تفريغ خطبة شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ

شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ

((شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ))

الْجُمُعَةُ 6 مِنْ جُمَادَى الثَّانِي 1425هـ / 23-7-2004م.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ))

فَفِي دَرْسٍ مِنْ دُرُوسِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَفِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ ذَكَرَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- شُرُوطَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَجْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تِلْكَ الشُّرُوطَ فِي سِتَّةِ شُرُوطٍ ذَكَرَهَا فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 45-47].

فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ ذَكَرَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَإِرْشَادًا وَرَسْمًا لِلْمِنْهَاجِ الصَّحِيحِ؛ ذَكَرَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- سِتَّةَ شُرُوطٍ لِلنَّصْرِ، أَقَامَهَا عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَقَدْ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقَوْمَ حِينَ النِّدَاءِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَاسْتَفْتَحَ الْقَوْلَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ نِدَاءً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}..

{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً كَافِرَةً، فَحَذَفَ الْوَصْفَ اسْتِغْنَاءً؛ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَدَلَالَةِ الْحَالِ.

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: الثَّبَاتُ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ))

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}.. وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- يَقُولُ: ((لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَدُوًّا، فَانْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ خَرَجَ خَطِيبًا فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)).

ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ؛ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)).

لَمْ يَعْجَلْ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَمَا يَعْجَلُ الْمُتَعَجِّلُونَ، وَلَمْ يَتَحَمَّسْ كَمَا يَتَحَمَّسُ الْمُتَحَمِّسُونَ، وَإِنَّمَا يَقْدُرُ لِلْأَمْرِ قَدْرَهُ، وَيُعِدُّ لِلْخَطْبِ عُدَّتَهُ، وَيَجْعَلُ الْمَسْؤُولِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا، فَانْتَظَرَ ﷺ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ﷺ مُعَلِّمًا: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ))؛ لِأَنَّ التَّثْبِيتَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَلَعَلَّ الرَّجُلَ يَنْدَفِعُ فِي أَمْرٍ لَا يَقْدُرُهُ قَدْرَهُ، وَلَا يُعِدُّ لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِذَا مَا جَدَّ الْجِدُّ انْكَشَفَ، وَإِذَا هُوَ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ لِعَدُوِّهِ، وَإِذَا هُوَ وَاقِعٌ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الشَّرِيفِ-.

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)).

وَهِيَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْبَيَانِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، يَجْعَلُ النَّبِيُّ ﷺ الْجَنَّةَ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَتَاعٍ وَنَعِيمٍ تَحْتَ ظِلِّ سَيْفٍ مُشْهَرٍ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مُتَقَطِّرًا مِنْهُ دِمَاءٌ نَازِفَاتٌ، وَلَعَلَّهُ يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الْأَحْشَاءِ عَالِقَاتٌ؛ وَلَكِنْ كَذَلِكَ يَصِفُ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ الْأَمْرَ، وَيُبَيِّنُ الْمَوْقِفَ الَّذِي فِيهِ الْقَوْمُ: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ))، فَالْتَمِسْ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، كَذَا يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ.

((فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ)).

ثُمَّ أَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَبِّهِ ضَارِعًا مُتَضَرِّعًا مُنَاجِيًا مُتَبَتِّلًا، دَاعِيًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَذَا النِّدَاءِ الشَّفِيفِ وَالدُّعَاءِ الشَّرِيفِ: ((اللهم)): وَ(الْمِيمُ الْمُشَدَدَّةُ) فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: (اللهم) هِيَ مِيمُ عِوَضٍ عَنْ جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى؛ فَكَأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَمَا يَقُولُ: (اللهم) كَأَنَّهُ قَالَ: يَا اللهُ، يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ، يَا عَزِيزُ، يَا قَوِيُّ، يَا كَبِيرُ...، إِلَى آخِرِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَأَتَتِ (الْمِيمُ) فِي أَعْدَلِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ كُلِّهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ: ((اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ؛ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}.

فَأَوَّلُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: الثَّبَاتُ.

وَمَا لِلْقَوْمِ لَا يَثْبُتُونَ وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا النَّصْرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ عِزًّا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَوْتِ مَآلًا وَنَصْرًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ مَوْصُولًا فِي الْحَالَيْنِ.

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: ذِكْرُ اللهِ كَثِيرًا))

{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: .45]

وَأَتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ بِالشَّرْطِ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا- وَاصِفًا ذِكْرَهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ جِدَالٍ وَنِزَالٍ، وَفِي مَعْرِضِ جِلَادٍ وَعِنَادٍ، وَفِي مَعْرِضِ مُوَاقَعَةٍ وَنِزَالٍ، وَفِي مَعْرِضِ سُيُوفٍ مُشْهَرَاتٍ، وَرِمَاحٍ مُشْرَعَاتٍ، وَهَوْلٍ هَائِلٍ، وَكَرْبٍ عَصِيبٍ، وَأَرْوَاحٍ بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَهَذَا الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْ هَذَا الْهَوْلِ كُلِّهِ يَخْرُجُ مِنْ وَسَطِهِ تَضَرُّعٌ وَنِدَاءٌ وَذِكْرٌ وَرَجَاءٌ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَقُلُوبٌ مَوْصُولَةٌ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ حَرِيَّةٌ بِأَنْ تُنْصَرَ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

وَإِذَا كَانَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ الْقَدِيمُ قَدْ أَدَلَّ عَلَى مَحْبُوبَتِهِ بِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهَا فِي مَوْطِنِ الْهَوْلِ وَفِي مَوْضِعِ الْفَزَعِ فَقَالَ:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ           =           مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لِأَنَّهَا            =           لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّمِ

يَقُولُ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ مِنِّي تَنْهَلُ مِنْ دَمِي، وَبِيضُ الْهِنْدِ؛ أَيْ: سُيُوفُ الْهِنْدِ، مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْهِنْدِ فِي جَوْدَةِ الصُّنْعِ؛ فَصَارَتْ مَثَلًا، فَهُوَ سَيْفٌ هِنْدِيٌّ.

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ فِي مَوْطِنِ الرَّوْعِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْفَزَعِ وَإِنَّ رُوحِي لَهِيَ عَلَى كَفِّي، وَمَعَ ذَلِكَ:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ           =           مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لِأَنَّهَا            =           لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّمِ

إِذَا كَانَ الشَّاعِرُ الْعَرَبِيُّ يَجْعَلُ هَذَا عَلَامَةً عَلَى الْقُرْبِ، وَدَلَالَةً عَلَى الْوَصْلِ، وَآيَةً عَلَى الْمَحَبَّةِ بِتَمَكُّنِهَا مِنَ الْقَلْبِ؛ فَحَرِيٌّ بِمَنْ كَانَ مُحِبًّا للهِ حَقًّا أَنْ يَكُونَ للهِ ذَاكِرًا صِدْقًا، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَأْمُرْ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الذِّكْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَفِي ذَاتِ الْغَزْوَةِ فِي يَوْمِ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدًّا فَارِقًا بَيْنَ مَا مَضَى مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا يَتَأَتَّى مِنْ تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فِي يَوْمِ بَدْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ الْعَرِيشِ يَدْعُو رَبَّهُ يَقُولُ ﷺ: ((اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي)) يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى تَنْحَسِرَ بُرْدَتُهُ عَنْ كَتِفَيْهِ الشَّرِيفَيْنِ ﷺ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى تَبْدُوَ عُفْرَتَا إِبِطَيْهِ -أَيْ: بَيَاضُ إِبِطَيْهِ ﷺ-، ((اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ -أَيْ: هَذَا الْجَمْعُ مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي: أَصْحَابَهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ)).

هَذَا اسْتِفْتَاحُ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَفِي الْمُقَابِلِ فِي الْمُعَسْكَرِ الْآخَرِ كَانَ أَبُو جَهْلٍ يَسْتَفْتِحُ -أَيْضًا- يَقُولُ: ((اللهم أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُهُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ)).

يَا لَصَفَاقَةِ الْوَجْهِ!

وَيَا حُمْرَةَ الْخَجَلِ أَيْنَ أَنْتِ؟!

هَذَا الرَّجُلُ فِي مُعَسْكَرِ الْكُفْرِ يُنَاوِئُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَيَسْتَفْتِحُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللهم أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، اللهم مَنْ أَتَى بِمَا لَا نَعْرِفُ، اللهم انْصُرِ الْيَوْمَ -يَقُولُ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ- اللهم انْصُرِ الْيَوْمَ أَحَبَّنَا إِلَيْكَ وَأَرْضَانَا عِنْدَكَ!)).

فَنَصَرَ اللهُ مُحَمَّدًا، وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ الْفَاسِقِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَصِيبِ.

وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى انْتِكَاسِ الْقِيَمِ عِنْدَمَا تَنْتَكِسُ، وَارْتِكَاسِ الْمَعَايِيرِ عِنْدَمَا تَرْتَكِسُ، وَانْظُرْ إِلَى النَّظْرَةِ عِنْدَمَا تَشُولُ بِذَنَبِهَا كَأَنَّهَا دَابَّةٌ عَائِرٌ عَائِرَةٌ بِبَعْضِ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ.

انْظُرْ إِلَى تَشَوُّهِ الْبَاطِنِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا غَبَشًا، وَكَذَا عِنْدَمَا تَكُونُ الْمِرْآةُ صَدِأَةً، فَيَنْظُرُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَا يَرَى إِلَّا خَيَالَاتٍ وَأَشْبَاحًا، وَلَا يَرَى فِيهَا إِلَّا أَوْهَامًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَيِبنَ مِنْهَا شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ فِي جُمْلَةِ الْأَنَاسِيِّ، وَلَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَالَمِ الْإِنْسَانِ!

الرَّسُولُ ﷺ يُنَاشِدُ رَبَّهُ، وَيَأْتِي الصِّدِّيقُ -صِدِّيقُ الْأُمَّةِ الْأَكْبَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- بِالْبُرْدَةِ بَعْدَمَا انْحَسَرَتْ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى كَتِفَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ؛ فإنَّه سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ)). ﷺ.

{إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] هَذِهِ نَزَلَتْ فِي قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: ((اللهم أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، اللهم انْصُرْ أَرْضَانَا عِنْدَكَ وَأَحَبَّنَا إِلَيْكَ)).

فَجَاءَ فَتْحُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَصَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مُحَمَّدًا ﷺ.

إِنَّ الْحَيَاةَ الْبَشَرِيَّةَ فِي جُمْلَتِهَا لَمْحَةٌ فِي زَمَانٍ مُتَطَاوِلٍ لَا حَدَّ لِبَدْئِهِ وَلَا مُنْتَهَاهُ فِي مَعْرِفَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَكُلُّهُ عِنْدَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَكْشُوفٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلَا غُمُوضٍ وَلَا قِلَّةِ اتِّزَانٍ، هُوَ مَكْشُوفٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَا يُصْلِحُهُ جَعَلَ لَهُ مَنْهَجًا ذِكْرِيًّا مُنْذُ يَنْتَبِهُ فَتُفْتَحُ عَلَى كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَيْنَاهُ، إِلَى أَنْ يُدَاعِبَ النَّوْمُ جَفْنَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ بِمَعَاقِدِ أَجْفَانِهِ، ثُمَّ إِذَا هُوَ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ وَنَوْمٍ مُتَّصِلٍ، مُنْذُ يَفْتَحُ الْمَرْءُ عَيْنَيْهِ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)).

