((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ))
فَقَدْ قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ»، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِرٍ، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي «حُسْنِ الْخُلُقِ» عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ ﻷ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: «قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟)).
قَالَتْ: ((أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).
قُلْتُ: ((بَلَى)).
قَالَتْ: ((فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى أنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَبَّرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ))
عِبَادَ اللهِ! مَعَ شُمُولِ طِيبِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ كُلَّ مَنْ تَعَامَلَ مَعَهُ؛ إِلَّا أَنَّ أَهْلَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ وَالْحَظُّ الْأَعْظَمُ؛ فَهُوَ الْقَائِلُ ﷺ: ((خَيرُكُم خَيرُكُم لأهلِهِ، وأنَا خَيرُكُم لأهلِي)).
وَقَالَ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلبَانِيُّ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ حَسَنَ الْعِشْرَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».
وَكَانَ ﷺ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ؛ فَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟)).
قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي: خِدْمَةَ أَهْلِهِ-، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ؛ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي التَّواضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ، وَفِيهِ: خِدْمَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: «مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: التَّوَاضُعُ، وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ، وَامْتِهَانُ النَّفْسِ؛ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يَخْلُدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّهَا سُئِلْتُ؛ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟)).
قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ؛ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ». أَخْرَجَهُ أَحمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ سِيَاسَةً لِلزَّوْجَةِ، يُعَلِّمُنَا رَبُّنَا بِهِ ﷺ مَا نَأْخُذُ بِهِ وَمَا نَدَعُ.
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ زَوْجَاتِهِ))
لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ نِعْمَ الزَّوْجُ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ، وَالْإِيوَاءِ، وَالنَّفَقَةِ.
وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَانَ يُسَرِّبُ إِلَى عَائِشَةَ بَنَاتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا -وَكَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ-، وَكَانَ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ تَابَعَهَا عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ حَائِضًا، وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَأْتَزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يُمَكِّنُهَا مِنَ اللَّعِبِ، وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبِهِ تَنْظُرُ، وَسَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْمَنْزِلِ مَرَّةً.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ يَقُولُ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَدَنَا مِنْهُنَّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنَّ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: ((مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟)).
قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، سَأَلَهَا رَجُلٌ: ((هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟)).
قَالَتْ: «نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ».
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَتْ: «كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ».
«يَفْلِي ثَوْبَهُ» أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلِقَ بِهِ، مِنْ شَوْكٍ، أَوْ قَذًى.
«قِيلَ لَهَا:» وَالْقَائِلُ لَهَا لَمْ يُعَيَّنْ.
«مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ»، قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ»، وَمَهَّدَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي: «يَفْلِي ثَوْبَهُ»؛ يَعْنِي: يُفَتِّشُهُ؛ لِيَلْتَقِطَ مَا فِيهِ مِمَّا عَلِقَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ شَوْكٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ لِيُرَقِّعَ مَا فِيهِ مِنْ نَحْوِ خِرْقٍ.
«وَيَحْلُبُ شَاتَهُ» -بِضَمِّ اللَّامِ-، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا: ((وَيَحْلِبُ شَاتَهُ)).
«يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «يَعْمَلُ عَمَلَ الْبَيْتِ».
وَأَكْثَرُ مَا يَعْمَلُ الْخِيَاطَةُ، يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ خِدْمَةُ نَفْسِهِ، وَخِدْمَةُ أَهْلِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ.
وَالْحَدِيثُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَدَمِ تَرَفُّعِهِ وَتَكَبُّرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ.
*صُوَرٌ مِنْ حُسْنِ مُعَاشَرَةِ النَّبِيِّ ﷺ نِسَاءَهُ:
لَمَّا وَقَعَ شَيْءٌ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ: «مَنْ تَرْضَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَكِ؟».
فَرَضِيَتْ أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ أَبُوهَا، فَاخْتَارَتْ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَاسْتَدْعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَقُولِينَ أَوْ أَقُولُ أَنَا؟»
فَقَالَتْ: ((قُلْ، وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا)).
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَقَامَ يَضْرِبُهَا، وَأَخَذَ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا بِيَدِه، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا! وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!
فَدَارَتْ حَتَّى كَانَتْ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَخَذَ يَمْنَعُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: «مَا لِهَذَا دَعَوْنَاكَ!» يَعْنِي: أَنَا مَا دَعَوْتُكَ لِتَضْرِبَهَا، لَوْ كُنْتُ ضَارِبًا لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ جِئْنَا بِكَ حَكَمًا، لَا مُعَاقِبًا وَلَا ضَارِبًا.
انْصَرَفَ أَبُو بَكْرٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ لَهَا: «أَرَأَيْتِ كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!».
اصْطَلَحَا.
فَأَرْسَلَ أَنَسًا فَاشْتَرَى عِنَبًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُتَلَدِّدًا يَسِيرُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَخْشَى مِنْ غَضَبِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى عَائِشَةَ، فَيَغْضَبُ اللهُ ﻷ عَلَيْهَا، وَيَخْشَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، فَلَقِيَ أَنَسًا فَقَالَ: ((كَيْفَ الْحَالُ يَا أَنَسُ؟!)).
قَالَ: ((اصْطَلَحَا)).
فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: ((دَعَوْتُمَانِي فِي غَضَبِكُمَا أَوْ فِي خِصَامِكُمَا، وَنَسِيتُمَانِي فِي صُلْحِكُمَا!)).
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «ادْخُلْ فَكُلْ»؛ أَيْ: كُلْ عِنَبًا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ الْخَصْمُ- فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَمْ يَضْرِبْ، الْحَكَمُ لَمْ يَصْبِرْ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَقُولُ لَهَا: «انْظُرِي كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: ((دَخَلَ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ)).
فَقَالَ لِي: ((يَا حُمَيْرَاءُ! أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ؟)).
فَقُلْتُ: «نَعَمْ».
فَقَامَ بِالْبَابِ وَجِئْتُهُ، فَوَضَعْتُ ذَقْنِي عَلَى عَاتِقِهِ، فَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «حَسْبُكِ».
فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ! لَا تَعْجَلْ».
فَقَامَ لِي، ثُمَّ قَالَ: «حَسْبُكِ».
فَقُلْتُ: «لَا تَعْجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَتْ: «وَمَا لِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ».
وَكَانَ ﷺ يَوْمًا عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي نَوْبَتِهَا -هِيَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ صَحْفَةً بِهَا طَعَامٌ، وَكَانَتْ صَنَاعًا تُحْسِنُ صُنْعَ الطَّعَامِ، فَأَرْسَلَتْ صَحْفَةً مِنْ طَعَامٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ فِي حُجْرَتِهَا وَمَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؛ جَاءَ الْغُلَامُ فَطَرَقَ أَوْ نَادَى أَوِ اسْتَأْذَنَ، فَقَابَلَتْهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ: هَذَا الطَّعَامُ أَرْسَلَتْهُ فُلَانَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -كَأَنَّهَا قَالَتْ: فِي بَيْتِي وَفِي نَوْبَتِي؟!!- وَأَخَذَتْهَا غَيْرَةٌ، وَمَنِ الَّذِي يُغَارُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُغَرْ عَلَى رَسُولِ اللهِ؟!! هُوَ أَحَقُّ مَنْ يُغَارُ عَلَيْهِ ﷺ.
فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ الصَّحْفَةَ -مِنْ فَخَّارٍ-، فَضَرَبَتْ بِهَا الْأَرْضَ، فَتَنَاثَرَتْ قِطَعًا، وَانْتَثَرَ الطَّعَامُ.
وَهَذَا مَوْقِفٌ مُحْرِجٌ بِلَا شَكٍّ، إِذَا وَقَعَ مِنِ امْرَأَةِ الرَّجُلِ فِي مَحْضَرِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَضِيفَانِهِ، لَوْ أَنَّ هَذَا وَقَعَ لِأَحَدِنَا لَغَضِبَ، لَا شَكَّ فِي هَذَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَهُوَ أَحْلَمُ النَّاسِ، قَامَ يَجْمَعُ الطَّعَامَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ مُعْتَذِرًا عَنْ عَائِشَةَ --رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَعَنْهُمْ-: ((غَارَتْ أُمُّكُمْ، غَارَتْ أُمُّكُمْ))؛ يَعْنِي: مَسَّتْهَا الْغَيْرَةُ بِنِيرَانِهَا، فَصَنَعَتْ مَا صَنَعَتْ وَكَأَنَّهَا لَا تَدْرِي مَا تَأْتِي.
قَالَ: ((غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ))، ثُمَّ دَعَا بِصَحْفَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-، فَقَالَ: ((صَحْفَةٌ بِصَحْفَةٍ))، فَأَرْسَلَ هَذِهِ مَكَانَ الَّتِي كُسِّرَتْ، وَدَاوَى الْأَمْرَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَانْتَهَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْغَيْرَةُ عَلَيْهِ ﷺ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ عَظِيمَةَ الْغَيْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، يَعْنِي: مَا تَدْفَعُهَا الْغَيْرَةُ -كَمَا يَكُونُ مِنَ النِّسْوَةِ- إِلَى الْإِتْيَانِ بِأَمْرٍ يَكْرَهُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ.
كَانَتْ مَرَّةً مَعَهُ فِي السَّفَرِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ؛ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ -أَجْرَى الْقُرْعَةَ بَيْنَ نِسَائِهِ-، فَعَلَى أَيَّتِهِنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَتْ مَعَهُ، فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ وَأُخْرَى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفْرَةٍ.
فَكَانَتْ عَائِشَةُ فِي هَوْدَجٍ -وَهُوَ مَا يَكُونُ فَوْقَ الرَّاحِلَةِ -فَوْقَ النَّاقَةِ أَوِ الْجَمَلِ- مِمَّا يُصْنَعُ لِلْمَرْأَةِ يُخْفِيهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ-، فَكَانَتْ فِي هَوْدَجٍ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْأُخْرَى فِي هَوْدَجٍ آخَرَ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَاذِي بِرَاحِلَتِهِ رَاحِلَةَ عَائِشَةَ، يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي هَوْدَجِهَا يُكَلِّمُهَا وَيُسِرُّ إِلَيْهَا؛ أَرَادَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنْ تَعْلَمَ مَنْزِلَتَهَا عِنْدَهُ، فَقَالَتْ لِأُخْتِهَا أَمِّ الْمُؤْمِنِينَ الْأُخْرَى الَّتِي كَانَتْ مَعَهَا: غَيِّرِي مَعِي، فَكُونِي فِي هَوْدَجِي، وَأَكُونُ فِي هَوْدَجِكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَلَمَّا سَارَ الرَّكْبُ؛ حَاذَى النَّبِيُّ ﷺ بِرَاحِلَتِهِ الرَّاحِلَةَ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّ عَائِشَةَ عَلَى ظَهْرِهَا وَالَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلُ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي الْهَوْدَجِ وَعَائِشَةُ تَنْظُرُ مِنْ خِلَالِ السِّتْرِ -سِتْرِ الْهَوْدَجِ-، فَأَخَذَتْهُا الْغَيْرَةُ، فَأَنَاخَتْ رَاحِلَتَهَا، فَنَزَلَتْ، فَجَعَلَتْ تَضَعُ قَدَمَهَا فِي الْإِذْخِرِ -وَهُوَ حَشِيشٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ يَكُونُ فِي الْحِجَازِ، وَقَدْ تَسْكُنُهُ بَعْضُ الْهَوَامِّ-، فَجَعَلَتْ قَدَمَهَا فِي الْإِذْخِرِ وَهِيَ تَقُولُ: ((اللهم سَلِّطْ عَلِيَّ حَيَّةً تَنْهَشُنِي، رَسُولُ اللهِ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا)).
كَأَنَّهَا تَقُولُ: أَنَا الَّتِي أَتَيْتُ بِهِ لِنَفْسِي، أَنَا الْمَلُومَةُ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ لُدِغَتْ؛ لَخَفَّ إِلَيْهَا مُسْرِعًا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَمِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: أَنَّهُ أَمَرَ سَائِقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرْفُقَ بِهِنَّ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ! رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ».
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُوَيدًا يَا أَنجَشَةُ، لَا تَكْسِرِ القَوَارِيرَ» يَعنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَكَانَ مِنْ حُسْنِ خُلُقِهِ، وَطِيبِ عِشْرَتِهِ ﷺ -كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ-: أَنْ يَضَعَ لِزَوْجِهِ صَفِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رُكْبَتَهُ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَرْكَبَ بَعِيرَهَا، فَتَضَعُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُحَوِّي لِصَفِيَّةَ وَراءَهُ بِعَبَاءَةٍ -يَجعَلُ لَهَا حَوِيَّةً، وَهِيَ كِسَاءٌ مَحْشُوُّ يُلَفُّ حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ، تَجلِسُ عَلَيْهِ صَفِيَّةُ مِنْ خَلْفِ النَّبِيِّ ﷺ-، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَاسْتَشَارَ أُمَّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي الْحُدَيْبِيَةِ؛ فَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانِ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: ((فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ -فِي الْحُدَيْبِيَةِ-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ: فَوَاللَّهِ! مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ وَفِيًّا لِزَوْجَاتِهِ فِي حَيَاتِهِنَّ وَبَعْدَ مَوْتِهِنَّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: وَفَاؤُهُ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ فَمِنْ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: قِيَامُهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَتَقْطِيعِ أَعْضَائِهَا، ثُمَّ الْأَمْرِ بِتَوْزِيعِ ذَلِكَ فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدُ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْوَفَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْطِيعِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ، وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَى بُيُوتِ الصَّاحِبَاتِ مَعَ نُدْرَةِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ شَاةٌ يُطْعِمُهَا أَهْلَ بَيْتِهِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ جُودُهُ ﷺ، وَشَاهِدُهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا كَانَ يُبْقِي مِنَ الشَّاةِ شَيْئًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا»، وَلَوْلَا إِرْسَالُ جَمِيعِ الشَّاةِ؛ لَقَالَتْ: ثُمَّ يَبْعَثُ مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ ﷺ عِنْدَمَا تَزُورُهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ ﭭ، وَرَدَ: «فَارْتَاعَ لِذَلِكَ»؛ أَيْ هَشَّ لِمَجِيئِهَا، مَعَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْفَرَحِ عَلَى وَجْهِهِ، فَمِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ ﷺ لِخَديجَةَ؛ كَانَ يُحِبُّ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ»؛ أَيْ يَا رَبِّ! اجْعَلِ الْمُسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ هَالَةَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ، وَحِفْظِ الْوُدِّ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ».
وَهَذَا الْوَفَاءُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَ كُلُّهُ بَعْدَ وَفَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، مَعَ مَا كَانَ مِنَ الْوَفَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَبْنَائِهِ))
لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ يُولِي أَبْنَاءَهُ عِنَايَةً خَاصَّةً، يَسْتَشْعِرُ مِنْ خِلَالِهَا الْأَبْنَاءُ وَالْأُسْرَةُ كُلُّهَا جَوَّ الرَّحْمَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْحَنَانِ وَالْمَحَبَّةِ.
لَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.
وَمَقَامُ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَقَامٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَعَلِيٌّ زَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنَتَهُمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: ((إِنَّ آلَ أَبِي جَهْلٍ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَلَا وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ فَلْيُفَارِقْ فَاطِمَةَ))، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ حَدَثَ؛ يَكُونُ فِتْنَةً لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ تَكُونُ ضَرَّتُهَا بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى عَلِيٍّ مَا يُمَاثِلُ مَا لِلْأُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي -وَالْبَضْعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ- يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا)). فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
لَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ، وَأَسَرَّ إِلَيْهَا كَلَامًا، فَبَكَتْ، ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي فِي آنٍ؟!!))
فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: ((بِمَا أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟))
قَالَتْ: ((إِنِّي إِذَنْ لَبَذِرَةٌ -وَالْبَذِرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَنْقُلُ الْحَدِيثَ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ شَيْءٌ سَمِعَهُ، فَإِذَا جَلَسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ حَدَّثَ بِمَا كَانَ- وَمَا كُنْتُ لِأُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ)).
فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ؛ حَدَّثَتْ بِالَّذِي كَانَ، فَقَالَتْ: ((إِنِّي لَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى؛ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جَاءَهُ فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ دَنَا، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ؛ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنِّي -أَيْ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- أَسْرَعُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقًا بِهِ، قَالَتْ: فَضَحِكْتُ)).
فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
فَضْلُ فَاطِمَةَ وَعَظِيمُ قَدْرِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَكَانَ ﷺ يُعَالِجُ مَشَاكِلَ أَبْنَائِهِ؛ فَقَدْ ذَهَبَ ﷺ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟».
وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: أَيْنَ زَوْجُكِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ لَهَا: ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟))؛ يَعْنِي: زَوْجَهَا عَلِيًّا، فَذَكَّرَهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِيٍّ شَيْءٌ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ، فَأَرَادَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يُذَكِّرَهَا بِالرَّحِمِ، فَقَالَ: ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟)).
قَالَتْ: ((كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟».
فَجَاءَ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ))، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا تُرَابٍ! قُمْ أَبَا تُرَابٍ!».
وَلَمْ يُرَاجِعْهُ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَحْلَمُ النَّاسِ، وَأَرْحَمُ النَّاسِ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِدَخَائِلِ نُفُوسِ النَّاسِ فِي تَعَامُلَاتِهِمْ وَسُلُوكِيَّاتِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَفْسِيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا، لَوْ أَنَّهُ ذَهَبَ فَقَالَ: كَيْفَ تُغْضِبُ ابْنَتِي؟ وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ؛ مَا كَانَ لِيَرْجِعَ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنْ رُبَّمَا أَوْغَرَ صَدْرَهُ، وَمَا هَكَذَا يَكُونُ الْإِصْلَاحُ.
وَإِنَّمَا ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يُمِيطُ عَنْ ظَهْرِهِ التُّرَابَ بِيَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُكَنِّيًا إِيَّاهُ، وَكَانَتْ أَحَبَّ الْكُنَى إِلَى عَلِيٍّ -هُوَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ أَبُو تُرَابٍ-؛ لِأَنَّ الَّذِي كَنَّاهُ بِهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قُمْ أَبَا تُرَابٍ! قُمْ أَبَا تُرَابٍ!)).
فَعَادَ بِهِ وَلَمْ يُفَاتِحْهُ فِي شَيْءٍ، وَانْتَهَتْ تِلْكَ الْعَاصِفَةُ بِخَيْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَأَعْرَفُهُمْ بِمَفَاتِيحِ قُلُوبِهِمْ.
وَمِنْ مَعَالِمِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَبْنَائِهِ، وَشَفَقَتِهِ بِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ: زِيَارَتُهُ لِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَقْبِيلُهُ لَهُ، وَحُزْنُهُ وَبُكَاؤُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((دَخَلْنَا مَعَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ (سلم)، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).
فَقَالَ: ((يَا ابْنَ عَوْفٍ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ))، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَحْفَادِهِ))
لَقَدْ كَانَتْ عَلَاقَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِأَحْفَادِهِ -الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ- عَلَاقَةً قَائِمَةً عَلَى الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ، وَالْمُدَاعَبَةِ وَالْحَنَانِ، وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، تَشْعُرُ الْأُسْرَةُ فِي ظِلِّهَا بِالْأُلْفَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّرَابُطِ، وَهَكَذَا كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي الْأَخْلَاقِ، وَمِثَالًا رَاقِيًا يُحْتَذَى بِهِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ؛ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَقُدْوَةً حَسَنَةً فِي عَلَاقَةِ الْأَبِ مَعَ أَبْنَائِهِ وَأَحْفَادِهِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ حُبِّهِ لِحَفَدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ: تَقْبِيلُهُ ﷺ لَهُمْ، وَحَمْلُهُمْ عَلَى عَاتِقِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، هَذَا عَلَى عَاتِقِه -مَا بَيْنَ مَنْكِبِهِ وَعُنُقِهِ-، وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَلْثُمُ -يُقَبِّلُ- هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا؟)).
قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَانَ ﷺ يُصَلِّي، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا مَنَعُوهُمَا أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ دَعُوهُمَا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَضَعَهُمَا فِي حِجْرِه)).
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا)).
قَالَ أَبِي: ((فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ النَّاسُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْك)).
قَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي -أَيْ: جَعَلَنِي رَاحِلَةً لَهُ، وَرَكِبَ فَوْقَ ظَهْرِي أَثْنَاءَ السُّجُودِ-، فَكَرِهْتُ أَنْ أَعْجَلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ -أَيْ: فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَعَجَّلَ عَلَيْهِ بِرَفْعِ ظَهْرِي حَتَّى يَنْزِلَ الصَّبِيُّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَنْتَهِيَ مِنْ غَرَضِهِ وَلَعِبِهِ-)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَكَذَلِكَ أَكْرَمَ النَّبِيُّ ﷺ وَاهْتَمَّ بِحَفِيدَتِهِ أُمَامَةَ بِنْتِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَكَانَ يُحِبُّهَا، وَيَحْنُو عَلَيْهَا وَيُكْرِمُهَا؛ فَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ!)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ«».
وَمِنْ مَظَاهِرِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ لِحَفَدَتِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ: مُلَاعَبَتُهُ لَهُمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ: وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ؛ كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.
قَالَ الْقَاضِي«»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ«».
«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.
فِيهِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ، وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.
فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.
«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ وَمُمَازَحَتُهُ، وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.
فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.
فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْؤُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!-؛ لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ؛ فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
وَمِنْ مَعَالِمِ مَحَبَّتِهِ، وَجَمِيلِ مُعَامَلَتِهِ لِأَحْفَادِهِ: اصْطِحَابُهُ أَحْفَادَهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللهِ ﷺ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ، هَذَا قُدَّامَهُ وَهَذَا خَلْفَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ دَلَائِلِ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَحْفَادِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: رُقْيَتُهُ ﷺ لَهُمْ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: ((أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا إِبْرَاهِيمَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((وَهَامَّةٍ)): وَاحِدَةُ الْهَوَامِّ ذَوَاتُ السُّمُومِ، وَقَوْلُهُ: ((وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ)): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ: كُلُّ دَاءٍ وَآفَةٍ تُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جُنُونٍ وَخَبَلٍ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ مَعَالِمِ مَحَبَّتِهِ أَحْفَادَهُ: إِهْدَاؤُهُ لَهُمُ الْهَدَايَا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ قِلَادَةٌ مِنْ جَزْعٍ –خَرَزٍ يَمَانِيٍّ- مُلَمَّعَةٍ بِالذَّهَبِ، وَنِسَاؤُهُ مُجْتَمِعَاتٌ فِي بَيْتٍ كُلُّهُنَّ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ جَارِيَةٌ تَلْعَبُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ بِالتُّرَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ تَرَيْنَ هَذِهِ؟)).
فَنَظَرْنَ إِلَيْهَا -زَوْجَاتُهُ- فَقُلْنَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا رَأَيْنَا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ وَلَا أَعْجَبَ!)).
فَقَالَ: ((أَرْدِدْنَهَا إِلَيَّ))، فَلَمَّا أَخَذَهَا قَالَ: ((وَاللهِ لَأَضَعَنَّهَا فِي رَقَبَةِ أَحَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ إِلَيَّ)).
قَالَتْ عَائِشَةُ: ((فَأَظْلَمَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ خَشْيَةً أَنْ يَضَعَهَا فِي رَقَبَةِ غَيْرِي مِنْهُنَّ، وَلَا أُرَاهُنَّ إِلَّا قَدْ أَصَابَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنِي، وَوَجِمْنَا جَمِيعًا، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَضَعَهَا فِي رَقَبَةِ أُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ، فَسُرِّيَ عَنَّا)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَهْدَى النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَلْقَةً فِيهَا خَاتَمُ ذَهَبٍ فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعُودٍ، وَإِنَّهُ لَمُعْرِضٌ عَنْهُ أَوْ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ دَعَا بِابْنَةِ ابْنَتِهِ أُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ فَقَالَ: ((تَحَلِّي بِهَذَا يَا بُنَيَّةُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَتَتَجَلَّى غَايَةُ رَحْمَتِهِ ﷺ بِأَحْفَادِهِ مِنْ خِلَالِ بُكَائِهِ ﷺ لِأَلَمِ وَمَرَضِ أَحَدِ حَفَدَتِهِ؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: ((ارجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا: إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى؛ فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)). فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ: ((إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا)).
قَالَ: ((فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطْلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ -تَضْطَرِبُ- كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ -قِرْبَةٍ بَالِيَةٍ-، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: ((مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!)).
قَالَ: ((هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ،ومُسْلِمٌ.
قَالَ الْعَيْنِيُّ: ((وَبِنْتُهُ الَّتِي أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَدْعُوهُ ﷺ هِيَ زَيْنَبُ، وَابْنُهَا اسْمُهُ عَلِيٌّ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أُتِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأُمَيْمَةَ بِنْتِ زَيْنَبَ وَنَفْسُهَا تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شِنٍّ، فَقَالَ: ((للهِ مَا أَخَذَ، وَللهِ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى)).
قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ أَتَبْكِي؟! أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ!)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)).
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ خَدَمِهِ))
لَقَدْ كَانَتْ سِيرَةُ وَسُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ خَيْرَ شَاهِدٍ عَلَى مُعَامَلَةِ الْخَدَمِ مُعَامَلَةً كَرِيمَةً، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْبِرِّ بِهِمْ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ مَا لَا يُطِيقُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ؛ بَلْ جَعَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ إِخْوَانًا لِمَنْ يَعْمَلُونَ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ ﷺ: ((إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ -خَدَمُكُمْ- جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُلَائِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُمْ، وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي -وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--، فَأَخَذَ بِيَدِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَّهُ هِيَ الَّتِي أَخَذَتْ بِيَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ)).
قَالَ: ((فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ! مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ فِي الْعَاشِرَةِ، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
حَتَّى إِنَّهُ كَانَ -أَحْيَانًا- يَفْعَلُ مَا تَقْتَضِيهِ سِنُّهُ -كَمَا حَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ-، قَالَ: ((أَمَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَذْهَبَ لِحَاجَةٍ عَيَّنَهَا لِي، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ!)).
يَقُولُ لِلرَّسُولِ ﷺ -وَهُوَ يَقُولُ لَهُ-: «اذْهَبْ يَا أَنَسُ، فَافْعَلْ كَذَا!».
فَقُلْتُ: ((وَاللَّهِ! لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ)).
قَالَ: ((فَمَا رَاعَنِي إَّلا وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخَذَ بِأُذُنِي مِنْ خَلْفِي وَيَقُولُ: «يَا أُنَيْسُ هَلْ ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقُلْ لَهُ لِشَيْءٍ صَنَعَهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.
عَشْرُ سِنِينَ لَمْ يَقُلْ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ذَلِكَ!!
وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ الرَّسُولِ ﷺ.
«مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا» أَيْ: لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِهِ ﷺ عَلَى أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْآدَابِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيهَا.
يَعْنِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخِدْمَتِهِ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ.
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ، أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!
فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
«أُفٍّ» كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.
لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ- أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».
قَالَ: ((قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ أَنَسٌ: ((وَاللَّهِ! لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟!)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «قَوْلُهُ: «تِسْعَ سِنِينَ»، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ «عَشْرَ سِنِينَ» مَعْنَاهُ: أَنَّهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ تَحْدِيدًا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَخَدَمَهُ أَنَسٌ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى، فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَحْسِبِ الْكَسْرَ، بَلِ اعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ حَسَبَهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ».
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.
لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا؛ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً». الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.
«مَا ضَرَبَ» «بِيَدِهِ» لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَادَةً يَكُونُ بِالْيَدِ، فَلَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ» لَفُهِمَ أَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهَا أَكَّدَتْ بِقَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ».
«شَيْئًا»؛ أَيْ: آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
«وَقَطُّ» -كَمَا مَرَّ- لِتَأْكِيدِ الْمَاضِي.
«إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ» أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.
وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ، فَإِنَّ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
«وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً» أَيْ: مَعَ وُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِمَا، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمَا غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا، فَالتَّنَزُّهُ عَنْ ضَرْبِ الْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ -حَيْثُ أَمْكَنَ- أَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا لِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَمَالِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ أَنَسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ: ((وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا هَكَذَا؟)).
فَالْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.
((النَّبِيُّ ﷺ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، فَالرَّسُولُ ﷺ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي قَرَّرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، قَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
وَتَأَمَّلْ فِي «عَلَى» هَذِهِ الَّتِي تَكُونُ لِلِاسْتِعْلَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ فَوْقَ الذِّرْوَةِ الشَّمَّاءِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخَالِطُ النَّاسَ بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْرِ، وَاللُّطْفِ وَتَحَمُّلِ الْأَذَى، مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ، حَلِيمًا بِهِمْ، صَبُورًا عَلَيْهِمْ، تَارِكًا لِلتَّرَفُّعِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، مُتَجَنِّبًا لِلْغِلْظَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ ﷺ.
كَانَ رَسُولُ اللهِ وهُوَ أَشْرَفُ الخَلْقِ, وَأَحَبُّهُم إِلَى اللهِ, وَأَكْرَمُهُم عَلَى اللهِ, وَأَعْلَاهُمْ مَقَامًا عِنْدَ اللهِ ﷺ كَانَ يَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَكُونُ في البَيْتِ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ, يَرْقَعُ ثَوْبَهُ, وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ, وَيَحْلِبُ الشَّاةَ, وَيَكُونُ في مِهْنَةِ أَهْلِهِ ﷺ.
لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى أَمْرٍ لَا يُنْقِصُ المُرُوءَةَ, وَلَا يَسْتَعَلِي عَلَى أَمْرٍ لَا يُغْضِبُ اللهَ ربَّ العَالَمِينَ, بَلْ يَكُونُ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا ﷺ وَهُوَ يُرَاعِي نَفْسِيَّةَ مَنْ أَمَامَهِ.
إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ وَأَجَلَّهُمْ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ فِيهِ رَجُلًا مِنَ الرِّجَالِ، وَوَاحِدًا كَآحَادِ النَّاسِ، وَلَقَدْ صَدَقَ (فُولْتِيرُ) فِي كَلِمَتِهِ الشَّهِيرَةِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ عَظِيمًا فِي دَاخِلِ بَيْتِهِ، وَلَا بَطَلًا فِي أُسْرَتِهِ»؛ يُرِيدُ أَنَّ عَظَمَةَ الْمَرْءِ لَا يَعْتَرِفُ بِهَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى دَخِيلَتِهِ فِي مَبَاذِلِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ يَشِذُّ عَنْهُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِنَّ مَا قِيلَ عَنِ الْعُظَمَاءِ فِي مَبَاذِلِهِمْ لَا يَصِحُّ فِي مُحَمَّدٍ رَسُولِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَشْهَدَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ (جِيبُّونَ): «لَمْ يَمْتَحِنْ رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ أَصْحَابَهُ كَمَا امْتَحَنَ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ، إِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا تَقَدَّمَ إِلَى الَّذِينَ عَرَفُوهُ إِنْسَانًا الْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ، فَطَلَبَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَغُلَامِهِ وَابْنِ عَمَّهِ وَأَقْرَبِ أَصْدِقَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ خِلَّانِهِ لَدَيْهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَكُلٌّ مِنْهُمْ صَدَّقَ دَعْوَاهُ، وَآمَنَ بِنُبُوَّتِهِ.
وَإِنَّ حَلِيلَةَ الْمَرْءِ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِبَاطِنِ أَمْرِهِ، وَدَخِيلَةِ نَفْسِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ، فَلَا يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنَ الزَّوْجَةِ بِهَنَاتِ وَنَقَائِصِ الزَّوْجِ، أَلَيْسَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ زَوْجُهُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي عَاشَرَتْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، وَاطَّلَعَتْ عَلَى دَخَائِلِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَأَحَاطَتْ بِهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، فَلَمَّا صَرَّحَ بِالنُّبُوَّةِ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاسْتَشْهَدَتْ بِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَعَظِيمِ أَخْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَنْ يُخْزِيَهُ أَبَدًا.
إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ لَا يَأْذَنُ لِزَوْجِهِ -وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ- بِأَنْ تُحَدِّثَ النَّاسَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَاهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ تُعْلِنَ كُلَّ مَا شَاهَدَتْهُ مِنْ أَحْوَالِهِ، لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَتْ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تِسْعُ زَوْجَاتٍ، وَكَانَتْ كُلٌّ مِنْهُنَّ فِي إِذْنٍ مِنَ الرَّسُولِ بِأَنْ تَقُولَ عَنْهُ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا تَرَاهُ مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَهُنَّ فِي حِلٍّ مِنْ أَنْ يُخْبِرْنَ النَّاسَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ كُلَّ مَا رَأَيْنَ مِنْهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَتَحَدَّثْنَ فِي السَّاحَاتِ وَالْمَجَامِعِ بِمَا يُشَاهِدْنَ مِنْهُ فِي الْحُجُرَاتِ، فَهَلْ عَرَفَتِ الدُّنْيَا رَجُلًا كَهَذَا الرَّجُلِ يَثِقُ بِنَفْسِهِ كُلَّ هَذِهِ الثِّقَةِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى رَبِّهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَا يَخَافُ قَالَةَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ أَحَدٍ؟!! لِأَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ السُّوءِ.
النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ -تَعَالَى- خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى التَّأَسِّي بِرَسُولِنَا ﷺ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَثَرِهِ.
وَفَّقَنَا اللهُ -تَعَالَى- لِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَلُزُومِ غَرْزِهِ حَتَّى يَتَوَفَّانَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَهْلِهِ