((مَنْ وراء الأحداث الأخيرة في مصر؟))
((الجمعة
12 من ربيع الثاني 1429هـ الموافق 18-4-2008))
{الْخُطْبَةُ
الْأُولَى}
إِنَّ الْحَمْدَ
لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل
عمران: 102].
﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ
الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:
70-71].
وَأَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ
الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد رأى المصريونَ
خاصةً والعالَمُ كَافةً؛ صورةً مُصَغَّرَةً من الخراب الذي يريدهُ دعاةُ الإضرارِ؛
دعاةُ الخراب، لقد رأى كلُّ ذي عينين صورةً مصغرةً من الفوضى التي دعت إليها الشيطانة،
ووَصَفَتْها بالخَلَّاقة، وتهافتَ عليها مِن المسلمينَ مَنْ لا عِلمَ عنده ولا حِلم،
كتهافتِ الفَراشِ على النَّارِ.
وكلُّ عاقلٍ
مُنصف يسألُ مُتعجبًا: كيف تُترك شِرذمةٌ ضالة لتستغلَّ معاناةَ الجماهيرِ المُسلمة
لإحداثِ الفوضى وتخريبِ البلد؟
نعم، إنها شِرذمةٌ
ضالةٌ من الليبراليين والعَلمانيين والشيوعيين.
مِن الشيوعيينَ
الجُدد الذين تَحطمَ صَنَمَ شيوعيتِهم وسُحِقَ في العالَمِ كلِّه، ويأبَون إلا أنْ
يكونَ في مصر وحدَها أكثرَ شيوعيةً من (لينين) و(ستالين) و(ماركس) نفسه.
ويُشايعُ تلك
الشِرذمة الضَّالة، المسلمونَ الذين لا يَزِنُونَ الأمورَ بميزانِ الوحيِ المعصومِ،
بل يَزِنُون الأمورَ بميزانِ الفكرِ الموهوم.
وليَسأل كلٌّ
نفْسَه، لصالح مَن تدميرِ الموصِّلَّات العامة؟
ولصالحِ مَن
تخريبُ المصانع والمؤسسات؟
ولصالحِ مَن
إتلافُ الممتلكات؟
ولصالحِ مَن
قَطْعُ الطرقات؟
لصالحِ مَن
إشاعةُ الفوضى وإحداث الفتنة؟
إنْ أردتَ أنْ تعرفَ الجواب؛ فاسمع وفقني اللهُ وإياك إلى الصواب:
في ((الإصحاح التاسع عشر))، وفي ((سفر اشعياء)): يقول مؤلفُ
العهدِ القديم وهو مُقَدَّسٌ عند القوم، مُدَنَّسٌ عند غيرهم، يقول:
((وَحْيٌ مِنْ
جِهَةِ مِصْرَ: هُوَ ذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى
مِصْرَ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ،
فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، مَدِينَةٌ مَدِينَةً،
وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً، وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا، وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا،
فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَارِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابعِ وَالْعَرَّافِينَ،
يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ، وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيَجِفُّ
النَّهْرُ وَيَيْبَسُ، وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ، وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ،
وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسْلُ، وَالرِّيَاضُ عَلَى النِّيلِ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ،
وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ.
وَالصَّيَّادُونَ
يَئِنُّونَ، وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصًّا فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ، وَالَّذِينَ
يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ، وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ، وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ، وَتَكُونُ
عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً، وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ)).
يقول في الإصحاح نفسه:
((فَأَيْنَ
هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ؛ لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ
عَلَى مِصْرَ، رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ، رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا،
وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا، مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ،
فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا، كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ –اسمع-،
فَلاَ يَكُونُ لِمِصْرَ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنَبٌ، نَخْلَةٌ أَوْ أَسَلَةٌ،
فِي ذلِكَ اليوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ، فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ
يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عليهَا)).
لصالحِ مَنْ؟
اسمع وستعرف
لصالحِ مَن، وهذا مُقَدَّسٌ عند أصحابِ الكتابِ الأول، وأصحابِ الكتاب الثاني أيضًا
يؤمنون به وحيًا مُنَزَّلًا معصومًا، ونبوءًة واجبةَ الأداء.
و((في ذات الإصحاح )):
((وَتَكُونُ
أَرْضُ يَهُوذَا رُعْبًا لِمِصْرَ، كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ
قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عليهَا، فِي ذلِكَ اليوْمِ يَكُونُ
فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ
الْجُنُودِ، يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ».
فِي ذلِكَ اليوْمِ
يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ
تُخْمِهَا، فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ،
لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ، فَيُرْسِلُ لَهُمْ
مُخَلِّصًا وَمُحَامِيًا يُنْقِذُهُمْ، فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ)).
مَنْ هو المحامي
والمُخلِّص الذي سيُرسل من أجلِ أنْ يُنقذَهم بعد إحداثِ الفوضى فيهم؟ يُشيعون الفوضى
ويُرسلونَ المُخلِّص، والأغمار الأغرار من الشيوعيين الجُدد، هؤلاء لا مِلَّةَ ولا
نِحلة، والعلمانيين والليبراليين، وهؤلاء لا وزنَ ولا خطر، والواحدُ منهم لا يساوى
وزنهُ ترابًا، ولكنْ المسلمون الذين يُثيرونَ الكراهيةَ في الشعب، ثم يتوارون، يقولون:
لا شأن لنا.
أنتم الذين
فعلتموها، والتاريخُ لا يَرحم.
يقول: ((يُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً، وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْرًا
وَيُوفُونَ بِهِ، وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِبًا فَشَافِيًا -الفوضى الخلَّاقة-،
فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ)).
عَرَفْتَ من أين جاءَ المصطلح؟
وعرفتَ مَن
الذي يُطبِّقُه؟
ومَن الذي يدعو
إليه؟
ومن الذي يُنَفِّذُهُ؟
ويقول (ارميا) في ((الإصحاح السادس والأربعين)):
((مَنْ هذَا
الصَّاعِدُ كَالنِّيلِ، كَأَنْهَارٍ تَتَلاَطَمُ أَمْوَاهُهَا؟ تَصْعَدُ مِصْرُ كَالنِّيلِ،
وَكَأَنْهَارٍ تَتَلاَطَمُ أَمْوَاهُهَا، فَيَقُولُ: أَصْعَدُ وَأُغَطِّي الأَرْضَ،
أُهْلِكُ الْمَدِينَةَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا، فَهذَا اليوْمُ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ
يَوْمُ نَقْمَةٍ لِلانْتِقَامِ مِنْ مُبْغِضِيهِ، فَيَأْكُلُ السَّيْفُ وَيَشْبَعُ
وَيَرْتَوِي مِنْ دَمِهِمْ -أي مِن دمِ المصريين-؛ لأَنَّ لِلسَّيِّدِ رَبِّ الْجُنُودِ
ذَبِيحَةً فِي أَرْضِ الشِّمَالِ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَاتِ.
اصْعَدِي إِلَى
جِلْعَادَ وَخُذِي بَلَسَانًا يَا عَذْرَاءَ بِنْتَ مِصْرَ، بَاطِلًا تُكَثِّرِينَ
الْعَقَاقِيرَ، لاَ رِفَادَةَ لَكِ، قَدْ سَمِعَتِ الأُمَمُ بِخِزْيِكِ، وَقَدْ مَلأَ
الأَرْضَ عَوِيلُكِ، لأَنَّ بَطَلًا يَصْدِمُ بَطَلًا فَيَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا مَعًا)).
قطعَ اللهُ
لسانَ مَن قال هذا أوَّلًا وبَنَانَهُ، وأصابَ اللهُ الخِزيَ كلَّ مَن سعى لإنفاذِ
هذا الوعدِ المشئوم .
ويقول (حزقيال) في ((الإصحاح التاسع والعشرين)):
((وَيَعْلَمُ
كُلُّ سُكَّانِ مِصْرَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِمْ عُكَّازَ قَصَبٍ
لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ، عِنْدَ مَسْكِهِمْ بِكَ بِالْكَفِّ، انْكَسَرْتَ وَمَزَّقْتَ
لَهُمْ كُلَّ كَتِفٍ، وَلَمَّا تَوَكَّئَوا عليكَ انْكَسَرْتَ وَقَلْقَلْتَ كُلَّ مُتُونِهِمْ.
وَتَكُونُ أَرْضُ
مِصْرَ مُقْفِرَةً وَخَرِبَةً، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، لأَنَّهُ قَالَ:
النَّهْرُ لِي وَأَنَا عَمِلْتُهُ، لِذلِكَ هاأَنَذَا عليكَ وَعَلَى أَنْهَارِكَ، وَأَجْعَلُ
أَرْضَ مِصْرَ خِرَبًا خَرِبَةً مُقْفِرَةً، مِنْ مَجْدَلَ إِلَى أَسْوَانَ، إِلَى
تُخْمِ كُوشَ، لاَ تَمُرُّ فِيهَا رِجْلُ إِنْسَانٍ، وَلاَ تَمُرُّ فِيهَا رِجْلُ بَهِيمَةٍ،
وَلاَ تُسْكَنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَجْعَلُ أَرْضَ مِصْرَ مُقْفِرَةً فِي وَسْطِ
الأَرَاضِي الْمُقْفِرَةِ وَمُدُنَهَا، وكذلك أَجْعَلُ مُدُنَهَا فِي وَسْطِ الْمُدُنِ
الْخَرِبَةِ تَكُونُ مُقْفِرَةً أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَأُشَتِّتُ
الْمِصْرِيِّينَ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُبَدِّدُهُمْ فِي الأَرَاضِي؛ لأَنَّهُ هكَذَا
قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: عِنْدَ نَهَايَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَجْمَعُ الْمِصْرِيِّينَ
مِنَ الشُّعُوبِ التي تَشَتَّتُوا بَيْنَهُا، وَأَرُدُّ سَبْيَ مِصْرَ، وَأُرْجِعُهُمْ
إِلَى أَرْضِ فَتْرُوسَ، إِلَى أَرْضِ مِيلاَدِهِمْ، وَيَكُونُونَ هُنَاكَ مَمْلَكَةً
حَقِيرَةً، تَكُونُ أَحْقَرَ الْمَمَالِكِ؛ فَلاَ تَرْتَفِعُ بَعْدُ عَلَى الأُمَمِ،
وَأُقَلِّلُهُمْ لِكَيْلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَى الأُمَمِ)).
هذا كلامٌ مُقَدَّسٌ
ووحيٌ مُنزَّل عند القوم، وهذه نبوءةٌ ووعد، وهذا تخطيطٌ وعهد، وهذا تنفيذٌ بصِدق،
نعم؛ يَصْدقون في هذا الباطل، ومِن جِلدتنا وممن يتكلمُ بألسنتِنا، وممن ينتمي إلى
هذه الأرضِ أرضِ الإسلام، مَنْ يُطبِّقُ ويُنفِّذُ هذا المُخَطَّطَ؛ يُقادُ كما تُقادُ
السائمةُ من الأنعام، يَسعى للخرابِ، ويَسعى للفوضى، ويسعى لتَمَكُّنِ الكُفَّارِ من
رقابِ المسلمين وأرضِهم وديارِهم وأعراضِهم، أعراضِ نسائِهم وأعراضِ بناتِهم وأعراضِ
أمهاتِهم، ألا تسمعون؟!
ويقول (حزقيال) في ((الإصحاح الثلاثين)): ((وَكَانَ إلىَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلًا: يَا ابْنَ آدَمَ
تَنَبَّأْ وَقُلْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: وَلْوِلُوا؛ يَا لَلْيَوْمِ!
لأَنَّ اليوْمَ قَرِيبٌ، وَيَوْمٌ لِلرَّبِّ قَرِيبٌ، يَوْمُ غَيْمٍ، يَكُونُ وَقْتًا
لِلأُمَمِ، وَيَأْتِي سَيْفٌ عَلَى مِصْرَ، وَيَكُونُ فِي كُوشَ خَوْفٌ شَدِيدٌ، عِنْدَ
سُقُوطِ الْقَتْلَى فِي مِصْرَ، وَيَأْخُذُونَ ثَرْوَتَهَا وَتُهْدَمُ أُسُسُهَا -هذا
الوعيدُ لهذه الأرض المُسلمة، لهؤلاءِ القومِ مِن المسلمين، ولكنَّهم لا يعلمون-، يَسْقُطُ
مَعَهُمْ بِالسَّيْفِ كُوشُ وَفُوطُ وَلُودُ وَكُلُّ اللَّفِيفِ، وَكُوبُ وَبَنُو أَرْضِ
الْعَهْدِ.
هكَذَا قَالَ
الرَّبُّ: وَيَسْقُطُ عَاضِدُوا مِصْرَ، وَتَنْحَطُّ كِبْرِيَاءُ عِزَّتِهَا مِنْ مَجْدَلَ
إِلَى أَسْوَانَ، يَسْقُطُونَ فِيهَا بِالسَّيْفِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: فَتُقْفِرُ
فِي وَسْطِ الأَرَاضِي الْمُقْفِرَةِ، وَتَكُونُ مُدُنُهَا فِي وَسْطِ الْمُدُنِ الْخَرِبَةِ،
فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ إِضْرَامِي نَارًا فِي مِصْرَ، وَيُكْسَرُ
جَمِيعُ أَعْوَانِهَا - عِنْدَ إِضْرَامِي نَارًا فِي مِصْرَ؛ عند حرق البلد، ينفذون
مخطط يهود، يأتي به من يأتي بلُبُوسٍ كأنه إيهاب كبشٍ على قلبٍ هو قلبُ ذئب-، فِي ذلِكَ
اليوْمِ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِي رُسُلٌ فِي سُفُنٍ لِتَخْوِيفِ كُوشَ الْمُطْمَئِنَّةِ،
فَيَأْتِي عليهِمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ كَمَا فِي يَوْمِ مِصْرَ، لأَنَّهُ هُوَ ذَا يَأْتِي
- يعنى (يَهْوَه) ربَّ الجنود-)).