ثُمَّ يَظَلُّ فِي الْحَيَاةِ مُضْطَرِدًا مَحْكُومًا بِمَنْهَجٍ ذِكْرِيٍّ يَصِلُ الْقَلْبَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَطْرَحُ الرُّوحَ عَلَى عَتَبَاتِ جَنَبَاتِ رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَظَلُّ الْمَرْءُ مَوْصُولًا بَدْءًا وَمُنْتَهىً، مَا بَيْنَ الصَّحْوِ وَالْإِفَاقَةِ وَمَا بَيْنَ النَّوْمِ وَذَهَابِ الِانْتِبَاهِ جُمْلَةً؛ يَظَلُّ الْمَرْءُ بَيْنَ هَذَيْنِ مَوْصُولَ الْقَلْبِ بِاللهِ، دَائِمَ الذِّكْرِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُقْبِلًا بِجَوَارِحِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَحِينٍ عَلَى الَّذِي فَطَرَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَالَّذِي خَلَقَهُ فَذَرَأَهُ فَسَوَّاهُ فَعَدَلَهُ؛ فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ ﷺ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: {اثْبُتُوا}.

وَالشَّرْطُ الثَّانِي: {وَاذْكُرُوا اللهَ}.

ثُمَّ جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَثْرَةِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فَعَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، وَعَلَى رَجَاءِ تَحْصِيلِ النَّصْرِ، أَوِ الْوُصُولِ إِلَى بَرِّ الْأَمَانِ بِمُلَاقَاةِ الشَّهَادَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَازِفَ الْجُرْحِ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ، وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَقَامٍ، وَأَيُّ مَقَامٍ.

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ))

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الطَّاعَةَ هَاهُنَا عَلَى فِعْلٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُثَنِّهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ طَاعَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمْ يَحْتَجِ الْأَمْرُ إِلَى إِعَادَةِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِلرَّسُولِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ، لَمْ يَقُلْ: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَإِنَّمَا قَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ؛ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ طَائِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُطِيعًا لِنَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ.

فَإِذَا لَمْ يَتَأَتَّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فَحَدِّثْ عَنِ الْفَشَلِ وَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ تَنْسِفُ الشَّرْطَ الثَّالِثَ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ تَمْحَقُ مَا يَأْتِي بَعْدُ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ جَاءَ النِّزَاعُ وَجَاءَتِ الْمُنَازَعَةُ، فَجَاءَ الْفَشَلُ لَاحِقًا، وَحَلَّ هَذَا الْفَشَلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَاحَةِ الْقَوْمِ، فَجَبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ.

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: عَدَمُ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ))

ثُمَّ يَتَأَتَّى وَعْدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَعِيدُهُ -وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُ الْقَوْمَ إِذَا مَا أَرَادُوا النَّصْرَ أَلَّا يَتَنَازَعُوا، فَرَفْعُ النِّزَاعِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ:

-أَنْ يَثْبُتَ الْقَوْمُ.

-وَأَنْ يَذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا.

-ثُمَّ تَتَأَتَّى مِنْهُمْ طَاعَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ ﷺ.

-ثُمَّ فَلْيَنْتَفِ النِّزَاعُ عَنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَأَتَّى لَهُمُ النَّصْرُ.

وَلَكِنْ هَيْهَاتَ! فَإِنَّ الْهَوَى قَدْ تَمَكَّنَ مِنَ الْقُلُوبِ، وَإِنَّ الْعُجْبَ بِالذَّاتِ وَإِنَّ الْإِحْسَاسَ بِالنَّفْسِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى تِلْكَ الْقُلُوبِ، فَأَصْبَحَتْ فِي قَبْضَةِ الْأَنَا، لَا تَخْلُصُ مِنْهَا أَبَدًا، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكُفَّ قُيُودَهَا مِمَّا قُفِّلَتْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْيَادِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهِ؛ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ وَالْإِحْسَاسِ بِهَا.

{وَلَا تَنَازَعُوا}؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فَشِلْتُمْ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}، وَأَتَى بِـ(الْفَاءِ) تَعْقِيبًا؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَشَلَ يَأْتِي بِعَقِبِ النِّزَاعِ مِنْ غَيْرِ مَا فَصْلٍ، فَأَتَى  بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِـ(الْفَاءِ) هَاهُنَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ فَاصِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى هَذَا تَرْتِيبًا حَالِيًّا بِغَيْرِ مَا فَصْلٍ فِي الْآنِ وَلَا فِي الزَّمَانِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ يَعْنِي: وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ.

فَإِذَا مَا هُنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بَعْدَمَا هَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَمْرِهِ عَلَيْكُمْ؛ صِرْتُمْ هَيِّنِينَ لَيِّنِينَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَنَزَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّهْبَةَ مِنْكُمْ مِنْ صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ، فَسَامُوكُمُ الْخَسْفَ، وَأَذَلُّوكُمْ، وَنَزَلَ بِكُمْ مَا لَا تُحِبُّونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ؛ مِنْ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَدْمِ الدِّيَارِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ تَغْيِيرُ الدِّينِ، وَمُحَاوَلَةُ الْمَحْقِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، وَلَكِنَّمَا هُوَ جِيلٌ يَدْخُلُ الْأَتُّونَ الْمُسْتَعِرَ فَيَفْنَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةَ.

لَقَدْ كَانَ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- قَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ مِنِ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ وَتَنَازُعِهِمْ مَا أَقُصُّهُ عَلَيْكَ -بِحَوْلِ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، يَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنَ الْأَحْنَافِ الْأَفْغَانِيِّينَ سَمِعَ رَجُلًا فِي الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ، فَضَرَبَهُ بِجُمَاعِ يَدِهِ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ لِقَفَاهُ، كَادَ أَنْ يَمُوتَ!

وَآخَرُ رَأَى رَجُلًا يُحَرِّكُ السَّبَّابَةَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، فَحَنَا عَلَيْهِ فَكَسَرَ أُصْبُعَهُ!  هَكَذَا! هَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ وَمَا يَزَالُ، افْتِعَالٌ لِتِلْكَ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي يَا طَالَمَا مَرَّ عَلَى الْأُمَّةِ فِي حَالِ صِحَّتِهَا أَمْثَالُ أَمْثَالِهَا.

إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي فَقَدَ الْمَنَاعَةَ جَسَدُهُ، وَالَّذِي لَا يَجِدُ الْمَنَاعَةَ جِسْمُهُ؛ هَذَا الرَّجُلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ النَّسِيمُ وَلَوْ كَانَ عَلِيلًا، وَيَجْرَحُ فِي أَدِيمِ صِحَّتِهِ الْهَوَاءُ وَلَوْ كَانَ مَلِيلًا؛ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ الْقَوِيَّ الْفَتِيَّ فِي عُنْفُوَانِ صِحَّتِهِ يَصِحُّ بَدَنُهُ عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْخَمُ بِجَهْدِهِ جَسَدُهُ ذَلِكَ الْعَلِيلُ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي الْأُمَّةِ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ اضْطِرَابًا، وَعِنْدَمَا يَتَأَتَّى إِلَيْهَا الْفَشَلُ تَنَازُعًا وَاخْتِلَافًا، يَجْرَحُ فِيهَا الْقَلِيلُ وَالْقَلِيلُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَمَا يَتَصَدَّرُ لِلْكَلَامِ الْعَوَامُّ، وَعِنْدَمَا يُشَارِكُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ؛ فَحَدِّثْ عَنِ الْفَوْضَى وَلَا حَرَجَ، وَهُوَ وَاقِعٌ مُشَاهَدٌ مَنْظُورٌ.

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ قَانُونًا كُلِّيًّا عَامًّا يَحْكُمُ الْمَسْأَلَةَ الْعِلْمِيَّةَ بِالْقَوَانِينِ التَّنْظِيمِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ؛ بِحَيْثُ إِنَّ الضَّوَابِطَ التَّنْظِيمِيَّةَ الْحَاكِمَةَ لِلْعَمَلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الشَّرْعِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَنِيفِ تَجِدُهَا مُنْضَبِطَةً جِدًّا؛ بِحَيْثُ لَا تَجِدُ فِيهَا -لَوْ أَنَّهَا طُبِّقَتْ- خَلَلًا أَبَدًا.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ النَّفِيرُ لِلْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ النَّفِيرُ عَلَى أَصْلِهِ فَالْأَمْرُ يَؤُولُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى أَنْ يُعَلِّمَ مَنْ عُلِّمَ، وَمَنْ هُوَ عَالِمٌ يُعَلِّمُ الْجَاهِلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ؛ وَلَكِنْ عَلَى قَانُونٍ مُنْضَبِطٍ مِنْ غَيْرِ مَا خَبْطٍ فِي بَيْدَاءِ الظُّنُونِ، وَلَا سَيْرٍ فِي دُنْيَا الْأَوْهَامِ، يَتَوَقَّفُ الرَّجُلُ عِنْدَ حُدُودِ مَا يَعْلَمُ، وَيَتَّسِعُ صَدْرُ الْعُلَمَاءِ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ لِمَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ صَدْرُ الْعَوَامِّ، فَإِذَا طُرِحَتِ الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ، وَالْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بِمَسَائِلِهِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -يَعْنِي: الِاخْتِلَافَ الْفُرُوعِيَّ فِي الْأَحْكَامِ-؛ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْضَبِطَ، وَلَوْ أَنَّهُ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ تَهَاجَرَا، وَتَعَادَيَا، وَتَنَاطَحَا، وَتَشَاجَرَا، وَتَرَافَسَا؛ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ، وَلَوْ أَنَّهُ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ تَهَاجَرَا؛ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ.

يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ أَيْنَ أَنْتُمْ؟!!

وَيَا أُولِي الْأَلْبَابِ أَيْنَ ذَهَبْتُمْ؟!!

إِنَّهَا أُمَّةٌ يَجْرَحُ فِي أَدِيمِ صِحَّتِهَا النَّسِيمُ!

إِنَّهَا أُمَّةٌ يُؤَثِّرُ فِيهَا لِعِلَّتِهَا مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَسَدِ الصَّحِيحِ!

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

وَنَبِيُّكُمْ ﷺ كَانَ يَطْوِي الْمَرَاحِلَ طَيًّا؛ لِكَيْ يَجْعَلَ الْخِلَافَ قَرِيبًا بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ ﷺ، وَخُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا مِمَّا لَا يَصِيرُ مِحْوَرًا يَتَمَحْوَرُ حَوْلَهُ الْفَارِغُونَ؛ لِأَنَّهَا حَرَكَةُ عُقُولٍ فَارِغَةٍ لَا تَجِدُ تَحْقِيقًا لِذَاتِهَا إِلَّا بِهَدْرِ أَلْسِنَتِهَا بَيْنَ أَشْدَاقِهَا كَالطَّبْلِ الْأَجْوَفِ، فَهُوَ تَحْقِيقٌ لِلذَّاتِ فِي أَيِّ شَيْءٍ.

وَالْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ الْيَوْمَ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ يَتِيمَانِ مِسْكِينَانِ، يَلْطِمُهُمَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا كُلُّ غَيْرِ ذِي أَيْدٍ شَدِيدٍ، وَيَحْنُو عَلَيْهِمَا بِالْمَلَامَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا؛ بَلْ هُوَ أَجْهَلُ مِنَ الْحِمَارِ الْأَعْجَمِ، كَذَلِكَ الشَّأْنُ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ-.

وَقُلْتُ قَدِيمًا -بِحَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقُدْرَتِهِ-: إِنَّ رَجُلًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ طُرْشَجِيًّا؛ لَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ دُكَّانًا يَبِيعُ فِيهِ الْمَوْصُوفَ آنِفًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِجْرَاءَاتٍ وَمُوَافَقَاتٍ، وَفَحْصٍ وَكَشْفٍ، وَبَيَانَاتٍ وَسِجِلَّاتٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤْذَنُ لَهُ بِأَنْ يَصِيرَ طُرْشَجِيًّا عَلَى هَامَاتِ الْخَلْقِ!

إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ بَائِعًا لِلْفَسِيخِ، إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ بَائِعًا لِمَأْكُولٍ فَصِحَّةُ الْأَبْدَانِ يَنْبَغِي أَنْ تُصَانَ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْأَدْيَانِ فَحَدِّثْ عَنِ الْفَسَادِ وَلَا حَرَجَ، إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَعُدَّةُ الشُّغُلِ مَوْجُودَةٌ؛ إِنْ هِيَ إِلَّا تِلْكَ الْقَلَنْسُوَاتُ الَّتِي صُنِعَتْ فِي غَيْرِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ، إِلَى مَا يَلْحَقُ بِهَا، وَيَدُورُ فِي فَلَكِهَا، ثُمَّ فَلْيَصِرِ الرَّجُلُ عَالِمًا يُفْتِي فِي أُمُورٍ قَالَ أَبُو حُصَيْنٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّكُمْ لَتَتَكَلَّمُونَ فِي أُمُورٍ لَوْ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ؛ وَلَكِنْ أَنْتُمْ تَجْتَرِئُونَ عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!)).

وَقَدِيمًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ؛ رَحْمَةُ اللهِ وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا: ((إِنَّ أَجْرَأَ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا)).

أَمَّا الَّذِينَ يَتَوَقَّفُونَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ؛ فَخُذْ لَهُمْ مِثَالًا وَاحِدًا، خُذْ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ إِمَامَ دَارِ الْهِجْرَةِ، مَا تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ سَبْعُونَ، قَالَ: ((وَلَوْ نَهَوْنِي لَانْتَهَيْتُ)).

لَمْ يَصْنَعْ حَلْقَةً، وَلَمْ يَتَّخِذِ الدِّينَ تِجَارَةً، وَلَمْ يَتَهَجَّمْ عَلَى الدِّينِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِمَا يَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّمُ لِيَعْمَلَ، وَلَا يَضَعُ فِي حُسْبَانِهِ أَنْ يَكُونَ قَارِئًا لِيَقُولَ، وَأَنْ يَكُونَ مُطَّلِعًا لِيَعِظَ، ثُمَّ يَمُرُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ كَمَا تَمُرُّ الْكَهْرُبَاءُ عَلَى السِّلْكِ قَدْ لَوَّثَتْهُ نِيمُ الذُّبَابِ بِخَرَئِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَذَارَاتٍ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَوْحَالٍ، وَلَكِنْ هُوَ لَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يُفِيدُ مِمَّا قَرَأَ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: الصَّبْرُ))

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

وَهِيَ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ نِزَالٍ وَجِلَادٍ، وَهُوَ مَوْطِنٌ فِيهِ مَظِنَّةُ أَنْ تَسِيلَ النُّفُوسُ عَلَى ذُبَابِ السُّيُوفِ، وَأَنْ تَخْرُجَ الْأَرْوَاحُ عَلَى أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ.

لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَصِيبًا، وَكَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ حَيَاةٍ تُسْلَبُ، وَأَرْوَاحٍ تُزْهَقُ؛ أَتَى الْأَمْرُ هَاهُنَا مَعَ التَّأْيِيدِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، لَمْ يَقُلْ: (وَاصْبِرُوا) ثُمَّ يَسْكُتُ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالصَّبْرِ أَمْرًا، أَتَى بِالصَّبْرِ جَزْمًا، ثُمَّ أَتَى بِمَا يُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ، وَيُثَبِّتُ عَلَى الْأَمْرِ، {وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فَإِنْ تَحَقَّقْتُمْ بِالْأَمْرِ وَصَبَرْتُمْ جَاءَ التَّأْيِيدُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُ الْقَوْمَ أَنْ يَأْخُذُوا بِشُرُوطِ النَّصْرِ، وَأَنْ يُحَصِّلُوهَا؛ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى شَاطِئِ النَّصْرِ الْعَزِيزِ؛ وَإِلَّا فَهُوَ اضْطِرَابٌ فِي وَحْلِ الْهَزِيمَةِ، وَهُوَ انْتِكَاسٌ فِي بِحَارٍ أَلِيمَةٍ، وَلَا يَصِلُ النَّاسُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِزِّ بِغَيْرِ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَلَهُمَا شُرُوطٌ ذَكَرَهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].

((مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ: عَدَمُ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي الْبَطَرِ وَالْكِبْرِ وَالطُّغْيَانِ))

وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ فَشَأْنُهُ عَجِيبٌ عَجِيبٌ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الْخَطَلَ، وَالْوُقُوعَ فِي الزَّلَلِ، وَأَنْ يَعْصِمَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّنَا مِنِ اقْتِحَامِ مَسَالِكِ الْهَلَكَةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فَيَنْهَى رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ فِي الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْكِبْرِ، وَنَفْيِ الْإِخْلَاصِ عَنِ الْقُلُوبِ؛ إِخْبَاتًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}: فَذَكَرَ اثْنَيْنِ {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}: فَأَتَى بِفِعْلٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَذْكُورًا بِالِاسْمِ كَانَ مُتَحَقِّقًا سَلَفًا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}، كَانَ الْبَطَرُ وَكَانَ رِئَاءُ النَّاسِ -أَيْ: رِيَاؤُهُمْ- كَانَ مَوْجُودًا فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْخَارِجِينَ، وَأَمَّا الَّذِي تَجَدَّدَ لَهُمْ، وَظَلَّ مُسْتَمِرًّا لَدَيْهِمْ؛ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ.

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}.

فَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ السَّادِسُ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ -كَمَا تَرَى- شَرْطٌ سَلْبِيٌّ مَحْضٌ؛ إِذْ يَنْهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَحُوزَ أَنْفُسُهُمْ وَأَنْ تَشْتَمِلَ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْبَطَرِ، أَوِ الرِّيَاءِ، أَوِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛ فَهَذِهِ تَخْلِيَةٌ لَا تَحْلِيَةٌ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الشُّرُوطِ السَّابِقَاتِ؛ فَكُلُّهُ كَانَ دَائِرًا فِي إِيجَابِيَّةٍ فَاعِلَةٍ، بَاهِرَةٍ مُبْهِرَةٍ، تَتَقَلَّبُ عَمَلًا، وَتُرِيدُ حَرَكَةً لِتَتَحَقَّقَ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَأَمَّا هَذَا الشَّرْطُ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ضَرَبَ الْمِثَالَ الْعَمَلِيَّ فِيهِ وَكَانَ مُشَاهَدًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدُ، يَتَحَدَّرُ إِلَى الْأَسْمَاعِ فِي ظِلَالٍ وَنَدًى، يَنْقُلُهُ خَالِفٌ عَنْ سَالِفٍ، وَيَرْوِيهِ الرُّوَاةُ تَسِيرُ بِرِوَايَتِهِ الرُّكْبَانُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فَضِيحَةً مُدَوِّيَةً -نَسْأَلُ اللهَ السَّتْرَ وَالْعَافِيَةَ-.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].

يَصِفُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَالْكَلَامُ -كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- دَرْسٌ مِنْ دُرُوسِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَنْ مَوْقِعَةِ بَدْرٍ، لَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ خَرَجُوا  بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ، وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرْسَلَ رَسُولَيْنِ -جَاسُوسَيْنِ-؛ أَرْسَلَهُمَا لِكَيْ يَسْتَطْلِعَا الْأَنْبَاءَ؛ أَنْبَاءَ الْعِيرِ لَا أَنْبَاءَ النَّفِيرِ، لِكَيْ يَأْتِيَا بِأَنْبَاءِ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ قَافِلَةً رَاجِعَةً إِلَى حَيْثُ مُسْتَقَرُّهَا فِي الْبَلَدِ الْأَمِينِ.

فَلَمَّا ذَهَبَ الرَّسُولَانِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُمَا: بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيُّ بْنُ الزَّغْبَاءِ، فَنَزَلَا لِمَاءٍ عِنْدَ بَدْرٍ، فَوَجَدَا مَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ هُنَالِكَ، فَأَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْرُ الرَّاحِلَتَيْنِ -بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، فَاسْتَقَيَا فِي شَنٍّ -فِي قِرْبَةٍ بَالِيَةٍ- مِنْ عَيْنِ مَاءٍ هُنَالِكَ فِي (وَادِي بَدْرٍ)، وَذَلِكَ قَبْلَ قُدُومِ أَبِي سُفْيَانَ بِالْعِيرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَمِعَا عَلَى الْمَاءِ جَارِيَتَيْنِ تَتَنَازَعَانِ؛ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا تُقَاضِي أُخْتَهَا دَيْنًا عَلَيْهَا، فَقَالَتِ الْمَلْزُومَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الدَّيْنُ: غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ تَأْتِي الْقَافِلَةُ فَأَعْمَلُ لَهَا، ثُمَّ أَقْضِيكِ حَقَّكِ.

وَرَجَعَ الرَّسُولَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَنَزَلَ عَلَى مَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ لَهُ: ((هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا مُرِيبًا؟)).

فَقَالَ: ((جَاءَ رَجُلَانِ فَأَنَاخَا هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى مَوْضِعِ مَنَاخِهِمَا-، فَاسْتَقَيَا مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ انْصَرَفَا)).

فَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُنِيخَتْ فِيهِ الرَّاحِلَتَانِ، فَأَخَذَ الْبَعْرَ فَفَتَّهُ  فَوَجَدَ فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: ((هَذِي وَاللهِ! عَلَائِفُ يَثْرِبَ، وَهَذَانِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ)) ﷺ.

فَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْكَشَفَ، فَأَسْرَعَ مُدْبِرًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَحَرَفَ وُجْهَةَ الْقَافِلَةِ إِلَى السَّاحِلِ، فَسَاحَلَ بِهَا، وَجَانَبَ نَفْسَهُ وَالْقَبِيلَةَ، وَتَجَنَّبَ الطَّرِيقَ الرَّئِيسَ، ثُمَّ فَرَّ هَارِبًا.

وَأَرْسَلَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى قُرَيْشٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَنْفَرَهُمْ، فَأَعَدُّوا الْعُدَّةَ، وَأَخَذُوا لِلْحَرْبِ عُدَّتَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَقُولُ: ((إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، وَرِجَالَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ فَارْجِعُوا)).. إِنَّ اللهَ قَدْ حَفِظَ عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ؛ فَعُودُوا فَلَا حَرْبَ هُنَالِكَ.

فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ أَخَذَتِ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ الشَّقِيَّ الْبَائِسَ أَبَا جَهْلٍ -عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ-، وَقَالَ: ((وَاللهِ! لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا)).

وَكَانَتْ بَدْرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سُوقًا لِلْعَرَبِ، يَجْتَمِعُونَ فِيهَا قَبَائِلَ وَطَوَائِفَ وَأَنْحَاءً، قَالَ: ((وَاللهِ! لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ))، فَشَاءَ اللهُ أَنْ يُنْحَرَ وَمَنْ مَعَهُ، ((وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنُسْقَى الْخَمْرَ))، فَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمُ الْأَرْضُ، وَهَوَامُّ الْأَرْضِ، وَطَيْرُ السَّمَاءِ، ((وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ -الْمُغَنِّيَاتُ-))، فَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ النَّائِحَاتُ، وَعَامَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِضِدِّ قَصْدِهِ، وَخَرَجُوا بَطَرًا كِبْرًا، وَعِنَادًا، وَرِئَاءَ النَّاسِ.

((وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا؛ فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا))، بَعْدَهَا فَامْضُوا.

 فَلَنَنْحَرَنَّ، وَلَنُطْعِمَنَّ؛ حَتَّى يَتَسَامَعَ بِنَا الْعَرَبُ، فَتَأْخُذَهُمُ الْهَيْبَةُ مِنْ جَنَابِنَا الْمَنِيعِ، وَمِنْ شَأْنِنَا الرَّفِيعِ، فَأَذَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَجَعَلَ الْأَنْفَ رَاغِمًا، وَجَعَلَ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ وَمَنْ مَعَهُ سَالِمِينَ غَانِمِينَ ﷺ وَ-رَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}: خَرَجُوا مُتَكَبِّرِينَ مُعَانِدِينَ، لَقَدْ نَجَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِيرَ؛ فَلِمَ يَخْرُجُ النَّفِيرُ؟!!

يَخْرُجُونَ مُسْتَهِينِينَ بِمُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ ﷺ!

أَلَا شَاهَتِ الْوُجُوهُ!

((عِزَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَنَصْرُهُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ))

أَتَحْسَبُونَ النَّصْرَ يَأْتِي مِنَ الْأَرْضِ بِأَسْبَابِهَا؟!!

إِنَّمَا يَأْتِي النَّصْرُ مِنْ هَاهُنَا، إِنَّمَا الْأَمْرُ يَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَبِي عُبَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ، وَكَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مُرَقَّعٌ بِضْعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ عَلَى دَابَّةٍ عَجْفَاءَ تَقْتَحِمُهَا الْعَيْنُ، وَلَا تَزِلُّ عَنْهَا؛ وَلَكِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ هُوَ هُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ((خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ -ضَحْضَاحٌ مِنَ الْأَرْضِ- وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَه، فَنَزَلَ عَنْهَا، وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ، فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ)).

فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟! تَخْلَعُ خُفَّيْكَ، وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟! مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ)).

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ أَنَّنَا أَتَيْنَاكَ بِبِرْذَوْن ، فَدَخَلْتَ وَأَخَذْتَ ثَوْبًا صَالِحًا سِوَى هَذَا الَّذِي عَلَيْكَ؛ حَتَّى لَا تَقْتَحِمَكَ الْعَيْنُ!

فَقَالَ عُمَرُ -يَدْفَعُ فِي صَدْرِهِ يَقُولُ -وَكَانَ لَهُ مُحِبًّا؛ إِذْ هُوَ أَمِينُ الْأُمَّةِ الَّذِي لَا يَخُونُ- قَالَ: ((أَوَّهْ! لَوْ يَقُولُ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ )) يَعْنِي: لَأَنْزَلْتُ بِهِ عِقَابًا لَا أَقْوَى عَلَى إِنْزَالِ مِثْلِهِ بِمِثْلِكَ؛ فَإِنَّمَا يَحْجِزُنِي عَنْكَ مَا لَكَ مِنْ سَابِقِ فَضْلٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ؛ إِذْ هُوَ أَمِينُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ!

إِنَّ الْأَمْرَ مِنْ هَاهُنَا، لَا مِنْ هَاهُنَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَلَقَدْ كُنْتُمْ أَذَلَّ الْأُمَمِ، كُنْتُمْ أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَكُنْتُمْ أَصْحَابَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ، وَكُنْتُمْ بَدْوًا رُحَّلًا تَضْرِبُونَ الْمَضَارِبَ حَيْثُ قَطْرُ السَّمَاءِ، وَتَنْتَجِعُونَ الْمَوَارِدَ، وَتَضْرِبُونَ فِي مَخَاضَاتِ الْأَرْضِ، يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ لِحَاءَ الشَّجَرِ حَتَّى تَتَقَرَّحَ أَشْدَاقُهُ، ثُمَّ فِي ثَلَاثِينَ عَامًا مِنَ الِاتِّحَادِ، مِنَ الْوَحْدَةِ، مِنَ التَّوْحِيدِ، مِنَ الْإِيمَانِ، مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ، وَالنِّفَاقِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، مِنَ الْمَحَبَّةِ تَتَغَلْغَلُ بَيْنَ النُّفُوسِ حَتَّى يَصِيرَ الْجَوُّ مَشْحُونًا بِلَا نِزَاعٍ وَلَا مُشَاحَنَةٍ وَلَا فَشَلٍ، بِلَا رِيَاءٍ وَلَا نِفَاقٍ وَلَا سُمْعَةٍ، جَوٌّ غَيْرُ مَسْمُومٍ، وَأَمَّا جَوُّ الْمُشَاحَنَةِ وَالْمُنَازَعَةِ فَجَوٌّ مَسْمُومٌ مَسْمُومٌ، وَلُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، مَنْ شَمَّهَا مَرِضَ، وَمَنْ ذَاقَهَا مَاتَ.

إِنَّ الْجَوَّ الْمَشْحُونَ بِالنِّزَاعِ جَوٌّ مَسْمُومٌ حَقًّا، وَهَذَا إِمَامُنَا الشَّعْبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((لَقَدْ بَغَّضَ هَؤُلَاءِ إِلَيَّ الْمَسْجِدَ -لِنِزَاعِهِمْ وَنِقَارِهِمْ كَمُنَاقَرَةِ الدُّيُوكِ بَعْضِهَا بَعْضًا، كَمُجَالَدَةِ التُّيُوسِ بَعْضِهَا بَعْضًا-، لَقَدْ بَغَّضَ هَؤُلَاءِ إِلَيَّ الْمَسْجِدَ حَتَّى صَارَ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ كُنَاسَةِ أَهْلِي)) -رَحِمَهُ اللهُ-.

أَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: ((إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؛ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ))؛ أَحَطَّ الْأُمَمِ، أَحْقَرَ الْأُمَمِ، لَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، لَيْسُوا مَعْدُودِينَ فِي أُمَمِ الْأَرْضِ؛ بَلْ لَيْسُوا مَعْدُودِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ.

الرُّومُ، وَالْفُرْسُ، وَالْأَحْبَاشُ، وَالصَّقَالِبَةُ، وَالْقِبْطُ، وَالْأَرْمَنُ، وَالْبَرْبَرُ، وَأَجْنَاسُ الْأَرْضِ كَانَتْ مَعْدُودَةً فِي الْأَنَاسِيِّ عَدًّا، وَهَؤُلَاءِ لَا ذِكْرَ لَهُمْ هُنَالِكَ وَلَا هُنَا، فَأَتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَصِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ أَعَزَّ النَّاسِ؛ فَمَهْمَا الْتَمَسْتُمُ الْعِزَّ فِي غَيْرِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَذَلَّكُمُ اللهُ.

هِيَ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَهُوَ قَدَرٌ مَحْتُومٌ، مَنِ الْتَمَسَ الْعِزَّ فِي مَوَاطِنِ الذُّلِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذَلَّ، وَمَنِ الْتَمَسَ الطَّهَارَةَ وَالنَّظَافَةَ فِي الْقِمَامَاتِ وَالْمَرَاحِيضِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ طَاهِرًا نَقِيًّا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ نَجِسًا شَقِيًّا.

لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنِ الْأَمْرِ حَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ؛ بَلْ حَيْثُ يَجِبُ أَنْ يُبْحَثَ عَنْهُ، وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ مِنَ الْهَرَجِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؛ فَوْضَى عِلْمِيَّةٌ بِغَيْرِ زِمَامٍ وَلَا خِطَامٍ، وَعَوَامٌّ لَا يَدْرِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَسْتَنْجِي مِنْ رَجِيعِهِ، وَلَا كَيْفَ يَسْتَجْمِرُ مِنْ غَائِطِهِ، وَلَا كَيْفَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، يُفْتِي فِيمَا لَوْ عَرَضَ لِابْنِ الْخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهُ آلَ بَدْرٍ!!

فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ.

أَسْبَابُ النَّصْرِ بِشُرُوطِهِ ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَسْبَابٌ لِلنَّصْرِ سِوَى أَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي جَعَلَهَا لِلنَّصْرِ أَسْبَابًا فَلْيَدُلَّ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَلْيَهْدِ الْبَشَرِيَّةَ إِلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ -وَقَدْ أَصْبَحَ خَرْطُهُ الْيَوْمَ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ-، دُونَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِعَنْقَاءِ مَغْرِبٍ -وَقَدْ أَصْبَحَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ مَيْسُورًا-، هُوَ رَابِعُ الْمُسْتَحِيلَاتِ -عِبَادَ اللهِ-.

اللهم اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، اللهم ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاهْدِ قُلُوبَنَا، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا.

اللهم ثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، اللهم طَهِّرْ أَلْسِنَتَنَا، اللهم ثَقِّلْ مَوَازِينَنَا، اللهم سَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا، اللهم أَصْلِحْ بَالَنَا، وَاشْرَحْ صُدُورَنَا، اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، اسْتُرْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ، اللهم اهْدِ الشَّبَابَ الْحَائِرَ الْمِسْكِينَ.

اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَخُذْ بِنَوَاصِي الْجَمِيعِ إِلَى سَبِيلِكَ الْحَقِّ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ.

اللهم صُنْ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، احْفَظْ دِيَارَنَا وَجَمِيعَ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم احْقِنْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، احْقِنْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَحِّدْ صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَعْلِ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ، أَعْلِ رَايَةَ الْمُسْلِمِينَ، احْفَظْ عَوَاصِمَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم صُنْ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَآمِنْ رَوْعَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

اللهم جَنِّبْ وَطَنَنَا مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللهم هَيِّءْ لِأُمَّةِ نَبِيِّكَ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ، وَيُقْضَى فِيهِ بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ ﷺ.

اللهم احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَبِرُكْنِكَ الَّذِي لَا يُضَامُ، وَبِقُدْرَتِكَ عَلَيْنَا، لَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ رَجَاؤُنَا، لَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ رَجَاؤُنَا، لَا نَهْلِكَ وَأَنْتَ رَجَاؤُنَا.

اللهم أَحْسِنْ خِتَامَنَا، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلَامِنَا مِنَ الدُّنْيَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:شُرُوطُ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان