((الْحَجُّ فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ))
فَإِنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ أَنْ يَعْبُدُوهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ أَوَّلَ أَمْرٍ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
فَهَذَا الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ الْعَظِيمُ هُوَ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي كِتَابِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا خَلَقَهُمْ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَأَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوَّلَ مَا أَمَرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظَيمِ يَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ وَأَسَاسَيْنِ مَتِينَيْنِ؛ وَهُمَا: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ عِبَادَةً حَتَّى يَأْتِيَ فِيهَا الْآتِي خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَفَتَ أَنْظَارَ الْخَلْقِ إِلَى مَا بَثَّهُ فِي تَضَاعِيفِ الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى وُجُوبِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِفْرَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ مَرْكُوزًا فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ، لَا يَحِيدُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ أَصَابَ فِطْرَتَهُ شَيْءٌ مِنْ غَبَشٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ أَوِ الْتِوَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْخَلْقَ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَالَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَفَتَ الْأَنْظَارَ إِلَى مَا بَثَّ فِي تَضَاعِيفِ الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ: الَّذِي مَهَّدَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ، وَأَنْزَلَ مِنْهَا الْغَيْثَ، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا تَتَفَكَّهُونَ بِهِ، وَمِنَ الْأَقْوَاتِ مَا تَقْتَاتُونَ وَتَحْيَوْنَ بِهِ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْجِبُ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ التَّنْدِيدِ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} أَيْ: نُظَرَاءَ وَشُرَكَاءَ تَصْرِفُونَ إِلَيْهَمْ لَوْنًا مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ أَلْوَانًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِ النُّهَى وَالْعُقُولِ؛ فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ الْفِطَرِ السَّوِيَّةِ وَالْقُلُوبِ الْمُسْتَقِيمَةِ النَّقِيَّةِ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ لَا نِدَّ للهِ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ، وَبِالرِّزْقِ وَحْدَهُ، وَبِالتَّدْبِيرِ وَحْدَهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ وَجْهِهِ، فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعِبَادَتِهِ، وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهَا وَحْدَهُ، وَنَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ التَّنْدِيدِ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -وَهُوَ دِينُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ- مَبْنِيٌّ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ فَكُلُّهُمْ قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].
فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَمَا وَحَّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا، وَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ؛ نَفْيٌ لِجَمِيعِ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِذَلِكَ، {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256].
فَلَا بُدَّ مِنَ الْكُفْرِ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّفْيُ فِي الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَهِيَ أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلَامِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
فَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ لَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِثْبَاتِ -أَيْضًا-، وَهَذَا هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ، وَعَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَهَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَا أَمْرَ فِي الْكِتَابِ قَبْلَهُ، {اعْبُدُوا اللهَ}، هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي كِتَابِ اللهِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا خَلَقَهُمْ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِتَحْقِيقِ الْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَسَوَّاهُمْ وَأَنْشَاهُمْ.. سَوَّاهُمْ وَأَنْشَاهُمْ وَبَرَءَهُمْ لِأَجْلِهَا.
((مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ))
النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ -وَهِيَ الْحَجَّةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي حَجَّهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ- أَتَى بِمَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ ظَاهِرَةً مِنْ أَوَّلِ لَحْظَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِشَوَاهِدِهِ: ((اللهم حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ))؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ الْعَمَلَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي وَصْفِ سِيَاقِ حَجَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ: ((فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، وَيَصْرِفُونَ أَلْوَانًا مِنَ الْعِبَادَةِ لِسِوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَتْ لَهُمْ تَلْبِيَةٌ وَطَوَافٌ وَحَجٌّ وَعُمْرَةٌ، وَكَانَ لَهُمْ ذَبْحٌ وَنَذْرٌ وَحَلِفٌ، وَكَانَتْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي الْعِبَادَاتِ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ؛ لِأَنَّ ((اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ))، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا، ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا))، وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا طَيِّبًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ يُلَبُّونَ، فَلَهُمْ طَوَافٌ وَتَلْبِيَةٌ، وَلَهُمْ وُقُوفٌ وَلَهُمْ إِفَاضَةٌ، وَلَهُمْ نَحْرٌ وَذَبْحٌ وَحَلِفٌ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرَهُ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ!!)).
فَهَؤُلَاءِ يُلَبُّونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيُثْبِتُونَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الشَّرِيكَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ!!))، فَكَانَتْ هَذِهِ تَلْبِيَتَهُمْ يَأْتُونَ بِهَا فِي حَجِّهِمْ، وَيَأْتُونَ بِهَا فِي عُمْرَتِهِمْ، وَيُشْرِكُونَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرَهُ!!
النَّبِيُّ ﷺ مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي حَجَّتِهِ: أَنَّهُ أَتَى بِالْإِهْلَالِ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلَّى عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَى فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِسُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ؛ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ، فِي السُّورَةِ الْأُولَى بَرَاءَةٌ مِنَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ، وَمِنَ الشِّرْكِ وَحِزْبِهِ، وَفِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ صِفَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهِيَ سُورَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّحَابِيُّ الَّذِي أَحَبَّهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَصْدًا، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحُبًّا لَهُ؛ بَشَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ لِحُبِّهِ إِيَّاهَا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ يَأْتِي بِسُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ.
وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا؛ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، فَوَحَّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَكَبَّرَهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ))، يُوَحِّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيُكَبِّرُهُ.
ثُمَّ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا صَعِدَ الْمَرْوَةَ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، فَوَحَّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَكَبَّرَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ فِيهِ الرَّابِطَةُ الْعُظْمَى الَّتِي تَرْبِطُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الرَّابِطَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمَتِينَةَ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عُرَاهَا وَلَا تَنْفَصِمُ هِيَ رَابِطَةُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ لِأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فِي الْحَجِّ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ ظَاهِرًا بِمَلَابِسِ الْإِحْرَامِ، وَلَهُمْ شِعَارٌ وَاحِدٌ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)).
وَيَجْمَعُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، يُوَحِّدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ زَمَانًا وَمَكَانًا وَهَيْئَةً وَتَلْبِيَةً؛ فَرَبُّهُمْ وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَرَسُولُهُمْ وَاحِدٌ ﷺ، وَتَلْبِيَتُهُمْ وَشِعَارُهُمْ فِي الْحَجِّ وَاحِدٌ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))، وَهُمْ إِنَّمَا يَتَحَرَّكُونَ مَعًا، فَلَا يُغَادِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَرَفَاتٍ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَبِيتُونَ جَمِيعًا بِـ(مُزْدَلِفَةَ)، فَيَجْمَعُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْجَمْعَ كُلَّهُ؛ مَا الَّذِي أَزَّهُمْ؟!!
مَا الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ؟!!
قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِعَبْدِهِ: فَارِقْ أَهْلَكَ!
قَالَ: نَعَمْ.
غَادِرْ وَطَنَكَ!
قَالَ: نَعَمْ.
انْضُ عَنْكَ ثِيَابَكَ، وَاخْلَعْ مَلَابِسَكَ!
قَالَ: نَعَمْ.
قِفْ عَلَى عَرَفَاتٍ مُلَبِّيًا وَدَاعِيًا!
قَالَ: نَعَمْ.
أَفِضْ مِنْ حَيْثُ أُمِرْتَ بِالْإِفَاضَةِ!
قَالَ: نَعَمْ.
كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا إِنَّمَا يَذْهَبُونَ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ تُخْرِجُهُمْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ لِأَنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللهَ، يَعْبُدُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، فَلَوْ عَلِمُوا هَذَا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَلَأَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي النَّبِيِّ الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ، فَنَبِيُّنَا ﷺ يَأْتِي بِمَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً فِي حَجَّتِهِ، وَيَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِائْتِسَاءِ بِهِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)).
فَهُمَا أَمْرَانِ لَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا:
لَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، لَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ نَفْسُهُ مَأْمُورٌ بِالْمُتَابَعَةِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18-19].
وَهَذَا خِطَابٌ شَدِيدٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَخَلِيلِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}؛ فَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، وَالْزَمِ الْجَادَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ أَقَمْنَاكَ عَلَيْهَا، وَهَدَيْنَاكَ إِلَيْهَا.
فَالرَّسُولُ ﷺ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}.
وَهُمَا أَمْرَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُتَّبِعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَا هَوًى؛ فَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي نَفْسِهِ؛ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ))، وَكَانَ يَبْدُو ظَاهِرًا ﷺ.
يَأْمُرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَمْتَثِلُ لِأَمْرِ اللهِ وَهُوَ خَلِيلُ اللهِ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ))
يَعُودُ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ إِخْوَانُهُ فِي أَعْظَمِ مَحْفَلٍ وَأَكْرَمِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى رَبِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ أَمْرُهُ عَظِيمٌ، وَشَأْنُهُ جَلِيلٌ، ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ عِظَمَ شَأْنِ الْحَجِّ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهِ لَهُ وَحْدَهُ، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، لَا لِسِوَاهُ، لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَجْعَلُوا لِأَحَدٍ فِي أَعْمَالِكُمْ وَفِي قُصُودِكُمْ وَفِي أُمُورِكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَوَجَّهُوا بِإِرَادَاتِكُمْ وَبِنِيَّاتِكُمْ وَبِأَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَبِحَرَكَةِ حَيَاتِكُمْ للهِ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَبَرَاكُمْ، وَأَنْشَاكُمْ وَسَوَّاكُمْ، وَاتَّبِعُوا نَبِيَّكُمْ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ الْبَيْتِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ لَمَّا صَدَعَ بِأَمْرِ رَبِّهِ دَاعِيًا إِلَى اللهِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، لَا إِلَى سِوَاهُ؛ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، مِنْ إِيرَادَاتِ الدُّنْيَا، مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِنِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ -حَاشَا وَكَلَّا-، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، لَا إِلَى سِوَاهُ، {عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
لَمَّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْزَلُوا بِهِ مَا أَنْزَلُوا بِهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، يُخْبِرُهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحَقِيقَةِ الْعُظْمَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ، وَأَنْتَ كَرِيمٌ عَلَيْنَا، عَزِيزٌ لَدَيْنَا، وَمَعَ ذَلِكَ يُجْرِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ سِوَاهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، يَسْجُدُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَسْجُدُ للهِ مُوَحِّدًا وَقَدْ خَلَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهُ وَلَبَّى نِدَاءَهُ، وَوَحَّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَنَزَعَ الشِّرْكَ.
يَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعُودُوا أَسْوِيَاءَ كَمَا خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَخْلَعُوا عَنْهُمُ الْعَصَبِيَّةَ الْمَقِيتَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَأَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى أَصْلِهِ بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).
عَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى مِنْهَاجِهِ، فَلَا انْحِرَافَ وَلَا اعْوِجَاجَ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا يَنْحَرِفُ مَنْ يَنْحَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَعْوَجُّ مَنْ يَعْوَجُّ عَلَى ذَاتِهِ، وَأَمَّا دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوَاضِحٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَهُ بَعْدُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ.
أَوْحَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَكَانَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ عِيدَانِ، وَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ الْفَارُوقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: ((أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ آيَةٌ لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا نَحْنُ مَعْشَرَ يَهُودٍ لَاتَّخَذْنَا يَوْمَ نُزُولِهَا عِيدًا)).
فَقَالَ الْفَارُوقُ: ((أَيُّ آيَةٍ هِيَ؟)).
قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فَقَالَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَمَا إِنِّي لَأَعْلَمُ مَتَى نَزَلَتْ؟ وَأَيْنَ نَزَلَتْ؟ نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّبِيُّ بِعَرَفَةَ، وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ جُمُعَةٍ))، وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ أُسْبُوعِيٍّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا عَرَفَةُ فَهُوَ عِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَامٍ.
فَبَيَّنَ الْفَارُوقُ أَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ اقْتِرَاحِكَ وَتَمَنِّيكَ، وَآتَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا لَمْ يُؤْتِكَ وَلَا قَوْمَكَ؛ لِأَنَّنَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
نَبِيُّكُمْ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْعِزِّ الظَّاهِرِ وَالْمَجْدِ الْبَاهِرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِجُنْدِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْلَى بِهِ كَلِمَةَ الدِّينِ عَالِيَةً خَفَّاقَةً فِي الرُّبُوعِ، وَانْحَجَمَ الشَّرُّ فِي جُحْرِهِ، وَعَادَتِ الْأَهْوَاءُ فِي مَكَامِنِهَا كَالْعَقَارِبِ تَجْعَلُ فِي الرِّمَالِ رُؤُوسَهَا، وَفَوْقَ الْأَرْضِ أَذْنَابَهَا، فَمَنْ لَمْ يَلْتَفِتْ ضَرَبَتْهُ لَدْغًا -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.
وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَصْبِرُ عَلَى الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ إِنَّمَا يَكُونُ صَبْرًا بِأَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا كَلَّفَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَأَنْ تَصْبِرَ عَمَّا يَعْرِضُ لَكَ مِنْ شَهَوَاتِ نَفْسِكَ، أَنْ تَصْبِرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَصْبِرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تَصْبِرَ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.
عِنْدَ الْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَانَ يَوْمًا سَاجِدًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)).
فَعَانَدُوهُ، فَلَمَّا سَجَدَ، وَكَانَ فَرَاعِينُ الْأُمَّةِ جُلُوسًا يَتَضَاحَكُونَ، يَمِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِمَّا وَقَعَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ، وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ؛ إِذْ قَالَ قَائِلُهُمْ: ((أَيُّكُمْ يَذْهَبُ فَيَأْتِي بِسَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ؟)).
وَسَلَا النَّاقَةِ: هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمَشِيمَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي وَضَعَتْ، فَكَذَلِكَ السَّلَا: مَا يَكُونُ حَوْلَ مَا تَضَعُ النَّاقَةُ، فَيُرْمَى.
فَذَهَبَ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَتَى بِسَلَا النَّاقَةِ -بِسَلَا الْجَزُورِ- عَلَى عُودٍ، ثُمَّ انْتَظَرَ حَتَّى سَجَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ لِرَبِّهِ!!
وَيِا للهِ! مَا أَحْلَمَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ!! وَهُوَ الْحَلِيمُ، لَمْ تَنْشَقَّ الْأَرْضُ، وَلَمْ تَخِرَّ الْجِبَالُ هَدًّا، وَلَمْ تَتَشَقَّقِ السَّمَاوَاتُ، وَلَا زُلْزِلَتْ مَكَّةُ بِأَهْلِهَا، وَلَمْ يَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَخَلِيلُهُ ﷺ سَاجِدٌ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَلَا الْجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَتَلَبَّثَ رَسُولُ اللهِ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَأَمَاطَتِ الْأَذَى عَنْهُ ﷺ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يُغَادِرْ قَدَرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَكَانُوا فِي الْقَلِيبِ مُجَيَّفِينَ.
رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}، فَاتَّبَعَهَا ﷺ، يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَسْتَلِمُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَنْ تُقَبِّلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَنْ تَسْتَلِمَهُ؛ بِمَعْنَى: أَنْ تَجْعَلَ يَدَكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَتُشِيرُ إِلَيْهِ إِذَا حَاذَيْتَهُ فِي الطَّوَافِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ مَأْمُورٌ مُمْتَثِلٌ، يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ، فَكَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَسْتَلِمُهُ، وَكَانَ إِذَا طَافَ عَلَى نَاقَتِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدُ فَقَبَّلَ الْحَجَرَ، ثُمَّ قَالَ: ((أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْ لَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)).
فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرُ مَا هُنَالِكَ مِنْ أَحْوَالِ حُدَثَاءِ الْأَسْنَانِ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَلَّعَ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْإِيمَانِيَّةِ الْحَقَّةِ؛ أَرَادَ أَنْ يُمِيطَ الشُّبْهَةَ وَأَنْ يُزِيلَهَا كُلِّيًّا، فَقَالَ: ((أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ))؛ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَالدِّينُ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ، لَا بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، الشَّرْعُ وَالدِّينُ يَأْتِيَانِ بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ، لَا بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، يَعْنِي: يَحَارُ الْعَقْلُ فِي فَهْمِهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَتِهِ.
فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ؛ لِأَنَّهُ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا بِمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ، لَا بِمَا تَقُولُ الْعُقُولُ: هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِي دُنْيَا اللهِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ.
الرَّسُولُ ﷺ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَاسْتَلَمَهُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَا نَقُولُ: لِمَ؟ وَلَا نَقُولُ: كَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نُسَلِّمُ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَمْ يُفَصَّلْ عَلَى مَقَادِيرِ الْعُقُولِ؛ إِنَّهُ لَا يَكُونُ -حِينَئِذٍ- دِينًا.
وَمِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ؛ بَلْ هِيَ أَوَّلُ صِفَاتِهِمْ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْبٌ لَمْ تَرَهُ الْعُقُولُ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُمَتِّعَنَا بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْجَنَّةِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-، عِنْدَمَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَعْيُنِهِمْ -بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ- رُؤْيَةً حَقِيقِيَّةً كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَكَمَا أَخْبَرَ نَبِيُّهُ الْكَرِيمُ ﷺ فِي الثَّابِتِ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا أَتَى بِدِينِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهَذَا الدِّينُ فِيهِ مِنَ الْغَيْبِ مَا فِيهِ، وَفِيهِ مِنَ الْحِكَمِ مَا فِيهِ، وَالْعَبْدُ مَرْبُوبٌ مُسَخَّرٌ مُذَلَّلٌ، لَيْسَ لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ لِسَيِّدِهِ: لِمَ وَلَا كَيْفَ، وَلَا أَنْ يُرَاجِعَهُ حَتَّى يَفْهَمَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْحِكْمَةُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ، يُؤْمَرُ فَيُطِيعُ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ؛ الْحَكِيمُ فِي أَمْرِهِ، الْحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ، الْحَكِيمُ فِي غَيْبِهِ، هُوَ الْحَكِيمُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ-.
النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا الْمَنَاسِكَ، وَقَالَ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ))، فَلَا يَصِحُّ حَجٌّ وَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ، وَلَا يَصِحُّ حَجٌّ وَلَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا لِحَظِّ النَّفْسِ فِيهِ شَيْءٌ، أَنْ يَكُونَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((الْبَيَانُ الْخِتَامِيُّ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ))
النَّبِيُّ ﷺ يُعْلِنُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ بَعْدَ الْيَوْمِ، اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ بِشَرْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَكُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَكُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ)).
اسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ رَبِّهَا، وَجَاءَهَا نَبِيُّهَا ﷺ الْخَاتَمُ الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ الْمُبَارَكَةِ أَتَى بِالْبَيَانِ الْخَالِدِ يَتَحَدَّرُ فِي ظِلَالٍ مِنَ النَّدَى عَلَى وَقْعِ الْمَسَامِعِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، يُؤَسِّسُ الْحَقَّ كُلَّهُ وَالْخَيْرَ جَمِيعَهُ، وَيُرْسِي فِي الْأَرْضِ قَوَاعِدَ الْعَدْلِ، وَيَجْعَلُ لِلنَّاسِ مَعَالِمَ طُرُقِهِمْ؛ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلِاسْتِكْمَالِ رُشْدِهِمْ فِي بَيَانٍ يَتَأَلَّقُ فِي جَلَالٍ وَسَنَا، وَقَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي يَوْمِ النَّحْرِ يَقُولُ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
وَيُخْبِرُكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ أَنَّ الْجَامِعَةَ الْإِيمَانِيَّةَ وَأَنَّ الرَّابِطَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ للهِ؛ فَلَا تَصْلُحُ الْأُمَّةُ إِلَّا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ؛ أَنْ يُوَحَّدَ وَأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))، فِي إِيغَالِ الْحِقْدِ فِي الصُّدُورِ، فِي زَرْعِ الْأَحْقَادِ فِي النُّفُوسِ، فِي التَّهَارُجِ وَالتَّهَارُشِ وَالتَّقَاتُلِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّبَاعُدِ بِمَا يَتَنَافَى كُلِّيًّا مَعَ مَقْصِدٍ جَلِيلٍ مِنْ مَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ؛ وَهُوَ جَمْعُ الْخَلْقِ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ؛ جَاءَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ.
لِذَلِكَ عَزَّزَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ بِأُمُورٍ فِي مُنَاسَبَاتٍ شَتَّى، وَفِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) قَالَ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَقَتْلِهِ))؛ يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ)).
هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ –أَيْ: فَمَاتَ هَاجِرًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ- دَخَلَ النَّارَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالتَّوَادِّ، أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّحَابِّ، وَنَهَى عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّخَالُفِ وَالْفُرْقَةِ، وَالْمَنْهَجُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَشِيئَتِهِ- فِيهِ الِاجْتِمَاعُ، وَهُوَ مُضَادٌّ لِلِافْتِرَاقِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا السُّنَّةَ بَاطِنًا، وَاجْتَمَعُوا عَلَى السُّنَّةِ ظَاهِرًا، أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَالسُّنَّةُ تَدْعُو إِلَى الِاجْتِمَاعِ، كَمَا أَنَّ الْبِدْعَةَ تَدْعُو إِلَى الِافْتِرَاقِ، أَهْلُ الْفُرْقَةِ هُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ، وَالْبِدْعَةُ مَقْرُونَةٌ بِالْفُرْقَةِ، كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ مَقْرُونَةٌ بِالِاجْتِمَاعِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ وَالتَّوَاصُلِ كَمَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا))، تَتَلَبَّسُونَ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْكُفَّارِ؛ إِذْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِغَيْرِ اعْتِبَارٍ، وَلَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ الَّذِي يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.
((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ))، بَلْ هَذَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَالَمَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ كَانَ أَهْلُهُ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الْحُمُرِ، يَتَسَافَدُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، لَا يُحَرِّمُونَ كَمَا كَانَتْ فَارِسُ تَفْعَلُ.. لَا يُحَرِّمُونَ الْأُمَّهَاتِ وَلَا الْبَنَاتِ وَلَا الْأَخَوَاتِ وَلَا الْعَمَّاتِ، لَا يُحَرِّمُونَ وَاحِدَةً مِنَ الْمَحَارِمِ، بَلْ يَقَعُونَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ اعْتِبَارٍ!!
كَانَ النَّاسُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ، وَفِي خَطَرٍ كَبِيرٍ حَتَّى جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، أَخْرَجَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، مِنَ الْغِوَايَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، أَقَامَهُمُ الرَّسُولُ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَوِيمِ، أَفَيَتْرُكُونَ النِّعْمَةَ بَعْدُ كُفْرًا بِهَا، وَيَرْجِعُونَ كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ؟!!
حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَنْفُسِ، حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))، وَهِيَ حُرْمَةٌ ثُلَاثِيَّةُ التَّرْكِيبِ: ((فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَالْعِرْضُ: هُوَ مَوْطِنُ الْمَدْحِ وَالْقَدْحِ فِي الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ هُوَ الْعِرْضَ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ الْكَلِيلُ الْعَامِّيُّ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْعِرْضَ عِنْدَمَا يُطْلَقُ يَنْصَرِفُ ذِهْنِيًّا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَمْرٍ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا جُزْءٌ مِنْهُ، وَالْعِرْضُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَوْطِنُ الْمَدْحِ وَالْقَدْحِ فِي الْإِنْسَانِ.
أَعْرَاضُكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ أَعْرَاضِ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسِكُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ ظُلْمِ غَيْرِكُمْ، لَا تَبْطِشُوا، لَا تَخُونُوا، لَا تَقْتُلُوا، لَا تَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، لَا تَضْرِبُوا الْأَبْشَارَ، لَا تُعَذِّبُوا النَّاسَ، لَا تَرْتَشُوا، لَا تَسْرِقُوا، وَإِنَّمَا كُونُوا أَطْهَرَ بِأَيْدٍ مُتَوَضِّئَةٍ.
النَّبِيُّ ﷺ حَذَّرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَجَعَلَ الْعَصَبِيَّةَ تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ فِيهِ تَعَصُّبٌ!! نَعَمْ، إِذَا كَانَ التَّعَصُّبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ، وَنُؤْمِنَ بِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ، وَأَنْ نُدَافِعَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الرَّمَقِ الْأَخِيرِ؛ فَنَحْنُ مُتَعَصِّبُونَ، أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا؟!! بَلْ إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الدِّينُ إِلَّا بِهَذَا، سُمِّيَ مَا سُمِّيَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَمَّوُا الْخَمْرَ بِغَيْرِ اسْمِهَا؛ فَكَانَ مَاذَا؟!! لَمْ تَخْرُجْ عَنْ أَنْ تَكُونَ خَمْرًا، فَإِذَا قَالُوا: إِنَّ الشَّمْسَ قَدْ كَسَفَتْ، وَلَا وُجُودَ لَهَا، وَهِيَ طَالِعَةٌ يَرَاهَا حَتَّى الْعُمْيَانُ؛ أَفَنُصَدِّقُ؟!! لَا نُصَدِّقُ بِحَالٍ.
وَإِذَنْ؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا تَعَصُّبًا فَنَحْنُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الشَّافِعِيُّ -لَمَّا قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ حُبَّ آلِ الْبَيْتِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ السُّنِّيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ يُعَدُّ رَفْضًا- قَالَ:
إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ = فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رَافِضِي
لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ لَا تُغَيَّرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ؛ فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَمَّوُا الْمُحَرَّمَاتِ تَدْلِيلًا لِلْمُحَرَّمَاتِ بِأَسْمَاءَ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ لِلتَّحْرِيمِ بِالتَّدْلِيلِ ظَاهِرًا، فَسَمَّوُا الْخَمْرَ -مَثَلًا- بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَسَمَّوْا مُخَالَطَةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ وَالزِّنَى وَالْبِغَاءِ وَمَا أَشْبَهَ.. سَمَّوْا ذَلِكَ حُرِّيَّةً إِنْسَانِيَّةً شَخْصِيَّةً، وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ جَسَدًا وَرُوحًا، فَرُوحُهُ للهِ وَجَسَدُهُ لِنَفْسِهِ يَتَمَتَّعُ بِهِ كَمَا يَشَاءُ!! فَلْتَبِعِ الْمَرْأَةُ جَسَدَهَا، وَلْتَأْكُلْ بِثَدْيَيْهَا كَيْفَمَا أَرَادَتْ، فَلَهَا أَنْ تَتَمَتَّعَ بِمَلَذَّاتِ حَيَاتِهَا!! أَفَيُغَيِّرُ هَذَا مِنَ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا؟! الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ؛ فَكَذَلِكَ نَفَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَصَبِيَّةَ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ.
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ)) أَيْ: تَجْعَلُ أَفْوَاهَهَا فِي النَّتْنِ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ تِلْكَ الدَّوَابِّ الْمُسْتَقْذَرَةِ.
وَالْجِعْلَانُ: جَمْعُ جُعْلٍ، وَهُوَ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ تَعْتَادُ أَنْ تَكُونَ فِي الْقَاذُورَاتِ وَالْأَذَى، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْخُنْفُسَاءِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)) يَعْنِي: حَمِيَّتَهَا وَفَخْرَهَا بِآبَائِهَا، وَتَطَاوُلَهَا وَتَعَاظُمَهَا، ((إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ))؛ إِلَى أَيْنَ صَارُوا؟!
قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدُ ((إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ))، أَيَفْخَرُ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَذَا؟!!
كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ الْوَشَائِجَ كُلَّهَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْطُوعَةٌ إِلَّا وَشِيجَةَ التُّقَى وَالدِّينِ؛ وَالْأَنْسَابُ وَالْأَحْسَابُ وَالصِّلَاتُ.. كُلُّ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ لَهُ إِلَّا مَعَ التَّقْوَى، ((تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ -كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ-، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا)).
نَعَمْ، مَنْ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمَ فَتَعَلَّمَ، فَصَارَ شَرِيفًا فِي الْإِسْلَامِ؛ فَقَدْ ضَمَّ شَرَفًا إِلَى شَرَفٍ، وَيُعْتَدُّ بِمَا كَانَ مِنْ شَرَفِهِ قَبْلُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
((إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)): حَمِيَّتَهَا، وَفَخْرَهَا، وَطَيْشَهَا، وَتَطَاوُلَهَا وَتَعَاظُمَهَا.
((أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ))، وَكَيْفَ يَفْخَرُ مَنْ هُوَ مِرْحَاضٌ مُتَحَرِّكٌ -فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ-، وَلَوْ لَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَذِنَ لَهُ بِالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا كَانَ لِيَتَطَاوَلَ بِبُلُوغِ هَذَا الْمَقَامِ؛ وَلَكِنْ مَعَ مَا فِيهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَحْمِلُ الْعَذُرَةَ؛ هَذِهِ حَالُهُ بَدْءًا وَمُنْتَهًى وَتَوَسُّطًا؛ مَا لِمِثْلِ هَذَا وَالْفَخْر!!
تُنْتِنُهُ عَرْقَةٌ، وَتُقْلِقُهُ بَقَّةٌ، وَإِذَا أَحَاطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ هَمٍّ سَلَا كَالْبَهَائِمِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ كَعُودِ الْخِلَالِ؛ ((أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ)).
النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهَاجَهُمْ؛ إِنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ وَأَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِآبَائِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ انْقِسَامَ الْبَشَرِ إِلَى قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: ((مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ))؛ فَاجْعَلْ نَفْسَكَ حَيْثَ هِيَ، وَاللهُ يَتَوَلَّاكَ.
مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا، وَلَا ثَالِثَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكْنُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا فَهُوَ فَاجِرٌ شَقِيٌّ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ -الَّذِينَ مَاتُوا، الَّذِينَ قَضَوْا، الَّذِينَ ذَهَبُوا وَمَضَوْا- إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ))، وَتَضَعُ أَفْوَاهَهَا فِي النَّتْنِ، لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ ذَلِكَ.
رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا وَضَعَ الرِّبَا -رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ- تَحْتَ قَدَمَيْهِ؛ بَدَأَ بِرِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمَّا جَعَلَ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةً جَعَلَ أَوَّلَ الدِّمَاءِ دِمَاءَ ابْنِ عَمِّهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ: ((كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَكُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ)).
انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ الرَّسُولُ بِنَفْسِهِ ﷺ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقُدْوَةِ لَا يُعَادِلُهُ تَعْلِيمٌ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ التَّعْلِيمِ قَاطِبَةً التَّعْلِيمُ بِالْقُدْوَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعَلِّمُ بِلَفْظِهِ وَقَوْلِهِ وَبِحَرَكَةِ حَيَاتِهِ جَمِيعِهَا ﷺ.
