((عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِ
وَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((وَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ))
((فَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَادَّةُ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ يَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ السَّحَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ، وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَاشَ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبَطَالَةُ؛ فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ -وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ- لَيْسَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ)).
وَ((الْعَبْدُ مِنْ حِينَ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهَا إِلَى رَبِّهِ، وَمُدَّةُ سَفَرِهِ هِيَ عُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ؛ فَالْعُمُرُ هُوَ مُدَّةُ سَفَرِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى رَبِّهِ، ثُمَّ قَدْ جُعِلَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مَرَاحِلَ لِسَفَرِهِ؛ فَكُلُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرْحَلَةٌ مِنَ الْمَرَاحِلِ، فَلَا يَزَالُ يَطْوِيهَا مَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ السَّفَرُ، فَالْكَيِّسُ الْفَطِنُ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ كُلَّ مَرْحَلَةٍ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَيَهْتَمُّ بِقَطْعِهَا سَالِمًا غَانِمًا)).
((عِنَايَةُ الْقُرْآنِ بِالزَّمَنِ))
إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يُدْرِكُ أَنَّهُ أَوْلَى الزَّمَنَ عِنَايَةً بَالِغَةً، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، وَضَرُورَةِ اغْتِنَامِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ؛ حَيْثُ أَقْسَمَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- فِي الْقُرْآنِ بِأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَقَدْ أَقْسَمَ -سُبْحَانَهُ- بِالْفَجْرِ، وَأَفْرَدَ لَهُ سُورَةً سَمَّاهَا بِاسْمِهِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالْفَجْرِ الَّذِي هُوَ آخِرُ اللَّيْلِ وَمُقَدِّمَةُ النَّهَارِ؛ لِمَا فِي إِدْبَارِ اللَّيْلِ وَإِقْبَالِ النَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَتَقَعُ فِي الْفَجْرِ صَلَاةٌ فَاضِلَةٌ مُعَظَّمَةٌ يَحْسُنُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِهَا؛ وَلِهَذَا أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ، وَهِيَ -عَلَى الصَّحِيحِ-: لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ، أَوْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَإِنَّهَا لَيَالٍ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَيَّامٍ فَاضِلَةٍ، وَيَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَا لَا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا.
وَفِي لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَفِي نَهَارِهَا صِيَامُ آخِرِ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ الَّذِي يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِ لِعِبَادِهِ مَغْفِرَةً يَحْزَنُ لَهَا الشَّيْطَانُ، فَمَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ أَحْقَرَ وَلَا أَدْحَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الْأَمْلَاكِ وَالرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُعَظَّمَةٌ مُسْتَحِقَّةٌ لِأَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِهَا)).
وَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1-2].
((هَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ بِالزَّمَانِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ عَلَى تَفَاوُتِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أَيْ: يَعُمُّ الْخَلْقَ بِظَلَامِهِ، فَيَسْكُنُ كُلٌّ إِلَى مَأْوَاهُ وَمَسْكَنِهِ، وَيَسْتَرِيحُ الْعِبَادُ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} لِلْخَلْقِ، فَاسْتَضَاءُوا بِنُورِهِ، وَانْتَشَرُوا فِي مَصَالِحِهِمْ)).
وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالضُّحَى: {وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ} [الضحى: 1-2].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالنَّهَارِ إِذَا انْتَشَرَ ضِيَاؤُهُ بِالضُّحَى، وَبِاللَّيْلِ إِذَا سَجَى وَادْلَهَمَّتْ ظُلْمَتُهُ عَلَى اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ ﷺ )).
وَهَذَا الْقَسَمُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ لَفْتِ النَّظَرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَلِعَظِيمِ دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَلِجَلِيلِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَافِعَ وَآثَارٍ.
بَلْ إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَقْسَمَ بِالزَّمَنِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالْعَصْرِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، مَحَلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ؛ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٌ، وَالْخَاسِرُ ضِدُّ الرَّابِحِ.
وَالْخَسَارُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ:
قَدْ يَكُونُ خَسَارًا مُطْلَقًا؛ كَحَالِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَفَاتَهُ النَّعِيمُ، وَاسْتَحَقَّ الْجَحِيمَ.
وَقَدْ يَكُونُ خَاسِرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا عَمَّمَ اللَّهُ الْخَسَارَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ إِلَّا مَنِ اتَّصَفَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:
الْإِيمَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِدُونِ الْعِلْمِ؛ فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا شَامِلٌ لِأَفْعَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا؛ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.
وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.
فَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُكَمِّلُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُكَمِّلُ غَيْرَهُ، وَبِتَكْمِيلِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ سَلِمَ مِنَ الْخَسَارِ، وَفَازَ بِالرِّبْحِ الْعَظِيمِ)).
وَالْعَصْرُ: هُوَ الزَّمَنُ؛ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَأَضَافَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الدَّهْرِ عَصْرًا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.
فَأَقْسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْحَوَادِثِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ وَذَلِكَ لِلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَقْتِ، وَعَظِيمِ أَثَرِهِ فِي حَيَاةِ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ.
وَقَدْ جَعَلَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- مُرُورَ الزَّمَانِ وَالْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
((يَقُولُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أَيْ: دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُظْلِمًا لِلسُّكُونِ فِيهِ وَالرَّاحَةِ، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أَيْ: مُضِيئَةً؛ {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَعَايِشِكُمْ، وَصَنَائِعِكُمْ، وَتِجَارَاتِكُمْ، وَأَسْفَارِكُمْ.
{وَلِتَعْلَمُوا} بِتَوَالِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِ الْقَمَرِ {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، فَتَبْنُونَ عَلَيْهَا مَا تَشَاءُونَ مِنْ مَصَالِحِكُمْ.
{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} أَيْ: بَيَّنَّا الْآيَاتِ، وَصَرَّفْنَاهُ لِتَتَمَيَّزَ الْأَشْيَاءُ، وَيسْتَبِينَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ})).
فَالْكَوْنُ يَسِيرُ وَفْقَ نِظَامٍ دَقِيقٍ بَدِيعٍ لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَضْطَّرِبُ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38-40].
(({وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أَيْ: دَائِمًا تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، لَا تَتَعَدَّاهُ وَلَا تَقْصُرُ عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهَا تَصَرُّفٌ فِي نَفْسِهَا، وَلَا اسْتِعْصَاءٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الَّذِي بِعِزَّتِهِ دَبَّرَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ بِأَكْمَلِ تَدْبِيرٍ وَأَحْسَنِ نِظَامٍ [الْعَلِيمِ} الَّذِي بِعِلْمِهِ جَعَلَهَا مَصَالِحَ لِعِبَادِهِ وَمَنَافِعَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} يَنْزِلُهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، يَنْزِلُ مِنْهَا وَاحِدَةً حَتَّى يَصْغُرَ جَدًّا فَيَعُودَ {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أَيْ: عُرْجُونِ النَّخْلَةِ الَّذِي مِنْ قِدَمِهِ نَشَّ وَصَغُرَ حَجْمُهُ وَانْحَنَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا زَالَ يَزِيدُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَتِمَّ نُورُهُ وَيَتَّسِقَ ضِيَاؤُهُ.
وَكُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَقْدِيرًا لَا يَتَعَدَّاهُ، وَكُلٌّ لَهُ سُلْطَانٌ وَوَقْتٌ، إِذَا وُجِدَ عُدِمَ الْآخَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أَيْ: فِي سُلْطَانِهِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ الشَّمْسُ فِي اللَّيْلِ، وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ سُلْطَانِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الدَّوَامِ.
فَكُلُّ هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ، وَعَظَمَةِ أَوْصَافِهِ؛ خُصُوصًا وَصْفَ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71-73].
((هَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، يَدْعُوهُمْ بِهِ إِلَى شُكْرِهِ، وَالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَحَقُّهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ النَّهَارَ لِيَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَيَنْتَشِرُوا لِطَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ فِي ضِيَائِهِ، وَاللَّيْلَ لِيَهْدَؤُوا فِيهِ وَيَسْكُنُوا، وَتَسْتَرِيحَ أَبْدَانُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ مِنْ تَعَبِ التَّصَرُّفِ فِي النَّهَارِ، فَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ؛ فَهَلْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟!
فَلَوْ جَعَلَ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ؟!! أَفَلا تَسْمَعُونَ مَوَاعِظَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ وَانْقِيَادٍ؟!!
وَلَوْ جَعَلَ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟!! أَفَلا تُبْصِرُونَ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ وَمَوَاضِعَ الْآيَاتِ، فَتَسْتَنِيرُ بَصَائِرُكُمْ، وَتَسْلُكُونَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ؟!!
وَقَالَ فِي اللَّيْلِ: {أَفَلا تَسْمَعُونَ}، وَفِي النَّهَارِ: {أَفَلا تُبْصِرُونَ}؛ لِأَنَّ سُلْطَانَ السَّمْعِ فِي اللَّيْلِ أَبْلَغُ مِنْ سُلْطَانِ الْبَصَرِ، وَعَكْسُهُ النَّهَارُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَسْتَبْصِرَ فِيهَا، وَيَقِيسَهَا بِحَالِ عَدَمِهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا وَازَنَ بَيْنَ حَالَةِ وُجُودِهَا وَبَيْنَ حَالَةِ عَدَمِهَا تَنَبَّهَ عَقْلُهُ لِمَوْضِعِ الْمِنَّةِ، بِخِلَافِ مَنْ جَرَى مَعَ الْعَوَائِدِ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَزَلْ مُسْتَمِرًّا وَلَا يَزَالُ، وَعَمِيَ قَلْبُهُ عَنِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِنِعَمِهِ، وَرُؤْيَةِ افْتِقَارِهِ إِلَيْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُحْدِثُ لَهُ فِكْرُهُ شكرًا وَلَا ذِكْرًا)).
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13].
((هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ إِيلَاجُهُ -تَعَالَى- اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ وَالنَّهَارَ بِاللَّيْلِ، يُدْخِلُ هَذَا عَلَى هَذَا، وَهَذَا عَلَى هَذَا، كُلَّمَا أَتَى أَحَدُهُمَا ذَهَبَ الْآخَرُ، وَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا وَيَنْقُصُ الْآخَرُ، وَيَتَسَاوَيَانِ، فَيَقُومُ بِذَلِكَ مَا يَقُومُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَحَيَوَانَاتِهِمْ، وَأَشْجَارِهِمْ، وَزُرُوعِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَصَالِحِ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَانْتِشَارِ الْعِبَادِ فِي طَلَبِ فَضْلِهِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ تَنْضِيجِ الثِّمَارِ، وَتَجْفِيفِ مَا يُجَفَّفُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَوْ فُقِدَتْ لَلَحِقَ النَّاسَ الضَّرَرُ.
وَقَوْلُهُ: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَسِيرَانِ فِي فَلَكِهِمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَا، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَقَرُبَ انْقِضَاءُ الدُّنْيَا انْقَطَعَ سَيْرُهُمَا، وَتَعَطَّلَ سُلْطَانُهُمَا، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ.
فَلَمَّا بَيَّنَ -تَعَالَى- مَا بَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ قَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أَيِ: الَّذِي انْفَرَدَ بِخَلْقِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَتَسْخِيرِهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {لَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا؛ حَتَّى وَلَا الْقِطْمِيرَ الَّذِي هُوَ أَحْقَرُ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا مِنْ تَنْصِيصِ النَّفْيِ وَعُمُومِهِ؛ فَكَيْفَ يُدْعَوْنَ وَهُمْ غَيْرُ مَالِكِينَ لِشَيْءٍ مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟!!)).
((مِنْ دَلَائِلِ أَهَمِّيَّةِ الزَّمَنِ: رَبْطُ الْعِبَادَاتِ بِأَوْقَاتٍ مُحَدَّدَةٍ))
عِبَادَ اللهِ! يَعْظُمُ قَدْرُ الزَّمَنِ وَتَشْتَدُّ أَهَمِّيَّةُ اغْتِنَامِهِ بِمَا أَكَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مِنْ رَبْطِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَوْقَاتِهَا الْمُحَدَّدَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103].
(({إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ: مَفْرُوضًا فِي وَقْتِهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَأَنَّ لَهَا وَقْتًا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي قَدْ تَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ؛ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ، وَأَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))، وَدَلَّ قَوْلُهُ: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِيزَانُ الْإِيمَانِ، وَعَلَى حَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ تَكُونُ صَلَاتُهُ وَتَتِمُّ وَتَكْمُلُ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ –كَالصَّلَاةِ-، وَلَا يُؤْمَرُونَ بِهَا؛ بَلْ وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ مَا دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ فِي الْآخِرَةِ)).
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
((يَأْمُرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ تَامَّةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي أَوْقَاتِهَا، {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أَيْ: مَيَلَانِهَا إِلَى الْأُفُقِ الْغَرْبِيِّ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أَيْ: ظُلْمَتِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أَيْ: صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَسُمِّيَتْ قُرْآنًا؛ لِمَشْرُوعِيَّةِ إِطَالَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا أَطْوَلَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِفَضْلِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا؛ حَيْثُ يَشْهَدُهَا اللَّهُ، وَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمُوقَعَةَ فِيهِ فَرَائِضُ؛ لِتَخْصِيصِهَا بِالْأَمْرِ.
وَفِيهَا: أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا لِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يُجْمَعَانِ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ كَذَلِكَ لِلْعُذْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ وَقْتَهُمَا جَمِيعًا.
وَفِيهِ: فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَفَضِيلَةُ إِطَالَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا رُكْنٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا سُمِّيَتْ بِبَعْضِ أَجْزَائِهَا دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّةِ ذَلِكَ)).
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ الصِّيَامِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وَقْتُ صِيَامِكُمْ: شَهْرُ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ: نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا خِلَالَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْوَقَائِعِ.
وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْقُرْآنِ: أَنَّهُ هُدًى لِلنَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَطَرِيقِ نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَهَذَا الْهُدَى جَاءَ فِي آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ كَاشِفَاتٍ وَجْهَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ، وَهَذَا الْهُدَى فَارِقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَقَعَ فِي الِالْتِبَاسِ، وَتَدَاخَلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَقَارِبَاتُ.
فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مُقِيمًا فَأَدْرَكَهُ الشَّهْرُ بِظُهُورِ هِلَالِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ؛ فَلْيَصُمْ فِي أَيَّامِهِ.
وَيَقُولُ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ الزَّكَاةِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
((أَعْطُوا حَقَّ الزَّرْعِ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ذَاتُ الْأَنْصِبَاءِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الشَّرْعِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يُعْطُوهَا يَوْمَ حَصَادِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَصَادَ الزَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ نُفُوسُ الْفُقَرَاءِ، وَيَسْهُلُ -حِينَئِذٍ- إِخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ الزَّرْعِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِيهَا ظَاهِرًا لِمَنْ أَخْرَجَهَا؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُخْرِجُ مِمَّنْ لَا يُخْرِجُ)).
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ الْحَجِّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ الْحَجَّ وَاقِعٌ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، مَشْهُورَاتٍ بِحَيْثُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصٍ، كَمَا احْتَاجَ الصِّيَامُ إِلَى تَعْيِينِ شَهْرِهِ، وَكَمَا بَيَّنَ -تَعَالَى- أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ كَانَ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي لَمْ تَزَلْ مُسْتَمِرَّةً فِي ذُرِّيَّتِهِ مَعْرُوفَةً بَيْنَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: شَوَّالُ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَهِيَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ غَالِبًا)).
((الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ فِي الْقُرْآنِ))
لَقَدْ أَرْشَدَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [يونس: 102].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُحَذِّرًا مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ حُلُولِ عَاجِلِ نِقَمِهِ بِسَاحَتِهِمْ؛ نَحْوَ الَّذِي حَلَّ بِنُظَرَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ، السَّالِكَةِ فِي تَكْذِيبِ رُسُلِ اللهِ، وَجُحُودِ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ سَبِيلَهُمْ؛ فَهَلْ يَنْتَظِرُ -يَا مُحَمَّدُ- هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكَ، الْمُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلَّا يَوْمًا يُعَايِنُونَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ مِثْلَ أَيَّامِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيب،ِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ فَخَلَوْا؛ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ؟!!
قُلْ لَهُمْ -يَا مُحَمَّدُ-: إِنْ كَانُوا ذَلِكَ يَنْتَظِرُونَ فَانْتَظِرُوا عِقَابَ اللهِ إِيَّاكُمْ، وَنُزُولَ سَخَطِهِ بِكُمْ؛ إِنِّي مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ هَلَاكَكُمْ وَبَوَارَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي تَحُلُّ بِكُمْ مِنَ اللهِ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
((إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ يُعْطِي اللهُ مِنْهَا الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَيُدَاوِلُ اللهُ الْأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ، يَوْمٌ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَيَوْمٌ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَانِيَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا)).
((نُدِيلُ عَلَيْكُمُ الْأَعْدَاءَ تَارَةً وَإِنْ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَكُمْ؛ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ)).
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
((وَعِظْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ نِعَمِي عَلَيْهِمْ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَتْ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللهِ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} قَالَ: أَيَّامُهُ الَّتِي انْتَقَمَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ مَعَاصِيهِ مِنَ الْأُمَمِ، خَوِّفْهُمْ بِهَا، وَحَذِّرْهُمْ إِيَّاهَا، وَذَكِّرْهُمْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)).
((تَذْكِيرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِأَيَّامِ الْآخِرَةِ))
عِبَادَ اللهِ! كَمَا تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ أَيَّامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ الْآخِرَةِ؛ لِنَعْمَلَ لَهَا أَحْسَنَ الْعَمَلِ، وَنَسْتَعِدَّ لَهَا حَقَّ الِاسْتِعْدَادِ؛ فَإِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ- الْمَصِيرُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ؛ حَيْثُ يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
((يَحُثُّ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّفَقَاتِ فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْخَيْرِ; لِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ التَّعْمِيمَ، وَيُذَكِّرُهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَزَقَهُمْ، وَنَوَّعَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، بَلْ أَتَى بِـ (مِنْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّبْعِيضِ، فَهَذَا مِمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِنْفَاقِ.
وَمِمَّا يَدْعُوهُمْ -أَيْضًا-: إِخْبَارُهُمْ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَاتِ مُدَّخَرَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي يَوْمٍ لَا تُفِيدُ فِيهِ الْمُعَاوَضَاتُ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَا التَّبَرُّعَاتُ، وَلَا الشَّفَاعَاتُ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: مَا قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَتَنْقَطِعُ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا إِلَّا الْأَسْبَابَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ؛ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَرَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى طَاعَتِهِ، فَخَرَجُوا عَمَّا خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهُ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَاسْتَعَانُوا بِنِعَمِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَلَمْ يُبْقُوا لِلْعَدْلِ مَوْضِعًا؛ فَلِهَذَا حَصَرَ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ فِيهِمْ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 4-10].
((ذَكَرَ الْمَسَافَةَ الَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهَا تَعْرُجُ فِي يَوْمٍ بِمَا يُسِّرَ لَهَا مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَعَانَهَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّطَافَةِ وَالْخِفَّةِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمَسَافَةَ عَلَى السَّيْرِ الْمُعْتَادِ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنَ ابْتِدَاءِ الْعُرُوجِ إِلَى وُصُولِهَا مَا حَدَّ لَهَا وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى؛ فَهَذَا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ وَالْعَالَمُ الْكَبِيرُ -عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ- جَمِيعُهُ قَدْ تَوَلَّى خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، فَعَلِمَ أَحْوَالَهُمُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَعَلِمَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ، وَأَوْصَلَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ مَا عَمَّهُمْ وَشَمِلَهُمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ الْقَدَرِيَّ، وَحُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ، وَحُكْمَهُ الْجَزَائِيَّ.
فَبُؤْسًا لِأَقْوَامٍ جَهِلُوا عَظَمَتَهُ، وَلَمْ يَقْدُرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، فَاسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ عَلَى وَجْهِ التَّعْجِيزِ وَالِامْتِحَانِ، وَسُبْحَانَ الْحَلِيمِ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ وَمَا أَهْمَلَهُمْ، وَآذَوْهُ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ، وَعَافَاهُمْ، وَرَزَقَهُمْ.
هَذَا أَحَدُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَيَكُونُ هَذَا الْعُرُوجُ وَالصُّعُودُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُظْهِرُ لِعِبَادِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ مَا هُوَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ عُرُوجِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَرْوَاحِ صَاعِدَةً وَنَازِلَةً بِالتَّدَابِيرِ الْإِلَهِيَّةِ وَالشُّؤُونِ الرَّبَّانِيَّةِ.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ طُولِهِ وَشِدَّتِهِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُخَفِّفُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ.
وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} أَيِ: اصْبِرْ عَلَى دَعْوَتِكَ لِقَوْمِكَ صَبْرًا جَمِيلًا لَا تَضَجُّرَ فِيهِ وَلَا مَلَلَ، بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَادْعُ عِبَادَهُ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَلَا يَمْنَعُكَ عَنْهُمْ مَا تَرَى مِنْ عَدَمِ انْقِيَادِهِمْ، وَعَدَمِ رَغْبَتِهِمْ؛ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا.
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا}: الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ عَذَابُ السَّائِلِينَ بِالْعَذَابِ، أَيْ: إِنَّ حَالَهُمْ حَالُ الْمُنْكِرِ لَهُ، أَوِ الَّذِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَالسَّكْرَةُ حَتَّى تَبَاعَدَ جَمِيعُ مَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَاللَّهُ يَرَاهُ قَرِيبًا؛ لِأَنَّهُ رَفِيقٌ حَلِيمٌ لَا يَعْجَلُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَهْوَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ، فَقَالَ: {يَوْمَ} أَيِ: الْقِيَامَةِ، تَقَعُ فِيهِ هَذِهِ الْأُمُورُ الْعَظِيمَةُ فَـ {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}: وَهُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ مِنْ تَشَقُّقِهَا، وَبُلُوغُ الْهَوْلِ مِنْهَا كُلَّ مَبْلَغٍ.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}: وَهُوَ الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ، ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَ ذَاكَ هَبَاءً مَنْثُورًا فَتَضْمَحِلُّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الِانْزِعَاجُ وَالْقَلَقُ لِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الْكَبِيرَةِ الشَّدِيدَةِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِالْعَبْدِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدْ أَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ؟!!
أَلَيْسَ حَقِيقًا أَنْ يَنْخَلِعَ قَلْبُهُ وَيَنْزَعِجَ لُبُّهُ، وَيَذْهَلَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ؟!! وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ: يُشَاهِدُ الْحَمِيمُ -وَهُوَ الْقَرِيبُ- حَمِيمَهُ، فَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مُتَّسَعٌ لِسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ، وَلَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِشْرَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَلَا يَهُمُّهُ إِلَّا نَفْسُهُ)).
وَيَقُولُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
(({وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} مِنْ طُولِهِ، وَشِدَّتِهِ، وَهَوْلِهِ؛ فَسَوَاءٌ أَصَابَهُمْ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَهُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ وَلَوِ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ؛ فَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْمُدَّةُ وَإِنْ تَطَاوَلْتُمُوهَا، وَاسْتَبْطَأْتُمْ فِيهَا نُزُولَ الْعَذَابِ فَإِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الْمُدَدَ الطَّوِيلَةَ، وَلَا يُهْمِلُ؛ حَتَّى إِذَا أَخَذَ الظَّالِمِينَ بِعَذَابِهِ لَمْ يُفْلِتْهُمْ)).
وَيَقُولُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9-10]. ((ذَكَرَ وَصْفَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْعَذَابُ فَقَالَ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} أَيْ: تَدُورُ السَّمَاءُ وَتَضْطَرِبُ، وَتَدُومُ حَرَكَتُهَا بِانْزِعَاجٍ وَعَدَمِ سُكُونٍ.
{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أَيْ: تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَتَسِيرُ كَسَيْرِ السَّحَابِ، وَتَتَلَوَّنُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَتُبَثُّ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْهَبَاءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِعِظَمِ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفَظَاعَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُزْعِجَةِ، وَالزَّلَازِلِ الْمُقْلِقَةِ الَّتِي أَزْعَجَتْ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْعَظِيمَةَ؛ فَكَيْفَ بِالْآدَمِيِّ الضَّعِيفِ؟!)).
وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- مِنْ عَظَمَتِهِ وَسَعَةِ أَوْصَافِهِ مَا يُوجِبُ لِلْعِبَادِ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ؛ ذَكَرَ لَهُمْ دَاعِيًا آخَرَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَأَعْمَالُهُمْ -حِينَئِذٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ- مُحْضَرَةٌ؛ فَحِينَئِذٍ يَغْتَبِطُ أَهْلُ الْخَيْرِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَتَحَسَّرُ أَهْلُ الشَّرِّ إِذَا وَجَدُوا مَا عَمِلُوهُ مُحْضَرًا، وَيَوَدُّونَ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.
فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ سَاعٍ إِلَى رَبِّهِ، وَكَادِحٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاقِيَ رَبَّهُ، وَيُلَاقِيَ سَعْيَهُ؛ أَوْجَبَ لَهُ أَخْذَ الْحَذَرِ، وَالتَّوَقِّيَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْفَضِيحَةَ وَالْعُقُوبَةَ، وَالِاسْتِعْدَادَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالْمَثُوبَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَذَلِكَ بِمَا يُبْدِي لَكُمْ مِنْ أَوْصَافِ عَظَمَتِهِ، وَكَمَالِ عَدْلِهِ، وَشِدَّةِ نَكَالِهِ، وَمَعَ شِدَّةِ عِقَابِهِ فَإِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ: أَنَّهُ خَوَّفَ الْعِبَادَ وَزَجَرَهُمْ عَنِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى -لَمَّا ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ-: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}؛ فَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ سَهَّلَتْ لَهُمُ الطُّرُقَ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا الْخَيْرَاتِ، وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ حَذَّرَتْهُمْ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْمَكْرُوهَاتِ.
فَنَسْأَلُهُ -تَعَالَى- أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْنَا إِحْسَانَهُ بِسُلُوكِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلَى الْجَحِيمِ)).
((ضَرُورَةُ حِفْظِ الْعُمُرِ وَخَطَرُ إِضَاعَتِهِ))
((إِنَّ الْعُمُرَ بِضَاعَةٌ لِلآدَمِيِّ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْعُمُرَ بِضَاعَةٌ يَسِيرَةٌ يُسَافِرُ بِهَا إِلَى الْبَقَاءِ الدَّائِمِ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُضَيِّعْهُ، فَأَمَّا مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَضَعُفَ إِيمَانُهُ بِالْجَزَاءِ، وَخَسَّتْ هِمَّتُهُ؛ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ الرَّاحَةَ بِالْبَطَالَةِ.
وَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَعَزَّ الأَشْيَاءِ شَيْئَانِ: قَلْبُهُ وَوَقْتُهُ، فَإِذَا أَهْمَلَ وَقْتَهُ وَضَيَّعَ قَلْبَهُ ذَهَبَتْ مِنْهُ الْفَوَائِدُ.
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا جَلَسَ قومٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَلَى غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَالْعَجَبُ لِهَذَا يُضَيِّعُ زَمَانَهُ فِي غَيْرِ الْغَرْسِ، وَلَوْ أَنَّهُ ذَاقَ طَعْمَ النَّخِيلِ لَاسْتَكْثَرَ مِنْ غَرْسِ النَّخْلِ.
إِنَّ مَثَلَ عَمَلِ الْخَيْرِ فِي الْعُمُرِ كَمَثَلِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: كُلَّمَا زَرَعْتَ حَبَّةً أَخْرَجَتْ لَكَ أَلْفَ أَلْفِ كُرٍّ، فَتُرَاهُ يَفْتُرُ مَعَ سَمَاعِ هَذَا الرِّبْحِ؟!
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمُرَ الإِنْسَانِ يُبْسَطُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِنِينَ، ثُمَّ يُبْسَطُ شُهُورًا، ثُمَّ أَسَابِيعَ، ثُمَّ أَيَّامًا، فَإِذَا رَآهَا فَارِغَةً مِنْ خَيْرٍ تَحَسَّرَ وَنَدِمَ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَمْلُوءَةً بِشَرٍّ؟!!
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((يُعْرَضُ عَلَى ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَاتُ عُمُرِهِ، فَكُلُّ سَاعَةٍ لَمْ يُحْدِثْ فِيهَا خَيْرًا تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ)).
وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ الإِنْسَانَ يَتَنَفَّسُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَفَسٍ، اثْنَا عَشَرَ تَدْخُلُ، وَاثْنَا عَشَرَ تَخْرُجُ، وَكُلُّ نَفَسٍ كَخَزَانَةٍ؛ فَانْظُرْ مَاذَا تَجْعَلُ فِيهَا)).
وَلْيَتَفَكَّرِ الإِنْسَانُ فِي صَائِمٍ جَلَسَ وَقْتَ الْعِشَاءِ لِيُفْطِرَ مَعَ مَنْ كَانَ مُفْطِرًا، وَكِلاهُمَا يَشْبَعُ -حِينَئِذٍ-، وَقَدْ ذَهَبَ تَعَبُ الصَّوْمِ وَرَاحَةُ الإِفْطَارِ، وَتَبَايَنَ الْحَالُ فِي الثَّوَابِ.
وَكَذَلِكَ أَخَوَانِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْعِلْمَ مِنْ صِغَرِهِ، وَآثَرَ الآخَرُ الْبَطَالَةَ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ عُلُوِّ السِّنِّ فَقَعَدَا فِي مَكَانٍ، فَلَاحَ عَلَى هَذَا أَثَرُ التَّعَبِ، وَقَدْ حَصَّلَ الْعِلْمَ وَالتَّقْوَى، وَلَيْسَ بِيَدِ ذَاكَ مِنْ آثَارِ الرَّاحَةِ شَيْءٌ؛ بَلْ إِنْ تَفَكَّرَ تَحَسَّرَ؛ فَأُفٍّ لِعَاقِلٍ يَسْتَعْجِلُ الْبَطَالَةَ، وَيَنْسَى مَا يَجْنِي.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟)).
قَالَ: ((مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ)).
وَقَالَ الآخَرُ: ((أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟)).
قَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-)).
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لا تَزُولُ قَدَمَا عبدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ كَيْفَ عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ: مِمَّا اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)).
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: ((مَنْ لَعِبَ بِعُمُرِهِ ضَيَّعَ أَيَّامَ حَرْثِهِ، وَمَنْ ضَيَّعَ أَيَّامَ حَرْثِهِ نَدِمَ أَيَّامَ حَصَادِهِ)).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا = نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ
وَبَعْدَ هَذَا: فَالْكَلامُ مَعَ الشَّبَابِ؛ فَإِنَّ زَمَانَ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي تَرْكِ الْهَوَى وَالْبَطَالَةِ.
مَنْ تَفَكَّرَ فِي الْعَوَاقِبِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ غَايَةَ الدَّوَاءِ، وَأَقْرَبُ الأَشْيَاءِ إِلَى السَّلامَةِ مُفَارَقَةُ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمُرَهُ؟!! كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَقُودُهُ عُمُرُهُ إِلَى أَجَلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ؟!!)).
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: قَالَ خُلَيْدٌ: ((كُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَمَا نَرَى لَهُ مُسْتَعِدًّا، وَكُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالْجَنَّةِ وَمَا نَرَى لَهَا عَامِلًا، وَكُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ وَمَا نَرَى لَهَا خَائِفًا؛ فَعَلَامَ تَفْرَحُونَ؟! وَمَا عَسَيْتُمْ تَنْتَظِرُونَ؟! الْمَوْتُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ وَارِدٍ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ؛ فَيَا إِخْوَتَاهُ سِيرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سَيْرًا جَمِيلًا)) )).
((إِنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضِيعَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا؛ اللهم إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَرِّعًا فِي كَسْبِهِ، مُعِينًا لِنَفْسِهِ عَنِ الطَّمَعِ، قَاصِدًا إِعَانَةَ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ؛ فَكَسْبُ هَذَا أَصْلَحُ مِنْ بَطَالَتِهِ.
وَأَوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: ((إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي فَتَفَرَّقُوا؛ لَعَلَّ أَحَدَكُمْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي طَرِيقِهِ، وَمَتَى اجْتَمَعْتُمْ تَحَدَّثْتُمْ)).
وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضِيعَ مِنْهُ لَحْظَةٌ؛ فَإِنَّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ)).
فَكَمْ يُضَيِّعُ الْآدَمِيُّ مِنْ سَاعَاتٍ يَفُوتُهُ فِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ!
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مِثْلُ الْمَزْرَعَةِ..)).
((إِضَاعَةُ الْوَقْتِ أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ إِضَاعَةَ الْوَقْتِ تَقْطَعُكَ عَنِ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ, وَالْمَوْتُ يَقْطَعُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَشْرَةُ أَشْيَاءَ ضَائِعَةٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا: عِلْمٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَعَمَلٌ لَا إِخْلَاصَ فِيهِ وَلَا اقْتِدَاءَ، وَمَالٌ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ جَامِعُهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُقَدِّمُهُ أَمَامَهُ إِلَى الْآخِرَةِ، وَقَلْبٌ فَارِغٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَبَدَنٌ مُعَطَّلٌ مِنْ طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَمَحَبَّةٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِرِضَاءِ الْمَحْبُوبِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَوَقْتٌ مُعَطَّلٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ فَارِطٍ، أَوِ اغْتِنَامِ بِرٍّ وَقُرْبَةٍ، وَفِكْرٌ يَجُولُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ، وَخِدْمَةُ مَنْ لَا تُقَرِّبُكَ خِدْمَتُهُ إِلَى اللهِ، وَلَا تَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ دُنْيَاكَ، وَخَوْفُكَ وَرَجَاؤُكَ لِمَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ اللهِ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي قَبْضَتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا، وَلَا حَيَاةً، وَلَا نُشُورًا.
وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْإِضَاعَاتِ إِضَاعَتَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ إِضَاعَةٍ؛ إِضَاعَةُ الْقَلْبِ، وَإِضَاعَةُ الْوَقْتِ، فَإِضَاعَةُ الْقَلْبِ مِنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَإِضَاعَةُ الْوَقْتِ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ؛ فَاجْتَمَعَ الْفَسَادُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَطُولِ الْأَمَلِ، وَالصَّلَاحُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِّقَاءِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ)).
((إِنَّ السَّنَةَ شَجَرَةٌ، وَالشُّهُورَ فُرُوعُهَا، وَالْأَيَّامَ أَغْصَانُهَا، وَالسَّاعَاتِ أَوْرَاقُهَا، وَالْأَنْفَاسَ ثَمَرُهَا؛ فَمَنْ كَانَتْ أَنْفَاسُهُ فِي طَاعَةٍ فَثَمَرَةُ شَجَرَتِهِ طَيِّبَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ فِي مَعْصِيَةٍ فَثَمَرَتُهُ حَنْظَل)).
((أَعْمَارُنَا سَفَرٌ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ))
((النَّاسُ مُنْذُ خُلِقُوا لَمْ يَزَالُوا مُسَافِرِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَطٌّ عَنْ رِحَالِهِمْ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ السَّفَرَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ، وَمِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يُطْلَبَ فِي السَّفَرِ نَعِيمٌ وَلَذَّةٌ وَرَاحَةٌ، وَإِنَّمَا ذَاكَ بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّفَرِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَطْأَةِ قَدَمٍ أَوْ كُلَّ آنٍ مِنْ آنَاءِ السَّفَرِ غَيْرُ وَاقِفَةٍ، وَلَا الْمُكَلَّفُ وَاقِفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَلَيْهَا مِنْ تَهْيِئَةِ الزَّادِ الْمُوصِلِ، وَإِذَا نَزَلَ أَوْ نَامَ أَوِ اسْتَرَاحَ فَعَلَى قَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لِلسَّيْرِ)).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)).
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ((إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ -أي: نَزَلَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ- فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)).
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟)).
قَالَ: ((إِنَّ لَنَا بَيْتًا نُوَجِّهُ إِلَيْهِ)).
قَالَ: ((إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مَتَاعٍ مَا دُمْتَ هَاهُنَا)).
قَالَ: ((إِنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ لَا يَدَعُنَا فِيهِ)).
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنُونَ؛ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ)).
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: ((إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكُمْ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْفَنَاءَ، وَكَتَبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا الظَّعْنَ -أَيْ: الِارْتِحَالَ-؛ فَكَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنَّقٍ عَنْ قَلِيلٍ يَخْرَبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبَطٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ؛ فَأَحْسِنُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- مِنْهَا الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النُّقْلَةِ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ دَارَ إِقَامَةٍ وَلَا وَطَنًا؛ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُقِيمٌ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، هَمُّهُ التَّزَوُّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، أَوْ يَكُونَ كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ يَسِيرُ إِلَى بَلَدِ الْإِقَامَةِ؛ فَلِهَذَا وَصَّى النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْزِلَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي الدُّنْيَا يَتَخَيَّلُ الْإِقَامَةَ؛ لَكِنْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ، بَلْ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي التَّزَوُّدِ بِمَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى وَطَنِهِ، فَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ فِي عِزِّهِمْ، وَلَا يَجْزَعُ مِنَ الذُّلِّ عِنْدَهُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: ((الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ؛ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا، لَهُ شَأْنٌ، وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ)).
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْزِلَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي قَطْعِ مَنَازِلِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ السَّفَرُ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ الْمَوْتُ.
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا فَهِمَّتُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ لِلسَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا؛ وَلِهَذَا أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ.
قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟)).
قَالَ: ((مَا ظَنُّكَ بِرَجُلٍ يَرْتَحِلُ كُلَّ يَوْمِ مَرْحَلَةً إِلَى الْآخِرَةِ؟!)).
وَأَمَّا وَصِيَّةُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِنِهَايَةِ قِصَرِ الْأَمَلِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمْسَى لَمْ يَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحَ لَمْ يَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ أَجْلَهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((مَا نِمْتُ نَوْمًا قَطُّ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنِّي أَسْتَيْقِظُ مِنْهُ)).
وَكَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يُوصِي كُلَّ يَوْمٍ بِمَا يُوصِي بِهِ الْمُحْتَضَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَغْسِيلِهِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَبْكِي كُلَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى، فَسُئِلَتِ امْرَأَتُهُ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَتْ: ((يَخَافُ -وَاللَّهِ- إِذَا أَمْسَى أَنْ يُصْبِحَ، وَإِذَا أَصْبَحَ أَنْ يُمْسِيَ)).
وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: ((إِنِ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَبِيتَ إِلَّا وَعَهْدُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبٌ فَلْيَفْعَلْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا وَيُصْبِحَ فِي أَهْلِ الْآخِرَةِ)).
وَأَقَامَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ الصَّلَاةَ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: ((تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِنَا)).
فَقَالَ الرَّجُلُ: ((إِنِّي إِنْ صَلَّيْتُ بِكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ أُصَلِّ بِكُمْ غَيْرَهَا)).
فَقَالَ مَعْرُوفٌ: ((وَأَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ أَنَّكَ تُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى؟! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلِ)) )).
((الْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعُمُرِ))
((يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ شَرَفَ زَمَانِهِ وَقَدْرَ وَقْتِهِ، فَلَا يُضَيِّعُ مِنْهُ لَحْظَةً فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ، وَيُقَدِّمُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
وَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ فِي الْخَيْرِ قَائِمَةً مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ بِمَا لَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَدَنُ مِنَ الْعَمَلِ.
فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ بِأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُهُ عَنِ الْعَمَلِ؛ عَمِلَ فِي حَيَاتِهِ مَا يَدُومُ لَهُ أَجْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَقَفَ وَقْفًا، وَغَرَسَ غَرْسًا، وَأَجْرَى نَهْرًا، وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ ذُرِّيَّةٍ تَذْكُرُ اللهَ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ، أَوْ أَنْ يُصَنِّفَ كِتَابًا مِنَ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ تَصْنِيفَ الْعَالِمِ وَلَدُهُ الْمُخَلَّدُ.
وَأَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِالْخَيْرِ، عَالِمًا فِيهِ، فَيُنْقَلُ مِنْ فِعْلِهِ مَا يَقْتَدِي الْغَيْرُ بِهِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي لَمْ يَمُتْ، قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ)).
((فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَلَّا يَقْدِرَ عَلَيْهَا، وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِمَّا بِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ، أَوْ بِأَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ.
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ اغْتِنَامُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ((كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ غَنِيمَةٌ)).
وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! اغْتَنِمْنِي؛ لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلَا لَيْلَةٍ إِلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ! اغْتَنِمْنِي؛ لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي)).
فَـ((اعْلَمْ أَنَّ الْأَيَّامَ تُبْسَطُ سَاعَاتٍ، وَالسَّاعَاتِ تُبْسَطُ أَنْفَاسًا، وَكُلُّ نَفَسٍ خِزَانَةٌ؛ فَاحْذَرْ أَنْ يَذْهَبَ نَفَسٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ فَتَرَى فِي الْقِيَامَةِ خِزَانَةً فَارِغَةً فَتَنْدَمَ، وَانْظُرْ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِكَ بِمَاذَا تَذْهَبُ، فَلَا تُودِعْهَا إِلَّا إِلَى أَشْرَفِ مَا يُمْكِنُ، وَلَا تُهْمِلْ نَفْسَكَ، وَعَوِّدْهَا أَشْرَفَ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَمَلِ وَأَحْسَنَهُ، وَابْعَثْ إِلَى صُنْدُوقِ الْقَبْرِ مَا يَسُرُّكَ يَوْمَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ)).
((اعْرِفُوا قِيمَةَ الزَّمَنِ وَاعْتَبِرُوا بِمُرُورِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ!))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْوَعْيِ بِقِيمَةِ الزَّمَنِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمُرُورِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ، وَالْعَمَلِ لِدِينِنَا وَدُنْيَانَا، لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِينَا وَأَوْطَانِنَا؛ فَفِي ذَلِكَ تَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ، وَدَافِعٌ إِلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَاغْتِنَامِ الْأَعْمَارِ فِيمَا يَنْفَعُ النَّفْسَ وَالْبِلَادَ وَالْعِبَادَ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
{خِلْفَةً} أَيْ: يَخْلُفُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِأَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ.
(({وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أَيْ: يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا فَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ، هَكَذَا -أَبَدًا- لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أَيْ: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِمَا وَيَعْتَبِرَ، وَيَسْتَدِلَّ بِهِمَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ وَيَشْكُرَهُ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوِ النَّهَارِ، فَمَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَدْرَكَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ وَتَنْتَقِلُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَحْدُثُ لَهَا النَّشَاطُ وَالْكَسَلُ، وَالذِّكْرُ وَالْغَفْلَةُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَالْإِقْبَالُ وَالْإِعْرَاضُ، فَجَعَلَ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَوَالَا عَلَى الْعِبَادِ وَيَتَكَرَّرَانِ؛ لِيَحْدُثَ لَهُمُ الذِّكْرُ وَالنَّشَاطُ وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَاتِ تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكُلَّمَا تَكَرَّرَتِ الْأَوْقَاتُ أَحْدَثَ لِلْعَبْدِ هِمَّةً غَيْرَ هِمَّتِهِ الَّتِي كَسَلَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ، فَزَادَ فِي تَذَكُّرِهَا وَشُكْرِهَا؛ فَوَظَائِفُ الطَّاعَاتِ بِمَنْزِلَةِ سَقْيِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَمُدُّهُ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَذَوَى غَرْسُ الْإِيمَانِ وَيَبَسَ؛ فَلِلَّهِ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ عَلَى ذَلِكَ)).
وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ))، عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي آتَاهُ اللهُ؛ مَاذَا صَنَعَ فِيهِ؟!!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّمَا ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهَا بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، مَعَ أَنَّ الْعُمُرَ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَإِذَا بَدَّدَهُ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَابِحًا بِحَالٍ.
نَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُعَرِّفَنَا شَرَفَ أَوْقَاتِ الْعُمُرِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِاغْتِنَامِهِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:
عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِوَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