((التَّاجِرُ الْأَمِينُ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَمَلِ وَالتَّكَسُّبِ))
فَقَدْ حَثَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].
فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وَآخَرُونَ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ؛ مِنْ أَجْلِ مَعَايِشِهِمْ يَطْلُبُونَ مِنْ رِزْقِ اللهِ.
وَجَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقِ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمْ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنْ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ؛ لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.
وَأَمَرَ اللهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَطَالِبِ دُنْيَاهُ بِالْعَمَلِ وَالْجِدِّ، أَوْ مَطَالِبِ آخِرَتِهِ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].
فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِي وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجَعْلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي خَلْقِ اللهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَتَسْخِيرِهَا لِلْإِنْسَانِ، يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الصِّنَاعَاتِ الْحَدِيثَةِ قَامَتْ بِسَبَبِ هَذَا التَّسْخِيرِ وَالتَّذْلِيلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].
اللهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.
وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.
اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.
وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَابِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛ فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِذَا كَانَتْ مُهِمَّةُ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ هِيَ إِعْمَارَ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَتَحَقَّقَ إِلَّا بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ بُلُوغِ الْهَدَفِ، فَالْحَيَاةُ بِلَا عَقِيدَةٍ وَعَمَلٍ مَوَاتٌ.
وَالْإِنْسَانُ أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْقُوَى وَالطَّاقَاتِ مَا يَجْعَلُهُ قَادِرًا -بِإِذْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِعَانَتِهِ- عَلَى قِيَادَةِ سَفِينَةِ الْحَيَاةِ بِالْعَمَلِ الْجَادِّ الْمُنْتِجِ الَّذِي يَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ بِالْخَيْرِ الْعَمِيمِ .
وَمِنْ هُنَا كَانَ اهْتِمَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْعَمَلِ اهْتِمَامًا بَالِغًا؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا مَا يُرْشِدُنَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ.. يُرْشِدُنَا إِلَى ضَرُورَةِ الْعَمَلِ الْجَادِّ، وَيَحُثُّنَا عَلَى إِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانَتَفَعَتْ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَجْرَي لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا -حِينَئِذٍ-، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَبَيَّنَ ﷺ ثَمَرَةَ الْعَمَلِ الْجَزِيلَةَ، وَوَضَّحَ أَجْرَ نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.
إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.
وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.
وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ، وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.
وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.
وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ، عَامِلِينَ بِقَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ؛ هُمَا: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَالْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ فِي أَصْلِ هَذَا الدِّينِ:
*الْأُولَى: هِيَ قَاعِدَةُ التَّوَكُّلِ.
*وَالثَّانِيَةُ: قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ.
وَالْحَدِيثُ يُفْهَمُ فَهْمًا مَضْبُوطًا، وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي فَهْمِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَغْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ فِي الْوُكُنَاتِ وَفِي الْأَعْشَاشِ لَا تَبْقَى فِي أَعْشَاشِهَا، وَإِنَّمَا تُبَكِّرُ فِي الذَّهَابِ لِالْتِقَاطِ رِزْقِهَا.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»: وَالْغُدُوُّ: هُوَ الْخُرُوجُ فِي بُكْرَةِ النَّهَارِ، فَتَغْدُو هَذِهِ الطُّيُورُ مِنْ أَعْشَاشِهَا وَوُكُنَاتِهَا مِنْ أَجْلِ الْتِقَاطِ رِزقِهَا مُبَكِّرَةً مَعَ خُيُوطِ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ، سَاعِيَةً فِي أَرْضِ اللهِ، لَكِنَّهَا لَا تَحْمَلُ لِرِزْقِهَا هَمًّا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْزُقُهَا كَمَا رَزَقَهَا الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ رِزْقٍ، وَالْحَيَاةُ وَالْأَجَلُ يَرْتَبِطَانِ بِالرِّزْقِ ارْتِبَاطًا مُبَاشَرًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَحْيَا كَائِنٌ حَيٌّ بِغَيْرِ رِزْقٍ، يَقُولُ النَّاسُ: «فُلَانٌ حَيٌّ يُرْزَقُ»، وَلَنْ تَجِدَ أَبَدًا أَنَّ فُلَانًا حَيٌّ لَا يُرْزَقُ، فَارْتِبَاطُ الْأَجَلِ بِالرِّزْقِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ بِصَيْرُورَةٍ تَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا أَجَلَ وَلَا رِزْق.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الطُّيُورَ تَغْدُو مُبَكِّرَةً مِنْ أَعْشَاشِهَا، تَطْلُبُ رِزْقَهَا، تَلْتَقِطُهُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، لَا تَحْمِلُ لَهُ هَمَّا، «خِمَاصًا»: جَمْعُ أَخْمَصٍ، وَهَذَهِ الْحَوَاصِلُ الْخُمْصُ قَدْ الْتَزَقَتْ لُحُومُهَا بِبَعْضِهَا، بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَحْوِي شَيْئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»: وَقَدْ امْتَلَأَتْ بُطُونُهَا وَحَوَاصِلُهَا، مِنْ أَيْنَ؟!!
مِنْ رِزْقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
هَلْ قَدَّرَتْ لِذَلِكَ تَقْدِيرًا؟!!
هَلْ وَضَعَتْ لَهُ خُطَّةً لِلْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ اكْتِسَابِهِ؟!!
إِنَّمَا أَخَذَتْ بِالْأَسْبَابِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَيَدْخُلُ فِي أَسْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا يَدَّعِي رِزْقًا، وَلَا يَدَّعِي حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ لِأَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُهُ وَهُوَ رَازِقُهُ، وَهُوَ مَالِكُ أَمْرِهِ، وَنَاصِيتُهُ بِيَدِهِ.
وَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ فِيهِ، وَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ فِيهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ فَهَذَا مَوْكُولٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَا يُعَوِّلُ الْمَرْءُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ كَثِيرًا بِالْأَسْبَابِ وَلَا يُحَصِّلُونَ شَيْئًا مِنَ النَّتَائِجِ.
((الْعَمَلُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ))
((إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].
وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).
وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].
وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟
قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ))؛ أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ؛ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)). هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يَكْتَسِبُ مِنْهَا، فَلَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ شُغِلَ عَنْ حِرْفَتِهِ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرَضَ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَآلُهُ.
وَقَوْلُهُ: ((وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ))؛ أَيْ: أَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَمْيِيزِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ -وَكَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مَشْغُولًا-، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى...)) الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!))؛ يَتَعَجَّبُ مِنْ حَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ: ((أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ))؛ يَعْنِي: الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ.
الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ يُتَاجِرُ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَمَّا فَاتَتْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ سُنَنِ الِاسْتِئْذَانِ صَارَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، قَالَ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ)).
وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ)).
فَقَالَا: ((كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَ((الصَّرْفُ)): مُبَادَلَةُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ، يُعْرَفُ الْآنَ بِبَيْعِ الْعُمْلَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).
قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)).
هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ.
قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.. فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-...)).
وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثُ.
قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!
فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-)).
((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ))
لَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَضْلِ الِاكْتِسَابِ؛ ((فَفِي الِاكْتِسَابِ وَالْعَمَلِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ:
*فِيهِ: مَعْنَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
*وَفِيهِ: طَلَبُ الْفَضْلِ مِنْهُ؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].
*وَأَيْضًا، يُسْتَعَانُ بِالِاكْتِسَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].
*وَبِالِاكْتِسَابِ يَتَعَفَّفُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
*وَفِي الِاكْتِسَابِ: الِانْشِغَالُ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ فَضْلِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ الشُّغُلُ بِالْأَمْرِ الْمُبَاحِ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، وَفِيهِ كَسْرُ النَّفْسِ بِذَلِكَ)).
*وَمِنْ فَضَائِلِ الِاكْتِسَابِ: أَنَّ فِي الْعَمَلِ قُوَّةً لِلْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحَّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.
فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.
((التِّجَارَةُ فِي الْإِسْلَامِ))
((إِنَّ التِّجَارَةَ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، وَقَدْ نَدَبَ إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَعَظَّمَ شَأْنَهَا، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهَا الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا وَحَافَظُوا عَلَى مَا أَوْجَبَ اللهُ، وَابْتَعَدُوا عَمَّا حَرَّمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وَالتِّجَارَةُ هِيَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَهَمِّ طُرُقِ الْكَسْبِ، وَهِيَ عَمَلُ الْمُهَاجِرِينَ؛ لَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ فِي عَهْدِ النِّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اشْتَغَلُوا بِالتِّجَارَةِ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَشْتَغِلُونَ بِالزِّرَاعَةِ.
وَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنِ الْجَمِيعِ-، فَقَالَ الْأَنْصَارُ: ((نَحْنُ نَكْفِيكُمُ الْمَؤُونَةَ، وَنَشْرَكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ)).
فَصَارَ الْأَنْصَارُ يَعْمَلُونَ وَيُسَاعِدُونَ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الثَّمَرَةِ؛ حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَمَّا آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، آخَى بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ سَعْدٌ: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! أَنْزِلُ لَكَ عَنْ نِصْفِ مَالِي، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيَّ)).
عِنْدَهُ زَوْجَتَانِ، قَالَ: ((أَنْزِلُ عَنْ إِحْدَاهُمَا، فَإِذَا اعْتَدَّتْ تَأْخُذُهَا تَتَزَوَّجُهَا)).
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَذَهَبَ وَاشْتَرَى مَا تَيَسَّرَ مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي حَتَّى يَسَّرَ اللهُ لَهُ الْمَالَ الْكَثِيرَ، وَتَزَوَّجَ))، وَحَصَلَ عِنْدَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَزَلْ فِي أَرْبَاحٍ مِنَ التِّجَارَةِ، ثُمَّ مِنَ الْغَنَائِمِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ)).
((التِّجَارَةُ: هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
قَالَ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((..عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ قَالَ: التِّجَارَةُ: رِزْقٌ مِنْ رِزْقِ اللهِ، وَحَلَالٌ مِنْ حَلَالِ اللهِ لِمَنْ طَلَبَهَا بِصِدْقِهَا وَبِرِّهَا، وَقَدْ كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ التَّاجِرَ الْأَمِينَ الصَّدُوقَ مَعَ السَّبْعَةِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَتَعَاطَوُا الْأَسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ فِي اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ, وَلَكِنِ الْمَتَاجِرُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي تَكُونُ عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَافْعَلُوهَا، وَتَسَبَّبُوا بِهَا فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ))
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: ((سَوَّى اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ الْمَالَ الْحَلَالَ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ، فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُ مَعَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْبَيْعَ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: ((بَابٌ: صَدَقَةُ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267])).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -أَيْضًا-: ((بَابٌ: الْخُرُوجُ فِي التِّجَارَةِ وَقَوْلُ اللهِ -تَعَالَى-: {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ} [الجمعة: 10])).
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَوَرَدَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي التِّجَارَةِ؛ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَتْ عُكَاظٌ ومَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَنَحْنُ نُسَمَّى السَّمَاسِرَةَ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالْإِثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ؛ فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ)).
قَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَمَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ فِي تِجَارَتِهِ كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَمَنْ تَوَخَّى خِلَافَهُمَا كَانَ فِي قَرَنِ الْفُجَّارِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَالْعَاصِينَ)).
((السُّوقُ.. كَانَ يَتَعَاهَدُهُ الْفُضَلَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِتَحْصِيلِ الْمَعَاشِ لِلْكَفَافِ، وَلِلتَّعَفُّفِ عَنِ النَّاسِ)))).
((عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ بِالتِّجَارَةِ))
فِي الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِ النَّبِيِّ الْمُبَارَكِ ﷺ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ -أَيْ: تُضَارِبُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَالْمُضَارَبَةُ: أَنْ تُعْطِيَ مَالًا لِغَيْرِكَ يَتَّجِرُ فِيهِ، فَيَكُونُ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْمُضَارَبَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَالسَّيْرِ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ-.
فَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَا رَجُلٌ لَا مَالَ لِي، وَقَدِ اشْتَدَّ الزَّمَانُ عَلَيْنَا، وَهَذِهِ عِيرُ قَوْمِكَ، وَقَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إِلَى الشَّامِ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تَبْعَثُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِكَ فِي عِيرَاتِهَا -جَمْعُ عِيرٍ، وَهِيَ الْإِبِلُ بِأَحْمَالِهَا- فَلَوْ جِئْتَهَا، فَعَرَضْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهَا لَأَسْرَعَتْ إِلَيْكَ؛ لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وَفَضْلِكَ عَلَى غَيْرِكَ)).
فَبَلَغَ خَدِيجَةَ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُ: ((أَنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ)).
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: ((هَذَا رِزْقٌ قَدْ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ!)).
ثُمَّ خَرَجَ ثَانِيًا ﷺ فِي تِجَارَةٍ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، يَعْنِي: بَعْدَمَا خَرَجَ أَوَّلًا مَعَ عَمِّهِ إِلَى الشَّامِ، خَرَجَ ثَانِيًا إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ غُلَامِهَا (مَيْسَرَةَ) عَلَى سَبِيلِ الْقِرَاضِ -وَالْقِرَاضُ: الْمُضَارَبَةُ-، فَرَأَى مَيْسَرَةُ مَا بَهَرَهُ مِنْ شَأْنِهِ، فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ سَيِّدَتَهُ خَدِيجَةَ بِمَا رَأَى، فَرَغِبَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِمَا رَجَتْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لَهَا، وَفَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ.
فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهِيَ أُولَى زَوْجَاتِهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَكَانَ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَيُظْهِرُ حُبَّهَا، وَيَتَأَثَّرُ لِذِكْرَاهَا، وَيَنْبَسِطُ لِمَنْ يَذْكُرُهَا عِنْدَهُ، وَيُذَكِّرُهُ بِهَا.
((صِفَاتُ التَّاجِرِ الْأَمِينِ))
((إِنَّ التِّجَارَةَ فِي الْإِسْلَامِ تَحْكُمُهَا ضَوَابِطُ وَقِيَمٌ أَخْلَاقِيَّةٌ يَنْبَغِي لِلتُّجَّارِ التَّحَلِّي بِهَا، وَهَذِهِ الضَّوَابِطُ وَالْقِيَمُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-، وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَمِنْ سِيَرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ فِي تَعَامُلِهِمُ التِّجَارِيِّ.
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ جَمِيعًا، وَالْعَدْلُ سَبَبُ النَّجَاةِ فَقَطْ، وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التُّجَّارِ مَجْرَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالْإِحْسَانُ سَبَبُ الْفَوْزِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ، وَهُوَ يَجْرِي مِنَ التِّجَارَةِ مَجْرَى الرِّبْحِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ قَنَعَ فِي مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا بِرَأْسِ مَالِهِ، فَكَذَا فِي مُعَامَلَاتِ الْآخِرَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَدَيِّنِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ، وَيَدَعَ أَبْوَابَ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، وَنَعْنِي بِالْإِحْسَانِ: فِعْلَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَامِلُ، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنَّهُ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْعَدْلِ وَتَرْكِ الظُّلْمِ)).
((إِنَّ التَّاجِرَ الصَّادِقَ مَعَ اللهِ وَمَعَ نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُوَازِنُ بَيْنَ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، فَيُعْطِي كُلًّا حَقَّهُ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَقَالَ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُلْهِيهِمْ} أَيْ: لَا تَشْغَلُهُمْ {تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}؛ خَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يَشْتَغِلُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنِ الصَّلَاةِ {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}؛ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ؛ فَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي: حُضُورَ الصَّلَاةِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: الْمَكْتُوبَةُ، وَقِيلَ: عَنِ الْأَذَانِ؛ ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ، وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى؛ أَيْ: يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ.
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ سَالِمٌ: جَازَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بِالسُّوقِ وَقَدْ أَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَقَامُوا لِيُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ، فَقَالَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ} الْآيَةَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هُمُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ)).
وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، أَحَدُهُمَا بَيَّاعًا، فَإِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمِيزَانُ بِيَدِهِ طَرَحَهُ وَلَا يَضَعُهُ وَضْعًا، وَإِنْ كَانَ بِالْأَرْضِ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَكَانَ الْآخَرُ قَيْنًا يَعْمَلُ السُّيُوفَ لِلتِّجَارَةِ، فَكَانَ إِذَا كَانَتْ مَطْرَقَتُهُ عَلَى السِّنْدَانِ أَبْقَاهَا مَوْضُوعَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَفَعَهَا أَلْقَاهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- هَذَا؛ ثَنَاءً عَلَيْهِمَا وَعَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} غَيْرُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تِكْرَارًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّكَاةُ هُنَا طَاعَةُ اللهِ -تَعَالَى- وَالْإِخْلَاصُ؛ إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مَالٌ.
{يَخَافُونَ يَوْمًا}: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} يَعْنِي: مِنْ هَوْلِهِ وَحَذَرِ الْهَلَاكِ)) )).
لِلتَّاجِرِ الْأَمِينِ صِفَاتٌ حَمِيدَةٌ وَخِصَالٌ شَرِيفَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا؛ مِنْهَا: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ لِإِعْفَافِ نَفْسِهِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى عِيَالِهِ، وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ ثَرْوَاتِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْجَرُ بِهِ الْعَبْدُ، وَلَا يَكُونُ هَمُّهُ جَمْعَ الْأَمْوَالِ تَكُثُّرًا وَبَطَرًا وَأَشَرًا وَإِعْجَابًا.
فَطَلَبُ الْكَسْبِ وَطَلَبُ الرِّبْحِ وَالْمَالِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُؤَسَّسًا عَلَى نِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَذَلِكَ لِإِعْفَافِ نَفْسِهِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى عِيَالِهِ، وَلِإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ ثَرْوَاتِهِمْ، وَلِحِيَاطَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْجَرُ بِهِ الْعَبْدُ.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ: لُزُومُ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ)) )) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ.
((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ...)): قَالَ الطِّيبِيُّ: ((خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَكَانُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ؛ فَهُوَ مَوْضِعُ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ، وَمَجْمَعُ جُنُودِهِ، فَالذَّاكِرُ هُنَاكَ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُ، فَهُوَ خَلِيقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الثَّوَابِ)).
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ؛ وَذَلِكَ بِالدِّرَاسَةِ الْجَيِّدَةِ لِإِتْقَانِ مِهْنَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، وَمَعْرِفَةِ إِيجَابِيَّاتِهِ وَسَلْبِيَّاتِهِ، وَمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِيهِ، وَاتِّخَاذِ أَحْسَنِ السُّبُلِ الَّتِي فِي مَقْدُورِهِ لِتَحْصِيلِ أَحْسَنِ النَّتَائِجِ بِمُزَاوَلَةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- -: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنَّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
فَيَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ مُتَوِّكِلًا عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَالِقِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: ((وَاسْتَعِنْ بِاللهِ))، فَمَنْ أَخَذَ بِالْأَسْبَابِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ، لَا أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ، بَلْ يَكُونُ مُتَوَكِّلًا وَمُسْتَعِينًا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُعَلِّقًا قَلْبَهُ بِرَبِّهِ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ الِانْشِغَالِ بِتِجَارَتِهِ عَنِ الطَّاعَاتِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُدَاوِمًا عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي تَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وَقَدْ أَثْنَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وَذَمَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- آخَرِينَ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].
قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ-: ((لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَفِيهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ)).
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: طَلَبُ الرِّزْقِ الْحَلَالِ؛ قَالَ تَعَالَى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168].
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ»: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ)) .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَوَرَدَ الذَّمُّ فِيمَنْ لَا يُبَالِي مَنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ؛ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ؛ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ وَلَا مَا أَخَذَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ! هُوَ لَا يُبَالِي!!
نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ.
مِنْ أَهَمِّ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: تَعَلُّمُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ، فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى مَنْ يُزَاوِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((السُّنَنِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ-: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) .
فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ صَحِيحَ الْعُقُودِ مِنْ فَاسِدِهَا؛ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامِ.
وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ وَيَضْرِبُ بَعْضَ التُّجَّارِ بِالدِّرَّةِ، وَيَقُولُ: ((لَا يَبِعْ فِي سُوقِنَا هَذَا إِلَّا مَنْ تَفَقَّهَ، وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا شَاءَ أَمْ أَبَى)) .
فَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْبَيْعِ فِي السُّوقِ إِلَّا مِمَّنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا شَاءَ أَمْ أَبَى.. كَمَا قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: السَّمَاحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)). وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِهِ: ((فِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالُ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ، وَتَرْكُ الْمُشَاحَّةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى أَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ)).
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: إِنْظَارُ الْمُوسِرِ وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُعْسِرِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟
قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: ((أَنْظِرُوا الْمُوسِرَ، وَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ -هُوَ-: ((كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).
قَالَ: ((فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)).
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَإِذَا أَعْسَرَ الْمَدْيُونُ وَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ضَرْبِهِ وَلَا إِلَى حَبْسِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَأَرْجَحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِثْلِهِ يُعَدُّ يَسَارًا فَهُوَ مُوسِرٌ، وَعَكْسُهُ بِعَسْكِهِ)).
فَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ))، وَبِنَحْوِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَبْلُ -رَحِمَ اللهُ عُلَمَاءَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَجْمَعِينَ-.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ التاجرُ الْغِشَّ وَالْكَذِبَ؛فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَمِينًا، وَلْيَحْذَرِ الْكَذِبَ وَالْكِتْمَانَ مَعَ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَهُمْ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْعُمَلَاءِ؛ فَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ -مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى كَوْمَةٍ مِنْ طَعَامٍ-، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ ﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ)) ؛ أَيْ: إِلَّا أَخْبَرَ الْمُشْتَرِيَ.
هَذِهِ آدَابُ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ قَوَاعِدُهُ: لَا غِشَّ، وَلَا خِدَاعَ، وَلَا تَدْلِيسَ، وَلَا تَزْيِيفَ.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ تَرْوِيجِ السِّلْعَةِ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْحَلِفُ مُنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ)).
وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((الْحَلِفُ الْكَاذِبُ..)).
وَمَعْنَى: ((مَنْفَقَةٌ))؛ أَيْ: يَكْثُرُ الْمُشْتَرُونَ وَيَرْغَبُونَ فِي سِلْعَتِهِ بِسَبَبِ حَلِفِهِ، ((مَمْحَقَةٌ)): مِنَ الْمَحْقِ وَهُوَ النَّقْصُ وَالْإِعْطَالُ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، قَالَهَا النَّبِيُّ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا.. مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((الْمُسْبِلُ))؛ وَهُوَ الَّذِي يُطِيلُ ثَوْبَهُ أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ، وَالْكَعْبُ: الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبِ الرِّجْلِ.. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَا سُئِلَ عَنْهُمْ، قَالَ: ((الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)) .
فَهَذَا -كَمَا تَرَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُجَانِبَهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمُعَامَلَتِهِ مَعَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ غَيْرِهِمْ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بِغَشَّاشٍ بِحَالٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ -الَّذِي يَمُنُّ بِالْعَطِيَّةِ يُعْطِيهَا، لَوْ لَمْ يُعْطِ لَكَانَ أَحْسَنَ- وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ))؛ الَّذِي يُرَوِّجُ السِّلْعَةَ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، هَذَا مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَهَؤُلَاءِ خَابُوا وَخَسِرُوا كَمَا قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: الْإِكْثَارُ مِنَ الصَّدَقَاتِ.. لِمَاذَا؟!!
لِكَيْ يُطَهِّرَ الْمَالَ مِمَّا قَدْ يَشُوبُهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِثْمِ؛ فَعَنْ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَنَحْنُ نُسَمِّي السَّمَاسِرَةَ، فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ، قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالْإِثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ؛ فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
السِّمْسَارُ أَعْجَمِيٌّ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُعَالِجُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مِنَ الْعَجَمِ، فَتَلَقَّى الْعَرَبُ هَذَا الْاسْمَ عَنْهُمْ، فَغَيَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى التِّجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَنَحْنُ نُسَمِّي السَّمَاسِرَةَ، فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالْإِثْمَ يَحْضُرَانِ الْبَيْعَ؛ فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ)).
وَالصَّدَقَاتُ مِنْ أَسْبَابِ زِيَادَةِ أَرْبَاحِ التَّاجِرِ وَمِنْ سُبُلِ تَوَلِّي اللهِ أُمُورَهُ.. الصَّدَقَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ، وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْمُلِمَّاتِ.
قَالَ ﷺ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ -يَقُولُ لِلسَّحَابِ مُخَاطِبًا: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، بِاسْمِهِ-.
فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنَ الشِّرَاج -يَعْنِي: مَسِيلًا مِنْ مَسَايَلِ الْمَاءِ- قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ -الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ الصَّوْتَ- فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ؛ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَةٍ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ -وَالْمِسْحَاةُ مِجْرَفَةٌ مِنْ حَدِيدٍ-.
فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: فُلَانٌ -لِلْاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ-.
فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، لِمَ سَأَلْتَنِي عَنْ اسْمِي؟
قَالَ: سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ -لِاسْمِكَ-، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟
قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثَهُ، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فَيَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ، -يَعْنِي: فِي إِصْلَاحِهَا-.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: أَنْ يَفِيَ الْمَدِينُ بِالدَّيْنِ إِذَا حَلَّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهِيَ الْحَوَالَةُ، ((فَإِنَّهُ إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ -أَيْ: عَلَى غَنِيٍّ- فَلْيَتْبَعْ)). الْحَدِيثُ مُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
وَالْمَطْلُ: مَنْعُ قَضَاءِ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ.
فَـ((مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ؛ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)).
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ؛ فَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.
وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالْجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.
وَالْمَكَايِيلُ: جَمْعُ: مِكْيَالٍ، وَهُوَ وِعَاءُ الْكَيْلِ.
وَالْكَيْلُ: تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ آلَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ تُسَمَّى الْمِكْيَالَ.
وَالْمَوَازِينُ: جَمْعُ: مِيزَانٍ، وَهُوَ آلَةُ الْوَزْنِ، وَالْوَزْنُ: تَقْدِيرُ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ الْمِيزَانِ.
وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ وُجُودُ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تُساعِدُهُمْ عَلَى تَحْدِيدِ مَقَادِيرِ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ، فَيَأْخُذُ الشَّخْصُ مَا يَجِبُ لَهُ تَامًّا، وَيُعْطِي مَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ أَيْضًا.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9].
وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ الْمَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا».
وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلَاعُبَ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].
وَالْوَيْلُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَتَهَدَّدُ بِهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- أُولَئِكَ الَّذِينَ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَبَاعُوا ذِمَمَهُمْ، وَتَعَدَّوْا عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ.
وَقَدْ حَذَّرَ نَبِيُّ اللهِ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ وَالتَّطْفِيفَ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84-85].
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ وَاللُّغَةِ وَالْمَوْطِنِ شُعَيْبًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ: يَا قَوْمِ! وَحِّدُوا اللهَ وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَكُمْ فِي الْوَاقِعِ وَالْحَقِيقَةِ مِنْ مَعْبُودٍ حَقٍّ يَصِحُّ أَنْ يُعْبَدَ سِوَاهُ.
وَلَا تَكِيلُوا وَتَزِنُوا لِلْغَيْرِ نَاقِصًا وَتَسْتَوفُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لِأَنْفُسِكُمْ زَائِدًا، إِنِّي أَرَاكُمْ فِي نِعْمَةٍ وَسَعَةٍ تُغْنِيكُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يُدْرِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِالْعَذَابِ فَيُهْلِكَكُمْ جَمِيعًا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَحْقِيقِ الْجَزَاءِ.
وَيَا قَوْمِ! أَتِّمُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَافِيَيْنِ بِالْعَدْلِ، وَلَا تُطَفِّفُوا فِيهِمَا، وَلَا تَنْقُصُوا النَّاسَ مِمَّا اسْتَحَقُّوهُ شَيْئًا، وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْافِرِينَ.
إِنَّ هَذَا الدَّاءَ الخَطِيرَ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَادَةً مِنْ جَشَعِ النَّفْسِ، وَخَرَابِ الضَّمِيرِ، وَقِلَّةِ الخَشْيَةِ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ: «إِنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا فِيهِ هَلَكَتِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَكُمْ».
قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: «وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ يَبِيعُ بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ جِبَالَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «وَلَمْ يُنْقِصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ».
فَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْعَدْلِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشِّرَاءِ وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ الظُّلْمَ، وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْعِبَادِ مُحَرَّمًا.
مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: اجْتِنَابُ الْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْخَبِيثَةِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ غِشِّ النَّاسِ؛ فَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَ الضَّمَائِرِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تُرَاقِبُ رَبَّهَا، وَحَذَّرَ كُلَّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ خِدَاعَ النَّاسِ وَأَكْلَ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْغِشِّ؛ فَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ أَنْ يَبِيعَ الْإِنْسَانُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَمِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ: عَدَمُ احْتِكَارِ السِّلَعِ؛ فَالِاحْتِكَارُ يُمَثِّلُ تَلَاعُبًا بِأَقْوَاتِ النَّاسِ، وَيَضُرُّ بِالْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.. احْتِكَارُ السِّلَعِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) » .
رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ.
وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى: لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.
إِنَّ الأُمَّةَ تُعَانِي فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الوَبِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَنَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَنْ فَعَلَهُ؛ وَهُوَ الِاحْتِكَارُ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّجَّارِ الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ فِي السِّلَعِ الغِذَائِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ حَاجَةً مَاسَّةً، يَقُومُونَ بِهَذَا العَمَلِ الشَّنِيعِ، وَيَتَوَفَّرُونَ عَلَى صَنِيعِهِ، مِمَّا يُؤَدِّي بِالأُمَّةِ إِلَى الوُقُوعِ فِي الفَوْضَى، وَالِاضْطِرَابِ فِي النِّظَامِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِكَارَ يَكُونُ فِي حَالِ الضِّيقِ وَالضَّرُورَةِ، لَا فِي وَقْتِ السَّعَةِ؛ وَفِي الْبَلَدِ الصَّغِيرِ عَادَةً؛ وَمِنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْبَيْعِ مِمَّا يَضُرُّ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ -أَيْضًا- عَلَى أَنَّ الِاحتِكَارَ حَرَامٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الْأَقْوَاتِ، وَالطَّعَامِ؛ طَعَامِ الْإِنْسَانِ، مِثْلِ: الحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَمَا أَشْبَهَ، وَالتِّينِ، وَالْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَاللَّوْزِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْبَدَنُ.
وَكَذِلِكَ يَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي طَعَامِ الْبَهَائِمِ؛ كَتِبْنٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عَلَفِ الدَّوَابِّ؛ فَيَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ فِيهَا.
وَيَحْرُمُ الِاحْتِكَارُ -أَيْضًا- عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ، لَا فِي وَقْتِ السَّعَةِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ الِاحْتِكَارُ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، مِنَ الْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ، وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، أَوْ كُلِّ مَا أَضَرَّ بِالنَّاسِ حَبْسُهُ، قُوتًا كَانَ أَوْ لَا، وَلَوْ ثِيَابًا، أَوْ دَرَاهِمَ.
كَمَا يَصْنَعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ يُرِيدُونَ الشَّرَّ لِلْأُمَّةِ، وَمِمَّنْ يَتَعَامَلُونَ عَلَى غَفْلَةٍ، وَلَا يَنْظُرُونَ فِي مَآلَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَوَفَّرَتْ عُمْلَةٌ صَعْبَةٌ، تَوَفَّرُوا هُمْ عَلَى الِاسْتِحْوَاذِ عَلَيْها وَكَنْزِهَا؛ فَتَظَلُّ الْأَزْمَةُ قَائِمَةً، بَلْ إِنَّهَا تَزْدَادُ عُتُوًّا -وَإِلَى اللهِ الْمشْتَكَى-.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْجُمْهُورَ خَصُّوا الِاحْتِكَارَ بِالْقُوتَيْنِ: قُوتِ النَّاسِ، وَقُوتِ الْبَهَائِمِ؛ نَظَرًا لِلْحِكْمَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ؛ وَهِيَ: دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَالْأَغْلَبُ فِي ذَلِكَ إِنَّما يَكُونُ فِي الْقُوتَيْنِ. وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ -أَيْ: مَنَعُوا الِاحْتِكَارَ- مُطْلَقًا.
فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى مَآلَاتِ الْأُمُورِ، وَلْيَحْرِصُوا عَلَى أَنْ يُرْضُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ.
وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي دِينِهِمْ، وَفِي إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمُ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدَّوَابِّ؛ فَإِنَّ الِاحْتِكَارَ لِقُوتِ الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا مَرَّ-.
فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِكَارَ لِقُوتِ الدَّوَابِّ لَا يَجُوزُ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ، فَكَيْفَ بِاحْتِكَارِ أَقْوَاتِ الْبَشَرِ، أَقْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ؟!!
عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَفِيئُوا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَعَاصِيهِمْ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبَذْلِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ -وَهُوَ عَلَى عَكْسِ مَا يَفْعَلُونَ-: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ، حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ؛ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ.
إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ بِهَذَا الْعَمَلِ الشَّنِيعِ: وَهُوَ احْتِكَارُ مُتَطَلَّبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَحَبْسُهَا حَتَّى يَغْلُوَ سِعْرُهَا وَثَمَنُهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَكَسَّبُوا بِمُسْتَقْبَلِ بَلَدِهِمُ الْمُسْلِمِ، حَتَّى يَنْهَارَ وَحَتَّى تَضْمَحِلَّ قُوَى الْإِسْلَامِ فِيهِ؟!! فَهَذِهِ خِيَانَةٌ عُظْمَى.
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ التَّاجِرِ الْأَمِينِ الصَّادِقِ، وَلَوْ أَنَّ التَّاجِرَ تَحَلَّى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْخِصَالِ النَّبِيلَةِ؛ لَآتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا عَظِيمًا، وَحَبَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ فَشُؤْمٌ لَا يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا كُلُّ شَرٍّ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا التَّوْحِيدَ وَالِاتِّبَاعَ، إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ-.
((نَصَائِحُ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ لِتُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ))
النِّبُّي ﷺ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا أَعْلَمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهُ مِمَّا فِيهِ نَفْعٌ لَهُمْ إِلَّا بَيَّنَهُ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ فِيهِ شَرٌّ حَذَّرَهُمْ مِنْهُ، قال ﷺ: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ)).
وَمِمَّنِ اخْتَصَّهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ التُّجَّارَ؛ فَرَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ التُّجَّارَ فِي الصِّدْقِ، وَرَهَّبَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَمِنَ الْحَلِفِ وَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَقَالَ الْأَلْبَانيُّ: «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا الْبَيِّعَانِ وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى؛ فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! »، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ التُّجَّارَ هُمُ الْفُجَّارُ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَيْسَ قَدْ أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ؟
قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ، وَيُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَعَنْ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أُشَيْمِطٌ زَانٍ -وَهُوَ مَنِ ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي فَاحِشَةِ الزِّنَا-، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ -وَالْعَائِلُ: الْفَقِيرُ-، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ، وَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ».
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَفِي «الصَّغِيرِ» وَ«الْأَوْسَطِ»؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِمَا: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...». فَذَكَرَهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ».
وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللهُ: الْبَيَّاعُ الْحَلَّافُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ بِنَحْوِهِ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً وَيُبْغِضُ ثَلَاثَةً...))، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: فَمَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللهُ؟
قَالَ: «الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنْزَّلِ: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 81]، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ، وَالتَّاجِرُ أَوِ الْبَائِعُ الْحَلَّافُ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ أَعْرَابِيٌّ بِشَاةٍ، فَقُلْتُ: تَبِيعُهَا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ؟
فَقَالَ: لَا وَاللهِ! ثُمَّ بَاعَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْرُجُ إِلَيْنَا وَكُنَّا تُجَّارًا، وَكَانَ يَقُولُ: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ)) .
حَضَّ النَّبِيُّ ﷺ التُّجَّارَ عَلَى الصِّدْقِ وَعَلَى الْأَمَانَةِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ.
عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ فِي دِينِنَا وَفِي بَلَدِنَا؛ فَإِنَّهَا عَلَى شَفَا، ثَبَّتَهَا اللهُ وَحَفِظَهَا وَحَمَاهَا، وَهُوَ الْبَرُّ الْجَوَادُ الرَّحِيمُ.
((التِّجَارَةُ الرَّابِحَةُ))
((لَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ بالتِّجَارَةِ الَّتِي لَنْ تَكْسَدَ وَتَفْسَدَ، بَلْ تِجَارَةٌ هِيَ أَجَلُّ التِّجَارَاتِ وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا؛ أَلَا وَهِيَ رِضَا رَبِّهِمْ، وَالْفَوْزُ بِجَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَالنَّجَاةُ مِنْ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ))، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].
إِنَّ الَّذِينَ يُدَاوِمُونَ عَلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَيَعْلَمُونَ مَا فِيهِ، وَيَعْمَلُونَ بِهِ بِدَوَامٍ وَاسْتِمْرَارٍ.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِيمَا مَضَى مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ دَاوَمُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَدَّوْهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا.
وَثَبَتَ فِيمَا مَضَى مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْضِ مَا رَزَقْنَاهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ فِي الْخَفَاءِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ؛ بُعْدًا عَنِ الرِّيَاءِ، وَعَلَانِيَةً -أَيْضًا-، مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِنْفَاقِ؛ طَلَبًا لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ؛ هَؤُلَاءِ يَتَوَقَّعُونَ بِذَلِكَ تِجَارَةً رَابِحَةً نَامِيَةَ الْقِيمَةِ، بَاقِيَةَ الرَّوَاجِ دَائِمًا، لَنْ تَكْسَدَ وَلَنْ تَخْسَرَ.
يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ- بِمَحَابِّهِ؛ لِيُعْطِيَهُمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ سِوَى الثَّوَابِ مِمَّا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَعَظِيمُهَا، يَسْتُرُ الْعَظِيمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَا يُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا، كَثِيرُ الشُّكْرِ وَعَظِيمُهُ، يَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ أَوْفَى الْجَزَاءِ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10-13].
((هَذِهِ وَصِيَّةٌ وَدَلَالَةٌ وَإِرْشَادٌ مِنْ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَعْظَمِ تِجَارَةٍ، وَأَجَلِّ مَطْلُوبٍ، وَأَعْلَى مَرْغُوبٍ، يَحْصُلُ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
وَأَتَى بِأَدَاةِ الْعَرْضِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَرْغَبُ فِيهِ كُلُّ مُتَبَصِّرٍ، وَيَسْمُو إِلَيْهِ كُلُّ لَبِيبٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هَذِهِ التِّجَارَةُ الَّتِي هَذَا قَدْرُهَا؟
فَقَالَ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِيمَانَ التَّامَّ هُوَ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ، الْمُسْتَلْزِمُ لِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الَّتِي مِنْ أَجَلِّهَا: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}؛ بِأَنْ تَبْذُلُوا نُفُوسَكُمْ وَمُهَجَكُمْ؛ لِمُصَادَمَةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَصْدُ نَصْرُ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَتُنْفِقُونَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ فِي ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَرِيهًا لِلنُّفُوسِ شَاقًّا عَلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
فَإِنَّ فِيهِ الْخَيْرَ الدُّنْيَوِيَّ؛ مِنَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالْعِزِّ الْمُنَافِيَ لِلذُّلِّ، وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ، وَسِعَةِ الصَّدْرِ وَانْشِرَاحِهِ، وَالْخَيْرِ الْأُخْرَوِيِّ بِالْفَوْزِ بِثَوَابِ اللَّهِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِهِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: وَهُوَ شَامِلٌ لِلصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ وَلَوْ كَانَتْ كَبَائِرَ.
{وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أَيْ: مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهَا وَقُصُورِهَا وَغُرَفِهَا وَأَشْجَارِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ: جَمَعَتْ كُلَّ طَيِّبٍ؛ مِنْ عُلُوٍّ وَارْتِفَاعٍ، وَحُسْنِ بِنَاءٍ وَزَخْرَفَةٍ؛ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ يَتَرَاءَاهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ كَمَا يُتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، وَحَتَّى إِنَّ بِنَاءَ الْجَنَّةِ بَعْضُهُ مِنْ لَبِنِ ذَهَبٍ، وَبَعْضُهُ مِنْ لَبِنِ فِضَّةٍ، وَخِيَامَهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَبَعْضَ الْمَنَازِلِ مِنَ الزُّمُرُّدِ وَالْجَوَاهِرِ الْمُلَوَّنَةِ بِأَحْسَنِ الْأَلْوَانِ.
حَتَّى إِنَّهَا مِنْ صَفَائِهَا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَفِيهَا مِنَ الطِّيبِ وَالْحُسْنِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَصْفُ الْوَاصِفِينَ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكُوهُ حَتَّى يَرَوْهُ، وَيَتَمَتَّعُوا بِحُسْنِهِ، وَتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِهِ -اللهم أَقِرَّ أَعْيُنَنَا بِهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ-.
فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَنْشَأَهُمْ نَشْأَةً كَامِلَةً لَا تَقْبَلُ الْعَدَمَ؛ لَأَوْشَكَ أَنْ يَمُوتُوا مِنَ الْفَرَحِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَوْقَ مَا يُثْنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَبَارَكَ الْجَلِيلُ الْجَمِيلُ الَّذِي أَنْشَأَ دَارَ النَّعِيمِ، وَجَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مَا يَبْهَرُ عُقُولَ الْخَلْقِ، وَيَأْخُذُ بِأَفْئِدَتِهِمْ.
وَتَعَالَى مَنْ لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنَّهُ اللَّهُ لَوْ أَرَى الْعِبَادَ الْجَنَّةَ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ؛ لَمَا تَخَلَّفَ عَنْهَا أَحَدٌ، وَلَمَا هَنَّاهُمُ الْعَيْشُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمُنَغَّصَةِ، الْمَشُوبِ نَعِيمُهَا بِأَلَمِهَا، وَفَرَحُهَا بِتَرَحِهَا.
وَسُمِّيَتِ الْجَنَّةُ جَنَّةَ عَدْنٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا مُقِيمُونَ فِيهَا، لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا؛ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا فَوْزَ مِثْلُهُ، فَهَذَا الثَّوَابُ الْأُخْرَوِيُّ.
وَأَمَّا الثَّوَابُ الدُّنْيَوِيُّ لِهَذِهِ التِّجَارَةِ؛ فَذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا}، أَيْ: وَيَحْصُلُ لَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا، وَهِيَ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، يَحْصُلُ بِهِ الْعِزُّ وَالْفَرَحُ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ تَتَّسِعُ بِهِ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ الْوَاسِعُ، فَهَذَا جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْجِهَادِ إِذَا قَامَ غَيْرُهُمْ بِالْجِهَادِ؛ فَلَمْ يُؤَيِّسْهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، بَلْ قَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أَيْ: بِالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِهِ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا؛ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)).
فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -رَاوِي الْحَدِيثِ-، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
فَقَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ)).
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَصِفَاتُ الْإِيمَانِ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ، وَصِفَاتُ الْكُفْرِ تِجَارَةٌ خَاسِرَةٌ.
إِنَّهُ لَا شَكَّ -عَلَى حَسَبِ مَا قَضَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْعَبْدَ إِلَّا بِذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ -مَعَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ- إِلَّا بِإِقْلَاعِهِ عَنْ ذَنْبِهِ، وَنَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَتَوْبَتِهِ إِلَى رَبِّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.
النَّاسُ كُلُّهُمْ يَبِيعُونَ، كُلُّهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).
النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي هَذَا السُّوقِ.. كُلُّهُمْ بَائِعٌ؛ وَلَكِنْ مَاذَا يَشْتَرُونَ؟!!
هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:التَّاجِرُ الْأَمِينُ