الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ

الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ

((الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ))

فَإِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ؛ النَّمْلُ وَالنَّحْلُ مِنَ الْحَشَرَاتِ مِثَالٌ، فَهِيَ تَبْنِي أَوْطَانَهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا، وَتُدَافِعُ عَنْهَا، وَالْأَسْمَاكُ مِنْهَا مُهَاجِرٌ يَقْطَعُ الْبِحَارَ سِبَاحَةً، ثُمَّ تَؤُوبُ بَعْدُ إِلَى أَوْطَانِهَا.

وَالطُّيُورُ مِنْهَا مُهَاجِرٌ يَقْطَعُ أَلْفَ مِيلٍ فَوْقَ مِيَاهِ الْبِحَارِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى وُكْنَاتِهَا -إِلَى أَعْشَاشِهَا-، وَتَأْوِي إِلَى أَوْطَانِهَا.

وَالْحَيَوَانَاتُ تَأْلَفُ مَوَاطِنَهَا، وَتُدَافِعُ عَنْهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا -حَتَّى الْحَمِيرُ-!!

قَالَ الْأُسْتَاذُ يَحْيَى حَقِّي -وَهُوَ يَرْوِي بَعْضَ مَا وَقَعَ لَهُ عِنْدَمَا كَانَ وَكِيلًا لِلنَّائِبِ الْعَامِّ فِي إِحْدَى مُحَافَظَاتِ الصَّعِيدِ-: ((أُعِيدَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ أَنْ أُحَقِّقَ فِي قَضِيَّةٍ تَنَازَعَ فِيهَا رَجُلَانِ عَلَى حِمَارٍ، كَانَ الْأَوَّلُ يَسِيرُ فِي سُوقِ الْقَرْيَةِ، فَإِذَا بِهِ يَهْجُمُ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُدِيرِيَّةِ، وَيُمْسِكُ بِخِنَاقِهِ، وَيَتَّهِمُهُ بِأَنَّ حِمَارَهُ مَسْرُوقٌ مِنْهُ هُوَ، يُقْسِمُ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، وَالثَّانِي يُقْسِمُ بِأَيْمَانٍ أَغْلَظَ أَنَّ التُّهْمَةَ كَاذِبَةٌ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْحَمِيرِ كَمَا يَصِحُّ فِي النَّاسِ -يَخْلُقُ مِنَ الشَّبَهِ أَرْبَعِينَ-.

قَالَ: قُمْتُ مِنَ الْمَرْكَزِ وَمَعِي الْمُتَخَاصِمَانِ وَالْحِمَارُ حَتَّي بَلَغْنَا قَرْيَةَ الْأَوَّلِ -الْمُدَّعِي- وَوَقَفْنَا عَلَى مَشَارِفِهَا مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ أَطْلَقْنَا الْحِمَارَ، فَجَرَى وَاخْتَارَ.. اخْتَارَ مِنَ الدُّرُوبِ الْيَمِينَ، ثُمَّ الْيَسَارَ، ثُمَّ مَرَقَ بَيْنَ مَنَازِلِ الْقَرْيَةِ لَا يَتَرَيَّثُ حَتَّى دَخَلَ جَرْيًا بَيْتَ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَحْطِمُ الْبَابَ بِنَطْحَةٍ مِنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ قَدْ مَضَى عَلَى السَّرِقَةِ أَكْثَرُ مِنَ سَنَةٍ، هَلْ بَعْدَ هَذَا دَلِيلٌ؟!!

قَالَ: شَاهِدُ الْإِثْبَاتِ الْوَحِيدُ هُوَ الْحِمَارُ.. الْحِمَارُ نَفْسُهُ، وَهَيْهَاتَ أَنْ نَسُوقَهُ لِيَقِفَ أَمَامَ الْقَاضِي، فَلَا مَفَرَّ مِنْ أَنْ أَذْهَبَ أَنَا لِلْمَحْكَمَةِ وَأَقُولَ لَهَا: أَنَا شَاهِدٌ حَاضِرٌ عَنِ الْحِمَارِ يَا أَفَنْدِم!!)).

حَتَّى الْحَمِيرُ تَأْلَفُ أَوْطَانَهَا، وَتُحِبُّهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ مِنَ الْبَشَرِ يُبْغِضُونَ أَوْطَانَهُمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي هَدْمِهَا وَتَقْوِيضِ أَرْكَانِهَا وَإِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالْخَرَابِ فِيهَا؟!!

أَلَمْ يَبْلُغُوا -بَعْدُ- مَبَالِغَ الْحَمِيرِ؟!!

حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، وَكُلُّ سَوِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ يُحِبُّ وَطَنَهُ، وَيَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ.. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي قَلْبِهِ.. مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ حُبَّ وَطَنِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مُنْحَرِفٌ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ!!

لَمَّا أُخْرِجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ قَالَ.. وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَنْظُرُ مِنْ خَلَلِ دُمُوعِهِ كَأَنَّمَا تَغْسِلُ الدُّورَ غَسْلًا، بَعْدَمَا لَوَّثَ الْمُشْرِكُونَ الْأَجْوَاءَ، وَبَعْدَمَا عَاثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.. يَقُولُ ﷺ لِمَكَّةَ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)) .

فَرَسُولُ اللهِ يَجِدُ هَذَا الْحُبَّ فِي قَلْبِهِ لِمَكَّةَ -زَادَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَرَفًا-، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ لَوَاعِجُ الْحُبِّ تَلْذَعُ مَا بَيْنَ الضُّلُوعِ لَذْعًا، وَكَانُوا بِاللَّيْلِ يَتَقَلَّبُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ، أَوْ عَلَى مِثْلِ الْإِبَرِ، لَا يَهْدَأُ لَهُمْ بَالٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي هَذَا الْجَوَى اللَّاعِجِ كَالنَّارِ الَّتِي تَسْرِي فِي الْعُرُوقِ؛ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)) .

فَكَانَ مَا طَلَبَهُ رَسُولُ اللهِ وَمَا دَعَا بِهِ اللهَ.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ حُبَّ وَطَنِهِ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، فَلْيَبْحَثْ لِنَفْسِهِ عَنْ عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ.

أَنْتَمِي إِلَى جِيلٍ كَانَ يُرَدِّدُ كُلَّ صَبَاحٍ فِي أَفْنِيَةِ الْمَدَارِسِ فِي رُبُوعِ الْمَعْمُورَةِ -حَرَسَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- يُرَدِّدُ كُلَّ صَبَاحٍ: ((بِلَادِي بِلَادِي بِلَادِي، لَكِ حُبِّي وَفُؤَادِي)).

وَقَدْ عَلَّمَنَا مُعَلِّمُونَا -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- مَعْنَى مَا نُرَدِّدُ، فَمَا كُنَّا نُرَدِّدُ تَرْدِيدَ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَلَكِنْ كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَبْلُغَ الْمَبَالِغَ فِي الْفَهْمِ لِهَذَا الَّذِي نُرَدِّدُ، مَا كُنَّا نُرَدِّدُ مَا لَا نَفْهَمُ، وَلَكِنْ كُنَّا نُرَدِّدُ تَرْدِيدَ مَنْ يَعِي وَيَعْلَمُ، فَعَرَفْنَا مَعْنَى (بِلَادِي).

إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

فَعَرَفْنَا مَعْنَى كَلِمَةِ (بِلَادِي).. أَيَخُونُ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ مَا وَجَدَ مِنْ حُبِّهِ لِمَكَّةَ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَتَّى دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ رَبَّهُ، فَوَجَدُوا الْمَحَبَّةَ لِمَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكُلُّ مِصْرِيٍّ سَوِيٍّ اغْتَرَبَ؛ حَالُهُ مَعَ وَطَنِهِ هُوَ:

شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء

جُوعٌ إِلَيْهِ.. كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء

شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الوِلَادَه

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُون

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَه؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُون؟!!

الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِنْ سِوَاهَا، وَالظَّلَام

حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهْوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه

وَاحَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَام

فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه

مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟

((مَحَبَّةُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَوْطَانِهِمْ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فِي حُبِّهِ لِوَطَنِهِ؛ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمَّا كَانَتْ مُفَارَقَةُ الْإِنْسَانِ وَطَنَهُ وَمَأْلَفَهُ وَأَهْلَهُ وَقَوْمَهُ مِنْ أَشَقِّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَمِنْهَا انْفِرَادُهُ عَمَّنْ يَتَعَزَّزُ بِهِمْ وَيَتَكَثَّرُ، وَكَانَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَاعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي حَقِّهِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا} مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ فَحَصَلَ لَهُ هِبَةُ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ، الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ)).

فَعَوَّضَ اللهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ هَذَا الْخَيْرَ الْعَمِيمَ عَنْ مُفَارَقَةِ قَوْمِهِ, وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ.

وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا, وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا, قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ, وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا, وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..

الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ, فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ, وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ, وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:

ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ

حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ

وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ, فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.

أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ:

بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا=وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ

فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ=وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ

فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ, أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.

قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ, أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.

فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ, وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ, فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ, أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.

وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.

وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا, تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى, وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:

إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَا=دِكَ ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا

فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيـ=ـكَ فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا

نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا=ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا

نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْـ=ـشٍ يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا

فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.

((مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ:

الدِّفَاعُ عَنْهُ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ بِلَادَنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ فُصُولِ فَتَاوِيهِ: أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِالْجُدْرَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالسُّكَّانِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَلَدِ وَنِظَامِهِمُ الْإِسْلَامَ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُحْكَمُونَ بِنِظَامٍ لَيْسَ إِسْلَامِيًّا صِرْفًا أَوْ مَحْضًا)).

وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلَهُ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].

إِذَا أُمِرْتُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِكُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَخِفُّ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ خُرُوجُكُمْ دَعْوَةً إِلَى دِينِ اللهِ، أَوِ اسْتِطْلَاعًا لِأَخْبَارِ الْعَدُوِّ، أَوْ مُنَاوَشَةً خَفِيفَةً تَعْتَمِدُ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ.

وَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ النَّافِرُ ثَقِيلًا بِعَتَادٍ وَأَسْلِحَةٍ وَمَؤُونَةٍ.

وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَاخْرُجُوا عَلَى الصِّفَتَيْنِ خِفَافًا وَثِقَالًا.

ذَلِكُمُ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانِ الْإِقَامَةِ، وَالْجِهَادُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأُنْفُسِ، أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ مِنَ الْقُعُودِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَإِيثَارِ السَّلَامَةِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا يُعْطِيكُمُ اللهُ مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ عِلْمَ يَقِينٍ، فَإِنَّكُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ عَلِمْتُمْ أَنَّ النَّفْرَ وَالْجِهَادَ طَاعَةً لِلرَّسُولِ أَوْ لِأَمِيرِكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ، فَلَمْ تُقَصِّرُوا بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْجِهَادِيِّ.

وَفِي بَيَانِ عِظَمِ مَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.

إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170].

وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِي نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا اسْتَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ، وَأَيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِحَنِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَشَمَّرُوا لَهُمْ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَصَاحُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ حَتَّى قَوِيَتِ الشَّوْكَةُ، وَاشْتَدَّ الْجَنَاحُ، فَأَذِنَ اللهُ لَهُمْ -حِينَئِذٍ- فِي الْقِتَالِ، وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].

((وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ، إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لِيَهْلِكُنَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]))، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ)) .

وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْمَكِّيَّ وَالْمَدَنِيَّ.

ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 190].

ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، فَكَانَ الْقِتَالُ مُحَرَّمًا، ثُمَّ مَأْذُونًا بِهِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، إِمَّا فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ؛ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39])) .

وَفِي فَضَائِلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ قَالَ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ -تَعَالَى- لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ ‏ِلَأَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا.. وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».‏

قَالَ: فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ..‏ فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»‏.‏

قَالَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: ‏«الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَقَالَ ﷺ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».

