((دُرُوسٌ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((شِدَّةُ إِيذَاءِ قُرَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ))
فَمَا أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَسُولَهُ الْكَرِيم ﷺ هِدَايةً وَنُورًا حَتَّى جَاءَهُ الْإِيذَاءُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَطَالَ الْإِيذَاءُ فِيمَنْ طَالَ مُحَمَّدًا ﷺ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ عَلَى رَأْسِ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَانَ الْأَذَى لَمَّا حَلَّ بِسَاحَةِ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ بِهَا مَلِكًا عَادِلًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ.
فَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَنْ هَاجَرَ، ثُمَّ سَعَتْ قُرَيْشٌ سِعَايَتَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَرُدَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ فِتْنَتِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ؛ فَثَبَّتَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّجَاشِيَّ -طَيَّبَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثَرَاهُ وَأَحْسَنَ فِي الْجَنَّةِ مَثْوَاهُ-، إِذْ أَسْلَمَ بَعْدُ قَلْبَهُ وَزِمَامَهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَبِعَ النَّبِيَّ الْأَمِينَ ﷺ ، فَثَبَّتَهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَمْ تَبْلُغْ قُرَيْشٌ مِنْ ذَلِكَ مَبْلَغًا.
وَسَمِعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ فَاءَتْ إِلَى ظِلِّ الْعَقْلِ وَأَنَّهَا كَفَّتِ الْأَذَى وَالْإِيذَاءَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ ﷺ، فَعَادَ مَنْ عَادَ مَخْدُوعًا بِهَذَا الْبَرْقِ الْخُلَّبِ الَّذِي لَا مَطَرَ فِيهِ وَلَا غَيْثَ، حَتَّى إِذَا مَا كَانُوا عَلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ الْأَذَى قَدِ ازْدَادَ جِدًّا، فَعَادَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَنْ عَادَ وَدَخَلَ إِلَى مَكَّةَ مَنْ دَخَلَ.
((هِجْرَةُ النَّبِيِّ ﷺ حَدَثٌ مَتَفِرِّدٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ))
عِبَادَ اللَّهِ؛ إِنَّ هِجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ حَدَثٌ فَذٌّ مَتَفِرِّدٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ، إِذْ فَرَقَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا بَيْنَ عَهْدَيْنِ؛ بَيْنَ عَهْدٍ كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَالْمُسْتَضْعَفُونَ مَعَهُ فِي حَالِ اسْتِضْعَافٍ وَخَوْفٍ وَفِي حَالِ مُطَارَدَةٍ وَإِيذَاءٍ إِلَى حَالِ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ، وَأَخَذَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَصَافٍّ لَا تَرْقَى إِلَيْهَا النُّجُومُ، وَرَفَعَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذِكْرَ نَبِيِّهِ ﷺ وَأَعَزَّهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَلِمَةَ الدِّينِ حَتَّى أَصْبَحَتْ كَلِمَةُ الْكُفْرِ صَاغِرَةً كَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَعَلَى الدَّوَامِ.
وَإِنَّ هِجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي بَدَأَهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ -مِنَ الْبَعْثَةِ- بِتَحَرُّكِهِ ﷺ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هَذِهِ الْهِجْرَةُ الْفَذَّةُ الْعَظِيمَةُ مَا زَالَتْ مُمْتَدَّةً فِي الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، يَقُولُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ»، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّابِقُونَ الصَّالِحُونَ السَّالِفُونَ -عَلَيْهِمْ رَحْمَةُ اللَّهِ أَجْمَعِينَ-، كَانَ هَؤُلَاءِ بِالْهِجْرَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَى الطَّاعَةِ وَمِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الْإِنَابَةِ كَانُوا مُوَفَّقِينَ حَقًّا.
((مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ:
الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ))
أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ، حَتَّى أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَدَعْ مُحَمَّدًا ﷺ فِي مَعْرِضِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا وَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التَّوْبَة: 40].
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ ﷺ، وَلَكِنَّ دِقَّةَ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةَ الِاسْتِعْدَادِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ تَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَانْظُرْ فِيمَا كَانَ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَيْهِ ﷺ، قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ هِجْرَتِهِ ﷺ كُلَّ أَصْحَابِهِ ﷺ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ ﷺ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَإِلَّا مَنْ فُتِنَ فِي دِينِهِ مِمَّنْ حَجَزَتْهُ قُرَيْشٌ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ.
وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الْكَرِيمِ هُوَ عَيْنُ التَّضْحِيَةِ وَعَيْنُ الْبَذْلِ وَعَيْنُ الْفِدَاءِ، لَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ، بَلْ تَخَلَّفَ فِي مَكَّةَ ﷺ وَقَدَّمَ الْأَصْحَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَاجَرُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِفِتْنَتِهِ فَثَبَتَ أَوِ انْحَرَفَ عَنِ الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ -نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ اخْتَارَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ صَاحِبًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا», فَكَانَ يَقُولُ: الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ فِي هِجْرَتِهِ ﷺ، وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاحِلَتَيْنِ، فَعَلَفَهُمَا وَرَقَ السَّمُرِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى مُهَاجَرِهِ ﷺ.
وَأَمَّا أَمْرُ نَبِيِّنَا ﷺ فِي لَيْلَةِ هِجْرَتِهِ؛ فَأْمْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
يَظَلُّ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ تَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ﷺ، بَلْ ذَهَبَ فِي وَقْتٍ تَخْفُتُ فِيهِ الرِّقَابَةُ وَتَنَامُ فِيهَا أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ذَهَبَ فِي الْهَاجِرَةِ وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ الصَّيْفِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ ﷺ، فَذَهَبَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ فِي الْهَاجِرَةِ فِي وَقْتٍ لَوْ وَضَعْتَ فِيهِ لَحْمًا نَيِّئًا عَلَى رِمَالِ الصَّحْرَاءِ الْمُحْرِقَةِ لَأَنْضَجَتْهُ، ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أَرَى النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».
فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ!
قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».
وَخَرَجَ الرَّسُولُ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ مِنْ خَوْخَةٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -وَهِيَ كُوَّةٌ نَافِذَةٌ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ-، وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ رِقَابَةٌ مِنَ اسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَكَانُوا قَدْ بَيَّتُوا قَتْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي هَاجَرَ فِيهَا ﷺ، إِذَا كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ تَرْقُبُهُ؛ فَإِنَّهَا تَتَطَلَّعُ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الرَّسُولُ ﷺ فَيَخْرُجُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ خَوْخَةٍ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَسِيرُ صَوْبَ الْجَنُوبِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الشَّمَالِ مُؤَدٍّ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُهَاجِرُ إِلَيْهَا ﷺ، نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ جَنُوبًا إِلَى جَبَلِ ثَوْرٍ.
وَدَخَلَ الْغَارَ مَعَ صَاحِبِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي غَارِ ثَوْرٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، وَدَخَلَ فَفَتَحَ الْغَارَ، مَزَّقَ رِدَاءَهُ وَجَعَلَهُ فِي الشُّقُوقِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ فَيُؤْذِيَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَدَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ.
أَمَّا السَّكِينَةُ فَأَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأَسْلَمَ جَنْبَهُ لِرِمَالِ الْغَارِ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ أَبِي بَكْرٍ وَنَامَ ﷺ.
((مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: تَوْزِيعُ الْمَهَامِّ الْمُحْكَمُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ))
مِنْ جَوْدَةِ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةِ الِاسْتِعْدَادِ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْبَاحِ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، وَالنَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ ﷺ, وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ الْمَؤُونَةِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا-.
