((حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مُهِمَّةُ إِعْمَارِ الْأَرْضِ))
فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ وَبَنُو آدَمَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.
وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَم يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
((أَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ امْتَنَّ عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مَكَّنَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وَأَبَاحَ مَنَافِعَهَا، وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لِإِخْرَاجِ أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، أَيْ: مَكَاسِبَ وَأَسْبَابًا يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قَلِيلُ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 34])).
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].
((يَقُولُ -تَعَالَى- مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ الْمَسْكَنِ وَالْمَعِيشَةِ: {وَلَقَدْ مَكَّنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَكُمْ؛ بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَحَرْثِهَا، وَوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَمَعَادِنِ الْأَرْضِ، وَأَنْوَاعِ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهَا، وَسَخَّرَ أَسْبَابَهَا.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، وَصَرَفَ عَنْكُمُ النِّقَمَ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [ق: 19: 22].
(({وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أَيْ: وَسَّعْنَاهَا سَعَةً يَتَمَكَّنُ الْآدَمِيُّونَ وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا مِنَ الِامْتِدَادِ بِأَرْجَائِهَا، وَالتَّنَاوُلِ مِنْ أَرْزَاقِهَا، وَالسُّكُونِ فِي نَوَاحِيهَا.
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أَيْ: جِبَالًا عِظَامًا تَحْفَظُ الْأَرْضَ -بِإِذْنِ اللهِ- أَنْ تَمِيدَ، وَتُثَبِّتَهَا أَنْ تَزُولَ.
{وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} أَيْ: نَافِعٍ مُتَقَوِّمٍ، يَضْطَرُّ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ مَا بَيْنَ نَخِيلٍ، وَأَعْنَابٍ، وَأَصْنَافِ الْأَشْجَارِ، وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مِنَ الْحَرْثِ، وَمِنَ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالْحِرَفِ.
{وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أَيْ: أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ، وَأَنْعَامٍ لِنَفْعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ رِزْقُهَا، بَلْ خَوَّلَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا، وَتَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِهَا.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أَيْ: جَمِيعُ الْأَرْزَاقِ وَأَصْنَافِ الْأَقْدَارِ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، فَخَزَائِنُهَا بِيَدِهِ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ.
{وَمَا نُنَزِّلُهُ} أَيْ: الْمُقَدَّرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ)).
وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَاجَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَحْدَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ وَهَبَ عِبَادَهُ مَنَاهِجَ يَتَحَقَّقُ بِهَا لَهُمْ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، وَوَعَدَهُمْ -إِنْ هُمُ اتَّبَعُوا مَنْهَجَهُ- بِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه: 123].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنْ يَهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنْ يَتَّخِذُوا الشَّيْطَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، فَيَأْخُذُوا الْحَذَرَ مِنْهُ، وَيَعُدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيُحَارِبُوهُ، وَأَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُمْ أَيَّ وَقْتٍ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ؛ فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَشْقَى فِيهِمَا، بَلْ قَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ السَّعَادَةُ وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وَاتِّبَاعُ الْهُدَى بِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالشُّبَهِ، وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِأَلَّا يُعَارِضَهُ بِشَهْوَةٍ)).
الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ بُعِثُوا بِالْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ، وَنَهَوْا عَنِ الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ؛ فَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ فَهُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَخُصُوصًا إِمَامَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَإِنَّهُ أَبْدَى وَأَعَادَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَوَضَعَ لِلْخَلْقِ الْأُصُولَ النَّافِعَةَ الَّتِي يَجْرُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا وَضَعَ لَهُمُ الْأُصُولَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.
((نَهْيُ الْقُرْآنِ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ))
لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِبَقَاءِ الصَّلَاحِ فِيهَا، وَأَنْ نَمْنَعَ الْفَسَادَ عَنْهَا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَوِّ بِالْأَوْبِئَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَحْيَاءِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَفَاهِيمِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُسَدَّدَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ؛ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، فَنَهَى -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ)).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ -عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ-)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: ((قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِه، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالشِّرْكِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى-.
فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرَهُ، وَمُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلَا لِأَهْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ، وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِهِ، لَيْسَ إِلَّا، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَخِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؛ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ، وَعِبَادَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ، وَقَحْطٍ، وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
(({سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أَيْ: يَجْتَهِدُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَوَاشِي تَتْلَفُ، وَتَنْقُصُ، وَتَقِلُّ بَرَكَتُهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ فِي الْمَعَاصِي، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ فَهُوَ يُبْغِضُ الْعَبْدَ الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ غَايَةَ الْبُغْضِ؛ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا حَسَنًا)).
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: هُوَ أَعْوَجُ الْمَقَالِ، سَيِّئُ الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ، كَلَامُهُ كَذِبٌ، وَاعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ، وَأَفْعَالُهُ قَبِيحَةٌ.
فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ -وَهُوَ: مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ-، وَالنَّسْلِ -وَهُوَ : نِتَاجُ الْحَيَوَانَاتِ- اللَّذَيْنَ لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا .
قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؛ مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ، فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ)).
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
أَخْبَرَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ نَعِيمَ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ تَكَبُّرًا عَنِ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَجَبُّرًا عَنْهُ، وَلَا فَسَادًا، وَلَا ظُلْمَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعَمَلًا بِمَعَاصِي اللهِ فِيهَا ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
تِلْكَ الْجَنَّةُ الْبَعِيدَةُ الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ، الْمُرْتَفِعَةُ الْمَنْزِلَةِ نَجْعَلُ نَعِيمَهَا مُسْتَقْبَلًا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ بِتَحْقِيقِ حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَيَنْشُرُونَ الْفَاحِشَةَ، وَيَطْرَحُونَ الشُّبُهَاتِ، وَيُفْسِدُونَ الْأَخْلَاقَ وَالْقِيَمَ وَالْآدَابَ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
((مَعْنَى الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ))
الْفَسَادُ: مَصْدَرُ فَسَدَ يَفْسُدُ فَسَادًا، وَهُوَ ضِدُّ الْإِصْلَاحِ.
فَسَدَ الشَّيْءُ: يَفْسُدُ فَسَادًا، وَهُوَ فَاسِدٌ وَفَسِيدٌ .
قَالَ اللَّيْثُ: «الْفَسَادُ نَقِيضُ الصَّلَاحِ، وَالْفِعْلُ فَسَدَ يَفْسُدُ فَسَادًا، وَلُغَةٌ أُخْرَى: فَسَدَ فُسُودًا» ، «وَاسْتَفْسَدَ السُّلْطَانُ قَائِدَهُ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ حَتَّى اسْتَعْصَى عَلَيْهِ» .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205]: ((اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الإِفْسَادِ الَّذِي أَضَافَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ مَا قُلْنَا فِيهِ مِنْ قَطْعِهِ الطَّرِيقَ، وَإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: قَطْعُ الرَّحِمِ، وَسَفْكُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَد يَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ جَمِيعُ الْمَعَاصِي؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَعَاصِي إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يُخَصِّصِ اللهُ وَصْفَهُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْإِفْسَادِ دُونَ بَعْضٍ)).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205].
((قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ، وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا تَضُمُّ كُلَّ فَسَادٍ فِي أَرْضٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ دِينٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى)).
قِيلَ: مَعْنَى {لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} أَيْ: لَا يُحِبُّهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، أَوْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى: لَا يَأْمُرُ بِهِ)).
وَقَدْ وَرَدَتْ كَلِمَةُ الْفَسَادِ بِمُشْتَقَّاتِهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الْمَعْصِيَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ}.
وَمِنْهَا: الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. [الأنبياء: 22].
وَمِنْهَا: الْخَرَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}. [النمل: 34].
وَمِنْهَا: الْمُنْكَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ}. [هود: 116].
وَمِنْهَا: السِّحْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}. [يونس: 81].
((نَمَاذِجُ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ))
لَقَدْ سَاقَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَمْثِلَةً وَنَمَاذِجَ لِأُنَاسٍ خَالَفُوا مَنْهَجَ اللهِ، فَوَصَفَهُمْ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ: فِرْعَوْنُ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ}: فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَجُنُودِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْعُلُوِّ فِيهَا، لَا مِنَ الْأَعْلَيْنَ فِيهَا، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أَيْ: طَوَائِفَ مُتَفَرِّقَةً، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ بِشَهْوَتِهِ، وَيُنَفِّذُ فِيهِمْ مَا أَرَادَ مِنْ قَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}: وَتِلْكَ الطَّائِفَةُ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ، الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِمَهُمْ وَيُجِلَّهُمْ؛ وَلَكِنَّهُ اسْتَضْعَفَهُمْ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ رَأَى أَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِمَّا أَرَادَهُ فِيهِمْ، فَصَارَ لَا يُبَالِي بِهِمْ، وَلَا يَهْتَمُّ بِشَأْنِهِمْ، وَبَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنَّهُ {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكْثُرُوا، فَيَغْمُرُوهُ فِي بِلَادِهِ، وَيَصِيرَ لَهُمُ الْمُلْكُ.
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الَّذِينَ لَا قَصْدَ لَهُمْ فِي صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَا صَلَاحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ إِفْسَادِهِ فِي الْأَرْضِ.
وَيَقُولُ -تَعَالَى- فِي حَقِّ عَادٍ، وَثَمُودَ، وَفِرْعَوْنَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6-14].
يَقُولُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ بِقَلْبِكَ وَبَصِيرَتِكَ كَيْفَ فَعَلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الطَّاغِيَةِ، وَهِيَ إِرَمُ: الْقَبِيلَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الْيَمَنِ {ذَاتِ الْعِمَادِ} أَيِ: الْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَالْعُتُوِّ وَالتَّجَبُّرِ، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أَيْ: فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ ، كَمَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ هُودٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أَيْ: وَادِي الْقُرَى، نَحَتُوا بِقُوَّتِهِمِ الصُّخُورَ، فَاتَّخَذُوهَا مَسَاكِنَ، {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أَيْ: ذِي الْجُنُودِ الَّذِينَ ثَبَّتُوا مُلْكَهُ كَمَا تُثَبِّتُ الْأَوْتَادُ مَا يُرَادُ إِمْسَاكُهُ بِهَا، {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} هَذَا الْوَصْفُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ، وَثَمُودَ، وَفِرْعَوْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ طَغَوْا فِي بِلَادِ اللَّهِ، وَآذَوْا عِبَادَ اللَّهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}: وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْكُفْرِ وَشُعَبِهِ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْمَعَاصِي، وَسَعَوْا فِي مُحَارَبَةِ الرُّسُلِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغُوا مِنَ الْعُتُوِّ مَا هُوَ مُوجِبٌ لِهَلَاكِهِمْ؛ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِهِ ذَنُوبًا وَسَوْطَ عَذَابٍ، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لِمَنْ يَعْصِيهِ، يُمْهِلُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ الْيَهُودِ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ لِيَكِيدُوا بِهَا الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَبْدَوْا وَأَعَادُوا، وَأَجْلَبُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ؛ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِخِذْلَانِهِمْ، وَتَفَرُّقِ جُنُودِهِمْ، وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أَيْ: يَجْتَهِدُونَ وَيَجِدُّونَ؛ وَلَكِنْ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، بِعَمَلِ الْمَعَاصِي، وَالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ، وَالتَّعْوِيقِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بَلْ يَبْغُضُهُمْ أَشَدَّ الْبُغْضِ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَيَقُولُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: إِذَا تَكَلَّمَ رَاقَ كَلَامُهُ لِلسَّامِعِ، وَإِذَا نَطَقَ ظَنَنْتَهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ نَافِعٍ، وَيُؤَكِّدُ مَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، بِأَنْ يُخْبِرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ مُوَافِقٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، فَلَوْ كَانَ صَادِقًا لَتَوَافَقَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ؛ كَحَالِ الْمُؤْمِنِ غَيْرِ الْمُنَافِقِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أَيْ: إِذَا خَاصَمْتَهُ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ اللَّدَدِ وَالصُّعُوبَةِ وَالتَّعَصُّبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ مَقَابِحِ الصِّفَاتِ، لَيْسَ كَأَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا السُّهُولَةَ مَرْكَبَهُمْ، وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ وَظِيفَتَهُمْ، وَالسَّمَاحَةَ سَجِيَّتَهُمْ.
{وَإِذَا تَوَلَّى} هَذَا الَّذِي يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ؛ {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أَيْ: يَجْتَهِدُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَوَاشِي تَتْلَفُ وَتَنْقُصُ وَتَقِلُّ بَرَكَتُهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ فِي الْمَعَاصِي، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ فَهُوَ يَبْغُضُ الْعَبْدَ الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ غَايَةَ الْبُغْضِ؛ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا حَسَنًا.
وَقَدْ وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بَعْضَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهَا: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} فَلَعَلَّكُمْ {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقُرْآنِ، وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامَهُ {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}: تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالْبَغْيِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَتَرْجِعُوا إِلَى الْفُرْقَةِ بَعْدَمَا جَمَعَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} وَتُقَطِّعُوا: مِنَ التَّقْطِيعِ، عَلَى التَّكْثِيرِ؛ لِأَجْلِ الْأَرْحَامِ.
وَقَالَ فِي شَأْنِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].
((جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّهُ قَدْ أَوْلَى الْحَدِيثَ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ عِنَايَةً خَاصَّةً؛ وَذَلِكَ لِبَيَانِ ضَلَالِهِمْ، وَإِظْهَارِ خَطَرِهِمْ عَلَى الدِّينِ وَالْوَطَنِ، فَقَدْ أَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَهْلَ الْفَضْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَيُحَذِّرُونَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ؛ قَالَ لِهَارُونَ مُوصِيًا لَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَتِهِ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أَيْ: كُنْ خَلِيفَتِي فِيهِمْ، وَاعْمَلْ فِيهِمْ بِمَا كُنْتُ أَعْمَلُ، {وَأَصْلِحْ} أَيِ: اتَّبِعْ طَرِيقَ الصَّلَاحِ {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}: وَهُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي.
وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116].
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَلَّا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، الَّذِينَ أَهْلَكْتُهُمْ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّايَ، وَكُفْرِهِمْ بِرُسُلِي {مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ}: ذُو بَقِيَّةٍ مِنَ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ، يَعْتَبِرُونَ مَوَاعِظَ اللَّهِ وَيَتَدَبَّرُونَ حُجَجَهُ، فَيَعْرِفُونَ مَا لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَعَلَيْهِمْ فِي الْكُفْرِ بِهِ {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ}: يَنْهَوْنَ أَهْلَ الْمَعَاصِي عَنْ مَعَاصِيهِمْ، وَأَهْلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَنْ كُفْرِهِمْ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- صِفَاتِ الْمُفْسِدِينَ وَالْبُغَاةِ، وَمِنْهَا: الْكَذِبُ، وَالتَّدْلِيسُ، وَادِّعَاءُ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 10-11].
أَيْ: إِذَا نُهِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنْهُ: إِظْهَارُ سَرَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لِعَدُوِّهِمْ، وَمُوَالَاتُهُمْ لِلْكَافِرِينَ؛ {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَإِظْهَارِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِفْسَادٍ، بَلْ هُوَ إِصْلَاحٌ؛ قَلْبًا لِلْحَقَائِقِ، وَجَمْعًا بَيْنَ فِعْلِ الْبَاطِلِ، وَاعْتِقَادِهِ حَقًّا، وَهَذَا أَعْظَمُ جِنَايَةٍ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ، فَهَذَا أَقْرَبُ لِلسَّلَامَةِ، وَأَرْجَى لِرُجُوعِهِ.
وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} حَصْرٌ لِلْإِصْلَاحِ فِي جَانِبِهِمْ -وَفِي ضِمْنِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِصْلَاحِ-؛ قَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}؛ فَإِنَّهُ لَا أَعْظَمَ فَسَادًا مِمَّنْ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَصَدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَادَعَ اللَّهَ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَوَالَى الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَعَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا إِصْلَاحٌ؛ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْفَسَادِ فَسَادٌ؟!!
وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَنْفَعُهُمْ؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عِلْمًا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي فِي الْأَرْضِ إِفْسَادًا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالثِّمَارِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالنَّبَاتِ، بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْآفَاتِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي، وَلِأَنَّ الْإِصْلَاحَ فِي الْأَرْضِ أَنْ تُعَمَّرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، لِهَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَأَسْكَنَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَدَرَّ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَإِذَا عُمِلَ فِيهَا بِضِدِّهِ؛ كَانَ سَعْيًا فِيهَا بِالْفَسَادِ فِيهَا، وَإِخْرَابًا لَهَا عَمَّا خُلِقَتْ لَهُ.
((مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا يَكُونُ بِعِصْيَانِ اللهِ فِيهَا، وَالسَّيْرِ وَرَاءَ الْأَهْوَاءِ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].
((وَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالظُّلْمِ، وَالْكُفْرِ، وَالْفَسَادِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ لِفَسَادِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الظُّلْمِ وَعَدَمِ الْعَدْلِ، فَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مَا اسْتَقَامَتَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151-152].
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُتَجَاوِزِينَ حَدَّ الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِتَصَرُّفَاتِهِمُ الْآثِمَةِ الظَّالِمَةِ.
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي وَصُوَرُ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جُمْلَةً مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [البقرة: 26-27].
((يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} أَيْ: أَيَّ مَثَلٍ كَانَ {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}؛ لِاشْتِمَالِ الْأَمْثَالِ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَإِيضَاحِ الْحَقِّ، وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.
وَكَأَنَّ فِي هَذَا جَوَابًا لِمَنْ أَنْكَرَ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ، وَاعْتَرَضَ عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحَلُّ اعْتِرَاضٍ، بَلْ هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ تُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالشُّكْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} فَيَفْهَمُونَهَا، وَيَتَفَكَّرُونَ فِيهَا.
فَإِنْ عَلِمُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ؛ ازْدَادَ بِذَلِكَ عِلْمُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ؛ وَإِلَّا عَلِمُوا أَنَّهَا حَقٌّ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ حَقٌّ؛ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ وَجْهُ الْحَقِّ فِيهَا؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضْرِبْهَا عَبَثًا، بَلْ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَنِعْمَةٍ سَابِغَةٍ.
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فَيَعْتَرِضُونَ وَيَتَحَيَّرُونَ، فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ، كَمَا ازْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}، فَهَذِهِ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}، فَلَا أَعْظَمَ نِعْمَةً عَلَى الْعِبَادِ مِنْ نُزُولِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا تَكُونُ لِقَوْمٍ مِحْنَةً، وَحَيْرَةً، وَضَلَالَةً، وَزِيَادَةَ شَرٍّ إِلَى شَرِّهِمْ، وَلِقَوْمٍ مِنْحَةً، وَرَحْمَةً، وَزِيَادَةَ خَيْرٍ إِلَى خَيْرِهِمْ، فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَانْفَرَدَ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ!
ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ فِي إِضْلَالِ مَنْ يُضِلُّ، فَقَالَ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أَيِ: الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، الْمُعَانِدِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ، الَّذِينَ صَارَ الْفِسْقُ وَصْفَهُمْ، فَلَا يَبْغُونَ بِهِ بَدَلًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى إِضْلَالَهُمْ؛ لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِمْ لِلْهُدَى، كَمَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَفَضْلُهُ هِدَايَةَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَتَحَلَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْفِسْقُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مُخْرِجٌ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ الْفِسْقُ الْمُقْتَضِي لِلْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ؛ كَالْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، وَنَوْعٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةَ .
ثُمَّ وَصَفَ الْفَاسِقِينَ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وَهَذَا يَعُمُّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَالَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، الَّذِي أَكَّدَهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَوَاثِيقِ الثَّقِيلَةِ وَالْإِلْزَامَاتِ، فَلَا يُبَالُونَ بِتِلْكَ الْمَوَاثِيقِ، بَلْ يَنْقُضُونَهَا، وَيَتْرُكُونَ أَوَامِرَهُ، وَيَرْتَكِبُونَ نَوَاهِيَهُ، وَيَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَصِلَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَتَعْزِيرِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَسَائِرِ الْخَلْقِ بِالْقِيَامِ بِتِلْكَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ نَصِلَهَا.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ؛ فَوَصَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ، وَقَامُوا بِهَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، وَأَمَّا الْفَاسِقُونَ؛ فَقَطَعُوهَا، وَنَبَذُوهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ مُعْتَاضِينَ عَنْهَا بِالْفِسْقِ، وَالْقَطِيعَةِ، وَالْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي، وَهُوَ: الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ {أُولَئِكَ} أَيْ: مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ {هُمُ الْخَاسِرُونَ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَحَصَرَ الْخَسَارَةَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ خُسْرَانَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ شَرْطُهُ الْإِيمَانُ، فَمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ لَا عَمَلَ لَهُ، وَهَذَا الْخَسَارُ هُوَ خَسَارُ الْكُفْرِ، وَأَمَّا الْخَسَارُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَقَدْ يَكُونُ تَفْرِيطًا فِي تَرْكِ مُسْتَحَبٍّ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}؛ فَهَذَا عَامٌّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ؛ إِلَّا مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَحَقِيقَتُهُ فَوَاتُ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ بِصَدَدِ تَحْصِيلِهِ وَهُوَ تَحْتَ إِمْكَانِهِ)).
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 30-32].
فِي أَوَّلَ مَا ذَكَرَ مَلَائِكَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً؛ ذَكَرُوا إِفْسَادَهُ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ فِيهَا –يَسْتَعْلِمُونَ.. يَسْتَوْضِحُونَ، لَا يَعْتَرِضُونَ، حَاشَا للهِ أَنْ يَعْتَرِضُوا، وَإِنَّمَا هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَسْتَحْسِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَلَا يَكِلُّونَ، وَلَا يَتْعَبُونَ-، فَقَالُوا: إِنَّهُ سَيُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ يَتَّخِذُ صُوَرًا شَتَّى.
((مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ:
الشِّرْكُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
إِنَّ صُوَرَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَأَعْظَمُهَا وَأَخْطَرُهَا: الشِّرْكُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَدَى قُبْحِ الشِّرْكِ، وَحَذَّرَ مِنْ مَفَاسِدِهِ.
*فَالشِّرْكُ بِاللهِ -تَعَالَى- أَكْبَرُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَمَا قَالَ ﷺ: ((لَاْ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ -أَيْضًا- .
*وَالشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
فَالْمُشْرِكُ مُمَزَّقُ الِاتِّجَاهِ وَالْقُوَى، حَائِرٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى نَهْجٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقٍ.
وَحَالَةُ التَّمَزُّقِ وَالضَّيَاعِ وَالِانْهِيَارِ وَالْقَلَقِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُشْرِكَ فِي كِيَانِهِ، عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَاقِبُ اللهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
فَالْمُشْرِكُ ضَائِعٌ ذَاهِبٌ، يَهْوِي مِنْ شَاهِقٍ، فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ يَتَمَزَّقُ، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَقْذِفُ بِهِ الرِّيحُ بَعِيدًا عَنِ الْأَنْظَارِ فِي هُوَّةٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ مَنْ هَوَى مِنْ أُفُقِ الْإِيمَانِ السَّامِقِ؛ حَرِيٌّ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْبَوَارِ وَالِانْطِوَاءِ!!
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَالَ الْمُشْرِكِ، وَحَيْرَتَهُ وَتَمَزُّقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
*عِبَادَ اللهِ! الشِّرْكُ مَبْعَثُ الْمَخَاوِفِ وَالْأَوْهَامِ، وَفِي جَوِّ الشِّرْكِ تَرُوجُ الْخُرَافَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ، وَيَنْتَشِرُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ، وَيَغْلِبُ الرُّعْبُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
*وَالشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْخُسْرَانِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
فَأَعْمَالُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى، وَلَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا؛ قَالَ ﷺ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِأَنَّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رَأَتْ أَمْرًا، أَوْ عَلِمَتْهُ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِنْهُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ قَائِلَةً: يَا رَسُولَ اللهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ؛ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟
قَالَ: ((لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي «صَحِيحِهِ: بَابٌ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ)).
وَقَدْ ذَكَر اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ((سُورَةِ الْأَنْعَام)) ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلَّمَ-؛ ذَكَرَهُمْ -تَعَالَى- فِي نَسَقٍ، ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
*وَالشِّرْكُ يَطْمِسُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَتُصْبِحُ أَعْمَالُ الْمُشْرِكِ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً؛ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].
*وَالشِّرْكُ يَمْحَقُ عِزَّةَ النَّفْسِ، وَيُورِثُ الْمَهَانَةَ وَالذُّلَّ؛ فَالْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ} [المنافقون: 8].
((فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الشِّرْكَ إِذَا خَالَطَ الْعِبَادَةَ أَفْسَدَهَا، وَأَحْبَطَ الْعَمَلَ، وَصَاَر صَاحِبُهُ مِنَ الْخَالِدِينَ فِي النَّارِ؛ عَرَفْتَ أَنَّ أَهَمَّ مَا عَلَيْكَ هُوَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ هَذِهِ الشَّبَكَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللهِ، الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ})) .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ للهِ، وَأَنَّ إِفْرَادَ الْعِبَادَةِ للهِ؛ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ تَعْرِفَ مَا هُوَ الشِّرْكُ؟
وَذَلِكَ لِكَيْ لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَذَّرَ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وكَمَا أَنَّ أَعْظَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ: التَّوْحِيدُ، فَأَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ: الشِّرْكُ.
وَهَذَا الْخَطَرُ الْعَظِيمُ تَحْرُمُ بِهِ الْجَنَّةُ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
فَيَجِبُ -إِذَنْ- أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الشِّرْكَ نَجَاسَةٌ لِلْقُلُوبِ، الشِّرْكُ يُنَجِّسُ الْقُلُوبَ، وَيُحْبِطُ الْعِبَادَةَ جَمِيعًا؛ سَوَاءٌ جَاءَتْ مِنَ الْقَلْبِ، أَوْ مِنَ اللِّسَانِ، أَوْ مِنَ الْجَوَارِحِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. [المدثر: 4-5].
وَنَحْنُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُشْرِكَ مَهْمَا تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعِبَادَةٍ؛ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَحَابِطَةٌ، لَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهَا شَيْئًا مَا دَامَتِ الْعِبَادَةُ مَمْزُوجَةً بِالشِّرْكِ.
يَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ مَحَبَّةً وَذُلًّا، وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَيَنْهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ -لَا شِرْكًا أَصْغَرَ، وَلَا أَكْبَرَ- لَا مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.
بَلِ الْوَاجِبُ -عِبَادَ اللهِ- الْمُتَعَيَّنُ: إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِمَنْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَهُ التَّدْبِيرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَشْرَكُهُ وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
عِبَادَ اللهِ! الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ الْيَوْمَ -إِلَّا قَلِيلًا- فِيهِ الْمَشَاهِدُ الشِّرْكِيَّةُ الَّتِي شُيِّدَتْ عَلَى الْقُبُورِ، وَعِنْدَهَا شِرْكٌ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، يُعْبَدُ الْأَمْوَاتُ، وَيُتَقَرَّبُ إِلَى الْقُبُورِ!!
وَمِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ -بِزَعْمِهِمْ- يَنْتَقِصُ الْأَوْلِيَاءَ!!
وَالدُّعَاةُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ -فِي الْجُمْلَةِ- لَا يَهْتَمُّونَ بِأَمْرِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْأَخْلَاقِ الطَّيِّبَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الزِّنَا، وَتَرْكِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهِيَ كَبَائِرُ مُحَرَّمَاتٌ بِلَا شَكٍّ.
وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَ النَّاسُ الزِّنَا، وَشُرْبَ الْخُمُورِ، وَحَسَّنُوا أَخْلَاقَهُمْ، وَتَرَكُوا الرِّبَا، وَلَمْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ؛ فَأَسَاسُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَدِينُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَلَوْ تَرَكُوا الْكَبَائِرَ -مَا دَامَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الشِّرْكَ-، وَحَتَّى مَنْ لَمْ يُشْرِكْ مَا دَامَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الشِّرْكَ، وَلَا يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
هَذَا تَنْزِيهٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فَالْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدُ لَا يَصِحُّ تَوْحِيدُهُ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى الشِّرْكِ يَعُجُّ فِي بَلَدِهِ، وَالْأَضْرِحَةِ تُشَيَّدُ فِيهَا، وَيُطَافُ بِالْقُبُورِ، وَيُسْأَلُ الْمَقْبُورُونَ حَتَّى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ.
فَلَا يَسَعُ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ الْخَطِيرِ الَّذِي يَفْتِكُ بِجَسَدِ الْأُمَّةِ، وَيَقُولُ: أَدْعُو النَّاسَ إِلَى حُسْنِ السِّيرَةِ وَالسُّلُوكِ، وَتَرْكِ الْخُمُورِ، وَتَرْكِ الزِّنَا!!
مَاذَا تَنْفَعُ هَذِهِ إِذَا فُقِدَ ذَلِكَ الْأَسَاسُ؟!!
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتَهُ؛ وَضَعَ أَسَاسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِأَسَاسِ بَيْتِهِ، وَلَا بِقَوَاعِدِ بِنَائِهِ؛ فَمَهْمَا شَيَّدَ وَجَمَّلَ، وَحَسَّنَ وَنَمَّقَ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَيَكُونُ خَطِرًا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي لَمْ يُشَيَّدْ عَلَى أَسَاسٍ.
كَذَلِكَ الدِّينُ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَسَاسٍ سَلِيمٍ، وَتَوْحِيدٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتَنْزِيهٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَإِبْعَادٍ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوْطِنِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ يَكُونُ وَاهِيًا سَرْعَانَ مَا يَتَهَاوَى.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْهَا، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلِهَا بَعْدَ الشِّرْكِ بِاللهِ: هُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ كَبِيرٌ، وَهُوَ أَمْرٌ جَلَلٌ، وَجَرِيمَةٌ مُنْكَرَةٌ شَنِيعَةٌ حَذَّرَ مِنْهَا رَبُّنَا -تَعَالَى-، وَحَذَّرَ مِنْهَا نَبِيُّنَا ﷺ ، إِنَّ احْتِرَامَ دِمَاءِ النَّاسِ، وَاحْتِرَامَ أَمْوَالِهِمْ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ اللهِ كُلُّهَا، وَأَكْمَلُهَا شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ القَتْلِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وَقَالَ ﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ -أَيْ: نَصِيبٌ- مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» .
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ رَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى ﷺ إِنَّهُ قَالَ لِلخَضِرِ:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكَهْف:74].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [القصص: 15- 16].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
فَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهَمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَا تَحِلُّ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ اللهِ ورَسُولِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا؛ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟
قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا؛ سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغِيْرِ حِلِّهِ)).
وَالْوَرْطَاتُ: جَمْعُ وَرْطَةٍ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي قَلَّ مَا يَنْجُو مِنْهُ أَوْ هِيَ الْهَلَاكُ، ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا -أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا- سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ -أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ يُبِيحُ الْقَتْلَ-)).
فَهَذَا كُلُّهُ تَشْدِيدٌ فِي الدِّمَاءِ، وَبَيَانٌ عَظِيمٌ لِحُرْمَتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ؛ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ؛ إِذَا قُتِلَ خَطَأً؛ فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!
إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ، وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».
فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَان-.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
نَشْرُ الْبِدْعَةِ))
مِنَ الصُّوَرِ الْخَطِيرَةِ لِلْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ: الِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللهِ وَنَشْرُ الْبِدَعِ؛ فَالْبِدَعُ كُلُّهَا ضَلَالَاتٌ وَزَيْغٌ، وَالشُّؤْمُ لَاحِقٌ الْمُبْتَدِعَ حَالًا وَمَآلًا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور :63].
وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ فِي قَلْبِهِ؛ فَيَزِيغَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَكْفُرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَيَفْسَدَ قَلْبُهُ بِزَيْغٍ وَضَلَالٍ، فَلَا يَهْتَدِي لِلْحَقِّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا.
الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، أَوِ الْمَرَضِ، أَوِ الْهَلَاكِ الَّذِي يَحِلُّ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ.
وَالْعَذَابُ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِيمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ؛ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه فَهُوَ رَدٌّ» يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
يَعْنِي: مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ؛ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَوَابًا مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ.
إِنَّ نَشْرَ الْبِدَعِ، وَتَوْقِيرَ الْمُبْتَدِعِينَ إِعَانَةٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا ذَكَرَ الْمَدِينَةَ -زَادَهَا اللهُ شَرَفًا- قَالَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) .
((فَالْإِيوَاءُ يُجَامِعُ التَّوْقِيرَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَالتَّوْقِيرَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهُ لِأَجْلِ بِدْعَتِهِ، وَالشَّرْعُ يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ، وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنْ الْعَمَلِ بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمُفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ بِالْهَدْمِ عَلَى الْإِسْلَامِ:
إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْعَامَّةِ وَالْجُهَّالِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ؛ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ)).
وَمِنْ وُجُوهِ إِفْسَادِ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ: أَنَّهُ يُفَرِّقُ الْأُمَّةَ، وَيُمَزِّقُ وَحْدَتَهَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعًا، وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
عِبَادَ اللهِ! لَا رَفْعَ لِلذُّلِّ وَلَا عَوْدَةَ لِلْعِزِّ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
ارْتِكَابُ الْمَعَاصِي))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ تَعَالَى تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، وَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ».
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَفِي غَيْرِهِمَا.
((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ)): وَهِيَ السِّلْعَةُ تَدْخُلُ بَيْنَ أَخْذٍ وَعَطَاءٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي نَظِيرِ الْأَجَلِ بِلَا مُقَابِلٍ، وَهِيَ حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَشْتَرِي سِلْعَةً بِأَلْفٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِمَّنْ بَاعَهَا لَهُ بِثَمَانِمِئَةٍ -مَثَلًا- نَقْدًا فِي الْحَالِ، فَيَأْخُذُ ثَمَانِمِئَةٍ وَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ أَلْفٌ، فَدَخَلَتِ السِّلْعَةُ وَخَرَجَتْ -حِيلَةً- مِنْ أَجْلِ تَحْلِيلِ الرِّبَا، وَهَيْهَاتَ!!
إِذَا فَسَدَتْ حَيَاتَكُمْ الِاقْتِصَادِيَّةُ، ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ)).
((وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ)): فَصِرْتُمْ تَابِعِينَ حَتَّى لِلْبَقَرِ، وَانْحَطَّتْ هِمَمُكُمْ، ((وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).
فَجَعَلَ رَفْعَ الذُّلِّ مَرْهُونًا بِالرُّجُوعِ إِلَى الدِّينِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
قَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ الدِّينَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْلُكُ إِلَى هَذَا الدِّينِ السَّبِيلَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا وَلَا يُرْفَعُ الذُّلُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا بُدَّ مْنْ مَعْرِفَةِ الدِّينِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ السَّبِيلِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ.
فَإِذَا تَحَصَّلَ الْمُجْتَمَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ رَفَعَ اللهُ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّلِّ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عِزِّهِ وَعِزَّتِهِ، وَرِفْعَتِهِ وَسُؤْدُدِهِ وَمَجْدِهِ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَ اللهِ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ تَعَالَى بِأَسْبَابِ سَخَطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.
فَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّرَ كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ أَسَاءَ السُّوأَىٰ -وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ-.
أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا -يَعْنِي: هَمَّ الْمَعَادِ-؛ كَفَاهُ اللهُ سَائِرَ هُمُومِهِ، وَمَنْ تَشَعَبَّتْ بِهِ الْهُمُومُ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» .
مَنْ وَحَّدَ؛ وَحَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ سَبِيلَهُ، وَأَقَامَ لَهُ حُجَّتَهُ، وَأَنَارَ لَهُ صِرَاطَهُ، وَهَدَى قَلْبَهُ، وَسَدَّدَ لِسَانَهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ كَانَ اللهُ لَهُ فَمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ؟!! وَمَنْ تَخَلَّى اللهُ عَنْهُ فَمَنْ ذَا يَدْفَعُ عَنْهُ؟!!
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ؛ جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً، وَمَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الدُّنْيَا؛ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ».
الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
((مَنْ كَانَتْ هَمَّهُ الْآخِرَةُ))، فَجَمَعَ عَلَيْهَا قُوَاهُ، وَاسْتَعَدَّ لَهَا بِكُلِّيَّتِهِ، وَصَارَ عَلَيْهَا مُقْبِلًا، وَعَنْ سِوَاهَا مُدْبِرًا؛ ((جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ))، ((وَالْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)) -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ-، كَمَا أَنَّ الْفَقْرَ فَقْرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ.
((وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً))، فَيَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ، وَكَذَا شَأْنُ الصَّالِحِينَ.
وَأَمَّا الطَّالِحُونَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا تَكُونُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَهْمَا امْتَلَأَتْ بِهَا أَيْدِيهِمْ لَا تَشْبَعُ مِنْهَا نُفُوسُهُمْ؛ كَالَّذِي يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ شُرْبَ الْهِيمِ حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ، وَلَا يُرْوَى بِحَالٍ أَبَدًا.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ: الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}؛ فَهَذَا حَالُنَا!!
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ ذَنْبًا؛ أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ عُقُوبَةً؛ فَالْمَعَاصِي تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَفِي الْهَوَاءِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ وَالنُّفُوسِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ وَحَرَكَةِ الْحَيَاةِ.
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ سَبَبًا لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ، وَحُلُولِ عِقَابِهِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
أَيْ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَقِيلَ: سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ فَفَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
إِنَّ النَّاسَ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ؛ هَانُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا هَانُوا عَلَيْهِ تَرَكَهُمْ، وَمَنْ تَرَكَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ أَعْظَمُ عُقُوبَةٍ وَأَكْبَرُهَا؛ إِذْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَحَاطَ الْعَبْدَ بِكَلَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ؛ فَقَدْ شَمِلَهُ بِرَحْمَتِهِ.
وَإِذَا تَخَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْعَبْدِ؛ صَارَ فِي الضَّلَالِ فِي كُلِّ وَادٍ، ثُمَّ إِنَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّنْغِيصِ فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ مَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَهَذِهِ حَيَاةُ النَّكَدِ الصِّرْفِ، وَلَا يَصِحُّ لِلْقَلْبِ حَيَاةٌ حَتَّى يَعْرِفَ الْقَلْبُ رَبَّهُ، وَحَتَّى يُحِبَّهُ، وَحَتَّى يَتِمَّ الْحُبُّ عَلَى تَمَامِهِ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ للهِ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ عَبْدًا للهِ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
نَشْرُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ))
إِنَّ مِنْ أَشْنَعِ صُوَرِ الْفَسَادِ: نَشْرَ الْمُنْكَرَاتِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهَا، وَنَشْرَ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَحْبِيبَهُمْ لَهَا، وَتَذْلِيلَ الصُّعُوبَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُهَا، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116].
((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- إِهْلَاكَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مُنْحَرِفُونَ؛ حَتَّى أَهْلُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْضِي عَلَى الْأَدْيَانِ بِالذَّهَابِ وَالِاضْمِحْلَالِ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ لَا أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَدْعُونَ إِلَى الْهُدَى، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ وَالرَّدَى، فَحَصَلَ مِنْ نَفْعِهِمْ، وَأُبْقِيَتْ بِهِ الْأَدْيَانُ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَلِيلُونَ جِدًّا.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ نَجَوْا بِاتِّبَاعِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَقِيَامِهِمْ بِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ دِينِهِمْ، وَبِكَوْنِ حُجَّةِ اللَّهِ أَجْرَاهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)).
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
(({إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيِ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ، فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ؛ وَذَلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ، وَلِاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ؟!!
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْفَاحِشَةُ صَادِرَةً أَوْ غَيْرَ صَادِرَةٍ.. وَكُلُّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَصِيَانَةِ أَعْرَاضِهِمْ كَمَا صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي الْمُصَافَاةَ، وَأَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ فَلِذَلِكَ عَلَّمَكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَجْهَلُونَهُ.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: قَدْ أَحَاطَ بِكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ {وَرَحْمَتُهُ} عَلَيْكُمْ {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}؛ لَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْمَوَاعِظَ وَالْحِكَمَ الْجَلِيلَةَ، وَلَمَا أَمْهَلَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ.
وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ اللَّازِمُ أَثَّرَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مَا لَنْ تُحْصُوهُ أَوْ تَعُدُّوهُ)).
الْمُجْتَمَعُ إِذَا مَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا مَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهُ فِي الْحَمْأَةِ الْوَبِيلَةِ، الْمُجْتَمَعُ إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْفَاحِشَةُ؛ انْهَارَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي دَاخِلٍ وَخَارِجٍ أَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا بِالْمُوَاجَهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ذَا بَالٍ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيزُ كُلُّهُ عَلَى بَثِّ الشُّبُهَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى إِثَارَةِ نَوَازِعِ الْعَصَبِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبِإِثَارَةِ الشَّهَوَاتِ وَبَعْثِ النَّزَوَاتِ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَإِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ؛ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ لَا مَحَالَةَ.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
السِّحْرُ))
إِنَّ تَعَاطِيَ السِّحْرَ وَإِتْيَانَ السَّحَرَةِ مِنْ أَشْنَعِ صُوَرِ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَاعِلَهُ مُفْسِدًا، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
فَلَمَّا أَلْقَى السَّحَرَةُ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَسَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ؛ قَالَ لَهُمْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَاثِقًا بِنَصْرِ اللهِ لَهُ: الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ وَأَلْقَيْتُمُوهُ هُوَ السِّحْرُ الْبَاطِلُ الَّذِي يُخَيِّلُ لِأَعْيُنِ النَّاسِ تَخْيِيلًا، وَلَا يَقْلِبُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، إِنَّ اللهَ سَيُهْلِكُهُ، وَسَيُظْهِرُ فَضِيحَةَ صَاحِبِهِ، إِنَّكُمْ بِسِحْرِكُمْ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَعَ سَيِّدِكُمْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} بِتَخْرِيبِ الْعُمْرَانِ، وَقَتْلِ الْأَبْرِيَاءِ، وَظُلْمِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ.
وَالسِّحْرُ مُتَحَقِّقٌ وُقُوعُهُ وَوُجُودُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَقِيقَةً لَمْ تَرِدِ النَّوَاهِي عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، وَلَم يَرِد الْوَعِيدُ عَلَى فَاعِلِهِ وَالْعُقُوبَاتُ الدِّينِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ عَلَى مُتَعَاطِيهِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ أَمْرًا وَخَبَرًا.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ السِّحْرَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَارِضَ بِهِ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ- فِي الْعَصَا بَعْدَ أَنْ رَمَاهُ هُوَ وَقَوْمُهُ بِهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 34-37].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ذَمِّ الْيَهُودِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 101-102].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الْفَلَقِ: 4]، وَالنَّفَّاثَاتُ: هُنَّ السَّوَاحِرُ يَعْقِدْنَ وَيَنْفُثْنَ.
ثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وغيرها أَنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ وُجُودُهُ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ:
فَمِنْهُ مَا يُمْرِضُ، وَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ، وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ بِالْعُقُولِ، وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ!! لَكِنَّ تَأْثِيرَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ أَيْ: بِمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَخَلَقَهُ عِنْدَمَا يُلْقِي السَّاحِرُ مَا أَلْقَى.
فَالسِّحْرُ يُؤَثِّرُ بِمُوَافَقَتِهِ لِلْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَهَى عَنْهُ شَرْعًا، فَهَذَا الَّذِي يَكُونُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ كَوْنِيٌّ وَلَيْسَ بِتَقْدِيرِ شَرْعِيٍّ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ لِذَاتِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَقَدَرِهِ، وَخَلْقِهِ -تَعَالَى- وَتَكْوِينِهِ؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالسِّحْرُ مِنَ الشَّرِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 102]، وَهُوَ الْقَضَاءُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَمْ يَأْذَنْ بِذَلِكَ شَرْعًا.
وَكَمَا نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ السِّحْرِ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟)).
قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ: ((وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا؛ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَيَحْمِي الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ أَعْمَالِ السِّحْرِ وَالْمَسِّ وَالْحَسَدِ: بِالْأَخْذِ بِالتَّوكُّلِ عَلَى اللهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللهِ، وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ لَا يَمَسُّهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْرِي أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ إِلَّا بِقَدَرِ اللهِ، ثُمَّ بِالْأَخْذِ بِالْأَذْكَارِ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ، وَبِالصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَبِالْأَخْذِ بِخَتْمِ الصَّلَاةِ؛ مِنْ تِلَاوَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوِّذَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَعْظَمُ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ وَإِخْلَاصُ الْقَلْبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالسِّحْرِ وَيَمْتَهِنُونَهُ، وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّعْوَذَةِ وَالْمَخْرَقَةِ، وَمِنْهُمْ جُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّ السِّحْرَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتِيَ ثَمَرَاتِهِ الْمُرَّةَ إِلَّا إِذَا كَفَرَ السَّاحِرُ، وَهُوَ يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّمِهِ، عَلَّمَهُ أَمْ لَمْ يُعَلِّمْهُ، عَمِلَ بِهِ أَمْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ!
فَمَا أَكْثَرَ الْأَحْكَامَ الْعَظِيمَةَ فِي شَرْعِ اللهِ الْمُطَهَّرِ الَّتِي هِيَ غَائِبَةٌ عَنْ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَعْظَمَ الضَّرَرَ الَّذِي يُصِيبُ -بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْكَوْنِيِّ- كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَحْتَالُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مَعَ شَيَاطِينِ الْجِنِّ عَلَى إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَالسِّحْرُ -كَمَا مَرَّ- يَقْتُلُ، وَيُمْرِضُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَيُعْمِي، وَيُصِمُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ!!
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ))
إِنَّ مِنَ صُوَرِ الْفَسَادِ الْخَطِيرَةِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ: قَطْعَ الرَّحِمِ، وَإِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَقد بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ بَيَّنَ فِيمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ أَرْحَامَهُمْ وَيَهْجُرُونَ إِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، هَؤُلَاءِ لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ -أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ- عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ وَأَصْحَابَ الْقُوَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِخَرَابِ الْعُمْرَانِ الْحَضَارِيِّ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَفْكَارِهِمْ وَمَفْهُومَاتِهِمْ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ؛ لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضِكُمُ الشَّخْصِيَّةِ وَمَصَالِحِكُمُ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ النَّمِيمَةَ إِفْسَادًا؛ فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟)).
قَالُوا: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ)).
قَالَ: ((الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى)).
ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمُ؛ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ للْبُرَآءِ الْعَنَتَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
النَّمِيمَةُ تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ، وَالْبَغْضَاءُ تَؤُولُ إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ، وَلِذَلِكَ قِيلِ: ((مَنْ قَلَّ صِدْقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ)).
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
الْإِرْهَابُ زَعْزَعَةُ الْأَمْنِ وَإِشَاعَةُ الْفَوْضَى))
إِنَّ إِشَاعَةَ الْفَوْضَى، وَبَثَّ الْأَرَاجِيفِ، وَالْإِرْهَابَ، وَكُلَّ مَا يَتَسَبَّبُ فِي زَعْزَعَةِ أَمْنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ أَعْظَمِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ.. إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ
وَقَدْ سُئِلَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟
قَالَ: «الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ، وَأَمَّا إِذَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ فَإِنَّهَا مِنَ الْخَوْفِ تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ وَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَى أَنْ تَمُوتَ؛ فَالْأَمْنُ أَفْضَلُ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا تَتَعَافَى بَعْدَ الْمَرَضِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَحْوَذَ الْخَوْفُ عَلَيْهَا قَتَلَهَا. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ».
وَاللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَجَابَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ آمِنًا فَجَعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ قَالَ-: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» .
نِعْمَةُ الْأَمَانِ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللَّـهِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَكُلِّ النِّعَمِ تَتَطَلَّبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا.
فَالنِّعْمَةُ صَيْدٌ، والشُّكْرُ قَيْدٌ، وشُكْرُهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا بِالْقَلْبِ بَاطِنًا، وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَبِتَصْرِيفِهَا فِي مَرْضَاةِ الْمُنْعِمِ بِهَا وَالْمُسْدِيهَا.
وَمِنَ الْكُفْرِ بِهِذَهِ النِّعْمَةِ -نِعْمَةِ الْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ، نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي الدِّيَارِ- مِنَ الْكُفْرِ بِهَا-: الْعَبَثُ بِاسْتِقْرَارِ الْوَطَنِ وَأَمْنِهِ.
مِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: الْمُغَامَرَةُ بِمُسْتَقْبَلِ الْوَطَنِ، وَتَضْيِيعُ مَاضِيهِ.
مِنَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ: تَأْجِيجُ نِيرَانِ الْأَحْقَادِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَتَقْوِيضُ دَعَائِمِ بِنَائِهِ.
مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ: الْإِرْجَافُ، وَ«قَدْ تَوَعَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] أَيْ: مَرَضُ شَكٍّ أَوْ شَهْوَةٍ.
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أَيْ: الْمُخَوِّفُونَ الْمُرْهِبُونَ الْأَعْدَاءَ، الْمُتَحَدِّثُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَعْمُولَ الَّذِي يَنْتَهُونَ عَنْهُ؛ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّ مَا تُوحِي بِهِ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَتُوَسْوِسُ بِهِ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ مِنَ التَّعْرِيضِ بِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَأهْلِهِ، وَالْإِرْجَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَوْهِينِ قُوَاهُمْ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُؤْمِنَاتِ بِالسُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أَيْ: لَنَأْمُرَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَلَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا امْتِنَاعٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} أَيْ: لَا يُجَاوِرُونَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا قَلِيلًا، بِأَنْ تَقْتُلَهُمْ أَوْ تَنْفِيَهُمْ.
وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِنَفْيِ أَهْلِ الشَّرِّ، الَّذِينَ يُتَضَرَّرُ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَمُ لِلشَّرِّ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ، وَيَكُونُونَ {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} أَيْ: مُبْعَدِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، لَا يَحْصُلُ لَهُمْ أَمْنٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، يَخْشَوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُحْبَسُوا أَوْ يُعَاقَبُوا» .
إِنَّ الْأَرَاجِيفَ وَالشَّائِعَاتِ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ مَصَادِرَ شَتَّى وَمَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةٍ إِنَّمَا تَسْتَهْدِفُ التَّآلُفَ وَالتَّكَاتُفَ، وَتَسْعَى إِلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ وَالْأَحْقَادِ، وَنَشْرِ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْوِيجِ السَّلْبِيَّاتِ، وَتَضْخِيمِ الْأَخْطَاءِ.
الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ سِلَاحٌ بِيَدِ الْمُغْرِضِينَ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ وَالْعُمَلَاءِ، يَسْلُكُهُ أَصْحَابُهُ؛ لِزَعْزَعَةِ الثَّوَابِتِ، وَهَزِّ الصُّفُوفِ وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهَا.
وَالْمُرْجِفُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ الْكَاذِبَةَ، أَوْ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَقُدُرَاتِهِمْ، وَاسْتِحَالَةِ هَزِيمَتِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَخْذِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ حَيْثُمَا وُجِدُوا، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُوَاجَهَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّمَاعِ لَهُمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَإِشَاعَةِ تَخْوِيفَاتِهِمْ وَأَرَاجِيفِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- كَاشِفًا حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَمُبَيِّنًا أَثَرَهُمْ فِي الْإِرْجَافِ وَالتَّخْوِيفِ، وَالتَّعْوِيقِ وَالتَّخْذِيلِ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
فَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهُمْ فِي صَفِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا شَرًّا وَفَسَادًا، وَضَعْفًا وَهَوانًا، وَفِتْنَةً وَفُرْقَةً، وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ حِينَ يَكُونُ فِي الْمُسْلِمِينَ جَهَلَةٌ سُذَّجٌ، يَسْمَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَفْتُونِينَ، فَيَتَأَثَّرُونَ بِإشَاعَاتِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِتَخْوِيفَاتِهِمْ، وَيُصْبِحُونَ أَبْوَاقًا لَهُمْ، وَبَبَّغَاوَاتٍ يُرَدِّدُونَ أَرَاجِيفَهُمْ، وَيَنْشُرُونَ فِتَنَهُمْ، لِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ السَّاذَجِينَ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ، وَتَوْهِينِ عَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْعَابِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَلَاءِ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَأَكْبَرِ الْمَدَدِ لِأَعْدَائِهِمْ.
إِنَّ مِنْ أَشْنَعِ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ: تَرْوِيعَ الْآمِنِينَ، وَالِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.. إِنَّ التَّطَرُّفَ وَالْعُنْفَ وَالْإِرْهَابَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، لَهَا آثَارٌ فَاحِشَةٌ، وَفِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَظُلْمٌ لَهُ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصْدَرَيِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كِتَابَ اللهِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ الْعَظِيمِ ﷺ، فَلَنْ يَجِدَ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ مَعَانِي التَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ الَّذِي يَعْنِي الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْآخَرِينَ دُونَ وَجْهِ حَقٍّ.
الْإِرْهَابُ هُوَ: الْعُدْوَانُ الَّذِي يُمَارِسُهُ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ أَوْ دُوَلٌ بَغْيًا عَلَى الْإِنْسَانِ دِينِهِ وَدَمِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.
وَيَشْمَلُ صُنُوفَ التَّخْوِيفِ وَالْأَذَى وَالتَّهْدِيدِ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِصُوَرِ الْحِرَابَةِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُنْفِ أَوِ التَّهْدِيدِ يَقَعُ تَنْفِيذًا لِمَشْرُوعٍ إِجْرَامِيٍّ فَرْدِيٍّ أَوْ جَمَاعِيٍّ وَيَهْدِفُ إِلَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ تَرْوِيعِهِمْ بِإِيذَائِهِمْ، أَوْ تَعْرِيضِ حَيَاتِهِمْ أَوْ حُرِّيَّتِهِمْ أَوْ أَمْنِهِمْ أَوْ أَحْوَالِهِمْ لِلْخَطَرِ.
وَمِنْ صُنُوفِهِ: إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبِيئَةِ، أَوْ بِأَحَدِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَوْ تَعْرِيضِ أَحَدِ الْمَوَارِدِ الْوَطَنِيَّةِ أَوِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْخَطَرِ.
فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
وَلَقَدْ سَبَقَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ الْقَوَانِينِ فِي مُكَافَحَةِ الْإِرْهَابِ، وَحِمَايَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ مِنْ شُرُورِهِ، وَفِي مُقَدِّمَةِ ذَلِكَ حِفْظُ الْإِنْسَانِ، وَحِمَايَةُ حَيَاتِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَالِهِ وَدِينِهِ وَعَقْلِهِ، مِنْ خِلَالِ حُدُودٍ وَاضِحَةٍ مَنَعَ الإسلامُ مِنْ تَجَاوُزِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 225].
وَتَحْقِيقًا لِهَذَا التَّكْرِيمِ مَنَعَ الْإِسْلَامُ بَغْيَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَخِيهِ الْإِنْسَانِ، وَحَرَّمَ كُلَّ عَمَلٍ يُلْحِقُ الظُّلْمَ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33].
وَشَنَّعَ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّاسَ فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُحَدِّدْ ذَلِكَ فِي دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 205-206].
وَأَمَرَ بِالِابْتِعَادِ عَنْ كُلِّ مَا يُثِيرُ الْفِتَنَ، وَحَذَّرَ مِنْ مَخَاطِرِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
أَمَّا الْفَوْضَى الَّتِي لَا تُفِيدُ، بَلْ لَا تَزِيدُ الْأُمُورَ إِلَّا شَرًّا فَلَيْسَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ.
مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ: التَّخْرِيبُ، وَالتَّحْرِيقُ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، يَقُومُ بِهِ مَنْ يَقُومُ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْجَمَاعَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ مِنَ الْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ التَّكْفِيرِيِّينَ مِنَ الْقُطْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الْمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ الْبَاغِينَ لِهَذَا الْوَطَنِ الضَّيَاعَ وَالسُّقُوطَ فِي هَاوِيَةٍ لَا قَرَارَ لَهَا!!
الَّذِي يُفَكِّرُ بِعَقْلِهِ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى الْمَآلَاتِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَنْظُرُ إِلَّا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَهَذَا حَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَسْقُطَ فِي هُوَّةٍ بِلَا قَرَارٍ، وَأَنْ يَذْهَبَ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْهِ!!
الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمَآلَاتِ هُوَ الَّذِي يُعْمِلُ عَقْلَهُ حَقًّا.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
الْخُرُوجُ عَلَى الْحُكَّامِ))
إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ وَالْفَوْضَى: الْخُرُوجَ عَلَى الْحُكَّامِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ، دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)).
فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)).
وَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِإِمَامٍ جَائِرٍ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ يُوجِبُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ.
فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
وَهَذَا الْحَقُّ لِلْإِمَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺمِنْهَا:
- حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ؛ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَذَلِكَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟
قَالَﷺ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّﷺ: ((أَثَرَةٌ)): هِيَ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ عَمَّنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَتَعَلُّقٌ بِالْأَمْوَالِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)): أَيْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ؛ إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، وَإِمَّا بِإِحْدَاثِ الْبِدَعِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: ((فِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ، بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ، وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).
*وَنَهَى الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ عَنْ سَبِّ الْأُمَرَاءِ وَإِهَانَتِهِمْ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرِء طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)).
فَأَمَّا الْغَرْبِيُّونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ الْمُسْلِمُونَ، وَالضُلَّالُ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَيَقُولُونَ: تُرِيدُونَ تَقْدِيسَ الْبَشَرِ، وَعِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!
إِنَّمَا الرَّئِيسُ أَوِ الْإِمَامُ أَوْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَوِ الْحَاكِمُ عِنْدَ -هَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ- مُوَظَّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحَاسَبَ، وَأَنْ يُرَاجَعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَلَيْسَ بِوَلِيِّ أَمْرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ وَلِيُّ أَمْرٍ، وَقَدْ غَابَ!!
هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ -النَّهِيُ عَنْ سَبِّهِمْ، عَنِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، عَنْ شَتْمِهِمْ، عَنْ إِهَانَتِهِمْ- النَّهِيُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعِظَمِ الْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالَّتِي لَا يُقَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مَعَ وُجُودِ سَبِّهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَّهُمْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَى إِيغَارِ صُدُورِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَفْتَحُ مَجَالًا لِلْفَوْضَى الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ، كَمَا أَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ سَبُّهُمْ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى.
قَالَ شَيْخُ الْإسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).
وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَقَالَ فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)): «شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّـهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ، فَطُلِبَ إِزَالَتُهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّـهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ، وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ -مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ- خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ».
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ:
اعْتِدَاءُ الْجُهَّالِ عَلَى ثَوَابِتِ الدِّينِ))
إِنَّ مِنْ أَجْلَى صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ: التَّعَدِّيَ عَلَى ثَوَابِتِ الدِّينِ، وَالتَّهَجُّمَ عَلَى أُصُولِهِ بِاسْمِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ وَالتَّعْبِيرِ.. ((إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ حُرِّيَّتَهُ؛ لَكِنْ مَا الْحُرِّيَّةُ الصَّحِيحَةُ؟ الْحُرِّيَّةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ: التَّحَرُّرُ مِنْ قُيُودِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ قُيُودِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ وَلِهَذَا كُلُّ مَنْ خَالَفَ الشَّرْعَ؛ فَإِنَّهُ رَقِيقٌ، وَلَيْسَ بِحُرٍّ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيْتٍ أَرَى أَنْ يُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، يَقُولُ:
(هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ = فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ)
يَعْنِي: إِنَّهُمْ تَحَرَّرُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ، وَهُوَ الرِّقُّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَلَكِنَّهُمْ ابْتُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ يَطْلُبُ حُرِّيَّتَهُ فِي أَنْ يَقُولَ مَا يَشَاءُ: إِنَّنَا إِذَا أَعْطَيْنَاكَ حُرِّيَّتَكَ، وَقُلْتَ مَا شِئْتَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ؛ فَإِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِرِقٍّ آخَرَ، وَهُوَ رِقُّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَيُقَالُ: إِنَّ قَمْعَ الْكُفْرِ -وَلَوْ تَظَاهَرَ الْإِنْسَانُ بِالْإِسْلَامِ- مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُظَرَاءَ يَنْظُرُونَ فِي كُلِّ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ، وَكُلِّ مَا يُنْشَرُ فِي الْإِذَاعَاتِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَرْئِيَّةِ، وَكُلِّ مَا يُذْكَرُ فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ، فَيَجْعَلُ أُمَنَاءَ عُلَمَاءَ يُولِيهِمُ الْحَقَّ فِي النَّظَرِ فِي كُلِّ مَا يُنْشَرُ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَيَمْنَعُونَ كُلَّ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَى الْفُسُوقِ وَالْمُجُونِ وَالْكُفْرِ، وَهَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: ((يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ كَذَا)): لَيْسَ حُرُوفًا تُكْتَبُ عَلَى وَرَقٍ، بَلْ هِيَ مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ يُسْأَلُ عَنْهَا الْإِمَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَلَيْهِ مَسْؤُولِيَّةُ قَمْعِ الْكُفْرِ بِأَنْوَاعِهِ وَأَشْكَالِهِ)).
قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ: ((لَا شَيْءَ أَوْجَبُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلرِّيَاسَةِ فِي الْعِلْمِ؛ فَمِنَ الْإِخْلَالِ بِهَا يَنْتَشِرُ الشَّرُّ، وَيَكْثُرُ الْأَشْرَارُ، وَيَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ التَّظَاهُرُ وَالتَّنَافُرُ...، وَلَمَّا تَرَشَّحَ قَوْمٌ لِلزَّعَامَةِ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَحْدَثُوا بجَهْلِهِمْ بِدَعًا اسْتَغْنَوْا بِهَا عَامَّةً، وَاسْتَجْلَبُوا بِهَا مَنْفَعَةً وَرِيَاسَةً، فَوَجَدُوا مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعَدَةً بِمُشَارَكَةٍ لَهُمْ، وَقُرْبِ جَوْهَرِهِمْ مِنْهُمْ، وَفَتَحَوُا بِذَلِكَ طُرُقًا مُنْسَدَّةً، وَرَفَعُوا بِهِ سُتُورًا مُسْبَلَةً، وَطَلَبُوا مَنْزِلَةَ الْخَاصَّةِ، فَوَصَلُوهَا بِالْوَقَاحَةِ، وَبِمَا فِيهِمْ مِنَ الشَّرَهِ، فَبَدَّعُوا الْعُلَمَاءَ وَجَهَّلُوهُمُ؛ اغْتِصَابًا لِسُلْطَانِهِمْ، وَمُنَازَعَةً لِمَكَانِهِمْ، فَأَغْرَوْا بِهِمْ أَتْبَاعَهُمْ؛ حَتَّى وَطَئُوهُمْ بِأَظْلَافِهِمْ وَأَخْفَافِهِمْ، فَتَوَلَّدَ بِذَلِكَ الْبَوَارُ وَالْجَوْرُ الْعَامُّ وَالْعَارُ)).
تَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ، وَانْظُرْ فِي حَالِ النَّاسِ حَوْلَكَ!
يَنْفُونَ الْعِلْمَ عَنِ الْأَئِمَّةِ جُمْلَةً!! الصَّحَابَةُ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ!! مِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُغَفَّلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَلَى رَسُولِهِ ﷺ!! وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَا وَزْنَ لَهُمْ وَلَا قِيمَةَ وَلَا خَطَرَ!! هَكَذَا يَقُولُونَ!!
هَذِهِ الْفِرْقَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ تُشَكِّكُ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، يَعْتَدُونَ عَلَى ثَوَابِتِ الْأُمَّةِ، يُهَرْطِقُونَ، يُجَدِّفُونَ، يَتَزَنْدَقُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَيُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحِفْظِ أَمْنِهِمْ، النَّاسُ يَمُوتُونَ مِنْ أَجْلِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَنُوا فِي الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ مَرَّةً، وَفِي النَّبِيِّ ﷺ مَرَّةً، وَفِي أَصْحَابِهِ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا فِي الْأَئِمَّةِ؛ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مُرَبَّعُ الشَّرِّ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَلَا وَزْنَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْخُلُقِ، وَلَا فِي الدِّينِ!!
مَنْ يَتَحَمَّلُ هَذَا؟!! وَمَنْ يَقْبَلُهُ؟!!
عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَتَهُمْ، هَؤُلَاءِ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ)).
قَالُوا: ((وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى: ((الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
وَفِي بَعْضِهَا: ((مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)).
إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ، إِذَا تَكَلَّمَ الْفُوَيْسِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ، وَالْفُوَيْسِقُ: تَصْغِيرُ فَاسِقٌ؛ لِلتَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ، وَالْبَيَانِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ وَحِطَّةٍ، سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ فُوَيْسِقًا، يَكُونُ هَذَا فِي السَّنَوَاتِ الْخَدَّاعَاتِ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.
فِتْنَةٌ مَاحِقَةٌ، قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ، وَالنَّاسُ فِي حَيْرَةٍ، وَفِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، انْبَهَمَتِ الْمَعَالِمُ، اخْتَلَطَتِ السُّبُلُ، صَارَ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَسِيرُونَ؟!!
وَيُخْبِرُهُمُ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ أَنَّ خَلَاصَهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
أَكْثَرُ الَّذِينَ يَجْتَهِدُونَ فِي مُعَالَجَةِ الْوَاقِعِ الْمَرِيضِ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ: فُوَيْسِقٌ تَافِهٌ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، سَفِيهٌ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا فِيهِ.
وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ إِلَى الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ، وَأَخَصُّ خَصَائِصِهَا حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ، فَيَجْعَلُونَ حُرِّيَّةَ الرَّأْيِ حَظْرًا وَحِكْرًا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْمَحُونَ لِأَحَدٍ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ!!
حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ لَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ نَصِيبٌ!!
هَذِهِ هِيَ الَّتِي أَوْصَلَتِ الْأُمَّةَ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ.
هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَجِدُونَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُعْتَدَى عَلَى ذَاتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَقَعُ فِي التَّجْدِيفِ بَعْضُ مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ؛ لَا يَنْبِسُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِبِنْتِ شَفَةٍ؛ يَكِيلُونَ بِمِكْيَالَيْنِ.
إِذَا كَتَبَ رَجُلٌ قَصِيدَةً يَعْتِدي فِيهَا عَلَى رَبِّنَا جَلَّ وَعَلَا، وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ؛ خَرَجَ مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الشِّعْرِ، وَلُغَةُ الشِّعْرِ لَيْسَتْ بِخَاضِعَةٍ لِمُوَاضَعَاتِ اللُّغَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا!!
جَهَلَةٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقِيدَةَ، يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ مَاركِس مِنَ التَّظَاهُرَاتِ، وَالِاعْتِصَامَاتِ، وَالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ، وَالْفَوْضَى الْجَالِبَةِ لِلشَّعَارَاتِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهَا الثَّوْرَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ: ((الْإِخَاءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمُسَاوَاةُ)).
الْحُرِّيَّةُ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذَا الْعَبَثِ وَهَذَا الْكُفْرِ!! يَقُولُونَ: هِيَ حُرِّيَّةُ التَّعْبِيرِ!!
أَيُّ حُرِّيَّةٍ؟!!
هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْكُبُونَ النِّفْطَ عَلَى نَارِ الْإِرْهَابِ وَالتَّطَرُّفِ.
هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَطَرُ الْأَوَّلُ..
هَؤُلَاءِ يَنْخَرُونَ فِي عِظَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ..
وَهُمْ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَيْهَا؛ عَلَى دِينِهَا، وَمُسْتَقْبَلِهَا، وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهَا، وَعَلى سَلَامَةِ تُرَابِهَا، وَوَحْدَةِ أَرَاضِيهَا.
هَؤُلَاءِ أَخْطَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْدَائِهَا الظَّاهِرِينَ الْحَقِيقِيِّينَ؛ مِنَ الْأَمْرِيكِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ، إِلَى الصَّلِيبِيِّينَ، إِلَى التَّكْفِيرِيِّينَ، وَمَا شِئْتَ، وَمَنْ شِئْتَ!!
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ!يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وِلَايَةً أَنْ يَحْجُرَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي كَلامِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ، وَهُوَ أَهَمُّ -أَيْ: هَذَا الحَجْرُ- مِنَ الحَجْرِ الصِّحيِّ لِلأَوْبِئَةِ الفَتَّاكَةِ؛ لِأَنَّ الأَوْبِئَةَ الفَتَّاكَةَ الَّتِي يُحْجَرُ عَلَى مَنْ حَمَلَ جَرَاثِيمَهَا إِنَّمَا تُصِيبُ الأَبْدَانَ، وَقَدْ تَصِيرُ هَذِهِ الأَرْوَاحُ الَّتِي تُصَابُ أَبْدَانُهَا إِلَى الجَنَّةِ؛ كَالمَطْعُونِ مَثَلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّاعُونَ إِذَا نَزَلَ بِمَكَانٍ؛ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ، وَعَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الحَجْرِ الصِّحِّيِّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِإِصَابَةِ بَدَنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْ صَبَرَ إِلَى الجَنَّةِ، وَنِعْمَ القَرَارُ، فَالمَطْعُونُ فِي الجَنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.؛
فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ القُلُوبِ؟!!
فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ أُمُورِ الآخِرَةِ؟!!
فَكَيْفَ بِجَرِّ المُسْلِمِينَ بَلْ سَوْقِ المُسْلِمِينَ سَوْقًا إِلَى النَّارِ، وَبِئْسَ القَرَارُ؟!!
بِتَشْكِيكِهِمْ فِي مَوْرُوثِهِم، فِي عَقِيدَتِهِمُ الَّتِي تُبَدَّلُ جَهَارًا نَهَارًا!!
وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ؛ لَا المُؤسَّسَةُ الدِّينِيَّةُ الرَّسْمِيَّةُ مِنْ أَنْ تَعْتَرِضَ اعْتِرَاضًا صَرِيحًا، لَا تُمَكَّنُ مِنْ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ بحُجَّةِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ!! حُرِّيَّةُ الرَّأيِ فِيمَا يَخُصُّهُم، أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ المُسْلِمِينَ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ، وَيَخُصُّ عُلَمَاءَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ لِلرَّأْيِ حِينَئذٍ.
هَؤلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ وَتُرَاثِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هَؤلَاءِ هُمْ أَكْبَرُ الدَّاعِينَ إِلَى التَّطَرُّفِ وَالتَّكفِيرِ وَالإِرهَابِ، هَؤلَاءِ يَتَحَمَّلُونَ وِزْرَ الدِّمَاءِ -عَلَيْهِم مِنَ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ-.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ:
عَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ))
إِنَّ مِنَ الْآفَـاتِ الْعَظيمَةِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْمُسْلِمِينَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- عَـدْمَ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً سَلِيمَةً مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْمَبَادِئِ الدَّخِيلَةِ عَلَيْنَا مِنْ أَعْدَاءِ الْأُمَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ الْأُمَّ الْمُسْلِمَةَ قَدْ تَتَسَاهَلُ فِي شِرَاءِ مَلَابِسِ أَطْفَالِهَا، تَشْتَرِي لِلْبَنَاتِ الْمَلَابِسَ الْقَصِيرَةَ أَوِ الَّتِي تَحْمِلُ كَلِمَاتٍ أَجْنَبِيَّةً قَدْ تَكُونُ ضِدَّ الْإِسْلَامِ، وَضِدَّ تَعَالِيمِهِ.
وَتَجِدُ هَذَا شَائِعًا، وَيَشْتَرِيهِ الْجُهَّـالُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةِ، يَذْهَبُونَ إِلَى الْأَسْوَاقِ وَيَشْتَرُونَ الْمَلَابِسَ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ الْأَجْنَبِيَّةُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاُت كُفْرًا -وَقَدْ تَكُونُ-.
وَقَدْ تَكُونُ زِرَايَةً بِلَابِسِهَا؛ يَعْنِي مُمْكِنٌ إِذَا مَا تَرْجَمَهَا مُتَرْجِمٌ أَنْ يَجِدَهَا مَثَلًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ: خُذُوا الْحِمَارَ.. خُذُوا الْحِمَارَ!! وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَغْلٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا!! لَا يَدْرِى شَيْئًا!!
وَأَحْيَانًا يَأْتُونَ بِالْمَلَابِسِ الَّتِي عَلَيْهَا شِعَارُ النَّصَارَى كَالصَّلِيبِ!!
وَكَذَلِكَ تُقِيمُ الْأُمُّ احْتِفَالًا عِنْدَ إِكْمَالِ وَلَدِهَا الْعَامَ مِنْ تَارِيخِ وِلَادَتِهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِـ ((عِيدِ مِيلَادِ الطِّفْلِ))!!، أَوْ أَنْ تَطْلُبَ الْأُمُّ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ يُلْحِقَ وَلَدَهُمَا بِمَدَارِس تَعْلِيمِ الْمُوسِيقَى أَوْ مَا أَشْبَهَ، أَوِ الرَّقْصِ أَوِ الْبَالِيه.
وَمِنْ صُوَرِ عَدَمِ مُبَالَاةِ الْأُمِّ فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهَا: حِلَاقَةُ شَعْرِ وَلَدِهَا بِأَشْكَالٍ غَريبةٍ مُؤسِفَةٍ تُشْبِهُ الْكُفَّارَ!!
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَحْرِصَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى تَنْشِئَةِ أَوْلَادِهَا كَمَا نَشَأَ أَوْلَادُ الصَّحَابَةِ (ض3)، حَيْثُ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِاللهِ.
وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحُثَّ أَوْلَادَهَا عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنْ تَرْبِطَ هَمَّهُم بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَنْ تَصْرفَهُمْ عَنْ تَوَافِهِ الْأُمُورِ؛ لِتُسْهِمَ فِي إِنْشَاءِ الْجِيلِ الَّذِي يُعيِدُ لِلْأُمَّةِ مَجْدَهَا الْمَفْقودَ، وَعِزَّتَهَا الْمَسْلُوبَةَ.
إِنَّ الْغَزْوَ الْفِكْرِيَّ الْعَقَدِيَّ دَمَّرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَوَانِبَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ، وَغَيَّبَ شَرِيعَتَهُمْ، وَجَعَلَ نَظَرَهُمْ إِلَى تُرَاثِهِمْ وَمَاضِيهِمْ وَتَارِيخِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ نَظَرَ الْمُحْتَقِرِ؛ لِأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلَامِ قَدْ أَفْهَمُوا الشُّعُوبَ الَّتِي فُرِّغَتْ ثَقَافِيًّا مِنْ تُرَاثِهَا وَدِينِهَا وَعَقِيدَتِهَا أَنَّ هَذَا الْمَاضِيَ هُوَ الَّذِي أَخَّرَهُمْ تَمَامًا!!
فَأَنْ نَتْرُكَ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَفِي مَنَابِتِ السُّوءِ، يَنْشَئُونَ عَلَى الْفَاسِدِ مِنَ الْأَخْلَاقِ، وَالذَّمِيمِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَشْتَدُّ عُودُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتُشْحَنُ قُلُوبُهُمْ وَتُشْغَلُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُرِيدُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ سِنَّ الرُّشْدِ مُسْلِمِينَ، يَعْمَلُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَنَا، وَلَا يُلْقُونَ بَالًا لِأَوَامِرِنَا وَحَدِيثِنَا، وَيَكُونُ مَثَلُنَا كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْنِيَ مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبَ!! وَنَقْضِي الْوَقْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَسْرَةِ وَالْنَّدَمِ.
إِذَا ابْتَعَدَ شَبَابُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَظَلُّوا فِي مُنْحَنَيَاتِ الطَّرِيقِ؛ فَالْحَقُّ أَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ عَنْ بُعْدِ الشَّبِيبَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ هُمُ: الْآبَاءُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَأَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنْ يَبْحَثَ الْأَبُ لِأَبْنَائِهِ عَنْ خَيْرِ لِبَاسٍ، وَأَفْضَلِ طَعَامٍ، وَأَهْنَأِ سَكَنٍ، ثُمَّ لَا يَبْحَثُ لَهُمْ عَنِ الْمُرَبِّي الْفَاضِلِ، وَلَا يُلَقِّنُهُمُ الصَّحِيحَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ؛ جَاهِلًا أَوْ مُتَجَاهِلًا أَنَّهُ بِذَلِكَ يُلْقِي بِفِلْذَةِ كَبِدِهِ فِي نَارٍ مُسْتَعِرَةٍ لَا يَخْبُو إِوَارُهَا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، فَأَيْنَ الرَّحْمَةُ فِي قُلُوبِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؟!!
وَأَيْنَ الشَّفَقَةُ؟!!
وَأَيْنَ الْحَنَانُ؟!!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
«مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ:
الِاتِّجَارُ فِي الْمُخَدِّرَاتِ والْإِدْمَانُ»
عِبَادَ اللهِ! يَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي الْمُحَارَبَةِ للهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ؛ الِاتِّجَارُ فِي الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُفَتِّرَاتِ، وَكُلِّ مَا مِن شَأْنِهِ أَنْ يُغَيِّبَ الْوَعْيَ أَوْ يُذْهِبَهُ، أَوْ يُضْعِفَ الْعَقْلَ أَوْ يَحْجُبَهُ، بَلْ يَدْخُلُ الْمُتَعَاطِي لِلْمُخَدِّرَاتِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِهَا وَبِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهَا فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُحَارَبَةِ للهِ وَرَسُولِهِ، ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُهُ؛ إِذْ يُضَيِّعُ الْمُدْمِنُ نَفْسَهُ وَيُضَيِّعُ مَنْ يَعُولُ، بَلْ يُضَيِّعُ حَقَّ دِينِهِ، وَحَقَّ وَطَنِهِ، وَيُهْدِرُ طَاقَاتِهِ، وَيُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِ، ويُفرِّطُ فِي عِرْضِهِ وَشَرَفِهِ، وَيَظْلِمُ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَفْعَلُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ؟!!
فَمِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمُحَارَبَةِ للهِ وَرَسُولِهِ؛ تَضْيِيعُ شَبَابِ الْأُمَّةِ وَشِيبِهَا، وَإِهْدَارُ ثَرْوَاتِهَا وَمُقَدَّرَاتِهَا، وَتَضْيِيعُ الذُّرِّيَّةِ وَالْأَهْلِ، وَالتَّفْرِيطُ فِي حَقِّ الدِّينِ، وَحَقِّ الْوَطَنِ.
كُلُّ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَ حَدُّ الْحِرَابَةِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَكَمَا طَبَّقَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَنِ اسْتَحَقَّهُ.
((مِنْ صُوَرِ الْإِفْسَادِ:
التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَةِ))
كُلُّ مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً، كُلُّ مَنْ حُمِّلَ أَمَانَةً فَلَمْ يَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتَهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَقَّ أَدَائِهَا فَهُوَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، مِنَ الْمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ، مِنَ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَاد.
كُلُّ مَنْ لَا يَقُومُ بِالْحِيَاطَةِ عَلَى مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللهُ إِيَّاهُمْ مِنْ مَرْؤُوسِيهِ حَتَّى لَا يَعِيثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، حَتَّى لَا يَتَّخِذَهُمْ أَعْدَاءُ هَذَا الدِّينِ وَأَعْدَاءُ هَذَا الْوَطَنِ وَسِيلَةً لِلْوُصُولِ إِلَى أَغْرَاضِ الْمُنْحَرِفِينَ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ قَدِ اسْتَشْرَوْا فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، فِي الْمُؤَسَّسَاتِ جَمِيعِهَا، يَنْخِرُونَ فِي قَوَاعِدِهَا كَالسُّوسِ، وَيَعْمَلُونَ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ كَالْخَلَايَا السَّرَطَانِيَّةِ الْمُمِيتَةِ، وَهُمْ يُضَلِّلُونَ رُؤَسَاءَهُمْ وَيَرْفَعُونَ إِلَيْهِمْ كَذِبًا وَزُورًا مَا لَيْسَ لَهُ حَقٌّ وَلَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْحَرِفُونَ مُنْتَمُونَ انْتِمَاءً بَاطِلًا بِدْعِيًّا ظَالِمًا، يُحَارِبُ الدِّينَ وَيُحَارِبُ الْوَطَنَ، يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَيَتَسَتَّرُونَ عَلَى الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ يُخَرِّبُونَ وَيُدَمِّرُونَ وَيُحرِّقُونَ وَيُرِيقُونَ الدِّمَاءَ الْمَعْصُومَةَ بِالْإِيمَانِ وَبِالْأَمَانِ، وَيُبَدِّدُونَ ثَرْوَاتِ الْوَطَنِ الْمَكْلُومِ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِمْ وَصَارُوا كَلًّا عَلَيْهِ وَوَبَاءً لَهُ وَمَرَضًا فِيهِ.
((عَوَاقِبُ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))
إِنَّ اسْتِفْحَالَ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْعَالَمِ يُؤَدِّي إِلَى مُسَاوِئَ وَآثَارٍ سَلْبِيَّةٍ كَثِيرَةٍ؛ فَـ((مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ الْحَاضِرَةَ، وَتَقْطَعُ النِّعَمَ الْوَاصِلَةَ، فَتُزِيلُ الْحَاصِلَ، وَتَمْنَعُ الْوَاصِلَ، فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ مَا حُفِظَ مَوْجُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ مَفْقُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وَآفَةً، سَبَبًا يَجْلِبُهُ، وَآفَةً تُبْطِلُهُ، فَجَعَلَ أَسْبَابَ نِعَمِهِ الْجَالِبَةِ لَهَا طَاعَتَهُ، وَآفَاتِهَا الْمَانِعَةَ مِنْهَا مَعْصِيَتَهُ، فَإِذَا أَرَادَ حِفْظَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ أَلْهَمَهُ رِعَايَتَهَا بِطَاعَتِهِ فِيهَا، وَإِذَا أَرَادَ زَوَالَهَا عَنْهُ خَذَلَهُ حَتَّى عَصَاهُ بِهَا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ مُشَاهَدَةً فِي نَفْسِهِ وَ مُشَاهَدَةً فِي غَيْرِهِ، وَسَمَاعًا لِمَا غَابَ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ أُزِيلَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِمَعَاصِيهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، كَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَوْ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جَارٍ عَلَى النَّاسِ لَا عَلَيْهِ، وَوَاصِلٌ إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَيْهِ!!
فَأَيُّ جَهْلٍ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا؟!! وَأَيُّ ظُلْمٍ لِلنَّفْسِ فَوْقَ هَذَا؟!! فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)).
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
أَيْ: إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَ أَهْلِ قَرْيَةٍ لِظُلْمِهِمْ؛ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالطَّاعَةِ، وَغَيْرُهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فَعَصَوْا، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بِالْعَذَابِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ، فَاسْتَئْصَلْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ الْعَامِّ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].
أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَهْلَكْنَاهُمْ حِينَ أَلْهَتْهُمْ مَعِيشَتُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَفَرُوا وَطَغَوْا، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ لِلْعِبَادِ، نُمِيتُهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْنَا، فَنُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 36-40].
أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى (مَدْيَنَ) أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْم! اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَارْجُوا بِعِبَادَتِكُمْ جَزَاءَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا تَنْشُرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَالْمَعَاصِي مُكْثِرِينَ مِنْهَا مُقِيمِينَ عَلَيْهَا، وَقُولُوا: رَبُّنَا اللهُ وَحْدَهُ، وَتُوبُوا مِنْ مَعَاصِيكُمْ، وَأَنِيبُوا إِلَى خَالِقُكُمْ.
فَكَذَّبَ أَهْلُ (مَدْيَنَ) شُعَيْبًا فِي الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّهِ، فَأَخَذَتْهُمُ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ صَرْعى هَالِكِينَ.
وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ خَرَابُهَا وَخَلَاؤُهَا مِنْهُمْ، وَحُلُولُ نِقْمَتِنَا بِهِمْ جَمِيعًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ، فَصَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَعَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، مُعْجَبِينَ بِهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَصَوَابٍ، بَيْنَمَا هُمَ فِي الضَّلَالِ غَارِقُونَ.
وَأَهْلَكْنَا قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ جَمِيعًا مُوسَى بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ، فَتَعَاظَمُوا فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَكْبَرُوا فِيهَا، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَفُوتُونَا، بَلْ كُنَّا مُقْتَدِرِينَ عَلَيْهِمْ.
فَأَخَذْنَا كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِعَذَابِنَا بِسَبَبِ ذَنْبِهِ؛ فَمِنْهُمُ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مَنْضُودٍ، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ وَقَوْمُ شُعَيْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ كَقَارُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا، وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ لِيُهْلِكَ هَؤُلَاءِ بِذُنُوبِ غَيْرِهِمْ، فَيَظْلِمُهُمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بِتَنَعُّمِهِمْ فِي نِعَمِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
((الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي تَضُرُّ، وَلَا بُدَّ أَنَّ ضَرَرَهَا فِي الْقَلْبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الضَّرَرِ، وَهَلْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا سَبَبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي؟!!
فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، دَارِ اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَصَائِبِ؟!!
وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ، وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَةٍ وَأَشْنَعَهَا، وَبَاطِنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأَشْنَعَ، وَبُدِّلَ بِالْقُرْبِ بُعْدًا، وَبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وَبِالْجَمَالِ قُبْحًا، وَبِالْجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى، وَبِالْإِيمَانِ كُفْرًا، وَبِمُوَالَاةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ أَعْظَمَ عَدَاوَةٍ وَمُشَاقَّةٍ، وَبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ زَجَلَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْفُحْشِ، وَبِلِبَاسِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْدِيسِ لِبَاسَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَهَانَ عَلَى اللَّهِ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ غَايَةَ السُّقُوطِ، وَحَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الرَّبِّ -تَعَالَى- فَأَهْوَاهُ، وَمَقَتَهُ أَكْبَرَ الْمَقْتِ فَأَرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فَاسِقٍ وَمُجْرِمٍ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالسِّيَادَةِ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ وَارْتِكَابِ نَهْيِكَ!!
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ حَتَّى عَلَا الْمَاءُ فَوْقَ رَأْسِ الْجِبَالِ؟!!
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ الْعَقِيمَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ حَتَّى أَلْقَتْهُمْ مَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ، وَدَمَّرَتْ مَا دَمَّرَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، حَتَّى صَارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟!!
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ حَتَّى قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!!
وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَرَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ سِوَاهُمْ، وَلِإِخْوَانِهِمْ أَمْثَالُهَا، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ؟!!
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحَابَ الْعَذَابِ كَالظُّلَلِ، فَلَمَّا صَارَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا تَلَظَّى؟!!
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ نُقِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَالْأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ، وَالْأَرْوَاحُ لِلْحَرَقِ؟!!
وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ؟!!
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَدَمَّرَهَا تَدْمِيرًا؟!!
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ صَاحِبِ يَس بِالصَّيْحَةِ حَتَّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!!
وَمَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَقَتَّلُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوْا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؟!!
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ، مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ الْمُلُوكِ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الْأَعْرَافِ: 167].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟!!
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ! مَا أَهْوَنُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى)) )).
إِنَّ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ، وَالزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ، قَالَ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّومِ: 41].
قَالَ مُجَاهِدٌ: ((إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ، فَيَهْلِكُ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ)).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ: بَحْرُكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((أَمَّا الْبَرُّ فَأَهْلُ الْعَمُودِ -يَعْنِي: أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَنْصِبُونَ الْخِيَامَ، وَيَتَّخِذُونَ الْأَعْمِدَةَ لِنَصْبِهَا-، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَأَهْلُ الْقُرَى وَالرِّيفِ)).
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ الْعَذْبَ بَحْرًا، فَقَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فَاطِرٍ: 12].
وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَحْرٌ حُلْوٌ وَاقِفٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ، وَالْبَحْرُ الْمِلْحُ هُوَ السَّاكِنُ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: (({ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؛ قَالَ: الذُّنُوبُ)).
أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي ظَهَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ نَفْسُهَا فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: النَّقْصُ وَالشَّرُّ وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُوبَةً، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً)).
وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْفَسَادَ الْمُرَادَ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، فَهَذَا حَالُنَا، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)).
فَاللهم سَلِّمْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
((مِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ مَا يَحُلُّ بِالْأَرْضِ مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ، مَعَ مَحْقِ الْبَرَكَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ، فَمَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا وَهُمْ بَاكُونَ، وَمِنْ شُرْبِ مِيَاهِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ، حَتَّى أَمَرَ أَنْ يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ لِلنَّوَاضِحِ، لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ شُؤْمِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ الثِّمَارِ وَمَا تَرَى بِهِ مِنَ الْآفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ قَالَ: ((وُجِدَ فِي خَزَائِنَ بَنِي أُمَيَّةَ حَبَّةُ حِنْطَةٍ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَهِيَ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: هَذَا كَانَ يَنْبُتُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْعَدْلِ)).
وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَعَنْ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ قُرْبٍ)).
وَكَذَلِكَ مَا يَسْتَشْرِي فِي النَّاسِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْأَمْرَاضِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّاسِ لَمَّا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ وَاسْتَعْلَنُوا بِهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ.
بَلْ إِنَّ ((الذُّنُوبَ تُؤَثِّرُ فِي صِوَرِ الْخَلْقِ وَفِي أَشْكَالِهِمْ؛ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَكَذَا هُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ)).
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ وَالْخَوَنَةِ، يُخْرِجُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ ﷺ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَقْتُلُ الْمَسِيحُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَيُقِيمُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَتُخْرِجَ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، وَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، حَتَّى إِنَّ الْعِصَابَةَ مِنَ النَّاسِ لَيَأْكُلُونِ الرُّمَّانَةَ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيَكُونُ الْعُنْقُودُ مِنَ الْعِنَبِ وِقْرَ بَعِيرٍ، وَأَنَّ اللَّقْحَةَ الْوَاحِدَةَ -وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَلُوبُ- تَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمَّا طَهُرَتْ مِنَ الْمَعَاصِي ظَهَرَتْ فِيهَا آثَارُ الْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي مَحَقَتْهَا الذُّنُوبُ وَالْكُفْرُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ بَقِيَتْ آثَارُهَا سَارِيَةً فِي الْأَرْضِ تَطْلُبُ مَا يُشَاكِلُهَا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ آثَارُ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الَّتِي عُذِّبَتْ بِهَا الْأُمَمُ، فَهَذِهِ الْآثَارُ فِي الْأَرْضِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِي مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ، فَتَنَاسَبَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَكَانَ الْعَظِيمُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِلْعَظِيمِ مِنَ الْجِنَايَةِ، وَالْأَخَفُّ لِلْأَخَفِّ، وَهَكَذَا يَحْكُمُ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ خَلْقِهِ فِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَدَارِ الْجَزَاءِ)).
((وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ)).
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورَى: 30].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْفَال: 53].
فَأَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ، وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غُيِّرَ عَلَيْهِ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ، غَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرَّعْدِ: 11].
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ، عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: ((وَعِزَّتِي وَجَلَالِي! لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أُحِبُّ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ، وَلَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أُحِبُّ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ)).
إِنَّ الْمَعَاصِي تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمُرِ، وَبَرَكَةَ الرِّزْقِ، وَبَرَكَةَ الْعِلْمِ، وَبَرَكَةَ الْعَمَلِ، وَبَرَكَةَ الطَّاعَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةٍ فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّنْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [ الْأَعْرَافِ: 96].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الْجِنِّ: 16-17].
وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَى وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ)).
((عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَمَّا كَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجَرَائِمِ الْعَظِيمَةِ؛ ذَمَّ اللهُ الْمُفْسِدِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206].
{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}؛ أَيْ : هِيَ كَافِيَتُهُ عُقُوبَةً فِي ذَلِكَ.
وَتَوَعَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
((حَيْثُ كَفَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَحَارَبُوا رُسُلَهُ، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَصَارُوا دُعَاةً إِلَى الضَّلَالِ، فَاسْتَحَقُّوا مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ، كَمَا تَضَاعَفَ جُرْمُهُمْ، وَكَمَا أَفْسَدُوا فِي أَرْضِ اللهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].
((لَمَّا ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِعَكْسِ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ، فَقَالَ عَنْهُمْ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}؛ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا أَكَّدَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ، وَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، بَلْ قَابَلُوهُ بِالْإِعْرَاضِ وَالنَّقْضِ، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}؛ فَلَمْ يَصِلُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا وَصَلُوا الْأَرْحَامَ وَلَا أَدَّوُا الْحُقُوقَ، بَلْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَائِهَا عِوَجًا.
{أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}؛ أَيِ: الْبُعْدُ وَالذَّمُّ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}: وَهِيَ الْجَحِيمُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 24-25].
((ذَكَرَ -تَعَالَى- حَالَ الْمُتَوَلِّي عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى إِلَى خَيْرٍ، بَلْ إِلَى شَرٍّ، فَقَالَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}؛ أَيْ: فَهُمَا أَمْرَانِ، إِمَّا الْتِزَامٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَامْتِثَالٌ لِأَوَامِرِهِ، فَثَمَّ الْخَيْرُ وَالرُّشْدُ وَالْفَلَاحُ، وَإِمَّا إِعْرَاضٌ عَنْ ذَلِكَ، وَتَوْلٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَمَا ثَمَّ إِلَّا الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ بِالْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ.
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَقَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَقَرُبُوا مِنْ سُخْطِ اللَّهِ.
{فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}؛ أَيْ: جَعَلَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، فَلَهُمْ آذَانٌ، وَلَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ إِذْعَانٍ وَقَبُولٍ، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ سَمَاعًا تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ، وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا الْعِبَرَ وَالْآيَاتِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ بِهَا إِلَى الْبَرَاهِينِ وَالْبَيِّنَاتِ)).
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ عَدَمِ مَحَبَّتِهِ لِلْفَسَادِ وَالْمُفْسِدِينَ، وَعَدَمِ رِضَاهُ عَنْهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٢٠٥]؛ أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: ٦٤].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧].
((إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ بُغَاةَ الْبَغْيِ وَالْمَعَاصِي)).
وَأَخْبَرَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ مَنْ سَعَى فِي أَرْضِ اللهِ بِمَا يَكْرَهُهُ، وَعَمِلَ فِيهَا بِمَعَاصِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
((كُلُّ مُفْسِدٍ عَمِلَ عَمِلَا وَاحْتَالَ كَيْدًا، أَوْ أَتَى بِمَكْرٍ؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ سَيَبْطُلُ وَيَضْمَحِلُّ، وَإِنْ حَصَلَ لِعَمَلِهِ رَوَجَانٌ فِي وَقْتٍ مَا، فَإِنَّ مَآلَهُ الِاضْمِحْلَالُ وَالْمَحْقُ.
وَأَمَّا الْمُصْلِحُونَ الَّذِينَ قَصْدُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَجْهُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهِيَ أَعْمَالٌ وَوَسَائِلُ نَافِعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمْ وَيُرَقِّيهَا، وَيُنَمِّيهَا عَلَى الدَّوَامِ)).
وَأَمَّا عُقُوبَاتُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].
«المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ؛ بِالكُفرِ، والقَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ، وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم، وَيَقْتُلُونَهُم، وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.
فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عند إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأُمُورِ.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ: هَل ذَلِكَ على التَّخْيِيرِ، وَأَنَّ كُلَّ قَاطِعِ طَرِيقٍ يَفْعَلُ به الإِمَامُ أو نَائِبُهُ مَا رَآهُ المَصْلَحَةَ مِن هذه الأُمُورِ المَذْكورةِ في الآيةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ اللفْظِ، أَو أَنَّ عُقُوبَتَهُم تَكُونُ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِم؟
فَكُلُّ جَرِيمَةٍ لَهَا قِسْطٌ يُقَابِلُهَا كَمَا تَدُلُّ عليه الآيَةُ بِحِكْمَتِهَا وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُم إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا مَالًا، تَحَتَّم قَتْلُهُم وَصَلْبُهم؛ حَتَّى يُشْتَهَرُوا وَيَرْتَدِعَ غَيْرُهُم، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَم يَأْخُذُوا مَالًا تَحَتَّمَ قَتْلُهُم فَقَط، وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا وَلَم يَقْتُلُوا تَحَتَّم أَنْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِم وَأَرْجُلُهُم مِن خِلَافٍ، اليَدُ اليُمْنَى وَالرِّجْلُ اليُسْرَى.
وَإِنْ أَخَافُوا النَّاسَ وَلَم يَقْتُلُوا وَلَا أَخَذُوا مَالًا، نُفُوا مِنَ الأَرْضِ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ في بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُم، وَهَذَا قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- وكثيرٍ مِنْ الأئِمَّةِ على اخْتِلَافٍ في بَعْضِ التَّفَاصِيلِ .
{ذَلِكَ} أىْ: ذَلِكَ النَّكَالُ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} أى: فضِيحةٌ وَعَارٌ، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، مُوجِبٌ لِفَضِيحَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ -أي أنَّ قَاطِعَ الطريقِ- مُحَارِبٌ للهِ ولِرَسُولِهِ، وإذا كانَ هذا شَأْنَ عِظَمِ هذه الجَرِيمَةِ؛ عُلِمَ أنَّ تَطْهِيرَ الأَرْضِ مِنَ المُفْسِدِينَ وَتَأمِينَ السُّبُلِ والطُّرُقِ عنِ القَتْلِ وَأَخْذِ الأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ النَّاسِ؛ عُلِمَ أنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الحَسَنَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ إِصْلَاحٌ فِي الأَرْضِ كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ إِفْسَادٌ في الأرضِ.
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} أي: مِنْ هَؤُلَاءِ المُحَارِبِينَ، {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: أي فَيَسْقُطُ عَنْهُ ما كانَ للهِ مِنْ تَحَتُّمِ القَتْلِ، والصَّلْبِ، وَالقَطْعِ، والنَّفْيِ، وَمِنْ حَقِّ الآدَمِيِّ أَيْضًا إِنْ كَانَ المُحَارِبُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كانَ المُحَارِبُ مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ حَقَّ الآدَمِيِّ لا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ مِنَ القَتْلِ، وَأَخْذِ المَالِ.
وَدَلَّ مَفْهُومُ الآيةِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ المُحَارِبِ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا، وَالحِكْمَةُ في ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ، وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ مِن إِقَامَةِ الحَدِّ في الحِرَابَةِ؛ فَغَيْرُهَا مِن الحُدُودِ إِذَا تَابَ مِن فِعْلِهَا قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ مِن بَابِ أَوْلَى».
اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ حَفِظَ لِلنَّاسِ أَدْيَانَهُمْ، وَأَبْدَانَهُمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ، وَأَعْرَاضَهُمْ، وَعُقُولَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تُحَقِّقُ الْأَمْنَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وَتَطْبِيقُ ذَلِكَ كَفِيلٌ بِإِشَاعَةِ الْأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَرَدْعِ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْإِجْرَامَ وَالِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمُمْتَلَكَاتِهِمْ.
((سُبُلُ مُحَارَبَةِ الْفَسَادِ وَالْمُفْسِدِينَ))
إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ حَارَبَ الْفَسَادَ مُنْذُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِبِعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ، بَدْءًا مِنْ فَسَادِ الْعَقِيدَةِ؛ فَقَدْ جَاءَ لِيُحَرِّرَ النَّاسَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَجَاءَ لِيَقْضِيَ عَلَى الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْعَصَبِيَّاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَنْشُرُ بَدَلًا مِنْهَا الْأَخْلَاقَ الْقَوِيمَةَ الْحَمِيدَةَ، جَاءَ لِيَقْضِيَ عَلَى كُلِّ مَظَاهِرِ الْفَسَادِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَيُؤَصِّلَ بَدَلًا مِنْهَا كُلَّ مَا هُوَ حَسَنٌ، وَكُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْهَضَ بِالْأُمَّةِ، وَيَجْعَلَهَا رَائِدَةَ الْعَالَمِ كُلِّهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ وَاجِبَنَا تِجَاهَ مَا يَحْصُلُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ أَنْ نُصْلِحَهُ بِقَدْرِ مَا نَسْتَطِيعُ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَمُجَاهَدَةِ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَبِذَلِكَ يَكْثُرُ الْخَيْرُ وَيَعْظُمُ، وَيَقِلُّ الشَّرُّ وَيَصْغُرُ -بِإِذْنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--، قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].
يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا وُجِدَ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَنْهَوْنَ عَمَّا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ {إِلَّا قَلِيلًا} أَيْ: قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الضَّرْبِ قَلِيلٌ، لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ عِنْدَ حُلُولِ غِيَرِهِ، وَفَجْأَةِ نِقَمِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- هَذِهِ الْأُمَّةَ الشَّرِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 104].
وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ))؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أَيْ: اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِنْكَارِ أُولَئِكَ حَتَّى فَجَأَهُمُ الْعَذَابُ {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }.
ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهِيَ ظَالِمَةٌ لِنَفْسِهَا، وَلَمْ يَأْتِ قَرْيَةً مُصْلِحَةً بَأْسُهُ وَعَذَابُهُ قَطُّ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [ هُودٍ: 101]، وَقَالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46].
إِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].
فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.
لَا يَجْمَعُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَحِّدُ صُفُوفَهُمْ، وَلَا يُعْلِي شَأْنَهُمْ إِلَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
وَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحُلُّ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا إِذَا اسْتَقَرَّ التَّوْحِيدُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشِّرْكِ.
وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ، كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ؛ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَوَهَى قُوَّتَهُمْ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَءُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.
فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأٌسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ؛ عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.
وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى للغرباء)).
كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ؛ كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.
إِنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ مُتَشَتِّتِينَ، عِنْدَهُمْ ثَارَاتٌ وَغَارَاتٌ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ اسْتَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ، تَوَحَّدُوا، وَصَارُوا قُوَّةً هَائِلَةً فِي الْأَرْضِ، سَادَتِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَهُمْ قَبْلَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاسْتَجَابَتِهِمْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَانُوا مَطْمَعًا لِشُعُوبِ الْأَرْضِ، كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَرَبِ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَكُلُّ دَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الْكُفْرِ كَانَ لَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَصِيبٌ.
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، فَصَارَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .
هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.
لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).
فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.
كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي أُمَّتِكُمْ!))
عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَعَالَى- فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، فَنَحْنُ نُدَافِعُ عَنْ إِسْلَامِنَا، نُدَافِعُ عَنْ دِينِنَا، نُدَافِعُ عَنْ وُجُودِنَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي عُرُوقِنَا مِنَ الدِّمَاءِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