشر يخرّ ساجدًا للخالق الْعَظِيم.
على سبيل المثال: ما تراه فِي مستعمرة فيها نوع
من الحشرات يطلق عليه: (النمل الأبيض)، تعيش هذه الحشرات أَيْضًا فِي مستعمرات، إِذَا
زاد أفراد المستعمرة عَنْ الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة؛ فإنّ هذه الحشرات
تدرك هذه الْحَقيقة عَنْ طريق الغريزة، فتبدأ الأفراد فِي التهام عدد كبير من البَيْض،
وبذَلِكَ يسهم النمل فِي حلّ مشكلة زيادة أفراد المستعمرة وفي حل مشكلة الغذاء، إذ
إن التهام البيض يعتبر تغذية، وفي الوقت نفسه يقلل من عدد ذرية النمل الأبيض.
إنّ هذه الحشرات لا تدرك لماذا تفعل ذَلِكَ؛
ولَكِنها النفحة الإلهية التي تلهمها لعمل ما لا يمكن أن تدركه من الأشياء التي تعود
عليها بالفائدة وتجنبها الفناء.
هذه الحشرات نفسها تتغذى على الأخشاب وتلتهمها
بشراهة، إذ فِي بعض الأماكن الموبوءة بها ـ أي بالنمل الأبيض ـ يتناول أفراد الأسرة
طعامهم على منضدة الطعام الخشبية، ثم يذهبون فِي الصباح لتناول إفطارهم، فيجدون تلك
المنضدة قد تقوضت أركانها، وانهارت فِي خلال ليلة واحدة.
في بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات
المدمرة قد يسأل أحد السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عَنْ اسم القرية التي رآها
على مدى البصر، فيقول: ما اسم هذه القرية؟ فيعتريه الذهول عَنْدما يخبرونه أن تلك القرية
لا تضم آدميين، ولَكِنها المساكن التي أقامها النمل الأبيض ليعيش بها.
هذه المساكن ترتفع عَنْ سطح الْأَرْض عدة أمتار،
وتصنعها الحشرات من مادة غريبة، هي خليط من لعابها وبعض المواد الأخرى، وهي أقوى من
الإسمنت المسلح، ولا يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إِلَيْهِا الماء من خلال جدرانها،
وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فِيها النمل الأبيض.
وتَسْتَخْدِمُ هذه الحشراتُ للتَّخَابُرِ عَنْ
بُعْدٍ نوعًا من الشَّيْفَرَةِ تُشْبِهُ شَيْفَرَةَ التِّلِغْرَاف، إذ تدق على جدران
النفق برأسها عدة دقات، فيفهم باقي النمل ما تريد عَنْ طريق تلك الدقات الشَّفْرِيَّةِ،
تفعل ذَلِكَ دون أن تدري ماذا تفعل، إذ إنَّهُا تفعلها عَنْ طريق الإلهام الإلهي الذي
جعله الله رب العالمين غريزة فيها.
احتار الْعلماء فترة طويلة فِي تفسير إمكان حياة
مثل هذه الحشرات عَنْ طريق الغذاء على الأخشاب، فالخشب لا يحتوي على أَيَّةِ مَوَادَّ
عضويةٍ قابلةٍ للهضم، وأخيرًا اكتشف العلماءُ السِّرَّ.
لقد وَجَدوا فِي داخلِ الجهازِ الهضميِّ لأفرادِ
هذه الحشراتِ حيواناتٍ دقيقةً أوليةً يَتَكَوَّنُ جسمُها من خليةٍ واحدةٍ، وهذه الحيواناتُ
الأوليةُ تُفْرِزُ أجسامُها إِفْرَازَاتٍ تُحَوِّلُ الخشبَ إِلَى مَوَادَّ غذائيةٍ
قابلةٍ للهضمِ هي التي تُغَذِّي النملَ الأبيض.
ومن العجيب: أَنَّهُ لم يحدث إطلاقًا أن اكْتُشِفَتْ
نملةٌ بيضاءُ واحدة تخلو أمعاؤها من هذه الحيوانات الأولية، ولو لم توجد هذه الحيوانات
داخل أمعاء النمل الأبيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة؛ لأنها لا تتغذى إلا على
الخشب، ولانقرضت منذ أول جيل من أجيالها؛ فهل من الممكن أن يحدث هذا عَنْ طريق المصادفة؛
أو هو شيءٌ مُقَدَّرٌ مُدَبَّرٌ مرسومٌ لا يقوى عليه إلا العليم الحكيم؟!!
ومن عجب: أن النمل يُرَبِّي البقر!!
فالنمل يربي بقرةً كما يربي الإنسان بقرة!!
بل إن النمل يَفْلَحُ الْأَرْضَ!!
وهذا من عجائب النمل!!
النمل استأنس مئات من الأجناس من الحيوانات الأدنى
منه شأنًا، بينما الإنسان لم يستأنس سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها
لمنفعته ومتعته، وعرف النمل الزرع والرعي عَنْ طريق الغريزة.
حشرات الْمَنّ التي يطلق عليها أحيانًا اسم
(قمل النبات) التي نراها على أوراق بعض النبات؛ يرعاها النمل ليستفيد منها.
في الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له
بيض هذا المن، فإذا جاؤوا به؛ وضعوه فِي مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم، ويهتمون ببيض
هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار؛ أطعموها وأكرموها،
وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يُدِرُّ سائلًا حلوًا كالعسلِ كما تُدِرُّ البقرةُ اللبنَ،
ويتولى النمل حَلْبَ هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار.
ولا يعتني النمل بتربية المواشي وحدها، بل يعتني
كذَلِكَ بالزرع وفِلاحة الْأَرْض.
شاهد أحد الْعلماء فِي إحدى الغابات قطعة من
الْأَرْض قد نما بها أُرْزٌ قصيرٌ مِنْ نوعٍ نِصْفِ بَرِّيٍّ، كَانَت مساحة القطعة
خمسة أقدام طولًا فِي ثلاثة عرضًا، وكان طول الأرز نحو ستة سنتيمترات، ويتراءى للناظر
إِلَى هذه البقعة من الْأَرْض أنّ أحدًا لا بد يعتني بها، فالطينة حول البذور كَانَت
مشققة، والأعشاب الغريبة كَانَت مستأصلة، والغريب أَنَّهُ لم يكن على مَقْرُبَةٍ من
هذا المكان عودٌ آَخَرُ من الأرز، فهذا الأرز لم ينم من تلقاء نفسه، وإنّما زرعه زارع.
ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إِلَى هذا المزروع
وتذهب عَنْه، فانْبَطَحَ العالِمُ على الْأَرْض يلاحظ ما يصنعه، ولم يلبث أن عرف أنّ
هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز فِي تلك البقعة من الْأَرْض، وأنه اتخذ من زراعتها
مهنة له، تشغل كل وقته، فبعضه كَانَ يشق الْأَرْض ويحرثها، والبعض الآخر كَانَ يزيل
الأعشاب الضارة، فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إِلَيْهِ بعض النمل، فَيَقْضُمُونَهُ،
ثم يحملونه بعيدًا عَنْ المزرعة.
نما الأرز حتى بلغ طولُه ستين سنتيمترًا أو ستة
سنتيمترات كما مر.
كانت حبوب الأرز قد نَضِجَتْ، فلما بدأ موسم
الحصاد شاهد صفًا من شغالة النمل لا ينقطع متجهًا نحو العيدان، فيتسلقها إِلَى أن يصل
إِلَى حبوب الأرز، فتنتزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبوب، وتهبط بها سريعًا إِلَى
الْأَرْض، ثم تذهب بها إِلَى مخازنها تحت الْأَرْض.
بل الأعجب من ذَلِكَ: أنّ طائفة من النّمل كَانَت
تتسلق الأعواد، فتلتقط الحب، ثم تلقي به، بينما طائفة أخرى تتلقاه، وتذهب به إِلَى
المخازن.
ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية فِي بيوت
كبيوتنا ذاتَ شُقَقٍ وطبقات، أجزاء منها تحت الْأَرْض، وأجزاء فوق الْأَرْض.
هذه معلوم.
هذه حقيقة رصدها علماء الحشرات، ولها صورها المعروفة.
فتحيا عيشة أو حياة مدنية فِي بيوت كبيوتنا ذاتَ
شُقَقٍ وطبقات، أجزاء منها تحت الْأَرْض، وأجزاء فوق الْأَرْض، وفِي هذه المدن تجد
الخدم والعبيد.
بل الأعجب من ذَلِكَ: أنك تجد الممرضات اللاتي
تُعْنَى بالمرضَى ليلًا ونهارًا، وتجد منها من يرفع جثث من يموت من النمل.
يفعل ذَلِكَ النوع من النمل كلّ هذا بدون عقل،
بدون تفكير، إذ يتم ذلك بالهداية التي أودعها الله تبارك وتعالى فِي أجسام النمل الصغيرة.
فهل وقع ذَلِكَ اتفاقًا؟!!
هل وقع ذَلِكَ مصادفةً؟!!
هل فِي
النمل من عَقْلٍ يفعل ذَلِكَ ويقوم به؟!!
العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يذكر
نوعًا آَخَرَ من مخلوقات الله تعالى التي لها فِي كتاب الله ذِكْرٌ، وهو الهدهد، فيتحدث
عَنْ هداية الله تبارك وتعالى له فيقول:
هذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصرِه بمواضع الماء
تحت الْأَرْض، لا يراه غيره.
ومن
هدايته: ما حكاه الله عَنْه فِي كتابه أنه قَالَ لنبي الله سليمان وقد فَقَدَه وتَوَعَّدَه،
فلما جاءه بَدَرَهُ بالعذر قبل أن يُنْذِرَهُ سليمانُ بالعقوبة، وخاطبه الهدهد خطابًا
هَيَّجَهُ به على الإصغاء إِلَيْهِ والقبول منه، فقال له: «أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ
بِهِ»، وفي ضمن هذا أَنِّي أتيتك بأمر قد عرفتُه حق المعرفة بحيث أحطت به، وهو خبر
عظيم له شأن، فلِذَلِكَ قَالَ: «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ»، والنبأ
هو: الخبر الَّذِي له شأن، والنفوس متطلعة إِلَى معرفته.
ثم وصفه بأنه نبأٌ يقينٌ لا شكَّ فِيه ولا رَيْبَ.
فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذَلِكَ
النبأ، اسْتَفْرَغَتْ قلبَ المخبَرِ لِتَلَقِّي الخبرِ، وأوجبت له التشوقَ التامَّ
إِلَى سماعه ومعرفتِه، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج، ثم كشف عَنْ حقيقة
الخبر كشفًا مؤكَّدًا بأدلة التأكيد، فقال: «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ»،
ثم أخبر عَنْ شأن تلك الملكة، وأنها من أَجَلِّ الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يَصْلُحُ
أن تُؤْتَاهُ الملوك، ثم زاد فِي عظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم،
ثم أخبره بما يدعوه إِلَى قصدهم وغزوهم فِي عقر دارهم بعد دعوتهم إِلَى الله، فقال:
«وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، وحذف أداة العطف
من هذه الجملة وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها إيذانًا بأنها هي المقصودة،
وما قَبْلَها تَوْطِئَةٌ لها، ثم أخبر عَنْ الْمُغْوِي لهم الحاملِ لهم على ذَلِكَ؛
وهو تزيين الشيطان لهم أعمالَهم حتى صَدَّهم عَنْ السبيلِ المستقيمِ، وهو السجود لله
وحده، ثم أخبر أن ذَلِكَ الصَّدَّ حالَ بينَهم وبينَ الهدايةِ والسجودِ لله الَّذِي
لا ينبغي السجودُ إلا له، ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراجِ الْخَبْءِ فِي السماواتِ
والأرض، وهو المخبوء فِيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواعِ ما يَنْزِلُ من السماء
وما يخرج من الْأَرْض، وفي ذكر الهدهد هذا الشأنَ من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعارٌ
بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الْأَرْض.
فهذا أَيْضًا طير من الطيور جعل الله تعالى له
هذه الهداية الكاملة.
وكذلك الحمام:
قال العلامة الامام ابن القيم رحمه الله تعالى
فِي عجيبِ هدايَتِه إِلَى ما هداه الله إِلَيْهِ فِي حديثٍ طويلٍ مُمْتِعٍ يدلُّ على
أن التفكيرَ فِي خلقِ الله منهجٌ أَخَذَ به أهلُ الْعِلْمِ أنفسَهم؛ تحقيقًا لأمر الله
لعباده، قال العلامة الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، حتى قَالَ
الإمام الشافعي: "أعقلُ الطيرِ الْحَمَامُ".
وبُرُدُ الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب،
وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد، فإن الغرض الَّذِي يَحْصُلُ به
لا يَحْصُلُ بمملوكٍ ولا بحيوانٍ غيرِه؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ ويَرْجِعُ إِلَى مكانه
مِنْ مسيرةِ ألفِ فَرْسَخٍ فما دونَها، وتُنْهِي الأخبارَ والأغراضَ والمقاصدَ التي
تتعلق بها مهماتُ الْمَمَالِكِ والدولِ، والقَيِّمُونَ بأمرها يَعْتَنُون بأَنْسَابِها
ـ بأنسابِ الْحَمَامِ الَّذِي هو بُرُدُ الحمام، الَّذِي يقال له: «الحمامُ الزَّاجِل»
ـ، القَيِّمُونَ بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فَيُفَرِّقُونَ بين ذُكُورِها
وإناثِها وَقْتَ السِّفَادِ، وتُنْقَلُ الذكورُ عَنْ إناثِها إِلَى غيرِها، والإناثُ
عَنْ ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحَمْلِها مِنْ غيرِها، ويَتَعَرَّفُونَ
صحةَ طُرُقِها ومَحَلِّهَا، ولا يأمنون أن تُفْسِدَ الأنثى ذَكَرًا مِنْ عُرْضِ الحمام،
فَتَعْتَرِيها الْهُجْنَةُ.
والْقَيِّمُونَ بأمرِها لا يحفظون أرحامَ نسائِهم
ولا يحتاطون لها كما يحتاطون ويحفظون أرحامَ حَمَامِهِم ويَحْتَاطُون لها!!
والْقَيِّمُونَ لهم فِي ذَلِكَ قواعدُ وطرقٌ
يعتنون بها غايةَ الاعتناء، بحيث إِذَا رأوا حمامًا ساقطًا؛ لم يَخْفَ عليهم حَسَبَهَا
ونَسَبَهَا وَبَلَدَهَا، ويُعَظِّمُونَ صاحبَ التجربةِ والمعرفةِ، وتَسْمَحُ أنفسُهم
بالْجُعْلِ الوَافِرِ له، ويختارون لِحَمْلِ الكتبِ والرسائلِ الذكورَ منها، ويقولون:
هو أَحَنُّ إِلَى بيتِهِ لمكانِ أُنْثَاهُ، وهو أشدُّ مَتْنًَا، وأَقْوَى بَدَنًا،
وأَحْسَنُ اهتداءً.
وطائفةٌ منهم يختارون لِذَلِكَ الإناثَ، ويقولون:
الذكر إِذَا سافر وبَعُدَ عهدُه؛ حَنَّ إِلَى الإناثِ، وتاقت نفسُه إِلَيْهِن، فربما
رأى أنثى فِي طريقه ومجيئه، فلا يصبر عَنْها، فيتركُ الْمَسِيرَ، ومالَ إِلَى قضاءِ
وَطَرِه منها.
وهدايتُه على قدر التعليم والتوطين، والحمامُ
موصوفٌ باليُمْنِ والْإِلْفِ للناسِ، ويُحِبُّ الناسَ ويحبونه، ويَأْلَفُ المكانَ،
ويَثْبُتُ على العهدِ والوفاءِ لصاحبه وإن أساء إِلَيْهِ صاحبُه، ويعود إِلى صاحبِه
من مسافاتٍ بعيدةٍ، وربما صَدَّ فَتَرَكَ وَطَنَهُ عَشْرَ حِجَجٍ وهو ثابتٌ على الوفاءِ،
حتى إِذَا وَجَدَ فرصةً واستطاعةً عاد إِلَيْهِ.
الحمامُ إِذَا أرادَ السِّفَادَ؛ يَلْطُفُ للأنثى
غايةَ اللُّطْفِ، وإذا عَلِمَ الذَّكَرُ أَنَّهُ أَوْدَعَ رَحِمَ الأنثى ما يكونُ منه
الولدُ؛ يقوم هو والأنثى بطلبِ القَصَبِ والحشيشِ وصغارِ العِيدَانِ، فَيَعْمَلَانِ
منه أُفْحُوصَةً، ويَنْسِجَانِهَا نَسْجًَا متداخلًا فِي الوضع الَّذِي يكون بقدرِ
حَيْمَانِ الحمامةِ، ويَجْعَلَانِ حروفَها شاخِصَةً مرتفعةً؛ لئلا يَتَدَحْرَجَ عَنْها
البَيْضُ، ويكونُ حصنًا للحاضن، ثم يتعاودان ذَلِكَ المكان، ويتعاقبان الأُفْحُوصَ
يُسَخِّنَانِهِ ويُطَيِّبَانِهِ، ويَنْفِيَانِ طِبَاعَهُ الأولَ، ويُحْدِثَانِ فِيه
طبعًا آَخَرَ مُشْتَقًَّا ومستخْرَجًَا من طِبَاعِ أبدانِهما ورائحتِهما؛ لكي تَقَعَ
البيضةُ - إِذَا وقعت - فِي مكانٍ هو أَشْبَهُ المواضعِ بأرحامِ الحمامِ، ويكون على
مقدارٍ مِنَ الْحَرِّ والْبَرْدِ والرَّخَاوَةِ والصَّلَابَةِ، ثم إِذَا ضَرَبَها الْمَخَاضُ
بادرت إِلَى ذَلِكَ المكانِ، وَوَضَعَتْ فِيه البَيْضَ، فإنْ أَفْزَعَهَا رَعْدٌ قَاصِفٌ
رَمَتْ بالبيضةِ دون ذَلِكَ المكانِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ؛ كالمرأة التي تُسْقِطُ من
الفزع، فإذا وضعت البيض فِي ذَلِكَ المكان؛ لم يزالا يتعاقبان الْحَضْنَ، حتى إِذَا
بلغ الْحَضْنُ مَدَاهُ وانتهت أيامُه؛ انْصَدَعَ عَنْ الفراخِ فأعاناه على خروجه، فيبدآن
أولًا بنفخ الريح فِي حلقه حتى تتسع حَوْصَلَتُهُ، علمًا بأن الحوصلة تضيق عَنْ الغذاء،
فتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتَنْفَتِقُ بعد ارْتِقَاقِهَا، ثم يَعْلَمَانِ أن الحوصلةَ
وإن كَانَت قد اتَّسَعَتْ شيئًا؛ فإنها فِي أول الأمر لا تحتمل الغذاء، فَيَزُقَّانِهِ
بِلُعَابِهِمَا المختلِطِ بالغذاءِ، وفيه قُوَى الطَّعْمِ، ثم يَعْلَمَانِ أن طَبْعَ
الحوصلةِ يَضْعُفُ عَن استمرارِ الغذاء، وأنها تحتاج إِلَى دفع وتقوية لتكون لها بعضُ
المتانة، فَيَلْقُطَانِ من الْغِيطَانِ الْحَبَّ اللَّيِّنَ الرَّخْوَ، ويَزُقَّانِهِ
الفَرْخَ، ثم يزقانه بعد ذَلِكَ الحبَّ الَّذِي هو أقوى وأشدُّ، ولا يزالان يزقانه
بالحب والماء على تدريجٍ بحَسَبِ قوةِ الفَرْخِ، وهو يطلب ذَلِكَ منهما، حتى إِذَا
علما أَنَّهُ قد أطاق اللقطَ منعاه بعضَ المنع؛ ليحتاج إِلَى اللقط ويعتادَه، وإذا
عَلِمَا أن رِئَتَهُ قد قويت ونمت، وأنهما إن فَطَمَاه فَطْمًَا تامًَّا قَوِيَ على
اللَّقْطِ وتَبَلَّغَ لنفسِه؛ ضَرَبَاهُ إِذَا سألهما الزَّقَّ ومَنَعَاهُ، ثم تُنْزَعُ
تلك الرحمةُ العجيبةُ منهما، ويَنْسَيَانِ ذَلِكَ التعطفَ المتمكنَ حينَ يَعْلَمَانِ
أَنَّهُ قد أطاق القيامَ بالتَّكَسُّبِ لنفسه، ثم يبتدآن العمل ابتداءً ذَلِكَ النظام.
ومِنْ عجيبِ هدايةِ الحمامِ: أَنَّهُا إِذَا
حَمَلَت الرسائلَ؛ سَلَكَت الطرقَ البعيدةَ عَنْ القُرَى ومواضعِ الناسِ؛ لئلا يَعْرِضَ
لها مَنْ يَصُدُّها، ولا يَرِدُ مياهَ الناس، بل يَرِدُ المياهَ التي لا يَرِدُها الناسُ.
ومن هدايةِ الحمام: أن الذَّكَرَ والأنثى يَتَقَاسَمَانِ
أَمْرَ الفِرَاخِ، فتكونُ الحَضَانَةُ والتربيةُ والكفالةُ على الأنثى، ويكونُ جَلْبُ
القُوتِ والزَّقُّ على الذكر، فإن الأَبَ هو صاحبُ العيالِ والكاسبُ لهم، والأمُّ هي
التي تَحْبَلُ وتَلِدُ وتُرْضِعُ.
ومن عجيب أمرها: أن رجلًا كَانَ له زوجُ حمامٍ
مقصوصٌ، وزَوْجٌ طَيَّارٌ، وللطََّيَّارِ فَرْخَانِ.
قَالَ: فَفَتَحْتُ لهما فِي أعلى الغرفةِ كُوَّةً
للدخولِ والخروجِ وزَقِّ فِرَاخِهِمَا، قَالَ: فَحَبَسَنِي السلطانُ فَجْأَةً، فاهْتَمَمْتُ
بشأنِ المقصوصِ غايةَ الاهتمامِ – لأنه لا يستطيع الطَّيَرَانَ -، ولم أَشُكَّ فِي مَوْتِهِمَا؛
لِأَنَّهُما لا يَقْدِرَانِ على الخروج مِنَ الكُوَّةِ، وليس عَنْدَهما ما يَأْكُلَانِ
ويَشْرَبَانِ.
قَالَ: فلما خُلِّيَ سبيلي؛ لم يكن لي هَمٌّ
غيرَهما، فَفَتَحْتُ البيتَ، فوجدتُ الفِرَاخَ قد كَبُرَتْ، ووجدتُ المقصوصَ على أحسنِ
حالٍ، فَعَجِبْتُ، فلم أَلْبَثْ أنْ جَاءَ
الزوجُ الطَّيَّارُ، فَدَنَا الزوجُ المقصوصُ إِلَى أفواههما يَسْتَطْعِمَانِهِمَا
كما يَسْتَطْعِمُ الفَرْخُ، فَزَقَّاهُمَا.
فانظر إِلَى هذه الهداية؛ فإن المقصوصَيْنِ لَمَّا
شاهدا تَلَطُّفَ الفِرَاخِ للأبوين، وكيف يَسْتَطْعِمَانِهِمَا إِذَا اشتد بهما الجوعُ
والعطشُ؛ فَعَلَا كَفِعْلِ الفَرْخَيْنِ، فَأَدْرَكَتْهُمَا رحمةُ الطَّيَّارَيْنِ،
فَزَقَّاهما كما يَزُقَّانِ فَرْخَيْهِمَا.
ومن هدايتها أيضًا: أنه إذا رأى الناسَ في الهواء
– يعني أثناءَ الطَّيَرَانِ -؛ عَرَفَ
أيَّ صِنْفٍ يريدُه، وأَيَّ نَوْعٍ مِنَ الأنواعِ ضِدَّه – أيْ مِنَ الناسِ -، فَيُخَالِفُ فِعْلَه
لِيَسْلَمَ منه،
ومن هدايته: أنه ربما في أولِ نُهُوضِهِ كان
غافلًا، َيُمُّر بين النِّسْرِ والعُقَابِ، وبَيْنَ الرَّخَمِ والبَازِيِّ، وبينَ الغُرَابِ
والصَّقْرِ، فَيَعْرِفُ مَنْ يَقْصِدُهُ ومَن لا يَقْصِدُهُ، وإن رَأَى الشَّاهِينَ
– وهو مِنَ الطَّيْرِ الجوارحِ -؛ فكأنه
يَرَى السُّمَّ النَّاقِعَ، وتأخُذُه حَيْرَةٌ كما يَأْخُذُ الشاةَ عند رؤيةِ الذئبِ،
وكما يَأْخُذُ الحمارَ عند مشاهدةِ الأسد.
فهذا من عجيبِ هدايةِ اللهِ تبارك وتعالى لهذا
الخلق.
وذكر العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله:
من عجيب هداية الثعلب: أَنَّهُ إِذَا امْتَلَأَ
مِن الْبَرَاغِيثِ – امتلَأَ جَسَدُه من البراغيث -؛ ماذا
يصنع؟!
يأخذ صُوفَةً بِفَمِهِ، ثم يَعْمِدُ إِلَى ماءٍ
رقيقٍ، فَيَنْزِلُ فِيه قليلًا، حتى ترتفعَ البراغيثُ إِلَى الصُّوفَةِ، فَيُلْقِيهَا
فِي الماءِ ويَخْرُجُ.
ومِنْ عَجِيبِ أمرِ الثعلب: أنَّ ذئبًا أَكَلَ
أولادَه، وكان للذئب أولادٌ، وهُنَاكَ زُبْيَةٌ ـ وهي الرَّابِيَةُ لا يعلوها الماء
ـ، فَعَمَدَ الثعلبُ وأَلْقَى نفسَه فِيها، وحَفَرَ فِيها سِرْدَابًا يَخْرُجُ منه،
ثم عَمَدَ إِلَى أولادِ الذئبِ فَقَتَلَهُم وجلس ناحيةً ينتظرُ الذئب، فلما أَقْبَلَ
وَعَرَفَ أَنَّهُا فَعْلَتُه؛ هَرَبَ قُدَّامَه وهو يَتْبَعُهُ، فأَلْقَى الثعلبُ نفسَه
فِي الزُّبْيَةِ، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءَه، فلم يجده ولم يُطِقِ
الخروجَ، فقتله أهل الناحية.
ومن عجيب أمره: أن رجلًا كَانَ معه دجاجتان،
فاخْتَفَى له وخَطَفَ إحداهما وَفَرَّ، ثم أَعْمَلَ فِكْرَه فِي أخذ الأخرى، فَتَرَاآَى
لصاحبِها من بعيدٍ وفي فمِه شيءٌ شبيهٌ بالطائر، وأَطَمَعَهُ فِي اسْتِعَادَتِها بأنْ
تَرَكَهُ – أي ذلك الذي كان في فمه يشبه الطائر،
فظنه صاحب الدجاجتين الدجاجةَ التي خطفها ومر -، فألقى ما كان في فمه وفر، فظن الرجل
أَنَّهُا الدجاجة، فأسرع نحوَها وخالفه الثعلبُ إِلَى أختها فأخذها وذهب.
ومن عجيب أمره: أَنَّهُ أتى إِلَى جزيرة فِيها
طَيْرٌ، فأَعْمَلَ الْحِيلَةَ؛ كيف يأخذ منها شيئًا، فلم يُطِقْ، فذهب وجاء بضِغْثٍ
من حشيشٍ وألقاه فِي مَجْرَى الماء الَّذِي نحو الطيرِ، ففَزِعَ الطَّيْرُ منه، فلما
عَرَفَت الطيرُ أَنَّهُ حشيش؛ رَجَعَتْ إِلَى أماكِنِها، فعاد الثعلبُ لِذَلِكَ مرةً
ثانيةً وثالثةً ورابعةً حتى تواظبَ الطيرُ على ذَلِكَ وأَلِفَتْهُ، فَعَمَدَ إِلَى
جُرْزَةٍ ـ والْجُرْزَةُ هي الْحُزْمَةُ مِنَ القَتِّ ونحوِه ـ، فَعَمَدَ إِلَى جُرْزَةٍ
أكبرَ من ذَلِكَ الضغثِ، فدخل فِيها وعبر إِلَى الطير، فلم يَشُكَّ الطيرُ أَنَّهُ
مِنْ جِنْسِ ما قَبْلَه، فلم يَنْفِرْ منه، فَوَثَبَ على طائرٍ منها وَعَدَا به.
ومن عجيب أمره: أنه إِذَا اشتد به الجوعُ؛ انْتَفَخَ
وَرَمَى بنفسِه فِي الصحَرَاءِ كَأنَه جيفةٌ، فَتَتَدَاوَلُهُ الطيرُ، فلا يُظْهِرُ
حركةً ولا نَفَسًَا، فلا تَشُكُّ أَنَّهُ ميتٌ، حتى إِذَا نَقَرَ بِمِنْقَارِهِ وَثَبَ
عليها فَضَمَّهَا ضَمَّةَ الموتِ. ومن عجيب أمر الثعلب: أَنَّهُ إِذَا أصاب القُنْفُذَ
قَلَبَه لِظَهْرِهِ لأجلِ شوكِهِ، فيجتمعُ القنفذُ حتى يصيرَ كَبَّةَ شوكٍ، يجتمعُ
على نفسِه حتى يصير شوكة كلَّه؛ فماذا يصنع الثعلب؟! يبول على بطنه ما بين مَغْرِزِ
عَجْبِهِ إِلَى فَكَّيْهِ، فإذا أصاب البولُ القُنْفُذَ؛ اعْتَرَاهُ الأَسْرُ، فانْبَسَطَ،
فَيَسْلُخُه الثعلبُ من بطنه، ويَأْكُلُ مَسْلُوخَه.
ومن عجيبِ أمرِ الذئب: أَنَّهُ عَرَضَ لإنسانٍ
يريدُ قَتْلَهُ، فَرَأَى معه قوسًا وسهمًا، فَذَهَبَ وجاء بِعَظْمِ رَأْسِ جَمَلٍ فِي
فِيهِ وأَقْبَلَ نحوَ الرجلِ، فجَعَلَ الرجلُ كلما رماه بسهمٍ اتَّقَاهُ بذَلِكَ العظمِ،
حتى أعجزه وعاين نَفَاذَ سهامِهِ، فَصَادَفَ مَن استعان به على طَرْدِ الذئب.
من عجيب أمر القرود: ما ذكره البخاري فِي «الصحيح»
عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ الأوديِّ قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ قردًا وقِرْدَةً
زَنَيَا، فاجْتَمَعَ عَلَيْهما القرود،فَرَجَمُوهُما حتى ماتا.
فهؤلاء القرود أقاموا حَدَّ اللهِ حين عَطَّلَهُ
بنو آدم!!
من عجيب أمر الفِئْرَانِ: أَنَّهُا إِذَا شَرِبَتْ
من الزيتِ الَّذِي فِي أعلى الْجَرَّةِ فَنَقَصَ وعَزَّ عليها الوصولُ إِلَيْهِ لَمَّا
غَارَ؛ ذَهَبَتْ وحَمَلَتْ فِي أفواهِها ماءً وَصَبَّتْهُ فِي الْجَرَّةِ حتى يرتفعَ
الزيتُ فَتَشْرَبَهُ.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
والأطباء تزعم أن الْحُقْنَةَ أُخِذَتْ من طائرٍ
طويلِ المِنقارِ، إِذَا تَعَسَّرَ عليه الذَّرْقُ جاء إِلَى البحرِ المالِحِ، وأَخَذَ
بِمِنْقَارِهِ منه واحْتَقَنَ به، فَيَخْرُجُ الذَّرْقُ بسرعة.
وهذا الثعلب إذا أصابه صَدْعٌ أو جُرْحٌ؛ يأتي
إلى صِبْغٍ معروفٍ، فيَأْخُذُ منه ويَضَعُهُ على جُرْحِهِ كالْمَرْهَمِ.
والدُّبُّ إِذَا أصابه جُرْحٌ؛ يأتي إِلَى نَبْتٍ
قد عَرَفَهُ وجَهِلَهُ صاحبُ الحشائشِ – يعني الصَّيْدَلَانِيَّ قديمًا -، فَيَتَدَاوَى به الدُّبُّ
فَيَبْرَأَ.
هذا كله ماذا؟!
هذا كله من الهداية التي جعلها الله رب العالمين
فِي المخلوقات من العناية بخلق الله رب العالمين.
هذا الَّذِي ذكره العلامة الإمام ابن القيم
- رحمه الله تعالى - قليلٌ من كثيرٍ فِي ذَلِكَ الكتابِ الْعَظِيمِ، وهو «شفاء العليل».
وكذَلِكَ ذَكَرَ بعضَ الحكمةِ فِيما يتعلقُ بالخلقِ
جملةً على ترتيبِ أصنافِها فِيما ذَكَرَ.
وكذَلِكَ فِي الأعضاء الإنسانيةِ، والحكمةِ التي
اسْتَجْلَاهَا مِنْ خَلْقِهَا على النحوِ التي هي مخلوقةٌ عليه؛ ذكر ذَلِكَ - رحمه
الله تعالى - فِي كتابِهِ العُجَابِ «مفتاح ُدارِ السعادةِ»، فأطال فِي ذَلِكَ وأطاب
- رحمه الله رحمة واسعة -.
وهذا كله إنما كَانَ لِاسْتِجْلَاءِ بعضِ الحكمةِ
الإلهيةِ فِي هذا الخلقِ الإنسانيِّ وهو يتكلمُ عَن الحكمة، وأن الله ربَّ العالمين
لم يَخْلُقْ شيئًا إلا لحكمةٍ، فليس فِي هذا الكونِ كلِّه من شيءٍ مخلوقٍ إلا على مقتضى
الحكمةِ خُلِقَ، وعلى مقتضى الْعِلْمِ وُجِدَ، والله رب العالمين هو العليم الحكيمُ،
وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القادرُ القَدِيرُ المقتدرُ، وهو على كل شيء قدير.
فأمثال هذه الأمور ينبغي على المسلم قَبْلَ الملحدِ!
قبل الشَّاكِّ! قَبْلَ المشركِ! أن يتأمل فِيها؛ فهَؤُلَاءِ أئمتنا - عليهم الرحمة
- اعْتَنَوْا بأمثالِ هذه الأمورِ هذه العنايةَ الفائقةَ.
وكما قلتُ لك: لو تأملتَ فِي كلامِ العلامةِ
ابنِ القيمِ - رحمه الله تعالى - فِي أمثال هذه المسائل؛ فكأنما يُخَامِرُكَ حينئذٍ
كثيرٌ من الظن أن هذا الرجلَ قد ضَرَبَ بسهمٍ وَافِرٍ فِي جميعِ علومِ عصرِه، فكان
طبيبًا صيدلانيًا، وكان عالمًا من علماءِ الطيورِ، عالمًا من علماء الحيوان، عالمًا
من علماء الحشرات - رحمه الله رحمة واسعة -.
فهذا مما ذكره - رحمه الله تعالى - فِي هذا الكتاب،
وكلُّه من دليلِ العنايةِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ به الْعلماءُ - رحمهم الله تعالى - على
وُجُود الخَالِق الْعَظِيم الَّذِي لم يَخْلُقْ شيئًا سُدَى، ولم يَتْرُك الناسَ فِي
الْأَرْضِ بغيرِ هدايةٍ وعنايةٍ ورعايةٍ، أَرْسَلَ إِلَيْهِم الرُّسُلَ، وأَنْزَلَ
عليهم الكُتُبَ، وَهَدَى كلَّ مخلوقٍ لِمَا به قِوَامُ حياتِه؛ فالحمد لله الَّذِي
هَدَانَا لهذا وما كنا لِنَهْتَدِيَ لو لا أنْ هَدَانَا اللهُ.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.