((مِنْ دَلَائِلِ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ: اشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ))
لَقَدْ تَمَيَّزَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَقُدُرَاتِهِمْ وَظُرُوفِهِمُ الزَّمَانِيَّةِ وَالْمَكَانِيَّةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْيُسْرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- لَا يَطْلُبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا مَا يُطِيقُونَهُ وَيَسْتَطِيعُونَهُ مِمَّا هُوَ يَسِيرٌ عَلَيْهِمْ غَيْرُ شَاقٍّ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
((فَاللهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُكَلِّفُ عِبَادَهُ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُلْزِمُهُمْ بِشَيْءٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّمَا ذَلِكَ سِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ)) .
فَلَيْسَ هُنَاكَ ضِيقٌ إِلَّا وَمِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَخْلَصٌ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ؛ فَلَيْسَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ عُقُوبَتِهِ.
وَلَقَدْ كَانَتِ الشَّدَائِدُ وَالْعَزَائِمُ فِي الْأُمَمِ، فَأَعْطَى اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا قَبْلَهَا؛ رَحْمَةً مِنْهُ -تَعَالَى- وَفَضْلًا، فَأَعْظَمُ حَرَجٍ رُفِعَ: الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا تُبْدِي أَنْفُسُنَا وَمَا تُخْفِيهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ إِصْرٍ وُضِعَ عَنَّا، وَتَوْبَتُنَا تَكُونُ بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ، وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَصْحَابِهَا، أَمَّا مَنْ قَبْلَنَا؛ فَقَدْ قِيلَ لَهُمْ: {فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[البقرة: 54].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ((وَلَوْ ذَهَبْتُ إِلَى تَعْدِيدِ نِعَمِ اللهِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ لَطَالَ الْمَرَامُ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ: ((وَلَمَّا كَانَ الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقَ، وَنَفَى اللهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْحَرَجِ بِنَا؛ سَاغَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهِ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَإِثْبَاتِ التَّوْسِعَةِ، فَيَكُونُ الْقَائِلُ بِمَا يُوجِبُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ مَحْجُوجًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ)).
((وَذَلِكَ عَامٌّ مُضْطَرِدٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يَشْرَعْ حُكْمًا إِلَّا وَأَوْسَعَ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ وَيَسَّرَهُ؛ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دُونَهُ حَرَجٌ وَلَا عُسْرٌ » .
وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].
وَقَالَ -تَعَالَى- فِي الْأَعْرَافِ: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42].
إِنَّ مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالْيُسْرِ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ السَّمَاحَةِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ المُفْرَدِ)).
وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ.
إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى مَنْ قَبْلَنَا الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، بَعَثَهُ ﷺ بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ:
* مِنْ قَوَاعِدِهَا: رَفْعُ الْحَرَجِ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
السَّمَاحَةُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجٌ وَحَيَاةٌ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا تَوَافَرَتْ لَدَيْهَا شُرُوطُ التَّكْلِيفِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي إِمْكَانِهَا وَحُدُودِ اسْتِطَاعَتِهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا ضِيقٍ؛ بِحَيْثُ لَا تَسْتَطِيعُ الْأَمْرَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَجَهْدٍ.
فَعَلَى مِقْدَارِ الْهِبَةِ تَكُونُ دَرَجَةُ التَّكْلِيفِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ، وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ مَسْؤُولِيَّاتِ الْمُكَلَّفِينَ بِحَسَبِ هِبَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ؛ لِتَحْقِيقِ كَمَالِ الْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ التَّسْهِيلَ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
وَالْمُتَأَمِّلُ فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ –وَمِنْهَا: الْحَجُّ- يَجِدُ أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْمُسْتَطِيعَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ؛ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ل عمران: 97].
الْحَجُّ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ، مَالِكًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاجِدًا أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَرْأَةِ أَحَدُ مَحَارِمِهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ-: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ))؛ حَجُّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
الْحَجُّ وَاجِبٌ وَفَرْضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنَ الدِّينِ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَانِ عَلَى المُسْلِمِ الحُرِّ المُكَلَّفِ القَادِرِ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً عَلَى الفَوْرِ..
«عَلَى الْمُسْلِمِ»: هَذَا أَحَدُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْعِبَادَاتُ كُلُّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْعِبَادَةُ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]؛ فَالْإِسْلَامُ شَرْطٌ لِكُلِّ عِبَادَةٍ.
«الْحُرُّ»: ضِدُّهُ الْعَبْدُ الْكَامِلُ الرِّقِّ، وَالْمُبَعَّضُ، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى قِنٍّ وَلَا مُبَعَّضٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَا مَالَ لَهُمَا، أَمَّا الْعَبْدُ الْكَامِلُ الرِّقِّ؛ فَلِأَنَّ مَالَهُ لِسَيِّدِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ؛ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ.
«الْمُكَلَّفُ»: هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ، وَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ؛ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ شَرْطَيْنِ، هُمَا: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَالصَّغِيرُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ؛ وَلَكِنْ لَوْ حَجَّ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ رَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: ((أَلِهَذَا حَجٌّ؟)).
قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالصَّغِيرُ: مَنْ دُونَ الْبُلُوغِ، وَالْبُلُوغُ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ مِنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ لِلذُّكُورِ، وَوَاحِدٍ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ لِلْإِنَاثِ.
فَلِلذُّكُورِ: الْإِنْزَالُ، وَنَبَاتُ الْعَانَةِ، وَتَمَامُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلِلْإِنَاثِ: هَذِهِ -يَعْنِي الثَّلَاثُ-، وَزِيَادَةُ أَمْرٍ رَابِعٍ؛ وَهُوَ الْحَيْضُ.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَالْحَجُّ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ.
«الْقَادِرُ»: هَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْخَامِسُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْقَادِرُ: هُوَ الْقَادِرُ فِي مَالِهِ وَبَدَنِهِ، هَذَا الَّذِي يَلْزَمُهُ الْحَجُّ أَدَاءً بِنَفْسِهِ.
الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَانِ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَطْلَقَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْحَجِّ: «أَفِي كُلِّ عَامٍ؟)).
قَالَ: ((الْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ»؛ إِلَّا لِسَبَبٍ كَالنَّذْرِ، فَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ».
وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ وَالرَّحْمَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ لَشَقَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ لَاسِيَّمَا فِي الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَلَاسِيَّمَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ الزَّمَانِ؛ حَيْثُ كَانَتْ وَسَائِلُ الْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ صَعْبَةً جِدًّا، ثُمَّ لَوْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كُلَّ سَنَةٍ لَامْتَلَأَتِ الْمَشَاعِرُ بِهِمْ، وَلَمْ تَكْفِهِمْ (مِنَى)، وَلَا (مُزْدَلِفَةُ)، وَلَا (عَرَفَةُ) )).
((التَّوَقُّفُ الْجُزْئِيُّ أَوِ الْكُلِّيُّ لِلْحَجِّ بِسَبَبِ الْأَوْبِئَةِ أَوْ ضَيَاعِ الْأَمْنِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا: الِاسْتِطَاعَةُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَعْنِي سَلَامَةَ الْجَسَدِ عَنِ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
وَمِنْهَا: الِاسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي تَعْنِي الْقُدْرَةَ عَلَى نَفَقَاتِ الْعِبَادَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَالًا لِلْحَجِّ؛ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ حَتَّى يَتَوَفَّرَ لَهُ الْمَالُ.
وَمِنْهَا: الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ لِلْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ أَمْنًا مِنْ عَدُوٍّ، أَمْ أَمْنًا مِنَ الْأَوْبِئَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ شَعِيرَةُ الْحَجِّ تَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ أَصْبَحَ الْخَطَرُ وَالضَّرَرُ عَلَى حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مِنْ أَثَرِ الْأَوْبِئَةِ وَانْتِشَارِهَا وَسَطَ الزِّحَامِ قَوِيًّا، وَهُوَ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يُخَاطِرُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى التَّجَمُّعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا أَوْ مَقْصِدُهَا؛ لِأَنَّ حِمَايَةَ النَّفْسِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْهَلَاكِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْحِفَاظِ عَلَيْهَا؛ وَلِذَا كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْقَائِمِ عَلَى شَأْنِ الْحَجِّ أَنْ يَتَّخِذَ مِنَ الْإِجْرَاءَاتِ مَا يَضْمَنُ سَلَامَةَ النَّفْسِ، كَمَا لِسَائِرِ الدُّوَلِ -أَيْضًا- أَنْ تَتَّخِذَ مِنَ الْإِجْرَاءَاتِ مَا يُؤَمِّنُ مُوَاطِنِيهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 196].
((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْأَمْوَالِ فِي الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ كُلُّ طُرُقِ الْخَيْرِ؛ مِنْ صَدَقَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ إِنْفَاقٍ عَلَى مَنْ تَجِبُ مُؤْنَتُهُ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ وَأَوَّلُ مَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ جِهَادٌ بِالْمَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ كَالْجِهَادِ بِالْبَدَنِ، وَفِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ: الْإِعَانَةُ عَلَى تَقْوِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى تَوْهِيَةِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَعَلَى إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِهِ.
فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى سَاقِ النَّفَقَةِ؛ فَالنَّفَقَةُ لَهُ كَالرُّوحِ، لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا، وَفِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِلْجِهَادِ، وَتَسْلِيطٌ لِلْأَعْدَاءِ، وَشِدَّةُ تَكَالُبِهِمْ؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} كَالتَّعْلِيلِ لِذَلِكَ.
وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ إِذَا كَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا أَوْ مُقَارِبًا لِهَلَاكِ الْبَدَنِ أَوِ الرُّوحِ، وَفِعْلِ مَا هُوَ سَبَبٌ مُوصِلٌ إِلَى تَلَفِ النَّفْسِ أَوِ الرُّوحِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ النَّفَقَةِ فِيهِ الْمُوجِبِ لِتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَغْرِيرُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي مُقَاتَلَةٍ، أَوْ سَفَرٍ مَخُوفٍ، أَوْ مَحَلِّ مَسْبَعَةٍ أَوْ حَيَّاتٍ، أَوْ يَصْعَدُ شَجَرًا أَوْ بُنْيَانًا خَطَرًا، أَوْ يَدْخُلُ تَحْتَ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
وَمِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمِنْهَا: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي تَرْكِهَا هَلَاكٌ لِلرُّوحِ وَالدِّينِ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 30].
(({وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَفِعْلُ الْأَخْطَارِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ صَانَ نُفُوسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَنَهَاكُمْ عَنْ إِضَاعَتِهَا وَإِتْلَافِهَا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا رَتَّبَهُ مِنَ الْحُدُودِ)).
وَإِنَّ الْقَارِئَ لِأَحْدَاثِ التَّارِيخِ يَجِدُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَرَّتْ بِسَنَوَاتٍ عُطِّلَ فِيهَا الْحَجُّ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا بِسَبَبِ انْتِشَارِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، أَوْ عَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ، أَوْ ظُرُوفٍ طَارِئَةٍ لِبَعْضِ الدُّوَلِ عَطَّلَتْ حَجَّ أَهْلِهَا، وَتَعَالَ فَلْنَتَأَمَّلْ حَالَةَ شِبْهِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ قَبْلَ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَرَّتِ الجَزِيرَةُ العَرَبِيَّةُ بِأَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ حَيْثُ العَمَلُ، وَتَنْفِيذُ حُكْمِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ الإِسْلَامَ عَصْرٌ يُسَمَّى فِي الإِسْلَامِ «الجَاهِلِيَّة»، وَكَانَ الأَمْنُ عَلَى الأَنْفُسِ وَالأَمْوَالِ وَالأَعْرَاضِ مَفْقُودًا، وَكَانَتِ الوَثَنِيَّةُ سَائِدَةً عَلَيْهِ.
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَامَ مَلِكِ الحَبَشَةِ النَّجَاشِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا المَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ...» إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَبِبَرَكَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَإِقَامَةِ دَعْوَتِهِ صَارَتِ الجَزِيرَةُ كُلُّهَا أَمْنًا وَأَمَانًا.
رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَدِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ)).
فَقَالَ: ((يَا عَدِيُّ! هَلْ رَأَيْتَ الْحِيَرَةَ؟)).
قَالَ: قُلْتُ: ((لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا)).
قَالَ: ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيَرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ!)).
قَالَ عَدِيٌّ: قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: ((فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟!)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)).
قَالَ عُدَيٌّ: قُلْتُ: ((كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟)).
قَالَ: ((كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟
فَيَقُولُ: بَلَى.
فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟
فَيَقُولُ: بَلَى.
فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ)).
قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)).
قَالَ عَدِيٌّ: ((فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيَرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)).
وَمِنْ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ كَانَ حَالُ الجَزِيرَةِ فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الأَمْنُ وَالأَمَانُ، وَمِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَكَيْفَ كَانَ النَّاسُ فِي الفَقْرِ وَالجُوعِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنْ وَعْدِ اللهِ الصَّادِقِ لِعِبَادِهِ الصَّادِقِين: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
فَلَمَّا آمَنَ النَّاسُ وَاتَّقَوْا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَهْدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَخَيْرِ القُرُونِ؛ كَانَتْ حَالَةُ الْمُسْلِمِينَ الأَمْنِيَّةُ وَالاقْتِصَادِيَّةُ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَكُونُ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُم أَنْضَرَ الأَيَّامِ رَغَدًا وَأَمْنًا، شَرَّقَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَغَرَّبُوا، وَأَبْحَرُوا وَأَصْحَرُوا، وَأَنْجَدُوا وَأَتْهَمُوا لِنَشْرِ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَدَخَلَ الإِسْلَامُ فِي الوَبَرِ وَالمَدَرِ، كُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ وَبِتَوْفِيقِهِ لِلْعَمَلِ بِدِينِ اللهِ الخَالِصِ.
كَانَتِ الجَزِيرَةُ تَشْتَعِلُ بِنَارِ الجُوعِ وَالخَوْفِ، فَأَبْدَلَ اللهُ جُوعَهَا رَغَدًا، وَخَوْفَهَا أَمْنًا، وَبَقِيَتْ حَالَةُ الجَزِيرَةِ عَلَى الأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ لَمَّا كَانَتِ الخِلَافَةُ الإِسْلَامِيَّةُ قَائِمَةً بِقُوَّتِهَا وَعَمَلِهَا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلَكِنَّ الفِتَنَ كَانَت تَرْفَعُ رَأْسَهَا، وَتُبْدِي أَنْيَابَهَا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَجْلِ أَنْ تُفَرِّقَهُم مِلَلًا وَفِرَقًا؛ كَوَقَائِعِ الخَوَارِجِ، وَالشِّيِعَةِ وَالرَّوَافِضِ، وَفِتْنَةِ خَلْقِ القُرْآنِ، وَالتَّعَصُّبَاتِ المَذْهَبِيَّةِ الَّتِي أُوذِيَتْ بِهَا الأُمَّةُ، وَذَاقَتِ الأَمَرَّيْنِ فِيهَا عَلَى مَرِّ القُرُونِ.
أَمَّا الأَمْنُ العَامُّ فَكَانَ يَسُودُ الجَزِيرَةَ إِلَى قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ سَاءَتِ الأَحْوَالُ حَتَّى صَارَتِ الجَزِيرَةُ مَقْسُومَةً بَيْنَ قَبَائِلَ شَتَّى، وَلَمْ تَكُنْ لَهَا دَوْلَةٌ جَامِعَةٌ فِي القُرُونِ الأَخِيرَةِ، وَكَادَ أَنْ يُجْمِعَ المُؤَرِّخُونَ عَلَى أَنَّ الأَمْنَ كَانَ مَفْقُودًا فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الجَزِيرَةِ قَبْلَ حُكْمِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ بَلْ تَذْكُرُ المَصَادِرُ المَوْثُوقُ بِهَا أَنَّ الأَمْنَ كَانَ ضَائِعًا فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الجَزِيرَةِ مُنْذُ قُرُونٍ.
وَلَمَّا مَلَكَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ عَبْدُ العَزِيزِ بنُ مُحَمَّدٍ؛ اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ عَلَى غَالِبِ أَنْحَاءِ الجَزِيرَةِ، عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «البَدْرِ الطَّالِعِ»، وَانْتَشَرَ فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ فِي عَهْدِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ وَعَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ.. انْتَشَرَ فِي الجَزِيرَةِ الأَمْنُ فِي الطُّرُقِ وَالبَرَارِي وَالقِفَارِ، وَمُحِيَتِ البِدَعُ، وَأُحْيِيَتِ السُّنَنُ، ثُمَّ عَادَ الحَالُ إِلَى السَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَإِلَى بِنَاءِ القِبَابِ، وَإِحْيَاءِ البِدَعِ وَالشِّرْكِيَّاتِ فِي الجَزِيرَةِ بَعْدَهُمَا.
وَأَمَّا الأَمْنُ مَا قَبْلَ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيز؛ فَكَانَ مَفْقُودًا تَمَامًا، لَا يَأْمَنُ المُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ؛ بَلْ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَعِرْضِهِ؛ حَتَّى فِي بَيْتِهِ.
كَانَتِ الجَزِيرَةُ مَقْسُومَةً عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وِحْدَةٍ قَبَلِيَّةٍ، وَكَانَتْ كُلُّ وِحْدَةٍ مِنَ الوَحْدَاتِ الإِقْلِيمِيَّةِ تُشَكِّلُ فِي وَاقِعِ أَمْرِهَا حُكُومَةً مُسْتَقِلَّةً؛ فَإِنَّ أُمَرَاءَ القَبَائِلِ يُشَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُلْطَةَ الحُكُومَةِ.
كَانَتِ البِلَادُ مَقْسُومَةً فِي هَذِهِ الأَقَالِيمِ وَالوِحْدَاتِ، وَكَانَ النَّاسُ يُعَانُونَ مِنَ الفَقْرِ وَالجُوعِ وَقِلَّةِ المَطَرِ، وَكَانَ هُجُومُ كُلِّ قَبِيلَةٍ عَلَى الأُخْرَى؛ لِتَأْخُذَ مِمَّا فِي أَيْدِي الآخَرِينَ، ثُمَّ تَعُودُ فَتَهْجُمُ القَبِيلَةُ الَّتِي هُوجِمَتْ عَلَى الأُخْرَى الَّتِي هَجَمَتْ؛ لِتَحْصُلَ عَلَى مَا فَقَدَتْ مِنَ الأَمْوَالِ.
وَعِنْدَ جَلْبِ الأَقْوَاتِ وَالمُؤَنِ مِنْ طُرُقِ التِّجَارَةِ مِنَ المَنَاطِقِ الأُخْرَى مِنْ دَاخِلِ الجَزِيرَةِ أَوْ خَارِجَهَا كَانَتِ القَوَافِلُ تَحْمِلُ السِّلَاحَ، وَتُعِدُّ لَهَا عُدَّةً كَافِيَةً، وَكُلَّمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ كَانُوا إِلَى النَّجَاةِ مِنْ أَيْدِي القَبَائِلِ أَقْرَبَ، وَقَدْ يَصْطَحِبُونَ مَعَهُمْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَجْتَازُونَهَا رَجُلًا أَوْ أَكْثَرَ، يُسَمُّونَهُمُ الرُّفُقَ -جَمْعُ رَفِيقٍ-، فَكَانُوا بِمَثَابَةِ جَوَازِ السَّفَرِ لَهُمْ.
فَمَا حَالُ الحُجَّاجِ إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ فِي مَطْلَعِ القَرْنِ العِشْرِينَ؟!! كَيْفَ كَانَ حَالُ الحُجَّاجِ؟!!
الحُجَّاجُ الوَافِدُونَ مِنَ البِلَادِ الأُخْرَى -مِنْ إِيرَانَ، وَغَيْرِهَا- مَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَجْتَازُوا أَرَاضِيَ القَبَائِلِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَدْفَعُوا مِنَ المَالِ مَا يُرْضِيهِم، وَيُسَمُّونَ المَالَ المَدْفُوعَ لَهُمْ حَقَّةً -أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مَشْرُوعٌ لَهُمْ-.
وَكَانَ أَسْوَءُ النَّاسِ حَظًّا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، فَهَؤُلَاءِ يَنْهَبُهُمُ اللُّصُوصُ، وَيَذْهَبُونَ بِهِمْ إِلَى سُوَيْقَةِ مَكَّةَ، فَيَعْرِضُونَهُم لِلْبَيْعِ كَمَا يُعْرَضُ المَتَاعُ، وَأَكْثَرُ مَنْ كَانَ يَتِمُّ اخْتِلَاسُهُمُ الصِّغَارُ؛ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالفَتَيَاتِ، وَكَانَ حُجَّاجُ بَيْتِ اللهِ يُؤخَذُ مِنْهُمْ ضَرَائِبُ بَاهِظَةٌ، وَطَرِيقُ جُدَّةَ وَمَكَّةَ -أَيْضًا- كَانَ مَحْفُوفًا بِخَطَرِ النَّهْبِ وَالسَّلْبِ.
يَقُولُ رِفْعَت بَاشَا -يَصِفُ طَرِيقَ جُدَّةَ إِلَى مَكَّةَ-: «وَبِهِ جُمْلَةُ قِلَاعٍ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، يُقِيمُ بِهَا جُنُودٌ أَتْرَاكٌ، وَبِهِ أَمَاكِنُ أُخْرَى يَقْطُنُهَا عَسَاكِرُ الشَّرِيفِ غَيْرُ النِّظَامِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ الحُرَّاسُ وُجِدُوا لِلمُحَافَظَةِ عَلَى الأَمْنِ بِالطَّرِيقِ؛ وَلَكِنَّهُمْ -كَمَا سَمِعْتُ- لَا يُفَارِقُونَ أَمَاكِنَهُم لِرَدِّ الغَارَاتِ، وَالضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِمَرْأَى مِنْهُمْ وَمَسْمَعٍ إِلَّا إِذَا أَمَرَهُمُ الوَالِي! وَأَيْنَ هُوَ مِنْهُم؟!!
وَكَثِيرًا مَا سُلِبَ الحُجَّاجُ أَمْتِعَتَهُم إِذَا تَأَخَّرُوا عَنِ القَافِلَةِ لِإِصْلَاحِ الأَحْمَالِ، أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ الضَّرُورَاتِ، وَإِذَا مَا سُئِلَ هَؤُلَاءِ الحُرَّاسُ: لِمَاذَا لَا تَقُومُونَ بِالوَاجِبِ؟
قَالُوا: أَمْرِ يُوك -بِالتُّرْكِيَّةِ: لَيْسَ عِنْدَنَا أَمْرٌ!- فَمَا أَقْبَحَ العُذْرَ!!)).
وَيَذْكُرُ -أَيْضًا- أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَكَّةَ سَطَا العُرْبَانُ عَلَى قَافِلَةٍ كَانَتْ بِبَحْرَةَ بَيْنَ جُدَّةَ وَمَكَّةَ، فَقَتَلُوا مِنْ رِجَالِهَا وَنِسَائِهَا، وَجَرَحُوا كَثِيرِينَ، وَسَلَبُوا المَتَاعَ وَالنُّقُودَ وَالحُلِيَّ، وَكَانَ فِيهَا كَثِيرٌ منَ المِصْرِيِّينَ وَالسُّودَانِيِّينَ.
يَقُولُ: «فَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى مَكَّةَ فِي التَّاسِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ؛ هَرَعَ الحُجَّاجُ إِلَيْنَا، وَبَثُّوا شَكْوَاهُمْ وَفَقْدَ المَالِ)).
كَانَ الأَمْنُ مُضَيِّعًا إِلَى حَدٍّ لَا يُؤْمَنُ عَلَى أَحَدٍ؛ حَتَّى مِنْ أَفْرَادِ العَامِلِينَ لِلْحُجَّاجِ، وَالجَمَّالِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الحُجَّاجَ؛ وَخَاصَّةً فِي طَرِيقِ المَدِينَةِ كَانُوا يَغْدِرُونَ بِهِمْ.
قَالَ رِفْعَت بَاشَا: «وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ الحُجَّاجِ المِصْرِيِّينَ أَنْ يُسَافِرُوا إِلَى المَدِينَةِ قَبْلَ حُضُورِنَا، وَتَجَمَّعُوا فِي المَكَانِ الَّذِي يُعَسْكِرُ فِيهِ المَحْمَلُ بَعْدَ أَنْ سَلَّمُوا أُجْرَةَ الجِمَالِ لِلْجَمَّالَةِ، فَاعْتَدَى هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا، وَجَرَحُوا، وَسَلَبُوا، ثُمَّ هَرَبُوا)).
وَكَانَ الخَوْفُ فِي الحِجَازِ وَالذُّعْرُ مِنَ الأَعْرَابِ فِي طَرِيقِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَمْنَعُ بَعْضَ قَوَافِلِ الحُجَّاجِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى المَدِينَةِ، فَيُضْطَرُّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ وَقَدْ وَصَلُوا قَرِيبًا مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الوُصُولِ إِلَى المَدِينَةِ؛ خَوْفًا مِنْهُم.
اخْتِلَالُ الأَمْنِ فِي الجَزِيرَةِ -وَبِالأَخَصِّ فِي الحِجَازِ- كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا عَلَى مَدَى قُرُونٍ، حَتَّى جَاءَ آلُ سُعُودٍ فِي الدَّوْلَةِ السُّعُودِيَّةِ الأُوْلَى، فَأَمَّنُوا الطَّرِيقَ، وَلَمَّا ذَهَبَتْ دَوْلَتُهُم رَجَعَ الحَالُ فِي الكُهُوفِ، وَالجِبَالِ، وَالبَرَارِيِّ، وَالمُدُنِ كَمَا كَانَ قَبْلُ، يَقْتُلُونَ الحُجَّاجَ وَيَنْهَبُونَهُم، وَكَانَ عَيْشُهُم مِمَّا يُحَصِّلُونَ مِنْهُمْ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ الخَلِيفِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ شَاهِدَ عِيَانٍ، قَالَ: «حَجَجْتُ فِي وَقْتِ الخَوْفِ ثَلَاثَ حِجَجٍ، وَجَرَى لِي عِدَّةُ وَقَائِعَ مَعَ الأَعْرَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَبِمُنَاسَبَةِ تَبْدِيلِ الخَوْفِ أَمْنًا.. أَذْكُرُ وَاقِعَةً وَاحِدَةً تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللهِ وَشُكْرِهِ..
فِي عَامِ (1338/ 1919) رَكِبْتُ حَاجًّا مَعَ رُفْقَةٍ لَا تَقِلُّ عَنْ مِئَتَيْ رَاكِبٍ، وَسِرْنَا عَلَى طَرِيقِ المَدِينَةِ قَاصِدِينَ بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَمَعَنَا الرُّفَقَاءُ وَالمُجِيرُونَ الَّذِينَ بَذَلْنَا لَهُمْ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ (خَاوَة) يَأْخُذُونَهَا عَلَى الحُجَّاجِ عَلَى طَرِيقِ الفُرُعِ -يُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ قُرًى مِنْ نَوَاحِي المَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ-، وَبِهَا نَخْلٌ وَمِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، بِزَعْمِهِمْ أَنَّها دِيَارُهُم، وَأَنَّ أَهْلَهَا قَبَائِلُهُم؛ لِنَسِيرَ مَعَهُمْ آمِنِينَ.
فَانْعَكَسَتْ عَلَيْنَا الحَالُ؛ إِذْ مَشَوْا بِنَا بِالمَكْرِ وَالخِتَالِ، فَلَمَّا وَصَلْنَا الفُرُعَ أَقَامُوا بِنَا يَوْمَيْنِ، وَكُلَّمَا طَالَبْنَاهُمْ تَعَلَّلُوا بِأَنَّ أَهْلَ الطَّرِيقِ لَمْ يَسْمَحُوا بِمُرُورِكُم مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ حَتَّى تُؤَدُّوا لَهُمْ شَيْئًا تَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُم، فَبَيْنَ أَخْذٍ وَرَدٍّ قَرَّرُوا عَلَى كُلِّ نَفَرٍ ثَلَاثَةَ مَجَايْدَة –وَهِيَ: الدَّرَاهِمُ المَجِيدِيَّةُ- زَائِدَةً عَمَا دَفَعْنَا سَابِقًا، وَمَعَ ذَلِكَ يُلْزِمُونَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ مِنْهُمُ العَلَفَ بِمَا يَقُولُونَ، وَقَدْ أَحَاطَ بِنَا لَيْلًا وَنَهَارًا بَيْنَ سَرِقَةٍ وَنَهْبٍ وَاخْتِلَاسٍ وَقَهْرٍ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)).
فِي الرُّبُعِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشْرِينَ كَانَ هَذَا حَالَ الحَجِّ وَالحَجِيجِ قَبْلَ مَجِيءِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
كَانَتْ هُنَالِكَ فِي الجِبَالِ مَوَاقِعُ بِالأَحْجَارِ، كَانَ اللُّصُوصُ يَلُوذُونَ بِهَا، فَإِذَا وَجَدُوا الحُجَّاجَ تَحْتَ الجَبَلِ؛ نَزَلُوا عَلَى جَنَاحِ السُّرْعَةِ؛ لِيَنْهَبُوهُم وَيَقْتُلُوهُمْ.
حَدَّثَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ السُّبَيِّلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ بُرَيْدَةَ: «أَنَّهُمْ جَاءُوا لِلحَجِّ، فَنَزَلُوا لَيْلًا عِنْدَ جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَسْفَلَةَ، وَطَبَخُوا الطَّعَامَ فِي اللَّيْلِ، وَبَيْنَمَا كَانُوا يَسْتَعِدُّونَ لِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ لَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا أَنْ نَزَلَ مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ نَاسٌ مُسَلَّحُونَ، وَحَمَلُوا القِدْرَ إِلَى مَكْمَنِهِم فِي الجَبَلِ.
قَالَ: فَتَرَجَّوْا مِنْهُمْ أَنْ خُذُوا الطَّعَامَ، وَرُدُّوا إِلَيْنَا القِدْرَ، فَلَمْ يَرُدُّوهُ لَهُمْ، وَهَدَّدُوهُمْ بِالقَتْلِ إِذَا رَفَعُوا الصَّوْتَ)).
ثُمَّ مَنَّ اللهُ بِالأَمْنِ.
فِي عَامِ أَرْبَعَةٍ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1904م)، فِي أَوَائِلِ القَرْنِ العِشْرِينَ وَجَّهَ أَحْمَد شَوْقِي -الشَّاعِرُ- قَصِيدَةً إِلَى السُّلْطَانِ عَبْدِ الحَمِيدِ، يَسْتَصْرِخُهُ مِنَ الشَّرِيفِ عَوْنِ الرَّفِيقِ، وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى مَكَّةَ.
فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِبْرِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (14 / 4 / 1904م)، تَحْتَ عُنْوَانِ: «ضَجِيجُ الحَجِيجِ»، كَتَبَ أَحْمَد شَوْقِي إِلَى السُّلْطَانِ عَبْدِ الحَمِيدِ يَسْتَصْرِخُهُ؛ لِتَرَدِّي حَالَةِ الأَمْنِ بِالنِّسْبَةِ لِحُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَام.
قَالَ شَوْقِي:
ضَجَّ الحِجَازُ وَضَجَّ البَيْتُ وَالحَرَمُ
وَاسْتَصْرَخَتْ رَبَّهَا فِي مَكَّةَ الأُمَمُ
تِلْكَ الرُّبُوعُ الَّتِي رِيعَ الحَجِيجُ بِهَا
أَلِلشَّرِيفِ عَلَيْهَا أَمْ لَكَ العَلَمُ
أُهِينَ فِيهَا ضُيُوفُ اللهِ وَاضْطُهِدُوا
إِنْ أَنْتَ لَمْ تَنْتَقِمْ فَاللهُ مُنْتَقِمُ
أَفِي الضُّحَى وَعُيُونُ الجُنْدِ نَاظِرَةٌ
تُسْبَى النِّسَاءُ وَيُؤْذَى الأَهْلُ وَالحَشَمُ؟!
كَانَ بَعْضُ الحُجَّاجِ مِنَ المِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ يَذْهَبُ بِامْرَأَتِهِ حَاجًّا وَحَاجَّةً إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، فَتُسْبَى، فَيَرْجِعُ بِدُونِهَا!!
فِي أَوَائِلِ القَرْنِ العِشْرِينَ، فِي الرُّبُعِ الأَوَّلِ!! حَتَّى أَتَى اللهُ بِالأَمْنِ الَّذِي يُرِيدُونَ اليَوْمَ تَقْوِيضَهُ.
أَفِي الضُّحَى وَعُيُونُ الجُنْدِ نَاظِرَةٌ
تُسْبَى النِّسَاءُ وَيُؤْذَى الأَهْلُ وَالحَشَمُ؟!!
وَيُسْفَكُ الدَّمُ فِي أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ
وَتُسْتَبَاحُ بِهَا الأَعْرَاضُ وَالحُرَمُ؟!!
يَدُ الشَّرِيفِ عَلَى أَيْدِي الوُلَاةِ عَلَتْ
وَنَعْلُهُ دُونَ رُكْنِ البَيْتِ تُسْتَلَمُ
(نِيرُونُ) إِنْ قِيسَ فِي بَابِ الطُّغَاةِ بِهِ
مُبَالَغٌ فِيهِ وَالحَجَّاجُ مُتَّهَمُ
أَدِّبْهُ أَدِّبْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَمَا
فِي العَفْوِ عَنْ فَاسِقٍ فَضْلٌ وَلَا كَرَمُ
لَا تَرْجُ فِيهِ وَقَارًا لِلرَّسُولِ فَمَا
بَيْنَ البُغَاةِ وَبَيْنَ المُصْطَفَى رَحِمُ
ابْنُ الرَّسُولِ فَتًى فِيهِ شَمَائِلُهُ
وَفِيهِ نَخْوَتُهُ وَالعَهْدُ وَالشَّمَمُ
يَقُولُ:
خَلِيفَةَ اللهِ شَكْوَى الْمُسْلِمِينَ رَقَّتْ
لِسُدَّةِ اللهِ هَلْ تَرْقَى لَكَ الكَلِمُ؟
الحَجُّ رُكْنٌ مِنَ الإِسْلَامِ نُكْبِرُهُ
وَاليَوْمَ يُوشِكُ هَذَا الرُّكْنُ يَنْهَدِمُ
هَذَا مَا قَالَهُ أَحْمَد شَوْقِي -الشَّاعِرُ المِصْرِيُّ- فِي أَوَائِلِ القَرْنِ العِشْرِينَ الصَّلِيبِيِّ.
مِنَ الشَّرِيفِ وَمِنْ أَعْوَانِهِ فَعَلَتْ
نُعْمَى الزِّيَادَةِ مَا لَا تَفْعَلُ النِّقَمُ
عَزَّ السَّبِيلُ إِلَى طَهَ وَتُرْبَتِهِ
فَمَنْ أَرَادَ سَبِيلًا فَالطَّرِيقُ دَمُ
يُرِيدُ أَنَّ مَنْ قَصَدَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَسْجِدَهُ؛ فَطَرِيقُهُ إِلَى المَدِينَةِ خَوْضٌ فِي الدِّمَاءِ، وَسَبْيٌ لِلْأَعْرَاضِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى الأَبْشَارِ، وَسَلْبٌ لِلْأَمْوَالِ!!
فِي الرُّبُعِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ العِشْرِينَ كَانَ هَذَا يَحْدُثُ!!
فَأَتَى اللهُ بِالمَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ، أَتَى اللهُ بِالأَمْنِ.
وَكُلُّ مَنِ اعْتَمَرَ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ العَامِ، وَكَذَا مَنْ شَهِدَ مَوْسِمَ الحَجِّ يَرَى بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَيَجِدُ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ وَعَقْلِهِ الأَمْنَ وَالأَمَانَ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ عَلَى أَرْضِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ كُلِّهَا.
يَقُولُ شَوْقِي:
مُحَمَّدٌ رُوِّعَتْ فِي القَبْرِ أَعْظُمُهُ
وَبَاتَ مُسْتَأْمَنًا فِي قَوْمِهِ الصَّنَمُ
وَخَانَ «عَوْنُ الرَّفِيقِ» العَهْدَ فِي بَلَدٍ
مِنْهُ العُهُودُ أَتَتْ لِلنَّاسِ وَالذِّمَمُ
قَدْ سَالَ بِالدَّمِ مِنْ ذَبْحٍ وَمِنْ بَشَرٍ
وَاحْمَرَّ فِيهِ الحِمَى وَالأَشْهُرُ الحُرُمُ
وَفُزِّعَتْ فِي الخُدُورِ السَّاعِيَاتُ لَهُ
الدَّاعِيَاتُ وَقُرْبُ اللهِ مُغْتَنَمُ
آبَتْ ثَكَالَى أَيَامَى بَعْدَمَا أُخِذَتْ
مِنْ حَوْلِهِنَّ النَّوَى وَالأَيْنُقُ الرُّسُمُ
رَبَّ الجَزِيرَةِ أَدْرِكْهَا فَقَدْ عَبَثَتْ
بِهَا الذِّئَابُ وَضَلَّ الرَّاعِيَ الغَنَمُ
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا أَمْرَهَا ظَلَمُوا
وَالظُّلْمُ تَصْحَبُهُ الأَهْوَالُ وَالظُّلَمُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ قِتَالٌ تَقْشَعِرُّ لَهُ
وَفِتْنَةٌ فِي رُبُوعِ اللهِ تَضْطَرِمُ
فَجَرِّدِ السَّيْفَ فِي وَقْتٍ يُفِيدُ بِهِ
فَإِنَّ لِلسَّيْفِ يَوْمًا ثُمَّ يَنْصَرِمُ
ذَكَرَ شْكِيبْ أَرْسِلَان بَعْضَ وَقَائِعِ الخَوْفِ، وَمَا كَانَ مِنَ الإِخْلَالِ بِالْأَمْنِ عِنْدَمَا حَجَّ قَبْلَ تَوَلِّي المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ، ثُمَّ رَأَى مَا رَأَى مِنَ الأَمْنِ الوَارَفِ الظِّلَالِ فِي عَهْدِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيز، وَشْكِيبْ رَأَى العَهْدَينِ، فَقَالَ فِي «الِارْتِسَامَاتِ اللِّطَاف» (ص265): «فَسُبْحَانَ الَّذِي أَدَالَ مِنْ تِلْكَ الحَالِ لِهَذِهِ الحَالِ، وَأَوْقَعَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الدُّعَّارِ فِي السُّهُولِ وَالأَوْعَارِ وَلَيْسَ فِي بَابِ الأَمْنِ فِي مَمَالِكِ بْنِ سُعُودٍ مُتَطَلِّعٌ لِمَزِيدٍ، وَقُصَارَى مَا يَتَمَنَّى الإِنْسَانُ دَوَامَ هَذِهِ النِّعْمَةِ)).
فَاللَّهُمَّ أَدِمْ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالأَمَانِ.
((تَمَنِّي الْحَجِّ وَاغْتِنَامُ غَيْرِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ لِعُذْرٍ))
عِبَادَ اللهِ! قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
((أَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنَ النَّاسِ فِي أَيِّ مَكَانٍ قَصْدَ هَذَا الْبَيْتِ لِأَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ، وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ حَجِّهِ وَعَمَلِهِ، وَعَنْ سَائِرِ خَلْقِهِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْحَجُّ مَرَّة، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ».
إِنَّ مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا عَظَّمَتْ مِنْ أَمْرِ النِّيَّةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))، فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَأْجُورٌ بِنِيَّتِهِ، وَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ يَبْلُغُ أَرْفَعَ الْمَنَازِلِ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ، يَقُولُ ﷺ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ؛ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ؛ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)).
((وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: ((إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِلَّا شَرَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّ أَقْوَامًا خَلْفَنَا بِالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ)).
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَوَى الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَلَكِنَّهُ حَبَسَهُ عَنْهُ حَابِسٌ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ الْأَجْرُ، يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ مَا نَوَى، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْعُذْرِ، يَعْنِي: لَمَّا كَانَ قَادِرًا كَانَ يَعْمَلُهُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ الْعَمَلِ كَامِلًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ؛ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا)).
فَالْمُتَمَنِّي لِلْخَيْرِ الْحَرِيصُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ، وَلَكِنْ حَبَسَهُ عَنْهُ حَابِسٌ؛ كُتِبَ لَهُ أَجْرُهُ كَامِلًا؛ فَمَثَلًا: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنَّهُ حَبَسَهُ حَابِسٌ؛ كَنَوْمٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ الْمُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ تَمَامًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ تَطَوُّعًا، وَلَكِنَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُهُ كَامِلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنَعَهُ مَانِعٌ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ فَقَطْ دُونَ أَجْرِ الْعَمَلِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: ((أَنَّ فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! سَبَقَنَا أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ)) يَعْنِي: إِنَّ أَهْلَ الْأَمْوَالِ سَبَقُونَا بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَمَا عَمِلْتُمْ؟ فَقَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)).
فَفَعَلُوا، فَعَلِمَ الْأَغْنِيَاءُ بِذَلِكَ، فَفَعَلُوا مِثْلَمَا فَعَلُوا، فَجَاءَ الْفُقَرَاءُ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).
وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ أَدْرَكْتُمْ أَجْرَ عَمَلِهِمْ؛ لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّ لَهُمْ أَجْرَ نِيَّةِ الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ ((فِيمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَجَعَلَ يُنْفِقُهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، وَكَانَ رَجُلٌ فَقِيرٌ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِيَ مَالَ فُلَانٍ لَعَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ عَمَلِ فُلَانٍ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ)) يَعْنِي: سَوَاءٌ فِي أَجْرِ النِّيَّةِ، أَمَّا الْعَمَلُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَعْمَلَهُ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللهِ.. فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ شَارَكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا شِعْبًا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ))، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120-121].
وَنَظِيرُ هَذَا ((أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا رَفَعَ اللهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً)).
وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ أَنْ تَكُونَ وَسَائِلُ الْعَمَلِ فِيهَا هَذَا الْأَجْرُ الَّذِي بَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).
وَمِنْ هُنَا فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحْسِنَ التِّجَارَةَ مَعَ اللهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَإِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادَةٍ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَنِمَ غَيْرَهَا، فَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِسَبَبِ الْوَبَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ، وَمِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ: قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُسَاعَدَتُهُمْ، وَالْإِسْهَامُ فِي تَخْفِيفِ آلَامِهِمْ وَمُعَانَاتِهِمْ، وَلَا أَفْضَلَ مِنَ الْإِسْهَامِ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَوْبِئَةِ بِتَوْفِيرِ الْأَجْهِزَةِ أَوِ الْمُسْتَلْزَمَاتِ الطِّبِّيَّةِ لِلْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَدَعْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
الرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.
وَإِذَا مَا شَفَعَ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهَا عَلَى نَفْعٍ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِهَا ضُرًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَصَّلَ مِنْ أَخِيهِ عَلَى نَفْعٍ وَلَوْ بِهَدِيَّةٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا شَفَعَ لِأَخِيهِ، فَأَهْدَى أَخُوهُ إِلَيْهِ بَعْدَ الشَّفَاعَةِ الْمَقْبُولَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ وَلَجَ فِي بَابٍ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِ الرِّبَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَيَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي: مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ- شَهْرًا».
لَأَنْ يَمْشِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ -أَيِّ حَاجَةٍ- مَا دَامَتْ مِمَّا يَرْضَى عَنْهُ الشَّرْعُ؛ فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا!!
زَمَنٌ طَوِيلٌ فِي اعْتِكَافٍ مَقْبُولٍ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ فِي بُقْعَةٍ طَاهِرَةٍ مُبَارَكَةٍ -هِيَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ-، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَشْيُهُ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ هِيَ أَفْضَلُ فَضْلًا، وَأَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَحَبُّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الِاعْتِكَافِ الَّذِي طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَعَظُمَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ الْمُكَرَّمِ.
((مِيزَةُ الْأُمَّةِ الْكُبْرَى التَّوْحِيدُ وَالْمُتَابَعَةُ))
النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَلَّنَا عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وُهَمَا أَصْلَا دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
فَأَتَى بِالتَّوْحِيدِ عَمَلًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ قَوْلًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا عِزَّ لَهَا إِلَّا بِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُمَيِّزُهَا.
هَذِهِ مِيزَتُكُمْ؛ مَا هِيَ مِيزَتُكُمْ؟
مَا الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْأُمَمِ؟
إِذَا صَارَتِ النِّسْوَةُ إِلَى تَبَذُّلٍ وَعُرْيٍ، تَقُودُهَا شَيَاطِينُ الْغَرْبِ لِتَصِيرَ مَلْهَاةً وَمَسْلَاةً وَلُعْبَةً، لِتَصِيرَ الْمَرْأَةُ اسْتِجْلَابًا لِلشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَالِ، فَتَابَعَتِ الْمُسْلِمَةُ الْكَافِرَةَ الْفَاجِرَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَمَا الَّذِي يُمَيِّزُهَا عَنْهَا؟!!
إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، فَمَا الَّذِي يُمَيِّزُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؟!!
إِنَّمَا يُمَيِّزُهُمْ أَمْرَانِ: تَوْحِيدُ رَبِّهِمْ، وَاتِّبَاعُ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ نُوَحِّدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ؛ فَـ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَ((أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)) شَهَادَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ، لَا تَصْلُحُ إِحْدَاهُمَا بِدُونِ أُخْتِهَا؛ فَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَفَرَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ، لَا تَنْفَعُهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَكَفَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَهُوَ كَافِرٌ، لَا تَنْفَعُهُ شَهَادَتُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمُتَابَعَةِ مَعًا، هُمَا أَصْلُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا يُعْبَدُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَا يُعْبَدَ إِلَّا بِمَا شَرَعَ ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) مَوْصُولًا، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَكُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لِأَحَدٍ -أَبَدًا- وَلَا يُؤْذَنُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ بِمَا يَرَاهُ، فَإِذَا لَمْ تَتَمَيَّزُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- بِمَا مَيَّزَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكَلَتْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((تُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا))؛ هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الطَّعَامِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ وَلَا مَؤُونَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَبْذُولٌ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، هَلُمُّوا هَلُمُّوا!
تَتَدَاعَى الْأُمَمُ إِلَى أَكْلِكُمْ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا لِتَأْكُلَ مَا فِيهَا، ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)).
قَالُوا: ((أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
لِأَنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ بَعْدُ كَانُوا قِلَّةً، وَلَكِنَّهَا الْقِلَّةُ الصَّالِحَةُ وَالْجِيلُ الرَّاشِدُ، فَكَمْ بَلَغَ عَدَدُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ؟ وَكَمْ بَلَغَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ؟ وَكَمْ يَبْلُغُ عَدَدُهُمُ الْيَوْمَ؟!!
وَمَعَ ذَلِكَ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ.
((أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((لَا، أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ كَثْرَةٌ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْهَيْبَةَ مِنْكُمْ مِنْ صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)).
قَالُوا: ((وَمَا الْوَهْنُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
إِذَا شَارَكْتُمُوهُمْ فِي هَذَا فَلَمْ يَعُدْ تَمَيُّزٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
إِذَا صَارَتِ الْحَيَاةُ لِلْحَيَاةِ، وَإِذَا صَارَ الْعَمَلُ لِلدُّنْيَا، وَلَا نَظَرَ إِلَى الْعَاقِبَةِ وَالْآخِرَةِ، وَلَا عَمَلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا نَظَرَ إِلَى جَنَّاتِ الْخُلْدِ، وَرُؤْيَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَنَّاتِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَنْ تُدْرِكُوا مَنْ سَبَقَكُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا حَصَّلُوهُ، وَحِينَئِذٍ تَأْكُلُكُمُ الْأُمَمُ؛ وَلَكِنْ تَآزَرُوا تَنَاصَرُوا تَكَاتَفُوا تَعَاضَدُوا، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّهُ بِذُنُوبِنَا يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْنَا مِنَ الْأَدْوَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْلَافِنَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمْهَرَةَ الْمُسْلِمِينَ -فِيمَا يُقَالُ لَهُ الدُّوَلُ النَّامِيَةُ- يُعَانُونَ مِنْ سُوءِ التَّغْذِيَةِ حِينًا، وَمِنْ فَقْرِ الدَّمِ أَحْيَانًا، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَنْزِلُ بِسَاحَاتِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مِسْكِينٌ مِسْكِينٌ؛ إِذْ يُعَانِي مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ عَنَاءً شَدِيدًا مَعَ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ بَلْ مَعَ خُلُوِّ ذَاتِ الْيَدِ، وَيَحْتَاجُ أَحْيَانًا إِلَى قَطْرَةٍ مِنَ الدِّمَاءِ، فَإِذَا لَمْ تُبْذَلْ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَا يُرِيدُ اللهُ -وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُهُ فِي كُلِّ حَالٍ-.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعُونَةِ أَخِيهِ بِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فَمَنْ أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذِ الْبَشَرِيَّةُ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا، وَفِي سَوْقِ مَقَادِيرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْحَيَاةِ إِلَيْهَا، {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))
أَمَا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ=وَلَبَّوْا لَهُ عِنْدَ الْمُهَلِّ وَأَحْرَمُوا
وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسَ تَوَاضُعًا=لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتُسْلِمُ
يُهِلُّونَ بِالْبَيْدَاءِ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا=لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ
دَعَاهُمْ فَلَبَّوْهُ رِضًا وَمَحَبةً=فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُــــــمُ
تَرَاهُمْ عَلَى الْأَنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ=وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَـــمُ
وَقَدْ فَارَقُوا الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلَ رَغْبَةً=وَلَمْ تُثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ
يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا=رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَللهِ أَسْلَمُوا
((رُؤْيَةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ))
وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي=قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إِلَيْهِ تَضَرَّمُ
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْصَبُوا قَطُّ قَبْلَهُ=لِأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ
فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهْرَاقَةٍ!=وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لَا تَقَدَّمُ
وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا=فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ
إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلَامُهَا=وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ
وَلَا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَايِنُ حُسْنَهُ=إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ=إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ فَهْوَ الْمُعَظَّمُ
كَسَاهُ مِنَ الْإجْلَالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ=عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلَاحَةِ مُعْلِمُ
فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ=وَتَخْضَعُ إِجْلَالًا لَهُ وَتُعَظِّمُ
((الذَّهَابُ إِلَى عَرَفَةَ))
وَرَاحُوا إِلَى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً=وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ
فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الْأَعْظَمُ الَّذِي=كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ=يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلَاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ
يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً=وَإنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأَرْحَمُ
فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ=وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ
فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي=بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ
فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ!=وَآخَرُ يَسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ
وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظَ فِي الْوَرَى=وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهْوَ أَلْأَمُ
وَذَاكَ لِأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ=فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ
وَقَدْ عَايَنَتْ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ=وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ
بَنَى مَا بَنَى حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ=تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهْوَ مُحْكَمُ
أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ=فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ
وَكَمْ قَدْرُ مَا يَعْلُو الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي=إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ؟!!
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَحْمِلَنَا أَجْمَعِينَ إِلَى بَلَدِهِ الْحَرَامِ وَبَيْتِهِ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ، وَأَنْ يَجْمَعَنَا جَمِيعًا عَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ عُمَّارًا وَحُجَّاجًا.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ عُمَّارًا وَحُجَّاجًا.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الْحَجُّ فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