وَانْظُرْ إِلَى تَوْزِيعِ الْأَدْوَارِ هَاهُنَا، لَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرَ الزَّادِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَادًا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَيِّ سَبِيلٍ لَتَبِعَتْهُ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ وَتَبِعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْدَامُهُمْ وَلَعَلِمُوا مَوْضِعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَحَّى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ مَنُوطًا بِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْأُنْثَى وَالْمَرْأَةُ -وَكَانَتْ أَسْمَاءُ حَامِلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- تَسِيرُ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ كَامِلَاتٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ -وَهُوَ جَبَلٌ شَاهِقٌ شَهْمٌ صُلْبٌ مُتَجَهِّمٌ حِجَارَتُهُ مَسْنُونَةٌ عَنِيفَةٌ حَادَّةٌ حَتَّى لَقَدْ حَفِيَتْ قَدَمَا رَسُولِ اللَّهِ-، الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ زَادًا وَطَعَامًا وَمَتَاعًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، كَانَتْ أَسْمَاءُ تُؤَمِّنُ أَمْرَ الزَّادِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَأْتِي لِلنَّبِيِّ بِاسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمْرَ الِاسْتِخْبَارَاتِ مَوْكُولًا بِأَسْمَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَهْمَا بَلَغَ عَقْلُهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا حَافِظًا كَالرَّجُلِ الْحَاذِقِ اللَّبِيبِ؛ هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
وَثَانِيَةٌ: أَنَّ أَسْمَاءَ لَا تَسْتَطِيعُ -وَهِيَ امْرَأَةٌ- أَنْ تَدْخُلَ فِي مُنْتَدَيَاتِ قُرَيْشٍ وَلَا أَنْ تَدْخُلَ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ لِتَتَفَقَّدَ الْأَخْبَارَ ثُمَّ تَذْهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ الْأَدْوَارَ ﷺ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ، ﷺ- وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ.
فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا-، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ ﷺ.
وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ-؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ، فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ-، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ ثُمَّ اسْتَدَارَ غَرْبًا حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا -هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ-، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ.
((رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ))
وَهُنَاكَ فِي ظِلِّ النَّخْلَةِ وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مُهَاجِرًا فِي آخِرِ شُهُورِ الصَّيْفِ، فِي قَيْظٍ قَائِظٍ وَحَرٍّ شَدِيدٍ لَاهِبٍ وَصَحْرَاءَ مُحْرِقَةٍ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهَا اللَّحْمُ النَّيِّئُ لَأَنْضَجَتْهُ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَنَزَلَ النَّبِيُّ فِي الظَّهِيرَةِ فِي حَمَّارَةِ الْقَيْظِ وَمَا انْفَثَأَتْ بَعْدُ، نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ بِمَبْعَدَةٍ مِنْ قُبَاءَ، وَإِذْ يَرَاهُ الْقَوْمُ وَلَا يَرَوْنَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَحِبَّائِهِ يَتَوَقَّعُونَ مَقْدَمَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَيْئًا إِلَّا الْآلُ وَالسَّرَابُ يَلُوحُ مِنْ بَعِيدٍ وَلَيْسَ بِهِ مِنْ حَقِيقَةِ وُجُودٍ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً مِنْ الْبَعْثَةِ، جَاءَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ وَنَزَلَ هُنَاكَ ﷺ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ -وَمَا ظِلُّ نَخْلَةٍ، وَمَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ-.
وَخَرَجَ يَهُودِيٌّ عَلَى أُطُمٍ لَهُمْ هُنَالِكَ؛ فَرَأَى النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا جَدُّكُمْ! هَذَا رَجُلُكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ! فَخَرَجُوا إِلَى النَّبِيِّ يَتَسَابَقُونَ ﷺ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا حَتَّى تَحَوَّلَ الظِّلُّ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّ النَّبِيَّ بِرِدَائِهِ
وَيَضْحَى هُوَ، فَيَقِفُ هُوَ فِي الشَّمْسِ وَيُظِلُّ النَّبِيَّ بِرِدَائِهِ ﷺ.
دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وَحَلَّ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَبْعَثِهِ ﷺ، وَخَرَجَ جَوَارِي الْأَنْصَارِ وَرِجَالُ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءُ الْأَنْصَارِ -حَتَّى الْيَهُودُ- فِي وَقْتِ قَيْلُولَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرِّ فِيهَا وَاحَةُ النَّبِيِّ بِظِلٍّ وَبَرَدٍ، وَقَدْ نَزَلَ نُزُولًا بِالسَّكِينَةِ كُلِّهَا عَلَى مَدِينَتِهِ ﷺ، فَلَمَّا أَنْ رَآهُ يَهُودِيٌّ -وَكَانَ عَلَى حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ- قَالَ: يَا بَنِي قَيْلَةَ؛ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، هَذَا عَظِيمُكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ! فَخَرَجَتِ الْمَدِينَةُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا لِلِقَاءِ الْحَبِيبِ الْمَحْبُوبِ ﷺ.
فَأَمَّا الْجَوارِي مِنْ وَلَائِدِ الْأَنْصَارِ فَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ وَيُغَنِّينَ فَرَحًا بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ [بَنِي النَّجَّارِ
|
|
حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
|
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمْ يَقُلْنَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
|
|
مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
|
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
|
|
مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ
|
لِأَنَّ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إِنَّمَا هِيَ فِي قِبَلِ الشَّامِ صَوْبَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَعْلَى مِنْ جِهَةِ الْقَادِمِ مِنَ الشَّامِ ، وَأَمَّا ثَنِيَّاتُ الْوَدَاعِ وَالْغِنَاءُ الَّذِي كَانَ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ فَرَحًا بِقُدُومِ النَّبِيِّ؛ فَكَانَ عِنْدَ عَوْدَتِهِ ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَمَّا فِي الْهِجْرَةِ فَكُنَّ يُغَنِّينَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِلَاتٍ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ
|
|
حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
|
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
((مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: بِنَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَالْمُؤَاخَاةِ))
إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَظَلَّ فِيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَكَبِ نَاقَتَهُ القَصْوَاءَ وَسَارَ إِلَى بَنِي عَوْفِ بْنِ سَالِمٍ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِمُ الْجُمُعَةُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى هُنَالِكَ الْجُمُعَةَ وَلَم يَكُنْ مَسْجِدُهُ قَدْ أُسِّسَ بَعْدُ ﷺ، ثُمَّ بُعِثَتِ النَّاقَةُ مِنْ مَبْرَكِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ جَمِيعًا يَتَدَافَعُونَ: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَكْرِمْ بِكَ مِنْ جَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
كُلُّهُم يُرِيدُ أَنْ يَحْظَى بِشَرَفِ نُزُولِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَانْطَلَقَتِ النَّاقَةُ وَعَلَيْهَا خَيْرُ رَاكِبٍ، خَيْرُ مَنْ مَسَّ الْحَصَى قَطُّ وَانْطَلَقَتْ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ بِحَيِّهِمْ قَالُوا: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَى الْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، يَقُولُ: «خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، فَتَنْطَلِقُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ أَخْوَالِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ خَرَجُوا إِلَيْهِ بِخُؤُولَتِهِمْ لِأَبِيهِ، يَقُولُونَ: هَلُمَّ إِلَى أَخْوَالِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا عِنْدَكَ لَرَحِمًا مَصُونَةً، فَهَلُمَّ إِلَيْنَا وَانْزِلْ عَلَيْنَا يَا أَكْرَمَ جَارٍ، فَسَرَّحَ النَّبِيُّ فِي الْحَيِّ بَصَرَهُ وَعَادَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ عَامًا عِنْدَمَا أَتَتْ بِهِ أُمُّهُ وَهُوَ فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ، وَلَعِبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سَاحَةِ خُؤُولَتِهِ فِي مَرَاتِعِ الشَّبَابِ وَفِي مَوَاطِنِ الصِّبَا مَعَ لِدَاتِهِ مِنْ خُؤُولَةِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ مُنْذُ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا.
النَّبِيُّ الْآنَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَقُولُ: «خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، وَالدُّمُوعُ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ إِذْ يَذْكُرُ أُمَّهُ عِنْدَمَا جَاءَتْ بِهِ مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ، فَبَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ مَا بَكَتْ، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِ وَلِيدِهَا صَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ، يَتِيمِ الْأَبِ، فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ إِلَى آلِ أَبِيهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ بِالصَّحْرَاءِ بِالْبَادِيَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ جَاءَهَا أَجَلُهَا، وَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَيَتَخَطَّى بَصَرُهُ يَوْمَ الْهِجْرَةِ نِصْفَ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِيَرَى مَنْظَرَ الْمُحْتَضَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَمَتُهُ أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ وَقَدْ أَسْنَدَتْ مَوْلَاتَهَا إِلَى صَدْرِهَا.
وَسَمْعُ الزَّمَانِ يَأْتِي إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْهِجْرَةِ عِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى السَّاحَةِ عِنْدَ خُؤُولَةِ أَبِيهِ، يَأْتِي سَمْعُ الزَّمَانِ إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ بِحَشْرَجَةِ أُمِّهِ الْمُحْتَضَرَةِ وَكَيْفَ أَنَّهَا فَاضَتْ رُوحُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَتْهَا أَمَتُهَا وَمَوْلَاتُهَا إِلَى الْأَبْوَاءِ بِقَرْيَةٍ بَيْنَ يَثْرِبَ عِنْدَمَا كَانَ ذَلِكَ اسْمُهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَا بَيْنَهَا، فَدُفِنَتْ بِالْأَبْوَاءِ، وَعَادَتْ بِيَدِ النَّبِيِّ مُضَاعَفَ الْيُتْمِ ﷺ.
وَالْيَوْمَ يَعُودُ ﷺ عَلَى نَاقَتِهِ: «خَلُّوا سَبِيلَهَا يَا خُؤُولَةَ أَبِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، وَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، وَخَرَجَتْ فَذَهَبَتْ إِلَى الْمِرْبَدِ -وَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ بِالْمَدِينَةِ- فَبَرَكَتْ، ثُمَّ قَامَتْ فَانْبَعَثَتْ، ثُمَّ أَعَادَتْ نَظَرَهَا مُوَلِّيَةً فَعَادَتْ شَيْئًا، فَبَرَكَتْ فِي مَبْرَكِهَا الْأَوَّلِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ، وَوُضِعَ رَحْلُ نَاقَتِهِ فَحَمَلَهُ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى دَارِهِ مُسْرِعًا، وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى نَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا! فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ».
فَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ النَّاقَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ الْيَوْمَ؛ هُوَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَشَارَكَ فِي حَمْلِ التُّرَابِ عَلَى عَاتِقِهِ!
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ
|
|
لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
|
«اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ»؛ يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ مُشَارِكًا لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَفْرِ لِأَسَاسِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
ثُمَّ بُنِيَتْ حُجُرَاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا وَصْفُهَا؟
يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: «كُنْتُ أَدْخُلُ أَبْيَاتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ، فَتَطُولُ يَدِي سَقْفَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
فَأَمَّا بَعْضُ حُجُرَاتِ الرَّسُولِ فَحِجَارَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حُجْرةٌ -حُجْرَةُ عَائِشَةَ- فَجُدُرُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيَّنٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى بَابِهَا سِتْرٌ مَرْخِيٌّ هُوَ بَابُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي بَنَى فِيهِ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَأَمَّا أَثَاثُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشُدَّتْ أَعْوَادٌ وَجُعِلَ عَلَيْهَا حِبَالٌ مِنْ لِيفٍ وَطُرِحَ عَلَيْهَا فِرَاشٌ مِنْ أَدَمٍ -أَيْ: مِنْ جِلْدٍ- حَشْوُهُ لِيفٌ، لَيْسَ بَيْنَ الْفِرَاشِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ إِلَّا الْحَصِيرُ، فَهَذَا بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَأَمَّا الْقُصُورُ فِي الشَّمَالِ؛ قُصُورُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأُمَرَاءِ غَسَّانَ يَرْتَعُونَ فِي قُصُورِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْحِيرَةِ وَفِي مِصْرَ، وَفِي الْجَنُوبِ فِي صَنْعَاءَ فِي الْيَمَنِ- فَأَمَّا الْقُصُورُ فَآيَاتٌ مِنْ آيَاتِ الْمِعْمَارِ -حَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ-، وَأَمَّا الْأَثَاثُ فَبَاذِخٌ بَاذِخٌ بَاذِخٌ لَا يَصِفُ الْعَقْلُ تَوَهُّمًا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَبْرُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِي حُجْرةِ النَّبِيِّ ﷺ فَحُجْرَتُهُ قَبْرُهُ وَقَبْرُهُ حُجْرَتُهُ وَأَثَاثُ بَيْتِهِ مَا قَدْ وَصَفْتُ وَأَمْرُ نَبِيِّكَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَرْعَاهُ، فَأَمَّا الْأَضْوَاءُ فَلَمْ تَخْطِفْ شَيْئًا مِنْ أَضْوَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْمُتَوَاضِعِ -بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ-، فَلَمَّا طَلَعَتْ شَمْسُهُ كُسِفَتْ كُلُّ الْأَنْوَارِ وَأُطْفئِتْ كُلُّ الشُّمُوعِ، وَأَضَاءَتْ شَمْسُ الرَّسُولُ ﷺ.
((مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ:
الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الْيَقِينِ فِي تَوْفِيقِ اللهِ))
وَانْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَيَعْصِمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُسْلِمَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ خَرَجَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَمَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَطُّ، فَدَخَلَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ رَقْبٌ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ اسْتِخْبَارَاتٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ -ﷺ، وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ فَمَا كَانَتْ لِتَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَيَدْخُلُ مِنْ بَابِ أَبِي بَكْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ ظَهْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -مِنْ بَابٍ هُنَاكَ فِي ظَهْرِ الْبَيْتِ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ-، فَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ، إِلَى أَيْنَ؟ الْقَوْمُ يَتَوَقَّعُونَ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَذْهَبُ إِلَى الشَّمَالِ ﷺ -يَعْنِي إِلَى يَثْرِبَ وَكَانَتْ تُسَمَّى كَذَلِكَ- إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَالَفَ تَوَقُّعَاتِ الْقَوْمِ وَأَصْعَدَ بِهِمْ إِلَى الْجَنُوبِ ﷺ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ هُنَاكَ فِي غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ.
وَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَمَا كَانَتْ أَوَامِرُهُ وَأَوَامِرُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَسْمَاءَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِالزَّادِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَلْحَظْهَا، وَلِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَذْهَبْ إِلَى أَنَّهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ بِزَادٍ وَمَاءٍ -وَهِيَ الْحَامِلُ فِي شُهُورِهَا الْأَخِيرَةِ- إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَيْنًا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَأْتِي بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِلَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ هُنَاكَ فِي الْغَارِ، فَيُخْبِرُ النَّبِيَّ ﷺ بِنَبَأِ الْقَوْمِ.
وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَيَأْتِي بِأَغْنَامٍ لَهُ، فَإِذَا مَا ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَذَهَبَتْ أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَاءَ بِالْأَغْنَامِ وَرَاءَ آثَارِ الْأَقْدَامِ حَتَّى تُعَفِّيَ عَلَى آثَارِ الْأَقْدَامِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الْعَمَلُ.
ثُمَّ ظَلَّ النَّبِيُّ فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَتَعَجَّلْ بِالْخُرُوجِ حَتَّى يَخِفَّ الطَّلَبُ، وَلَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُطِلْ فِي الْغَارِ الْمُكْثَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَوْ ظَلَّ لَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَعْرِفَةِ مَا تَفْعَلُ أَسْمَاءُ وَمَا يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى التَّأْيِيدِ وَمَا كَانَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التَّوْبَة: 40].
فَاللَّهُمَّ نَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَ أُمَّةَ نَبِيِّكَ ﷺ.
أَلَا إِنَّ فِي أَحْدَاثِ الْهِجْرَةِ -عِبَادَ اللَّهِ- مَا يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَكُونَ مُهَاجِرِينَ مِنَ اللَّحْظَةِ وَفِي التَّوِّ؛ مُهَاجِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمِنَ الْآثَامِ وَالْمَعَاصِي إِلَى الِارْتِمَاءِ عَلَى جَنَبَاتِ الرَّحَمَاتِ وَإِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، عَسَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا مِنَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ أَوْفَى نَصِيبٍ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.
اللَّهُمَّ أَخْرِجْنَا مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إِلَى عِزِّ الطَّاعَةِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر: المصدر : دروس من الهجرة النبوية