السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

((السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَغْيِيرَ))

فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

(({فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَغْيِيرًا، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ تَبْدِيلًا، لَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ وَلَا يُبَدِّلَهُ; لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ)).

إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى سُنَنٍ وَقَوَانِينَ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُهُ حَافِلًا بِالْحَدِيثِ عَنْ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَضْبِطُ حَرَكَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي تَكَامُلٍ وَانْسِجَامٍ دُونَ خَلَلٍ أَوِ اضْطِرَابٍ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: { وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77].

((وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا عَمَّا جَرَتْ بِهِ)).

وَتَتَمَيَّزُ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ بِالْعُمُومِ وَالشُّمُولِ؛ فَهِيَ تَنْطَبِقُ عَلَى الْجَمِيعِ دُونَ تَمْيِيزٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ.

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ))

لَقَدْ جَعَلَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123-124].

((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْعَامِلِينَ؛ لِأَنَّ السُّوءَ شَامِلٌ لِأَيِّ ذَنْبٍ كَانَ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ وَكَبَائِرِهَا، وَشَامِلٌ -أَيْضًا- لِكُلِّ جَزَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ.

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَرَجَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ كُلُّهُ سُوءًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا؛ فَإِذَا مَاتَ مِنْ دُونِ تَوْبَةٍ جُوزِيَ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.

وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ صَالِحًا، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَحْيَانًا بَعْضُ الذُّنُوبِ الصِّغَارِ؛ فَمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْأَذَى وَبَعْضِ الْآلَامِ فِي بَدَنِهِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ حَبِيبِهِ أَوْ مَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ، وَهِيَ مِمَّا يُجْزَى بِهِ عَلَى عَمَلِهِ، قَيَّضَهَا اللَّهُ لُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ.

وَهَذَا الْجَزَاءُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ الْعَامِّ مَخْصُوصٌ فِي غَيْرِ التَّائِبِينَ؛ فَإِنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ.

وَقَوْلُهُ: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} لِإِزَالَةِ بَعْضِ مَا لَعَلَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْمُجَازَاةَ عَلَى عَمَلِهِ قَدْ يَكُونُ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ نَاصِرٌ أَوْ شَافِعٌ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا اسْتَحَقَّهُ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ يُحَصِّلُ لَهُ الْمَطْلُوبَ، وَلَا نَصِيرٌ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَرْهُوبَ إِلَّا رَبُّهُ وَمَلِيكُهُ.

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ}: دَخَلَ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَدَخَلَ -أَيْضًا- كُلُّ عَامِلٍ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: وَهَذَا شَرْطٌ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لَا تَكُونُ صَالِحَةً، وَلَا تُقْبَلُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِهَا الْعِقَابُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ؛ فَالْأَعْمَالُ بِدُونِ الْإِيمَانِ كَأَغْصَانِ شَجَرَةٍ قُطِعَ أَصْلُهَا، وَكَبِنَاءٍ بُنِيَ عَلَى مَوْجِ الْمَاءِ، فَالْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ أُطْلِقَ، فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهِ.

{فَأُولَئِكَ} أَيِ: الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أَيْ: لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مِمَّا عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ يَجِدُونَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا، مُضَاعَفًا أَضْعَافًا كَثِيرَةً)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].

((أَمَرَ -تَعَالَى- بِذِكْرِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ جَزَاءٍ؛ وَهُوَ ذِكْرُهُ لِمَنْ ذَكَرَهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ: ((مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ)).

وَذِكْرُ اللَّهِ -تَعَالَى- أَفْضَلُهُ مَا تَوَاطَأَ عَلَيْه الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي يُثْمِرُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ، وَمَحَبَّتَهُ، وَكَثْرَةَ ثَوَابِهِ، وَالذِّكْرُ هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ بِهِ خُصُوصًا)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ».

وَيَقُولُ : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)).

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ: التَّدَاوُلُ بَيْنَ النَّاسِ))

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ اللهَ يُدَاوِلُ الْأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ، يَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا، عِبَرٌ يُمَحِّصُ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ إِيمَانَهُمْ وَصِدْقَهُمْ، وَيَفْضَحُ اللهُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ، وَيُمَحِّصُ اللهُ بِهَا ذُنُوبَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِلهِ فِيهَا الْحِكَمُ الْعَظِيمَةُ.

فَالْإِنْسَانُ لَا يَقْنَطُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ مُصِيبَةٌ، أَوْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ، أَوْ خَسِرَ فِي سِلْعَةٍ فِي مَالٍ، أَوْ أَصَابَتْهُ نَكْبَةٌ فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلَا يَجْزَعُ وَلَا يَقْنَطُ، بَلْ يُشَمِّرُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَيَسْأَلُ رَبَّهُ الْعَوْنَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالْعِوَضَ عَمَّا أَصَابَهُ، وَلْيُشَمِّرْ إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلْيُبْشِرْ بِالْعَاقِبَةِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩].

فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَعَدَ بِالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ لِمَنْ صَبَرَ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: ٤٣]، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120])).

فَمِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ: سُنَّةُ التَّدَاوُلِ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}  [آل عمران: 140].

(({تِلْكَ الْأَيَّامُ}: الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بَعِيدٌ؛ وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ هِيَ الزَّمَنُ، فَهِيَ قَرِيبَةٌ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَيَّامُ مِنْهَا مَا هُوَ بَعِيدٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ؛ غَلَّبَ جَانِبَ الْبُعْدِ: {وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أَيْ: نَجْعَلُهَا بَيْنَهُمْ دُوَلًا، فَمَرَّةً تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَمَرَّةً تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِهَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ؛ فَفِي (بَدْرٍ) كَانَتِ الدَّوْلَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَفِي (أُحُدٍ) كَانَتِ الدَّوْلَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً؛ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ بَيَّنَهَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا بَعْدُ.

وَقَوْلُهُ: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} يَشْمَلُ مُدَاوَلَتَهَا بَيْنَ أُمَّةٍ وَأُمَّةٍ، وَيَشْمَلُ كَذَلِكَ مُدَاوَلَتَهَا فِي الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ؛ فَالْإِنْسَانُ يَجِدُ يَوْمًا سُرُورًا، وَيَجِدُ يَوْمًا آخَرَ حُزْنًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا       =         وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرّ

فَالدُّنْيَا -هَكَذَا- لَا تَبْقَى عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: دَوَامُ الْحَالِ مِنَ الْمُحَالِ، فَالْأَيَّامُ دُوَلٌ)).

((فَيُدَاوِلُ اللهُ الْأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ، يَوْمٌ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَيَوْمٌ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَانِيَةٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا)).

(({وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} قِيلَ: هَذَا فِي الْحَرْبِ، تَكُونُ مَرَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَنْصُرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- دِينَهُ، وَمَرَّةً لِلْكَافِرِينَ إِذَا عَصَى الْمُؤْمِنُونَ؛ لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيُمَحِّصَ ذُنُوبَهُمْ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْصُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.

وَقِيلَ: نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ؛ مِنْ فَرَحٍ وَغَمٍّ، وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ؛ وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَالدَّوْلَةُ: الْكَرَّةُ.

وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةُ لِيُرَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ، فَيُمَيَّزُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)).

فَعَلَى الْغَنِيِّ أَنْ يَشْكُرَ، وَعَلَى الْفَقِيرِ أَنْ يَعْمَلَ وَيَكِدَّ وَيَجْتَهِدَ، وَيَأْخُذَ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا : ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)).

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

الِامْتِحَانُ وَالِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ))

وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ: الِامْتِحَانُ وَالِابْتِلَاءُ، وَالِاخْتِيَارُ وَالِاصْطِفَاءُ؛ فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي النَّاسَ فِي الْحَيَاةِ لِيَرَى صَبْرَهُمْ، وَلِيَرَى صِدْقَهُمْ، جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفِتْنَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ كَالنَّارِ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّهَبِ، يَدْخُلُ الذَّهَبُ النَّارَ حَتَّى يَخْرُجَ خَالِصًا مُخَلَّصًا مِنْ شَوَائِبِهِ وَمَا عَلِقَ بِهِ.

وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْفِتَنِ، وَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَارَ الْمِحَنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ شَوَائِبِهِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِيرَ إِلَى كَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ حَتَّى يَدْفَعَ فِتْنَةَ الشَّهْوَةِ، وَحَتَّى يَصِيرَ إِلَى كَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ حَتَّى يَدْفَعَ فِتْنَةَ الشُّبْهَةِ.

فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَا الْمَحَكَّ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِدْقَ الْإِنْسَانِ وَصَبْرَهُ.

يَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْحَدِيثِ عَنْ سُنَّةِ الِابْتِلَاءِ: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

أَظَنَّ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللهِ، وَهُمْ لَا يُخْتَبَرُونَ وَيُمْتَحَنُونَ بِمَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَوَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَائِبِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ؟!!

كَلَّا.. لَنَخْتَبِرَنَّهُمْ؛ لِنُبَيِّنَ الْمُخْلِصَ مِنَ الْمُنَافِقِ، وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَالصَّابِرَ مِنَ الْجَزُوعِ.

وَنُؤَكِّدُ مُقْسِمِينَ أَنَّنَا اخْتَبَرْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بِضُرُوبِ الْفِتَنِ وَأَنْوَاعِ الْمِحَنِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، فَصَبَرُوا؛ فَمَا لَهُمْ لَا يَصْبِرُونَ مِثْلَهُمْ؟!!

فَلَيُظْهِرَنَّ اللهُ الصَّادِقِينَ فِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيهِ بِاخْتِبَارِهِمُ اخْتِبَارًا عَمَلِيًّا يَكْشِفُ صِدْقَ الصَّادِقِينَ وَكَذِبَ الْكَاذِبِينَ.

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

((هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: لَا تَظُنُّوا، وَلَا يَخْطُرْ بِبَالِكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ دُونِ مَشَقَّةٍ، وَاحْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَعْلَى الْمَطَالِبِ، وَأَفْضَلُ مَا بِهِ يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الْمَطْلُوبُ عَظُمَتْ وَسِيلَتُهُ وَالْعَمَلُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ، فَلَا يُوصَلُ إِلَى الرَّاحَةِ إِلَّا بِتَرْكِ الرَّاحَةِ، وَلَا يُدْرَكُ النَّعِيمُ إِلَّا بِتَرْكِ النَّعِيمِ؛ وَلَكِنَّ مَكَارِهَ الدُّنْيَا الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ تَوْطِينِ النَّفْسِ لَهَا، وَتَمْرِينِهَا عَلَيْهَا، وَمَعْرِفَةِ مَا تَؤُولُ إِلَيْهِ تَنْقَلِبُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ مِنَحًا يُسَرُّونَ بِهَا وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

((أَخْبَرَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أَيِ: الْفَقْرُ {وَالضَّرَّاءُ} أَيِ: الْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلَ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللَّهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ، وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ إِذَا صَابَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}؛ فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)).

يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُمَحِّصَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ سَخِيمَتَهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَلْبِهِ مَا يَنْخَرُ فِيهِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ طَلَاحُهُ إِذَا مَا نَمَا فِيهِ وَزَكَا.

وَلَكِنْ يُزَكِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُلُوبَ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْخِصَالِ الطَّيِّبَةِ؛ لِيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْمَحَكِّ دَائِمًا وَأَبَدًا.

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا؛ ((فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.

إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.

إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.

وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو -أَيْضًا- أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنِ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ».

أَمَّا الِاصْطِفَاءُ؛ فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِمَنْ يَصْطَفِي، وَلِمَ يَصْطَفِي، وَمَتَى يَصْطَفِي؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].

(({اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فِيمَنْ عَلِمَهُ يَصْلُحُ لَهَا، وَيَقُومُ بِأَعْبَائِهَا، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَمُتَبَرِّئٌ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ، أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ أَصْلًا وَتَبَعًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَضَعْ أَفْضَلَ مَوَاهِبِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُهُ وَلَا يَزْكُو عِنْدَهُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ حِكْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ -تَعَالَى- رَحِيمًا وَاسِعَ الْجُودِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّهُ حَكِيمٌ لَا يَضَعُ جُودَهُ إِلَّا عِنْدَ أَهْلِهِ)).

وَيَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].

((بَيَّنَ -تعالى- حَالَةَ الرُّسُلِ، وَتَمَيُّزَهُمْ عَنِ الْخَلْقِ بِمَا تَمَيَّزُوا بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَقَالَ: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} أَيْ: يَخْتَارُ وَيَجْتَبِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا يَكُونُونَ أَزْكَى ذَلِكَ النَّوْعِ وَأَجْمَعَهُ لِصِفَاتِ الْمَجْدِ، وَأَحَقَّهُ بِالِاصْطِفَاءِ، فَالرُّسُلُ لَا يَكُونُونَ إِلَّا صَفْوَةَ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالَّذِي اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ لَيْسَ جَاهِلًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ يَعْلَمُ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، وَإِنَّ الْمُصْطَفِيَ لَهُمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ فَاخْتِيَارُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَصْلُحُ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ})).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ مَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا مُخْلِصِينَ، وَرِجَالًا صَادِقِينَ قَدْ تَكَفَّلَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ بِهِدَايَتِهِمْ، وَوَعَدَ بِالْإِتْيَانِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ أَوْصَافًا، وَأَقْوَاهُمْ نُفُوسًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا، أَجَلُّ صِفَاتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ هِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ فَضِيلَةٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا يَسَّرَ لَهُ الْأَسْبَابَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ كُلَّ عَسِيرٍ، وَوَفَّقَهُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْوِدَادِ.

وَمِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

كَمَا أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ: أَنْ يُكْثِرَ الْعَبْدُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ اللَّهِ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)).

وَمِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ: مَعْرِفَتُهُ -تَعَالَى-، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ بِدُونِ مَعْرِفَةٍ بِاللَّهِ نَاقِصَةٌ جِدًّا؛ بَلْ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَإِنْ وُجِدَتْ دَعْوَاهَا، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَبِلَ مِنْهُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ، وَغَفَرَ لَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ)).

وَيَقُولُ (عزَّ وجلَّ): {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31-32].

((وَقَالُوا مُقْتَرِحِينَ عَلَى اللَّهِ بِعُقُولِهِمِ الْفَاسِدَةِ: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أَيْ: مُعَظَّمٌ عِنْدَهُمْ، مُبَجَّلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَوْ أَهْلِ الطَّائِفِ؛ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَنَحْوِهِ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُمْ عَظِيمٌ.

قَالَ اللَّهُ رَدًّا لِاقْتِرَاحِهِمْ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} أَيْ: أَهُمُ الْخُزَّانُ لِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَبِيَدِهِمْ تَدْبِيرُهَا، فَيُعْطُونَ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَنْ يَشَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَهَا مِمَّنْ يَشَاءُونَ؟!!

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أَيْ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْحَالُ أَنَّ رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الدُّنْيَا.

فَإِذَا كَانَتْ مَعَايِشُ الْعِبَادِ وَأَرْزَاقُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ الَّذِي يُقَسِّمُهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، فَيَبْسُطُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ؛ فَرَحْمَتُهُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي أَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ تَكُونَ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.

فَعُلِمَ أَنَّ اقْتِرَاحَهُمْ سَاقِطٌ لَاغٍ، وَأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْأُمُورِ كُلِّهَا دِينِيِّهَا وَدُنْيَوِيِّهَا بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، هَذَا إِقْنَاعٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ غَلَطِهِمْ فِي الِاقْتِرَاحِ الَّذِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا ظُلْمٌ مِنْهُمْ وَرَدٌّ لِلْحَقِّ.

وَقَوْلُهُمْ: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}: لَوْ عَرَفُوا حَقَائِقَ الرِّجَالِ، وَالصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ عُلُوُّ قَدْرِ الرَّجُلِ، وَعِظَمُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ؛ لَعَلِمُوا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ الرِّجَالِ قَدْرًا، وَأَعْلَاهُمْ فَخْرًا، وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلًا، وَأَغْزَرُهُمْ عِلْمًا، وَأَجَلُّهُمْ رَأْيًا وَعَزْمًا وَحَزْمًا، وَأَكْمَلُهُمْ خُلُقًا، وَأَوْسَعُهُمْ رَحْمَةً، وَأَشَدُّهُمْ شَفَقَةً، وَأَهْدَاهُمْ وَأَتْقَاهُمْ.

وَهُوَ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَمَالِ، وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ، أَلَا وَهُوَ رَجُلُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، يَعْرِفُ ذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ؛ فَكَيْفَ يُفَضِّلُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مَنْ لَمْ يَشُمَّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كَمَالِهِ؟! وَمِنْ جُرْمِهِ وَمُنْتَهَى حُمْقِهِ: أَنْ جَعَلَ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَدْعُوهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ صَنَمًا، أَوْ شَجَرًا، أَوْ حَجَرًا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، يَحْتَاجُ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ؛ فَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ فِعْلِ السُّفَهَاءِ وَالْمَجَانِينِ؟!!.

فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِثْلُ هَذَا عَظِيمًا؟!! أَمْ كَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ ﷺ؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يَعْقِلُونَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَنْبِيهٌ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي تَفْضِيلِ اللَّهِ بَعْضَ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا؛ {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أَيْ: لِيُسَخِّرَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ وَالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ.

فَلَوْ تَسَاوَى النَّاسُ فِي الْغِنَى، وَلَمْ يَحْتَجْ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ لَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ.

وَفِيهَا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِعْمَتَهُ الدِّينِيَّةَ خَيْرٌ مِنَ النِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ})).

وَيَقُولُ فِي قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَحَدِّثًا عَنْ رِحْلَتِهِ مَعَ فَتَاهُ لِلِقَاءِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].

((وَجَدَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَتَاهُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا، وَهُوَ الْخَضِرُ، وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، لَا نَبِيًّا -عَلَى الصَّحِيحِ-.

{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: أَعْطَاهُ اللَّهُ رَحْمَةً خَاصَّةً بِهَا زَادَ عِلْمُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا عِلْمًا، وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطَ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَعْلَمَ مِنْهُ بِأَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ؛ وَخُصُوصًا فِي الْعُلُومِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْأُصُولِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

فَلَا تُحَارِبْ أَحَدًا فِي شَيْءٍ مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ؛ فَلَنْ تُوقِفَهُ، وَلَنْ يُوقِفَكَ أَحَدٌ عَنْ أَمْرٍ أَرَادَهُ اللهُ لَكَ، وَلَنْ يَحُولَ أَحَدٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَيْرٍ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَسُوقَهُ إِلَيْكَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].

((ذَكَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- انْفِرَادَهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، فَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَنْهُمْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}: فَهَذَا يُوجِبُ التَّعَلُّقَ بِاللَّهِ -تَعَالَى-، وَالِافْتِقَارَ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَأَلَّا يُدْعَى إِلَّا هُوَ، وَلَا يُخَافَ وَيُرْجَى إِلَّا هُوَ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الَّذِي قَهَرَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا {الْحَكِيمُ} الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا)).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ))

وَمِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ؛ فَمَنْ يَزْرَعْ يَحْصُدْ، وَمَنْ يَجْتَهِدْ يَنْجَحْ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].

(({إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ: أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}: وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ: أَنْ يُرِيدَ الْعَبْدُ الْعَمَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ، مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ شَرْعَ اللَّهِ، فَهَذَا الْعَمَلُ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، بَلْ يَحْفَظُهُ لِلْعَامِلِينَ، وَيُوَفِّيهِمْ مِنَ الْأَجْرِ بِحَسَبِ عَمَلِهِمْ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَذَكَرَ أَجْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ})).

 

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى سَبِيلُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ وَالْبَرَكَاتِ))

إِنَّ آثَارَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى وَاقِعِ النَّاسِ وَمَعَايِشِهِمْ أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؛ فَتَصْلُحُ أَحْوَالُ الْأُمَّةِ بِصَلَاحِ أَمْرِ دِينِهَا، وَيَفُوتُهَا مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِهَا بِقَدْرِ مَا فَاتَهَا مِنْ صَلَاحِ أُمُورِ دِينِهَا، بَيَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى صَدَّقُوا رُسُلَهُمْ، وَاتَّبَعُوهُمْ، وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمُ اللهُ عَنْهُ؛ لَفَتَحَ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ الْمُهْلِكِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ)).

((ذَكَرَ -تَعَالَى- أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى لَوْ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ إِيمَانًا صَادِقًا صَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ، وَاسْتَعْمَلُوا تَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِتَرْكِ جَمِيعِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ لَفَتَحَ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، وَأَنْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مَا بِهِ يَعِيشُونَ وَتَعِيشُ بَهَائِمُهُمْ فِي أَخْصَبِ عَيْشٍ وَأَغْزَرِ رِزْقٍ، مِنْ غَيْرِ عَنَاءٍ وَلَا تَعَبٍ، وَلَا كَدٍّ وَلَا نَصَبٍ.

وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا، فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْبَلَايَا، وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ، وَكَثْرَةِ الْآفَاتِ، وَهِيَ بَعْضُ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ؛ وَإِلَّا فَلَوْ آخَذَهُمْ بِجَمِيعِ مَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ})).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3].

((فَكُلُّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ -تَعَالَى-، وَلَازَمَ مَرْضَاتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ ثَوَابِهِ: أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَكَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا؛ فَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ يَقَعْ فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَالْخُرُوجِ مِنْ تَبِعَتِهَا.

وَقَوْلُهُ: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أَيْ: يَسُوقُ اللَّهُ الرِّزْقَ لِلْمُتَّقِي مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ.

{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَثِقْ بِهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ {فَهُوَ حَسْبُهُ} أَيْ: كَافِيهِ الْأَمْرَ الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي كَفَالَةِ الْغَنِيِّ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ؛ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لَهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].

(({فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أَيِ: اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِنْهَا، {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}: كَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ، فَرَغَّبَهُمْ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ حُصُولِ الثَّوَابِ، وَانْدِفَاعِ الْعِقَابِ.

وَرَغَّبَهُمْ -أَيْضًا- بِخَيْرِ الدُّنْيَا الْعَاجِلِ، فَقَالَ: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أَيْ: مَطَرًا مُتَتَابِعًا يَرْوِي الشِّعَابَ وَالْوِهَادَ، وَيُحْيِي الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ.

{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أَيْ: يُكْثِرْ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي تُدْرِكُونَ بِهَا مَا تَطْلُبُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوْلَادكُمْ.

{وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}: وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا يَكُونُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمَطَالِبِهَا)).

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

سَعَادَةُ وَنَعِيمُ مَنْ أَطَاعَهُ وَشَقَاءُ وَعَذَابُ مَنْ عَصَاهُ))

وَمِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ: أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللهِ، وَسَارَ فِي طَرِيقِ رِضَاهُ؛ أَكْرَمَهُ -سُبْحَانَهُ- بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَبِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْمُعْرِضِ عَنْ هُدَاهُ عِقَابَهُ بِالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].

((فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ مِنْكُمْ بِأَنْ آمَنَ بِرُسُلِي وَكُتُبِي، وَاهْتَدَى بِهِمْ، وَذَلِكَ بِتَصْدِيقِ جَمِيعِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ، وَالِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ، وَالِاجْتِنَابِ لِلنَّهْيِ؛ {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}.

فَرَتَّبَ عَلَى اتِّبَاعِ هُدَاهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ:

نَفْيُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَكْرُوهَ إِنْ كَانَ قَدْ مَضَى أَحْدَثَ الْحُزْنَ، وَإِنْ كَانَ مُنْتَظَرًا أَحْدَثَ الْخَوْفَ، فَنَفَاهُمَا عَمَّنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَإِذَا انْتَفَيَا حَصَلَ ضِدُّهُمَا، وَهُوَ الْأَمْنُ التَّامُّ.

وَكَذَلِكَ نَفْيُ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ عَمَّنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَإِذَا انْتَفَيَا ثَبَتَ ضِدُّهُمَا، وَهُوَ الْهُدَى وَالسَّعَادَةُ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ وَالسَّعَادَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ وَالْهُدَى، وَانْتَفَى عَنْهُ كُلُّ مَكْرُوهٍ؛ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحُزْنِ، وَالضَّلَالِ، وَالشَّقَاءِ، فَحَصَلَ لَهُ الْمَرْغُوبُ، وَانْدَفَعَ عَنْهُ الْمَرْهُوبُ، وَهَذَا عَكْسُ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَاهُ، فَكَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَ بِآيَاتِهِ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

(({مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: وَذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ، وَسُكُونِ نَفْسِهِ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِ لِمَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَيَرْزُقُهُ اللَّهُ رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} فِي الْآخِرَةِ {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مِنْ أَصْنَافِ اللَّذَّاتِ؛ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} [طه: 123-127].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنْ يَهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنْ يَتَّخِذُوا -آدَمُ وَبَنُوهُ- الشَّيْطَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، فَيَأْخُذُوا الْحَذَرَ مِنْهُ، وَيَعُدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ وَيُحَارِبُوهُ، وَأَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُمْ أَيَّ وَقْتٍ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ؛ اتَّبَعَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَشْقَى فِيهِمَا، بَلْ قَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ السَّعَادَةُ وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

وَاتِّبَاعُ الْهُدَى بِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالشُّبَهِ، وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِأَلَّا يُعَارِضَهُ بِشَهْوَةٍ.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أَيْ: كِتَابِي الَّذِي يُتَذَكَّرُ بِهِ جَمِيعُ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَأَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، أَوْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ وَالْكُفْرِ بِهِ؛ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: فَإِنَّ جَزَاءَهُ أَنْ نَجْعَلَ مَعِيشَتَهُ ضَيِّقَةً مَشَقَّةً، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَذَابًا، وَفُسِّرَتِ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، وَيُحْصَرُ فِيهِ وَيُعَذَّبُ؛ جَزَاءً لِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَهَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْآيَةَ، وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ}، وَالرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الْآيَةَ.

وَالَّذِي أَوْجَبَ لِمَنْ فَسَّرَهَا بِعَذَابِ الْقَبْرِ فَقَطْ مِنَ السَّلَفِ، وَقَصَرُوهَا عَلَى ذَلِكَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- آخِرُ الْآيَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي آخِرِهَا عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَرَى أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ عَامَّةٌ فِي دَارِ الدُّنْيَا -بِمَا يُصِيبُ الْمُعْرِضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْآلَامِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ مُعَجَّلٌ-، وَفِي دَارِ الْبَرْزَخِ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ لِإِطْلَاقِ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا، {وَنَحْشُرُهُ} أَيْ: هَذَا الْمُعْرِضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى الْبَصَرِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}.

قَالَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالْمُرَاجَعَةِ وَالتَّأَلُّمِ وَالضَّجَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ} فِي دَارِ الدُّنْيَا {بَصِيرًا}؛ فَمَا الَّذِي صَيَّرَنِي إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْبَشِعَةِ؟!

{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} بِإِعْرَاضِكَ عَنْهَا {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ: تُتْرَكُ فِي الْعَذَابِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ عَيْنُ عَمَلِكَ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَمَا عَمِيتَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّكَ، وَعَشِيتَ عَنْهُ، وَنَسِيتَهُ وَنَسِيتَ حَظَّكَ مِنْهُ؛ أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَكَ فِي الْآخِرَةِ، فَحُشِرْتَ إِلَى النَّارِ أَعْمَى أَصَمَّ أَبْكَمَ، وَأَعْرَضَ عَنْكَ، وَنَسِيَكَ فِي الْعَذَابِ.

{وَكَذَلِكَ} أَيْ: هَذَا الْجَزَاءُ نَجْزِي بِهِ {مَنْ أَسْرَفَ} بِأَنْ تَعَدَّى الْحُدُودَ، وَارْتَكَبَ الْمَحَارِمَ، وَجَاوَزَ مَا أُذِنَ لَهُ {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} الدَّالَّةِ عَلَى جَمِيعِ مَطَالِبِ الْإِيمَانِ دَلَالَةً وَاضِحَةً صَرِيحَةً؛ فَاللَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ، وَلَمْ يَضَعِ الْعُقُوبَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَإِنَّمَا السَّبَبُ إِسْرَافُهُ، وَعَدَمُ إِيمَانِهِ.

{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ} مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً {وَأَبْقَى} لِكَوْنِهِ لَا يَنْقَطِعُ، بِخِلَافِ عَذَابِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَالْوَاجِبُ الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ)).

((مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ:

أَنَّ التَّمْكِينَ وَالِاسْتِخْلَافَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ))

إِنَّ مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ أَنَّ التَّمْكِينَ وَالِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ يَكُونَانِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ.. لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

((هَذَا مِنْ أَوْعَادِهِ الصَّادِقَةِ الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَمَخْبَرُهَا؛ فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِيهَا، الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذَى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهَدْ: الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ؛ بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ، فَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُدِيلُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)).

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

المصدر: السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  السير إلى الله والدار الآخرة
  اللجان النوعية والثورة المسلحة
  مفتاح دعوة المرسلين
  التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
  أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ
  أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ
  الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ
  الْمَفَاهِيمُ الصَّحِيحَةُ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان