النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ

النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ

((النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَليْنِ نِعْمَةُ الرَسُولِ ﷺ »

«فَإنَّ نِعَمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَأَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: أَنْ بَعَثَ فِيهِمْ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ وَحَبِيبَهُ وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ مُحَمَّدًا ﷺ؛ لِيُخْرِجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَنْقُلَهُمْ بِهِ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ لِلْمَخْلُوقِ إِلَى عِزِّ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ الْكَرِيمِ، وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ سُبُلِ الْهَلَاكِ وَالشَّقَاوَةِ.

وَقَدْ نَوَّهَ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمِنَّةِ الْجَسِيمَةِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].

وَقَد قَامَ ﷺ بِإبلَاغِ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأمَانَةِ وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَدَلَّ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَحَذَّرَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَليْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ قَبْلَ وَفَاتِهِ ﷺ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَرِيصًا عَلَى سَعَادَةِ الْأُمَّةِ غَايَةَ الْحِرْصِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى مُنَوِّهًا بِمَا حَبَاهُ اللهُ بِهِ مِنْ صِفَاتٍ جَلِيلَةٍ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

وَهَذَا الَّذِي قَامَ بِهِ ﷺ مِنْ إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ عَليْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليْهِ-، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِين} [النور: 54].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].

وَرَوَى البُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَليْنَا التَّسْلِيمُ».

وَعَلَامَةُ سَعَادَةِ المُسْلِمِ: أَنْ يَسْتَسْلِمَ وَيَنْقَادَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]».

((النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَدَّثُ عَنْ رِسَالَتِهِ لِلنَّاسِ عَامَّةً))

 لَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- آمِرًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا بِخِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

((يَقُولُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}: وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَالْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أَيْ: جَمِيعِكُمْ، وَهَذَا مِنْ شَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُود: 17]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آلِ عِمْرَانَ: 20]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، كَمَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً؛ أَنَّهُ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عُمَرُ عَنْهُ مُغْضَبًا، فَأَتْبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدَ غَامَرَ)) -أَيْ: غَاضَبَ وَحَاقَدَ- قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ، وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرَ.

 قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: ((وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟! إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ)))).

((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (({قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أَيْ: عَرَبِيِّكُمْ وَعَجَمِيِّكُمْ، أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْكُمْ وَغَيْرِهِمْ.

{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِأَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالتَّدَابِيرِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَبِأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا عَظِيمًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُبَاعِدُكُمْ مِنْهُ وَمِنْ دَارِ كَرَامَتِهِ.

{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُعْرَفُ عِبَادَتُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ، {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ تَدَابِيرِهِ: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، الَّذِي جَعَلَ الْمَوْتَ جِسْرًا وَمَعْبَرًا يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ الَّتِي مَنْ آمَنَ بِهَا؛ صَدَّقَ الرَّسُولَ مُحَمَّدًا ﷺ قَطْعًا.

{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} إِيمَانًا فِي الْقَلْبِ مُتَضَمِّنًا لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أَيْ: آمِنُوا بِهَذَا الرَّسُولِ الْمُسْتَقِيمِ فِي عَقَائِدِهِ وَأَعْمَالِهِ، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فِي مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَتَّبِعُوهُ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ!)): حَلِفٌ بِاللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ نَفْسٍ.    

قَوْلُهُ: ((مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ)): أَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، وَيُضَافُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَيُرَادُ بِهَا -أَحْيَانًا- أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، أَيْ: مَنْ أَسْلَمَ-؛ كَحَدِيثِ: ((شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي))، وَيُرَادُ بِهِ -أَحْيَانًا- أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، أَيْ: كُلُّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى أُمَّةِ الدَّعْوَةِ؛ الْمَوْجُودُ مِنْهَا فِي زَمَنِهِ، وَمَنْ سَيُوجَدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَهَادِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاتَمًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَاسِخًا لِمِلَلِ السَّابِقِينَ، دَاعِيًا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الْإِيمَانِ بِرِسَالَتِهِ، مُحَذِّرًا مِنْ كُفْرَانِهَا وَالصَّدِّ عَنْهَا، كَمَا حَذَّرَ الْمُشْرِكِينَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.

فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِبْقَاءُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى مِلَّةٍ بُدِّلَتْ، أَوْ عَلَى مِلَّةٍ لَمْ تُبَدَّلْ.

وَمَنْ سَمِعَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِآيَاتِهِ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا؛ إِذِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا؛ فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ رِسَالَةَ النَّبِيِّ ﷺ عَامَّةً لِكُلِّ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ اللَّاحِقَةِ لِبِعْثَتِهِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي -وَفِيهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً)).

يَقُولُ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِياءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)).

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ مِلَّتِهِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا))

لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ وَقُلْنَا لَكَ: {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الْحَنِيفِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ {حَنِيفًا}: مُسْلِمًا عَلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، بَرِيئًا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُكَ، كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ تَبَرَّأَ مِنْهَا)).

((وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى لِسَيِّدٍ الْخَلْقِ وَأَكْمَلِهِمْ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ)).

إِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: وَهِيَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.

الْحَنِيفِيَّةُ: هِيَ الْمِلَّةُ الْمَائِلَةُ عَنِ الشِّرْكِ، الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَ«الْحَنِيفُ: هُوَ الَّذِي أَقْبَلَ عَلَى اللهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَخْلَصَ لَهُ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ».

الْحَنِيفِيَّةُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.

وَالْعِبَادَةُ بِمَفْهُومِهَا الْعَامِّ هِيَ: التَّذَلُّلُ لِلَّهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا؛ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُهُ.

أَمَّا الْمَفْهُومُ الْخَاصُّ لِلْعِبَادَةِ؛ فَقَدْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ».

أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا، الْإِخْلَاصُ: أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعِبَادَتِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَالْوُصُولَ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ, بِحَيْثُ لَا يَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لَا مَلَكًا مُقَرَّبًا, وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا, قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].

وَبِالْحَنِيفِيَّةِ -وَهِيَ: إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ- أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَمَعْنَى (لِيَعْبُدُونِ): لِيُوَحِّدُونِي، ((يُفْرِدُونَنِي بِالْعِبَادَةِ)).

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- -وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ-، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ...».

أَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا؛ لَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَلَا مَلَكًا مُقَرَّبًا, وَلَا رَئِيسًا, وَلَا مَلِكًا, وَلَا أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ، بَلْ تُفْرِدُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَرَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي بُعِثَتِ الرُّسُلُ لِتَحْقِيقِهِ.

وَأَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ ثَلَاثَةٌ:

الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ, وَهُوَ: «إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْخَلْقِ، وَالْمُلْكِ, وَالتَّدْبِيرِ».

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].

الثَّانِي: تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ, وَهُوَ: «إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ».

الثَّالِثُ: تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَهُوَ: «إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ, وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ»؛ وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ، وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.

وَالتَّوْحِيدُ الْمُرَادُ هُنَا: ((تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ)), وَهُوَ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ, وَاسْتَبَاحَ دَمَهُمْ, وَأَمْوَالَهُمْ, وَأَرْضَهُمْ, وَدِيَارَهُمْ, وَسَبَى نِسَاءَهُمْ, وَذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَكْثَرُ مَا يُعَالِجُ الرُّسُلُ أَقْوَامَهُمْ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 29].

كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ يَصْرِفُونَ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَكَانَتِ الْخُصُومَةُ وَكَانَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.

فَالْعِبَادَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَذَا التَّوْحِيدِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ؛ وَإِنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

التَّوْحِيدُ أَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الدِّينُ كُلُّهُ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَأَمَرَ مَنْ أَرْسَلَهُ لِلدَّعْوَةِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ.

وَكُلُّ دَعْوَةٍ لَا تَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ وَلَا تَبْدَأُ بِهِ دَعْوَةٌ فَاشِلَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَةً لِلْإِصْلَاحِ بِحَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ دَعَا قَوْمَهُ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ.

وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

أَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ الشِّرْكُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْحُقُوقِ هُوَ حَقُّ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, فَإِذَا فَرَّطَ فِيهِ الْإِنْسَانُ فَقَدْ فَرَّطَ فِي أَعْظَمِ الْحُقُوقِ؛ هُوَ تَوْحِيدُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَعْظَمُ الذَّنْبِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ: شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَشِرْكٌ أَصْغَرُ.

فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ: كُلُّ شِرْكٍ أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ, وَكَانَ مُتَضَمِّنًا لِخُرُوجِ الْإِنْسَانِ عَنْ دِينِهِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَهُوَ: كُلُّ عَمَلٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَصْفَ الشِّرْكِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْحَذَرُ مِنَ الشِّرْكِ أَكْبَرِهِ وَأَصْغَرِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

وَعَدَمُ الْمَغْفِرَةِ لِلشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُشْرِكًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَتَابَ إِلَى اللهِ وَوَحَّدَهُ، وَأَنَابَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبَدَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَغْفِرُ لَهُ ذَلِكَ؛ بَلْ وَيُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ نَسَبِهِ وَمَوْطِنِهِ وَزَمَانِهِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ يَجِدُ نَبِيَّنَا ﷺ قَدْ حَدَّثَنَا عَنْ نَفْسِهِ حَدِيثًا كَاشِفًا عَنْ مَنْزِلَتِهِ، وَصَفَاءِ نَسَبِهِ ﷺ؛ فَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ اصْطِفَاءَ النُّبُوَّةِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالنَّاسِ، فَأَمَّا اصْطِفَاءُ النُّبُوَّةِ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ النَّسَبِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ أَعْظَمِ الْبُيُوتِ وَأَشْرَفِهَا وَأَعْرَقِهَا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ الْمَكَانِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ أَحَبِّ بِلَادِ اللهِ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ: ((وَاللهِ! إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ الزَّمَانِ؛ فَقَدِ اصْطَفَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: ((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا اصْطِفَاءُ النَّاسِ؛ فَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)) أَيْ: خَيْرُ النَّاسِ أَهْلُ قَرْنِي، ثُمَّ أَهْلُ الْقَرْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ أَهْلُ الْقَرْنِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، الْأَوَّلُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أَتْبَاعُهُمْ، ثُمَّ أَتْبَاعُ أَتْبَاعِهِمْ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ، وَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفًا.

فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَهُمْ أَفْضَلُ مَنْ مَشَى عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رُسُلِهِ-، وَ-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

قَبِيلَةُ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالشَّرَفِ، وَرِفْعَةِ الشَّأْنِ، وَالْمَجْدِ الْأَصِيلِ، وَقَدَاسَةِ الْمَكَانِ بَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ.

وَقُرَيْشٌ لَقَبُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَوِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكُلٌّ مِنْ رِجَالَاتِ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ كَانُوا سَادَاتٍ وَأَشْرَافًا فِي زَمَانِهِمْ.

((أَمَّا وَالِدُهُ ﷺ؛ فَعَبْدُ اللهِ وَكَانَ أَحْسَنَ أَوْلَادِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَعَفَّهُمْ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الذَّبِيحُ؛ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَ، وَبَدَتْ آثَارُهَا نَازَعَتْهُ قُرَيْشٌ، فَنَذَرَ لَئِنْ آتَاهُ اللهُ عَشْرَةَ أَبْنَاءٍ وَبَلَغُوا أَنْ يَمْنَعُوهُ لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَهُمْ، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللهِ، فَذَهَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِهِ لِيَذْبَحَهُ، فَمَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ لَا سِيَّمَا إِخْوَانُهُ وَأَخْوَالُهُ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَبْدِ اللهِ، وَابْنُ الْمَفْدِيَّيْنِ؛ فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَفُدِيَ عَبْدُ اللهِ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ.

وَاخْتَارَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ، وَكَانَتْ أَفْضَلَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شَرَفًا وَمَوْضِعًا، وَكَانَ أَبُوهَا وَهْبٌ سَيِّدَ (بَنِي زُهْرَةَ) نَسَبًا وَشَرَفًا.

فَتَمَّتِ الْخِطْبَةُ وَالزَّوَاجُ، وَبَنَى بِهَا عَبْدُ اللهِ بِمَكَّةَ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبَعْدَ مُدَّةٍ أَرْسَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوِ الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ رَاجِعًا مِنَ الشَّامِ، وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ ﷺ عَلَى الْأَصَحِّ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ((فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ)).

النَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أَبُو سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، فَأَشْرَفُ الْقَوْمِ قَوْمُهُ، وَأَشْرَفُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ، وَأَشْرَفُ الْأَفْخَاذِ فَخِذُهُ ﷺ.

وَأَمَّا أَصَالَةُ نَسَبِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدِ اخْتَارَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ، وَأَزْكَى الْقَبَائِلِ، وَأَفْضَلِ الْبُطُونِ، فَكَانَ ﷺ أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ وَكَرَمُ بَلَدِهِ، وَمَنْشَؤُهُ فَمِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، وَلَا بَيَانِ مُشْكِلٍ، وَلَا خَفِيٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وَسُلَالَةُ قُرَيْشٍ وَصَمِيمُهَا، وَأَشْرَفُ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَكْرَمِ بِلَادِ اللهِ عَلَى اللهِ وَعَلَى عِبَادِهِ)).

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ)).

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَأَلَهُ: ((كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ((هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)).

وَلَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ ﷺ يَتَنَقَّلُ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ الطَّاهِرَاتِ، لَمْ يَمَسَّ نَسَبَهُ الشَّرِيفَ شَيْءٌ مِنْ سِفَاحِ وَأَدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ هُوَ ﷺ مِنْ سُلَالَةٍ كُلُّهُمْ سَادَةٌ أَشْرَافٌ أَطْهَارٌ.

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي، لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ)) )).

فَهُوَ ﷺ أَكْرَمُ خَلْقِ اللهِ، وَأَفْضَلُ رُسُلِهِ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ.

أَسْمَاءُ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرَةٌ، وَكَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ فِي مَعْهُودِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى، وَالْعَرَبُ مِنْ عَادَاتِهَا إِطْلَاقُ الْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ ذَا شَأْنٍ عَظِيمٍ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ.

وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْعَدِيدَةُ وَالصِّفَاتُ الْحَمِيدَةُ ذَاتُ الْمَعَانِي الْفَرِيدَةِ، فَكَانَتْ أَسْمَاؤُهُ ﷺ دَالَّةً كُلَّ الدِّلَالَةِ عَلَى مَعَانِيهَا، وَمُتَجَسِّدَةً حَقِيقَةً فِي سُلُوكِهِ وَشُؤُونِهِ.

وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ   =   إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

فَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَلَهَمُهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ سَمَّوْهُ مُحَمَّدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لِيَلْتَقِيَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ، وَلِيَتَطَابَقَ الِاسْمُ وَالْمُسَمَّى فِي السُّورَةِ وَالْمَعْنَى، كَمَا قَالَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَيُرْوَى لِحَسَّانٍ:

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: أَحْمَدُ.

وَهُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ الْمَسِيحُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6].

مُحَمَّدٌ: هُوَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا بَعْدَ حَمْدٍ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى كَثْرَةِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ لَهُ.

وَأَحْمَدُ: هُوَ الَّذِي حَمْدُهُ لِرَبِّهِ أَفْضَلُ مِنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ غَيْرِهِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: الْحَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيَحْشُرَ النَّاسَ.

وَمِنْهَا: الْمَاحِي، وَهُوَ الَّذِي مَحَا اللهُ بِهِ الْكُفْرَ.

وَمِنْهَا: الْعَاقِبُ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي الْخَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَقَبَ الْأَنْبِيَاءَ، وَكَانَ آخِرَهُمْ ﷺ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ قَوْلُهُ ﷺ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِنْ أَسْمَائِهِ ﷺ: الْمُتَوَكِّلُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالِهِ.

قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: ((لَقِيتُ عَبْدَ اللهَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ)).

فَقَالَ: ((أَجَلْ وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللهُ بِهِ بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ الرَّحْمَةِ.

وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ=هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ

فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَرَحِمَ بِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي -وَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبِ، وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلْأَنْبِيَاءِ-، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْهَا: نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ هُوَ الَّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَأَنَا الْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الشَّمَائِلِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ الْمُلَّا عَلِيٌّ الْقَارِي -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا تَعَارُضَ بَيْنَ كَوْنِهِ رَسُولَ الرَّحْمَةِ وَكَوْنِهِ رَسُولَ الْمَلْحَمَةِ؛ إِذْ هُوَ سِلْمٌ لِأَوْلِيَائِهِ حَرْبٌ لِأَعْدَائِهِ ﷺ)).

وَمِنْهَا: الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

قَالَ جُبَيْرٌ: ((وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا كُنْيَتُهُ ﷺ؛ فَقَدْ كُنِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأَبِي الْقَاسِمِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا أَبَا الْقَاسِمِ!)).

فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ الرَّجُلُ: ((إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَتِلْكَ هِيَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ الطَّيِّبَّةِ الْحَسَنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا الْعَظِيمَةِ الرَّائِعَةِ، فَهُوَ ﷺ عَظِيمٌ مُكَرَّمٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَخُلُقِهِ وَكُلِّ شَمَائِلِهِ.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ))

لَقَدْ بَشَّرَ النَّبِيُّونَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمُحَمَّدٍ ﷺ أَقْوَامَهُمْ، وَأَمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ فِيمَا دَعَا بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].

وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6].

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟)).

قَالَ: ((دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ الْجَعْدِ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ أَرَادَ بَدْءَ أَمْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاشْتِهَارَ ذِكْرِهِ وَانْتِشَارَهُ، فَذَكَرَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْعَرَبُ، ثُمَّ بُشْرَى عِيسَى الَّذِي هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا بِهِ -أَيْضًا-.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ رَعْيِهِ لِلْغَنَمِ))

كَانَ أَبُو طَالِبٍ مُقِلًّا فِي الرِّزْقِ، فَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، فَرَعَاهَا لِأَهْلِهِ بِـ(أَجْيَادٍ) -وَأَجْيَادُ: مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ هِيَ لِلصَّفَا- رَعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ -وَالْقَرَارِيطُ: جَمْعُ قِيرَاطٍ وَهُوَ الْجُزْءُ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ-.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ)).

فَقَالَ أَصْحَابُهُ: ((وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَكَانَ ﷺ وَهُوَ يَرْعَى الْغَنَمَ يَجْنِي الْكَبَاثَ، وَيَتَحَرَّى الْأَسْوَدَ مِنْهُ -وَالْكَبَاثُ: النَّضِيجُ مِنْ ثَمَرِ الْأَرَاكِ-، وَشَجَرَةُ الْأَرَاكِ دَائِمَةُ الْخُضْرَةِ، يُسْتَخْرَجُ السِّوَاكُ مِنْ جُذُورِهَا؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَجْتَنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ)).

قَالَ: قُلْنَا: ((وَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ رَعَاهَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ أَهَمِّيَّةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))

النَّبِيُّ ﷺ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهَمِّيَّةِ الْأَخْلَاقِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ مِنْ ثَمَرَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَعَلَ إِتْمَامَ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِنْ كُبْرَيَاتِ غَايَاتِ بِعْثَتِهِ ﷺ؛ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.

وَمَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَصَفَ النَّبِيَّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ الَّتِي قَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ، وَيُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ اسْتَفْتَحَ بِدُعَاءِ اسْتِفْتَاحِ الْقِيَامِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ -وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ قِيَامُ اللَّيْلِ لَيْلَةً وَاحِدَةً حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ﷺ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا بِلَيْلٍ؛ صَلَّى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَتَهَجَّدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ﷺ-، مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَكْمَلَ نَبِيَّهُ ﷺ، وَأَدَّبَهُ، وَحَسَّنَ أَخْلَاقَهُ حَتَّى صَارَ ذَهَبًا صِرْفًا مَحْضًا؛ بَلْ صَارَ كَمِثْلِهِ الذَّهَبُ الصِّرْفُ الْمَحْضُ ﷺ؛ إِلَّا أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

فِي دُعَاءٍ عَظِيمٍ يَسْتَفْتِحُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ ظَرْفَ الْمُنَاجَاةِ لِلْعَلِيِّ الْأَعْلَى ذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ إِذَا مَا صَفَّ الْقَدَمَيْنِ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)).

وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ شَفِيفَةٌ تَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ وَسَاطَةِ لِسَانٍ، إِنَّمَا هِيَ لُغَةُ الْقَلْبِ الْحَيِّ، وَلُغَةُ الْقَلْبِ النَّابِضِ، وَلُغَةُ الدَّمِ الْمُتَأَجِّجِ الْمُشْتَعِلِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَدْعُو النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعْرِفُ أَعْدَاؤُهُ قَبْلَ أَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَبْلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا لَهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ﷺ؛ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَصِفُهُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَهُ الْعَظَمَةُ الْمُتَفَرِّدَةُ، وَلَهُ الْجَنَابُ الْأَعْلَى، وَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى، وَهُوَ اللهُ ذُو الْقُوَى وَالْقُدَرِ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِنْدَمَا يَصِفُ شَيْئًا بِأَنَّهُ عَظِيمٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ مَدَى عَظَمَتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْغَايَةِ وَفَوْقَ الْمُنْتَهَى ﷺ، وَشَهِدَ لَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ وَهُوَ يُعَلِّمُنَا: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).

إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ..

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وَقَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاة)) ﷺ.

((النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَدَّثُ أَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا))

إِنَّ مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ مُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا؛ فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟)).

قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ المُفْرَدِ)).

وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ.

فَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.

وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ جُمْلَةٍ مِنْ خَصَائِصِهِ))

((لَقَدْ خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ أَفْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّصْنِيفِ، وَكَذَا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالْكَثِيرِ مِنَ الْخَصَائِصِ.

وَقَدْ وَرَدَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ تُصَرِّحُ بِعُلُوِّ مَنْزِلَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّهُ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ مَحَاسِنًا وَفَضْلًا، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَكْرَمَهُ بِخَصَائِصَ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْبَشَرِ.

وَأَمَّا الْخَصَائِصُ فِي اللُّغَةِ؛ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: (( (خَصَّهُ) بِالشَّيْءِ: خَصًّا وَخُصُوصًا وَخُصُوصِيَّةً: فَضَّلَهُ)).

وَفِي ((اللِّسَانِ)): ((خَصَّهُ بِالشَّيْءِ يَخُصُّهُ خَصًّا وَاخْتَصَّهُ: أَفْرَدَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ: اخْتُصَّ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ وَتَخَصَّصَ لَهُ إِذَا انْفَرَدَ)).

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَالْخَصَائِصُ: مَا اخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ وَفَضَّلَهُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَكَذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ.

وَلِمَعْرِفَةِ الْخَصَائِصِ الَّتِي خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

-الْوُقُوفُ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْمِنَحِ وَالْهِبَاتِ؛ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلِيلِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

-وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَجْعَلُ الْمُسْلِمَ يَزْدَادُ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَمَحَبَّةً وَتَبْجِيلًا لِنَبِيِّهِ، وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَيَقِينًا بِهِ.

-وَتَدْعُو غَيْرَ الْمُسْلِمِ لِدِرَاسَةِ أَحْوَالِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَمِنْ ثَمَّ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِنْ كَانَ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنْصِفِينَ.

وَيُضَمُّ إِلَى ذَلِكَ فَوَائِدُ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ ﷺ عَنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَمِنْهَا: تَمْيِيزُ تِلْكَ الْخَصَائِصِ وَمَعْرِفَتُهَا، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ: بَيَانُ تَفَرُّدِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِهَا، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّتِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ فِيهَا.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِفَوَائِدِ حَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الْوِصَالِ -يَعْنِي: فِي الصِّيَامِ-»: ((قَالُوا: «إِنَّكَ تُوَاصِلُ... »، قَالَ: فِيهِ ثُبُوتُ خَصَائِصِهِ ﷺ، وَأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] مَخْصُوصٌ)).

وَقَدْ نَصَّ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخَصَائِصَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ.

وَخَصَائِصُ الرَّسُولِ ﷺ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: خَصَائِصُ اخْتُصَّ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اخْتُصَّ بِهِ ﷺ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْأَحْكَامِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَقَدْ يُشَارِكُهُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْخَصَائِصِ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

فَأَمَّا الْخَصَائِصُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدِ اخْتَصَّ نَبِيَّهُ  ﷺ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ؛ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلِيلِ رُتْبَتِهِ، وَشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ -تَعَالَى-.

فَفِي الدُّنْيَا آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ؛ الْآيَةَ الْمَحْفُوظَةَ الْخَالِدَةَ، وَنَصَرَهُ بِالرُّعْبِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ فِي الدُّنْيَا.

وَفِي الْآخِرَةِ أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، وَالْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَالْحَوْضِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا فِي الْآخِرَةِ.

وَأَكْرَمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِخَصَائِصَ فِي أُمَّتِهِ لَمْ تُعْطَهَا غَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ:

فَفِي الدُّنْيَا: أَحَلَّ اللهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَهَا الْغَنَائِمَ، وَجَعَلَ لَهَا الْأَرْضَ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَجَعَلَهَا خَيْرَ الْأُمَمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَفِي الْآخِرَةِ اخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأَنْ جَعَلَهَا شَاهِدَةً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَجَعَلَهَا أَوَّلَ الْأُمَمِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- الْخَصَائِصَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى عِدَّةِ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا اخْتُصَّ بِهِ فِي ذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: مَا اخْتُصَّ بِهِ فِي ذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُصَّ بِهِ فِي أُمَّتِهِ فِي الدُّنْيَا.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَا اخْتُصَّ بِهِ فِي أُمَّتِهِ فِي الْآخِرَةِ)).

 ((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ خَصَائِصِهِ فِي الدُّنْيَا))

((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اخْتَصَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِخَصَائِصَ فِي الدُّنْيَا لِذَاتِهِ، مِنْهَا:

-الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ: فَقَدْ أَخَذَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى عِيسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- لَمَهْمَا آتَى اللهُ أَحَدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَبَلَغَ أَيَّ مَبْلَغٍ، ثُمَّ بُعِثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ﷺ؛ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّبَاعِهِ وَنُصْرَتِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا هَذَا الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَمِهِمْ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُّنَّهُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ». وَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَغَضِبَ، فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! -وَالتَّهَوُّكُ: كَالتَّهَوُّرِ، وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْأَمْرِ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَهُوَ التَّحَيُّرُ أَيْضًا- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ -يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ- عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ مُوسَى ﷺ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي». رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) وَالدَّارِمِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَوْ وُجِدَ فِي أَيِّ عَصْرٍ لَكَانَ هُوَ الْوَاجِبَ الطَّاعَةِ، الْمُقَدَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ إِمَامَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ». 

فَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فِي الدُّنْيَا لِذَاتِهِ؛ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ.

-وَاخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ جَعَلَ رِسَالَتَهُ رِسَالَةً عَامَّةً،

وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ السَّابِقُونَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُرْسَلُونَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ} [الأعراف: 59].

{وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} الأعراف: 65].

{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود: 61].

 {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80].

 {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود: 84].

وَأَمَّا نَبِيُّنَا ﷺ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ؛ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، وَإِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: «وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرْسَلَ كُلَّ نَبِيٍّ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَرْسَلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلِكُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَوَابُ تَبْلِيغِهِ إِلَى أُمَّتِهِ، وَلِنَبِيِّنَا ﷺ ثَوَابُ التَّبْلِيغِ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؛ تَارَةً لِمُبَاشَرَةِ الْبَلَاغِ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ تَمَنَّنَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} [الفرقان: 51]، وَوَجْهُ التَّمَنُّنِ: أَنَّهُ لَوْ بَعَثَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَمَا حَصَلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا أَجْرُ إِنْذَارِهِ لِأَهْلِ قَرْيَتِهِ)).

وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ تُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ:

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

 وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29].

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «... كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ». 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ».

فَقَالُوا: ((يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟)).

قَالَ: ((إِنَّ اللهَ قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الْآيَةَ [الأنبياء: 29]، وَقَالَ اللهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2])).

قَالُوا: ((فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟)).

قَالَ: ((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الْآيَةَ [إبراهيم: 4]، وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُحَمَّدٍ ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، فَأَرْسَلَهُ -تَعَالَى- إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ».

فَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ عَالَمِيَّةُ الرَّسُولِ؛ فَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى عُمُومِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّاعَةَ؛ فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ.

-وَمِنْ خَصَائِصِهِ: أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: فَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ: إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُ: خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ، وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ ﷺ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى هَذَا الْمَقَامَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَذَّابٌ أَفَّاكٌ دَجَّالٌ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ مِنَ السُّنَّةِ: مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَزَعِ النَّاسِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، «فَيَقُولُ عِيسَى: اذهْبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ... ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)) ﷺ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَنَسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ، قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: وَلَكِنِ الْمُبَشِّرَاتُ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟)).

قَالَ: «رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ))، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: ((وَأَنَا الْعَاقِبُ))، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟)).

قَالَ «أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

-وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَهُ رَحْمَةً مُهْدَاةً؛ فَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً لِلْخَلَائِقِ عَامَّةً؛ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَإِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَجَعَلَهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، فَمَنْ قَبِلَ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وَجَحَدَهَا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.

وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ! ادْعُ اللهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ)).

قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) وَقَالَ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا)) وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَهُمَا غَيْرُهُمَا.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَ((الْمُقَفِّي)): الْمُوَلِّي الذَّاهِبُ، يَعْنِي: أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ يَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَعَنْ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سَبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً فِي غَضَبِي؛ فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}: «كَانَ مُحَمَّدٌ ﷺ رَحْمَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَهُ كَانَ لَهُ رَحْمَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُبْتَلَى بِهِ سَائِرُ الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ، وَالْمَسْخِ، وَالْقَذْفِ».

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}: ((لِجَمِيعِ الْخَلْقِ؛ لِلْمُؤْمِنِ رَحْمَةً بِالْهِدَايَةِ، وَرَحْمَةً لِلْمُنَافِقِ بِالْأَمَانِ مِنَ الْقَتْلِ، وَرَحْمَةً لِلْكَافِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ)).

وَأَمَّا كَوْنُهُ ﷺ رَحْمَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ خَاصَّةً؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [التوبة: 61].

فَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، جَعَلَهُ رَحْمَةً مُهْدَاةً ﷺ.

-وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنْ جَعَلَهُ أَمَنَةً لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَجَعَلَ وُجُودَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَمَنَةً لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؛ بِخِلَافِ مَا حَصَلَ لِبَعْضِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، حَيْثُ عُذِّبُوا فِي حَيَاةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانَ ﷺ أَمَنَةً لِأَصْحَابِهِ كَذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ، وَالْحُرُوبِ، وَارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أُنْذِرَ بِهِ صَرِيحًا، وَوَقَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَأَمْهَلَ عُصَاةَ أُمَّتِهِ، وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كُذِّبُوا عُوجِلَ مُكَذِّبُهُمْ».

وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحينَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ((اللهمّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ [الأنفال: 33-34])).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ، قَالَ: فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا)).

فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟».

قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ)).

قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ».

قَالَ: ((فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ: «رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلَّا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلَّا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؟». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ تَعِدْنِي هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ، لَمْ تَعِدْنِي هَذَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «إِنَّ اللهَ جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَمَانَيْنِ لَا يَزَالُونَ مَعْصُومِينَ مُجَارِينَ مِنْ قَوَارِعِ الْعَذَابِ مَا دَامَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَأَمَانٌ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَمَانٌ بَقِيَ فِيكُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33])).

فَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنْ جَعَلَهُ أَمَنَةً لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

-وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: الْقَسَمُ بِحَيَاتِهِ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِيُؤَكِّدَ الْمَعْنَى فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ، فَأَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْفَجْرِ، وَالسَّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَيْنَمَا نَجِدُهُ -سُبْحَانَهُ- لَمْ يُقْسِمْ بِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «مَا خَلَقَ اللهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمَا سَمِعْتُ اللهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} يَقُولُ: وَحَيَاتِكَ وَعُمُرِكَ وَبَقَائِكَ فِي الدُّنْيَا)).

وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ ﷺ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

وَالْإِقْسَامُ بِحَيَاةِ الْمُقْسَمِ بِحَيَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ حَيَاتِهِ وَعِزَّتِهَا عِنْدَ الْمُقْسِمِ بِهَا، وَأَنَّ حَيَاتَهُ ﷺ لَجَدِيرَةٌ أَنْ يُقْسَمَ بِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا لِغَيْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

-وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا: نِدَاؤُهُ بِوَصْفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ خَاطَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَمْ يُنَادِهِ بِاسْمِهِ؛ زِيَادَةً فِي التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، أَمَّا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَخُوطِبُوا بِأَسْمَائِهِمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64].

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

بَيْنَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35].

{يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود: 48].

{يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف: 144].

{يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105].

{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة: 110].

فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.

قَالَ الْعِزُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا دَعَا أَحَدَ عَبِيدِهِ بِأَفْضَلِ مَا وَجَدَ فِيهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّنِيَّةِ، وَدَعَا الْآخَرِينَ بِأَسْمَائِهِمُ الْأَعْلَامِ، لَا يُشْعِرُ بِوَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَلَا بِخُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ؛ أَنَّ مَنْزِلَةَ مَنْ دَعَاهُ بِأَفْضَلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ أَعَزُّ عَلَيْهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ مِمَّنْ دَعَاهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ.

وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ؛ أَنَّ مَنْ دُعِيَ بِأَفْضَلِ أَوْصَافِهِ وَأَخْلَاقِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ وَاحْتِرَامِهِ».

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَهُ لِلتَّعْرِيفِ قَرَنَهُ بِذِكْرِ الرِّسَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ} [محمد: 2].

وَلَمَّا ذَكَرَهُ مَعَ الْخَلِيلِ ذَكَرَ الْخَلِيلَ بِاسْمِهِ، وَذَكَرَهُ بِاللَّقَبِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68])).

-وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُنَادَاتِهِ بِاسْمِهِ؛ فَقَدْ أَدَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُخَاطَبَةِ نَبِيِّهِ ﷺ وَالْكَلَامِ مَعَهُ؛ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَقْدِيرًا لَهُ، فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يُخَاطِبُوهُ بِاسْمِهِ، بَلْ يُخَاطِبُوهَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاطَبَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَمْ يُنَادِهِ بِاسْمِهِ زِيَادَةً فِي التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ -كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ-؛ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَاخْتُصَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَإِنَّ أُمَمَهُمْ كَانَتْ تُخَاطِبُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ ذَلِكَ؛ إِعْظَامًا لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ».

وَقَالَ قَتَادَةُ -فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ-: أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْ يُبَجَّلَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، وَأَنْ يُسَوَّدَ؛ بِخِلَافِ مَا خَاطَبَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ أَنْبِيَاءَهَا، فَقَالَ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنْهُمْ-: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134]، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 112])).

فَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ.

-وَمِمَّا فَضَّلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاخْتَصَّ بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ: مَا أَعْطَاهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ؛ فَقَدْ فَضَّلَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بِأَنْ أَعْطَاهُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَكَانَ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِالْقَوْلِ الْمُوجَزِ الْقَلِيلِ اللَّفْظِ، الْكَثِيرِ الْمَعَانِي، أَعْطَاهُ مَفَاتِيحَ الْكَلَامِ، وَهُوَ مَا يَسَّرَهُ لَهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَالْوُصُولِ إِلَى غَوَامِضِ الْمَعَانِي، وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَمَحَاسِنِ الْعِبَارَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي أُغْلِقَتْ عَلَى غَيْرِهِ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ.

قَالَ الْعِزُّ: «وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: أَنَّهُ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لَهُ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا، وَفَاقَ الْعَرَبَ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ ﷺ ».

وَمِمَّا جَاءَ فِي السُّنَّةِ دَالًّا عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ:

مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ؛ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ وَخَوَاتِمَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو يَعْلَى فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ.

قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: « ((أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَفَاتِحَ))، هُمَا جَمْعُ مِفْتَاحٍ، وَهُمَا فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْمُغْلَقَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَفَاتِيحُ شَيْءٍ مَخْزُونٍ سَهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ)).

وَأَمَّا: ((خَوَاتِمَ الْكَلِمِ)):فَحُسْنُ الْوَقْفِ وَرِعَايَةُ الْفَوَاصِلِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَجَوَامِعُ الْكَلِمِ الَّتِي خُصَّ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لَمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الْآيَةُ خَيْرًا إِلَّا أَمَرَتْ بِهِ، وَلَا شَرًّا إِلَّا نَهَتْ عَنْهُ».

الثَّانِي: مَا هُوَ فِي كَلَامِهِ ﷺ، وَهُوَ مُنْتَشِرٌ مَوْجُودٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ)).

مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا الْحَدِيثُ ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَيَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفِقْهِ)).

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَأَمَّا كَلَامُهُ الْمُعْتَادُ، وَفَصَاحَتُهُ الْمَعْلُومَةُ، وَجَوَامِعُ كَلِمِهِ وَحِكَمُهُ الْمَأْثُورَةُ؛ فَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهَا الدَّوَاوِينَ، وَجُمِعَتْ فِي أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا الْكُتُبُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُوَازَى فَصَاحَةً، وَلَا يُبَارَى بَلَاغَةً)).

وَذَكَرَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَمْثِلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَقْوَالِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ﷺ.

فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

وَقَوْلُهُ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».

قُلْنَا: ((لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ «للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ».

وَقَوْلُهُ ﷺ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَوَتْهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ؛ مِنْ مَقَامَاتِهِ، وَمُحَاضَرَاتِهِ، وَخُطَبِهِ، وَأَدْعِيَتِهِ، وَمُخَاطَبَاتِهِ، وَعُهُودِهِ، مِمَّا لَا خِلَافَ أَنَّهُ نُزِّلَ مِنْ ذَلِكَ مَرْتَبَةً لَا يُقَاسُ بِهَا غَيْرُهُ، وَحَازَ فِيهَا سَبْقًا لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ)).

فَآتَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ جَوَامِعَ الْكَلِمِ.

-وَمِمَّا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنَّ اللهَ نَصَرَهُ بِالرُّعْبِ؛ فَقَدِ اخْتَصَّ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّنَا ﷺ بِنَصْرِهِ بِالرُّعْبِ، وَهُوَ الْفَزَعُ وَالْخَوْفُ، فَكَانَ اللهُ -تَعَالَى- يُلْقِي الْفَزَعَ وَالْخَوْفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ هَابُوهُ وَفَزِعُوا مِنْهُ، فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى لِقَائِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ: ((وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ حَاصِلَةٌ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ وَحْدَهُ بِغَيْرِ عَسْكَرٍ، وَهَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ)).

وَمِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مُؤَيِّدًا لِهَذَا الْمَعْنَى:

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فُضِّلْتُ بِأَرْبَعٍ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَتَى الصَّلَاةَ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُصَلِّي عَلَيْهِ وَجَدَ الْأَرْضَ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرَيْنِ يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 

وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسٍ: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لَمُلِىءَ مِنْهُ رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يُحَرِّقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ -يَعْنِي: التَّيَمُّمَ-، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؛ قِيلَ لِي: سَلْ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».

-وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَكْرَمَ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَاخْتَصَّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ أَعْطَاهُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَهِيَ مَا سَهَّلَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنِ افْتِتَاحِ الْبِلَادِ الْمُتَعَذَّرَاتِ، وَالْحُصُولِ عَلَى كُنُوزِهَا وَذَخَائِرِهَا وَمَغَانِمِهَا، وَاسْتِخْرَاجِ الْمُمْتَنَعَاتِ مِنَ الْأَرْضِ؛ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ)).

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا)).  وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((تَنْتَثِلُونَهَا)): بِوَزْنِ تَفْتَعِلُونَهَا، تَقُولُ: نَثَلْتُ الْبِئْرَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَ تُرَابَهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي يَدِي سُوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَأَمَّا صَاحِبُ صَنْعَاءَ فَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْيَمَامَةِ فَمُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ.

وَعَنْ عُقْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «أَنَا فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ -أَوْ: مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ-، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فِيهَا)) أَيِ: الدُّنْيَا ((وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا)).

-وَمِمَّا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ: بِأَنْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَخْبَرَهُ بِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ حَيٌّ صَحِيحٌ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ.

قَالَ الْعِزُّ: «مِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ اللهُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ: نَفْسِي نَفْسِي)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2])): ((هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ ((غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ))، وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ».

وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 1-2].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1-4].

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الشَّفَاعَةِ: «فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الشَّفَاعَةِ -أَيْضًا-: «... فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟)).

قَالَ: «أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا».

فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي: غُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ» ﷺ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: غَابَ عَنَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَجَدَ سَجْدَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ قُبِضَتْ فِيهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: «إِنَّ رَبِّي -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اسْتَشَارَنِي فِي أُمَّتِي مَاذَا أَفْعَلُ بِهِمْ، فَقُلْتُ: مَا شِئْتَ أَيْ رَبِّ، هُمْ خَلْقُكَ وَعِبَادُكَ، فَاسْتَشَارَنِي الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لَا نُخْزِيكَ فِي أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَبَشَّرَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ.

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: ادْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: أَوَ مُعْطِيَّ رَبِّي سُؤْلِي؟ فَقَالَ: مَا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ.

وَلَقَدْ أَعْطَانِي رَبِّي وَلَا فَخْرَ، وَغَفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ وَأَنَا أَمْشِي حَيًّا صَحِيحًا، وَأَعْطَانِي أَلَّا تَجُوعَ أُمَّتِي وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي الْكَوْثَرَ، فَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ يَسِيلُ فِي حَوْضِي، وَأَعْطَانِي الْعِزَّ وَالنَّصْرَ وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَأَعْطَانِي أَنِّي أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْغَنِيمَةَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شَدَّدَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ».

-لَقَدْ أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَحُجَّةٌ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ وَقْتِيَّةً، انْقَرَضَ زَمَانُهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْخَبَرُ عَنْهَا.

وَقَدْ خَصَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِخَصَائِصَ عَظِيمَةٍ، وَكَذَلِكَ خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُونَ أُمَّتِهِ بِخَصَائِصَ تَفَرَّدَ بِهَا ﷺ.

وَقَدْ كَانَتْ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ ﷺ الْعُظْمَى وَآيَتَهُ الْجُلَّى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْمُسْتَمِرَّةُ الْبَالِغَةُ الدَّائِمَةُ الْقَائِمَةُ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُرْآنَ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، كِتَابٌ خَالِدٌ، لَا يَنْضَبُ مَعِينُهُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدُهُ، مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ.

قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي ((غَايَةِ السُّولِ فِي تَفْضِيلِ الرَّسُولِ ﷺ )): «وَمِنْ خَصَائِصِهِ: أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ تَصَرَّمَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَمُعْجِزَةَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ -وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ- بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ».

وَقَالَ: ((وَمِنْهَا: حِفْظُ كِتَابِهِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَلَى أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ كَلِمَةً أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا وَقَعَ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ».

وَمِنْ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ:

قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 41-42].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الْحَدِيثِ يُبَيِّنُهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: ((رَتَّبَ ﷺ هَذَا الْكَلَامَ: ((فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ))؛ رَتَّبَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَمِرَّةِ؛ لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ، وَعُمُومِ نَفْعِهِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ، وَالْإِخْبَارِ بِمَا سَيَكُونُ، فَعَمَّ نَفْعُهُ مَنْ حَضَرَ وَمَنْ غَابَ، وَمَنْ وُجِدَ وَمَنْ سَيُوجَدُ، فَحَسُنَ تَرْتِيبُ الرَّجْوَى الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الرَّجْوَى قَدْ تَحَقَّقَتْ؛ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا».

وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} قَالَ: «حَفِظَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَا يَزِيدُ فِيهِ بَاطِلًا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ حَقًّا».

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: ((دَخَلَ يَهُودِيٌّ عَلَى الْمَأْمُونِ، فَتَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَدَعَاهُ الْمَأْمُونُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبَى، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: مَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟

قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمْتَحِنَ هَذِهِ الْأَدْيَانَ، فَعَمَدْتُ إِلَى التَّوْرَاةِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَةَ، فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وَعَمَدْتُ إِلَى الْإِنْجِيلِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْبَيْعَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وَعَمَدْتُ إِلَى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا، فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ إِسْلَامِي.

قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: فَحَجَجْتُ تِلْكَ السَّنَةَ فَلَقِيتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي: مِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-.

قُلْتُ: فِي أَيِّ مَوْضِعٍ؟

قَالَ: فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، فَجَعَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَضَاعَ، وَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فَحَفِظَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ)).

فَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا: أَنْ حَفِظَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَمَعَ كَثْرَةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَمَعَ كَثْرَةِ حِقْدِهِمْ عَلَى دِينِ اللهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ وَلَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَزِيدَ فِي كِتَابِ اللهِ حَرْفًا، وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ حَرْفًا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

-وَمِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: مُعْجِزَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ.

كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي ((الشِّفَا))، وَكَذَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي ((الْفُصُولِ))، وَالسُّيُوطِيُّ فِي ((الْخَصَائِصِ الْكُبْرَى)).

فَقَدْ أُسْرِيَ بِهِ ﷺ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى -وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِـ(إِيلِيَاءَ)- فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَجَعَ مَكَّةَ مِنْ لَيْلَتِهِ.

وَأُكْرِمَ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ بِكَرَامَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا: تَكْلِيمُهُ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَفَرْضُ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَإِمَامَتُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَالرَّئِيسُ الْمُقَدَّمُ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَقَدْ ثَبَتَ الْإِسْرَاءُ بِالْقُرْآنِ، كَمَا ثَبَتَ الْمِعْرَاجُ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْقُرْآنُ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ} [النجم: 3-18].

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: ((بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا؛ إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ -قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ-: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ)).

فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، ((فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ)).

فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟

قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ.

((فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ؛ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي -وَاللَّهِ- قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَدَلِيلُ إِمَامَتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكَرِبْتُ كُرْبَةً مَا كَرِبْتُ مِثْلَهُ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي: نَفْسَهُ-، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ! هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)).

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا نَبِيَّنَا ﷺ لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا.

((حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ خَصَائِصِهِ فِي الْآخِرَةِ))

((وَأَمَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ لِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَصَّهُ ﷺ بِخَصَائِصَ لِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَسِيلَةُ، وَالْفَضِيلَةُ، وَالْحَوْضُ، وَالْكَوْثَرُ، وَاللِّوَاءُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.

-الْوَسِيلَةُ: أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَهُوَ رَسُولُنَا ﷺ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( «الْوَسِيلَةُ»: عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَدَارُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَةِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ».

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( «الْفَضِيلَةُ» أَيِ: الْمَرْتَبَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْزِلَةً أُخْرَى، أَوْ تَفْسِيرًا لِلْوَسِيلَةِ)).

فَمَنْزِلَةُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِمَا غَيْرُهُ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللهمّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ؛ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ؛ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ؛ فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْأَلُهَا لِي عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)) وَغَيْرِهِ.

فَالْوَسِيلَةُ وَالْفَضِيلَةُ مِمَّا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نَبِيَّنَا ﷺ لِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ.

-وَمِمَّا خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ كَذَلِكَ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ؛ فَلِرَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَشْرِيفَاتٌ وَتَكْرِيمَاتٌ لَا يَشْرَكُهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِيهَا أَحَدٌ، الْأَنْبِيَاءُ فَمَنْ دُونَهُمْ.

وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَقُومُهُ ﷺ، فَيَحْمَدُهُ الْخَالِقُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْخَلَائِقُ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].

وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى «الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ»:

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ذَلِكَ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُهُ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ؛ لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ».

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «... وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ: الشَّفَاعَةُ، وَبَالَغَ الْوَاحِدِيُّ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ».

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ: «وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ: الشَّفَاعَةُ».

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -رَفَعَهُ-، فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قال: «يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، سُكُوتًا لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، قَالَ: فَيُنَادَى: مُحَمَّدُ! فَأَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، الْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكَ وَإِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، سُبْحَانَ رَبِّ الْبَيْتِ»، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا})).

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ: مَقَامُ الشَّفَاعَةِ».

وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ صَرِيحًا بِالِاسْمِ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ تَلْمِيحًا، وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى أَوْ غَيْرِهَا مِنْ مَعَانِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّتِي مَرَّتْ.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللهمّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ؛ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ؛ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثَا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ! اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}: سُئِلَ عَنْهَا)).

قَالَ: ((هِيَ الشَّفَاعَةُ)).

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ».

فَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا لِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ.

-وَمِنْ خَصَائِصِهِ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى، وَبَعْضُ الشَّفَاعَاتِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِ ﷺ، يَجْمَعُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ وَقَدْ تَضَاعَفَ حَرُّهَا، وَتَبَدَّلَتْ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ خِفَّةِ أَمْرِهَا، وَيَعْرَقُ النَّاسُ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ وَيَبْلُغُ آذَانَهُمْ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ، مُنْفَطِرَةً قُلُوبُهُمْ، لَا يُكَلَّمُونَ، وَلَا يُنْظَرُ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْكَرْبُ وَالْجَهْدُ مِنْهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ؛ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَلَبِ مَنْ يَكْرُمُ عَلَى مَوْلَاهُ لِيَشْفَعَ فِي حَقِّهِمْ، فَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِنَبِيٍّ إِلَّا دَفَعَهُمْ، قَالَ: نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَيَنْطَلِقُ، فَيَشْفَعُ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الْخَلْقِ.

وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَقَائِعُ فَصَّلَتْهَا الْأَحَادِيثُ.

وَبَعْدَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ يَكُونُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ شَفَاعَاتٌ أُخْرَى.

فَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْأُولَى لِنَبِيِّنَا ﷺ، وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: ((وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا، وَهِيَ إِرَاحَةُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ أَهْوَالِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَالْفَرَاغِ مِنْ حِسَابِهِمْ)).

وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ مُثْبِتَةً لِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ -وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ-، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: ((أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يُجْمَعُ النَّاسُ -الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ- فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ-، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، ويَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟

فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةُ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟

فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ.

فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ! إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟

فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ.

فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟

فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى.

فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى ﷺ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى.

فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟

فَيَقُولُ عِيسَى ﷺ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا-، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟

فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي.

ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ.

فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِرَسُولِ اللهِ ﷺ شَفَاعَاتٌ أُخْرَى غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِهَا وَحْدَهُ، وَمِنْهَا مَا شَارَكَهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَغَيْرِهِمْ.

مِنْ شَفَاعَاتِ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ سِوَى الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى:

-الشَّفَاعَةُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ.

-الشَّفَاعَةُ فِي تَقْدِيمِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.

-الشَّفَاعَةُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ أَلَّا يَدْخُلَهَا.

-الشَّفَاعَةُ فِي إِخْرَاجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ.

-الشَّفَاعَةُ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ نَاسٍ فِي الْجَنَّةِ.

-الشَّفَاعَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.

فَالَّذِي اخْتُصَّ بِهِ ﷺ مِنْ هَذِهِ الشَّفَاعَاتِ دُونَ غَيْرِهِ هُوَ:

*شَفَاعَتُهُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ:

يَنْتَقِلُ النَّاسُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مِنْ كَرْبٍ إِلَى كَرْبٍ، فَأَهْوَالٌ قَبْلَ فَصْلِ الْقَضَاءِ، فَشَفَاعَةٌ عُظْمَى، ثُمَّ يُحَاسَبُ النَّاسُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُنْصَبُ الْمِيزَانُ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، وَيَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي نَصْبِ الصِّرَاطِ وَالْمُرُورِ عَلَيْهِ، وَيُوقَفُ بَعْضُ مَنْ نَجَا عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ لِلْمُقَاصَصَةِ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ كُلُّهُ يَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ، وَتُقَرَّبُ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَطْلُبُونَ مَنْ يَكْرُمُ عَلَى مَوْلَاهُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَإِبْرَاهِيمَ، فَمُوسَى، فَعِيسَى -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، فَيَأْتُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَيَشْفَعُ لَهُمْ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ-.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا! اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ؟! لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ.

قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى ﷺ الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا.

فَيَأْتُونَ مُوسَى ﷺ فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ.

فَيَقُولُ عِيسَى ﷺ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ)).

قَالَ: ((قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟)).

قَالَ: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ -يَعْنِي: الْعَدْوَ الشَّدِيدَ الْبَالِغَ- تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، قَالَ: وَفِي حَافَّتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ».

وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ! إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ؛ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ».

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الشَّفَاعَتَيْنِ؛ الْأُولَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِيَةُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ «الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ».

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

*وَمِنْ شَفَاعَاتِهِ: شَفَاعَتُهُ فِي تَقْدِيمِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَمِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُنَا ﷺ مِنَ الشَّفَاعَاتِ: أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي تَعْجِيلِ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِمَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَذَا مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ ﷺ، وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ تَنُصُّ عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ:

فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الطَّوِيلِ فِي الشَّفَاعَةِ: «... يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَه، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- فَوَعَدَنِي أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَاسْتَزَدْتُ فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُهَاجِرِي أُمَّتِي، قَالَ: إِذَنْ؛ أُكْمِلُهُمْ لَكَ مِنَ الْأَعْرَابِ».

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ)).

فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ: ((وَاللهِ! مَا أُولَئِكَ إِلَّا كَالذُّبَابِ الْأَصْهَبِ فِي الذُّبَّانِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَانَ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ وَعَدَنِي سَبْعِينَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَزَادَنِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ...)).

*وَمِنْ شَفَاعَاتِ رَسُولِ اللهِ -وَهِيَ شَفَاعَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ-: شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَحُوطُ ابْنَ أَخِيهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَيَنْصُرُهُ وَيَقُومُ فِي صَفِّهِ، وَيُبَالِغُ فِي إِكْرَامِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، وَيُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ؛ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَسَبَقَ الْقَدَرُ فِيهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ -وَللهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ-.

وَنَظَرًا لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ جَلِيلَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ؛ خُصُوصِيَّةً لَهُ مِنْ عُمُومِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، وَذَلِكَ إِكْرَامًا وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: ((الشَّفَاعَةُ لِأَبِي طَالِبٍ مَعْدُودَةٌ فِي خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ )).

وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ تَنُصُّ عَلَى هَذِهِ الشَّفَاعَةِ:

عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟)).

قَالَ: «نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ  الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: «نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ -وَغَمْرَةُ الشَّيْءِ: مُعْظَمُهُ- مِنَ النَّارِ، فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

*وَمِمَّا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا نَبِيَّنَا ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَعْطَى كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَعْوَةً أَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا تُسْتَجَابُ لَهُمْ، وَيَبْلُغُ فِيهَا مَرْغُوبُهُمْ؛ وَإِلَّا فَكَمَا لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَلِنَبِيِّنَا ﷺ مِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ؛ لَكِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَضُمِنَتْ لَهُمْ إِجَابَةُ دَعْوَةٍ فِيمَا شَاءُوا، يَدْعُونَ بِهَا عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْإِجَابَةِ، فَنَالَهَا كُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا.

وَأَمَّا نَبِيُّنَا ﷺ فَادَّخَرَهَا شَفَاعَةً لِأُمَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -فَجَزَاهُ اللهُ أَحْسَنَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ-.

وَمَا فَعَلَهُ ﷺ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَاعْتِنَائِهِ بِالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدَّعْوَةَ فِيمَا يَنْبَغِي، وَجَعَلَهَا لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِمْ أَحْوَجَ إِلَيْهَا مِنَ الطَّائِعِينَ.

فَهَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُدَّخَرَةُ لِنَبِيِّنَا ﷺ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الْمُسْتَجَابَةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُعْطَاةُ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ. 

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي... » وَفِيهِ: «قِيلَ لِي: سَلْ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ قَدْ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»)).

*وَمِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبرُ، فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَحْضُرُ فِي الْمَحْشَرِ، وَمُقَدَّمُ النَّاسِ عَلَى الْحَوْضِ، فَيَكُونُ عَلَى حَوْضِهِ، وَيَأْتِيهِ الْمُؤْمِنُونَ يَشْرَبُونَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، قَالَ ﷺ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي خَصَّ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا نَبِيَّنَا ﷺ لِذَاتِهِ، يَعْنِي: لَمْ يَخُصَّ بِهَا الْأُمَّةَ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ هُوَ بِتِلْكَ الْخَصَائِصِ لِذَاتِهِ ﷺ-.

((اعْرِفُوا نَبِيَّكُمْ؛ حَتَّى تُحِبُّوهُ وَتَتَّبِعُوهُ حَقًّا))

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ فَرَضَ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ أَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّ أَنْفُسَنَا وَوَالِدِينَا، وَأَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّ أَوْلَادَنَا، وَأَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ، وَمِنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.

نُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِحُبِّ اللهِ إِيَّاهُ، وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَعْلَمُ عِلْمًا صَحِيحًا عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ فِي سُنَّتِهِ وَسِيرَتِهِ؛ فَكَيْفَ يُحَقِّقُ هَذَا الْوَاجِبَ الَّذِي عَلَّقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَلَّقَ نَبِيُّهُ ﷺ الْإِيمَانَ عَلَيْهِ؟!! وَفَسَّقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ قَدَّمَ مَحَبَّةَ شَيْءٍ عَلَى مَحَبَّتِهِ -تَعَالَى- وَمَحَبَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَقَالَ رَسُولُ اللهُ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).

وَلَمَّا ذَكَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلرَّسُولِ ﷺ أَنَّهُ يُحِبُّهُ حُبًّا عَظِيمًا أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ حُبٍّ يُحِبُّهُ أَحَدًا سِوَى نَفْسِهِ، قَالَ: ((وَلَا هَذِهِ يَا عُمَرُ)).

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَالْآنَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((الْآنَ يَا عُمَرُ)).

فَكَيْفَ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ نَبِيَّهُ ﷺ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ؟!!

فَيَعْلَمُ عَنْهُ أُمُورًا مُشَوَّشَةً لَا تَسْتَقِيمُ بِهَا صُورَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَا خَلْقًا وَلَا خُلُقًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ تَصَوُّرًا حَقِيقِيًّا صَحِيحًا شَخْصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ مُحِبًّا لِنَبِيِّهِ ﷺ أَنْ يَتَحَرَّى كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ ﷺ؛ فَهُوَ الْوَاسِطَةُ -وَاسِطَةُ التَّبْلِيغِ- بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، فَمَا عَرَفْنَا الشَّرْعَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَمَا بَلَّغَنَا بِالشَّرْعِ أَحَدٌ سِوَاهُ؛ بَلْ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ، هُوَ الَّذِي بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ ﷺ؛ فَعَظِيمُ مِنَّتِهِ عَلَيْنَا يَقْتَضِي أَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ حَقِّهِ، وَأَنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَحَبُّوا تَحَرَّوْا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ يُحِبُّونَهُ، هَذَا أَمْرٌ مَلْحُوظٌ مَعْرُوفٌ مُسْتَقِرٌّ؛ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَحَبَّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَلَا يَنِي عَنِ النُّطْقِ بِاسْمِهِ، وَيُعَظِّمُهُ وَيُقَدِّرُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

أَهَابُكِ إِجْلَالًا وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ    =    عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا

وَمَعْلُومٌ فِي فِطَرِ الْبَشَرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَالَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا شَمَائِلِهِ، وَلَا خَصَائِصِهِ، وَلَا كَمَالَاتِهِ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةً تَفْصِيلِيَّةً ﷺ؛ لَا جَرَمَ أَنَّ قَانُونَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُمْ مُدَّعُونَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ النَّبِيَّ الْمَأْمُونَ؛ وَإِلَّا لَوْ أَحَبُّوهُ لَتَوَفَّرُوا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَأَنْفَقُوا الْأَوْقَاتَ وَالْأَعْمَارَ وَالْجُهُودَ وَالْأَمْوَالَ مِنْ أَجْلِ مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ شَمَائِلِهِ، وَمَعْرِفَةِ كَمَالَاتِهِ وَخَصَائِصِهِ، وَالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ ﷺ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يَرْزُقَنَا حُبَّهُ، وَحُبَّ نَبِيِّهِ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّهُ، وَحُبَّ شَيْءٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّهِ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  أيها المصريون لا عذر لكم
  الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ
  حب الوطن الإسلامي، وفضل الدفاع عنه، ومنزلة الشهادة في سبيل الله
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ
  أَسْمَاءُ اللهِ الْحُسْنَى .. بَرَكَتُهَا وَأَثَرُ فَهْمِهَا فِي حَيَاتِنَا
  فضل الصيام وسلوك الصائمين
  مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان