((الْمُوَاسَاةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْإِسْلَامُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ))
فَإِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: أَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ.
وَالْمُوَاسَاةُ فِي الْأَصْلِ تُطْلَقُ عَلَى: «الْمُدَاوَاةِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْعِلَاجِ»؛ فَكَأَنَّ الْمُوَاسِي يُعَالِجُ الْمُوَاسَى وَيُدَاوِيهِ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ.
((الْمُوَاسَاةُ: مُعَاوَنَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَالْمُسْتَحِقِّينَ، وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَقْوَاتِ)).
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ مِثَالًا عَظِيمًا فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالتَّعَاوُنِ، فَيَقُولُونَ:
«فِي الْجَرِيرَةِ تَشْتَرِكُ الْعَشِيرَةُ)).
((إِنَّ الْمُوَاسَاةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ، أَوِ الْخِدْمَةِ وَالنَّصِيحَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مِنَ الْمُوَاسَاةِ: مُشَارَكَةُ الْمُسْلِمِ فِي مَشَاعِرِهِ؛ خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ حُزْنِهِ، وَعِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِمَا يُعَكِّرُ صَفْوَهُ، فَإِنَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَيْهِ وَتَطْيِيبَ خَاطِرِهِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، أَوِ الْمُسَاعَدَةِ الْمُمْكِنَةِ بِالْمَالِ أَوِ الْجَاهِ، أَوِ الْمُشَارَكَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُوَاسَاةِ وَأَجَلِّ أَنْوَاعِهَا.
وَقَدْ كَانَ ﷺ يُوَاسِي بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ ((مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا مِنْ عَثْرَتِهِ أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ))، وَأَنَّ ((اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَزَالُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ)).
إِنَّ حَاجَةَ الْمُسْلِمِ تَتَنَوَّعُ وَتَخْتَلِفُ مِنْ مَوْقِفٍ إِلَى آخَرَ، فَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إِلَى الْمَالِ، وَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إِلَى عَمَلٍ أَوْ وَظِيفَةٍ، وَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إِلَى كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إِلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إِلَى مُشَارَكَةِ النَّاسِ لَهُ فِي أَتْرَاحِهِ أَوْ أَفْرَاحِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ تَكُونُ حَاجَتُهُ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ عَنْهُ، أَوْ إِرْجَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي إِطَارِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُوَاسَاةِ؛ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ)).
لَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ جَسَدًا وَاحِدًا، قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ والْحُمَّى)).
إِذَنْ؛ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.
فَالْمُؤْمِنُونَ يَتَعَاضَدُونَ، يَتَنَاصَرُونَ، يَتَحَابُّونَ، يَتَوَادُّونَ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
فَالْجَسَدُ الْوَاحِدُ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ وَلَوْ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ، فَإِذَا أَوْجَعَكَ أُصْبُعُكَ الْخِنْصَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْغَرِ الْأَعْضَاءِ؛ فَإِنَّ الْجَسَدَ كُلَّهُ يَتَأَلَّمُُ، إِذَا أَوْجَعَتْكَ الْأُذُنُ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا أَوْجَعَتْكَ الْعَيْنُ تَأَلَّمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
فَهَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلٌ مُصَوِّرٌ لِلْمَعْنَى، وَمُقَرِّبٌ لَهُ غَايَةَ التَّقْرِيبِ.
((مَعَانِي الْمُوَاسَاةِ))
((الْمُوَاسَاةُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: وَاسَيْتُهُ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي آسَيْتُهُ، يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((الْهَمْزَةُ وَالسِّينُ وَالْوَاوُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُدَاوَاةِ وَالْإِصْلَاحِ.
يُقَالُ: أَسَوْتُ الْجُرْحَ: إِذَا دَاوَيْتُهُ؛ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الطَّبِيبُ: الْآسِي.
قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
هُمُ الْآسُونَ أُمَّ الرَّأْسِ لَمَّا = تَوَاكَلَهَا الْأَطِبَّةُ وَالْإِسَاءُ
وَيُقَالُ: أَسَوْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ: إِذَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: لِي فِي فُلَانٍ أُسْوَةٌ، أَيْ: قُدْوَةٌ، أَيْ: أَنِّي أَقْتَدِي بِهِ.
وَأَسَّيْتُ فُلَانًا: إِذَا عَزَّيْتُهُ مِنْ هَذَا، أَيْ: قُلْتُ لَهُ: لِيَكُنْ لَكَ بِفُلَانٍ أُسْوَةٌ؛ فَقَدْ أُصِيبَ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتَ بِهِ فَرَضِيَ وَسَلَّمَ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: آسَيْتُهُ بِنَفْسِي)) وَ(وَاسَيْتُهُ).
وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((الْأَسْوُ: إِصْلَاحُ الْجُرْحِ، وَأَصْلُهُ: إِزَالَةُ الْأَسَى، وَالْآسِي: طَبِيبُ الْجُرْحِ، جَمْعُهُ: إِسَاءُ وَأُسَاةٌ، وَالْمَجْرُوحُ مَأْسِيٌّ وَأَسِيٌّ مَعًا.
وَيُقَالُ: آسَيْتُهُ: أَصْلَحْتُهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ: آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ آخَرُ: فَآسَى وَآذَاهُ فَكَانَ كَمَنْ جَنَى.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((فِي مَادَّةِ (و س ى): وَوَاسَاهُ: لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي آسَاهُ، تُبْنَى عَلَى يُوَاسِي، وَقَدِ اسْتَوْسَيْتُهُ، أَيْ: قُلْتُ لَهُ: وَاسِنِي، وَقَالَ فِي مَادَّةِ (أَسَا) يُقَالُ: آسَيْتُهُ بِمَالِي مُوَاسَاةً، أَيْ: جَعَلْتُهُ أُسْوَتِي فِيهِ، وَالْإِسْوَةُ وَالْأُسْوَةُ -بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ-: هِيَ مَا يَأْتَسِي بِهِ الْحَزِينُ وَيَتَعَزَّى بِهِ، وَالْجَمْعُ: إِسًى وَأَسًى، ثُمَّ سُمِّيَ الصَّبْرُ أَسًى، وَتَآسُوا أَيْ: آسَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَالْأَسَى: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلَاجُ، وَهُوَ الْحُزْنُ -أَيْضًا-، وَالْإِسَاءُ: الدَّوَاءُ بِعَيْنِهِ، وَالْإِسَاءُ –أَيْضًا-: الْأَطِبَّةُ، جَمْعُ الْآسِي)).
وَفِي ((لِسَانِ الْعَرَبِ)): ((الْأَسَا: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلَاجُ، وَهُوَ الْحُزْنُ -أَيْضًا-، وَأَسَا الْجُرْحَ أَسْوًا وَأَسًا: دَاوَاهُ، وَالْأُسُوُّ عَلَى فَعُولٍ: دَوَاءٌ تَأْسُو بِهِ الْجُرْحَ، وَيُقَالُ: أَسَا بَيْنَهُمْ أَسْوًا: أَصْلَحَ، وَتَآسَوْا أَيْ: آسَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإنَّ الْأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ = تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيا
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: ((وَهَذَا الْبَيْتُ تَمَثَّلَ بِهِ مُصْعَبُ (بْنُ الزُّبَيْرِ) يَوْمَ قُتِلَ، وَتَآسَوْا فِيهِ: مِنَ الْمُؤَاسَاةِ، لَا مِنَ التَّأَسِّي، وَالْمُوَاسَاةُ: الْمُسَاوَاةُ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ، وَأَصْلُهَا الْهَمْزَةُ، فَقُلِبَتْ وَاوًا تَخْفِيفًا، وَفِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ:
((إِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَاسُونَا لِلصُّلْحِ))، جَاءَ بِهِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَعَلَى الْأَصْلِ جَاءَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: ((مَا أَحَدٌ عِنْدِي أَعْظَمَ يَدًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ؛ وَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ))، وَيُقَالُ: آسَاهُ بِمَالِهِ: أَنَالَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِيهِ أُسْوَةً، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ كَفَافٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَضْلَةٍ فَلَيْسَ بِمُؤَاسَاةٍ.
وَاصْطِلَاحًا:
قَالَ ابْنُ مِسْكُويَه: ((الْمُوَاسَاةُ: مُعَاوَنَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَالْمُسْتَحِقِّينَ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَقْوَاتِ)).
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُوَاسَاةُ: أَنْ يَجْعَلَ صَاحِبُ الْمَالِ يَدَهُ وَيَدَ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ سَوَاءً)).
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: ((الْمُوَاسَاةُ: الْمُشَارَكَةُ وَالْمُسَاهَمَةُ فِي الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ)))).
((أَنْوَاعُ الْمُوَاسَاةِ))
إِنَّ صُوَرَ الْمُوَاسَاةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ، وَالْمُوَاسَاةُ بِالنَّصِيحَةِ، وَالْمُوَاسَاةُ بِالْمُشَارَكَةِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَالْمُوَاسَاةُ بِالدُّعَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُوَاسَاةُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْوَاعٌ:
الْأَوَّلُ: مُوَاسَاةٌ بِالْمَالِ.
الثَّانِي: مُوَاسَاةٌ بِالْجَاهِ.
الثَّالِثُ: مُوَاسَاةٌ بِالْبَدَنِ وَالْخِدْمَةِ.
الرَّابِعُ: مُوَاسَاةٌ بِالنَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ.
الْخَامِسُ: مُوَاسَاةٌ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ.
السَّادِسُ: مُوَاسَاةٌ بِالتَّوَجُّعِ لَهُمْ.
وَعَلَى قَدْرِ الْإِيمَانِ تَكُونُ هَذِهِ الْمُوَاسَاةُ؛ فَكُلَّمَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ ضَعُفَتِ الْمُوَاسَاةُ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَوِيَتْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَعْظَمَ النَّاسِ مُوَاسَاةً لِأَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، فَلِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُوَاسَاةِ بِحَسَبِ اتِّبَاعِهِمْ لَهُ)).
وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مُوَاسَاةَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ خَرَجَ خَائِفًا مِنْ قَوْمِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ مَعَهُ، فَوَاسَاهُ قَائِلًا: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
(({فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} مِنِ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَرَبِهِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ مُسَكِّنًا رَوْعَهُ، جَابِرًا قَلْبَهُ: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ: لِيَذْهَبْ خَوْفُكَ وَرَوْعُكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَجَّاكَ مِنْهُمْ؛ حَيْثُ وَصَلْتَ إِلَى هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ)).
كَمَا ذَكَرَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مُوَاسَاةَ الْمَلَائِكَةِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِنَبِيِّ اللهِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ خَافَ مِنْ قَوْمِهِ، قَائِلِينَ لَهُ: {لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ۖ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: قَالَتِ الرُّسُلُ لِلُوطٍ: لَا تَخَفْ عَلَيْنَا أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا قَوْمُكَ، وَلَا تَحْزَنْ مِمَّا أَخْبَرْنَاكَ مِنْ أَنَّا مُهْلِكُوهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَالَتْ لَهُ: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}، {إِنَّا مُنَجُّوكَ} مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ بِقَوْمِكَ {وَأَهْلَكَ} يَقُولُ: وَمُنَجُّو أَهْلِكَ مَعَكَ {إِلَّا امْرَأَتَكَ}؛ فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ فِيمَنْ يَهْلَكُ مِنْ قَوْمِهَا، كَانَتْ مِنَ الْبَاقِينَ الَّذِينَ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ)).
((الْمُوَاسَاةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
إِنَّ الْمُوَاسَاةَ مِنَ الْقِيَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ النَّبِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يُعِينُ بِهَا الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى أَحْزَانِهِ وَآلَامِهِ، وَالْمُتَأَمِّلُ فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَجِدُ أَنَّهُ قَدْ أَوْلَى قِيمَةَ الْمُوَاسَاةِ عِنَايَةً خَاصَّةً؛ بَلْ إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- تَوَلَّى بِنَفْسِهِ مُوَاسَاةَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ، فَهَذَا سَيِّدُ الْخَلْقِ ﷺ حِينَ آذَاهُ قَوْمُهُ، وَلَاقَى مِنْهُمُ الصُّدُودَ وَالْإِعْرَاضَ؛ وَاسَاهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48-49].
((لَمَّا بَيَّنَ -تَعَالَى- الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى بُطْلَانِ أَقْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ؛ أَمَرَ رَسُولَهُ ﷺ أَلَّا يَعْبَأَ بِهِمْ شَيْئًا، وَأَنْ يَصْبِرَ لِحُكْمِ رَبِّهِ الْقَدَرِيِّ وَالشَّرْعِيِّ بِلُزُومِهِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَوَعَدَهُ اللَّهُ الْكِفَايَةَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا وَحِفْظٍ، وَاعْتِنَاءٍ بِأَمْرِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى الصَّبْرِ بِالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، فَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ.
فَفِيهِ الْأَمْرُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، أَوْ حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} أَيْ: آخِرَ اللَّيْلِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)).
(({وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَلَا تُبَالِهِمْ؛ فَإِنَّكَ بِمَرْأًى مِنَّا وَتَحْتَ كَلَاءَتِنَا، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99].
(({وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} لَكَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَالتَّعْجِيلِ لَهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ، وَلَا يُهْمِلُهُمْ.
فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ! {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أَيْ: أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَتَحْمِيدِهِ، وَالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوَسِّعُ الصَّدْرَ وَيَشْرَحُهُ، وَيُعِينُكَ عَلَى أُمُورِكَ.
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أَيِ: الْمَوْتُ، أَيِ: اسْتَمِرَّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَامْتَثَلَ ﷺ أَمْرَ رَبِّهِ، فَلَمْ يَزَلْ دَائِبًا فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-)).
وَحِينَ تَفَطَّرَ قَلْبُهُ ﷺ حُزْنًا عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ لِنِدَاءِ الْحَقِّ؛ وَاسَاهُ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وَبِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
((لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ الْخَلْقِ، سَاعِيًا فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ السَّعْيِ، فَكَانَ ﷺ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ بِهِدَايَةِ الْمُهْتَدِينَ، وَيَحْزَنُ وَيَأْسَفُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ؛ شَفَقَةً مِنْهُ ﷺ عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَةً بِهِمْ؛ أَرْشَدَهُ اللَّهُ أَلَّا يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالْأَسَفِ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وَقَالَ: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وَهُنَا قَالَ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أَيْ: مُهْلِكُهَا غَمًّا وَأَسَفًا عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَجْرَكَ قَدْ وَجَبَ عَلَى اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَهَدَاهُمْ؛ وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ إِلَّا لِلنَّارِ؛ فَلِذَلِكَ خَذَلَهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَإِشْغَالُكَ نَفْسَكَ غَمًّا وَأَسَفًا عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ لَكَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ وَالسَّعْيُ بِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَسَدُّ طُرُقِ الضَّلَالِ وَالْغِوَايَةِ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنِ اهْتَدَوْا فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا فَلَا يَحْزَنُ وَلَا يَأْسَفُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُضْعِفٌ لِلنَّفْسِ، هَادِمٌ لِلْقُوَى، لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ، بَلْ يَمْضِي عَلَى فِعْلِهِ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} الْآيَةَ؛ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ})).
فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا نَزَلَتْ مُوَاسَاةً وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِ نَبِيِّنَا ﷺ، كَمَا وَاسَاهُ رَبُّهُ -سُبْحَانَهُ- مُوَجِّهًا إِيَّاهُ أَلَّا يُحَمِّلَ نَفْسَهُ فَوْقَ طَاقَتِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
((يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِإِصَابَةِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ؛ فَهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا وُعِدُوا بِهِ: إِمَّا نُرِيَنَّكَ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا فَتَقَرَّ بِذَلِكَ عَيْنُكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ إِصَابَتِهِمْ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ شُغْلًا لَكَ، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} وَالتَّبْيِينُ لِلْخَلْقِ، {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}: فَنُحَاسِبُ الْخَلْقَ عَلَى مَا قَامُوا بِهِ مِمَّا عَلَيْهِمْ وَضَيَّعُوهُ، وَنُثِيبُهُمْ أَوْ نُعَاقِبُهُمْ)).
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].
(({فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أَيْ: ذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ، وَأَنْذِرْهُمْ وَبَشِّرْهُمْ؛ فَإِنَّكَ مَبْعُوثٌ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ وَتَذْكِيرِهِمْ، وَلَمْ تُبْعَثْ عَلَيْهِمْ مُسَيْطِرًا، عَلَيْهِمْ مُسَلَّطًا مُوَكَّلًا بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا قُمْتَ بِمَا عَلَيْكَ فَلَا عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْمٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ})).
فَلَا تُكَلِّفْ نَفْسَكَ تَكْلِيفًا شَاقًّا مُضْنِيًا؛ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ، أَمَّا هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ؛ حَيْثُ يَقُولُ –سُبْحَانَهُ-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ -وَغَيْرُكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى- لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ أَحَدٍ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْخَلْقِ: هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، وَخَلْقُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِلْهِدَايَةِ فَيَهْدِيهِ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا فَيُبْقِيهِ عَلَى ضَلَالِهِ.
وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْهِدَايَةِ لِلرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فَتِلْكَ هِدَايَةُ الْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، فَالرَّسُولُ يُبَيِّنُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي سُلُوكِ الْخَلْقِ لَهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَيُوَفِّقُهُمْ بِالْفِعْلِ؛ فَحَاشَا وَكَلَّا؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا لَهَدَى مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ إِحْسَانُهُ، وَنَصَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَمُّهُ أَبَا طَالِبٍ؛ وَلَكِنَّهُ أَوْصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ بِالدَّعْوَةِ لَهُ لِلدِّينِ وَالنُّصْحِ التَّامِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلَهُ مَعَهُ عَمُّهُ؛ وَلَكِنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللَّهِ)).
كَمَا أَنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَرَى مُوَاسَاةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأُمِّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أُمِرَتْ أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْيَمِّ، فَتَفَطَّرَ قَلْبُهَا خَوْفًا عَلَيْهِ، فَوَاسَاهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَطَمْأَنَ فُؤَادَهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
((وَأَلْهَمْنَا أُمَّ مُوسَى حِينَ وَلَدَتْهُ وَخَشِيَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ فِرْعَوْنُ كَمَا يَذْبَحُ أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ أَرْضِعِيهِ مُطْمَئِنَّةً، فَإِذَا خَشِيتِ أَنْ يُعْرَفَ أَمْرُهُ فَضَعِيهِ فِي صُنْدُوقٍ، وَأَلْقِيهِ فِي النِّيلِ دُونَ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَدُونَ حُزْنٍ عَلَى فِرَاقِهِ، إِنَّا رَادُّو وَلَدَكِ إِلَيْكِ وَبَاعِثُوهُ رَسُولًا، فَوَضَعَتْهُ فِي صُنْدُوقٍ، وَأَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ، فَعَثَرَ عَلَيْهِ أَعْوَانُ فِرْعَوْنَ وَأَخَذُوهُ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَهُ اللهُ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، فَكَانَ إِهْلَاكُهُمْ عَلَى يَدِهِ؛ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأَعْوَانَهُمَا كَانُوا آثِمِينَ مُشْرِكِينَ)).
ثُمَّ وَاسَاهَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حِينَ رَدَّ وَلَدَهَا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهَا رَدًّا جَمِيلًا؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13].
(({فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}: كَمَا وَعَدْنَاهَا بِذَلِكَ {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ تَرَبَّى عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ فِيهِ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، تَفْرَحُ بِهِ، وَتَأْخُذُ الْأُجْرَةَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: فَأَرَيْنَاهَا بَعْضَ مَا وَعَدْنَاهَا بِهِ عِيَانًا؛ لِيَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قَلْبُهَا، وَيَزْدَادَ إِيمَانُهَا، وَلِتَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَحْصُلُ وَعْدُ اللَّهِ فِي حِفْظِهِ وَرِسَالَتِهِ؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، فَإِذَا رَأَوُا السَّبَبَ مُتَشَوِّشًا شَوَّشَ ذَلِكَ إِيمَانَهُمْ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمُ الْكَامِلِ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَجْعَلُ الْمِحَنَ وَالْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةَ بَيْنَ يَدَيِ الْأُمُورِ الْعَالِيَةِ وَالْمَطَالِبِ الْفَاضِلَةِ.
فَاسْتَمَرَّ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ يَتَرَبَّى فِي سُلْطَانِهِمْ، وَيَرْكَبُ مَرَاكِبَهُمْ، وَيَلْبَسُ مَلَابِسَهُمْ، وَأُمُّهُ بِذَلِكَ مُطْمَئِنَّةٌ، قَدِ اسْتَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرْ مُلَازَمَتَهُ إِيَّاهَا وَحُنُوَّهَا عَلَيْهَ.
وَتَأَمَّلْ هَذَا اللُّطْفَ وَصِيَانَةَ نَبِيِّهِ مُوسَى مِنَ الْكَذِبِ فِي مَنْطِقِهِ، وَتَيْسِيرَ الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ بِهِ التَّعَلُّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، الَّذِي بَانَ لِلنَّاسِ هُوَ الرَّضَاعُ الَّذِي بِسَبَبِهِ يُسَمِّيهَا أُمًّا، فَكَانَ الْكَلَامُ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صِدْقًا وَحَقًّا)).
كَمَا جَاءَتِ الْمُوَاسَاةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِمَرْيَمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، قَالَ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: 22-23].
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي؛ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
((أَيْ: لَمَّا حَمَلَتْ بِعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَافَتْ مِنَ الْفَضِيحَةِ، فَتَبَاعَدَتْ عَنِ النَّاسِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَلَمَّا قَرُبَ وِلَادُهَا أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا آلَمَهَا وَجَعُ الْوِلَادَةِ، وَوَجَعُ الِانْفِرَادِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَوَجَعُ قَلْبِهَا مِنْ قَالَةِ النَّاسِ، وَخَافَتْ عَدَمَ صَبْرِهَا؛ تَمَنَّتْ أَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَادِثِ، وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَلَا تُذْكَرُ، وَهَذَا التَّمَنِّي بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْمُزْعِجِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمْنِيَةِ خَيْرٌ لَهَا وَلَا مَصْلَحَةٌ، وَإِنَّمَا الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ بِتَقْدِيرِ مَا حَصَلَ)).
أمَرَ اللهُ -تَعَالَى- مَنْ يُنَادِيهَا لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 24-26].
((حِينَئِذٍ سَكَّنَ الْمَلَكُ رَوْعَهَا، وَثَبَّتَ جَأْشَهَا، وَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا -لَعَلَّهُ فِي مَكَانٍ أَنْزَلَ مِنْ مَكَانِهَا-، وَقَالَ لَهَا: لَا تَحْزَنِي، أَيْ: لَا تَجْزَعِي وَلَا تَهْتَمِّي، فَـ{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} أَيْ: نَهَرًا تَشْرَبِينَ مِنْهُ.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} أَيْ: طَرِيًّا لَذِيذًا نَافِعًا، فَكُلِي مِنَ التَّمْرِ، وَاشْرَبِي مِنَ النَّهْرِ، وَقَرِّي عَيْنًا بِعِيسَى؛ فَهَذَا طُمَأْنِينَتُهَا مِنْ جِهَةِ السَّلَامَةِ مِنْ أَلَمِ الْوِلَادَةِ، وَحُصُولِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ الْهَنِيِّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قَالَةِ النَّاسِ فَأَمَرَهَا أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ أَنْ تَقُولَ عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ: سُكُوتًا {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أَيْ: لَا تُخَاطِبِيهِمْ بِكَلَامٍ؛ لِتَسْتَرِيحِي مِنْ قَوْلِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ السُّكُوتَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُؤْمَرْ بِمُخَاطَبَتِهِمْ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَلِيَكُونَ تَبْرِئَتُهَا بِكَلَامِ عِيسَى فِي الْمَهْدِ أَعْظَمَ شَاهِدٍ عَلَى بَرَاءَتِهَا؛ فَإِنَّ إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ بِوَلَدٍ مِنْ دُونِ زَوْجٍ -وَدَعْوَاهَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدٍ- مِنْ أَكْبَرِ الدَّعَاوَى الَّتِي لَوْ أُقِيمَ عِدَّةٌ مِنَ الشُّهُودِ لَمْ تُصَدَّقْ بِذَلِكَ، فَجَعَلَتْ بَيِّنَةَ هَذَا الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ أَمْرًا مِنْ جِنْسِهِ؛ وَهُوَ كَلَامُ عِيسَى فِي حَالِ صِغَرِهِ جِدًّا)).
لَقَدْ حَثَّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩].
وَجْهُ إِيثَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ تَلَقَّاهُمُ الْأَنْصَارُ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْإِيثَارِ بِالْمَالِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لِأَخِيهِ الْمُهَاجِرِيِّ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أَتَنَازَلَ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيَّ لَكَ فَعَلْتُ، يَعْنِي: يُطَلِّقُها، فَيَتَزَوَّجُهَا الْمُهَاجِرِيُّ بَعْدُ بِمُضِيِّ عِدَّتِهَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ إِيثَارِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِإِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [لانسان: ٨] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
يَعْنِي: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ وَهُمْ يُحِبُّونَهُ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، وَيَتْرُكُونَ أَنْفُسَهُمْ، هَذَا -أَيْضًا- مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ.
الْإِيثَارُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْمُوَاسَاةُ: أَنْ يُوَاسِيَ غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ)).
وَشَرَعَ اللهُ عِبَادَةً مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، وَجَعَلَهَا نَبِيُّنَا ﷺ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ الزَّكَاةُ، شَرَعَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَزْكِيَةً وَتَطْهِيرًا لِأَرْوَاحِ الْأَغْنِيَاءِ، وَمُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ، قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].
((قَالَ -تَعَالَى- لِرَسُولِهِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ، آمِرًا لَهُ بِمَا يُطَهِّرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُتَمِّمُ إِيمَانَهُمْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}: وَهِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أَيْ: تُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.
{وَتُزَكِّيهِمْ} أَيْ: تُنَمِّيهِمْ، وَتُزِيدُ فِي أَخْلَاقِهِمُ الْحَسَنَةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَتُزِيدُ فِي ثَوَابِهِمُ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَتُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أَيِ: ادْعُ لَهُمْ، أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ عُمُومًا وَخُصُوصًا عِنْدَمَا يَدْفَعُونَ إِلَيْكَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أَيْ: طُمَأْنِينَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، وَاسْتِبْشَارٌ لَهُمْ، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لِدُعَائِكَ سَمْعَ إِجَابَةٍ وَقَبُولٍ {عَلِيمٌ} بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَنِيَّاتِهِمْ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَعَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَثِلُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَيَبْعَثُ عُمَّالَهُ لِجِبَايَتِهَا، فَإِذَا أَتَاهُ أَحَدٌ بِصَدَقَتِهِ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ.
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّهَا أَمْوَالٌ تُنَمَّى وَيُكْتَسَبُ بِهَا، فَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ يُوَاسَى مِنْهَا الْفُقَرَاءُ بِأَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الزَّكَاةِ.
وَمَا عَدَا أَمْوَالَ التِّجَارَةِ: فَإِنْ كَانَ الْمَالُ يُنَمَّى؛ كَالْحُبُوبِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَاشِيَةِ الْمُتَّخَذَةِ لِلنَّمَاءِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْقِنْيَةِ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ، مَالًا يَتَمَوَّلُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمَقَاصِدَ الْمَالِيَّةَ، وَإِنَّمَا صَرْفٌ عَنِ الْمَالِيَّةِ بِالْقِنْيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَفِيهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَتَزَكَّى حَتَّى يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهَا شَيْءٌ سِوَى أَدَائِهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَالتَّطْهِيرَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِخْرَاجِهَا.
وَفِيهَا: اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِمَنْ أَدَّى زَكَاتَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَهْرًا؛ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ الْمُتَصَدِّقُ فَيَسْكُنُ إِلَيْهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِالْكَلَامِ اللَّيِّنِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَسُكُونٌ لِقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَنْشِيطُ مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)).
لِلزَّكَاةِ أَهَمِّيَّةٌ عُظْمَى فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِهَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا, وَمِنْ حِكَمِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ: مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ, وَسَدُّ حَاجَاتِ الْمُعْوِزِينَ وَالْبُؤَسَاءِ وَالْمَحْرُومِينَ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ: ((فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ فِي الْأَمْوَالِ قَدْرًا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وَلَا يُجْحِفُ بِهَا، وَيَكْفِي الْمَسَاكِينَ، وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى شَيْءٍ، فَفَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَكْفِي الْفُقَرَاءَ، فَوَقَعَ الظُّلْمُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، الْغَنِيُّ يَمْنَعُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالْآخِذُ يَأْخُذُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَفَاقَةٌ شَدِيدَةٌ أَوْجَبَتْ لَهُمْ أَنْوَاعَ الْحِيَلِ وَالْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّبُّ -سُبْحَانَهُ- تَوَلَّى قَسْمَ الصَّدَقَةِ بِنَفْسِهِ، وَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، يَجْمَعُهَا صِنْفَانِ مِنَ النَّاسِ.
أَحَدُهُمَا: مَنْ يَأْخُذُ لِحَاجَةٍ، فَيَأْخُذُ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَضَعْفِهَا وَكَثْرَتِهَا وَقِلَّتِهَا، وَهُمُ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَفِي الرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَالثَّانِي: مَنْ يَأْخُذُ لِمَنْفَعَتِهِ، وَهُمُ: الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَالْغَارِمُونَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْآخِذُ مُحْتَاجًا، وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَلَا سَهْمَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ)).
وَأَمَّا عَنِ الْمُوَاسَاةِ بِالصَّدَقَةِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ -ذَكَرَ مِنْهُمْ-: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: ((أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
وَتَكُونُ الصَّدَقَةُ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَلَ، قَالَ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14-16].
كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الضَّبِّيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : ((أَجْرَان: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:
نَحْوَ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكِسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ؛ بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.
هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ.
فَمَا أَجْمَلَهُ!
وَمَا أَجَلَّهُ!
وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!
((الْمُوَاسَاةُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))
لَقَدْ وَجَّهَ نَبِيُّنَا ﷺ إِلَى التَّحَلِّي بِهَذِهِ الْقِيمَةِ النَّبِيلَةِ؛ ((فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرْفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ)).
فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ)).
فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلَاثًا.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: ((أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟)).
فَقَالُوا: ((لَا)).
فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ -أَيْ: تَذْهَبُ نَضَارَتُهُ مِنَ الْغَضَبِ- حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ)) مَرَّتَيْنِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟!» مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا)).
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا مَا دَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: «لَوْ سَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ أَوْ وَادِيَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ لَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ».
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَمَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي ﷺ، آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ، قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَوَاسَوْهُ)).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»)).
((أَرْمَلُوا)): فَرَغَ زَادُهُمْ، أَوْ قَارَبَ الْفَرَاغَ.
((أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَتَسَاعَدُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ جَمَعُوهُ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)). قَالَ ذَلِكَ تَشْجِيعًا لِمَا يَفْعَلُونَهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْجَمْعِيَّاتِ التَّعَاوُنِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، تَجْتَمِعُ الْقَبِيلَةُ عَلَى أَنْ يَضَعُوا صُنْدُوقًا يَجْمَعُونَ فِيهِ مَا يُرِيدُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْمَالِ؛ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ، وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّرْشِيحِ، فَيَكُونُ -مَثَلًا- عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدْفَعَ اثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ مِنْ رَاتِبِهِ، أَوْ مِنْ كَسْبِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّنْدُوقُ مُعَدًّا لِلْحَوَائِجِ وَالنَّكْبَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
فَهَذَا أَصْلُهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَإِذَا جَمَعَ النَّاسُ صُنْدُوقًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِيَتَسَاعَدُوا فِيهِ عَلَى نَكْبَاتِ الزَّمَانِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا فِي السُّنَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي يُوضَعُ فِي الصُّنْدُوقِ لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْقَدْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ، وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لَهُ مَالِكٌ، وَهَذَا الصُّنْدُوقُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ؛ بَلْ مَنْ حَصَلَ عَلَيْهِ حَادِثٌ فَإِنَّهُ يُسَاعَدُ مِنْهُ، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَضَعُوا هَذِهِ النُّقُودَ فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَخْذَهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَخْرَجُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِمَالِ مَنْ؟ لَا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسَاعَدَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا زَكَاةٌ)).
((وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أَعْلَاهَا مَنِيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ».
قَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ -أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ: ((فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ؛ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً تَغْدُو بِعُسٍّ وَتَرُوحُ بِعُسٍّ؛ إِنَّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ»)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)).
((فِي الْحَدِيثَيْنِ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَأَنَّ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَأَنَّ طَعَامَ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ، وَهَذَا حَثٌّ مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى الْإِيثَارِ، يَعْنِي: إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَ بِطَعَامِكَ الَّذِي قَدَّرْتَ أَنَّهُ يَكْفِيكَ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَلَا تَبْخَلْ، لَا تَبْخَلْ عَلَيْهِ وَتَقُولُ: (هَذَا طَعَامِي وَحْدِي)، بَلْ أَعْطِهِ حَتَّى يَكُونَ كَافِيًا لِلِاثْنَيْنِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ اثْنَانِ بِطَعَامِهِمَا، ثُمَّ جَاءَهُمَا اثْنَانِ؛ فَلَا يَبْخَلَانِ عَلَيْهِمَا وَيَقُولَانِ: (هَذَا طَعَامُنَا)، بَلْ يُطْعِمَانِهِمَا؛ فَإِنَّ طَعَامَهُمَا يَكْفِيهِمَا وَيَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَهَكَذَا الْأَرْبَعَةُ مَعَ الثَّمَانِيَةِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْثِرَ الْإِنْسَانُ بِفَضْلِ طَعَامِهِ عَلَى أَخِيهِ)).
((وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ؛ حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ نَبِيُّ الله ﷺ جَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا، فَبَسَطْنَا له نِطَعًا، فَاجْتَمع زَادُ القَوْمِ عَلَى النِّطَعِ، قالَ: فَتَطَاوَلْتُ لِأَحْزِرَهُ كَمْ هُوَ؟ فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ العَنْزِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِئَةً، قالَ: فَأَكَلْنَا حتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: ((فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ؟)).
قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ بإدَاوَةٍ له فِيهَا نُطْفَةٌ، فَأَفْرَغَهَا في قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِئَةً، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَهُورٍ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((فَرِغَ الوَضُوءُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَالَتِ الْأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ النَّخْلَ)).
قَالَ: «لَا».
قَالَ: «يَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ، وَيَشْرَكُونَنَا فِي الثَّمَرِ».
قَالُوا: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)))).
قَالَتِ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: «اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ» أَي: الْمُهَاجِرِينَ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- تَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وخَرَجُوا فَارِّينَ بِدِينِهِمْ، فَخَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ كُلَّ مَا يَمْلِكُونَهُ، فَصَارُوا فِي دَارِ غُرْبَةٍ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ أَمْلَاكٍ يَمْتَلِكُونَهَا، ولَا أَرَاضٍ يَزْرَعُونَهَا، وَلَا نَخِيلٍ يَحُوزُونَهُ.
فَأَرَادَ الْأَنْصَارُ أَنْ يُوَاسُوا إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِيمَا يَمْلِكُونَ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: «اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ».
وَهَذَا فِيهِ حُبُّ الْأَنْصَارِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِيْثَارُهُمْ وَتَضْحِيَتُهُمْ بِالْمَالِ وَالزَّرْعِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ ﷺ: «لَا»، إِنَّمَا قَالَ: لَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْفُتُوحَ سَتُفْتَحُ، فَكَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ مُلْكِ الْأَنْصَارِ عَنْهُمْ، فَلَمَّا فَهِمَ الْأَنْصَارُ ذَلِكَ جَمَعُوا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ؛ مَصْلَحَةِ امْتِثَالِ مَا أمَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ ﷺ، ومَصْلَحَةِ تَعْجِيلِ مُوَاسَاةِ إِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُسَاعِدُوهُمْ فِي الْعَمَلِ، وَيُشْرِكُوهُمْ فِي الثَّمَرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ».
«تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ» أَيِ: الْعَمَلَ فِي الْبَسَاتِينِ؛ مِنْ سَقْيِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا.
«وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ»: فِي الْحَاصِلِ وَالنَّاتِجِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَكُونُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
فِي الْحَدِيثِ: الْمُوَاسَاُة بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ، وَفِي الْمَجَاعَةِ وَالْحَاجَةِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاسْتِثْمَارُ الطَّاقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وتَبَادُلُ الْخَيْرَاتِ.
وَفِيهِ: جَمْعُ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَهُوَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَتَعْجِيلُ مُوَاسَاةِ الْمُهَاجِرِينَ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكْفِيَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَنْصَارَ الْمَئُونَةَ وَالْعَمَلَ فِي مَزَارِعِهِمْ، وَهُمْ يُشْرِكُونَهُمُ الثَّمَرَ مُزَارَعَةً.
وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْأَنْصَارِ، وَسَخَاءِ النَّفْسِ بِمَا مَعَهُمْ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ فِرَارًا بِدِينِهِمْ، وَمَحَبَّةً فِي صُحْبَةِ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُزَارَعَةِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ؛ كَالنِّصْفِ، وَالرُّبُعِ، وَنَحْوِهِمَا.
((وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ».
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ ثَالِثَةٍ شَيْءٌ)).
فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ أَوَّلَ؟)).
فَقَالَ: «لَا؛ إِنَّ ذَاكَ عَامٌ كَانَ النَّاسُ فِيهِ بِجَهْدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَفْشُوَ فِيهِمْ)))).
((وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ضَحَايَاكُمْ، لَا يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ».
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ؟)).
قَالَ: «كُلُوا، وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانُوا فِي جَهْدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ: «كُلُوا وَادَّخِرُوا»: زَادَ الْمُصَنِّفُ فِي «الصَّحِيحِ»: «وَأَطْعِمُوا».
فِي لَفْظِ الشَّيْخَيْنِ: «مَنْ ضَحَّى فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ».
أَكْلُ لُحُومِ الْأَضَاحِي وَإِمْسَاكُ لُحُومِهَا بَعْدَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ جَائِزٌ مُبَاحٌ، وَالنَّهْيُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ نَهْيَ الرَّسُولِ ﷺ أَصْحَابَهُ عَنِ ادِّخَارِ اللُّحُومِ كَانَ بِسَبَبِ الْقَحْطِ الطَّارِئِ عَلَى النَّاسِ؛ حَتَّى يُوَزِّعُوهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُضَحُّوا، وَالَّذِينَ لَمْ يَمْلِكُوا.
قَوْلُهُ ﷺ: «لَا يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ بَعْدَ ثَالِثَةٍ»: أَيْ: ثَالِثَةٍ مِنْ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ «وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» أَيْ: مِنْ لَحْمِ الْأُضْحِيَةِ.
قَالُوا: «نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ؟» نَفْعَلُ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: ((وَجْهُ قَوْلِهِمْ: هَلْ نَفْعَلُ كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ؟ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ وَرَدَ بِسَبَبٍ خَاصٍّ؛ وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ عِنْدَهُمْ عُمُومَ النَّهْيِ أَوْ خُصُوصَهُ مِنْ أَجْلِ السَّبَبِ سَأَلُوا، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِذَلِكَ الْعَامِ؛ مِنْ أَجْلِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ؛ ضَعُفَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى أَصَالَتِهِ)).
«كَانُوا فِي جَهْدٍ»: الْجَهْدُ: الْمَشَقَّةُ وَالطَّاقَةُ.
«الْجُهْدُ» بِالضَّمِّ: الْجُوعُ، وَ«الْجَهْدُ» بِالْفَتْحِ: الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ يَتَعَاقَبَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ (الْجَهْدُ)، وَ(الْجُهْدُ).
«قَالَ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا»: أَيْ: تُعِينُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «الصَّحِيحِ»: «فَأَرَدْتُ أَنْ يَفْشُوَ فِيهِمْ» أَيْ: أَنْ يَشِيعَ لَحْمُ الْأَضَاحِي فِي النَّاسِ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُحْتَاجُونَ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَبْقَى فِيهِ مُحْتَاجٌ، وَإِذَا أَخَذَ النَّاسُ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتَثَلُوا أَوَامِرَ اللهِ وَأَوَامِرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَرْضِ مُحْتَاجٌ، فَهُوَ حَقُّهُ فِي مَالِ مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا.
فِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ وَالْمَعُونَةِ لِلَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْبَلَايَا، وَنَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَائِبُ)).
((وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟
يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟
يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي)).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ نَأْخُذُ الأرْضَ بالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ بالمَاذِيَانَاتِ، فَقَامَ رَسولُ اللهِ ﷺ في ذلكَ فَقالَ: ((مَنْ كَانَتْ له أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فإنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فإنْ لَمْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ مَرَّةً: ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وإنْ أرْبَعٌ فَخَامِسٌ أوْ سَادِسٌ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بثَلَاثَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ بعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أنَا وأَبِي وأُمِّي -فَلَا أدْرِي قَالَ: وَامْرَأَتي وخَادِمٌ بيْنَنَا وبيْنَ بَيْتِ أبِي بَكْرٍ، وَإِنَّ أبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيِّ ﷺ، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَبِثَ حتَّى تَعَشَّى النبيُّ ﷺ.
فَجَاءَ بَعْدَما مَضَى مِنَ اللَّيْلِ ما شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ له امْرَأَتُهُ: ((وما حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ -أوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ-؟)).
قَالَ: ((أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟)).
قَالَتْ: ((أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا)).
قَالَ: ((فَذَهَبْتُ أنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ! فَجَدَّعَ وسَبَّ، وقَالَ: كُلُوا لَا هَنِيئًا، فَقَالَ: واللَّهِ لا أَطْعَمُهُ أبَدًا، وَايْمُ اللَّهِ! ما كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا -قَالَ: يَعْنِي: حَتَّى شَبِعُوا- وصَارَتْ أكْثَرَ ممَّا كَانَتْ قَبْلَ ذلكَ، فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ((يا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟)).
قَالَتْ: ((لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي! لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بثَلَاثِ مَرَّاتٍ)).
فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: ((إنَّما كانَ ذلكَ مِنَ الشَّيْطَانِ)) –يَعْنِي: يَمِينَهُ-، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وكانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الْأَجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ)) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((إِنِّي مَجْهُودٌ)).
فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: ((وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ)).
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: ((لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ)).
فَقَالَ: ((مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ؟)).
فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ))، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ((هَلْ عِنْدَكِ شَىْءٌ؟)).
قَالَتْ: ((لَا؛ إِلَّا قُوتَ صِبْيَانِي)).
قَالَ: ((فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ)).
قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)).
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: ((هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟)).
فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بَيْعًا أمْ عَطِيَّةً؟ -أوْ قالَ: أمْ هِبَةً؟-)).
قالَ: ((لَا، بَلْ بَيْعٌ)).
فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهَِ! مَا فِي الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ إِلَّا قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ ﷺ له حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا؛ إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ)).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ -وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ-، فَقَالَ سَعْدٌ: ((قَدْ عَلِمَتِ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقْهَا؛ حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا)).
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ))، فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَهْيَمْ؟».
قَالَ: ((تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ)).
قَالَ: «مَا سُقْتَ فِيهَا؟».
قَالَ: ((وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ -أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ-)).
فَقَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ -تَعَالَى- فَتَجَاوَزَ عَنْهُ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: ((إِنِّي مُعْسِرٌ)).
فَقَالَ: ((آللهِ؟)).
قَالَ: ((آللهِ)).
قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ»)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)). فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ؛ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((هَذَا الْحَدِيثُ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ عَلَى رَحْلٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَكَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَهِمَ أَنَّ الرَّجُلَ مُحْتَاجٌ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)) .
وَذَكَرَ أَنْوَاعًا، وَلَمْ يُبَادِرْ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ –مَثَلًا-؛ لِئَلَّا يَخْجَلَ الرَّجُلُ، بَلْ قَالَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ))، وَالرَّجُلُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ لَكِنْ هَذَا مِنْ حُسْنِ خِطَابِ النَّبِيِّ ﷺ.
يَقُولُ الرَّاوِي: ((حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ)) يَعْنِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْذُلُ كُلَّ مَا عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ فَضْلٌ، يَعْنِي: مِنَ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالرَّحْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ)).
«مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ، يَعْنِي: فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ شَرَابٍ، أَوْ مَرْكُوبٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ.
فَذَلِكَ فِي الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فَقَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لَإِزَارُهُ، فَقَالَ فُلَانٌ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا!
فَقَالَ: ((نَعَمْ)). فَجَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ؛ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ: إِنِّي -وَاللهِ- مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
((فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ وَأَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بُرْدَةً، وَكَانَ ﷺ لَا يَرُدُّ الْهَدِيَّةَ، بَلْ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، وَهَذَا مِنْ كَرَمِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((مَا أَحْسَنَ هَذَا!))، طَلَبَهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَفَعَلَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، خَلَعَهَا وَطَوَاهَا، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.
فَقِيلَ لِلرَّجُلِ: كَيْفَ تَطْلُبُهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا؟!! فَقَالَ: ((وَاللهِ! مَا طَلَبْتُهَا لِأَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ لِتَكُونَ كَفَنِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-))، فَأَبْقَاهَا عِنْدَهُ فَصَارَتْ كَفَنَهُ.
فَفِي هَذَا: إِيثَارُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ بِهَا هَذَا الرَّجُلَ، مَعَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لَهَا)).
((وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً مُلِمَّةً، بَعْدَمَا اجْتَهَدَ عُمَرُ فِي إِمْدَادِ الْأَعْرَابِ بِالْإِبِلِ وَالْقَمْحِ وَالزَّيْتِ مِنَ الْأَرْيَافِ كُلِّهَا؛ حَتَّى بَلَحَتِ الْأَرْيَافُ كُلُّهَا مِمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ.
فَقَامَ عُمَرُ يَدْعُو فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ))، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْغَيْثُ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَوَاللَّهِ! لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُفْرِجْهَا مَا تَرَكْتُ بِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ سَعَةٌ إِلَّا أَدْخَلْتُ مَعَهُمْ أَعْدَادَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، فَلَمْ يَكُنِ اثْنَانِ يَهْلِكَانِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى مَا يُقِيمُ وَاحِدًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»
«عَامَ الرَّمَادَةِ»: هُوَ الْعَامُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَسْفِي التُّرَابَ كَالرَّمَادِ، وَتَشَقَّقَتِ الْأَرْضُ أَخَادِيدَ، وَصَارُوا فِي جُهْدٍ جَهِيدٍ؛ حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّمَا سُمِّيَ عَامَ الرَّمَادَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْدَبُوا صَارَتْ أَلْوَانُهُمْ كَلَوْنِ الرَّمَادِ، وَأَكَلُوا كُلَّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ، وَصَارَتِ الذَّبَائِحُ بِحَيْثُ لَا تُؤْكَلُ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا يُؤْكَلُ، فَيَتْرُكُهَا بَعْدَ أَنْ يَذْبَحَهَا مِنَ الشِّدَّةِ، وَالْجُوعِ، وَالْقَحْطِ، وَالْمَجَاعَةِ، وَمَا ابْتَلى اللهُ -تَعَالَى- بِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً مُلِمَّةً.
«وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً مُلِمَّةً»: الشَّدِيدَةُ مِنَ النَّوَازِلِ، فَالْمُلِمَّةُ: النَّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ نَوَازِلِ الدُّنْيَا.
«الْأَرْيَافِ»: جَمْعُ رِيفٍ، وَهُوَ أَرْضٌ فِيهَا زَرْعٌ وَخِصْبٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا عَدَا الْمُدُنَ، فَمَا عَدَا الْمُدُنَ أَرْيَافٌ.
«بَلَحَتْ»: كَلَّتْ وَعَجَزَتْ عَنْ إِعْطَاءِ الْمَزِيدِ.
«فَقَامَ عُمَرُ يَدْعُو»: فَعَلَى الْإِمَامِ وَالسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَغِيثَ اللهَ -تَعَالَى- فِي الْجَفَافِ، وَفِي السُّيُولِ، وَفِي الْفَيَضَانَاتِ بَكُلِّ تَضَرُّعٍ وَإِلْحَاحٍ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُومَ بِتَوْزِيعِ الْمَوَادِّ الْغِذَائِيَّةِ فِي الْمَنَاطِقِ الْمُصَابَةِ بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَمِمَّا يَجْمَعُهُ مِنَ الْأَرْيَافِ الَّتِي بِهَا الزَّرْعُ وَالنَّخِيلُ، وَإِذَا اقْتَضَى الْأَمْرُ فَيُوَزِّعُ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ الْغَنِيَّةِ الَّتِي عِنْدَهَا سَعَةٌ مِنَ الرِّزْقِ، كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ عُمَرُ.
«حَتَّى بَلَحَتِ الْأَرْيَافُ كُلُّهَا مِمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ»، فَذَهَبَ زَرْعُهَا وَنَخْلُهَا، وَانْقَطَعَ.
«الْغَيْثُ»: الْمَطَرُ، غَاثَ الْغَيْثُ الْأَرْضَ: إِذَا أَصَابَهَا.
«فَلَمْ يَكُنِ اثْنَانِ يَهْلِكَانِ مِنَ الطَّعَامِ» أَيْ: مِنْ عَدَمِهِ.
«عَلَى مَا يُقِيمُ وَاحِدًا»: وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَالَ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ».
بَلْ إِنَّهُمْ لَمَّا اشْتَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْبَعُونَ، وَيُعَانُونَ الْجُوعَ؛ فَقَالَ ﷺ: لَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ فُرَادَى، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى طَعَامِهِمْ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْمُوَاسَاةُ فِي السَّنَةِ وَالْمَجَاعَةِ، وَإِخْلَاصُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَاهْتِمَامُهُ بِالرَّعِيَّةِ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي يُصَابُ أَهْلُهُ بِالْقَحْطِ؛ وَحَبَّذَا لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ مِنَ السُّلْطَانِ، وَحَبَّذَا لَوْ يَقُومُ بِهِ الْخِيَارُ مِنَ النَّاسِ؛ كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالتُّقَى، وَمِثْلُ الْقَحْطِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِغَاثَةِ مَا تُصَابُ بِهِ بَعْضُ الْبُلْدَانِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالسُّيُولِ وَالْفَيَضَانَاتِ؛ فَإِنَّهُ يُشْرَعُ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ؛ حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ الِاهْتِمَامِ مِنَ الْوَالِي الْمُسْلِمِ بِحَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَيُعْطِيهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُمْ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْأُسَرِ الْفَقِيرَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ: الْمُوَاسَاةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ لِيُحَقِّقُوا مَشْرُوعَ التَّكَافُلِ فِي الْإِسْلَامِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا)).
وَمِمَّا حَثَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ: مُوَاسَاةُ أَصْحَابِ الْمَصَائِبِ؛ كَتَعْزِيَةِ وَمُوَاسَاةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَتَسْلِيَتِهِمْ، وَتَخْفِيفِ الْأَلَمِ الَّذِي أَصَابَهُمْ عِنْدَ فَقْدِ مَيِّتِهِمْ.