وأما (يوئيل) فإنه أيضًا لا يُعفي مِصر من نَفَثَاتِ حِقده،
فيقول أيضًا في ((الإصحاح الثالث)):
((مِصْرُ تَصِيرُ
خَرَابًا -هكذا بالنص، في الكتابِ المُقَدَّسِ؛ أعني المُدَنَّس، في العهد القديم،
يقول هكذا-، مِصْرُ تَصِيرُ خَرَابًا، وَأَدُومُ تَصِيرُ قَفْرًا خَرِبًا، مِنْ أَجْلِ
ظُلْمِهِمْ لِبَنِي يَهُوذَا الَّذِينَ سَفَكُوا دَمًا بَرِيئًا فِي أَرْضِهِمْ، وَلكِنَّ
يَهُوذَا تُسْكَنُ إِلَى الأَبَدِ، وَأُورُشَلِيمَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ، وَأُبَرِّئُ
دَمَهُمُ الَّذِي لَمْ أُبَرِّئْهُ، وَالرَّبُّ يَسْكُنُ فِي صِهْيَوْنَ)).
وأما مصر فتصيرُ
خرابًا، بأيدي مَن؟
بأيدي أبنائِها.
مِن أجلِ ماذا؟!
مِن أجلِ جوعٍ
موهوم، من أجلِ حقدٍ يُؤَجَّجُ في الصدور، من أجلِ أقوامٍ ليس عندهم حِسٌّ ولا مسئولية،
ولا يرقبونَ في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمَّة.
من أجلِ ماذا؟!
من أجل الجوع؟!!
تأمل ماذا جرى، جاء اللهُ سبحانه بالإسلامِ إلى أرضِ مصر
-أدام اللهُ عليها إسلامُها-:
*فكان أوَّلُ غلاءٍ وقع بمصر في سنة (سبعٍ وثمانين من الهجرة):
والأمير يومئذٍ بمصر (عبد الله بن عبد الملك بن مروان) من قِبَلِ أبيه.
*ثم وقع غلاء في سنة (إحدى وأربعين وثلاثمائة): فَكَثُر الفارُّ في أعمالِ مصر، وأُتلفت الغلَّات وأُتلف
الكروم وغير ذلك، ثم قَصُرَ مَدُّ النيل فَنَزَعَ السعر -أي ارتفع- في شهر رمضان.
*وفي سنة (ثلاثة وأربعين وثلاثمائة): عظُمَ الغلاءُ حتى بِيعَ القمحُ؛ كل وَيْبَتَيْن ونصف بدينار،
ثم طُلِبَ فلم يوجد.
*ثم وقع الغلاء في (الدولة الإخشيدية) أيضًا، واستمر تسعَ سنين متتابعة، وابتدأ
في سنة (اثنتين وخمسين وثلاثمائة): والأميرُ إذ ذاك (علىُّ بن الإخشيد) وتدبيرُ الأمور إلى الأستاذ أبى المسك
كافور الأمير الإخشيدي، وكان سببُ الغلاء أنَّ النيلَ انتهت زيادتُهُ إلى خمسةِ عشر
ذراعًا وأربعة أصابع، فَنَزَعَ –أي: ارتفع- السِّعرُ، ارتفع السِّعرُ بعد رِخَصٍ، فما كان
بدينارٍ واحدٍ صار بثلاثةِ دنانير، وعَزَّ الخبزُ فلم يوجد، وزادَ الغلاءُ حتى بلغَ
القمحُ كلُّ وَيْبَتَيْنِ بدينار، وتمادى الغلاءُ إلى سنةِ أربعٍ وخمسين.
ثم ماتَ كافور،
فكثُرَ الاضطراب وتعددت الفتن، وكانت حربٌ كثيرةٌ بين الجُندِ والأمراء؛ قُتِلَ فيها
خلقٌ كثير، وانتُهِبَت أسواقُ البلد، وأُحرِقت مواضعُ عديدة، فاشتدَّ خَوْفُ النَّاسِ،
وضاعت أموالُهم وتغيرت نيَّاتُهم، وارتفعَ السِّعرُ، وتعذَّرَ وجودُ الأقواتِ، حتى
بِيعَ القمحُ كلُّ وَيْبَةٍ بدينار.
*ثم وقعَ الغلاءُ في أيامِ (الحاكم بأمر الله)، وذلك في سنة (سبعٍ وثمانين وثلاثمائة): وكان سببهُ قصورُ النيل، فنزعَ -أي ارتفع- السِّعرُ، وطُلِبَ
القمحُ فلَم يُقدر عليه، واشتد خوفُ الناس، وأُخِذَت النساءُ من الطُّرق، وعَظُمَ الأمرُ،
وانتهي سِعرُ الخبزِ إلى أربعةِ أرطال بدرهم.
*ثم وقع في أيامِ (المُستنصر) الغلاء، الذي فَحُشَ أَمْرُهُ وشَنُعَ ذِكْرُهُ،
وكان أمده سبع سنين:
وسببهُ ضعف السلطنة واختلال أحوال المملكة واستيلاءِ الأمراءِ على الدولةِ، واتصال
الفتن بين العِربان وقصورِ النيل، وعَدُمَ من يزرع ما شَمِلَهُ الرَّيُّ، وكان ابتداءُ
ذلك في سنةِ (سبع وخمسين وأربعمائة)، فزاد
السعرُ وتزايد الغلاءُ وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأراضي من الزراعة، وشَمَلَ الخَوْفُ،
وخِيفت السُّبُل برًّا وبحرًا، وتَعَذَّرَ السَّيْرُ في الأماكنِ إلا بالخِفارةِ الكثيرة،
وركوب الغَرر، واستولى الجوع لعدم القُوت، حتى بِيعَ رغيفُ خبزٍ في النداءِ بزُقاق
القناديلِ من الفُسطاط، كبيع الطُّرَف بخمسة عشر دينارًا، وبيع الأردب من القمح بثمانين
دينارًا، وأُكِلت الكلابُ والقطط، حتى قلَّت الكلابُ؛ فبِيعَ كلبٌ ليُؤكلَ بخمسةِ دنانير.
وتزايد الحال
حتى أكلَ الناسُ بعضهم بعضًا وتحرز الناس، فكانت طوائفُ تجلسُ بأعلى بيوتِها، ومعهم
سَلَبٌ وحبالٌ فيها كلاليب -أي خطاطيف-، فإذا مَرَّ بهم أحدٌ، ألقوها عليه، ونَشَلوه
في أسرعِ وقتٍ وشَرَّحوا لحمَهُ وأكلوه، ثم آلَ الأمر إلى أنْ باعَ المستنصر بالله كلَّ ما في قصرِهِ من ذخائرِ وثيابٍ وأثاثٍ وسلاحٍ
وغيرِه، وصار يجلسُ على حصيرٍ، وتعطلت دواوينُهُ، وذهبَ وقارُهُ وكانت نساءُ القصورِ
تخرُجن ناشراتٍ شعورهنَّ؛ تَصِحْنَ: الجوعَ الجوعَ، تُرِدْنَ المسيرَ إلى العراقِ؛
فتسقُطنَ عند المُصلي وتَمُتْنَ جُوعًا.
*ثم وقع الغلاءُ في (الدولة الأيوبية) وسلطنة (العادل أبى أيوب) سنة (ستٍ وتسعين
وخمسمائة): وكان سببُهُ تَوقُّف
النِّيل عن الزيادةِ وقصورُهُ عن العادة، فتكاثرَ مجيءُ الناسِ مِن القُرى إلى القاهرةِ
مِن الجوع، ودخل فصلُ الربيع، فهبَّ هواءٌ أعقبَهُ وباءٌ وفَنَاءٌ وعُدِمُ القوت، حتى
أكلَ الناس صِغار بني آدم من الجوع، فكان الأبُ يأكلُ ابنه مَشويًا ومطبوخًا، والمرأةُ
تأكلُ وَلَدَها، فعُوقبَ جماعةٌ بسببِ ذلك، ثم فشى الأمرُ وأعيا الحكام، فكان يوجدُ
بين ثيابِ الرجلِ والمرأة كَتِفُ صغير، أو فَخِذُه أو شيء من لحمه، ويدخل بعضهم إلى
جارِه، فيَجِدُ القِدْر على النار، فينتظرها حتى تتهيأ؛ فإذا هي لحم طفل!!
وأكثرُ ما يوجد
ذلك في أكابرِ البيوت، ووُجِدت لحومُ الأطفالِ بالأسواقِ والطُّرقات، مع الرجالِ والنساء
مُخبَّأة، ثم تزايد الأمر، حتى صار غذاءُ الكثيرِ مِن الناسِ؛ لحوم بني آدم، بحيث ألِفُوه
وقلَّ مَنْعُهم منه؛ لعدم القُوت من جميعِ الحبوب وسائرِ الخضروات وكل ما تنبته الأرض!!
فلما كان آخرُ
الربيعِ؛ احترقَ ماءُ النيلِ في برمودا، حتى صار المقياسُ في بَرِّ مصر، وانحسرَ الماء
عنه إلى بَرِّ الجيزة، وتغيرَ طعمُ الماءِ وريحُهُ، ثم أخذ الماءُ في الزيادة قليلًا
قليلًا إلى السادس عشر من مِسرى؛ فزادَ أصبعًا واحدًا، ثم وقفَ أيامًا، وأَخَذَ في
زيادةٍ قويةٍ أكثرُها ذراع إلى أنْ بلغَ خمسة عشر ذراعًا وستة عشرة أصبعًا، ثم انحطَّ
من يومه، فلم تنتفع به البلاد بسرعة نزوله، وكان أهلُ القرى قد فَنَوا، حتى إنَّ القريةَ
التي كان فيها خمسمائة نَفْسٍ لم يبقى بها سوى اثنين أو ثلاثة.
فهذا مما وقع
قديمًا في مصر وحرره المقريزيُّ في ((تاريخه))، فهذا وقع، فهل تجدونه؟
هل تجدون له
حِسًّا ولا أثرًا؟
قد أنعمَ اللهُ
عليكم بنِعمهِ ظاهرةً وباطنة، وأكثرُ الذين يَضِجُّونَ ويَأنُّون، لا ينازعون من أجلِ
الضروريات ولا مِن أجلِ الكماليات، أكثرُ الناس يُنازعُ من أجلِ التحسينيات، يَرْتَعُونَ
في ترفٍ ونِعمةٍ، ويريدونَ أنْ يُحدِثوا الفوضى في البلدِ؛ مِن أجلِ أنْ يُسْلِمُوها
رخيصةً ولُقمةً سائغةً إلى أعداءِ اللهِ وأعداءِ رسولِ الله وأعداءِ الإسلام العظيم،
ألَا إنها خيانةٌ لله، خيانةٌ لرسولِ الله، خيانةٌ للإسلامِ العظيم .
والمجاهدون،
مجاهدو الكي بورد، مجاهدو لوحة المفاتيح مِن الذين يسهرونَ إلى السَّحَرِ الأعلى؛ يجعلونَ
نفاياتِهم وفَضَلاتِهم في الشبكةِ العنكبوتية، يُثيرونَ الناسَ ويُحرِّضُونهم على الفتنةِ
مِن كلِّ طريق، آوَاهُ هذا البلد فأرادَ أن يُحدِثَ فيه الفتنة، فما كان إلا أنْ طرده،
ولم يؤذه ولم يُثَرِّب عليه وإنما طَرده؛ جعله مزجرَ الكلب؛ لأنه يريد أنْ يُحدِثَ
في البلادِ الفتنة، وهؤلاء لا يَكَفُّون عن إحداثِها وإنْ صاروا بعيدًا بأجسادِهم،
هؤلاء الموتورون لا يؤزُّون الشعبَ لتطبيقِ شرعِ الله.
تطبيقُ الشريعةِ
واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ، لا يُداهنُ فيه عَالِمٌ، ولا يُداهنُ فيه طالبُ عِلم، ولا يُداهنُ
فيه مُسلم، ولكن هل هذه هي الوسيلة؟
تريدُ تطبيقَ
الشريعة بتضييعِ الشريعة؟!
تريدُ الحُكمَ
بما أنزل اللهُ بالحُكمِ بما قال الشيطانُ؟!
تريدُ أنْ تَصِلَ
إلى الشاطئِ نظيف الثَّوْبِ والبدن وأنت تخوضُ إليه في بِركةٍ من الحَمْئَةِ والطِّينِ
والوَحْلِ .
*ثم
وقع الغلاءُ في (الدولة الأيوبية)، وسلطنة (العادل أبى أيوب): ثم استمر أكلُ لحومِ الأطفال، وعدم الدجاج جملةً، وكانت
النارُ توقدُ بأخشابِ البيوت، وجماعةٌ من أهلِ السِّترِ يخرجون في الليل، ويتحطبون
من المساكن الخالية، فإذا أصبحوا؛ باعوا الأخشابَ في الأزقَّةِ كلِّها بالقاهرة ومصر،
وكان لا يُري في مصر من الدُّورِ المسكونة إلا النَّادْر .
وكان الرجلُ
في الريف، في أسفلِ مصر وأعلاها؛ يموتُ وبيدهِ المِحراث، فيخرجُ آخرُ للحَرْثِ فيُصيبُهُ
ما أصاب الأوَّلَ من الموتان من شدةِ الجوع.
أراد العادل
أنْ يوزِّعَ الفقراء على الواجدين، فَفَعَلَ ذلك بجميعِ الأمراء وأربابِ السَّعَةِ
والثَّراء، كان الواحدُ من أهلِ الفَاقةِ، مِن أهلِ الجوعِ والمَسْغَبَةِ والفقرِ،
إذا امتلئ بطنُهُ بالطعامِ بعد طول الجوع والطَّوى؛ سقطَ ميتًّا، فيُدفنُ منهم كلَّ
يومٍ العددَ الوفير، حتى إنَّ العادلَ قام في مُدةٍ يسيرة بمُواراةِ ودفنِ نحو (مائتي
ألف وعشرين ألف ميت).
إنَّ الناس
كانوا يتساقطونَ في الطُّرقاتِ من الجوعِ، ولا يمضي يومًا حتى يُؤكل عدةٌ من بني آدم،
وتعطلت الصنائعُ، وتلاشت الأحوالُ، وَفَنِيَت الأقواتُ والنُّفوسُ، حتى قيلَ: سنة سبع
افتُرِست أسبابُ الحياة، فلمَّا أغاثَ اللهُ الخَلْقَ بالنَّيْلِ؛ لم يُوجَد أحدٌ يَحْرُث
أو يزرع، فخرجَ الأجنادُ بغِلمَانِهم وتَوَلَّوا الحَرْثَ والزَّرْعَ بأنفُسِهم، ولم
تُزرع أكثرُ الأرضِ لعُدْمِ الفلاحين، وعُدِمَت الحيوانات جُملةً، فبِيع فَرُّوجٌ بدينارين
ونصف ذهبًا.
*ووقع الغلاء بـ ((الدولة التركية)) أيضًا في مصر: وبَلَغَ كلُّ أردبٍ من القمحِ إلى مائة درهم، والشعير إلى
ستين، والفول إلى خمسين، واللحم إلى ثلاثة دراهم للرِّطْلِ، وكانت سنةٌ شديدة .
*ودخلت سنة (خمسٍ وتسعين): وبالناسِ شِدَّةٌ مِن الغلاءِ وقِلَّةِ الواصل، إلا أنهم يُمَنُّونَ أَنْفُسَهم
بمجيء الغِلالِ الجديدة وكان قد قَرُبَ أوانُها، فعند إدراكِ الغِلالِ؛ هَبَّت رِيحٌ
سوداءُ مُظلِمَة من ناحيةِ بلادِ (بَرْقة) هُبوبًا عاصفًا، وَحَمَلَت تُرابًا أصفر؛
كَسَا زروعَ تلك البلاد، فهافت كلُّها ولم يكن بها إذ ذاك إلا زرعٌ قليل، ففسدت بأجمعِها.
ابتلاءٌ من
اللهِ –تبارك وتعالى- بما قدمت الأيدي، وعاقبت تلك الرِّيحُ أمراضٌ
وحميات عمَّت سائرَ الناسِ؛ فَنَزَعَ سِعرَ السُّكَّرِ والعَسَلِ، وما يحتاج إليه المَرضى،
وعُدمت الفواكه، وبِيع الفروجُ بثلاثين درهمًا، والبِطيخةُ بأربعين، والرِّطْلُ من
البطيخِ بدرهم، والسَّفرجَل ثلاث حبَّاتٍ بدرهم، والبَيض كلُّ ثلاثِ حَبَّات بدَرهم،
وتزايدَ القمحُ إلى مائة وتسعين للأردب، والشعيرُ إلى مائة وعشرين.
وأَقْحَطَت
مَكَّةُ -زادها اللهُ شرفًا-، فَبَلَغَ أردب القمح بها إلى تِسْعِ مائة درهم، والشعير
إلى سبعِ مائة، فَرَحَلَ أهلُها حتى لم يبقَ بها إلا اليسير مِن الناسِ، وَنَزَحَت
سُكَّانُ قُرَى الحِجاز، وعدم القُوتِ ببلاد اليمن واشتدَّ الوباء، فباعوا أولادَهم
في شراءِ القُوت، وفَرُّوا؛ فالتقَوا بآلِ مَكَّة وضاقت بهم البلاد، فَفَنوا كلُّهم
بالجوعِ إلا طائفة قليلة.
وَأَصَابَ القَحْطُ
بلادَ الشَّرْقِ، وعُدَمَت دَوابُّهم، وهَلَكَت مَراعيهم، وأُمَسَكَ القَطْرُ عنهم،
واشتدَّ الأمرُ بمصر، وَكَثُرَ الناسُ بها مِن أهلِ الآفاق، فَعَظُمَ الجوعُ، وانتُهِبَ
الخبزُ مِن الأفرانِ والحوانيت، حتى كان العجينُ إذا خرجَ إلى الفُرنِ؛ انتهَبَهُ الناسُ،
فلا يُحملُ إلى الفرن، ولا يخرج الخبز منه إلا ومعه عدةٌ يحمونَهُ بالعِصِّي من النهاية،
فكان مِن الناسِ من يُلقِي نفسُهُ على الخبز ليَخْطَفَ منه، ولا يُبالي بما ينالُ رأسَهُ
وبَدَنَهُ مِن الضربِ؛ لِشِدَّةِ ما نزلَ به من الجوع .
طُلِبَ الأطباءُ
وبُذِلَت لهم الأموال، وكَثُر تحصيلُهم، فكان كَسْبُ الواحدِ منهم في اليومِ مائة درهم،
ثم أعيا الناسَ كثرةُ الموتِ؛ فَبَلَغَت عِدَّةُ مَن يَرِدَ اسمُهُ في (الديوان السلطانيِّ)
في اليوم ما يزيدُ على ثلاثةِ آلاف نَفْسٍ.
وأما الطُّرحاء
الذين مازال بهم رَمَقٌ من حياةٍ فلم يُحْصَر عددُهم، بحيثُ ضاقت الأرضُ بهم، وحُفِرت
لهم الآبارُ والحفائر وأُلقوا فيها؛ وجافت -أي أنتنت- الطُّرق والنواحي والأسواق من
الموتى، وَكَثُرَ أكلُ لحومِ بني آدم خصوصًا الأطفال، فكان يوجد الميتُ وعند رأسِهِ
لحمُ الآدميِّ، ويُمْسِكُ بعضُهم بِمَن يَجِدَهُ مِن أجلِ أنْ يأكلَهُ، وإذا أُمسكَ
واحدٌ؛ وُجِدَ معه فَخِذٌ صغيرٌ أو شيءٌ من لحمهِ.
وَخَلَت الضِّيَاعُ
من أهلِها، حتى إنَّ القريةَ التي كان بها مائةُ نَفْسٍ لم يبقَ بها إلا نحو العشرين،
وكان أكثرُهم يوجد ميتًا في مزارعِ الفولِ، لا يزالُ يأكلُ منه إذا وجدَهُ حتى يموت،
ولا يستطيعُ الحُرَّاسُ رَدَّهُم لكثرتِهم.
*وفي (أول شهر رجب سنة ستٍ وثلاثين وسبع مائة): وقع الغلاءُ بالديارِ المصرية، في أيام (الملك الناصر محمد
بن قلاوون)، وعَزَّ القمحُ، ووصلَ كلُّ أردبٍ إلى سبعينَ درهمًا، ووصل الفولُ إلى خمسين،
والخبزُ كان كلُّ خمسةِ أرطالٍ بدرهم ولا يكادُ يُوجد، وعُدِمَ القمحُ من الأسواق،
وصارَ على كلِّ دُكَّانٍ مِن دكاكينِ الخبازين عِدَّةٌ من الناس، وصارَ الخبزُ كالكُسْبِ
من السَّواد -وهو عصارةُ الدُّهن-، وما يتبقى بعد عصر ذلك، فرَتَّب الوالي على كلِّ
حانوتٍ أربعة من أعوانِهِ معهم المطارق لدَفْعِ الناسِ عن حوانيتِ الخُبْزِ لِئَلَّا
يُنْهَب.
بلاءٌ يقع،
وغلاءٌ يُقّدِّرُهُ اللهُ تعالى على خَلْقِهِ في أرضهِ، يَفْعَلُ ما يشاء، ولو أنَّ
الناسَ فَزِعُوا إلى رَبِّهِم–تبارك وتعالى- واستغاثوه لأغاثَهم.
*ثم وقع الغلاءُ في أيامِ (الأشرف شعبان): وسببُهُ قصورُ النِّيلِ في (سنة ست وسبعين وسبعمائة)، فلم
يبلغ ستةَ عشر ذراعًا، فانحطَّ الماءُ وارتفعَ السِّعْرُ، فَبَلَغَ القمحُ كلُّ أَردبٍ
إلى مائة وخمسين دِرهمًا، والشعيرُ إلى مائة، والخبزُ إلى رَطْلٍ ونِصْفٍ بدرهم، وعَزَّت
الأقواتُ وقَلَّ وجودُها، فماتَ الكثيرُ من الجوعِ حتى امتلأت الطُّرقات؛ وأَعْقَبَ
ذلك وباءٌ ماتَ فيه كثيرٌ من الناس، وكان السائلُ يطلب شيئًا من الطعامِ ليَشُمَّهُ،
فما يزالُ يَصيحُ حتى يموت.
يقول
المقريزي –رحمه الله-: ((وهى حادثةٌ شاهدناها ومِحْنَةٌ أدركناها {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ
رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28])).
فهذا الموهومُ
الذي يُخدعُ به الناس لا وجودَ له، بَلْ هُم في رَغَدٍ ونِعْمَةٍ وفي عافيةٍ وسِتْرٍ،
ولكنْ الكراهية التي ما يزالُ القومُ يَبَثُّونَها في الناسِ في هذا الشعبِ الطيب النبيل؛
لكي يُحَقِّقُوا النُّبوءةَ والوعدَ لبني إسرائيل.
وَيْحَكُم أيُّها
المسلمون، إنَّ التاريخَ لَنْ يَرْحَمَكُم، وإنَّ الأجيالَ المُقْبِلَة سوف تَلعنُكُم،
إنْ مَضَيتُم في هذا الخطِّ على استقامتِهِ إلى نهايتِهِ، فاتقوا اللهَ ولا تُحدِثُوا
الفوضى.
ولا يَكفي أنْ يقولوا لنا اليوم: ((لا شأنَ لنا بذلك
ونحن نُقاطِعُهُ، ويدعو إليه غيرُنا ولا نُحالفُهم))، بل أنتم صَنعتموه، لا يَكفي أنْ
تَقفوا اليوم مَوْقفًا سلبيًا، لتُبَرِّءُوا أَنْفُسَكُم أمامَ الله، ثم أمامَ التاريخ
حتى لا يَلعنَكم، ينبغي عليكُم أنْ تَأخذوا الجانبَ الإيجابيَّ، وأنْ تُحذِّروا الناسَ،
كما أثرتُم الناسَ، كما جعلتُم الكراهيةَ في قلوبِ الخَلْقِ، عليكم أنْ تفهموا الواقع
يا دُعاةَ فَهْمِ الواقعِ، وعليكم أنْ تَتقوا الله، لا تُضَيِّعُوا مكاسبَ الإسلامِ
في مصر طِيلةَ أربعَةَ عشرِ قَرْنًا مِن الزمان، لا تُضَيِّعُوها.
اتقوا اللهَ،
اتقوا اللهَ في دينِ الله، واتقوا اللهَ في
أرضِ اللهِ وعبادِ الله، اتقوا اللهَ في أرضِ الإسلامِ، لا يجوز أنْ تُعينوا على الفوضى،
التي سوف تَسْلُبُ مكاسبَ الإسلامِ مِن أرضِ الإسلامِ في مصر، بعدَ أنْ ظَلَّت الأرضُ
ومَنْ عليها مُنَعَّمَةً بدينِ ربِّها وتوحيدِ خالقِها وبارئِها أربعةَ عشرَ قرنًا
من الزمان وزيادة، اتقوا اللهَ وخُذوا الجانبَ الإيجابيَّ، حَذِّرُوا الناسَ من الفوضى،
واضبطوا الأمورَ بقانونِ الشرع، بالوحيِ المعصوم، ولا تجنَحوا إلى الفكرِ والوَهمِ،
وأخذُ الثاراتِ القديمة، والحقدِ الذي قد تَأَجَّجَ في النفوسِ مِن أجلِ ظُلمٍ وقعَ
بقدرِ الله.
اتقوا الله
وارجعوا إلى الله، عسى اللهُ أنْ يرفعَ الكَرْبَ، وأنْ يُنْقِذَ هذا البلد المُسلم
مما هو مُقْبِلٌ عليه، برحمتِهِ التي وَسِعَت كلَّ شَيء، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
وصلَّى اللهُ
وسلم على نبيِّنا مُحَمَّدٍ –صلَّى الله عليه وسلم-.
الخُطْبَةُ
الثَّانيةُ:
الحمدُ للهِ
ربِّ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد
أنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله –صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين مُتلازمين
إلى يوم الدين- أما بعد:
ففي تشخيصٍ بارعٍ للعلامة الإمامِ ابن القيم –رحمه الله تعالى- كأنما يكتبه لنا، يقول: ((وتَأمَّلْ حِكمتَه تَعالى في أنْ جعَلَ مُلوكَ
العِبادِ وأُمراءَهم ووُلاَتَهم مِن جِنس أَعمالِهم، بل كأنَّ أَعمالَهم ظهرَت في صُوَر
وُلاَتهم ومُلوكِهم، فإن استَقامُوا استَقامَت مُلوكُهم، وإن عدَلوا عدَلَت عَليهم
ملوكُهم، وإن جارُوا جارَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم، وإنٍ ظهَرَ في الرعيةِ المَكرُ والخَديعةُ
فوُلاَتُهم كذَلكَ، وإن مَنَعوا حُقوقَ الله لدَيهم وبَخِلوا بها مَنعَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم
مَا لهم عندَهم مِن الحقِّ وبَخِلوا به عليهم، وإنْ أَخَذوا -إن أخذت الرعية- ممَّن تَستَضعِفه مَا لاَ تستحقه في مُعاملتِه أَخذَت
مِنهم المُلوكُ مَا لاَ يَستَحقُّونه وضَرَبَت عليهم المُكوسَ والضرائب والوَظائفَ،
وكلُّ مَا يَستَخرِجونَه من الضَّعيفِ -يعني الرَّعيَّة- يَستَخرِجُهُ الملوكُ مِنهم بالقوَّةِ، فعمَّالُهم ظهَرَت في
صُوَر أَعمالِهم)).
وأعمالُكُم
عُمَّالُكُم وعُمَّالُكُم أعمالُكم، فلا تلوموا إلا أنفسَكم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ((وليسَ في الحِكمةِ الإلهيَّةِ
أن يُوَلَّى على الأَشرارِ الفجَّارِ إلاَّ مَن يَكونُ مِن جِنسِهم، ولمَّا كانَ الصَّدرُ
الأوَّلُ خِيارَ القُرونِ وأبرَّها كانَت ولاَتُهم كذَلكَ، فلمَّا شابُوا شِيبت لهم
الولاَةُ، فحِكمةُ الله تَأبَى أن يُوَلَّي علينا في مِثل هَذهِ الأَزمانِ مِثلُ مُعاويةَ
وعُمرَ بنِ عَبدِ العَزيز فَضلًا عن مِثل أبي بَكرٍ وعُمرَ، بَل ولاَتُنا على قَدْرِنا،
ووُلاَةُ مَن قَبلَنا على قَدرِهم، وكلٌّ مِن الأَمرَين مُوجبُ حِكمةِ ربِّنا ومُقتَضاها،
ومَن له فِطنةٌ إذَا سافَرَ بفِكرِه في هَذا البابِ رأَى الحِكمةَ الإِلهيَّةَ سائرَةً
في القَضاءِ والقَدَر ظَاهرةً وبَاطنةً فيهِ، كما في الخَلقِ والأَمرِ سَواء، فإيَّاكَ
أنْ تظنَّ بظنِّك الفاسدِ أنَّ شَيئًا مِن أَقضيتِه وأَقدارِه عَارٍ عن الحِكمةِ البَالغةِ،
بل جَميعُ أَقضيَتِه تَعالى وأَقدارِه وَاقعةٌ على أتمِّ وُجوهِ الحِكمةِ والصَّوابِ،
ولَكنَّ العُقولَ الضَّعيفةَ مَحجوبةٌ بضَعفِها عن إِدراكِها كما أنَّ الأَبصارَ الخُفَّاشيَّةَ
مَحجوبةٌ بضَعفِها عن ضَوءِ الشَّمس)).
هذا تشخيصُه،
وهو تشخيصٌ مَتينٌ صحيحٌ، فعلى الناسِ أنْ يعودوا إلى اللهِ، وعلى الناسِ أنْ يخرجوا
مِن بَثِّ الحقدِ والكراهية بين جماهيرِ هذا الشعب الطيبِ النبيل المسلم، على هذه الأرضِ
المسلمة، حتى لا يدفعوا الناسَ إلى الفوضى والخراب، بهذه الدعاوى التي يَدْعوا بها
الشيوعيون، ويَدْعوا بها العلمانيون والليبراليون والحَمقى من المسلمين، كلُّ أولئك
مِن خارجٍ ومِن داخلٍ يَدْعون إلى هذا الذي سيصيرُ فوضى وخرابًا، وإنَّا لله وإنَّا
إليه راجعون.
ولا يقولنَّ
أحدٌ هذا نهيٌ عن المنكر، بل هو مُنكر، وهو حرام.
والإضرابات،
والاعتصامات، والمظاهرات، كلُّ ذلك، والعصيانُ المدنيُّ، كلُّ ذلك؛ يَتْبَعُ فيه من
يَتَبَع سُنَّةَ (ماركس) سُنَّةَ الشيوعيين، وليست سُنَّة النبيِّ الأمين، ليس هذا
من ديننا، هذا ليست له مِلَّة، هذا من عند أولئك الجاحدين لربِّ العالمين.
فالذي يقول
به، فهذا سبيلُهُ، وهذه طريقتُهُ، وهذه سُنَّتُهُ، وهو مُتَنَكِبٌ لسُنَّةِ خيرِ الخَلقِ
–صلَّى الله عليه وسلم-.
أي نعم، لذلك
أفتى علمائنا الكبار، وقد سَمِعَ ذلك مَن سَمِعَ، وحازَهُ مَن حَازَهُ، وعَرَفَهُ مَن
عَرَفَهُ، ولكنَّ المُنَظرِّين الجُدُد باسمِ دينِ الإسلامِ العظيم في سعيٍ جادٍ لتطبيقِ نُبوءةِ بني إسرائيل في أرضِ
مصر، يسعونَ لخرابِها بتدميرِها بإحداثِ الفوضى فيها، بتهييجِ المِصريينَ على المِصريين،حتى
يقتلَ الأخُ أخاه، وحتى يَسْبي الأخُ أخاه، حتى يَجِفَّ النَّهرُ، وحتى تُنتنَ التُّرَع،
وحتى لا يبقى في مصر عذراءَ واحدة.
لصالح مَن؟
لصالح مَن هذا؟
لصالح دينِ
الله؟!
لصالح عبادِ
الله؟!
لصالح مَن؟
لصالحِ الشيطانةِ
وحِزبِها لتنفيذِ هذا الوعد وتلك النبوءة في الكتابِ المُدَنَّسِ في العهد القديم.
وأما تغييرُ المُنكرِ؛ فيقول العلامةُ ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
((فحيثُ كانت مفسدةُ الأمرِ والنهي -مفسدةُ الأمرِ بالمعروفِ
والنهي عن المنكرِ- أعظمَ من مصلحتِهِ؛ لم يَكُن مما أمرَ اللهُ به –بل
مما نهى الله عنه- وإنْ كان قد تُرِكَ واجبٌ -مادام
الأمرُ والنهيُ ستكونُ مفسدتُهُ أعظمَ مِن مصلحتِهِ، حتى ولو تُرِكَ واجب-، فإنَّ الأمرَ والنهيَ حينئذٍ لا يكونُ مما أمرَ به اللهُ،
بلْ مما نَهَى اللهُ عنه، يكونُ فِعْلًا مُحَرَّمًا، إذ المؤمنُ عليه أنْ يتقيَ اللهَ
في عبادهِ وليس عليه هُداهم)).
وهذا التخريب
التي رُأَيَت منه صورةٌ مُصَغَّرَةٌ، هذا التخريبُ هو أمر بالمعروفِ أم نهيٍ عن المنكر؟
تغييرُ المُنكرِ
باليد لمن؟
وهؤلاء الغوغاء
والعامة ومَن عقولُهم كالفراشِ، هؤلاء المُسْتَفَزُّون، الذين لا هنا ولا هناك، لا
عقلَ ولا حِلم، ولا نقلَ ولا اتَّبَاع، هؤلاء الذين يُطْلَقُونَ للتخريبِ والفوضى والتدمير،
هؤلاء يأمرون بالمعروف؟ أيُّ معروف؟
هؤلاء ينهون
عن المنكر؟ أي منكر؟
قال
العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-: ((فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ
الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ،
-هذا كلامه-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ
وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ إلَى
آخِرِ الدَّهْرِ)).
وأعتقدُ أننا
لم نَصِل بعدُ إلى آخرِ الدَّهرِ!! فنحن ندخلُ في هذا الكلام.
يقول
–رحمه الله-: ((وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ
عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ
وَفِتْنَةٍ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ)).
((وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ
الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ
عَلَى مُنْكَرٍ؛ فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؛
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى بِمَكَّةَ
أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ؛ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ وَرَدِّهِ عَلَى
قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ- خَشْيَةُ
وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ لِقُرْبِ
عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ -وهذا واضحٌ جدًا-، وَلِهَذَا
لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَمَا وُجِدَ سَوَاءٌ)).
ليس عند أحدْ
من الذين يَدَّعونَ الدعوةَ إلى الله، ليس عند أحدٍ منهج اعتقادي صحيح، فإمَّا أنْ
تَجِدَ عند بعضِهم أصولَ المُرجئة أو أصولَ الخوارج، أو ما أشْبَه مِن تلك النِّحَلِ
الباطلة والمذاهبِ المُنحرفة.
وأهلُ السُّنَّةِ
في كُتُبِ أئمتِهم من قَبْلِ الإمامِ أحمد –رحمة
الله عليه- إلى يومِ الناسِ هذا؛ أبوابٌ كتبوها في كُتُبِ السُّنَّةِ -أي في كُتُبِ
الاعتقادِ-، فيها كيفيةُ معاملة الحكام، وفيها تحذيرٌ من الخروجِ على الحُكام، وفيها
الطاعةُ في المعروف، وفيها ما فيها مما سَطروه وحَرَّروه، ولم يكونوا مُداهنين –رحمة
الله عليهم-.
ولكنْ الفتنة!!
الفتنة العامة!! لا تأمنُ فيها على عِرضك، لا تأمنُ فيها على دَمِك، لا تأمنُ فيها
على مالِك، لا تأمنُ فيها دارك، تُقْطَعُ السُّبُل، لماذا؟
لتحقيقِ الوعدِ
والنبوءة، وَعْدُ بني إسرائيل، الذي أعطاهم إياهُ (يهوه) ربُّهم -ربُّ الجنود-، يَصوِّرونه
شِريرًا قاسيًا دمويًا، ويُقبضُ مصر وأهلَها خاصة، ولذلك في أسفارِهم، نجدُ هذا الكَمَّ
الهائل من الحقدِ على أهلِ مصر، وعلى أرضِها.
ويا لله العَجَب!!
كيف يَعَمَى مَن يَدَّعون أنهم أنقذوا مسيرةَ الإسلام في عقودٍ قد تأخرت من الانحراف
عن الجادة، وهم لا يلتفتون إلى هذا الأمرِ الكبير، ويَغشُّون الناس!! ويأزُّونَ
الناس مِن أجلِ تحقيقِ الوعد، وهم لا يدرون -أي والناسُ لا يدرون-، الناسُ مساكين،
إذا تحركت المَعِدَات بالجوع، واستُغلَّ هذا؛ استغلَّهُ من قَبل الشيوعيون، ليس هذا
بدلالةٍ على صحةِ منهجٍ وعلى صِدْقِ مقال، لا، الذي يدلُّ على ذلك هو التزامُ الجادَّة
وراء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأما هذا فدلالةٌ على فسادِ المنهاج، على فسادِ
المعيار، وأهلُ السُّنة يقولون هذا لا يجوزُ؛ هذا حرام، أئمتُهم سطروا ذلك قديمًا وحَرَّرُوه،
فتناقلَهُ الخَلَفُ عن السلفِ إلى عصرنا هذا.
حرَّرَ هذا
الأئمة وكتبوه، أَرْجِعوا الناس إلى الذين يُحسنون الاستنباطَ من الكتابِ والسُّنة،
أَرْجِعوا الناسَ للعلماء الربانيين، العارفينَ بكتابِ الله وسُنَّةِ النبيِّ الأمين،
لا إلا الذين لا همَّ لهم إلا ما قالت الإذاعات وتناقلت الوكالات وما كتبت الجرائدُ
والمجلات، هذا دين؟!!
اتقوا الله
في مصر، واعلموا أنَّ الأمنَ الذي تتمتعُ به –تتحركُ
في أيِّ مكانٍ شِئت من أرضِها ولا تثريب عليك ولا حرج-، اعلم أنَّ هذه النعمة؛ إنْ
لم تُشكر؛ سُلبت.
فنسألُ اللهَ
ألَّا يسلبُها عنا وأنْ يُديمها علينا، وأنْ يَزيدنا منها، وأنْ يهيئَ لهذا البلد أمرَ
رُشْدٍ، يَعزُّ فيه أهلُ الطاعةِ ويذلُّ فيه أهلُ المعصية، ويُحْكَمُ فيه بكتابِ اللهِ
وسُنَّةِ رسولِ الله –صلَّى الله عليه وسلم-.
إنه على كلِّ
شيءٍ قدير وبالإجابة جدير، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد –صلَّى
الله عليه وسلَّم.