((مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. مَسْؤُولِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَهْيُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ عَنِ الْفَسَادِ))
فَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِبَقَاءِ الصَّلَاحِ فِيهَا، وَأَنْ نَمْنَعَ الْفَسَادَ عَنْهَا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَوِّ بِالْأَوْبِئَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَحْيَاءِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَفَاهِيمِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُسَدَّدَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ؛ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، فَنَهَى -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ)).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ -عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ-)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: ((قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِه، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالشِّرْكِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى-.
فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرَهُ، وَمُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلَا لِأَهْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ، وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِهِ، لَيْسَ إِلَّا، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَخِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؛ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ، وَعِبَادَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ، وَقَحْطٍ، وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
(({سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أَيْ: يَجْتَهِدُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَوَاشِي تَتْلَفُ، وَتَنْقُصُ، وَتَقِلُّ بَرَكَتُهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ فِي الْمَعَاصِي، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ فَهُوَ يُبْغِضُ الْعَبْدَ الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ غَايَةَ الْبُغْضِ؛ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا حَسَنًا)).
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: هُوَ أَعْوَجُ الْمَقَالِ، سَيِّئُ الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ، كَلَامُهُ كَذِبٌ، وَاعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ، وَأَفْعَالُهُ قَبِيحَةٌ.
فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ -وَهُوَ: مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ-، وَالنَّسْلِ -وَهُوَ : نِتَاجُ الْحَيَوَانَاتِ- اللَّذَيْنَ لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا .
قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؛ مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ، فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ)).
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
((الْإِصْلَاحُ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْفَسَادِ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ))
لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ وَأَرَادَ لَهُمُ الْخَيْرَ، فَأَرْسَلَ لَهُمُ الرُّسُلَ لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ؛ فَـ((الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ بُعِثُوا بِالْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ، وَنَهَوُا عَنِ الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ؛ فَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ فَهُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُصُوصًا إِمَامَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ، فَإِنَّهُ أَبْدَى وَأَعَادَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَوَضَعَ لِلْخَلْقِ الْأُصُولَ النَّافِعَةِ الَّتِي يَجْرُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا وَضَعَ لَهُمُ الْأُصُولَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ)).
وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ صَالِحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لِقَوْمِهِ: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
((وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ؛ إِذْ جَعَلَكُمْ تَخْلُفُونَ فِي الْأَرْضِ مَنْ قَبْلَكُمْ، مِنْ بَعْدِ قَبِيلَةِ عَادٍ، وَمَكَّنَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ تَنْزِلُونَهَا، فَتَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْبُيُوتَ الْعَظِيمَةَ، وَتَنْحِتُونَ مِنْ جِبَالِهَا بُيُوتًا أُخْرَى، فَاذْكُرُوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَلَا تَسْعَوْا فِي الْأَرْضِ بِالْإِفْسَادِ)).
وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِي عَلِمَ بِفَسَادِ قَوْمِهِ وَغِشِّهِمْ فِي الْمِكْيَالِ وَظُلْمِهِمُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُمْ: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
((وَلَا تُنْقِصُوا النَّاسَ حَقَّهُمْ فِي عُمُومِ أَشْيَائِهِمْ، وَلَا تَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ تَعْمَلُونَ فِيهَا بِمَعَاصِي اللهِ وَنَشْرِ الْفَسَادِ)).
وَهَذَا لُوطٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 30].
((قَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ ابْتَدَعُوا الْفَاحِشَةَ وَأَصَرُّوا عَلَيْهَا، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ)).
وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُخَاطِبُ أَخَاهُ نَبِيَّ اللهِ هَارُونَ قَائِلًا لَهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
((وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ -حِينَ أَرَادَ الْمُضِيَّ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ-: كُنْ خَلِيفَتِي فِي قَوْمِي حَتَّى أَرْجِعَ، وَاحْمِلْهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا تَسْلُكْ طَرِيقَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)).
وَهَا هُمْ صَالِحُو الْبَشَرِ يُخَاطِبُونَ قَارُونَ قَائِلِينَ لَهُ: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
((وَالْتَمِسْ فِيمَا آتَاكَ اللهُ مِنَ الْأَمْوَالِ ثَوَابَ الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ بِالْعَمَلِ فِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا تَتْرُكْ حَظَّكَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَنْ تَتَمَتَّعَ فِيهَا بِالْحَلَالِ دُونَ إِسْرَافٍ، وَأَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ بِالصَّدَقَةِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَلَا تَلْتَمِسْ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى قَوْمِكَ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)).
هَذَا هُوَ هَدَفُ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، حَيْثُ كَانُوا يَسْعُونَ إِلَى إِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ، وَإِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ، وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَإِصْلَاحِ الرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْفَسَادِ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، فَاللهُ -تَعَالَى- خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَأَسْكَنَهُ الْأَرْضَ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاحِ وَالسَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الصَّلَاحَ وَأَهْلَهُ وَلَا يُضِيعُ أَجْرَهُمْ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
((وَالَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَاةِ بِحُدُودِهَا، وَلَا يُضَيِّعُونَ أَوْقَاتَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَلَا يُضَيِّعُهَا)).
وَأَخْبَرَهُ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَأَهْلَهُ، فَقَالَ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].
((وَإِذَا خَرَجَ -الْمُنَافِقُ- مِنْ عِنْدِكَ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- جَدَّ وَنَشِطَ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَيُتْلِفُ زُرُوعَ النَّاسِ، وَيَقْتُلَ مَاشِيَتَهُمْ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)).
((فُشُوُّ الْفَسَادِ فِي هَذَا الزَّمَانِ))
عِبَادَ اللهِ! الْمُتَأَمِّلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا يَجِدُ أَنَّ الْفَسَادَ قَدْ فَشَا وَانْتَشَرَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ: الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه تَعَالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}؛ فَهَذَا حَالُنَا!!
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ ذَنْبًا؛ أَحْدَثَ اللهُ لَهُمْ عُقُوبَةً؛ فَالْمَعَاصِي تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ؛ فِي الْمِيَاهِ، وَفِي الْهَوَاءِ، وَفِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَالْمَسَاكِنِ وَالنُّفُوسِ، وَالتَّصَوُّرَاتِ وَحَرَكَةِ الْحَيَاةِ.
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ سَبَبًا لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ، وَحُلُولِ عِقَابِهِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
أَيْ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَقِيلَ: سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ فَفَعَلُوا الْفَوَاحِشَ، فَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
((مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ:
الشِّرْكُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
إِنَّ صُوَرَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَأَعْظَمُهَا وَأَخْطَرُهَا: الشِّرْكُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَدَى قُبْحِ الشِّرْكِ، وَحَذَّرَ مِنْ مَفَاسِدِهِ.
*فَالشِّرْكُ بِاللهِ -تَعَالَى- أَكْبَرُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: {مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَمَا قَالَ ﷺ: ((لَاْ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ -أَيْضًا- .
*وَالشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
فَالْمُشْرِكُ مُمَزَّقُ الِاتِّجَاهِ وَالْقُوَى، حَائِرٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى نَهْجٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقٍ.
وَحَالَةُ التَّمَزُّقِ وَالضَّيَاعِ وَالِانْهِيَارِ وَالْقَلَقِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُشْرِكَ فِي كِيَانِهِ، عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَاقِبُ اللهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
فَالْمُشْرِكُ ضَائِعٌ ذَاهِبٌ، يَهْوِي مِنْ شَاهِقٍ، فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ يَتَمَزَّقُ، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَقْذِفُ بِهِ الرِّيحُ بَعِيدًا عَنِ الْأَنْظَارِ فِي هُوَّةٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ.
وَلَا جَرَمَ أَنَّ مَنْ هَوَى مِنْ أُفُقِ الْإِيمَانِ السَّامِقِ؛ حَرِيٌّ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْبَوَارِ وَالِانْطِوَاءِ!!
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَالَ الْمُشْرِكِ، وَحَيْرَتَهُ وَتَمَزُّقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].
*عِبَادَ اللهِ! الشِّرْكُ مَبْعَثُ الْمَخَاوِفِ وَالْأَوْهَامِ، وَفِي جَوِّ الشِّرْكِ تَرُوجُ الْخُرَافَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ، وَيَنْتَشِرُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ، وَيَغْلِبُ الرُّعْبُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
*وَالشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْخُسْرَانِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
فَأَعْمَالُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى، وَلَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا؛ قَالَ ﷺ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِأَنَّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رَأَتْ أَمْرًا، أَوْ عَلِمَتْهُ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِنْهُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ قَائِلَةً: يَا رَسُولَ اللهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ؛ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟
قَالَ: ((لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي «صَحِيحِهِ: بَابٌ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ)).
وَقَدْ ذَكَر اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ((سُورَةِ الْأَنْعَام)) ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلَّمَ-؛ ذَكَرَهُمْ -تَعَالَى- فِي نَسَقٍ، ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
*وَالشِّرْكُ يَطْمِسُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَتُصْبِحُ أَعْمَالُ الْمُشْرِكِ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً؛ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].
*وَالشِّرْكُ يَمْحَقُ عِزَّةَ النَّفْسِ، وَيُورِثُ الْمَهَانَةَ وَالذُّلَّ؛ فَالْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ} [المنافقون: 8].
((فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الشِّرْكَ إِذَا خَالَطَ الْعِبَادَةَ أَفْسَدَهَا، وَأَحْبَطَ الْعَمَلَ، وَصَاَر صَاحِبُهُ مِنَ الْخَالِدِينَ فِي النَّارِ؛ عَرَفْتَ أَنَّ أَهَمَّ مَا عَلَيْكَ هُوَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ هَذِهِ الشَّبَكَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللهِ، الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ})) .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ للهِ، وَأَنَّ إِفْرَادَ الْعِبَادَةِ للهِ؛ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ تَعْرِفَ مَا هُوَ الشِّرْكُ؟
وَذَلِكَ لِكَيْ لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَذَّرَ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وكَمَا أَنَّ أَعْظَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ: التَّوْحِيدُ، فَأَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ: الشِّرْكُ.
وَهَذَا الْخَطَرُ الْعَظِيمُ تَحْرُمُ بِهِ الْجَنَّةُ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
فَيَجِبُ -إِذَنْ- أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الشِّرْكَ نَجَاسَةٌ لِلْقُلُوبِ، الشِّرْكُ يُنَجِّسُ الْقُلُوبَ، وَيُحْبِطُ الْعِبَادَةَ جَمِيعًا؛ سَوَاءٌ جَاءَتْ مِنَ الْقَلْبِ، أَوْ مِنَ اللِّسَانِ، أَوْ مِنَ الْجَوَارِحِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. [المدثر: 4-5].
وَنَحْنُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُشْرِكَ مَهْمَا تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعِبَادَةٍ؛ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَحَابِطَةٌ، لَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهَا شَيْئًا مَا دَامَتِ الْعِبَادَةُ مَمْزُوجَةً بِالشِّرْكِ.
يَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ مَحَبَّةً وَذُلًّا، وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَيَنْهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ -لَا شِرْكًا أَصْغَرَ، وَلَا أَكْبَرَ- لَا مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.
بَلِ الْوَاجِبُ -عِبَادَ اللهِ- الْمُتَعَيَّنُ: إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِمَنْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَهُ التَّدْبِيرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَشْرَكُهُ وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
عِبَادَ اللهِ! الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ الْيَوْمَ -إِلَّا قَلِيلًا- فِيهِ الْمَشَاهِدُ الشِّرْكِيَّةُ الَّتِي شُيِّدَتْ عَلَى الْقُبُورِ، وَعِنْدَهَا شِرْكٌ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، يُعْبَدُ الْأَمْوَاتُ، وَيُتَقَرَّبُ إِلَى الْقُبُورِ!!
وَمِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ -بِزَعْمِهِمْ- يَنْتَقِصُ الْأَوْلِيَاءَ!!
وَالدُّعَاةُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ -فِي الْجُمْلَةِ- لَا يَهْتَمُّونَ بِأَمْرِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْأَخْلَاقِ الطَّيِّبَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الزِّنَا، وَتَرْكِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهِيَ كَبَائِرُ مُحَرَّمَاتٌ بِلَا شَكٍّ.
وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَ النَّاسُ الزِّنَا، وَشُرْبَ الْخُمُورِ، وَحَسَّنُوا أَخْلَاقَهُمْ، وَتَرَكُوا الرِّبَا، وَلَمْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ؛ فَأَسَاسُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَدِينُهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَلَوْ تَرَكُوا الْكَبَائِرَ -مَا دَامَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الشِّرْكَ-، وَحَتَّى مَنْ لَمْ يُشْرِكْ مَا دَامَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الشِّرْكَ، وَلَا يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا يَتَبَرَّأُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِثْلَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
هَذَا تَنْزِيهٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فَالْمُسْلِمِ الْمُوَحِّدُ لَا يَصِحُّ تَوْحِيدُهُ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى الشِّرْكِ يَعُجُّ فِي بَلَدِهِ، وَالْأَضْرِحَةِ تُشَيَّدُ فِيهَا، وَيُطَافُ بِالْقُبُورِ، وَيُسْأَلُ الْمَقْبُورُونَ حَتَّى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ.
فَلَا يَسَعُ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ الْخَطِيرِ الَّذِي يَفْتِكُ بِجَسَدِ الْأُمَّةِ، وَيَقُولُ: أَدْعُو النَّاسَ إِلَى حُسْنِ السِّيرَةِ وَالسُّلُوكِ، وَتَرْكِ الْخُمُورِ، وَتَرْكِ الزِّنَا!!
مَاذَا تَنْفَعُ هَذِهِ إِذَا فُقِدَ ذَلِكَ الْأَسَاسُ؟!!
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتَهُ؛ وَضَعَ أَسَاسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِأَسَاسِ بَيْتِهِ، وَلَا بِقَوَاعِدِ بِنَائِهِ؛ فَمَهْمَا شَيَّدَ وَجَمَّلَ، وَحَسَّنَ وَنَمَّقَ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَيَكُونُ خَطِرًا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي لَمْ يُشَيَّدْ عَلَى أَسَاسٍ.
كَذَلِكَ الدِّينُ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَسَاسٍ سَلِيمٍ، وَتَوْحِيدٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتَنْزِيهٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَإِبْعَادٍ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوْطِنِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ يَكُونُ وَاهِيًا سَرْعَانَ مَا يَتَهَاوَى.
((مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ:
أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّعَدِّي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))
مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِانْحِرَافَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ التَّعَدِّيِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْوَظِيفِيِّ، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَبْوَابِ أَكْلِ السُّحْتِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، حَيْثُ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.
وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.
فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].
تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -أَيِ: الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبِطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ.
وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.
هَلَّا يَنْهَاهُمُ الْعُبَّادُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ كَانَ يَتَّبِعُهُمُ الْيَهُودُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمُ الْكَذِبَ بِإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَإِبْطَانِهِمُ الْكُفْرَ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
لَبِئْسَ مَا كَانَ عُبَّادُهُمْ، وَعُلَمَاؤُهُمْ يَصْنَعُونَ؛ إِذْ لَمْ يَنْهَوْا غَيْرَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا، بَلْ صَارُوا أَشَدَّ جُرْمًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِنَاعَةً، وَهِيَ تَكُونُ بِمَهَارَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَرُّفٍ بِالْغَايَاتِ وَالنَّتَائِجِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)).
((الرِّشْوَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالرَّسُولُ ﷺ لَعَنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي؛ وَلِأَنَّهَا تَجُرُّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَخِيَانَةِ الْمُرْتَشِي؛ فَلَا يَجُوزُ تَعَاطِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ دَفْعُ مَالٍ لِمَنْ يَخُونُ لَكَ، وَيُعْطِيكَ غَيْرَ حَقِّكَ، أَوْ يُقَدِّمُكَ عَلَى غَيْرِكَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَجْلِ رِشْوَةٍ، هَذِهِ الرِّشْوَةُ تَعْطِيهَا الْمُوَظِّفَ حَتَّى يُعْطِيكَ غَيْرَ حَقِّكَ، وَحَتَّى يَعْمَلَ لَكَ مَا لَا يَجُوزُ، أَوْ مَا لَا يُقِرُّهُ النِّظَامُ الَّذِي لَدَيْهِ وَالْعَمَلُ الَّذِي لَدَيْهِ، وَالتَّعْلِيمَاتُ الَّتِي لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا دَفَعْتَهُ لَهُ مِنَ الْمَالِ، هَذِهِ يُقَالُ لَهَا: الرِّشْوَةُ، فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ، وَعَلَيْهِ جَمِيعًا، وَفِي الْحَدِيثِ اللَّعْنُ لِلرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي جَمِيعًا، وَهَكَذَا إِذَا أَعْطَيْتَهُ إِيَّاهَا لِيُقَدِّمَكَ عَلَى نَاسٍ هُمْ أَحَقُّ مِنْكَ بِهَذَا الشَّيْءِ الَّذِي طَلَبْتَ، وَلَكِنْ قَدَّمَكَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ الرِّشْوَةِ؛ هَذَا -أَيْضًا- مِنَ الْمُنْكَرِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ-)).
وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ غَايَةَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْعَبَثِ فِي الْمَالِ، وَإِيقَاعِهِ فِي الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْوَاجِبِ فِيهِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ: ((يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ)) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ)).
((الْفَوَاحِشُ مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ))
إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ: انْتِشَارَ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ، فَنَشْرُ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَحْبِيبُهُمْ لَهَا، وَتَذْلِيلُ الصُّعُوبَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُهَا، وَتَعَارُفُ النَّاسِ عَلَيْهَا حَتَّى أَصْبَحَتِ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشُ شَيْئًا مَأْلُوفًا؛ هَذَا بِلَا شَكٍّ فِيهِ فَسَادُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ)).
إِنَّ الْمُجْتَمَعَ إِذَا مَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا مَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهُ فِي الْحَمْأَةِ الْوَبِيلَةِ، الْمُجْتَمَعُ إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْفَاحِشَةُ؛ انْهَارَ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ عَلِمَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي دَاخِلٍ وَخَارِجٍ أَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا بِالْمُوَاجَهَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ذَا بَالٍ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ التَّرْكِيزُ كُلُّهُ عَلَى بَثِّ الشُّبُهَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى إِثَارَةِ نَوَازِعِ الْعَصَبِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبِإِثَارَةِ الشَّهَوَاتِ وَبَعْثِ النَّزَوَاتِ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَإِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ لَا مَحَالَةَ.
وَالْمَرْأَةُ مُكَرَّمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ دِينِ الطَّهَارَةِ، دِينِ الْعِفَّةِ، وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ –وَاللهِ- مُعَجِّلٌ بِالسُّقُوطِ فِي الْهَاوِيَةِ.
فَحُدُودُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُعْتَدَى، وَمَحَارِمُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُنْتَهَكَ؛ وَإِلَّا فَهُوَ الدَّمَارُ وَهُوَ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا -أَيْ: أَنْزَلُوا- بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعُودَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنْ نَفْزَعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ نَتْرُكَ الْمَعَاصِيَ جَانِبًا، وَأَنْ نُغَادِرَ هَذَا الْفُحْشَ الْفَاحِشَ الَّذِي تَعَجُّ بِهِ الدُّنْيَا.
((مِنْ أَفْحَشِ صُوَرِ الْفَسَادِ: الزِّنَى))
إِنَّ الزِّنَى فَسَادٌ كَبِيرٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، لَهُ آثَارٌ كَبِيرَةٌ، وَتَنْجُمُ عَنْهُ أَضْرَارٌ كَثِيرَةٌ؛ سَوَاءٌ عَلَى مُرْتَكِبِيهِ، أَوْ عَلَى الْأُمَّةِ عَامَّةً.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 31-33].
فَانْظُرْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ سَوَاءَ الصِّرَاطِ- كَيْفَ نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الزِّنَى مُتَوَسِّطًا بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلَيْنِ؛ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ -أَيْ: خَشْيَةَ الْفَقْرِ-، وَعَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَلَا عَجَبَ؛ فَإِنَّ الزِّنَى قَتْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ قَتْلٌ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِرَاقَةُ مَاءِ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَفِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ إِنْ جُعِلَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ فَهُوَ قَتْلٌ بَعْدُ وَتَخَلُّصٌ مِنَ الْجَنِينِ قَبْلَ تَخَلُّقِهِ أَوْ بَعْدَ تَخَلُّقِهِ، ثُمَّ إِنْ تُرِكَ فَأَتَى الْحَيَاةَ أَتَى مُشَرَّدًا مُتَّبَعًا بِاللَّعْنَةِ وَالْإِهَانَةِ وَالزِّرَايَةِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَبِيلٍ؛ فَهُوَ قَتْلٌ -أَيْضًا-.
ثُمَّ هُوَ قَتْلٌ لِلْمُجْتَمَعِ بِعَامَّةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَضْعُ الْأَنْسَابِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَفِيهِ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ، وَفِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ، وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ، وَفِيهِ تَوْرِيثُ مَنْ لَا يَرِثُ، وَمَنْعُ مَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ؛ فَهَذَا قَتْلٌ -أَيْضًا-.
ثُمَّ إِنَّ فِيهِ قَتْلًا لِلْمُجْتَمَعِ بِعَامَّةٍ بِوَجْهٍ أَظْهَرَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوِ اكْتَفَوْا بِتَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ تَبِعَةِ أُسْرَةٍ وَبِنَاءِ لَبِنَةٍ أُولَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ تَبِعَاتِ الْأُسْرَةِ، وَعَنْ الِالْتِزَامِ بِالزَّوَاجِ، وَهُوَ مُؤَدٍّ حَتْمًا إِلَى التَّفَكُّكِ لِكُلِّ لَبِنَاتِ الْمُجْتَمَعِ بِعَامَّةٍ؛ فَفِيهِ دَمَارٌ، وَفِيهِ قَتْلٌ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ فَوْقَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِذَا ظَهَرَ الزِّنَى وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ -أَيْ: أَهْلُ الْقَرْيَةِ- عَذَابَ اللهِ)).
وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي خَمْسٍ تَسْتَتْبِعُ خَمْسًا، فَوَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تَسْتَتْبِعُ أُخْرَى بَيَّنَهَا الْمُخْتَارُ الْمُصْطَفَى ﷺ، فَقَالَ: ((وَمَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى يَسْتَعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَدْوَاءُ -أَيِ: الْأَمْرَاضُ- الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ)).
وَهَذَا حَقٌّ مُشَاهَدٌ، وَحَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَعْرِضَ كَلَامَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مَا يُصَدِّقُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ مِنْ وَقَائِعِ النَّاسِ وَأَحْوَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ ﷺ ((أَنَّهُ مَا فَشَتِ الْفَاحِشَةُ وَاسْتَعْلَنَ بِهَا قَوْمٌ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ وَالْأَمْرَاضَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- هِيَ حَسَنَةٌ فِي إِسْنَادِهَا: ((إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ)).
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَاقِعُ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَرَضَ الْخَبِيثَ الَّذِي اسْتَشْرَى فِي الْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الْغَرْبِ الْفَجَرَةِ الْكَفَرَةِ وَمِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ الْمَعْرُوفِ بِـ(فِقْدَانِ الْمَنَاعَةِ) الْمُسَمَّى اخْتِصَارًا بِـ(الْإِيدْز)؛ هَذَا الْمَرَضُ مَا أَدْخَلَهُ إِلَى السُّلَالَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا الْخُرُوجُ عَلَى مُقْتَضَى مَا جَاءَ بِهِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ؛ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ هُوَ ﷺ: ((وَمَا أَعْلَنُوا الْفَاحِشَةَ وَاسْتَشْرَتْ فِيهِمْ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَفَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ)).
وَهَذَا الْمَرَضُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَسْلَافِ قَطُّ، بَلْ دَخَلَ الْإِنْسَانَ مِنَ الْحَظِيرَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، كُسِرَتْ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، فَانْدَاحَتْ بِجُمْلَتِهَا، وَتَعَدَّى الْمَرَضُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ رَجُلًا مِنَ الْبِيضِ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ لَمَّا نَزَلَ إِلَى (إِفْرِيقِيَّةَ) وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشِذُّ مَعَهُ -وَكَانَ شَاذًّا عَلَى قَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْخَلْقِ-؛ مَكَّنَ مِنْهُ قِرْدًا، وَالْقِرْدُ فِيهِ هَذَا الْفَيْرُوس الَّذِي يُسَبِّبُ مَرَضَ (فِقْدَانِ الْمَنَاعَةِ)، فَانْتَقَلَ هَذَا الْمَرَضُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْلَنُوا بِالْفَاحِشَةِ، وَاسْتَشْرَتْ فِيهِمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرَاضِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ.
قَالَ: ﷺ: ((أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ)). حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي اقْتِرَانِ الزِّنَى بِالْكُفْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ، وَنَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ يَعْنِي حَدِيثَ: ((أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟)).
قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، وَأَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ أَجْلَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ أَوْ يَأْكُلَ طَعَامَكَ)).
بَدَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْأَكْثَرِ وُقُوعًا، ثُمَّ بِالَّذِي يَلِيهِ؛ فَالزِّنَى أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنَ الرِّدَّةِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا-، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَكْبَرِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مَفْسَدَةً.
وَمَفْسَدَةُ الزِّنَى مُنَاقِضَةٌ لِصَلَاحِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ أَدْخَلَتِ الْعَارَ عَلَى أَهْلِهَا وَزَوْجِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَنَكَسَتْ رُؤُوسَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وإنْ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَى؛ فَإنْ قَتَلَتْ ولَدَهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الزِّنَى وَالْقَتْلِ، وَإِنْ حَمَلَتْهُ عَلى الزَّوْجِ أَدْخَلَتْ عَلى أَهْلِهِ وأهْلِها أَجْنَبِيًّا لَيْسَ مِنْهُمْ، فَوَرِثَهُمْ ولَيْسَ مِنْهُمْ، وَرَآهُمْ وَخَلَا بِهِمْ وَانْتَسَبَ إلَيْهِمْ ولَيْسَ مِنهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَفاسِدِ زِنَاهَا.
وَأَمَّا زِنَى الرَّجُلِ فَإنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلاطَ الْأَنْسابِ -أَيْضًا-، وإفْسادَ المَرْأةِ المَصُونَةِ، وتَعْرِيضَهَا لِلتَّلَفِ والفَسَادِ.
وَفِي هَذِهِ الكَبِيرَةِ -يَعْنِي: فِي الزِّنَى-: خَرَابُ الدُّنْيا والدِّينِ، وإنْ عَمَّرَتِ القُبُورَ فِي البَرْزَخِ والنَّارَ في الآخِرَةِ؛ فَكَمْ في الزِّنَى مِنَ اسْتِحْلالٍ لِمُحَرَّمَاتٍ، وَفَوَاتِ حُقُوقٍ، ووُقُوعِ مَظالِمَ؟!!
وَمِن خاصِّيَّتِهِ: أنَّهُ يُوجِبُ الفَقْرَ، ويُقَصِّرُ العُمُرَ، ويَكْسُو صاحِبَهُ سَوادَ الوَجْهِ وثَوْبَ المَقْتِ بَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَمِن خاصِّيَّةِ الزِّنَى -أيْضًا-: أنَّهُ يُشَتِّتُ القَلْبَ ويُمْرِضُهُ إنْ لَمْ يُمِتْهُ، ويَجْلِبُ الهَمَّ والحَزَنَ والخَوْفَ، ويُباعِدُ صاحِبَهُ مِنَ المَلَكِ، ويُقَرِّبُهُ مِنَ الشَّيْطانِ.
فَلَيْسَ بَعْدَ مَفْسَدَةِ القَتْلِ أعْظَمَ مِن مَفْسَدَتِهِ؛ ولِهَذا شُرِعَ فِيهِ القَتْلُ عَلى أشْنَعِ الوُجُوهِ وأفْحَشِها وأصْعَبِها، ولَوْ بَلَغَ العَبْدَ أَنَّ امْرَأتَهُ أوْ حُرْمَتَهُ قُتِلَتْ؛ كانَ أسْهَلَ عَلَيْهِ مِن أنْ يَبْلُغَهُ أنَّهَا زَنَتْ.
وَقالَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْ رَأيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ -أَيْ: بِحَدِّهِ لَا بِعَرْضِهِ، يَعْنِي: لَقَتَلْتُهُ-)).
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: ((تَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ واللَّهِ لَأَنا أغْيَرُ مِنهُ، واللَّهُ أغْيَرُ مِنِّي، ومِن أجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أيْضًا- عَنْهُ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ يَغارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ اللَّهِ أنْ يَأْتِيَ العَبْدُ ما حُرِّمَ عَلَيْهِ».
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أيْضًا- عَنْهُ ﷺ: «لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ؛ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ، ولا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ؛ مِن أجْلِ ذَلِكَ أرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، ولا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ؛ وَمِن أجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلى نَفْسِهِ».
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) في خُطْبَتِهِ ﷺ في صَلاةِ الكُسُوفِ أنَّهُ قالَ: «يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! واللَّهِ إنَّهُ لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أوْ تَزْنِيَ أمَتُهُ، يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟».
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الكَبِيرَةِ بِخُصُوصِهَا عَقِبَ صَلَاةِ الكُسُوفِ سِرٌّ بَدِيعٌ لِمَن تَأمَّلَهُ، وظُهُورُ الزِّنَى مِنْ أَمَارَاتِ خَرَابِ الْعَالَمِ، وهو مِن أشْراطِ السَّاعَةِ، كَما في ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قالَ: «لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمُوهُ أحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: ((مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ: أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهْلُ، ويُشْرَبَ الخَمْرُ، ويَظْهَرَ الزِّنى، ويَقِلَّ الرِّجالُ، وتَكْثُرَ النِّساءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةً القَيِّمُ الواحِدُ)).
وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ -سُبْحانَهُ- في خَلْقِهِ أنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنَى يَغْضَبُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، ويَشْتَدُّ غَضَبُهُ، فَلا بُدَّ أنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ في الأرْضِ عُقُوبَةً.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((ما ظَهَرَ الرِّبَا والزِّنَى في قَرْيَةٍ إلَّا أَذِنَ اللَّهُ بِهَلَاكِهَا)).
وَرَأى بَعْضُ أحْبارِ بَنِي إسْرائِيلَ ابْنَهُ يَغْمِزُ امْرَأةً، فَقالَ: ((مَهْلًا يا بُنَيَّ! فَصُرِعَ الأبُ عَنْ سَرِيرِهِ فانْقَطَعَ نُخَاعُهُ، وَأَسْقَطَتِ امْرَأتُهُ، وقِيلَ لَهُ: هَكَذَا غَضَبُكَ لِي؟! لا يَكُونُ في جِنْسِكَ خَيْرٌ أبَدًا)).
وَخَصَّ -سُبْحانَهُ- حَدَّ الزِّنَى مِنْ بَيْنِ الحُدُودِ بِثَلاثِ خَصائِصَ:
أحَدُهَا: القَتْلُ فِيهِ بِأشْنَعِ الْقِتْلَاتِ، وحَيْثُ خَفَّفَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ العُقُوبَةِ عَلى البَدَنِ بِالجَلْدِ، وعَلى القَلْبِ بِتَغْرِيبِهِ عَنْ وطَنِهِ سَنَةً.
الثَّانِي: أنَّهُ نَهَى عِبادَهُ أنْ تَأْخُذَهُمْ بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ في دِينِهِ؛ بِحَيْثُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَإنَّهُ -سُبْحانَهُ- مِن رَأْفَتِهِ بِهِمْ ورَحْمَتِهِ بِهِمْ شَرَعَ هَذِهِ العُقُوبَةَ؛ فَهُوَ أرْحَمُ بِكُمْ، ولَمْ تَمْنَعْهُ رَحْمَتُهُ مِن أمْرِهِ بِهَذِهِ العُقُوبَةِ، فَلا يَمْنَعْكُمْ أنْتُمْ ما يَقُومُ بِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرَّأْفَةِ مِنْ إقامَةِ أمْرِهِ.
وَهَذا -وإنْ كانَ عامًّا فِي سَائِرِ الحُدُودِ- ولَكِنْ ذُكِرَ في حَدِّ الزِّنَى خاصَّةً لِشِدَّةِ الحاجَةِ إلى ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لا يَجِدُونَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِلْظَةِ والقَسْوَةِ عَلى الزَّانِي ما يَجِدُونَهُ عَلى السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ وَشَارِبِ الخَمْرِ، فَقُلُوبُهمْ تَرْحَمُ الزَّانِيَ أكْثَرَ مِمَّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِن أرْبابِ الجَرائِمِ، والواقِعُ شاهِدٌ بِذَلِكَ، فَنُهُوا أنْ تَأْخُذَهُمْ هَذِهِ الرَّأْفَةُ وَتَحْمِلَهُمْ عَلى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَسَبَبُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الزَّانِي: أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ يَقَعُ مِنَ الأشْرافِ والأوْساطِ وَالْأَرَاذِلِ، وفي النُّفُوسِ أَقْوَى الدَّواعِي إلَيْهِ، والمُشارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ، وأكْثَرُ أسْبابِهِ العِشْقُ، والقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ عَلَى رَحْمَةِ العاشِقِ، وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعُدُّ مُساعَدَةَ الْعَاشِقِ طاعَةً وقُرْبَةً؛ وَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ الْمَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا الْأَمْرُ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أشْبَاهِ الْأَنْعَامِ، وَلَقَدْ حَكى لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا نُقَّاصُ الْعُقُولِ؛ كَالْخُدَّامِ، وَالنِّسَاءِ.
وَأيْضًا فَإنَّ هَذَا ذَنْبٌ غَالِبًا ما يَقَعُ مَعَ التَّراضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ، ولا يَقَعُ فِيهِ مِنَ العُدْوانِ والظُّلْمِ والِاغْتِصَابِ ما تَنْفِرُ النُّفُوسُ مِنهُ.
وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غالِبَةٌ لَهُ، فَيُصَوَّرُ ذَلِكَ لَهَا، فَتَقُومُ بِهَا رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إقامَةَ الحَدِّ، وهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الإيمانِ.
وَكَمَالُ الْإِيمَانِ أَنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ اللَّهِ، ورَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِهَا الْمَحْدُودَ، فَيَكُونُ مُوافِقًا لِرَبِّهِ -تَعَالَى- في أمْرِهِ ورَحْمَتِهِ.
الثَّالِثُ مِنْ تِلْكَ الْخَصَائِصِ الَّتِي خُصَّ بِهَا حَدُّ الزِّنَى مِنْ بَيْنِ الْحُدُودِ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمَا بِمَشْهَدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَلا يَكُونُ في خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لا يَرَاهُمَا أَحَدٌ، وذَلِكَ أبْلَغُ في مَصْلَحَةِ الحَدِّ، وَحِكْمَةِ الزَّجْرِ، وحَدُّ الزَّانِي المُحْصَنِ مُشْتَقٌّ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لِقَوْمِ لُوطٍ بِالقَذْفِ بِالحِجَارَةِ؛ وذَلِكَ لِاشْتِراكِ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ في الفُحْشِ، وفي كُلٍّ مِنهُما فَسَادٌ يُناقِضُ حِكْمَةَ اللَّهِ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ.
((جَرِيمَةُ اللِّوَاطِ وَآثَارُهَا دُنْيَا وَآخِرَةً
-الْمِثْلِيَّةُ أَوِ الشُّذُوذُ الْجِنْسِيُّ-))
إِنَّ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ جَرِيمَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَفَعْلَةٌ قَبِيحَةٌ يَمُجُّهَا الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَتَأْبَاهَا الْفِطْرَةُ السَّوِيَّةُ، وَتَمْقُتُهَا الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ؛ وَذَلِكَ لِمَا لَهَا مِنْ عَظِيمِ الْأَضْرَارِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ جَسِيمِ الْأَخْطَارِ.
إنَّ في اللِّواطِ مِنَ المَفاسِدِ ما يَفُوتُ الحَصْرَ والتَّعْدَادَ، ولَأنْ يُقْتَلَ المَفْعُولُ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى؛ فَإِنَّهُ يَفْسَدُ فَسَادًا لَا يُرْجَى لَهُ بَعْدَهُ صَلَاحٌ أَبَدًا، ويَذْهَبُ خَيْرُهُ كُلُّهُ، وَتَمَصُّ الْأَرْضُ مَاءَ الْحَيَاءِ مِنْ وَجْهِهِ؛ فَلَا يَسْتَحِيِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ، وَتَعْمَلُ فِي قَلْبِهِ ورُوحِهِ نُطْفَةُ الفاعِلِ ما يَعْمَلُ السَّمُّ في البَدَنِ.
اللُّوطِيُّ: هُوَ مَنْ فَعَلَ الْفَاحِشَةَ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ، وَسُمِّيَ لُوطِيًّا نِسْبَةً إِلَى قَوْمِ لُوطٍ؛ لِأَنَّ قَوْمَ لُوطٍ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- هُمْ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فِي الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80].
وَاللِّوَاطُ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى وَأَقْبَحُ؛ لِأَنَّ الزِّنَى: فِعْلُ فَاحِشَةٍ فِي فَرْجٍ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، لَكِنَّ اللِّوَاطَ: فِعْلُ فَاحِشَةٍ فِي دُبُرٍ لَا يُبَاحُ أَبَدًا؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي الزِّنَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]، وَقَالَ لُوطٌ لِقَوْمِهِ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}!! وَأَقَرَّهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحَكَى قَوْلَهُ مُرْتَضِيًا لَهُ.
وَ«ال» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفَعْلَةَ الْخَبِيثَةَ قَدْ جَمَعَتِ الْفُحْشَ كُلَّهُ، تِلْكَ الْفَاحِشَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا فَاحِشَةٌ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ؛ أَنَّ قُبْحَ اللِّوَاطِ أَعْظَمُ مِنْ قُبْحِ الزِّنَى.
*قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:
لُوطٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تِلْمِيذُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدْ تَعَلَّمَ مِنْهُ ﷺ، وَكَانَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ، فَنَبَّأَهُ اللهُ بِحَيَاةِ الْخَلِيلِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى قُرَى (سَدُومَ) مِنْ غَوْرِ فِلَسْطِينَ، وَكَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ بِاللهِ يَلُوطُونَ بِالذُّكُورِ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ أَحَدٌ إِلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الشَّنْعَاءِ، فَدَعَاهُمْ لُوطٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا عُتُوًّا وَتَمَادِيًا فِيمَا هُمْ فِيهِ.
وَلَمَّا أَرَادَ اللهُ هَلَاكَهُمْ أَرْسَلَ الْمَلَائِكَةَ لِذَلِكَ، فَمَرُّوا بِطَرِيقِهِمْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يُجَادِلُ فِي إِهْلَاكِهِمْ -وَكَانَ رَحِيمًا حَلِيمًا-، وَقَالَ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32].
فَقِيلَ: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76 ].
وَلَمَّا ذَهَبَ الْمَلَائِكَةُ إِلَى لُوطٍ بِصُورَةِ أَضْيَافٍ آدَمِيِّينَ شَبَابٍ -وَكَانُوا فِي أَجْمَلِ صُورَةٍ تَكُونُ قَطُّ، وَأَعْظَمِ مَلَاحَةٍ-؛ سَاءَ لُوطًا ذَلِكَ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77 ]؛ لِعِلْمِهِ بِمَا عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ هَذِهِ الْجَرَاءَةِ الشَّنِيعَةِ، وَوَقَعَ مَا خَافَ مِنْهُ، فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، يُرِيدُونَ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ بِأَضْيَافِ لُوطٍ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِنَّ، كَمَا عَرَضَ سُلَيْمَانُ لِلْمَرْأَتَيْنِ حِينَ اخْتَصَمَتَا فِي الْوَلَدِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِثْلُهُ.
وَلِهَذَا قَالَ قَوْمُهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79].
وَأَيْضًا يُرِيدُ بَعْضَ الْعُذْرِ مِنْ أَضْيَافِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} يَعْنِي: زَوْجَاتِهِمْ، يَعْنِي: لِأَنَّ النَّبِيَّ أَبٌ لِأُمَّتِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا يَمْنَعُهُ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} يُشِيرُ إِلَيْهِنَّ إِشَارَةَ الْحَاضِرِ، وَلَمْ يَكُنَّ نِسَاؤُهُمْ قَدْ حَضَرْنَ هَذَا الْمَوْقِفَ.
ثَانِيًا: هَذَا الْإِطْلَاقُ عَلَى زَوْجَاتِهِمْ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَأَيْضًا النَّبِيُّ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لَا لِلْكُفَّارِ، وَالْمَحْذُورُ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ يَزُولُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِنَّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مُدَافَعَتَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ بِلُوطٍ وَقَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أَيْ: لَدَافَعْتُكُمْ.
فَلَمَّا رَآهُمْ جَازِمِينَ عَلَى مُرَادِهِمُ الْخَبِيثِ قَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78].
فَاسْتَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وَسُكْرِهِمْ؛ فَحِينَئِذٍ أَخْبَرَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ بِأَمْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِإِهْلَاكِهِمْ، فَصَدَمَ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْبَابَ -يُرِيدُونَ فَتْحَهُ- لِيَدْخُلُوا عَلَى لُوطٍ، وَلِيَصِلُوا إِلَى أَضْيَافِهِ، فَطَمَسَ بِهَذِهِ الصَّدْمَةِ أَعْيُنَهُمْ، فَكَانَ هَذَا عَذَابًا مُعَجَّلًا وَأُنْمُوذَجًا لِمَنْ بَاشَرُوا مُرَاوَدَةَ لُوطٍ عَلَى أَضْيَافِهِ، وَأَمَرُوا لُوطًا أَنْ يَسْرِي بِأَوَّلِ اللَّيْلِ بِأَهْلِهِ، وَيُلِحَّ فِي السَّيْرِ؛ حَتَّى يَخَلِّفَ دِيَارَهُمْ، وَيَنْجُوَ مِنْ مَعَرَّةِ الْعَذَابِ.
فَخَرَجَ بِهِمْ، فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ حَتَّى خَلَّفُوا دِيَارَهُمْ -أَيْ: دِيَارَ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَرَاءَهُمْ-، وَقَلَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ، فَجَعَلَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ بِبَعِيدٍ.
قَوْمُ لُوطٍ مُشْرِكُونَ، وَأَظْهَرُ مَعْصِيَةٍ فِيهِمْ بَعْدَ الشِّرْكِ هِيَ اللِّوَاطُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، وَهُوَ إِتْيَانُ الذُّكُورِ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولُهُمْ لُوطٌ بِأَنَّهُ الْفَاحِشَةُ، وَالزِّنَى وَصَفَهُ اللهُ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ؛ أَيُّهُمَا أَعْظَمُ؛ الْفَاحِشَةُ أَوْ فَاحِشَةٌ؟!!
الْفَاحِشَةُ: يَعْنِي الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى؛ وَلِهَذَا نَقُولُ أَنَّ اللِّوَاطَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، اللِّوَاطُ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى؛ إِتْيَانُ الذَّكَرِ لِلذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالْفَاحِشَةِ، وَالزِّنَى وُصِفَ بِفَاحِشَةٍ.
هَذِهِ الْفَعْلَةُ الْقَبِيحَةُ تَنْفِرُ مِنْهَا الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ؛ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ فَقَالَ: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}.
هَذَا خِلَافٌ الْعَقْلِ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. هَذَا خِلَافُ الْعَقْلِ تَمَامًا، وَهُوَ مِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى الْأُمَمِ فِي انْقِلَابِ الْأَخْلَاقِ وَفَسَادِهَا؛ وَلِذَلِكَ يَتَفَطَّنُ الْمَفْعُولُ بِهِ إِذَا كَبُرَ بِهَذِهِ الْفَعْلَةِ فيَظَلُّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا؛ كَيْفَ يُقَابِلُ النَّاسَ؟!!
حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ الْفَاحِشَةَ، يَقُولُ: لِأَنَّهُ جَعَلَنِي أَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَكَأَنِّي امْرَأَةٌ، وَلَا يَنْدَمُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْبُرَ؛ فَهِيَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ فَاحِشَةَ اللُّوَاطِ مِنْ أَشْنَعِ الْقَبَائِحِ، وَأَنَّهَا تُوجِبُ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، وَأَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ فَمَعَ ذَهَابِ دِينِهِ قَدِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ الْحُسْنُ بِالْقَبِيحِ، فَاسْتَحْسَنَ مَا كَانَ قَبِيحًا، وَنَفَرَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْحِرَافِ الْأَخْلَاقِ.
لَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَفْعُولٌ بِهِ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَحْكِيهِمَا.
الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ جَدِيرٌ أَلَّا يُوَفَّقَ لِلْخَيْرِ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ خَيْرًا قَيَّضَ اللهُ مَا يُفْسِدُهُ عُقُوبَةً لَهُ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِبَرِهِ شَرٌّ مِمَّا كَانَ، وَلَا يُوَفَّقُ لِعِلْمٍ نَافِعٍ، وَلَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَا تَوْبَةٍ نَصُوحٍ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَابَ الْمُبْتَلَى بِهَذَا الْبَلَاءِ وَأَنَابَ، وَرُزِقَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَعَمَلًا صَالِحًا، وَكَانَ فِي كِبَرِهِ خَيْرًا مِنْهُ فِي صِغَرِهِ، وَبَدَّلَ سَيِّئَاتِهِ بِحَسَنَاتٍ، وَغَسَلَ عَارَ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ، وَحَفِظَ فَرْجَهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَصَدَقَ اللهَ فِي مُعَامَلَتِهِ؛ فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو كُلَّ ذَنْبٍ حَتَّى الشِّرْكِ بِاللهِ، وَقَتْلِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَالسِّحْرِ، وَالْكُفْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَلَا تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ هَذَا الذَّنْبِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللهِ بِهِ عَدْلًا وَفَضْلًا أَنَّ ((التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
ضَمِنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لِمَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَالزِّنَى أَنْ يُبَدِّلَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ تَائِبٍ مِنْ ذَنْبٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ خَاصَّةً.
وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ؛ إِنْ كَانَ فِي كِبَرِهِ شَرًّا مِمَّا كَانَ فِي صِغَرِهِ؛ لَمْ يُوَفَّقْ لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَلَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَا اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَ، وَلَا أَبْدَلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ؛ فَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يُوَفَّقَ عِنْدَ الْمَمَاتِ لِخَاتِمَةٍ يَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ؛ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِسَيِّئَةٍ أُخْرَى، وَتَتَضَاعَفُ عُقُوبَةُ السَّيِّئَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِحَسَنَةٍ أُخْرَى، فَتَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحْتَضَرِينَ وَجَدْتَهُمْ يُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإشْبِيلِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاعْلَمْ أَنَّ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ -أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا- أَسْبَابًا، وَلَهَا طُرُقٌ وَأَبْوَابٌ؛ أَعْظَمُهَا: الِانْكِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأُخْرَى، وَالْإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى مَعَاصِي اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَرُبَّمَا غَلَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ ضَرْبٌ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَنَوْعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَجَانِبٌ مِنَ الْإِعْرَاضِ، وَنَصِيبٌ مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ؛ فَمَلَكَ قَلْبَهُ، وَسَبَى عَقْلَهُ، وَأَطْفَأَ نُورَهُ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ حُجُبَهُ؛ فَلَمْ تَنْفَعْ فِيهِ تَذْكِرَةٌ، وَلَا نَجَحَتْ فِيهِ مَوْعِظَةٌ، فَرُبَّمَا جَاءَهُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْمُرَادُ، وَلَا عَلِمَ مَا أَرَادَ؛ وَإِنْ كَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَأَعَادَ!!
قَالَ: وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ النَّاصِرِ نَزَلَ الْمَوْتُ بِهِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَيَقُولُ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ!! فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَأَعَادَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ غَشْيَةٌ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ!!
وَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ؛ كُلَّمَا قِيلَ لَهُ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ قَالَ: النَّاصِرُ مَوْلَايَ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: ((يَا فُلَانُ! النَّاصِرُ إِنَّمَا يَعْرِفُكَ بِسَيْفِكَ، وَالْقَتْلَ الْقَتْلَ))، ثُمَّ مَاتَ!!
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَقِيلَ لِآخَرَ مِمَّنْ أَعْرِفُهُ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَجَعَلَ يَقُولُ: الدَّارُ الْفُلَانِيَّةُ أَصْلِحُوا فِيهَا كَذَا، وَالْبُسْتَانُ الْفُلَانِيُّ افْعَلُوا فِيهِ كَذَا!!
قَالَ: وَفِيمَا أَذِنَ لِي أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ أَنْ أُحَدِّثَ بِهِ عَنْهُ؛ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَجَعَلَ يَقُولُ بِالْفَارِسِيَّةِ: دِهْ يَازْدِهْ دِهْ وَزْدِهْ؛ تَفْسِيرُهُ: عَشْرَةٌ بِإِحْدَى عَشَرَ.
وَقِيلَ لِآخَرَ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَيْنَ الطَّريقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ؟!!
قَالَ –أَيِ: الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِشْبِيلِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ قِصَّةٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا بِإِزَاءِ دَارِهِ -وَكَانَ بَابُهَا يُشْبِهُ بَابَ هَذَا الْحَمَّامِ-، فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ لَهَا مَنْظَرٌ وَهَيْئَةٌ، فَقَالَتْ: أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ؟
فَقَالَ: هَذَا حَمَّامُ مِنْجَابٍ -وَأَشَارَ إِلَى دَارِهِ-، فَدَخَلَتِ الدَّارَ -تَحْسَبُهَا الْحَمَّامَ-، وَدَخَلَ وَرَاءَهَا.
فَلَمَّا رَأَتْ نَفْسَهَا فِي دَارِهِ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهَا؛ أَظْهَرَتْ لَهُ الْبُشْرَى وَالْفَرَحَ بِاجْتِمَاعِهَا مَعَهُ، وَقَالَتْ لَهُ: يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعَنَا مَا يَطِيبُ بِهِ عَيْشُنَا، وَتَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا؟!!
فَقَالَ لَهَا: السَّاعَةَ آتِيكِ بِكُلِّ مَا تُرِيدِينَ وَتَشْتَهِينَ، وَخَرَجَ وَتَرَكَهَا فِي الدَّارِ، وَلَمْ يُغْلِقْ بَابَهَا، فَأَخَذَ مَا يَصْلُحُ -ائْتِ بِهَذَا، قَدْ لَا يُعْجِبُهَا فَائْتِ بِهَذَا، ثَمِّنْ هَذَا وَأَغْلِ سِعْرَهُ، وَائْتِ بِهَذَا وَهَذَا؛ حَتَّى أَتَى بِوِقْرِ بَعِيرٍ-، وَرَجَعَ فَوَجَدَهَا قَدْ خَرَجَتْ وَذَهَبَتْ، وَلَمْ تَخُنْهُ فِي شَيْءٍ –يَعْنِي: لَمْ تَأْخُذْ مِنَ الدَّارِ شَيْئًا-، فَهَامَ الرَّجُلُ وَأَكْثَرَ الذِّكْرَ لَهَا، وَجَعَلَ يَمْشِي فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ، وَيَقُولُ:
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ = كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ
فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا يَقُولُ ذَلِكَ؛ وَإِذَا بِجَارِيَتِهِ أَجَابَتْهُ مِنْ طَاقٍ:
هَلَّا جَعَلْتَ سَرِيعًا إِذْ ظَفَرْتَ بِهَا = حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلًا عَلَى الْبَابِ
فَازْدَادَ هَيَمَانُهُ وَاشْتَدَّ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ هَذَا الْبَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا!! وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!
وَلَقَدْ بَكَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ: ((كُلُّ هَذَا خَوْفًا مِنَ الذُّنُوبِ؟!!
فَأَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ: الذُّنُوبُ أَهْوَنُ مِنْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا أَبْكِي مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ)).
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِقْهِ؛ أَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ أَنْ تَخْذُلَهُ ذُنُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيقُ وَيَقْرَأُ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
فَمِنْ هَذَا خَافَ السَّلَفُ مِنَ الذُّنُوبِ؛ أَنْ تَكُونَ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ -أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْهَا- لَا تَكُونُ لِمَنِ اسْتَقَامَ ظَاهِرُهُ وَصَلَحَ بَاطِنُهُ، مَا سُمِعَ بِهَذَا وَلَا عُلِمَ بِهِ -وَللهِ الْحَمْدُ-، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْدِ -أَيْ: فَسَادٌ فِي الْبَاطِنِ-، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، فَرُبَّمَا غَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَيَأْخُذَهُ قَبْلَ إِصْلَاحِ الطَّوِيَّةِ، وَيُصْطَلَمُ –أَيْ: يُسْتَأْصَلُ- قَبْلَ الْإِنَابَةِ، فَيَظْفَرُ بِهِ الشَّيْطَانُ عِنْدَ تِلْكَ الصَّدْمَةِ، وَيَخْتَطِفُهُ عِنْدَ تِلْكَ الدَّهْشَةِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.
قَالَ: وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ رَجُلٌ يَلْزَمُ الْمَسْجِدَ لِلْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ بَهَاءُ الطَّاعَةِ وَأَنْوَارُ الْعِبَادَةِ، فَرَقَى –أَيْ: صَعِدَ- يَوْمًا الْمَنَارَةَ -عَلَى عَادَتِهِ- لِلْأَذَانِ، وَكَانَ تَحْتَ الْمَنَارَةِ دَارٌ لِنَصْرَانِيٍّ، فَاطَّلَعَ فِيهَا فَرَأَي ابْنَةَ صَاحِبِ الدَّارِ، فَافْتُتِنَ بِهَا، فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَنَزَلَ إِلَيْهَا، وَدَخَلَ الدَّارَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا شَأْنُكَ وَمَا تُرِيدُ؟!!
قَالَ: أُرِيدُكِ.
فَقَالَتْ: لِمَاذَا؟
قَالَ: قَدْ سَلَبْتِ لُبِّي، وَأَخَذْتِ بِمَجَامِعِ قَلْبِي.
قَالَتْ: لَا أُجِيبُكَ إِلَى رِيبَةٍ أَبَدًا.
قَالَ: أَتَزَوَّجُكِ.
قَالَتْ: أَنْتَ مُسْلِمٌ وَ-هِيَ- نَصْرَانِيَّةٌ.
وَأَبُوهَا لَا يُزَوِّجُهَا مِنْهُ.
فَقَالَ: إِنَّهُ يَتَنَصَّرُ!!
فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتَ أَفْعَلْ.
فَتَنَصَّرَ الرَّجُلُ لِيَتَزَوَّجَهَا، وَأَقَامَ مَعَهُمْ فِي الدَّارِ -تَرَكَ الْمَنَارَةَ وَكَانَ عِنْدَهُمْ-، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ -أَيِ: الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهَا فِيهِ-؛ رَقَى -أَيْ: صَعِدَ- إِلَى سَطْحٍ كَانَ فِي الدَّارِ، فَسَقَطَ مِنْهُ فَمَاتَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَفَاتَهُ دِينُهُ!!
فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ!!
وَتَأَمَّلْ! يَلْزَمُ مَسْجِدًا لِلْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ بَهَاءُ الطَّاعَةِ وَأَنْوَارُ الْعِبَادَةِ -اللهم ثَبِّتْنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاقْبِضْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ-.
قَالَ: وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا عَلِقَ شَخْصًا فَاشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِ، وَتَمَكَّنَ حُبُّهُ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى وَقَعَ أَلَمًا بِهِ، وَلَزِمَ الْفِرَاشَ بِسَبَبِهِ، وَتَمَنَّعَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ، وَاشْتَدَّ نِفَارُهُ عَنْهُ -وَالنِّفَارُ: الْحِرَانُ-، فَلَمْ تَزَلِ الْوَسَائِطُ يَمْشُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى وَعَدَهُ أَنْ يَعُودَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ النَّاسُ -أَنَّهُ سَيَأْتِي، تَكْتَحِلُ عَيْنَاكَ بِمَرْآهُ، وَقَدْ حَنَّ عَلَيْكَ!! قَدْ أَسْلَمْتَهُ قَلْبَكَ يَتَصَرَّفُ بِهِ وَفِيهِ كَمَا يَشَاءُ؛ فَالْآنَ أَبْشِرْ! سَوْفَ يَأْتِي إِلَيْكَ!!-.
فَفَرِحَ وَاشْتَدَّ فَرَحُهُ، وَانْجَلَى غَمُّهُ -يَعْنِي قَالَ: شِفَاءُ عِلَّتِي فِي رُؤْيَتِي لِطَلْعَةِ فُلَانٍ؛ بِمَحَبَّةٍ شِرْكِيَّةٍ لِحُبِّ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَتَعَلُّقٍ فِي الْقَلْبِ شِرْكِيٍّ-، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْمِيعَادَ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ السَّاعِي بَيْنَهُمَا فَقَالَ: إِنَّهُ وَصَلَ مَعِي إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ وَرَجَعَ، فَرَغِبْتُ إِلَيْهِ وَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: أَنَّهُ ذَكَرَنِي وَفَرِحَ بِي، وَلَا أَدْخُلُ مَدْخَلَ الرِّيبَةِ، وَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِمَوَاقِعِ التُّهَمِ.
قَالَ السَّاعِي بَيْنَهُمَا: فَعَاوَدْتُهُ فَأَبَى وَانْصَرَفَ.
فَلَمَّا سَمِعَ الْبَائِسُ الْمُحِبُّ؛ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَعَادَ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ بِهِ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ عَلَائِمُ الْمَوْتِ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ:
اسْلَمْ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ = وَيَا شِفَا الْمُدْنَفِ النَّحِيلِ
رِضَاكَ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي = مِنْ رَحْمَةِ الْخَالِقِ الْجَلِيلِ
فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! اتَّقِ اللهَ.
قَالَ: قَدْ كَانَ، فَقُمْتُ عَنْهُ، فَمَا جَاوَزْتُ بَابَ دَارِهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَيْحَةَ الْمَوْتِ -فَعِيَاذًا بِاللهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَشُؤْمِ الْخَاتِمَةِ-.
((عُقُوبَةُ اللِّوَاطِ))
عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ اللِّوَاطِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ؛ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ هُوَ أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنَ الزِّنَى، أَوِ الزِّنَى أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنْهُ، أَوْ عُقُوبَتُهُمَا سَوَاءٌ؟
ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْمَرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَه، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ-، وَالشَّافِعِيُّ -فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ- إِلَى: أَنَّ عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَى، وَعُقُوبَتَهُ الْقَتْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
قَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ -وَهُمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، وَحَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ--: لَيْسَ فِي الْمَعَاصِي مَفْسَدَةٌ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ اللِّوَاطِ، وَهِيَ تَلِي مَفْسَدَةَ الْكُفْرِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْقَتْلِ.
وَلَمْ يَبْتَلِ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَعَاقَبَهُمْ عُقُوبَةً لَمْ يُعَاقِبْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ؛ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْخَسْفِ بِهِمْ، وَرَجْمِهِمْ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَطَمْسِ أَعْيُنِهِمْ، وَعَذَّبَهُمْ وَجَعَلَ عَذَابَهُمْ مُسْتَمِرًّا، فَنَكَّلَ بِهِمْ نَكَالًا لَمْ يُنَكِّلْهُ أُمَّةً سِوَاهُمْ؛ وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي تَكَادُ الْأَرْضُ تَمِيدُ مِنْ جَوَانِبِهَا إِذَا عُمِلَتْ عَلَيْهَا، وَتَهْرَبُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا شَهِدُوهَا؛ خَشْيَةَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهَا فَيُصِيبُهُمْ مَعَهُمْ، وَتَعَجُّ الْأَرْضُ إِلَى رَبِّهَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَتَكَادُ الْجِبَالُ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا.
وَقَتْلُ الْمَفْعُولِ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ وَطْئِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا وَطِأَهُ الرَّجُلُ قَتَلَهُ قَتْلًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، بِخِلَافِ قَتْلِهِ؛ فَإِنَّهُ مَظْلُومٌ شَهِيدٌ، وَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي آخِرَتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ حَدَّ الْقَاتِلِ إِلَى خِيَرَةِ الْوَلِيِّ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَحَتَّمَ قَتْلَ اللُّوطِيِّ حَدًّا، كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا؛ بَلْ عَلَيْهَا عَمَلُ أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ، فَحَرَقَهُ)).
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: ((يُنْظَرُ أَعْلَى مَا فِي الْقَرْيَةِ فَيُرْمَى اللُّوطِيُّ مِنْهَا مُنَكَّسًا، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ)).
وَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدَّ مِنْ عُقُوبَةِ اللهِ لِلُّوطِيَّةِ -قَوْمِ لُوطٍ-، وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلَهُ ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)). رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ)).
وَلَمْ تَجِئْ عَنْهُ لَعْنَةُ الزَّانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ لَعَنَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِهِمْ فِي اللَّعْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَرَّرَ لَعْنَ اللُّوطِيَّةِ فَأَكَّدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَأَطْبَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى قَتْلِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ فِيهِ رَجُلَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي قَتْلِهِ، فَحَكَاهَا مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ بَيْنَهُمْ مَسْأَلَةُ إِجْمَاعٍ، لَا مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الزِّنَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، وَقَوْلَهُ فِي اللِّوَاطِ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}؛ تَبَيَّنَ لَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَكَّرَ الْفَاحِشَةَ فِي الزِّنَى، أَيْ: هُوَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَعَرَّفَهَا فِي اللِّوَاطِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ جَامِعٌ لِمَعَانِي اسْمِ الْفَاحِشَةِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، وَنِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، أَيْ: تَأْتُونَ الْخَصْلَةَ الَّتِي اسْتَقَرَّ فُحْشُهَا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، فَهِيَ لِظُهُورِ فُحْشِهَا وَكَمَالِهِ غَنِيَّةٌ عَنْ ذِكْرِهَا؛ بِحَيْثُ لَا يَنْصَرِفُ الِاسْمُ إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ الْفِرْعَوْنِ لِمُوسَى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أَيِ: الْفَعْلَةَ الشَّنْعَاءَ الظَّاهِرَةَ الْمَعْلُومَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ.
ثُمَّ أَكَّدَ -سُبْحَانَهُ- شَأْنَ فُحْشِهَا بِأَنَّهَا لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَبْلَهُمْ فَقَالَ: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.
ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ بِأَنْ صَرَّحَ بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَنْبُو عَنْهَا الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ؛ وَهُوَ إِتْيَانُ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ، يَنْكِحُهُ كَمَا يَنْكِحُ الْأُنْثَى، فَقَالَ: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}.
ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ الشَّهْوَةِ، لَا الْحَاجَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا مَالَ الذَّكَرُ إِلَى الْأُنْثَى؛ مِنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ، وَلَذَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَحُصُولِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ الَّتِي تَنْسَى الْمَرْأَةُ لَهَا أَبَوَيْهَا وَتَذْكُرُ بَعْلَهَا، وَحُصُولِ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ حِفْظُ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ، وَحُصُولِ عَلَاقَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ النَّسَبِ، وَقِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَخُرُوجِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ مِنْ جِمَاعِهِنَّ؛ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمُكَاثَرَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْأَنْبِيَاءَ بِأُمَّتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي اللِّوَاطِ تُقَاوِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَتَرْبُو عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَفَسَادُهُ، وَلَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
ثُمَّ أَكَّدَ -سُبْحَانَهُ- قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللُّوطِيَّةَ عَكَسُوا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا الرِّجَالَ، وَقَلَبُوا الطَّبِيعَةَ الَّتِي رَكَّبَهَا اللهُ فِي الذُّكُورِ؛ وَهِيَ شَهْوَةُ النِّسَاءِ دُونَ الذُّكُورِ، فَقَلَبُوا الْأَمْرَ، وَعَكَسُوا الْفِطْرَةَ وَالطَّبِيعَةَ، فَأَتَوُا الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ؛ وَلِهَذَا قَلَبَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَكَذَلِكَ قَلَبُوهُمْ وَنَكَسُوا فِي الْعَذَابِ عَلَى رُؤُوسِهِمْ.
ثُمَّ أَكَّدَ -سُبْحَانَهُ- قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْرَافِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فَقَالَ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
فَتَأَمَّلْ؛ هَلْ جَاءَ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الزِّنَى؟!!
وَأَكَّدَ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}.
ثُمَّ أَكَّدَ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمُ الذَّمَّ بِوَصْفَيْنِ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}.
وَسَمَّاهُمْ مُفْسِدِينَ فِي قَوْلِ نَبِيِّهِمْ فَقَالَ: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.
وَسَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}.
فَتَأَمَّلْ مَنْ عُوقِبَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ، وَمَنْ ذَمَّهُ اللهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَذَمَّاتِ!
وَلَمَّا جَادَلَ فِيهِمْ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَلَائِكَةَ وَقَدْ أَخْبَرُوهُ بِإِهْلَاكِهِمْ؛ فَقِيلَ لَهُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
وَتَأَمَّلْ خُبْثَ اللُّوطِيَّةِ، وَفَرْطَ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ؛ حَيْثُ جَاؤُوا نَبِيَّهُمْ لُوطًا لَمَّا سَمِعُوا بِأَنَّهُ قَدْ طَرَقَهُ أَضْيَافٌ هُمْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ صُوَرًا، فَأَقْبَلَ اللُّوطِيَّةُ إِلَيْهِمْ يُهْرَعُونَ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}.
فَفَدَا أَضْيَافَهُ بِبَنَاتِهِ يُزَوِّجُهُمْ بِهِنَّ؛ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَضْيَافِهِ مِنَ الْعَارِ الشَّدِيدِ، فَقَالَ: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.
فَرَدُّوا عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ رَدٌّ جَبَّارٌ عَنِيدٌ: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.
فَنَفَثَ نَبِيُّ اللهِ نَفْثَةَ مَصْدُورٍ، وَخَرَجَتْ مِنْ قَلْبٍ مَكْرُوبٍ، فَقَالَ: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}.
فَنَفَّسَ لَهُ رُسُلُ اللهِ، وَكَشَفُوا لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ يُوصَلُ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَيْهِ بِسَبَبِهِمْ؛ فَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ، وَلَا تَعْبَأْ بِهِمْ، وَهَوِّنْ عَلَيْكَ، فَقَالُوا: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}.
وَبَشَّرُوهُ بِمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الْوَعْدِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُصِيبِ فَقَالُوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟!!
فَاسْتَبْطَأَ نَبِيُّ اللهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَوْعِدَ هَلَاكِهِمْ وَقَالَ: أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ هَذَا.
فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟!!
فَوَاللَّهِ! مَا كَانَ بَيْنَ إِهْلَاكِ أَعْدَاءِ اللهِ وَنَجَاةِ نَبِيِّهِ وَأَوْلِيَائِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السَّحَرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا بِدِيَارِهِمْ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ أُصُولِهَا، وَرُفِعَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نِبَاحَ الْكِلَابِ وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ، فَبَرَزَ الْمَرْسُومُ الَّذِي لَا يُرَدُّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ جِبْرَائِيلَ بِأَنْ يَقْلِبَهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}.
فَجَعَلَهُمْ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ شَارَكَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَجَعَلَ دِيَارَهُمْ بِطَرِيقِ السَّالِكِينَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَهُمْ نَائِمُونَ، وَجَاءَهُمْ بَأْسُهُ وَهُمْ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَقُلِبَتْ تِلْكَ اللَّذَّاتُ آلَامًا فَأَصْبَحُوا بِهَا يُعَذَّبُونَ.
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا = عَذْبًا فَصَارَتْ فِي الْمَمَاتِ عَذَابَا
ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ، وَأَعْقَبَتِ الْحَسَرَاتُ، وَانْقَضَتِ الشَّهَوَاتُ، وَأَوْرَثَتِ الشِّقْوَاتُ، تَمَتَّعُوا قَلِيلًا، وَعُذِّبُوا طَوِيلًا، رَتَعُوا مَرْتَعًا وَخِيمًا فَأَعْقَبَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، أَسْكَرَتْهُمْ خَمْرَةُ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ فَمَا اسْتَقَامُوا مِنْهَا إِلَّا فِي دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَرْقَدَتْهُمْ تِلْكَ الْغَفْلَةُ فَمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْهَا إِلَّا وَهُمْ فِي مَنَازِلِ الْهَالِكِينَ، فَنَدِمُوا -وَاللهِ- أَشَدَّ النَّدَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَبَكَوْا عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ بَدَلَ الدُّمُوعِ بِالدَّمِ، فَلَوْ رَأَيْتَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَالنَّارُ تَخْرُجُ مِنْ مَنَافِذِ وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الْجَحِيمِ، وَهُمْ يَشْرَبُونَ بَدَلَ لَذِيذِ الشَّرَابِ كُؤُوسَ الْحَمِيمِ، وَيُقَالُ لَهُمْ وَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وَلَقَدْ قَرَّبَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- مَسَافَةَ الْعَذَابِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ مُخَوِّفًا لَهُمْ بِأَعْظَمِ الْوَعِيدِ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَا حُكْمُ مَنْ يَفْعَلُ اللِّوَاطَ؟
فَقَالَ: ((حُكْمُهُ الْقَتْلُ، كَذَلِكَ الْمَفْعُولُ بِهِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَلَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ كَانَ مُطَاوِعًا، أَمَّا مَنْ كَانَ مُكْرَهًا مَجْبُورًا فَالْقَتْلُ عَلَى مَنْ أَجْبَرَهُ؛ فَالْقَتْلُ عَلَى مَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ عَنِ اخْتِيَارٍ؛ سَوَاءٌ مُحْصَنٌ أَوْ غَيْرُ مُحْصَنٍ، فَفِي هَذَا لَيْسَ كَالزِّنَى؛ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنَ الزِّنَى، فَاللِّوَاطُ شَرٌّ مِنَ الزِّنَى؛ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْفَاعِلُ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِكْرًا إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، وَهَكَذَا الْمَفْعُولُ بِهِ.
سُئِلَ: وَالْبَهِيمَةُ؟
قَالَ: الْبَهِيمَةُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُقْتَلُ؛ لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ هِيَ الَّتِي فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَاعَةً لِلْفَاحِشَةِ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ)).
وَقَالَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الصَّوَابُ مِنَ الْأَقْوَالِ -فِي حَدِّ اللِّوَاطِ-: أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَمْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ شُرُوطِ الْحَدِّ.
فَإِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ الْعَامَّةُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا:
أَوَّلًا: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ)).
ثَانِيًا: أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لَكِنِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُحْرَقُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((بَلْ يُنْظَرُ إِلَى أَعْلَى مَكَانٍ فِي الْبَلَدِ، وَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ))؛ لِأَنَّ اللهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَوْمِ لُوطٍ، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَظَرٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بَلْ يُرْجَمُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
أَمَّا الدَّلِيلُ النَّظَرِيُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ؛ فَلِأَنَّ هَذَا مَفْسَدَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَجْعَلُ الرِّجَالَ مَحَلَّ النِّسَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ دَائِمًا، فَلَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا -مَثَلًا- مَعَ فَتًى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ لَهُ: اتْرُكِ الْفَتَى، مَا الَّذِي أَتَى بِكَ إِلَيْهِ؟! لَكِنْ لَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ، وَشَكَكْنَا هَلْ هُوَ مِنْ مَحَارِمِهَا أَمْ لَا؛ يُمْكِنُ أَنْ نَسْأَلَ وَنَبْحَثَ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَمْرًا فَظِيعًا مُفْسِدًا لِلْمُجْتَمَعِ، وَأَمْرًا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ؛ صَارَ جَزَاؤُهُ الْقَتْلَ بِكُلِّ حَالٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هَلْ نَحْرِقُهُمْ، أَوْ نَرْمِيهِمْ مِنْ أَعْلَى الشَّاهِقِ، أَوْ نَرْجُمُهُمْ رَجْمًا؟
أَقُولُ: الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مَا هُوَ أَنْكَى وَأَرْدَعُ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ يُحَرَّقُونَ بِأَنْ يُجْمَعَ الْحَطَبُ أَمَامَ النَّاسِ، ثُمَّ يَأْتِيَ بِهِمْ وَيُرْمَوْا فِي النَّارِ؛ فَعَلَ.
وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يَنْظُرُ أَطْوَلَ مَنَارَةٍ فِي الْبَلَدِ، وَيُلْقَوْنَ مِنْهَا، وَيُتْبَعُونَ بِالْحِجَارَةِ، وَأَنَّ هَذَا أَنْكَى وَأَرْدَعُ؛ فَعَلَ.
وَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ يُرْجَمُونَ، فَيُقَامُونَ أَمَامَ النَّاسِ، وَيَرْجُمُهُمُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ بِالْحِجَارَةِ؛ فَعَلَ.
فَالْمُهِمُّ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ أَنْكَى وَأَرْدَعُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- فَاحِشَةٌ قَبِيحَةٌ جِدًّا، وَإِذَا تُرِكَ الْحَبْلُ عَلَى الْغَارِبِ انْتَشَرَتْ بِسُرْعَةٍ فِي النَّاسِ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ.
فَيَا نَاكِحَ الذُّكْرَانِ يَهْنِيكُمُ الْبُشْرَى = فَيَوْمُ مَعَادِ النَّاسِ إِنَّ لَكُمْ أَجْرَا
كُلُوا وَاشْرَبُوا وَازْنُو وَلُوطُوا وَأَبْشِرُوا = فَإِنَّ لَكُمْ زَفًّا إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمْرَا
فَإِخْوَانُكُمْ قَدْ مَهَّدُوا الدَّارَ قَبْلَكُمْ = وَقَالُوا إِلَيْنَا عَجِّلُوا لَكُمُ الْبُشْرَى
وَهَا نَحْنُ أَسْلَافٌ لَكُمْ فِي انْتِظَارِكُمْ = سَيَجْمَعُنَا الْجَبَّارُ فِي نَارِهِ الْكُبْرَى
وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ الَّذِينَ نَكَحْتُمُوا = يَغِيبُونَ عَنْكُمْ بَلْ تَرَوْنَهُمْ جَهْرَا
وَيَلْعَنُ كُلًّا مِنْهُمْ لِخَلِيلِهِ = وَيَشْقَى بِهِ الْمَحْزُونُ فِي الْكَرَّةِ الْأُخْرَى
يُعَذَّبُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِشَرِيكِهِ = كَمَا اشْتَرَكَا فِي لَذَّةٍ تُوجِبُ الْوِزْرَا
وَمِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْجَرَائِمِ الْخُلُقِيَّةِ: السُّحَاقُ، وَالسُّحَاقُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَشَدِّ الْكَبَائِرِ وَمِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاع الِانْحِرَافِ وَالشُّذُوذِ الْجِنْسِيِّ، أَوِ الْمُمَارَسَاتِ الْجِنْسِيَّةِ الْمِثْلِيَّةِ الْخَاطِئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ السَّوِيَّةِ.
الْمُسَاحَقَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ حَرَامٌ؛ بَلْ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِكَوْنِهَا عَمَلًا يُخَالِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5-7].
السُّحَاقُ: هُوَ جِمَاعُ الْأُنْثَى لِلْأُنْثَى بِصِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ؛ فَالْمَرْأَةُ تَحْتَكُّ بِالْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَتُنْزِلُ، وَرُبَّمَا تَسْتَعْمِلُ شَيْئًا كَالْآلَةِ وَتَسْتَمْتِعُ!!
وَيُوجَدُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَتَعَلَّقُ رَغْبَتُهَا بِالشَّابَّاتِ، كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الرِّجَالِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- مَنْ تَتَعَلَّقُ رَغْبَتُهُمْ بِالشَّبَابِ.
الزِّنَى فَاحِشَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَالسُّحَاقُ كَذَلِكَ.
وَالسُّحَاقُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ زِنًى؛ وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لِكِلْتَا الْمَرْأَتَيْنِ.
وَالتَّعْزِيرُ: هُوَ التَّأْدِيبُ.
التَّأْدِيبُ يَمْنَعُ الْمُؤَدَّبَ مِنَ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِاخْتِلَافِ الزَّمَنِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ نُعَزِّرُهُ بِالتَّوْبِيخِ أَمَامَ قَوْمِهِ، وَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ عَكْسَ ذَلِكَ؛ يَهُونُ عَلَيْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ؛ وَلَكِنْ مَالُهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ تَأْدِيبُهُ بِفَصْلِهِ عَنِ الْوَظِيفَةِ، أَوْ بِتَوْقِيفِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
((الشُّذُوذُ الْجِنْسِيُّ وَحَضَارَةُ الْغَرْبِ الْعَفِنَةُ!!))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمِثْلِيَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَتَرَفَّعُ عَنْهَا الْكِلَابُ، بَلْ تَتَرَفَّعُ عَنْهَا الْخَنَازِيرُ، وَتَسْتَمِيتُ الْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَالدِّفَاعِ عَنْهَا، وَمُحَارَبَةِ مَنْ يُقَاوِمُهَا وَلَوْ بِإِبْدَاءِ رَأْيِهِ!!
لَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْضُ إِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَافَرُوا إِلَى أَمِرِيكَا قَدِيمًا لِبَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى حِسَابِ الْجَامِعَةِ -وَكَانَ يَدْرُسُ فِي قِسْمِ اللُّغَةِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ بِهَا- قَالَ: كُنَّا فِي الْحَافِلَةِ فِي شَارِعٍ فَسِيحٍ، فَرَأَيْنَا مَبْنَيَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، لِكُلِّ مِنْهُمَا دَرَجٌ كَثِيرٌ، وَالْمَبْنَيَانِ عَظِيمَانِ فِي عِمَارَتِهِمَا، وَمَا رَاعَنَا إِلَّا وَرَجُلٌ فِي ثِيَابِ الْعُرْسِ -رِيدِنْجُوت، كَذَلِكَ يَقُولُونَهَا- فِي حُلَّةِ الْعُرْسِ -مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهُمْ-، وَكَذَلِكَ فِي يَدِهِ رَجُلٌ فيِ ثِيَابِ الْعُرْسِ النِّسَائِيَّةِ، وَفِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ رَجُلٌ فِي ثِيَابِ الْعُرْسِ الرِّجَالِيَّةِ، وَبِجِوَارِهِ رَجُلٌ فِي ثِيَابِ الْعُرْسِ النِّسَائِيَّةِ!!
قَالَ: فَجَاءَ فِي خَاطِرِنَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَيَكُونُ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا سَيَكُونُ لِتِلْكَ، سَيَحْدُثُ تَبَادُلُ فِي الْمَوَاقِعِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ، هَؤُلَاءِ يَنْزِلُونَ، وَهُؤَلَاءِ يَنْزِلُونَ، وَكَانُوا نَازِلِينَ جَمِيعًا مِنْ كَنِيسَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ.
فَلَمَّا سَأَلُوا الْمُرْشِدَ السِّيَاحِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدَثِ قَالَ: لَا، وَقَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا يَهْجِسُ فِي مَخِيلَتِهِمْ؛ يَعْنِي سَيَلْتَقُونَ -مَثَلًا- كِبِدْعَةٍ مِنَ الْبِدَعِ عِنْدَهُمْ- فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا لِهَذَا، وَهَذَا لِهَذَا، رَجُلٌ فِي ثِيَابِ عُرْسٍ نِسَائِيٍّةٌ.
فَالْمُهِمُّ عِنْدَمَا نَزَلُوا فِي الطَّرِيقِ قَالَ: لَا، هَذَانِ عَرُوسَانِ، وَهَذَانِ عَرُوسَانِ، هَذَا تَزَوَّجَ هَذَا، وَهَذَا تَزَوَّجَ هَذَا، رِجَالٌ يَتَزَوَّجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالنِّسَاءُ -أَيْضًا- تَتَزَوَّجُ الْوَاحِدَةُ مِثْلَهَا!!
الْكِلَابُ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا، هَذِهِ حَضَارَةٌ؟!!
هَذَا عَفَنٌ وَقَذَرٌ وَانْحِطَاطٌ!!
هَذَا خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي يَتَشَدَّقُونَ بِهَا، أَيُّ إِنْسَانِيَّةٍ؟!!
عِبَادَ اللهِ! إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي أَلَّا نَتَوَرَّطَ فِي الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ نُضَيِّقَ عَلَى الْفَوَاحِشِ حَتَّى لَا تَقَعَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ أَتَى بِالْإِجْرَاءَاتِ الَّتِي تَقِي مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ.
((مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مُوَاجَهَةَ الْفَسَادِ تُعَدُّ مَسْؤُولِيَّةً دِينِيَّةً وَوَطَنِيَّةً وَمُجْتَمَعِيَّةً؛ فَالْمَسْؤُولِيَّةُ الدِّينِيَّةُ تَنْطَلِقُ مِنْ إِصْلَاحِ الْعَقَائِدِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى تَقْوَى اللهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
(({وَهُوَ مَعَكُمْ}: هَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ وَوَعَدَ عَلَى الْمُجَازَاةِ بِالْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ: هُوَ -تَعَالَى- بَصِيرٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَا صَدَرَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مِنْ بِرٍّ وَفُجُورٍ فَمُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، وَحَافِظُهَا عَلَيْكُمْ)).
وَيَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
((إِنَّ اللهَ مُرَاقِبٌ لِجَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ)).
كَمَا تُوجِبُ هَذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةُ غَرْسَ قِيَمِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقِيَمِ الْفَاضِلَةِ فِي النُّفُوسِ؛ فَالْمُؤْمِنُ الْحَقِيقِيُّ مُصْلِحٌ لَا مُفْسِدٌ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].
((أَنَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ أَهْلَ التَّقْوَى الْمُؤْمِنِينَ كَأَصْحَابِ الْفُجُورِ الْكَافِرِينَ؟ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ غَيْرُ لَائِقَةٌ بِحِكْمَةِ اللهِ وَحُكْمِهِ، فَلَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ، بَلْ يُثِيبُ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَتْقِيَاءَ، وَيُعَاقِبُ الْمُفْسِدِينَ الْأَشْقِيَاءَ)).
أَمَّا الْمَسْؤُولِيَّةُ الْوَطَنِيَّةُ فَتَقْتَضِي تَعْزِيزَ قِيَمِ الْوَلَاءِ وَالِانْتِمَاءِ لِهَذَا الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَزِيزِ، وَتَعْمِيقَ الشُّعُورِ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ الْمَالِ الْعَامِّ وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَنَشْرَ ثَقَافَةِ النَّزَاهَةِ وَالشَّفَافِيَةِ عَلَى نِطَاقٍ مُجْتَمَعِيٍّ وَاسِعٍ، وَالْأَخْذَ عَلَى أَيْدِي الْمُفْسِدِينَ وَالْمُخَرِّبِينَ؛ فَقَدْ تَوَعَّدَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمُفْسِدِينَ بِأَشَدِّ أَلْوَانِ الْعِقَابِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ، وَيُبَارِزُونَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى أَحْكَامِهِ وَعَلَى أَحْكَامِ رَسُولِهِ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِقَتْلِ الْأَنْفُسِ، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ؛ أَنْ يُقَتَّلُوا، أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ -وَالصَّلْبُ: أَنْ يُشَدَّ الْجَانِي عَلَى خَشَبَةٍ- أَوْ تُقْطَعُ يَدُ الْمُحَارِبِ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، أَوْ يُنْفَوْا إِلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَيُحْبَسُوا فِي سِجْنِ ذَلِكَ الْبَلَدِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ. وَهَذَا الْجَزَاءُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُحَارِبِينَ هُوَ ذُلٌّ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا)).
إِنَّ الْمَسْؤُولِيَّةَ الْمُجْتَمَعِيَّةَ تَقْتَضِي تَعْزِيزَ الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ الرَّافِضَةِ لِلْفَسَادِ بِكُلِّ صُوَرِهِ؛ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدَعِ، وَالْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي، وَالْقَتْلِ، وَالْعُقُوقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَقْتَضِي تَحْقِيقَ الرَّقَابَةِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الْوَاعِيَةِ لِخُطُورَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ تَفْعِيلِ دَوْرِ الْمُؤَسَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ، وَالْإِعْلَامِيَّةِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].
((يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا وُجِدَ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَنْهَوْنَ عَمَّا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ {إِلَّا قَلِيلًا} أَيْ: قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الضَّرْبِ قَلِيلٌ، لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ عِنْدَ حُلُولِ غِيَرِهِ، وَفَجْأَةِ نِقَمِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- هَذِهِ الْأُمَّةَ الشَّرِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 104].
وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ))؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أَيْ: اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِنْكَارِ أُولَئِكَ حَتَّى فَجَأَهُمُ الْعَذَابُ {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}.
ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهِيَ ظَالِمَةٌ لِنَفْسِهَا، وَلَمْ يَأْتِ قَرْيَةً مُصْلِحَةً بَأْسُهُ وَعَذَابُهُ قَطُّ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [ هُودٍ: 101]، وَقَالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46])).
كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يَتَطَلَّبُ عَدَمَ التَّسَتُّرِ عَلَى أَيِّ مُفْسِدٍ، وَالتَّعَاوَنَ مَعَ الْأَجْهِزَةِ الْمُخْتَصَّةِ فِي كَشْفِ كَافَّةِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ؛ حَتَّى يَعُمَّ الِاسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؟! فَإِنْ يَتَرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْزُقَنَا الطَّهَارَةَ وَالْعَفَافَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الرَّذَائِلَ وَالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
اللهم حَصِّنْ فُرُوجَنَا وَفُرُوجَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا.
اللهم آمِنْ رَوْعَاتِنَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:
مُوَاجَهَةُ الْفَسَادِ.. مَسْؤُولِيَّةٌ دِينِيَّةٌ وَوَطَنِيَّةٌ وَمُجْتَمَعِيَّةٌ