التَّعْزِيَةُ هِيَ: حَمْلُ ذَوِي الْمَيِّتِ عَلَى الصَّبْرِ وَفَضْلِهِ، وَالِابْتِلَاءِ وَأَجْرِهِ، وَالْمُصِيبَةِ وَثَوَابِهَا.
أَوْ هِيَ: الْحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، وَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالْمُصَابِ.
وَالتَّعْزِيَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ: التَّقْوِيَةُ، بِمَعْنَى: تَقْوِيَةِ الْمُصَابِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ بِأَنْ تُورِدَ لَهُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي فَضِيلَةِ الصَّبْرِ مَا يَجْعَلُهُ يَتَسَلَّى وَيَنْسَى الْمُصِيبَةَ، لَا أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ الْمُعَزِّي لِيُثِيرَ أَحْزَانَهُ؛ مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَ لِيُعَزِّيَهُ بِابْنِه -مَثَلًا-، فَيَقُولُ: هَذَا وَلَدٌ شَابٌّ، وَكَانَ نَابِغَةً؛ وَلَكِنْ مَاذَا نَصْنَعُ؟ لَوْ عَاشَ لَخَرَجَ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا، فَمَا يَزَالُ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى يُهَيِّجَ عَلَيْهِ أَحْزَانَهُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَوَعَدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ.. عَلَى تَعْزِيَةِ الْمُؤْمِنِ فِي مُصِيبَتِهِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِ هَذَا الْأَجْرَ الْكَبِيرَ: ((إِلَّا كَسَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ))، وَأَيْضًا: ((مَنْ عَزَّى أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي مُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللهُ حُلَّةً خَضْرَاءَ، يُحْبَرُ -أَيْ: يُغْبَطُ- بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
فَهَذَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَمِنَ السُّنَّةِ: أَنْ يَصْنَعَ أَقْرِبَاءُ الْمَيِّتِ وَجِيرَانُهُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ، أَوْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ)).
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي ((الْأُمِّ)): ((وَأُحِبُّ لِجِيرَانِ الْمَيِّتِ أَوْ ذِي الْقَرَابَةِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِ يَمُوتُ وَلَيْلَتِهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ وَذِكْرٌ كَرِيمٌ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْخَيْرِ قَبْلَنَا وَبَعْدَنَا)).
ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ.
((مَنْ تَأَمَّلَ سُنَّةَ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهَدْيَهُ وَهَدْيَ أَصْحَابِهِ؛ وَجَدَ فِيهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْآدَابِ مَا لَوْ سَارَ النَّاسُ عَلَيْهِ لَنَالُوا بِذَلِكَ رِفْعَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ -وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ-)).
((نَمَاذِجُ تَطْبِيقِيَّةٌ مِنْ مُوَاسَاةِ النَّبِيِّ ﷺ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ))
لَقَدْ كَانَ خُلُقُ الْمُوَاسَاةِ دَيْدَنَ حَيَاةِ نَبِيِّنَا ﷺ؛ فَقَدْ كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ مُوَاسَاةً لِلنَّاسِ، وَلِأَصْحَابِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا؛ فَقَدْ وَصَفَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَالَهُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِقَوْلِهَا: ((إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).
وَقَدْ تَنَوَّعَتِ الْأَحْوَالُ الَّتِي وَاسَى فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ وَاسَاهُ فِي مَوْتِ عَزِيزٍ عَلَيْهِ؛ كَمُوَاسَاتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فِي قَتْلِ أَخِيهَا، وَمُوَاسَاةِ جَابِرٍ فِي مَوْتِ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ؛ جِيءَ بِأَبِي مُسَجًّى -أَيْ: مُغَطًّى- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -مُثِّلَ بِهِ وَمَثَّلْتَ بِالْقَتِيلِ: إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ أُذُنَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).
فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.
قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ: بِنْتُ عَمْرٍو، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو)).
فَقَالَ ﷺ: ((وَلِمَ تَبْكِي؟! فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعَ)).
قَالَ الْحَافِظُ: (( ((وَلِمَ تَبْكِي؟!))؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَلِيلَ الْقَدْرِ الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَحُ لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ)) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَقِيَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ لِي: ((يَا جَابِرُ! مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟)).
فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا)).
فَقَالَ ﷺ: ((أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟)).
قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا -أَيْ: مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ-، فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ أُعْطِكَ! قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169])).
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوْصَى وَلَدَهُ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَحِفْظِ أَخَوَاتِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: مُوَاسَاتُهُ ﷺ لِأَبْنَاءِ مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِتَعْزِيَتِهِمْ، وَالِاهْتِمَامِ بِشُؤُونِهِمْ، وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ؛ فَفِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ أَوْ وَقْعَةِ مُؤْتَةَ قُتِلَ الْقُوَّادُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ عَيَّنَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى التَّوَالِي، وَهُمْ: زَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَمْهَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: ((لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوا إِلَيَّ ابْنَيْ أَخِي)).
قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ادْعُوا لِيَ الْحَلَّاقَ))، فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((أَمَّا مُحَمَّدٌ -مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ-؛ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ؛ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي)).
عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْتَ شَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي)).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم اخْلُفْ جَعْفًرا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ))، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَجَاءَتْ أُمُّنَا -وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--، فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا)).
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَالْعَيْلَةُ -بِفَتْحِ الْعَيْنِ-: الْفَقْرُ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمَّا جَاءَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ((وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ –تَعْنِي: مِنْ شِقِّ الْبَابِ-، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللهِ! إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ.. وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَيْضًا، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا، فَزَعَمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ)).
ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((فَزَعَمْتُ)) لِلرَّجُلِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الرَّسُولُ، يَعْنِي: أَنَّهُ قَالَ هَذَا نَقْلًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالنَّبِيُّ لَمْ يَقُلْهُ ﷺ، قَالَ: ((وَاللهِ! لَقَدْ غَلَبْنَنَا، فَلَمْ يَنْتَهِينَ عَنِ الْبُكَاءِ، فَزَعَمْتُ لَهُمْ.. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ))، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ؛ فَوَاللهِ مَا أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مِنَ الْعَنَاءِ -الْعَنَاءُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ): التَّعَبُ-، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَهْلِهِ: ((اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ، أَوْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَفَقَّدُ آلَ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَيَهْتَمُّ لِشُؤُونِهِمْ.
وَوَاسَى النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِالطَّعَامِ وَالْمَالِ؛ فَعَنِ الْمِقْدَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ، فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا علَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقالَ النبيُّ ﷺ: ((احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بيْنَنَا)).
قَالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ نَصِيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ اليَقْظَانَ، قَالَ: ثُمَّ يَأْتي المَسْجِدَ فيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ، فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فيُتْحِفُونَهُ وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ، مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ، فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ؛ قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقالَ: وَيْحَكَ! مَا صَنَعْتَ؟!! أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ؟! فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ، فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ، فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لا يَجِيئُنِي النَّوْمُ، وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ.
قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ، فَسَلَّمَ كَمَا كانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلتُ: الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلِكُ، فَقالَ: ((اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي)).
قَالَ: فَعَمَدْتُ إلى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إلى الْأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ فَأَذْبَحُهَا لِرَسولِ اللهِ ﷺ، فَإِذَا هِيَ حَافِلَةٌ، وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ، فَعَمَدْتُ إِلَى إنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قَالَ: فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ؟)).
قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ! اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ! اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ!!
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ)).
فَقُلتُ: يَا رَسولَ اللهِ! كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتُ كَذَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا هَذِهِ إلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، أَفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فيُصِيبَانِ مِنْهَا؟)).
قالَ: فَقُلتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! مَا أُبَالِي إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ)).
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ: ((إِنَّا -وَاللهِ- قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، يَعُودُ مَرْضَانَا، وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا، وَيَغْزُو مَعَنَا، وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّ نَاسًا يُعْلِمُونِي بِهِ عَسَى أَلَّا يَكُونَ أَحَدُهُمْ رَآهُ قَطُّ)).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((كُنْتُ جَالِسًا فِي دَارِي، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فأخَذَ بيَدِي، فَانْطَلَقْنَا حتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَدَخَلَ ثُمَّ أَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ الحِجَابَ عَلَيْهَا، فَقالَ: ((هلْ مِن غَدَاءٍ؟)).
فَقالوا: ((نَعَمْ))، فَأُتِيَ بثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ، فَوُضِعْنَ علَى نَبِيٍّ، فأخَذَ رَسولُ اللهِ ﷺ قُرْصًا، فَوَضَعَهُ بيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ، فَوَضَعَهُ بيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ، فَكَسَرَهُ باثْنَيْنِ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ مِنْ أُدُمٍ؟)).
قَالُوا: ((لَا؛ إِلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ)).
قَالَ: ((هَاتُوهُ؛ فَنِعْمَ الْأُدُمُ هُوَ)).
وَوَاسَى النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِالْمَالِ لِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ فِي أَزْمَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَتَلَاحَقَ بِيَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: ((مَا لِبَعِيرِكَ؟)).
قَالَ: قُلْتُ: ((عَيِيَ)).
قَالَ: فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَزَجَرَهُ، وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ لِي: ((كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟)).
قَالَ: قُلْتُ: ((بِخَيْرٍ، قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ)).
قَالَ: ((أَفَتَبِيعُنِيهِ؟)).
قَالَ: ((فَاسْتَحْيَيْتُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ))، قَالَ: فَقُلتُ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَبِعْنِيهِ)).
فَبِعْتُهُ إيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي عَرُوسٌ)). فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِي خَالِي، فَسَأَلَنِي عَنِ الْبَعِيرِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ فِيهِ، فَلَامَنِي، قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ: ((هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟)).
فَقُلْتُ: ((تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا)).
فَقالَ: ((هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وتُلَاعِبُكَ؟)).
قُلْتُ: ((يَا رَسولَ اللَّهِ! تُوُفِّيَ وَالِدِي -أَوِ اسْتُشْهِدَ- وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ، فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ)).
قَالَ: ((فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَوَاسَى النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَهُمْ فِي مُشْكِلَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسَعَى ﷺ لِحَلِّ أَزْمَاتِهِمُ الْأُسَرِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مُعَالَجَتُهُ ﷺ لِشَيْءٍ وَقَعَ بَيْنَ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟».
وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ لَهَا: ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟)) يَعْنِي: زَوْجَهَا عَلِيًّا، فَذَكَّرَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِيٍّ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ، فَأَرَادَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يُذَكِّرَهَا بِالرَّحِمِ، فَقَالَ: ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟)).
قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟».
فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ! قُمْ أَبَا تُرَابٍ!» .
وَلَمْ يُرَاجِعْهُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَحْلَمُ النَّاسِ، وَأَرْحَمُ النَّاسِ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِدَخَائِلِ نُفُوسِ النَّاسِ فِي تَعَامُلَاتِهِمْ وَسُلُوكِيَّاتِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَفْسِيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا، لَوْ أَنَّهُ ذَهَبَ فَقَالَ: كَيْفَ تُغْضِبُ ابْنَتِي؟ وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ؛ مَا كَانَ لِيَرْجِعَ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنْ رُبَّمَا أَوْغَرَ صَدْرَهُ، وَمَا هَكَذَا يَكُونُ الْإِصْلَاحُ.
وَإِنَّمَا ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يُمِيطُ عَنْ ظَهْرِهِ التُّرَابَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُكَنِّيًا إِيَّاهُ، وَكَانَتْ أَحَبَّ الْكُنَى إِلَى عَلِيٍّ -هُوَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ أَبُو تُرَابٍ-؛ لِأَنَّ الَّذِي كَنَّاهُ بِهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قُمْ أَبَا تُرَابٍ! قُمْ أَبَا تُرَابٍ!)).
فَعَادَ بِهِ وَلَمْ يُفَاتِحْهُ فِي شَيْءٍ، وَانْتَهَتْ تِلْكَ الْعَاصِفَةُ بِخَيْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَأَعْرَفُهُمْ بِمَفَاتِيحِ قُلُوبِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغْيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعبَّاسٍ: ((يَا عَبَّاسُ! أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا!!)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَوْ رَاجَعْتِهِ)).
قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَأْمُرُنِي؟)).
قَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ)).
قَالَتْ: ((لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ)).
وَكَانَ مِنْ صُوَرِ مُوَاسَاةِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَرْضَى: زِيَارَتُهُمْ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
((إِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ)): وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ: زِيَارَتُهُ، وَهِيَ حَقٌّ لَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَيهِمُ الْقِيَامُ بِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ لِلْمَرِيضِ حَقٌّ عَلَيْكَ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ صُحْبَةٍ، أَوْ جِوَارٍ؛ كَانَتْ عِيَادَتُهُ آكَدَ.
وَالْعِيَادَةُ بِحَسَبِ حَالِ الْمَرِيضِ، وَبِحَسَبِ حَالِ مَرَضِهِ، فَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ كَثْرَةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ قِلَّةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَي مُرَاعاةُ الْأَحْوَالِ.
وَالسُّنَّةُ لِمَنْ عَادَ مَرِيضًا: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيَفْتَحَ لَهُ بَابَ الْفَرَجِ وَالرَّجَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالشِّفَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُذَكِّرَهُ التَّوْبَةَ بِأُسْلُوبٍ لَا يُرَوِّعُهُ، فَيَقُولُ لَهُ مَثَلًا: إِنَّ فِي مَرَضِكَ هَذَا تَكْتَسِبُ خَيْرًا؛ فَإِِنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَمْحُو بِهِ السَّيِّئَاتِ، وَلَعَلَّكَ تَكْسِبُ بِانْحِبَاسِكَ أَجْرًا كَثِيرًا بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ.
إِنَّ مِنْ أَجْدَرِ وَأَوْلَى النَّاسِ مُرَاعَاةً وَتَطْبِيقًا لِهَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ مَعَهُمُ -الْمُوَاسَاةُ-؛ وَفَاءً لِعَهْدِهِمْ، وَحِفْظًا لِجَمِيلِهِمْ: آبَاؤُنَا، وَأُمَّهَاتُنَا، وَمُعَلِّمُونَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
(({وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا ذُلًّا لَهُمَا، وَرَحْمَةً وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا، أَوِ الرَّجَاءِ لِمَا لَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أَيِ: ادْعُ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا؛ جَزَاءً عَلَى تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّاكَ صَغِيرًا.
وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتِ التَّرْبِيَةُ ازْدَادَ الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى تَرْبِيَةَ الْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ تَرْبِيَةً صَالِحَةً غَيْرَ الْأَبَوَيْنِ؛ فَإِنَّ لَهُ عَلَى مَنْ رَبَّاهُ حَقَّ التَّرْبِيَةِ)).
((نَمَاذِجُ مِنَ الْمُوَاسَاةِ مِنْ صَفْحَاتِ سِيَرِ السَّلَفِ))
لَقَدْ حَفَلَتْ سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ بِنَمَاذِجَ مُشَرِّفَةٍ مِنَ الْمُوَاسَاةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الصَّفْحَاتِ الْمُشْرِقَةَ الَّتِي حَفَلَتْ بِهَا سِيَرُ هَؤُلَاءِ؛ يَتَّضِحُ أَنَّ مُجَالَسَةَ الْمَسَاكِينِ وَالتَّحَدُّثَ مَعَهُمْ فِيهِ جَبْرُ خَاطِرِهِمْ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ وَاجِدًا فَإِنَّهُ كَانَ يَتَكَفَّلُ بِنَفَقَةِ هَؤُلَاءِ وَإِعَالَتِهِمْ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَرَامَتِهِمْ، وَتَقْدِيمِ الْمَعُونَةِ لَهُمْ سِرًّا.
وَمِنَ الْآثَارِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُوَاسَاةِ:
((قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُوَاسَاةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ)).
قَالَ أَبُو الْأَعْرَجِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَقَدْ رَأَيْتُنَا فِي مَجْلِسِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَرْبَعِينَ فَقِيهًا، أَدْنَى خَصْلَةٍ فِينَا التَّوَاسِي بِمَا فِي أَيْدِينَا، وَمَا رَأَيْتُ فِي مَجْلِسِهِ مُمَارِينَ وَلَا مُتَنَازِعِينَ فِي حَدِيثٍ لَا يَنْفَعُنَا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا نُسَمِّي جَعْفَرًا أَبَا الْمَسَاكِينِ، كَانَ يَذْهَبُ إِلَى بَيْتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ لَنَا شَيْئًا؛ أَخْرَجَ لَنَا عَكَّةً أَثَرُهَا عَسَلٌ، فَنَشُقُّهَا وَنَلْعَقُهَا)).
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((قِيلَ: كَانَتْ لِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ جَفْنَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ غُدْوَةً، وَجَفْنَةٌ عَشِيَّةً لِلْأَرَامِلِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ)).
وَعَنْ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا تُوُفِّيَ الزُّبَيْرُ لَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: كَمْ تَرَكَ أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟ قَالَ: أَلْفَ أَلْفٍ، قَالَ:
عَلَيَّ خَمْسُ مِائَةِ أَلْفٍ)).
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: ((كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِذَا قَصَدَهُ سَائِلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَالَ: اكْتُبْ عَلَيَّ سِجِلًّا بِمَسْأَلَتِكَ إِلَى الْمَيْسَرَةِ)).
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: ((إِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَ يَحْمِلُ الْخُبْزَ بِاللَّيْلِ عَلَى ظَهْرِهِ يَتَّبِعُ بِهِ الْمَسَاكِينَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تُطْفِيءُ غَضَبَ الرَّبِّ)).
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَجَدُوا بِظَهْرِهِ أَثَرًا مِمَّا كَانَ يَنْقُلُ الْجُرُبَ بِاللَّيْلِ إِلَى مَنَازِلِ الْأَرَامِلِ)).
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِاللَّيْلِ)).
وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: ((لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَجَدُوهُ يَعُولُ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: قُلْتُ: وَلِهَذَا كَانَ يُبَخَّلُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُ سِرًّا، وَيَظُنُّ أَهْلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ الدَّرَاهِمَ)).
وَعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَعِيشَ عَيْشَ الْأَغْنِيَاءِ، وَأَمُوتَ مَوْتَ الْفُقَرَاءِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَذَلِكَ، يَلْبَسُ كِسْوَتَهُ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَجْلِسُ مَعَهُمْ يُحَدِّثُهُمْ، وَيَقُولُ: لَعَلَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِذَلِكَ)).
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اخْتَلَفْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، مَا عَلِمَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي أَيْنَ ذَهَبْتُ، وَلَا مِنْ أَيْنَ جِئْتُ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ فِي السِّجْنِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا مُتَخَفِّيًا)).
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَرَادَ جَارٌ لِأَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ، فَقِيلَ لَهُ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِأَلْفَيْنِ ثَمَنُ الدَّارِ، وَبِأَلْفَيْنِ جِوَارُ أَبِي حَمْزَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا حَمْزَةَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَالَ: لَا تَبِعْ دَارَكَ».
وَقَالَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ: ((صَحِبْتُ ابْنَ أَبِي ذُهْلٍ حَضَرًا وَسَفَرًا.. قِيلَ لِي: إِنَّ عُشْرَ غَلَّتِهِ تَبْلُغُ أَلْفَ حِمْلٍ، وَحَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ الْكَاتِبُ أَنَّ النُّسْخَةَ بِأَسَامِي مَنْ يَمُونُهُمْ تَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ بَيْتٍ، وَقَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِ وِلَايَاتٍ جَلِيلَةً فَأَبَى».
حَكَى الذَّهَبِيُّ: ((أَنَّ الرِّفَاعِيَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيَّ ثُمَّ الْبَطَائِحِيَّ كَانَ يَجْمَعُ الْحَطَبَ، وَيَجِيءُ بِهِ إِلَى بُيُوتِ الْأَرَامِلِ، وَيَمْلَأُ لَهُمْ بِالْجَرَّةِ» )).
((الْمُوَاسَاةُ وَالْمُؤَاخَاةُ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَمَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ؛ كَانَ أَوَّلَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ أَنْ نَظَّمَ الْعَلَاقَاتِ.
فَنَظَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِرَبِّهِ، وَنَظَّمَ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ، وَنَظَّمَ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ.
فَأَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَنَى الْمَسْجِدَ، وَحَفَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَسَاسَ الْإِيمَانِ بِهِ فِي قُلُوبِ أَتْبَاعِهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَحَمَلَ ﷺ عَلَى عَاتِقِهِ الْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَشَارَكَ إِخْوَانَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي رَفْعِ الْبُنْيَانِ بَعْدَمَا أَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ.
وَأَدَّى الْمَسْجِدُ رِسَالَتَهُ عَلَى نَحْوٍ مُعْجِزٍ مُبِينٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثِيلٌ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مِثَالٌ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَنَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ فَآخَى ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ نَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ بَمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْيَهُودَ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا جَاءَ فِي تِلْكَ الْبُنُودِ رَوْعَةً وَجَلَالًا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ لَمْ يَقَعْ مُهَاجِرِيٌّ فِي حَوْزَةِ أَنْصَارِيٍّ إِلَّا بِقُرْعَةٍ، مِمَّا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ عَلَى حِيَازَتِهِمْ، وَمِمَّا كَانُوا يَسْتَبِقُونَ عَلَى ضَمِّهِمْ إِلَى أُسَرِهِمْ، وَإِيوَائِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
وَقَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} بِإِظْهَارِ هَذَا الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْبَارِزِ هَاهُنَا، دَلَالَةٌ عَلَى الْقَصْرِ فِيهِ مَا فِيهِ إِيمَاءً وَرَمْزًا وَإيحَاءً؛ بَلْ فِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْوُضُوحِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ مِنْ صِدْقِهِمْ، وَمِنْ صِدْقِ هِجْرَتِهِمْ للهِ وَرَسُولِهِ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَنُصْرَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلِرَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ.
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 9-10].
وَصَفَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُطَهَّرَاتِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي نَظَّمَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُبَاشَرَةً.
هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الْفُقَرَاءُ لَا يَجِدُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ إِنَّمَا خَرَجَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ وَمَالِهِ لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَهُمْ فُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَإِلَى خَلْقِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}.
ثُمَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا، ثُمَّ يَرْتَفِعُونَ فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ، فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي وَصْفِ حَالِهِمْ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ الَّذِينَ تَبِعُوا هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِإِحْسَانٍ وَلَمْ يُدْرِكُوهُمْ وَلَمْ يُدْرِكُوا زَمَانَ النَّبِيِّ ﷺ بِصُدُورٍ نَظِيفَةٍ وَقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْوَاحٍ تَبْتَغِي الْخَيْرَ، وَتَتَّحِدُ مَعَ أَرْوَاحِ سَبَقَتْهَا بِالْإِيمَانِ لَا تَجِدُ فِي صَدْرِهَا جِهَتَهَا شَيْئًا، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}؛ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُمْ، وَلَكِنْ هَكَذَا الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ حَقٌّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ دُعَاءً لَهُ وَإِنَابَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا}، وَ{غِلًّا} هَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ {وَلَا تَجْعَلْ} {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
هَذَا الْحَالُ الْمَوْصُوفُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَّنَهَا لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ لَمَّا آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَلَمْ يَقَعْ مُهَاجِرِيٌّ فِي حَوْزَةِ أَنْصَارِيٍّ إِلَّا بِقُرْعَةٍ، وَكَانَ كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَأَخَذَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِيَدِ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى بَيْتِهِ وَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ الْأَنْصَارَ قَدْ عَلِمَتْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، وَهَذَا مَالِي أَقْسِمُهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، فَضُمَّ إِلَيْكَ شَطْرَهُ وَدَعْ لِي شَطْرَهُ، وَلِي زَوْجَتَانِ فَانْظُرْ أَيَّتَهُمَا أَعْجَبَ إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي، أُطَلِّقُهَا، فَإِذَا مَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجْهَا)).
بِهَذَا السُّمُوِّ وَالسَّمَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تَجِدُ لَهَا نَظِيرًا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ قَطُّ، وَلَا يُوَازِيهَا إِلَّا هَذَا التَّرَفُّعُ وَإِلَّا هَذَا الْبَذْلُ وَهَذِهِ التَّضْحِيَةُ الَّتِي تَتَأَتَّى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
فَهَذَانِ خَطَّانِ مُتَوَازِيَانِ لَا يَلْتَقِيَانِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مَصَبَّهُمَا -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- تَحْتَ الْعَرْشِ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ.
يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَكِنْ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ)).
فَدَلَّهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَانَ قَدْ عَوَّدَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى الْعَطَاءِ وَعَلَى سَعَةِ الرِّزْقِ، يَقُولُ: ((لَا أَقْلِبُ حَجَرًا إِلَّا وَظَنِّي أَنِّي سَأَجِدُ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً)).
قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ مَالَكَ، وَدُلَّنِي عَلَى السُّوقِ)).
فَدَلَّهُ عَلَى السُّوقِ فَذَهَبَ فَاتَّجَرَ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَّا بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، إِلَّا بِاللَّبَنِ الْمُجَفَّفِ قِطَعًا مَقْطُوعَةً وَبِالسَّمْنِ يَحُوزُهُ إِلَيْهِ وَيَضُمُّهُ، وَيُفِيضُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ رِزْقِ اللهِ الَّذِي أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي هَذَا الْغُدُوِّ حَتَّى جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمًا وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ؛ يَعْنِي أَثَرُ زِينَةٍ أَوْ أَثَرُ صُفْرَةٍ مِنْ طِيبٍ تَطَيَّبَ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنْ هَذِهِ الرَّفَاهِيَةِ الَّتِي أَصَابَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصَابَتْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ مُسْتَفْهِمًا: ((مَهْيَمْ؟))؛ يَعْنِي: مَا هَذَا الْحَالُ وَمَا هَذَا الشَّأْنُ؟!!
فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ)).
وَأَشْفَقَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ: ((وَبِمَ أَصْدَقْتَهَا؟)).
فَقَالَ: ((أَصْدَقْتُهَا نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فُقَرَاءَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى رِضْوَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَزَلُوا عَلَى الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لَا يَجِدُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي صَدْرِهِ حَاجَةً مِمَّا أُوتِيَ، وَيُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُحِبُّ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، يَتَوَاسُونَ فِي الْأَمْوَالِ، وَيَتَوَاسُونَ حَتَّى فِي الزَّوْجَاتِ، حَتَّى إِنَّ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةَ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَتْ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الْمِيرَاثِ حَتَّى نُسِخَتْ، هَذِهِ الْمُؤَاخَاةُ الَّتِي عَقَدَهَا الرَّسُولُ ﷺ كَانَتْ تَسْتَوْجِبُ مِيرَاثًا بَيْنَ الْمُتَآخِيَيْنِ بِإِخَاءِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ بِنَفْيِهَا: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ۚ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33].
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}؛ أَيْ: وَرَثَةً أَوْ عَصَبَةً كَمَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُونُ -رَحِمَهُمُ اللهُ-، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ عَائِدًا إِلَى أَصْلِهِ، وَجَعَلَ التَّوَارُثَ عَلَى حَسَبِ الرَّحِمِ وَعَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَصَبَاتِ لِأَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَنَسَخَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ التَّوْرِيثَ الَّذِي كَانَ مَعْقُودًا عَلَى الْمُؤَاخَاةِ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيُّ ﷺ.
الرَّسُولُ ﷺ عِنْدَمَا هَاجَرَ فَأَسَّسَ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ فِي مَدِينَتِهِ ﷺ وَضَعَ الْمَحَاوِرَ الثَّلَاثَةَ عَلَى أُصُولِهَا ﷺ وَبَيَّنَهَا مُفَصَّلَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا غُمُوضَ.
هَذَا الْمَسْجِدُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَظِّمَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ أُمُورَ دِينِهِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ جَامِعَةً يَتَخَرَّجُ مِنْهَا وَفِيهَا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مَسْلَحَةً يَتَخَرَّجُ مِنْهَا وَفِيهَا الْعُلَمَاءُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْأُسُسَ وَوَضَعَ الْمَحَاوِرَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا كُلُّ أُمُورِ الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ.
فَنَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِرَبِّهِ بِتَأْسِيسِ الْمَسْجِدِ.
ثُمَّ نَظَّمَ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَقْدِ الْإِخَاءِ الَّذِي كَانَ فِي آصِرَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ فَوْقَ النَّسَبِ وَفَوْقَ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَتِمُّ عَلَى أَسَاسِهِ التَّوَارُثُ، وَلَا يَتَوَارَثُ مَعَ وُجُودِهِ أُولُوا الْأَرْحَامِ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ الْمُخْتَارِ ﷺ.
ثُمَّ نَظَمَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَاقَةَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ.
هَذَا الْمَلْمَحُ الثَّانِي وَهَذَا الْمِحْوَرُ الثَّانِي مِنَ الْمَحَاوِرِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ ﷺ قَوْلًا وَعَمَلًا فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا بَدَأَتِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ يَشِبُّ شَبَابُهَا وَتَسْتَقِيمُ بِعُودِهَا، وَيَزْهُو بِنَضْرَتِهَا قَمَرُهَا وَبَدْرُهَا.. هَذَا الْمَلْمَحُ الثَّانِي وَهَذَا الْمِحْوَرُ الثَّانِي وَهُوَ تِلْكَ الْآصِرَةُ الَّتِي يَعْقِدُهَا النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ.. هَذِهِ مِمَّا غَابَتْ بِمَلَامِحِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.
الرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَوَّعَ مُسْلِمٌ قَطُّ، وَأَنَّ تَرْوِيعَ الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا دُنْيَا وَآخِرَةً، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ وَمَعَهُ نِصَالٌ أَوْ نِبَالٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهِ وَلْيُمْسِكْ عَلَى نِبَالِهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَقْبَلُ مِثْلَ هَذَا الْأَذَى وَلَوْ كَانَ عَارِضًا، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَنْهَى عَنِ الْخَذْفِ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ حَصَاةً فَيَجْعَلُهَا عَلَى بَاطِنِ إِبْهَامِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِسَبَّابَتِهِ يَحْذِفُهَا، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنَّهَا لَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَإِنَّمَا تَفْقَأُ الْعَيْنَ وَتَكْسِرُ السِّنَّ)).
وَالرَّسُولُ ﷺ لَا يَرْضَى هَذَا أَبَدًا.
النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ عِنْدَمَا وَضَعَ هَذَا الْأَسَاسَ وَبَيَّنَ هَذَا الْمِحْوَرَ الْأَصِيلَ مِنَ الْمَحَاوِرِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَّلَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مُبَاشَرَةً، هَذَا الْمِحْوَرُ الْأَصِيلُ يُبَيِّنُ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا عَجَبًا؛ لِتَعْلَمَ أَنَّ جَلَالَ الْأُسْوَةِ وَأَنَّ سُمُوَّ الْغَايَةِ لَا يُنْتِجَانِ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا قُلُوبًا نَظِيفَةً وَأَرْوَاحًا شَرِيفَةً، وَأَمَّا إِذَا مَا تَدَنَّتِ الْغَايَةُ وَإِذَا مَا تَقَذَّرَتِ الْأُسْوَةُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَتَّى -حِينَئِذٍ- إِلَّا كُلُّ مُتَدَنٍّ فِي الْحَضِيضِ الْأَوْهَدِ.
الرَّسُولُ ﷺ لِسُمُوِّ الْغَايَةِ الَّتِي يَتَغَيَّاهَا ﷺ بِإِرْضَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبِالْبَحْثِ عَنْ مَرْضَاةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَفِي كُلِّ مَقَالٍ وَفِي كُلِّ فَعَالٍ.
ثُمَّ يَتَأَتَّى بِهِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
لِسُمُوِّ الْغَايَةِ وَجَلَالِ الْأُسْوَةِ يَكُونُ -عِنْدَئِذٍ- مِنَ النَّتَائِجِ مَا يَبْهَرُ الْأَنْظَارَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، وَعِنْدَئِذٍ يَتَأَتَّى فِي دُنْيَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- ذَلِكُمُ الْجَلَالُ الَّذِي تَأَتَّى الْإِسْلَامُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرْسِلَهُ، وَذَلِكُمُ الْعَدْلُ الَّذِي تَفْتَقِدُهُ الدُّنْيَا عِنْدَمَا يَتَخَلَّفُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قِيَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعِنْدَئِذٍ يَتَفَشَّى الظُّلْمُ وَتَتَأَتَّى الْأَثَرَةُ، وَلَا يَكُونُ الْإِيثَارُ أَبَدًا إِلَّا فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ النَّظِيفِ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
هَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) يُخْبِرُ، قَالَ: ((كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ فَأَخَذَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ.. ))؛ يَعْنِي يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ، عَسَى أَنْ يَفْطِنَ لِحَاجَتِهِ أَحَدٌ، فَيَمُدُّ يَدَ الْمُوَاسَاةِ لِيَدِ السَّمَاحَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغِيثَهُ وَأَنْ يُدْرِكَهُ فِي لَهْفَتِهِ وَأَنْ يُقِيلَ عَثْرَتَهُ.
قَالَ: ((فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ))؛ يَعْنِي يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((وَفَطِنَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ ))، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْفِطْنَةُ كُلُّ الْفِطْنَةِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)).
قَالَ أَبُو مُوسَى: ((فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَلْوَانِ الْفَضْلِ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ)).
انْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُوَاسَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ -أَيْ: زِيَادَةُ- زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ)).
الرَّسُولُ ﷺ يُعَدِّدُ مِنْ أَلْوَانِ مَا يَقْتَنِيهِ النَّاسُ وَمَا يَحُوزُونَهُ وَمَا يَمْتَلِكُونَهُ، قَالَ أَبُو مُوسَى: ((حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ)).
وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَى الْأَشْعَرِ بْنِ قَحْطَانَ فِي مُنْتَهَاهُمْ، هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ يَقُولُ فِيهِمُ الْمَأْمُونُ ﷺ كَمَا يَرْوِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّتْ مَؤُونَةُ عِيَالِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ –يَعْنِي: فِي الْحَضَرِ- وَفِي السَّفَرِ، إِذَا مَا احْتَاجُوا؛ مَاذَا يَصْنَعُونَ- يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّتْ مَؤُونَةُ عِيَالِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ فَقَسَّمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، أُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)) ﷺ.
هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيُّونَ.. النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أَهْلُ طَرِيقَتِي، ((هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ))، وَكَفَى بِهَا مَنْقَبَةٌ لِلْأَشْعَرِيِّينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَاذَا كَانُوا يَصْنَعُونَ؟!!
يَتَوَاسُونَ بَيْنَهُمْ، هَذَا التَّوَاسِي الْمَوْصُوفُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ ﷺ ، ((إِذَا أَرْمَلُوا))؛ يَعْنِي: فَرَغَتْ أَزْوَادُهُمْ أَوْ كَادَتْ أَنْ تَفْرُغَ، وَأَيْضًا إِذَا مَا احْتَاجَ عِيَالُهُمْ فِي الْحَضَرِ، مَاذَا يَصْنَعُونَ؟
يَتَنَادُونَ بَيْنَهُمْ: أَنْ هَلُمُّوا! فَلْيَأْتِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِمَا عِنْدَهُ، لَا يَجْعَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا مِمَّا يُقْتَاتُ بِهِ، بَلْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَيُجْعَلُ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى كِسَاءٍ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَأْتُونَ بِإِنَاءٍ فَيَقْتَسِمُونَ تِلْكَ الْأَزْوَادَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، يَقُولُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ: ((أُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)) ﷺ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَعُودَ اللُّحْمَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْأُولَى إِلَى أَصْلِهَا عِنْدَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى))؛ لِأَنَّ الْمِيزَانَ الَّذِي يَزِنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ وَالْمِيزَانَ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ هُوَ التَّقْوَى، وَهُوَ إِرَادَةُ وَجْهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا أَعْرَاضُ الدُّنْيَا فَكُلُّهَا زَائِلَةٌ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يُرِيدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا جَسَدًا وَاحِدًا، إِذَا مَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْجَسَدِ لَهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرُاحِمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُ أَنَّ الْعَقْلَ السَّوِيَّ يَقْضِي بِأَنَّهُ إِذَا مَا أُصِيبَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْجِسْمِ فَإِنَّ الْجَسَدَ يُكْرَبُ بِإِصَابَتِهِ، وَيَأْلَمُ لِأَلَمِهِ، وَيَسْهَرُ لِمُعَانَاتِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُغْضِيَ ذَلِكَ الْأَلَمَ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ دَبْرَ أُذُنَيْهِ وَلَا تَحْتَ مَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَنَاسَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَسْتَعْلِي عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ)).
مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ كِسَاءٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا كِسَاءَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ حِذَاءٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا حِذَاءَ لَهُ..
((مَا زَالَ يُعَدِّدُ أَصْنَافَ الْفَضْلِ وَأَصْنَافَ الْعَطَاءِ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ مَعْنًى يَتَوَسَّدُ فِي النُّفُوسِ؛ فَيُخْرِجُهَا مِنْ أَثَرَتِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْإِسْلَامِ يُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
هُوَ وَحْدَهُ بِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ الَّذِي يُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقُلُوبِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ هِيَ الْأُلْفَةُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ؟!! وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيَتَضَوَّرُونَ جُوعًا دَاخِلًا وَخَارِجًا، وَأَقْوَامٌ يُتْخَمُونَ وَيُبْشَمُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجِدُوا مَصْرَفًا لِمَا آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَّا أَنْ يُنْفَقَ عَلَى الْكِلَابِ وَأَشْبَاهِ الْكِلَابِ!!
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ نَافِعٌ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ حَالَاتِهِ حَتَّى فِي الْمَمَاتِ، فَالرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا ((أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا شَهِدَ أَخَاهُ عِنْدَمَا يَمُوتُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ قِيرَاطًا كَامِلًا، فَإِذَا مَا شَهِدَهُ حَتَّى يُوَارَى فِي قَبْرِهِ وَيُغَيَّبَ فِي رَمْسِهِ فَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنَ الْأَجْرِ)).
فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَيُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صِدْقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ لِاتِّصَالِهِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَرُدُّ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنْ صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَيَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءَ وَكَانَ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.. يَأْخُذُ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءَ ثُمَّ يَضْرِبُ بِهَا وَجْهَ الْأَرْضِ يَقُولُ: ((لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ)).
انْظُرْ إِلَى نَفْعِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ!
الرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا ((أَنَّكَ مَا دَعَوْتَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ قَيَّضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَكَ مَلَكًا يَقُولُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ)).
فَإِذَا مَا دَعَوْتَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ؛ قَيَّضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَلَكًا يَدْعُو اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِلِسَانٍ لَمْ يَعْصِ اللهَ قَطُّ، يَقُولُ: ((وَلَكَ بِمِثْلٍ))، يَدْعُو لَكَ أَنْتَ لِدُعَائِكَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ.
فَاعْلَمْ عَبْدَ اللهِ! أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَوْفَ يُعَاتِبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنِ اسْتَطْعَمَكَ مُسْلِمٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، وَسَوْفَ يُعَاتِبُكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَنِ اسْتَسْقَاكَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَوْفَ يُعَاتِبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ مَرِضَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ تَعُدْهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ يَرْفَعُهُ إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟
يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟
يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي)).
الرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْجَارَ لَهُ حَقٌّ عَلَى أَخِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: حَقُّ الْجَارِ مَحْدُودٌ فِيمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ هِيَ أَرْبَعُونَ جَارًا مِنْ أَمَامَ، وَأَرْبَعُونَ جَارًا مِنْ خَلْفٍ، وَأَرْبَعُونَ جَارًا عَنْ يَمِينٍ، وَأَرْبَعُونَ جَارًا عَنْ شِمَالٍ، فَإِذَا مَا وَجَدْتَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَأَرَدْتَ تَطْبِيقَهُ وَجَدْتَ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَحَلَّةٍ وَأَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ إِنَّمَا هُمْ جِيرَانٌ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْحُقُوقِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّطَ فِيهِ وَلَا أَنْ يُتَهَاوَنَ بِحَقِّهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَالْزَمُوا الْجَادَّةَ، وَاسْلُكُوا سَوَاءَ السَّبِيلِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَنَا دُنْيَا وَآخِرَةً، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
إِنَّ مَا دَعَا إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ نُصْرَةُ الْمُسْلِمِ، وَكَشْفُ الْكُرْبَةِ عَنْهُ، وَسَدُّ جَوْعَتِهِ، وَسَتْرُ عَوْرَتِهِ، وَقَضَاءُ حَاجَتِهِ هُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا الطَّبَرَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يُخْرِجُ فِي مَعَاجِمِهِ الثَّلَاثِةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ وَأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ مُسْلِمٍ، تَسُدُّ عَنْهُ جَوْعَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَسْتُرُ لَهُ عَوْرَةً)).
ثُمَّ يُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ مُقْسِمًا -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- أَنَّ سَيْرَهُ ﷺ مَعَ أَخٍ لَهُ مُسْلِمٍ مِنْ أَجْلِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ هُوَ خَيْرٌ مِنَ اعْتِكَافِهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ شَهْرًا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَتِهِ كَانَ كَصِيَامِ شَهْرٍ وَاعْتِكَافِهِ))؛ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ كُرْبَةً وَقَعَ فِيهَا، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسُدَّ جَوْعَتَهُ، أَوْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، أَوْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ.
وَالْيَوْمَ فِي عَالَمٍ قَدِ انْقَسَمَ قِسْمَيْنِ؛ إِلَى شَمَالٍ وَجَنُوبٍ، شَمَالٍ مُتْخَمٌ يُرِيدُ جَنُوبًا سُوقًا وَعَبِيدًا، سُوقًا لِتَصْرِيفِ مُنْتَجَاتِهِ، وَأَيْدِي عَامِلَةً مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْتَخْرِجَ الْمَوَادَّ الْخَامَ الَّتِي سَوْفَ يُصَنِّعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِهَا عَلَى أُولَئِكَ الْعَبِيدِ.
مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَأَصِّلَةِ الْمُتَجَذِّرَةِ فِي عُقُولِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ.. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقَعُ مَا يَقَعُ فِي دُنْيَا اللهِ الْيَوْمَ.
وَإِنْ لَمْ تَفْهَمْ هَذَا عَلَى وَجْهِهِ فَلَنْ تَفْهَمَ شَيْئًا -وَحَاشَاكَ- مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَجْرِي فِي عَالَمِ هَذَا الْيَوْمِ!
إِنَّمَا يُرَادُ هَذَا الْجَنُوبُ عَبِيدًا وَسُوقًا!!
إِنَّمَا يُرَادُ هَذَا الْجَنُوبُ لَا أَثَارَةَ فِيهِ لِجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ!!
إِنَّمَا يُرَادُ هَذَا الْجَنُوبُ لَا يَرْتَفِعُ فِيهِ صَوْتٌ بِاعْتِرَاضٍ!!
إِنَّمَا يُرَادُ هَذَا الْجَنُوبُ يُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الْأَنْعَامُ!!
إِنَّمَا يُرَادُ هَذَا الْجَنُوبُ سُوقًا وَعَبِيدًا؛ سُوقًا لِلتَّصْرِيفِ، وَعَبِيدًا لِلْإِنْتَاجِ -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعْلِيَ بِإِيمَانِنَا، لَا يُوجَدُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كَافِرٌ قَطُّ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ أَقَلِّ مُسْلِمٍ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ الْكَافِرُ فِي كُفْرِهِ.
أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍ.. وَكَانَ سُهَيْلٌ مَا زَالَ كَافِرًا بَعْدُ فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَاءَ مُفَاوِضًا مِنْ قِبَلِ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَقَدَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بُنُودَ الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي كَانَتْ ظَالِمَةً بَادِيَ الرَّأْيِ فِي ظَاهِرِهَا، وَلَكِنْ كَانَتْ فَتْحًا فِي بَاطِنِهَا كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَاحْتَجَزَهُ أَبُوهُ يَرْسُفُ فِي أَغْلَالِهِ قَدْ أَتَى يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ وَأَغْلَالِهِ يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! لَا تَدَعُونِي فِي وَسَطِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ فَإِنَّهُمْ سَوْفَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي فَضُمُّونِي إِلَيْكُمْ)).
وَعِنْدَئِذٍ قَالَ سُهَيْلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا مُحَمَّدُ! هَذَا أَوَّلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، لَقَدْ وَقَّعْنَا الْمُعَاهَدَةَ بِشُرُوطِهَا، مَنْ جَاءَكَ مِنْ عِنْدِنَا عَلَيْكَ أَنْ تُرَدَّهُ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَنَا مِنْ عِنْدِكَ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَرُدَّهُ)).
أَمَّا أَبُو جَنْدَلٍ فَيَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَيَحْجِلُ فِي أَغْلَالِهِ يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! سَوْفَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي)).
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَقُولُ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! اصْبِرْ عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)).
أَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْ أَبِي جَنْدَلٍ وَالسَّيْفُ مَعَهُ فِي جِرَابِهِ فِي غِمْدِهِ وَهُوَ يَرْفَعُهُ فِي يَدِهِ يُقَرِّبُهُ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَيَنْتَحِي بِهِ نَاحِيَةً وَيَقُولُ: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ دَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ)).
وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِ مِقْبَضَ السَّيْفِ، يَرْجُو عُمَرُ أَنْ يَسْتَلَّ أَبُو جَنْدَلٍ سَيْفَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثُمَّ يُطِيحُ بِرَأْسِ أَبِيهِ سُهَيلِ بْنِ عَمْرٍو.
يَقُولُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا أَبَا جَنْدَلٍ! إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ)).
وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِ السَّيْفَ يَرْفَعُهُ مِنْ غِمْدِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، يَقُولُ عُمَرُ: ((فَضَنَّ الرَّجُلُ بِرَأْسِ أَبِيهِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
لَا يَظُنَّنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَهْمَا أتى مِنَ انْكِسَارٍ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصْبَحُوا -هَكَذَا- مِنَ اللهِ بِمَبْعَدَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الِابْتِلَاءُ وَالتَّمْحِيصُ كَمَا وَقَعَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ.
وَلَكِنْ هَذَا الْمِحْوَرُ الْأَصِيلُ، هَذِهِ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ مِنَ أَوَّلِ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخُنْصُرُ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَيْنَ هِيَ؟!!
أَيْنَ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَكُمْ؟!!
وَأَيْنَ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَكُمْ؟!!
إِنَّ الَّذِينَ يَئِنُّونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَإِنَّ الَّذِينَ يَمُوتُونَ جُوعًا فِي هَذِهِ الْقَارَّةِ الَّتِي نَنْتَمِي إِلَيْهَا وَفِي الْقَارَّاتِ الَّتِي نَنْتَمِي إِلَيْهَا فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِسْلَامِنَا.. إِنَّ الَّذِينَ يَمُوتُونَ جُوعًا كُثْرٌ كُثْرُ، وَلَكِنْ لَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ مَا امْتَلَأَتْ بَطْنُهُ، وَمَا رَفَلَ فِي ثِيَابِهِ، وَمَا اسْتَقَامَتْ حَيَاتُهُ، وَمَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لِأَبْنَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، مَعَ أَنَّ النَّظَرَ الثَّاقِبَ لَوْ مَحَّصَ الْأَحْوَالَ وَنَظَرَ فِيهَا مُمْعِنًا مُتَمَلِّيًا لَعَلِمَ أَنَّ مَا يَجْرِي هُنَالِكَ سَيَجْرِي هُنَا إِذَا لَمْ يَلْطُفْ بِنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعِنْدَئِذٍ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.
((ثَمَرَاتُ الْمُوَاسَاةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى أَنْ تُقَرِّبَ بَيْنَهُمُ الْعَقِيدَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْأَخْلَاقُ الْقَوِيمَةُ قَبْلَ الْمَصَالِحِ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بِحَاجَةٍ مُلِحَّةٍ إِذَا مَرِضَ فَقِيرُهُمْ عَادَهُ غَنِيُّهُمْ، وَإِذَا ظُلِمَ ضَعِيفُهُمْ نَصَرَهُ قَوِيُّهُمْ.
الْمُوَاسَاةُ -عِبَادَ اللهِ- شُعُورٌ عَاطِفِيٌّ نَبِيلٌ يُنْبِأُ عَنْ صَفَاءِ مَعْدِنِ الْمُتَّصِفِ بِهِ، وَإِنَّ أَيَّ مُجْتَمَعٍ يَتَوَافَرُ فِيهِ هَذَا الْخُلُقُ لَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْأُمَّةِ مَعْنَى الْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَهِيَ لَا تَعْرِفُ الْمُوَاسَاةَ.
إِنَّ ثَمَرَاتِ الْمُوَاسَاةِ جَلِيلَةٌ وَعَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِهَا: دُخُولُ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَا)).
قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَا)).
قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَنَا)).
فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَنَا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا».
فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
مِنْ ثَمَرَاتِ الْمُوَاسَاةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ: نُزُولُ الْبَرَكَةِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)).
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا حَصَلَتْ مِنْهُ الْكِفَايَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَوَقَعَتْ فِيهِ بَرَكَةٌ تَعُمُّ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-)).
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمُوَاسَاةِ لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْحَاجَةِ -الْمُوَاسَى- فَقَطْ، وَإِنَّمَا تَشْمَلُ -أَيْضًا- الْمُوَاسِيَ؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقِفُ إِلَى جَانِبِهِ وَيَكُونُ فِي حَاجَتِهِ، هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجَازِيهِ عَلَيْهَا أَفْضَلَ جَزَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْمُوَاسَاةِ: أَنَّهَا تُورِثُ حُبَّ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ حُبَّ الْخَلْقِ، وَهِيَ دَلِيلُ حُبِّ الْخَيْرِ لِلْآخَرِينَ، وَتُشِيعُ رُوحَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُقَوِّي الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
الْمُوَاسَاةُ تُسَاعِدُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَسَدِّ عَوَزِ الْمُعْوِزِينَ، وَتُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتَرْفَعُ مِنْ مَعْنَوِيَّاتِهِ؛ فَيُقْبِلُ عَلَى الْحَيَاةِ مَسْرُورًا.
الْمُوَاسَاةُ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ الْمَسْرُورِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
الْمُوَاسَاةُ تَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ، وَتُؤَكِّدُ مَعْنَى الْإِخَاءِ، وَتَنْشُرُ الْمَحَبَّةَ، وَالْمُوَاسَاةُ تَدْفَعُ الْغَيْظَ، وَتُذْهِبُ الْغِلَّ، وَتُمِيتُ الْأَحْقَادَ.
فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى أَنْ نَتَحَلَّى بِخُلُقِ الْمُوَاسَاةِ بَيْنَنَا؛ حَتَّى تَشِيعَ رُوحُ الْأُخُوَّةِ، وَتَقْوَى الْعَلَاقَاتُ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَتَسُودَ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَهُمْ.
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْمَعْ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، اللَّهُمَّ خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الْمُوَاسَاةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