تفريغ خطبة خوارج العصر والتكفير
خطبة
الجمعة 8 من شوال 1436هـ الموافق 24-7-2015م
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ
نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ
لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ
كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ
وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ
بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ التَّكْفِيرَ بِلَا
مُوُجِبٍ مِنْ أَعْظَمِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ المُسْلِمُونَ, وَقَدْ
وَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الخَوَارجِ قَدِيمًا, وَمَا زَالَ وَاقِعًا مِمَّنَ تَبِعَ
الخَوَارِجَ وَنَهَجَ نَهْجَهُمْ, مِنْ حُدَثَاءِ الأَسْنَانِ, سُفَهَاءِ
الأَحْلَامِ مِنْ خَوَارِجِ العَصْرِ, وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُونَ
خُطُورَة النَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ؛ وَهِيَ نَتَائِجُ
مِنَ الخُطُورَةِ فِي غَايَةٍ، وَمِنْهَا:
• وُجُوبُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُكَفَّرِ
وَزَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ المُسْلِمَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِكَافِرٍ
بِالإِجْمَاعِ المُتَيَقَّنِ، وَأَنَّ أَوْلَادَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَوْا
تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ بِكُفْرِهِ أَصْبَحَ لَا يُؤْتَمَنُ
عَلَيْهِم، وَقَدْ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِم بِكُفْرِهِ.
• وَأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وِلَايَةِ المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ
وَنُصْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ وَمَرَقَ مِنْهُ بِالكُفْرِ الصَّرِيحِ
وَالرِّدَّةِ البَوَاحِ، وَتَجِبُ مُحَاكَمَتُهُ أَمَامَ القَضَاءِ الإِسْلَامِيِّ
لِيُنَفِّذَ فَيهِ حُكْمَ المُرْتَدِّ, بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ وَإِزَالَةِ
الشُّبُهَاتِ عَنْهُ, وَإِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ.
• وَإذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ لَا تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ
المُسْلِمِينَ, فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ, وَلَا يُدْفَنُ فِي
مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَرَّثُ، لَا يَرِثُ هُوَ مُوَرِّثَهُ إِذَا
مَاتَ مُوَرِّثٌ لَهُ قَبْلَ إِقَامَةِ حَدِّ الرِّدَّةِ عَلَيْهِ.
• وَأَخْطَرُ نَتَائِجِ المَوْتِ عَلَى الكُفْرِ: أَنَّهُ مُوجِبٌ
لِلَعْنَةِ اللهِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَتِهِ, وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الأَبَدِيِّ
فِي النَّارِ وَبِئْسَ القَرَار.
وَلِخُطُورَةِ آثَارِ تَكْفِيرِ
المُسْلِمِينَ العَظِيمَةِ، زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَنَهَى نَهْيًّا عَظِيمًا.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا
قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: ((أيُّمَا
امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِر، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ
كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ)) وَالحَدِيثُ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةِ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا
قَالَ, وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ,
وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ, وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ
كَقَتْلِهِ)) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَالتَّكْفِيرُ بِلَا مُوجِبٍ
وَلَا دَلِيلٍ مِنْ أَخْطَرِ البِدَعِ وَأَشَدِّهَا وَبَالًا عَلَى المُسْلِمِينَ؛
لِأَنَّ التَّكْفِيرِيِّينَ يَسْتَبِيحُونَ الدِّمَاءَ وَالأَمْوَالَ,
وَالأَعْرَاضَ المَعْصُومَةَ بِالإِسْلَامِ, وَيَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى
اللهِ جَلَّ وَعَلَا بِزَعْمِهِمْ, مُعْتَقِدِينَ أَنَّ لَهُمْ بِهِ أَعْظَمَ
الأَجْرِ وَأَجَلَّ المَثُوبَةِ عِنْدَ اللهِ.
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ:
((وَلِهَذا يَجِبُ الاحْتِرَازُ
مِنْ تَكْفِيرِ المُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالخَطَايَا, فَإِنَّهُ أَوَّلُ
بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الإِسْلَامِ, فَكَفَّرَ أَهْلُهَا المُسْلِمِينَ،
وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُم)).
هَؤلَاءِ هُمُ الخَوَارِج؛
وَلَكِنْ مَنْ هُوَ الخَارِجِيُّ؟
قَالَ الإِمَامُ
البَرْبَهَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
((وَمَنْ
خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ فَهُوَ خَارِجِيٌّ، وَقَدْ
شَقَّ عَصَا المُسْلِمِينَ، وَخَالَفَ الآثَارَ، وَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ،
وَلَا يَحِلُّ قِتَالُ السُّلْطِانِ وَالخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَارُوا،
وَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي
ذَرٍّ الغِفَارِيِّ ((اصْبِر، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا))
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّـهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَار: ((اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى
الحَوْضِ)) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ. وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِتَالُ
السُّلْطَان؛ فَإِنَّ فِيهِ فَسَادَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا)).
وَقَالَ أَيْضًا
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
((وَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ
يَدْعُو عَلَى السُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ هَوَى, وَإِذَا رَأَيْتَ
الرَّجُلَ يَدْعُو لِلسُّلْطَانِ بِالصَّلَاحِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ
إِنْ شَاءَ اللهُ)).
قَالَ فُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ:
((لَوْ كَانَ لِي دَعْوَةٌ مَا
جَعَلْتُهَا إِلَّا فِي السُّلْطَانِ)).
وَقَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ كَامِل قَالَ حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ,
قَالَ: أَخْبَرَنَا مَرْدَوَيْهِ الصَائِغُ قَالَ: سَمِعْتُ فُضَيْلًا يَقُولُ:
((لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً
مَا جَعَلْتُهَا إِلَّا فِي السُّلْطَانِ، قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيّ فَسِّرْ
لَنَا هَذَا، قَالَ: إِذَا جَعَلْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تَعْدُنِي –أَيْ: لَمْ
تَتَجَاوَزْنِي-، وَإِذَا جَعَلْتُهَا فِي السُّلْطَانِ صَلَحَ, فَصَلَحَ
بِصَلَاحِهِ البلَادُ وَالعِبَادُ.
فَأُمِرْنَا أَنْ نَدْعُوَ لَهُمْ
بِالصَّلَاحِ، وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا وَإِنْ
جَارُوا؛ لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ وَجَوْرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا
صَلَاحُهُمْ فَلِأَنْفُسِهِمْ وَلِلمُسْلِمِينَ، فَالَّذِي يَدْعُو عَلَى
الإِمَامِ خَارِجِيّ, وَالخُرُوجُ يَبْدَأُ بِالكَلِمَةِ وَيَنْتَهِي بِالسَّيْفِ)).
قَالَ الآجُرِّيُّ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي ((الشَّرِيعَةِ)):
بَابُ (ذَمِّ الخَوَارِجِ وَسُوءِ
مَذَاهِبِهِمْ وَإِبَاحَةِ قِتَالِهِمْ وَثَوَابِ مَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الحُسَيْنِ هُوَ الآجُرِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
"لَمْ يَخْتَلِفْ
العُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّ الخَوَارِجَ قَوْمُ سُوء، عُصَاةٌ للهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ صَلَّوْا
وَصَامُوا، وَاجْتَهَدُوا فِي العِبَادَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَافِعٍ لَهُمْ؛
لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ يَتَأَوَّلُونَ القُرْآنَ عَلَى مَا يَهْوَوْنَ،
وَيُمَوِّهُونَ عَلَى المُسْلِمِينَ.
وَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْهُمْ، وَحَذَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ، وَحذَّرَنَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَحَذَّرَنَا
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَحْمَةُ اللهِ
تَعَالَى عَلَيْهِم.
وَالخَوَارِجُ هُمُ الشُّرَاةُ
الأَنْجَاسُ الأَرْجَاسُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ سَائِرِ الخَوَارِجِ،
يَتَوَارَثُونَ هَذَا المذْهَبَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَيَخْرُجُونَ عَلَى
الأَئِمَّةِ وَالأُمَرَاءِ، وَيَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ المُسْلِمِينَ.
وَأَوَّلُ قَرْنٍ طَلَعَ مِنْهُمْ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوْ
رَجُلٌ طَعَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يُقَسِّمُ الغَنَائِمَ بِالجِعِرَّانَةِ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّد، فَمَا
أَرَاكَ تَعْدِل، فَقَالَ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((وَيْلَكَ،
فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِل؟)) فَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ
وَسَلَّمَ مِنْ قَتْلِهِ، وَأَخْبَرَ: ((أَنَّ هَذَا وَأَصْحَابًا لَهُ
يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةَ)).
أَخْرَجَ ذَلِكَ البُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ مِنَ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ بِقِتَالِهِمْ,
وَبَيَّنَ فَضْلَ مَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
خَرَجُوا مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى, وَاجْتَمَعُوا وَأَظْهَرُوا الأَمْرَ
بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ المُنْكَرِ حَتَّى قَتَلُوا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ, وَقَدْ اجْتَهَدَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ كَانَ فِي المَدِينَةِ فِي أَلَّا يُقْتَلَ
عُثْمَانُ، فَمَا أَطَاقُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ خَرَجَ الخَوَارِجُ بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ, وَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ, وَأَظْهَرُوا قَوْلَهُمْ وَقَالُوا: لَا
حُكْمَ إِلَّا للهِ, فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((كَلِمَةُ
حَقٍّ أَرَدُوا بِهَا البَاطِلَ)), فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
فَأَكْرَمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَتْلِهِمْ, وَأَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِ مَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ
قَتَلُوهُ, وَقَاتَلَ مَعَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِم,
فَصَارَ سَيْفُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الخَوَارِجِ سَيْفَ حَقٍّ إِلَى
أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ)).
انْتَهَى كَلَامُ الآجُرِّيِّ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا المَوْضِعِ مِنَ ((الشَّرِيعَةِ)).
وَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِهِ: ((أَظْهَرُوا
قَوْلَهُمْ وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ)).
وَهِيَ الحَاكِمِيَّةُ الَّتِي
يُدَنْدِنُ حَوْلَهَا أَصْحَابُ الإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا
حُكْمَ إِلَّا للهِ, وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الكَرَاسِيَّ وَالحُكْمَ
وَلَا يُرِيدُونَ إِقَامَةَ الشَّرِيعَة؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا الشَّرِيعَةَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ, بَلْ تَوَصَّلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمُ المَرِيضَةِ وِإِلَى
أَهْدَافِهِم الدَّنِيئَةِ بِالاحْتِيَالِ وَالخَتْلِ وَالمَكْرِ وَلَيِّ
أَعْنَاقِ النُّصُوص, وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى أَقْوَالِ عُلَمَاءِ هَذِهِ
الأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ.
قَالَ الآجُرِّيُّ
رَحِمَهُ اللهُ:
((فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ رَأَى اجْتِهَادَ
خَارِجِيٍّ قَدْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ عَدْلًا كَانَ الإِمَامُ أَوْ جَائِرًا ،
فَخَرَجَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً، وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ
المُسْلِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِقِرَاءَتِهِ لِلقُرْآنِ،
وَلَا بِطُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا بِدَوَامِ صِيَامِهِ، وَلَا
بِحُسْنِ أَلْفَاظِهِ فِي العِلْمِ، إِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَ الخَوَارِجِ)).
وَقَالَ رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى أَيْضًا:
((قَدْ ذَكَرْتُ مِنَ
التَّحْذِيرِ عَنْ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ عَصَمَهُ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ الكَرِيمُ عَنْ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ, وَلَمْ يَرَ رَأْيَهُمْ, وَصَبَرَ
عَلَى جَوْرِ الأَئِمَّةِ وَحَيْفِ الأُمَرَاء, وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِم
بِسَيْفِهِ, وَسَأَلَ اللهَ العَظِيمَ كَشْفَ الظُّلْمِ عَنْهُ وَعَنْ جَمِيعِ
المُسْلِمِينَ, وَصَلَّى خَلْفَ الأَئِمَّةِ الجُمُعَةَ وَالعِيدَيْن, وَإِنْ
أَمَرُوهُ بِطَاعَتِهِمْ فَأَمْكَنَتْهُ طَاعَتُهُمْ أَطَاعَهُمْ, وَإِنْ لَمْ
تُمْكِنْهُ طَاعَتُهُمْ اعْتَذَرَ إِلَيْهِم, وَإِنْ أَمَرُوهُ بِمَعْصِيَةٍ لَمْ
يُطِعْهُم, وَإِنْ دَارَتْ بَيْنَهُم الفِتَنُ لَزِمَ بَيْتَهُ, وَكَفَّ لِسَانَهُ
وَيَدَهُ, وَلَمْ يَهْوَ مَا هُمْ فِيهِ, وَلَمْ يُعِنْ عَلَى فِتْنَةٍ, فَمَنْ
كَانَ هَذَا وَصْفَهُ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ إِنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالَى)).
ثُمَّ قَالَ: ((بَابٌ
فِي السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَ المُسْلِمِينَ, وَالصَّبْرِ
عَلَيْهِم وَإِنْ جَارُوا, وَتَرْكِ الخُرُوجِ عَلَيْهِم مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ)).
ثُمَّ ذَكَرَ
الأَحَادِيثَ الوَارِدَةَ وَالآثَارَ فِي هَذَا البَاب.
وَقَالَ الإِمَامُ
الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
((وَلَا نَرَى الخُرُوجَ عَلَى
أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا، وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِم،
وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِم، وَنَرى طَاعَتَهُم مِنْ طَاعَةِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ, نَرَاهَا فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو
لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالمُعَافَاةِ)).
قَالَ شَارِحُ
الطَّحَاوِيَّةِ ابْنُ أَبِي العِزِّ رَحِمَهُ اللهُ:
((وَقَدْ دَلَّ الكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ أُولِيِ الأَمْرِ، مَا لَمْ يَأْمُرُوا
بِمَعْصِيَةٍ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}, تَأَمَّلْ
كَيْفَ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَطِيعُوا أُولِيِ
الأَمْرِ مِنْكُمْ؟ لِأَنَّ أُولِيِ الأَمْرِ لَا يُفْرَضُونَ بِالطَّاعَةِ، بَلْ
يُطَاعُونَ فِيمَا هُوَ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ, وَأَعَادَ الفِعْلَ مَعَ
الرَّسُولِ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}؛ لِأَنَّ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْمُرُ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللهِ،
بَلْ هُوَ مَعْصُومٌ مِن ذَلِكَ، وَأَمَّا وَلِيُّ الأَمْر فَقَدْ يَأْمُرُ بِغَيْرِ
طَاعَةِ اللهِ، فَلَا يُطَاعُ إِلَّا فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ.
وَأَمَّا لُزُومُ طَاعَتِهِم
وَإِنْ جَارُوا، فَلِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِهِمْ مِنَ
المَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ جَوْرِهِمْ، بَلْ فِي الصَّبْرِ عَلَى
جَوْرِهِمْ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَمُضَاعَفَةُ الأُجُورِ، فَإِنَّ اللهَ
تَعَالَى مَا سَلَّطَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا لِفَسَادِ أَعْمَالِنَا، وَالجَزَاءُ
مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَعَلَيْنَا الاجْتِهَادُ فِي الاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ
وَإِصْلَاحِ العَمَلِ, قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ},
وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ},
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ}, وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فَإِذَا أَرَادَتِ الرَّعِيَّةُ
أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ظُلْمِ الأَمِيرِ الظَّالِمِ، فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ))
انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ:
((وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
البِدَعِ مِثْلُ الخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالقَدَرِيَّةِ وَالجَهْمِيَّةِ
وَالمُمَثِّلَةِ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا هُوَ ضَلَالٌ يَرَوْنَهُ هُوَ الحَقّ،
وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ)).
قَالَ
الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
((اعْلَمْ أَنَّ الحُكْمَ عَلَى
الرَّجُلِ المُسْلِمِ بِخُرُوجِهِ مِنْ دِينِ الإِسْلَامِ وَدُخُولِهِ فِي
الكُفْرِ, لَا يَنْبَغِيِ لِمُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ
يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِبُرْهَانٍ أَوْضَحَ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ المَرْوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ ((مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِر, فَقَدْ بَاءَ
بِهَا أَحَدُهُمَا))، هَكَذَا فِي الصَّحِيحِ, وَفِي لَفْظٍ آَخَرَ فِي
الصَّحِيحَينِ وَغَيْرِهِمَا: ((مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالكُفْرِ أَوْ قَالَ
عَدُوَّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ)) أَيْ: رَجَعَ
عَلَيْهِ, وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ: ((فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا))،
فَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث وَمَا وَرَدَ مَوْرِدَهَا أَعْظَمُ زَاجِرٍ، وَأَكْبَرُ
وَاعِظٍ عَنْ التَّسَرُّعِ فِي التَّكْفِيرِ)).
وَقَالَ رَحِمَهُ
اللهُ:
((فَإِنَّ الإِقْدَامَ عَلَى مَا
فِيهِ بَعْضُ البَأْسِ لَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَشِحُّ عَلَى دِينِهِ, وَلَا يُسْمَحُ
بِهِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا عَائِدَةَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَخْشَى
عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَخْطَأَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ مَنْ سَمَّاهُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كَافِرًا؟)).
وَقَدْ بَيَّنَ
الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ ((الصَّلَاة)):
((أَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الرَّجُلِ
كُفْرٌ وَإِيِمَانٌ, وَشِرْكٌ وَتَوْحِيدٌ, وَتَقْوَى وَفُجُورٌ, وَنِفَاقٌ
وَإِيِمَانٌ, وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ, وَخَالَفَهُمْ
فِيهِ غَيْرُهُم مِنْ أَهْلِ البِدَعِ: كَالخَوَارِجِ وَالمُعْتَزِلَةِ
وَالقَدَرِيَّةِ, وَمَسْأَلَةُ خُرُوجِ أَهْلِ الكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ
وَتَخْلِيدِهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الأَصْل, وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ
القُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالفِطْرَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةُ)).
قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَمَا
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}, فَأَثْبَتَ
لَهُمْ إيِمَانًا بِهِ سُبْحَانَهُ مَعَ الشِّرْكِ.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ},
فَأَثْبَتَ لَهُمْ إِسْلَامًا وَطَاعَةً للهِ وَرَسُولِهِ مَعَ نَفْيِ الإِيمَانِ
عَنْهُم, وَهُوَ الإِيمَانُ المُطْلَقُ الكَامِلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ
بِمُطْلَقِهِ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}, وَهَؤلَاءِ لَيْسُوا
مُنَافِقِينَ فِي أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، بَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ بِمَا مَعَهُمْ
مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ, وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُم
جُزْءٌ مِنَ الإِيمَانِ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الكُفْرِ.
وَإِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ مَا
أَنْزَلَ اللهُ، أَوْ فَعَلَ مَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كُفْرًا وَهُوَ مُلْتَزِمٌ بِالإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ فَقَدْ قَامَ
بِهِ كُفْرٌ وَإِسْلَامٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ المَعَاصِيَ كُلَّهَا شُعَبٌ مِنْ
شُعَبِ الكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا شُعَبٌ مِنْ شُعَبِ
الإِيِمَانِ, فَالعَبْدُ تَقُومُ بِهِ شُعْبَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ شُعَبِ
الإِيمَانِ، وَقَدْ يُسَمَّى بِتِلْكَ الشُّعْبَةِ مُؤْمِنًا, وَقَدْ لَا
يُسَمَّى, كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُسَمَّى بِشُعَبِ الكُفْرِ كَافِرًا، وَقَدْ لَا
يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الاسْمُ)).
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ:
((وَأَصْلُ ضَلَالِ
المُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ وَغَيْرِهِم أَنَّهُم نَازَعُوا فِي هَذَا الأَصْل،
وَجَعَلُوا الإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، إِذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ،
فَحَكَمُوا بِأَنَّ صَاحِبَ الكَبِيرَةِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الإِيمَانِ،
وَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ
كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإِيمَانِ))، فَلَا يَزُولُ
الإِيمَانُ بِزَوَالِ بَعْضِ الأَعْمَالِ)).
وَعَن التَّكْفِيرِ
بِلَا مُوجِبٍ وَبِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ
اللهُ:
((هَاهُنَا تُسْكَبُ العَبَرَاتُ،
وَيُنَاحُ عَلَى الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَا جَنَاهُ التَّعَصُّبُ فِي الدِّينِ
عَلَى غَالِبِ المُسْلِمِينَ مِنَ التَّرَامِي بِالكُفْرِ، لَا لِسُنَّةٍ، وَلَا
لِقُرْآنٍ، وَلَا لِبَيَانٍ مِنَ اللهِ، وَلَا لِبُرْهَانٍ، بَلْ لَمَّا غَلَتْ
مَرَاجِلُ العَصَبِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَتَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ مِنْ
تَفْرِيقِ كَلِمَةِ المُسْلِمِينَ؛ لَقَّنَهُم إِلْزَامَاتِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
بِمَا هُوَ شَبِيهُ الهَبَاءِ فِي الهَوَاءِ، وَالسَّرَابِ بِالقِيعَةِ، فِيَا
للهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الفَاقِرَة الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ
فَوَاقِرِ الدِّينِ، وَالرَّزِيَّةِ الَّتِي مَا رُزِئَ بِمِثْلِهَا سَبِيلُ
المُؤْمِنِينَ)).
وَهَذَا التَّشْدِيدُ كُلُّهُ
هُوَ فِي تَكْفِيرِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَكَيْفَ بِتَكْفِيرِ المُسْلِمِينَ
جَمَاعَاتٍ وَدُوَلًا؟!!
وَكَيْفَ بِتَكْفِيرِ مَنْ فِي
الأَرْضِ؟!! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.
وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ
المُجَازِفِينَ بِالتَّكْفِيرِ لَا عِلْمَ لَهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ،
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخُوضُ لُجَجَ التَّكْفِيرِ وَلَا يُبَالِي!!
أَكْثَرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ
تَسَبَّبُوا فِي إِحْدَاثِ كَثِيرٍ مِنَ الخَلَلِ فِي المُجْتَمَعِ المَصْرِيِّ
فِي هَذَا العَصْرِ, كَانُوا مِنَ الجُهَّالِ بِاعْتِرَافِهِم.
فَإِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
كِبْرَهُمْ مِنَ الجَمَاعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالجِهَادِ وَأَضْرَابِ هَذِهِ
الجَمَاعَاتِ، لَمَّا أَفْتَوْا بِقَتْلِ المُسْلِمِينَ بِلَا مُوجِبٍ وَبِلَا
سَبَبٍ، هَؤلَاءِ عَادُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُرَاجَعَاتِهِم, فَقَالُوا: كُنَّا
صِغَارًا، وَلَمْ نُحَصِّلْ مِنَ العِلْمِ مَا يَكْفِي، وَنَحْنُ آسِفُونَ، ثُمَّ
أَفْتَوْا لِمَنْ كَانَ قَدْ تَلَوَّثَتْ يَدُهُ بِدِمَاءِ المُسْلِمِينَ بِلَا
مُوجِبٍ, أفْتَوْهُمْ بِأَنْ يَصُومُوا شَهْرَيْنِ كَفَّارَةً عَنِ القَتْلِ الخَطَأِ
الَّذِي وَقَعَ.
وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ
التَّكْفِيرِيينَ تَلَوَّثَتْ يَدُهُ بِالدِّمَاءِ, وَتَلَوَّثَ لِسَانُهُ
بِالخَرَابِ، وَهُوَ عَاصِم عَبْد الَماجِد، هَذَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي
قَتْلِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ عِيدِ الأَضْحَى
عِنْدَ مُدِيرِيَّةِ الأَمْنِ فِي أَسْيُوط.
هَذَا الخَارِجِيُّ المَارِقُ
لَمَّا قُبِضَ عَلَيْهِ وَأُدْخِلَ فِي زَكِيبَةٍ, كَانَ يَصِيحُ مِنْ دَاخِلِهَا
أَنَّهُ سَيَكْتُبُ لِلبَاشَا تَقْرِيرًا بِمَا يِرَاهُ, وَأَنَّهُ عَلَى
اسْتِعْدَادٍ أَنْ يُوَقِّعَ لَهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يُوَقِّعَ لَهُ عَلَيْهِ،
بَعْدَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ بِرَغْبَتِهِ اسْمًا نِسَائِيًّا كَانَ يُنَادَى
بِهِ.
هَذَا التَّكْفِيرِيُّ المَارِقُ
الخَارِجُ عَنْ سُنَّةِ المُسْلِمِينَ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ الأَمِينُ, مَا
زَالَ يَعِيثُ فِي الأَرْضِ فَسَادًا, وَهُوَ يُقَسِّمُ المُسْلِمِينَ إِلَى
فُسْطَاطَيْنِ:
إِلَى فُسْطَاطِ إِيمَانٍ
وَفُسْطَاطِ كُفْرٍ، كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِ مَا يَزِيدُ عَلَى المَائَةِ مِنَ
المُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَ طَالِبًا فِي كُلِّيَّةِ الطِّبِّ، كَانَ
جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَسْتَنْجِي, وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يُفْتِي بِمَا
يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ المُسْلِمِينَ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، ثُمَّ تَرَاجَعَ،
ثُمَّ عُفِيَ عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ لِيَعِيثَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ
بَصَرَهُ, وَأَنْ يَقْصِمَ ظَهْرَهُ, وَأَنْ يُرِيَ المُسْلِمِينَ فِيهِ آيَةً,
إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تَمَسَّكُوا بِالسُّنَّةِ،
وَتَعَلَّمُوا دِينَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
عَنْ أَذِيَّةِ المُسْلِمِينَ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الأُمَّةَ فِي
مُفْتَرَقِ الطَّرِيقِ وَعُنُقِ الزُّجَاجَةِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ
عَنَّا أَجْمَعِينَ.
هَؤلَاءِ التَّكْفِيرِيُّونَ مِنَ
الخَوَارِجِ لَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا مِنْ دِينِ اللهِ عَلَى الحَقِيقَةِ،
وَإِنَّمَا هُمْ جُهَّالٌ فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ وَمَا زَالُوا، بَلْ لَا
يَزْدَادُونَ مَعَ الوَقْتِ إِلَّا جَهْلًا -عَامَلَهُمْ اللهُ بِعَدْلِهِ-.
هَؤلَاءِ الَّذِينَ يُجَازِفُونَ
بِالتَّكْفِيرِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِكَثِيرٍ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ
الَّتِي تَلْزَمُ الوَاحِدَ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَخُوضُ لُجَجَ التَّكْفِيرِ لَا يُبَالِي.
قَالَ الشَّيْخُ
عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو بَطِينٍ:
((وَمِنَ
العَجَبِ أَنَّ أَحَدَ هَؤلَاءِ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّهَارَةِ
أَوْ البَيْعِ وَنَحْوِهِمَا؛ لَمْ يُفْتِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِ
عَقْلِهِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْ كَلَامِ العُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِمَا قَالُوهُ؛
فَكَيْفَ يَعْتَمِدُ فِي هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أُمُورِ
الدِّينِ، وَأَشَدُّهَا خَطَرًا عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ؟!)).
قَالَ الشَّيْخُ
سُلَيْمَانُ بْنُ سَحْمَان رَحِمَهُ اللهُ:
((وَالعَجَبُ
مِنْ هَؤلَاءِ الجُهَّالِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسَائِلِ التَّكْفِيرِ،
وَهُمْ مَا بَلَغُوا فِي العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ مَنْ
أَشَارَ إِلَيْهِمْ الشَّيْخُ أَبْو بَطِينٍ فِي جَوَابِهِ الَّذِي مَرَّ
قَرِيبًا، مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّهَارَةِ
أَوْ البَيْعِ أَوْ نَحْوِهِمَا؛ لَمْ يُفْتِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِ
عَقْلِهِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْ كَلَامِ العُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِمَا قَالُوهُ،
فَكَيْفَ يَعْتَمِدُ فِي هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أُمُورِ
الدِّينِ، وَأَشَدُّهَا خَطَرًا عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِ
عَقْلِهِ؟!)).
عُلَمَاءُ الأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ أَشَدُّ النَّاسِ تَوَقِّيًا فِي هَذَا البَاب، وَأَعْظَمُ النَّاسِ
تَثَبُّتًا فِيهِ، مَعَ مَا آتَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ وُفُورِ الفِطْنَةِ،
وَرُسُوخِ العِلْمِ، وَقَدَمِ الصِّدْقِ فِي القِيَامِ بِالحَقِّ.
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ لِأُمَرَاءِ الجَهْمِيَّةِ وَقُضَاتِهِم:
((وَلِهَذا
كُنْتُ أَقُولُ لِلجَهْمِيَّةِ مِنَ الحُلُولِيَّةِ وَالنُّفَاةِ, الَّذِينَ
نَفَوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ العَرْشِ، لَمَّا وَقَعَتْ مِحْنَتُهُمْ؛ كُنْتُ
أَقُولُ لَهُمْ: أَنَا لَوْ وَافَقْتُكُمْ كُنْتُ كَافِرًا؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ
أَنَّ قَوْلَكُمْ كُفْرٌ، وَأَنْتُمْ عِنْدِي لَا تَكْفُرُونَ لِأَنَّكُمْ
جُهَّالٌ)).
وَكَانَ هَذَا خِطَابًا
لِعُلَمَائِهِم وَقُضَاتِهِم, وَشُيُوخِهِم وَأُمَرَائِهِم.
وَقَالَ رَحِمَهُ
اللهُ:
((هَذَا مَعَ
أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إِلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ
وَمَعْصِيَةٍ، إِلَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ
الرِّسَالِيَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً, وَفَاسِقًا
أُخْرَى, وَعَاصِيًا أُخْرَى, وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ
لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ
الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ)).
وَقَالَ رَحِمَهُ
اللهُ:
((وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ
يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ المُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ, حَتَّى تُقَامَ
عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَمَنْ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ
بِيَقِينٍ؛ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ
إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ)).
هَذَا كَلَامُ أَهْلِ العِلْمِ الَّذِينَ
يَتَّقُونَ اللهَ جَلَّ وَعَلَا، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الحُكْمِ عَلَى
المُسْلِمِ المُعَيَّنِ بِالكُفْرِ:
أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ
هَذَا الشَّيْءِ المُكَفِّرِ, وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِفِعْلِهِ, وَأَنْ
يَكُونَ مُخْتَارًا غَيْرَ مُكْرَهٍ، وَذَلِكَ بِأَلَّا يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَى
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَصِيرُ بِهِ كَافِرًا.
وَلِأَهْلِ العِلْمِ أَقْوَالٌ
وَتَفْصِيلَاتٌ فِي هَذَا الشَأْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالعُذْرِ بِالإِكْرَاهِ،
وَكَذَلِكَ بِالأُمُورِ الَّتِي لَا يُعْذَرُ فِيهَا مِنْ صُوَرِ الإِكْرَاهِ، وَهَلْ
يَدْخُلُ فِيهَا الخَوْفُ مِنْ ضَرَرٍ؛ مُحَقَّقٍ أَوْ لَا؟ وَفِي شُرُوطِ الإِكْرَاهِ؟
فَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ يَطُولُ.
مِنْ مَوَانِعِ تَكْفِيرِ
المُعَيَّنِ: الجَهْلُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الثَّابِتَة فِي
القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ:
((فَإِنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ,
بَعْدَ ثُبُوتِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ, فَأَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِ
الحُجَّةِ عَلَيْهِ فَمَعْذُورٌ بِالجَهْلِ)).
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ:
((إِنَّ تَكْفِيرَ المُعَيَّنِ
وَجَوَازَ قَتْلِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ تَبْلُغَهُ الحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ
الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنَ
الدِّينِ يَكْفُرُ)).
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ أَيْضًا عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضِ المُكَفِّرَاتِ:
((لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَكُونُ جَاهِلًا بِبَعْضِ هَذِهِ الأَحْكَامِ جَهْلًا يُعْذَرُ بِهِ, فَلَا
يُحْكَمُ بِكُفْرِ أَحَدٍ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الحُجَّةُ مِنْ جِهَةِ بَلَاغِ
الرِّسَالَةِ)).
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ
القَيِّمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كُفْرَ مَنْ جَهَرَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ
الإِسْلَامِ، أَوْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ
خَبَرًا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَمْدًا، قَالَ:
((وَأَمَّا جَحْدُ ذَلِكَ جَهْلًا
أَوْ تَأْوِيلًا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ؛ فَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهُ بِهِ)).
فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَقْوَالِ
أَهْلِ العِلْمِ فِي بَيَانِ هَذِهِ المَوَانِعِ, الَّتِي تُدْرِكُ الرَّجُلَ
إِذَا وَقَعَ فِي المُكَفِّرِ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ قَدْ كَفَرَ, وَأَنَّهُ قَدْ
خَرَجَ مِنَ المِلَّةِ، وَصَارَ بِهَذا الفِعْلِ أَوْ القَوْلِ مُرْتَدًّا,
يُنَزَّلُ عَلَيْهِ حُكْمُ المُرْتَدّ.
وَأَمَّا هَذِهِ الجَمَاعَاتُ
الفَاجِرَةُ مِنَ الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ وَالقُطْبِيِّينَ وَالجَمَاعَةِ
الإِسْلَامِيَّةِ وَالجِهَادِ وَمَا أَشْبَهَ؛ هَذِهِ الجَمَاعَاتُ الفَاجِرَةُ
تَعِيثُ فِي الأَرْضِ فَسَادًا, تُكَفِّرُ المُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا
مُوجِبٍ, وَتُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامَ الرِّدَّةِ, تَسْتَبِيحُ الدِّمَاءَ,
تَسْتَبِيحُ الأَعْرَاضَ, يَأْخُذُونَ النِّسَاءَ سَبَايَا, يُبَعْنَ بَيْعَ
السَّبَايَا فِي سُوقِ النِّخَاسَة, وَيُوَزَّعْنَ عَلَى الأُمَرَاءِ أُمَرَاءِ
الجِهَادِ بِزَعْمِهِمْ كَمَا تُوَزَّعُ السَّبَايَا فِي الحُرُوبِ بَيْنَ أَهْلِ
الإِسْلَامِ وَأَهْلِ الكُفْرِ, وَهُمْ إِنَّمَا يَعْتَدُونَ عَلَى المُسْلِمِينَ:
عَلَى دِمَائِهِمْ, عَلَى أَبْشَارِهِمْ, عَلَى حَيَوَاتِهِمْ, عَلَى
أَعْرَاضِهِمْ, عَلَى دِيَارِهِمْ, وَيَعِيثُونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ
الأَرْضَ مِنْهُمْ وَمِنْ رِجْسِهِمْ, إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَمَ عَلَى
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى
الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ
إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ فِي ((مِنْهَاجِ السُّنَّةِ)):
((المُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا, الَّذِي قَصَدَ اتِّبَاعَ الحَقِّ وَمَا جَاءَ بِهِ
الرَّسُول, إِذَا أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْرِفِ الحَقَّ؛ كَانَ أَوْلَى أَنْ
يَعْذُرَهُ اللهُ فِي الآَخِرَةِ مِنَ المُتَعَمِّدِ العَالِمِ بِالذَّنْبِ,
فَإِنَّ هَذَا عَاصٍ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا ذَلِكَ
فَلَيْسَ مُتَعَمِّدًا لِلذَّنْبِ، بَلْ هُوَ مُخْطِئٌ، وَاللهُ قَدْ تَجَاوَزَ
لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ الخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ)).
وَقَالَ رَحِمَهُ
اللهُ:
((اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ
وَالجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ المُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ
بِمُجَرَّدِ الخَطَأِ المَحْضِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ
وَيُتْرَكُ إِلَّا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ,
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأٍ أَخْطَأَهُ يُكَفَّرُ
وَلَا يُفَسَّقُ, بَلْ وَلَا يُأَثَّمُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي دُعَاءِ
المُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}،
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ:
قَدْ فَعَلْتُ)),
وَقَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا
قَبْل ذَلِكَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا},
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ}.
فَبَيَّنَ اللهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَنَّ خَطَأَ هَذِهِ الأُمَّةِ لَيْسَ كَعَمْدِهَا, وَلَيْسَ كُلُّ
مَنْ اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الحَقِّ, وَلَا
يَسْتَحِقُّ الوَعِيدَ إِلَّا مَنْ تَرَكَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ فَعَلَ
مَحْذُورًا, هَذَا هُوَ قَوْلُ الفُقَهَاءِ وَالأَئِمَّةِ, وَهُوَ القُوْلُ
المَعْرُوفُ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ.
فَالوَاجِبُ عَلَيْهِ
الاجْتِهَاد, وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِصَابَتُهُ فِي البَاطِنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ
قَادِرًا عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ, فَإِنْ تَرَكَ
الاجْتِهَادَ أَثِمَ, وَإِنِ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الحَقِّ؛ فَإِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ, وَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ نَوْعُ تَقْصِيرٍ فَهُوَ
ذَنْبٌ لَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ الكُفْرَ, وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ القُوْلُ
بِأَنَّ هَذَا الكَلَامَ كُفْرٌ.
كَمَا أَطْلَقَ السَّلَفُ
الكُفْرَ عَلَى مَنْ قَالَ بَعْضَ مَقَالَاتِ الجَهْمِيَّةِ مِثْلَ:
القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ,
أَوْ إِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ دُونَ إِنْكَارِ
عُلُوِّ اللهِ عَلَى الخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ, فَإِنَّ تَكْفِيرَ
صَاحِبِ هَذِهِ المَقَالَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَظْهَرِ الأُمُورِ.
فَإِنَّ التَّكْفِيرَ المُطْلَقُ
كَالوَعِيدِ المُطْلَقِ, لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الشَّخْصِ المُعَيَّنِ حَتَّى
تَقُومَ عَلَيْهِ الحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا، فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ
يُكَفَّرُ)).
قَالَ شَيْخُ
الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ:
((فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ
يُكَفَّرُ))، لَا سِيَّمَا إِذَا قَالَهُ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادٍ أَوْ
تَقْلِيدٍ.
فَالمُتَأَوِّلُ الَّذِي أَخْطَأَ
فِي تَأْوِيلِهِ فِي المَسَائِلِ الخَبَرِيَّةِ وَالأَمْرِيَّةِ, وَإِنْ كَانَ فِي
قَوْلِهِ بِدْعَةٌ يُخَالِفُ بِهَا نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا قَدِيمًا, وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ أَنَّهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ, بَلْ قَدْ أَخْطَأَ فِيهِ كَمَا يُخْطِئُ
المُفْتِي وَالقَاضِي فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الفُتْيَةِ وَالقَضَاءِ
بِاجْتِهَادِهِ؛ يَكُونُ أَيْضًا مُثَابًا مِنْ جِهَةِ اجْتِهَادِهِ المُوَافِقِ
لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى, غَيْرَ مُثَابٍ مِنْ جِهَةِ مَا أَخْطَأَ فِيهِ, وَإِنْ
كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ, ثُمَ قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ تَفْرِيطٌ فِي الوَاجِبِ, أَوْ
اتِّبَاعٌ لِهَوَى, يَكُونُ ذَلِكَ ذَنْبًا مِنْهُ, وَقَدْ يَقْوَى فَيَكُونُ
كَبِيرةً, وَقَدْ تَقُومُ عَلَيْهِ الحُجَّةُ الَّتِي بَعَثَ اللهُ بِهَا رُسُولَهُ,
وَيُعَانِدُهَا مُشَاقًّا لِلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى,
مُتَّبِعًا غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مُرْتَدًّا رِدَّةً ظَاهِرَةً.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.