وَقَالَ ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

لَقَدْ قَرَّرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا دَخَلَ بَلَدًا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى أَهْلِهِ جَمِيعًا، وَلَوْ فَنَوْا عَنْ آخِرِهِمْ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْهُ، فَيَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ! إِذَا قَابَلْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجْتَمِعِينَ، يَزْحَفُونَ زَحْفًا لِقِتَالِكُمْ، فَلَا تُدِيرُوا لَهُمْ ظُهُورَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَّةً.

((مِنْ مَعَالِمِ بِرِّ الْمُسْلِمِينَ بِأَوْطَانِهِمْ:

إِجْلَالُهُمُ الْعُلَمَاءَ وَأَخْذُهُمْ بِمَشُورَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ تَضَافَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَا لَا يُحْصَى عِدَّةً وَلَا يُسْتَقْصَى كَثْرَةً عَلَى بَيَانِ رِفْعَةِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي النَّهْلِ مِنْ مَعِينِهِ الصَّافِي وَسَلْسَبِيلِهِ الْعَذْبِ الشَّافِي.

قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرْفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ، كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).

وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).

قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ، وَمَنْ فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا، إِذَا أُرِيدَ بِالْفِقْهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعَمَلِ.

وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَقُهَ فِي الدِّينِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ، فَإِنَّ الْفِقْهَ حِينَئِذٍ يَكُونُ شَرْطًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوجَبًا، وَاللهُ أَعْلَمُ)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا؛ رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ: جَزَاءٌ عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.

وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنِحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا، وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.

وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9].

فَأَيُّ نُصْحٍ لِلْعِبَادِ مِثْلُ هَذَا إِلَّا نُصْحَ الْأَنْبِيَاءِ؟!

فَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْعِلْمَ فَقَدْ سَعَى فِي أَعْظَمِ مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ، فَلِذَلِكَ تُحِبُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُعَظِّمُهُ حَتَّى تَضَعَ أَجْنِحَتَهَا لَهُ؛ رِضًا وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)).. هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْرُوثٍ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مِنْ بَعْدِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرُّسُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِمْ.

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.

وَفِيهِ -أَيْضًا- إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَتَوْقِيرِهِمْ، وَإِجْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ مَنْ هَذِهِ بَعْضُ حُقُوقِهِمْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُلَفَاؤُهُمْ فِيهِمْ.

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَبُغْضَهُمْ مُنَافٍ لِلدِّينِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِمَوْرُوثِهِمْ.

وَكَذَلِكَ مُعَادَاتُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ مُعَادَاةٌ وَمُحَارَبَةٌ للهِ، كَمَا هُوَ فِي مَوْرُوثِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ)).

وَقَالَ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).

وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)).. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ.

وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَهُوَ الْغِبْطَةُ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.

قَوْلُهُ ﷺ: ((فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ))؛ أَيْ إِنْفَاقِهِ فِي الطَّاعَاتِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا))؛ مَعْنَاهُ: يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا احْتِسَابًا، وَالْحِكْمَةُ: كُلُّ مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ، وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))؛ أَيْ سَاعَاتِهِ، وَوَاحِدُهُ: الْآنَ، وَإِنًا، وَإِنْيٌ، وَإِنْوٌ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ))، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُرَادُ بِالدُّنْيَا: كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ -تَعَالَى- وَيُبْعِدُ عَنْهُ، وَلَعَنَهُ: بَعَّدَهُ عَنْ نَظَرِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ)) مُنْقَطِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ كُلُّهُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقَبُولِ عِنْدَهُ -تَعَالَى- قَدِ اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَّصِلًا.

وَالْمُوَالَاةُ: الْمَحَبَّةُ.. أَيْ: إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِمَعْنَى الْمُتَابَعَةِ، فَالْمَعْنَى مَا يَجْرِي عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى- أَوْ نَهْيِهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: وَمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ؛ أَيْ: يُجَانِسُهُ وَيُقَارِبُهُ، فَطَاعَتُهُ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ؛ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا حَقِيرَةً عِنْدَ اللهِ، لَا تُسَاوِي لَدَيْهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ كَانَتْ وَمَا فِيهَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّعْنَةِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا خَلَقَهَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ وَمَعْبَرًا إِلَيْهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ يُقَرِّبُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَمُفْضِيًا إِلَى مَحَابِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ اللهُ بِهِ، وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ، وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَيُمَجَّدُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلِهَذَا خَلَقَهَا وَخَلَقَ أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]

فَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ لِيُعْرَفَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلِيُعْبَدَ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ، وَمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ فَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ اللَّعْنَةِ، وَاللَّعْنَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا عَدَاهُ؛ إِذْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ مَحَابِّهِ وَعَنْ دِينِهِ.

«الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، وَهَذَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا كَانَ مُتَعَلَّقُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الذَّمَّ وَالْبُغْضَ؛ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ.

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ ذِكْرَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمَعْرِفَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَلَوَازِمَ ذَلِكَ، وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَبْغُوضٌ لَهُ، مَذْمُومٌ عِنْدَهُ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ، وَمِنْ أَكْبَرِ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا: تَوْقِيرَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَتَقْدِيمَهُمْ، وَالْأَخْذَ بِنُصْحِهِمْ وَمَشُورَتِهِمْ فِي الْفِتَنِ وَفِي غَيْرِهَا، وَلَا يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِإِلْقَاءِ السَّمْعِ مَعَ التَّوَاضُعِ؛ فَعَنِ الشَّعْبيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ)) .

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَظِّمُونَ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةٌ عَلَى آدَابِهِمْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَعَلَى تَوْقِيرِهِمْ لِمُعَلِّمِيهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ.

فَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: ((كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ -النَّخَعِيَّ- كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ)).

وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يَجلِسُ إِلَى الْحَسَنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ)) .

وَعَنْ إِسْحَاقَ الشَّهِيدِيِّ قَالَ: ((كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّاذَكُونِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُم، يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا)) .

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: ((مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ)) .

فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ ((أَنْ يَنْقَادَ لِشَيْخِهِ فِي أُمُورِهِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ كَالْمَرِيضِ مَعَ الطَّبِيبِ الْمَاهِرِ، فَيُشَاوِرُهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَتَعَمَّدُهُ، وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذُلَّهُ لِشَيْخِهِ عِزٌّ، وَخُضُوعَهُ لَهُ فَخْرٌ، وَتَوَاضُعَهُ لَهُ رِفْعَةٌ.

وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عُوتِبَ عَلَى تَوَاضُعِهِ لِلْعُلَمَاءِ، فَقَالَ:

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي فَهُمْ يُكْرِمُونَهَا=وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ: ((لَا أَقْعُدُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ)) .

وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَنْظُرَ شَيْخَهُ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِهِ بِهِ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي)).

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ وَقْعَهَا)) .

وَقَالَ حَمْدَانُ الْأَصْفَهَانِيُّ: ((كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ؛ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ، فَعَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَستَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ؟!!

فَقَالَ شَرِيكٌ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ أَضَعَهُ! فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ)) .

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُمَا اللهُ-: ((وَاللهِ مَا اجْتَرَأْتُ أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إِلَيَّ هَيْبَةً لَهُ)) .

وَيَنْبَغِي أَلَّا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ.

قَالَ الْخَطِيبُ: ((يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، وَأَيُّهَا الْحَافِظَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ))، وَمَا تَقُولُونَ فِي كَذَا؟ وَمَا رَأْيُكُمْ فِي كَذَا؟ وَشِبْهَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَمِّيهِ فِي غَيْبَتِهِ أَيْضًا بِاسْمِهِ إِلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ الشَّيْخُ، أَوِ الْأُسْتَاذُ، أَوْ: قَالَ شَيْخُنَا كَذَا.

وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ لِلشَّيْخِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْسَى فَضْلَهُ، وَأَنْ يُعَظِّمَ حُرْمَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيْبَتَهُ وَيَغْضَبَ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَفَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ لِلشَّيْخِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ وَأَوِدَّاءَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَيَتَعَمَّدَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ، وَيَسْلُكَ فِي السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مَسْلَكَهُ، وَيُرَاعِيَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَادَتَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي عَادَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَلَا يَدَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ)).

((وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفَاءِ شَيْخِهِ، وَأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَكَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، يُوشَكُ أَنْ يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوكَ، فَقَالَ لِلْقَائِلِ: ((هُمْ إِذَنْ حَمْقَى مِثْلُكَ إِنْ تَرَكُوا مَا يَنْفَعُهُمْ لِسُوءِ خُلُقِي» » .

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: ((لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ)) .

وَعَنِ ابْنِ طَاوُوسَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ)) .

((وَإِذَا وَقَفَهُ الشَّيْخُ عَلَى دَقِيقَةٍ مِنْ أَدَبٍ، أَوْ نَقِيصَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ؛ فَلَا يُظْهِرْ أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَغَفَلَ عَنْهَا، بَلْ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى إِفَادَتِهِ ذَلِكَ وَاعْتِنَائِهِ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ وَكَانَ إِعْلَامُ الشَّيْخِ بِهِ أَصْلَحَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ بَيَانِ الْعُذْرِ مَفْسَدَةٌ فَيَتَعَيَّنُ إِعْلَامُهُ بِهِ)) .

وَلْيَحْذَرْ طَالِبُ الْعِلْمِ أَشَدَّ الْحَذَرِ أَنْ يُمَارِيَ أُسْتَاذَهُ؛ فَإِنَّ الْمِرَاءَ شَرٌّ كُلُّهُ، وَهُوَ مَعَ شَيْخِهِ وَقُدْوَتِهِ أَقْبَحُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَوْغَلُ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ.

فَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((لَا تُمَارِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ خَزَنَ عَنْكَ عِلْمَهُ، وَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا)) .

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو سَلَمَةَ يُمَارِي ابْنَ عَبَّاسٍ، فَحُرِمَ بِذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا)) .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَالْهَلَاكِ وَالضَّيَاعِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْجَهْلَ وَالْجُهَّالَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدِّفَاعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدَافِعَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ حَامِلُهَا.

وَمَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ, وَلَكِنِ ائْتُمِنَ غَيْرُ أَمِينٍ فَخَانَ, وَلَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَى غَيْرُ عَالِمٍ فَيُفْتِي بِالْخَطَأِ -لَا بِالصَّوَابِ- وَحِينَئِذٍ يُؤْتَى النَّاسُ.

عِبَادَ اللهِ! مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ وَالْبِرِّ الْحَقِيقِيِّ بِهَا: رَدُّ الْأَمْرِ عِنْدَ حُلُولِ النَّوَازِلِ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ؛ فَالْفَتْوَى فِي النَّوَازِلِ السِّيَاسِيَّةِ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْعَالِمُ بِكِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؛ فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي أَحْكَامِ النَّوَازِلِ، فَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي يَسُوغُ لَهُمُ الْإِفْتَاءُ، وَيَسُوغُ اسْتِفْتَاؤُهُمْ، وَيَتَأَدَّى بِهِمْ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)) .

لَا يُفْتِي فِي دَقَائِقِ الْجِهَادِ إِلَّا الْمُجْتَهِدُ، وَيَحْرُمُ اسْتِفْتَاءُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الدَّقَائِقِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ- مَهْمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَهَاءُ الْوَاقِعِ!!

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ -يَعْنِي مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ- مِنْ وَظِيفَةِ خَوَاصِّ أَهْلِ الْعِلْمِ)).

لَوْ أَفْتَى فِيهَا مَنْ لَيْسَ فِي رُتْبَةِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ أَفْسَدَ الْبِلَادَ، وَأَرْهَقَ الْعِبَادَ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَشُمُّ الْفِتْنَةَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْرِفُهَا إِلَّا إِذَا وَقَعَ فِيهَا، وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا)).

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ عَرَفَهَا كُلُّ عَالِمٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ)) .

يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَ إِلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ الِاسْتِنْبَاطَ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُحْسِنُونَ النَّظَرَ فِي سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

((مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ:

الِاتِّحَادُ وَعَدَمُ شَقِّ الصَّفِّ))

فَيَا أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي اللهِ! ((اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْمَدُوا رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّحَابِّ وَالتَّعَاوُنِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمَصَالِحِ؛ لِتَكُونُوا مِنَ الْفَائِزِينَ.

اجْتَمِعُوا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَتَعَاوَنُوا وَلَا تَخَاذَلُوا، وَتَآلَفُوا وَلَا تَنَافَرُوا، وَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ مُخْلِصِينَ.

إِنَّ بِالِاجْتِمَاعِ تَتَّفِقُ الْكَلِمَةُ، وَتَجْتَمِعُ الْآرَاءُ، وَتَتِمُّ الْمَصَالِحُ، وَإِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَدَفًا لِلْأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْعُلُوِّ الْفَرْدِيِّ.

إِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ جَمِيعِ الْمُسْتَوَيَاتِ الَّتِي دُونَهَا، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا وَلِذَاتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُدْرَسَ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَأَنْ تُسْتَخْلَصَ فِيهَا جَمِيعُ الْآرَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، فَيُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى إِلَيْهَا.

وَالْإِنْسَانُ مَتَى خَلُصَتْ نِيَّتُهُ، وَصَلُحَ عَمَلُهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ، وَسُلُوكِ أَقْرَبِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، مَتَى اتَّصَفَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْإِخْلَاصِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْإِصْلَاحِ.. صَلُحَتِ الْأَشْيَاءُ وَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَمَتَى نَقَصَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ -إِمَّا الْإِخْلَاصُ وَإِمَّا الِاجْتِهَادُ-؛ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.

إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأُمُورِ نَظْرَةَ اسْتِغْلَالٍ لِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ، أَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا نَظْرَةً قَاصِرَةً مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، سَتَخْتَلُّ الْأُمُورُ وَتَفُوتُ الْمَصَالِحُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا كَأَبْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَسْعَى لِهَدَفٍ وَاحِدٍ هُوَ إِصْلَاحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِصْلَاحًا دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَلَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ حَتَّى تَتَّفِقَ كَلِمَتُنَا، وَنَتْرُكَ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَنَا، وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي لَا تُحَقِّقُ هَدَفًا، بَلْ رُبَّمَا تُفَوِّتُ مَقْصُودًا، وَتُعْدِمُ مَوْجُودًا.

إِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَفَرَّقَتْ دَخَلَتِ الْأُمُورَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّغَائِنُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْعَى لِتَنْفِيذِ كَلِمَتِهِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي خِلَافِهَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعْنَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَدَرَسْنَا الْمَوْضُوعَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى مَا نَرَاهُ مُمْكِنًا نَافِعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَصَالِحِنَا الْخَاصَّةِ، حَصَلَ لَنَا بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

وَثِقُوا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ أَنَّكُمْ مَتَى أَخْلَصْتُمُ النِّيَّةَ، وَسَلَكْتُمُ الْحِكْمَةَ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُيَسِّرُ لَكُمُ الْأُمُورَ، وَيُصْلِحُ لَكُمُ الْأَعْمَالَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ وَتَمَاسُكَهُ وَإِحْكَامَهُ، بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلٌ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.

أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاءُ؟!

فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي كُلِّ صَوْبٍ.. اجْتَمِعُوا عَلَى الْحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَبْعُدُوا شَطَطًا، وَلَا تَقُولُوا بَاطِلًا، وَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- -وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافِ وَالْغِنَى فِي الْعِلْمِ- مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ: أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ الْمَصَالِحَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ؛ يُقَدِّمُونَ مَصْلَحَةَ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْفَرْدِيَّةِ لَا يَعْتَبِرُونَهَا وَلَا يُبَالُونَ بِهَا.

وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا نَالَ مِنَ الْأُمَّةِ عَدُوٌّ مِثْلَمَا نَالَتِ الْأُمَّةُ مِنْ نَفْسِهَا؛ بِاخْتِلَافِهَا وَتَدَابُرِ قُلُوبِ أَبْنَائِهَا.

وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).

قَدْ مَنَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ هَذِهِ، لَمَّا سَأَلَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ألَّا يَجْعَلَ بَأْسَ الْأُمَّةِ بَيْنَهَا، قَالَ ﷺ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا».

وَحَذَّرَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا؛ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

إِمَّا أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا بِالْمَعْنَى الَّذِي لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّمَا يُشْبِهُونَ الْكُفَّارَ فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِبَاحَةِ أَجْسَادِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَطَّ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ تَكْفِيرًا، ثُمَّ يَرْفَعُونَ السُّيُوفَ عَلَى الرِّقَابِ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُصَلِّى فِيهَا بِالْمُسْلِمِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا، وَهَادِيًا وَمُعَلِّمًا، يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ: ((أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)).

يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ؛ حَتَّى يَكُونَ الصَّفُّ كَالْقِدْحِ اسْتِوَاءً وَاعْتِدَالًا، أَبْدَانٌ مُتَرَاصَّةٌ، وَقُلُوبٌ مُتَحَابَّةٌ، مُتَلَاحِمَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ مُتَمَازِجَةٌ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيَهْبِطُ وَيَصْعَدُ، وَرَاءَ إِمَامِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَلَا اخْتِلَافٍ: ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).

فَيُحَذِّرُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَيُنَبِّهُ إِلَى أَمْرٍ جَلِيلٍ خَطِيرٍ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْأُمَّةِ؛ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَالَ فِي الِاسْتِوَاءِ فِي الصُّفُوفِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَادِّيٌّ مَحْضٌ، يُؤَدِّي عَلَى اخْتِلَافٍ بَاطِنِيٍّ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ، ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)).

الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانُوا يُرَاعُونَ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ دَاعِيَةَ خِلَافٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.

كَانُوا يُرَاعُونَ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ..

يَحْرِصُونَ عَلَى الْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ!

يُقَاتِلُونَ دُونَهُ!

وَيُجَاهِدُونَ مَنْ أَرَادَ اغْتِصَابَهُ وَالِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ!

وَلَا يُحْدِثُونَ الْفَوْضَى وَلَا الشَّغَبَ فِيهِ!

وَلَا يَكُونُونَ إِلَى ذَلِكَ سَبَبًا وَلَوْ بِكَلِمَةٍ!

إِنَّ وَاجِبَنَا جَمِيعًا تِجَاهَ وَطَنِنَا وَوُجُوبَ بِرِّنَا بِهِ يَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْجُهُودِ وَنَبْذَ الْخِلَافَاتِ، وَأَنْ نَجْتَمِعَ جَمِيعًا عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّافِيَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)) .

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).

إِنَّ التَّفَرُّقَ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ أَمَرَنَا بِالِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].

فَدِينُنَا دِينُ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّفَرُّقُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَكُونَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَيَقُولُ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ، إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

((مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ:

حِمَايَتُهَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَشْبُوهَةِ وَالْهَدَّامَةِ))

يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا أَدَّى بِنَا إِلَى مَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ مِنْ ذُلٍّ وَمَذَلَّةٍ وَاحْتِقَارٍ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ.. مَا أَدَّى بِنَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْجَمَاعَاتُ، هِيَ مَصْدَرُ مَذَلَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْطِنُ بُؤْسِهَا، وَهِيَ عَامِلُ خَرَابِهَا الْأَوَّلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاضِحًا.

كَثِيرَةٌ هِيَ الْآثَارُ الَّتِي أَنْتَجَتْهَا الْجَمَاعَاتُ، وَالْوَلَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ لِلْحُقُولِ الْإِسْلَامِيَّةِ -وَالْحُقُولُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَعْبِيرٌ يَسْتَحِبُّهُ الْعَامِلُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالدُّعَاةِ الْيَوْمَ فَلَا حَرَجَ-، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ آثَارٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ لِلْجَمَاعَاتِ وَالْوَلَاءَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِلْحُقُولِ الْإِسْلَامِيَّةِ:

الْأَوَّلُ: مُرَاوَدَةُ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ قُلُوبَ الْعَامَّةِ، وَهُمْ يُبصِرُونَ بِالنِّزَاعِ الْحَرَكِيِّ يَمْلَأُ السَّاحَاتِ الْعَامَّةَ، وَتُسَوَّدُ بِهِ الصَّحَائِفُ، وَيَمْلَأُ الْأُفُقَ صَخَبًا وَضَجِيجًا، وَيُحَرِّكُ السَّوَاكِنَ الْغَافِلَةَ عَنِ الشَّرِّ بِحَسِيسِ الْبَغْضَاءِ وَالْحِقْدِ، وَيَبْعَثُ الرَّوَاكِدَ مِنْ مَطَارِحِهَا الْآمِنَةِ بِوَسَاوِسِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، وَيُفْشِي سَرِيرَتَهُ الْهَادِرَةَ بِكُلِّ دَوَافِعِ الْأَنَانِيَّةِ وَالْأَثَرَةِ.

يَنْظُرُ الْعَوَامُّ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ لَا يَفْهَمُونَ مَقَاصِدَهَا، وَلَطَالَمَا نَبَشَ النِّزَاعُ الْحَرَكِيُّ جُرُوحًا غَائِرَةً، وَاصْطَلَتْ بِنَارِهِ أَعْرَاضٌ بَرِيئَةٌ، وَمَزَّقَ بِشَفْرَةِ عَدَاوَتِهِ أَبْشَارًا طَاهِرَةً.

وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي وَاقِعِ النَّاسِ لَا يَكَادُ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَاتِ تَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالشَّائِعَاتِ، فَيُشِيعُونَ عَنِ الْمُخَالِفِ كُلَّ نَقِيصَةٍ، وَيُلْصِقُونَ بِهِ كُلَّ تُهْمَةٍ, وَيَجْعَلُونَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ وَذَوِيهِ وَأَهْلِهِ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ مِنْ جَرَائِمَ وَفُحْشٍ, لَا يَتَوَرَّعُونَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهَيْهَاتَ!!

وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ: فَالِانْتِصَارُ بِالْحَمِيَّةِ الْحِزْبِيَّةِ الْحَرَكِيَّةِ لِلْحِزْبِ أَوِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَنْتَسِبُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ مِنْ حِزْبِهِ أَوْ مِنْ جَمَاعَتِهِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ عَلَى خَطَأٍ أَوْ عَلَى خَطِيئَةٍ، لَا يُهِمُّ، هُوَ مَعَنَا وَلَيْسَ عَلَيْنَا، وَالْوَيْلُ أَشَدُّ الْوَيْلِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حِزْبِهِ أَوْ جَمَاعَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْهُ النُّصْرَةَ حَتَّى فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ, يُلْقِيهِ بَعِيدًا وَيَطْرُدُهُ مَزْجَرَ الْكَلْبِ, وَيَنْبِذُهُ نَبْذَ النَّوَاةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ لَا شَيْءَ!!

وَلَقَدْ رَأَيْنَا هَذَا يَجْرِي عَلَى سَاحَةِ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ بَيْنَ كُلِّ الْجَمَاعَاتِ وَالْفِرَقِ وَالتَّنْظِيمَاتِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أَوْ فِرْقَةٍ مِنْهَاجًا وَعَهْدًا وَبَيْعَةً تُلْزِمُ الْفَرْدَ الْوَفَاءَ لِكُلِّ مَا يَصِلُهُ بِسَبَبٍ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ أَوْ إِلَى تِلْكَ الْفِرْقَةِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا أَنْ يُجَهِّلَ كُلَّ مَنْ يُجَاوِزُ حُدُودَ جَمَاعَتِهِ أَوْ فِرْقَتِهِ, هُوَ جَاهِلٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ هُوَ جَاهِلٌ، ثُمَّ لَا يَجِدُ لَدَيْهِ سَبَبًا لِنُصْرَتِهِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)) .

وَالثَّالِثُ مِنَ الْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ: مَنْحُ أَعْدَاءِ اللهِ الْعُذْرَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَعَلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَالْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ كُلِّ عُقَلَاءِ الْأَرْضِ لَا تُفَرِّقُ، الْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ حَتَّى عِنْدَ عُبَّادِ الْبَقَرِ لَا تُفَرِّقُ، وَهَؤُلَاءِ يَتَفَرَّقُونَ, فَلِمَاذَا يَتَفَرَّقُونَ؟! أَعَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ هُمْ؟!

لَا تَجِدُ وَاحِدًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَحَزِّبِينَ نَاحِيَةً، الَّذِينَ يُسْلَكُونَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ وَالتَّنْظِيمَاتِ وَالْفِرَقِ عِنْدَهُ اعْتِقَادٌ يَلْقَى بِهِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَالِمًا، بَلْ إِنَّ أَكْبَرَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ عِنْدَهَا مَنْهَجٌ اعْتِقَادِيٌّ مُنْضَبِطٌ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْهَجٌ اعْتِقَادِيٌّ يُدَرَّسُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَكَذَا فَلْيَأْتِ مَنْ يَأْتِ وَلْيُكَفِّرْ سَوَادَ الْقَوْمِ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ!!

مَنْحُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعُذْرَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي عَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، الْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ كُلِّ عُقَلَاءِ الْأَرْضِ لَا تُفَرِّقُ بَلْ تُجَمِّعُ، وَالْأَحْكَامُ وَالْفُرُوعُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْهَا تُلْزِمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَهْلَهَا الْعَمَلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِيهَا وَلَا حَرَجٍ مِنْهَا، فَكَيْفَ صَارَ أَهْلُ الْعَقِيدَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمِنْهَاجِ الْوَاحِدِ مُتَفَرِّقِينَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَدَابِرِينَ، فِي حِينَ نَرَى أَهْلَ الْعَقَائِدِ وَالنِّحَلِ الْأُخْرَى مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهَا مُتَآلِفِينَ وَلَوْ ظَاهِرًا، حَتَّى عُبَّادَ الْبَقَرِ تَرَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ ظَاهِرًا؟!!

وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي مِنْهَاجِهِمْ وَفِي حَيَوَاتِهِمْ أَنْ تَكُونَ دَاعِيَةً لَهُمْ لِإِتْلَافِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا أَمَرَ نَبِيُّهُمْ ﷺ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، أَلَا يَصْلُحُ هَذَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عِنْدَ الْخُصُومِ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بِعَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ لَا يَصْلُحُ لِوَحْدَةِ النَّاسِ جَمِيعًا بِدَعْوَى الْأَحْزَابِ وَالْجَمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَوْحِيدِ صَفِّ أَتْبَاعِهِ؟!!

لَمَّا تَمَزَّقُوا وَقَالُوا: نَحْنُ الْإِسْلَامُ، يَقُولُ لَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ: الْإِسْلَامُ يُفَرِّقُكُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ لَجَمَعَكُمْ!!

فَشَيْئَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ إِمَّا أَنْ تَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ -بِزَعْمِكُمْ- جَمِيعًا وَأَنْتُمْ عَلَى هَذَا التَّفَرُّقِ فَهَذَا الْإِسْلَامُ لَا شَيْءَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونُوا كَاذِبِينَ.. وَهُمْ كَذَلِكَ.

وَلَعَلَّ هَذَا -أَيْضًا- كَانَ سَبَبًا فِي انْصِرَافِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْظَمِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ الْحَقِّ الَّذِي أَوْرَثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي)) ؛ إِذْ كُلُّ جَمَاعَةٍ -وَكُلُّ حِزْبٍ- تَدَّعِي -وَيَدَّعِي- أَنَّهُ -وَأَنَّهَا- عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ -وَوَحْدَهَا-؛ لِأَنَّهُ -وَأَنَّهَا- مُتَمَسِّكَةٌ -وَمُتَمَسِّكٌ- بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَصدُقُ فِيهِمْ إِلَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ الْقَدِيمِ:

وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَى=وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- أَرَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ وَقِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَدْيٍ وَاحِدٍ وَكَلِمَةٍ سَوَاءٍ وَاحِدَةٍ؛ لِتَكُونَ هِيَ رَائِدَةَ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي قَضَى اللهُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ بِوَحْيِهِ، وَالشَّاهِدَةَ عَلَيْهِ بِمَا آتَاهَا مِنْ خَصَائِصَ وَمَوَاهِبَ لَمْ يُؤْتِهَا غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَيْنَ ذَلِكَ؟!!

مَزَّقُوهُ، وَضَيَّعُوهُ بِاسْمِ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ وَالدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْإِسْلَامِيِّ، بَلْ وَبِالدَّعْوَى بِاسْمِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَمَتَى يُدْرِكُ الْعَامِلُونَ فِي حُقُولِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَوْا إِثْمًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ إِلَّا بِخَلْعِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ قُمُصِ الْحِزْبِيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ الْبَغِيضَةِ الْمُنْتِنَةِ.

وَأَيْضًا.. مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَنْتَجَتْهَا الْحِزْبِيَّةُ وَالْجَمَاعَاتُ: وُقُوعُ فَرَائِسَ سَهْلَةٍ تَتَنَاوَشُهَا أَلْسِنَةُ الدُّعَاةِ وَالْعَامِلِينَ فِي سَاحَةِ الدَّعْوَةِ تَنَاوُشًا لَا يَرْحَمُهَا وَلَا يُنْجِيهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَوَسَّدَ التُّرَابَ، وَلَا وَاللهِ وَبَعْدَ أَنْ تَتَوَسَّدَ التُّرَابَ!!

الْفَرَائِسُ: جَمْعُ فَرِيسَةٍ، هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ؛ أَنْ رَأَوْا مِنَ الْأَخْطَاءِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِصْلَاحِهِ أَوْ تَقْوِيمِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْبَقَاءَ تَحْتَ هَذَا الشِّعَارِ أَوْ ذَاكَ, وَتَكُونُ الْفَرِيسَةُ أَشْهَى وَأَطْيَبَ لِتِلْكَ الْأَلْسِنَةِ الَّتِي تَنُوشُهَا بَعْدَ أَنْ يُغَادِرَ الْجَمَاعَةَ وَالتَّنْظِيمَ وَالْفِرْقَةَ.. تَكُونُ الْفَرِيسَةُ أَطْيَبَ لِتِلْكَ الْأَلْسِنَةِ إِنْ كَانَ هَذَا التَّارِكُ مِنَ الرُّءُوسِ، أَوْ مِنَ الرُّمُوزِ حَسَبِ الْمُصْطَلَحِ الدَّعَوِيِّ الْجَدِيدِ، إِذَا كَانَ مِنَ الرُّمُوزِ فَمَا أَطْيَبَ لَحْمَهُ لِلْآكِلِينَ لُحُومَ النَّاسِ!!

وَلَقَدْ شَهِدْنَا أُنَاسًا لَا تَحُومُ حَوْلَهُمْ شُبْهَةٌ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَقَعُوا ضَحَايَا جَرَّاءَ تَرْكِهِمْ صَفَّ الْجَمَاعَةِ، وَكَانُوا وَهُمْ دَاخِلَ الصَّفِّ أَطْهَرَ وَأَنْقَى مِنَ الْمُزْنِ، فَلَمَّا تَرَكُوا صَارُوا فِي رِجْسِ الْعُهْرِ وَنَتْنِ الْفِسْقِ.

وَهَذَا يُفْصِحُ لَنَا عَنْ سَرِيرَةِ التَّجَمُّعِ الْحَرَكِيِّ الظَّامِئَةِ الَّتِي لَا يَرْوِيهَا إِلَّا التَّشَفِّي وَالْحَسَدِ وَالشَّمَاتَةِ، وَهِيَ أَخْلَاقٌ لَا تَنْزِعُ بِصَاحِبِهَا إِلَّا إِلَى الْهَلَكَةِ وَسُوءِ النِّهَايَةِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

هَذِهِ الْآثَارُ إِنَّمَا هِيَ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ لِآثَارٍ أُخْرَى جُزْئِيَّةٍ تَتَفَرَّعُ مِنْهَا.

الْآثَارُ السَّلْبِيَّةُ لِلِانْضِمَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ حَدِّثْ عَنْهَا كَمَا تُحَدِّثُ عَنِ الْبَحْرِ وَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّهَا -أَيْ هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ وَهَذِهِ التَّنْظِيمَاتُ وَهَذِهِ الْفِرَقُ، هَذِهِ جَمِيعُهَا- بِدْعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.

هَذِهِ التَّجَمُّعَاتُ الْحَرَكِيَّةُ التَّنْظِيمِيَّةُ، هَذَا الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ بِدْعَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعِظِيمِ، بِدْعَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا، أُغْلِقَ عَقْلُهُ، وَأُوصِدَ بَابُ قَلْبِهِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شُعَاعٌ مِنْ عَقْلٍ وَلَا بَصِيصٌ مِنْ نُورِ تَأَمُّلٍ يَنْحَازُ بِهِ بَعِيدًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَفَكَّرَ, وَإِنَّمَا يَخْبِطُ مَعَ كُلِّ نَاعِقٍ بِكُلِّ سَبِيلٍ، يُلَبِّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَاشًّا لَهُمْ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَى جَهْلِهِ وَكَلَامِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِعِلْمٍ.. ((قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، هَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ)) .

هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ مَزَّقَتِ الْأُمَّةَ وَأَذْهَبَتْ قُوَّتَهَا، وَإِنْ ظَلَّتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَفِيءَ إِلَى الرُّشْدِ وَتَعُودَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ الِانْحِدَارُ إِلَى قَرَارَةِ الْحَضِيضِ وَمُنْتَهَى الْهَاوِيَةِ.

إِنَّ الْجَمِيعَ تَحْتَ لِوَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ لِوَاءُ الدِّينِ وَالْوَطَنِ الَّذِي تَنْضَوِي تَحْتَهُ وَفِي ظِلِّهِ كُلُّ الْأَلْوِيَةِ الْأُخْرَى، أَمَّا أَنْ تَحْمِلَ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَوْ جِهَةٍ لِوَاءً مُوَازِيًا لِلِوَاءِ الدَّوْلَةِ فَهَذَا خَطَرٌ دَاهِمٌ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ لَا أَمْرُ الدِّينِ وَلَا أَمْرُ الدَّوْلَةِ؛ لِذَا يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ)) .

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ لَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمُحَاوَلَةُ تَفْرِيقِهَا.. مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُلَّالُّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

((مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ:

الْعَمَلُ عَلَى رِفْعَتِهَا وَإِعْمَارِهَا وَتَقَدُّمِهَا))

إِنَّ الْحُبَّ الْحَقِيقِيَّ لِلْوَطَنِ يَدْفَعُ إِلَى الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ.. الْوَطَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ، وَإِعْمَارٌ لَا تَخْرِيبٌ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! إِنَّ أَعْدَاءَنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُضَيِّقُونَ عَلَيْنَا الْحَلْقَةَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي مَحْقِنَا وَفِي قَتْلِنَا، وَفِي إِزَالَتِنَا، وَفِي مَحْوِ تَارِيخِنَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نُبَالِي!!

وَأَخْطَرُ مِنَ الْخَطَرِ أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي خَطَرٍ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُحِسًّا بِأَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَسَيَسْعَى حَتْمًا لِتَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي الْخَطَرِ، بَلْ فِي عَيْنِ الْخَطَرِ وَسَوَائِهِ.. أَلَّا يُحِسَّ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ، فَهَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْخَطَرِ!

هَذِهِ مَرْحَلَةٌ فَاصِلَةٌ مِنْ تَارِيخِ هَذَا الْوَطَنِ، نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُمَرِّرَهَا عَلَيْنَا بِأَمْنٍ وَسَلَامٍ.

حَفِظَ اللهُ مِصْرَ..

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.

اللَّهُمَّ احْفَظْ وَطَنَنَا.

وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا.

وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا.

وَاحْفَظْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَوَفِّقْهُمْ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان