((التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سِيرَةُ النَّبِيِّ ﷺ كَامِلَةٌ شَامِلَةٌ))
فَإِنَّ مِنْ أَصْدَقِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُ الْيَوْمَ فِي أَذْهَانِ عَارِفِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلُ فِي أَعْيُنِ مُشَاهِدِيهِ.
مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ ﷺ أَنَّهُ الْيَوْمَ فِي أَذْهَانِ عَارِفِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلُ فِي أَعْيُنِ مُشَاهِدِيهِ.
إِذَا مَا تَصَفَّحْتَ كُتُبَ الشَّمَائِلِ وَنَظَرْتَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ وَالْحَدِيثِ؛ تَأَمَّلْتَ فِي نَقْلِ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- لِوَصْفِ الرَّسُولِ ﷺ فِي أُمُورِهَا جَمِيعِهَا؛ فَتَجِدُ أَبْوَابًا عَلَى هَذِهِ الشَّاكِلَةِ: فِي كُحْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَفِي تَرَجُّلِهِ، وَفِي دُهْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَطِيبِهِ، وَفِي لُبْسِ الرَّسُولِ ﷺ وَلَوْنِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَفِي نَوْمِ الرَّسُولِ ﷺ وَفِي صَحْوِهِ، وَفِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، وَفِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، وَفِي أَخْذِهِ وَعَطَائِهِ، وَفِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَفِي مَشْيِهِ وَعَدْوِهِ، وَفِي سَيْرِهِ وَرُكُوبِهِ، وَفِي كَلَامِهِ وَفِي صَمْتِهِ، وَفِي مَدْخَلِهِ وَفِي مَخْرَجِهِ، بَلْ وَفِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ ﷺ.
لَيْسَ لِابْنِ أُنْثَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ تَارِيخٌ مَحْفُوظٌ فِيهِ دَقَائِقُ حَيَاتِهِ بِجُمْلَتِهَا، لَا يَغِيبُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَتَخَلَّفُ مِنْهَا أَمْرٌ.. لَيْسَ لِابْنِ أُنْثَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا.. لَيْسَ لِابْنِ أُنْثَى تَارِيخٌ مَحْفُوظٌ لَا يَخْفَى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا مُحَمَّدٌ ﷺ.
فَقَدْ كَانَ هُنَاكَ سَبْعُونَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قَدْ وَكَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي إِحْصَاءِ كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ؛ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، نَصَبَ نَفْسَهُ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ كَامِلَاتٍ يَتْبَعُ الرَّسُولَ ﷺ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُلَازِمُهُ مُلَازَمَةَ الظِّلِّ، لَا يُفَارِقُهُ، يَحْمِلُ عَنْهُ، وَيَتَأَمَّلُ فِي حَالَاتِهِ كُلِّهَا، ثُمَّ يَنْقُلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْأُمَّةِ مِنْ بَعْدُ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِلْمَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ.
لَا تَجِدُ أَحَدًا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرٍ عَامٍّ، وَيَأْتِي بِدِينٍ عَظِيمٍ هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. لَا تَجِدُ أَحَدًا هَذِهِ هَيْئَتُهُ وَتِلْكَ صِفَتُهُ هُوَ أَحْرَصُ مَا يَكُونُ عَلَى أَنْ يُبَلِّغُوا عَنْهُ كُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، بَلْ إِنَّهُ ﷺ فِي بَيْتِهِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَبِالْخَارِجِ بَيْنَ أَصْدِقَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَهَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُلَاحِظُونَ وَيُقَيِّدُونَ، وَيَتَحَدَّثُونَ وَيَنْقُلُونَ، وَكُلُّهُ كَمَالٌ فِي كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ، وَلَا شَائِبَةَ تَعْلَقُ بِجَنَابِهِ الْعَظِيمِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ وَصَفِيِّكَ وَنَجِيِّكَ وَخَلِيلِكَ ﷺ.
النَّاسُ فِيهِمْ مِنَ النَّقْصِ بِحَسَبِهِمْ، فَمَهْمَا تَجَمَّلَ الْإِنْسَانُ لِلنَّاسِ خَارِجًا، لَا بُدَّ أَنْ يَبْدُوَ عُوَارُهُ لِأَهْلِهِ دَاخِلًا.
وَالْإِنْسَانُ مَهْمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ خَصْلَةٍ تَسُوءُ لَا بُدَّ أَنْ تَبْدُوَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ عَلَى صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ مَهْمَا جَاهَدَ مِنْ أَجْلِ إِخْفَائِهَا، وَمَهْمَا حَاوَلَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْمِسَهَا فِي عُيُونِ الْمُلَاحِظِينَ، لَا يَكُونُ!! إِلَّا مُحَمَّدًا..
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ سَرِيرَةٍ = وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
إِلَّا مُحَمَّدًا ﷺ..
هُوَ الْيَوْمَ فِي أَذْهَانِ عَارِفِيهِ كَمَا كَانَ تَمَامًا فِي أَعْيُنِ مُشَاهِدِيهِ، تُنْقَلُ الصُّورَةُ كَامِلَةً؛ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، دَاخِلًا وَخَارِجًا، قَائِمًا وَقَاعِدًا، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فِي صَحْوِهِ وَمَنَامِهِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ هَذَا خَافِيَةٌ، وَلَا تَغِيبُ عَنِ النَّاسِ فِي هَذَا غَائِبَةٌ، الْكُلُّ مَكْشُوفٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ مِثَالًا مَحْسُوسًا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ عَلَى الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ فِي سُمُوِّهِ، وَعَلَى الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُلُوِّهِ؛ فَكَانَ الْمِثَالُ مُحَمَّدًا ﷺ.
((حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَعْيُنِ أَتْبَاعِهِ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ تَبْكِي فِيهِ الْبَاكِيَةُ الْقِيَمَ.. الْمُثُلَ.. الْأَخْلَاقَ.. تَبْكِي فِيهِ الْبَاكِيَةُ قِيَمًا وَمُثُلًا وَأَخْلَاقًا، وَحَاضِنَتُهُ وَأُمُّهُ مِنْ بَعْدِ أُمِّهِ أُمُّ أَيْمَنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَزُورَانِهَا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ ﷺ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهَا وَكَانَا عِنْدَهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: ((مَا يُبْكِيكِ يَا أُمَّ أَيْمَنَ؟! أَوَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هُوَ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ﷺ؟!)).
فَقَالَتْ: ((أَمَا إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هُوَ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي انْقِطَاعَ وَحْيِ السَّمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ)) .
تَبْكِي قِيَمًا قَدْ تَأَصَّلَتْ فَذَهَبَ رَسْمُهَا الظَّاهِرُ وَالْمُتَكَلِّمُ بِاسْمِهَا عَلَنًا، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ تَأَصَّلَتْ وَتَجَذَّرَتْ.. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ ثَبَتَتْ وَرَسَتْ.. وَأَمَّا هِيَ فَتَزُولُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ وَلَا تَزُولُ، وَتَتَحَوَّلُ النُّجُومُ عَمَّا تَجْرِي فِيهِ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ظِلُّهُ مِنْ عَيْنَيْهَا قَدْ فُقِدَ، فَتَقُولُ: ((إِنَّمَا أَبْكِي انْقِطَاعَ وَحْيِ السَّمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ))، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
فِي أُحُدٍ؛ قَدْ أُصِيبَ فِيمَنْ أُصِيبَ وَقُتِلَ شَهِيدًا فَذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ حَمِيدًا مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَخَرَجَ النَّاسُ يَسْتَقْبِلُونَ الطَّلَائِعَ لَا انْكِسَارَ فِيهَا وَلَا عِوَجَ وَلَا أَمْتَ، امْرَأَةٌ فِي الْمَعْرَكَةِ أُبُوهَا وَأَخُوهَا وَزَوْجُهَا، فَكُلَّمَا لَقِيَهَا لَاقٍ قَالَ: يَا أَمَةَ اللهِ! احْتَسِبِي عِنْدَ اللهِ أَخَاكِ! تَسْتَرْجِعُ ثُمَّ تَقُولُ: مَا فَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ؟!
فَيَقُولُ قَائِلٌ: احْتَسِبِي عِنْدَ اللهِ أَبَاكِ! فَتَقُولُ: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا فَعَلَ الرَّسُولُ؟!
احْتَسِبِي عِنْدَ اللهِ زَوْجَكِ! إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَكِنْ مَا فَعَلَ الرَّسُولُ؟!
يَقُولُونَ: هُوَ بِحَمْدِ اللهِ سَالِمٌ.
تَقُولُ: ((الْحَمْدُ لِلهِ، كُلُّ خَطْبٍ دُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ جَلَلٌ)) .
وَ(جَلَلٌ) مِنْ أَلْفَاظِ الْأَضْدَادِ؛ عَظِيمٌ وَقَلِيلٌ فِي آنٍ عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَأَمَّا هَاهُنَا: فَكُلُّ خَطْبٍ دُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ جَلَلٌ؛ لَا شَيْءَ، ذَهَبَ أَبٌ وَأَخٌ وَزَوْجٌ بَعْلٌ مُقَارِبٌ مُقَارَبٌ حَبِيبٌ إِلَى الْقَلْبِ، عَزِيزٌ عَلَى النَّفْسِ، لَائِطٌ بِالْكَبِدِ، وَلَكِنْ أَأُصِيبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَمْ لَمْ يُصَبْ؟!
هُوَ بِحَمْدِ اللهِ سَالِمٌ غَانِمٌ قَافِلٌ آتٍ ﷺ.
تَقُولُ: كُلُّ خَطْبٍ دُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ جَلَلٌ؛ قَلِيلٌ لَا قِيمَةَ لَهُ.
((صِدْقُ وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهِ))
النَّبِيُّ ﷺ صَاحِبُ السِّيرَةِ الْكَامِلَةِ، لَا يَخْفَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْدَاءَ -أَعْدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ- هُمْ أَوَائِلُ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي كَلَامِهِ وَإِنْ جَحَدُوا وَكَذَّبُوا مَنْهَجَهُ.
وَهَذَا إِمَامُهُمُ الْأَكْبَرُ وَرَئِيسُهُمُ الْأَعْظَمُ أَبُو جَهْلٍ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ، وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ! {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
أَنْتَ عِنْدَنَا صَادِقٌ، وَلَكِنَّنَا نَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!!
قَدِيمًا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِزَالَتُهَا = إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ
وَعَدَاوَةُ هَؤُلَاءِ كَانَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ عَنْ حَسَدٍ، فَلَا تُرْجَى إِزَالَتُهَا بِحَالٍ أَبَدًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لِلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ -وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ-: يَا خَالُ -يَقُولُ لِأَبِي جَهْلٍ- مُحَمَّدٌ أَكُنْتُمْ تَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟!! فَقَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذَا رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِمَا جَاءَ بِهِ -يَعْنِي مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْحَقِّ، وَالْخَيْرِ، وَالنُّورِ، وَالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ- كُنَّا نَدْعُوهُ -نُلَقِّبُهُ- بِالصِّادِقِ الْأَمِينِ.
((وَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ!!)) .
لَا يَسْتَقِيمُ!!
إِذَنْ؛ هُوَ عِنْدَكَ صَادِقٌ، هُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ، أَنْتَ عِنْدِي صَادِقٌ، وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!
قَالُوا فِيهِ مَا قَالُوا؛ سَاحِرٌ.. كَاهِنٌ.. مَجْنُونٌ.. قَالُوا فِيهِ ﷺ مَا قَالُوا، وَلَكِنْ.. أَخْلَاقُهُ حِمًى مَصُونٌ لَا يَسْتَطِيعُ لِسَانٌ أَنْ يَلَغَ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ -أَبَدًا- مَهْمَا بَلَغَ بِهِ الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ أَنْ يَقُولَ فِي النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا يَمَسُّ الْأَخْلَاقَ بِحَالٍ.
يَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ فِي رَائِعَةِ الضُّحَى وَاسْتِوَائِهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ظُهْرًا لَا وُجُودَ لَهَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَشِعَّةَ لَهَا تَبْدُو فِي الْأَجْوَاءِ!! يَقُولُ هَذَا فَيُقْبَلُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي أَخْلَاقِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا ﷺ.
فَلِمَ إِذَنْ تُكَذِّبُهُ؟!!
وَلِمَ لَا تَتَّبِعُهُ؟!!
فَانْظُرْ إِلَى الْعِلَّةِ الْعَلِيلَةِ وَالْجَهَالَةِ الْجَهْلَاءِ الْمَرِيضَةِ.. انْظُرْ إِلَى الْعِلَّةِ الْعَلِيلَةِ وَالْجَهَالَةِ الْجَهْلَاءِ الْمُظْلِمَةِ فِي الْبَاعِثِ عَلَى جَحْدِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِ، يَقُولُ: نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ -قَوْمُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَرَهْطُهُ- كُنَّا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِمَا جَاءَ بِهِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ فِي حَلْبَةٍ نَتَسَابَقُ؛ أَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، وَأَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَسَقَوْا فَسَقَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَسَاوَيْنَا عَلَى الرَّكْضِ، وَتَحَازَتِ الرُّكَبُ -يَعني إِذَا مَا كُنَّا مُتَسَاوِينَ، إِذَا مَا قَدْ أَصْبَحْنَا مُتَقَارِبِينَ، لَا سَابِقَ وَلَا مَسْبُوقَ-، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَأَنَّى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!!
هُوَ يَقُولُ لِابْنِ أُخْتِهِ فِي كَلَامٍ يُقْرَأُ مِنْ بَيْنِ سُطُورِ مَا قَالَ: إِنَّ خَالَكَ -يَا أَخْنَسُ- لَا يَصْلُحُ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَكَارِمِ!!
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ = شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
إِنَّ خَالَكَ يَا أَخْنَسُ -يَقُولُهَا مُتَلَفِّعَةً بِظَلْمَاءِ حَدِيثِهِ وَبِغَيَابَةِ كَلَامِهِ، يَقُولُهَا بَيْنَ سُطُورِ مَقَالَتِهِ لِابْنِ أُخْتِهِ- يَقُولُ لَهُ: فَأَنَّى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!! إِنْ قُلْنَا لِلنَّاسِ إِنَّ خَالَكَ قَدْ أَصْبَحَ نَبِيًّا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَنَكُونَنَّ ضُحْكَةَ النَّاسِ الدَّهْرَ كُلَّهُ، وَلَأَصْبَحْنَا هُزْأَةً!! فَنَحْنُ لَا يَرْكَبُ عَلَى تَكْوِينِنَا وَلَا هِيَ عَلَى قَدِّنَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْمَكَارِمِ الَّتِي قَدْ فَاقَتِ السُّحُبَ وَتَجَاوَزَتْ أَجْوَاءَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى.
هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، هَذَا مُهَيَّأٌ مُنْذُ وِلَادَتِهِ ﷺ، هَذَا مُهَيَّأٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلَابِ يَنْحَدِرُ مِنْ صُلْبٍ طَاهِرٍ إِلَى رَحِمٍ مِنَ الرِّجْسِ مُبَرَّأٍ حَتَّى ظَهَرَ لِلْوُجُودِ نَبِيًّا وَرَسُولًا ﷺ.
يَقُولُ: وَأَمَّا أَنَا.. وَأَمَّا خَالُكَ؛ فَمَنْ يَكُونُ؟!! لَا يُصَدِّقُنَا النَّاسُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ.
وَإِذَنْ؛ فَمَا الْحَلُّ؟!!
إِذَنِ الْحَلُّ أَنْ نُعَادِيَهُ، وَالْحَلُّ أَنْ نَكُونَ فِي الْخَنْدَقِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، وَأَنْ نَحْمِلَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُشَوِّهَ دَعْوَتَهُ، وَأَنْ نُحَارِبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ﷺ.
الرَّسُولُ ﷺ هُوَ الْوَحِيدُ فِي الْعَالَمِ الَّذِي تُحْفَظُ أَحْوَالُهُ مُنْذُ كَانَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقَبْلَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَحِيدُ ﷺ الَّذِي سُرِدَتْ دَقَائِقُ أَحْوَالِهِ، وَالَّذِي أَتَى بِالصِّدْقِ كُلِّهِ وَبِالْحَقِّ جَمِيعِهِ، فَلَمْ يُخْفَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَهُوَ ﷺ صَاحِبُ الْخُلُقِ السَّجِيحِ، هُوَ ﷺ الرِّفْقُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ يَحْسُنُ فِيهِ الرِّفْقُ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ لَا يَحْسُنُ فِيهِ إِلَّا الْإِقْدَامُ، هُوَ ﷺ يَلْبَسُ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا، وَيَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَقَالِهِ، وَهُوَ ﷺ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ = لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ. ﷺ
تَخْرُجُ لَا أَقُولُ مِنَ الْجِهَازِ الصَّوْتِيِّ؛ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ -أَحْيَانًا، بَلْ فِي جُمْلَةِ الْأَحْيَانِ، بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينِ- لَغْوًا مِنَ اللَّغْوِ، وَكَلَامًا بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ كَلِمَةٌ تَسْتَفِزُّ فِيهَا الرُّوحُ اللِّسَانَ فَتَنْطِقُ مُسْتَأْذِنَةً الْهَوَاءَ كُلَّهُ وَالْمَخَارِجَ وَالْمَقَاطِعَ جَمِيعَهَا؛ لِكَيْ تَنْطِقَ الرُّوحُ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ قَائِلَةً: ((وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ بِوَجْهِ كَذَّابٍ)) .
يَقُولُهَا الرَّجُلُ الْأَعْرَابِيُّ وَقَدْ حُمِّلَ بِمَا حُمِّلَ مِنَ الدِّعَايَةِ الْمُضَادَّةِ ضِدَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. سَتَلْقَى كَذَّابًا فَلَا تَسْمَعْ مِنْهُ وَحَذَارِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ السِّحْرُ!!
يَضَعُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كُرْسُفًا -أَيْ: قُطْنًا- فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى يَحْمِيَ قَلْبَهُ مِنْ أَنْ يَنْحَدِرَ إِلَيْهِ لَفْظٌ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ، ثُمَّ تَأْتِي الْإِفَاقَةُ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا طُفَيْلُ! مَا هَذَا السَّفَهُ؟!! أَنْتَ رَجُلٌ شَاعِرٌ تُمَيِّزُ طَبَقَاتِ الْكَلَامِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَنْفِيَ الدَّخِيلَ وَأَنْ تَمْحُوَ الزَّيْفَ، فَلْتَسْمَعْ مِنْهُ!
وَالرَّجُلُ عِنْدَمَا يَكُونُ شَاعِرَ النَّفْسِ.. عِنْدَمَا يَكُونُ شَاعِرَ الْقَلْبِ.. عِنْدَمَا يَكُونُ مُتَوَثِّبَ الرُّوحِ يَكُونُ مُنْصِفًا، لَا يَكُونُ جَاسِيَ اللَّفْظِ، وَلَا يَكُونُ عُتُلًّا غَلِيظَ الْمَنْطِقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ -كَمَا رَأَيْتَ- مَاءً رَقْرَاقًا نَمِيرًا كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ عَلَى الْأَرْضِ بِغَيْرِ شُطْئَانٍ.
يَقُولُ: يَا طُفَيْلُ! هَذَا -وَاللهِ- السَّفَهُ، فَلْتَسْمَعْ مِنْهُ!
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِرَّ الْحَقُّ فِي قَلْبِهِ، فَيَنْطَلِقَ الْحَقُّ -بَعْدُ- عَلَى لِسَانِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.
مِنْهَا تَفِرُّ؟!!
هَيْهَاتَ! أَيْنَ يَمْضِي هَارِبٌ مِنْ دَمِهِ؟!! .
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!
مِنْهَا تَفِرُّ؟!!
أَيْنَ يَمْضِي هَارِبٌ مِنْ دَمِهِ؟!!
مِنْهَا تَفِرُّ.. وَهَلْ يَمْلِكُ النَّهْرُ تَغْيِيرًا لِمَجْرَاهُ؟!!
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ.
النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَبِّهِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَاتٍ فِي مَوَاضِعَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا -وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَقِفُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ بَدْءِ السَّعْيِ فِي شَوْطِهِ الْأَوَّلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ، دَاعِيًا، مُتَأَمِّلًا، مُسْتَرْجِعًا لِلْآمَالِ الْقَدِيمَةِ الْبَعِيدَةِ لِلْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الشَّامِخِ الْعَظِيمِ الَّذِي وُلِدَ جَبَلًا، وَوُلِدَ رَمْزًا وَلَمْ يُولَدْ قِزْمًا، لَمْ يُولَدْ قِزْمًا وَلَا قَزْمًا، وَلَمْ يُولَدْ ضَئِيلًا وَلَا صَغِيرًا، يَكْبُرُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا وُلِدَ شَامِخًا.
هُوَ يَقِفُ عَلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ: ((وَاصَبَاحَاهُ!)).
فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا، مَاذَا هُنَالِكَ؟!!
يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ؛ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!)).
يَقُولُونُ -وَلَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا عَبَدَةَ الْبَيَانِ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ أُحْصِيَ مِنْهُمْ جُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ اجْتَرَئُوا عَلَى أَصْنَامِهِمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَلَمْ يُحْصَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَجْتَرِئُ عَلَى لُغَتِهِ بِالسَّبِّ وَالتَّنْقِيصِ وَالشَّتْمِ أَبَدًا، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَنَالُ لُغَتَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَسُوءُ لُغَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُفِظَ عَنْهُمْ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ مَقُولَاتِهِمْ فِي سَبِّ أَصْنَامِهِمْ إِلَّا اللُّغَةَ، هِيَ حِمًى مَحْمِيٌّ، وَهِيَ قَلْعَةٌ شَامِخَةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ لَا يَنَالُهُ شَتْمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ شَنَارٌ، وَلَا يَنْزِلُ بِسَاحَتِهِ عَارٌ.
انْظُرْ مَاذَا قَالُوا؟!!
يَقُولُ ﷺ: ((لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ وَرَاءَكُمْ بِالْوَادِي عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكُمْ -فَالْأَمْرُ جِدٌّ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، الْأَمْرٌ جِدٌّ، أَنْ تَكُونَ أَوْ لَا تَكُونَ، فَمَا الْحَلُّ إِذَنْ- أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟))؛ أَمْ تُرِيدُونَ بُرْهَانًا.. أَمْ تُرِيدُونَ دَلَائِلَ وَيَقِينًا؟!!
أَنْتَ أَنْتَ هُوَ الْيَقِينُ، وَكَلَامُكَ هُوَ الصِّدْقُ وَلَا مَزِيدَ، وَلِذَلِكَ رَدُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا)).
لَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ نُصَدِّقُكَ! وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّكَ عِنْدَنَا صَادِقٌ! لَا؛ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِدَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَبِبَيِّنَةٍ قَاهِرَةٍ دَاحِضَةٍ فِي آنٍ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْطِقَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ؛ فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!!)).
أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ، بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ.
قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.. بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).
فَمَاذَا قَالُوا؟!!
أُبْلِسُوا، وَأَمَّا النَّاطِقُ الرَّسْمِيُّ أَشْقَاهَا يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِكَيْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.. عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ النَّاطِقَ الرَّسْمِيَّ بِاسْمِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ يَقُولُ: ((تَبًّا لَكَ -يَعْنِي: هَلَاكًا لَكَ مِنْ بَعْدِ هَلَاكٍ- أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!!)).
وَيَنْزِلُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؛ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ، الْأُولَى دُعَاءٌ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ عَنْهُ؛ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ.
فَالرَّسُولُ ﷺ أَتَى بِدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فِيهِ، فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى بَاطِنِهِ، وَمَنْطِقُهُ يَدُلُّ عَلَى جَوْهَرِهِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
((النَّبِيُّ ﷺ الْمِثَالُ الْكَامِلُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ))
لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَلَا عَجَبَ -إِذَنْ- أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
أَقُولُ لَكُمْ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ- إِنَّهُ مَا وَقَعَتْ النَّفْسُ فِي كُرْبَةٍ، وَلَا ضَاقَتْ بِالْهَمِّ يَوْمًا، وَلَا نَاءَتْ بِالْغَمِّ دَهْرًا إِلَّا وَفَزِعَتْ -كَأَنَّمَا غُرِزَ فِيهَا ذَلِكَ غَرِيزَةً، وَأُوعِبَ فِيهَا إِيعَابًا، وَرُكِزَ فِيهَا طَبْعًا- إِلَّا فَزِعَتْ إِلَى سِيرَتِهِ ﷺ.
يَحْمِلُ الْهَمَّ شَرِيفًا، يَبْسُطُ الْكَفَّ نَظِيفًا، يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الطَّاهِرَ هُوَ هَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَبَادِئِ الْعَظِيمَةِ الطَّاهِرَةِ.
لَا غَرْوَ؛ لَقَدْ أَدَّبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَرَبَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَكْمَلَ تَرْبِيَتَهُ، وَأَعْطَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ.
الرَّسُولُ ﷺ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.. النَّبِيُّ ﷺ يُحْصَى عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ تُصَادَمُ الدُّنْيَا كُلُّ الدُّنْيَا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَمِنْ ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ سِيرَتُهُ، وَبَاطِنُ أَحْوَالِهِ، وَدَقَائِقُ أَفْعَالِهِ، وَخَفِيُّ أَقْوَالِهِ، تُصَادَمُ الدُّنْيَا بِهَذَا كُلِّهِ مُتَحَدًّى بِمَا جَاءَ بِهِ، وَفِي ضِمْنِ مَا جَاءَ بِهِ مُتَحَدًّى بِهِ سِيرَتُهُ وَحَرَكَةُ حَيَاتِهِ، فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى نَقْصٍ يَعْتَوِرُ الصُّورَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الظِّلَالِ هَاهُنَا أَوْ هُنَاكَ؟!!
حَاشَا وَكَلَّا.
النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
تَلْتَمِسُ مَا تَلْتَمِسُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ؛ تَجِدُ الْعَجَبَ الْعَاجِبَ، تَجِدُ الْحَصَى فِي الْكَفِّ مُسَبِّحًا -فِي كَفِّهِ الشَّرِيفِ-، وَتَجِدُ الْجِذْعَ يَحِنُّ إِلَيْهِ حَنِينًا وَيَئِنُّ عِنْدَ الْفِصَالِ عَنْهُ أَنِينًا، وَيَنْزِلُ ﷺ بِمَحْضَرٍ -بِمَشْهَدٍ وَمَرْأًى وَمَسْمَعٍ- عَنْ مِنْبَرِهِ؛ لِيُهَدْهِدَ -كَالْأُمِّ الرَّءُومِ عَلَى رَأْسِ طِفْلِهَا- عَلَى الْجِذْعِ، وَهُوَ أَعْجَمُ لَا يُبِينُ، وَهُوَ مِنَ الْجَمَادِ وَإِلَى الْجَمَادِ قَدْ صَارَ، يُهَدْهِدُ عَلَيْهِ، فَمَا يَزَالُ يَخْفُتُ صَوْتَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَيَنْقَطِعَ، وَعِنْدَئِذٍ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَفْعَلْ لَظَلَّ يَحِنُّ إِلَيَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) .
وَلَكَانَ الدَّاخِلُ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى أَوَانِ الْإِذْنِ بِخَرَابِ الدُّنْيَا.. لَكَانَ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ يَسْمَعُ حَنِينَ الْجِذْعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
تَلْتَمِسُ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ، وَتَرَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ الْعَظِيمَاتِ السَّامِقَاتِ عَلَى يَدَيْ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ ﷺ، تَجِدُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَدٍّ وَلَا حَصْرٍ، وَلَكِنْ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَمَثَّلَتْ قَلْبًا يَنْبِضُ، وَرُوحًا يَرِفُّ، وَنَفْسًا تُحِسُّ، وَجَسَدًا عَلَى الْأَرْضِ يَتَحَرَّكُ، هَذَا وَرَبِّي هُوَ الْإِعْجَازُ الْأَكْبَرُ، هَذَا وَرَبِّي هُوَ مَا تَحَوَّلَ فِي الْجَسَدِ الطَّاهِرِ وَفِي الرُّوحِ الشَّرِيفِ وَفِي الْقَلْبِ الْمُبَارَكِ وَفِي النَّفْسِ الْعَفِيفَةِ.
هَذَا وَرَبِّي هُوَ الَّذِي تَحَوَّلَ مِنْ قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى حَرَكَةٍ يَتَحَرَّكُ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) .
((حُسْنُ الْخُلُقِ مَنْهَجٌ عَمَلِيٌّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ ))
لَقَدْ حَوَّلَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ تَعَالِيمَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِلَى وَاقِعٍ مَلْمُوسٍ؛ فَتَقُولُ فِيهِ عَائِشَةُ لِتَصِفَ خُلُقَهُ عِنْدَمَا قِيلَ: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
تَقُولُ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ﷺ )) .
الَّذِي يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى غَايَتِهِ عَلَى حَسَبِ تَخَلُّفِهِ بِأَخْذِهِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ.
الْإِسْلَامُ قِيَمٌ وَمُثُلٌ وَأَخْلَاقٌ وَمَبَادِئُ عِظَامٌ فِي السَّمَاءِ، بَلْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُحْيِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوَاتَ الْأَنْفُسِ.
النَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِهَذَا كُلِّهِ، وَكُلُّ دَاعٍ إِلَى هَذَا كُلِّهِ بِجُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ يَقَعُ دُونَ الْغَايَةِ عَلَى حَسَبِ تَخَلُّفِهِ عَنِ الْأَخْذِ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَمِنْ مَبَادِئِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ جَاءَ بِالْمَنْهَجِ وَهُوَ فِي عَيْنِ الْوَقْتِ هُوَ الْمَنْهَجُ ﷺ.
وَلِذَا تَعْجَبُ الْعَجَبَ كُلَّهُ عِنْدَمَا تَتَأَمَّلُ فِي مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْكُبْرَى وَفِي آيَتِهِ الْعُظْمَى.. فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى الدَّهْرِ، هُوَ الْآيَةُ الْخَالِدَةُ عَلَى وَجْهِ الزَّمَانِ، لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تُحَرَّفُ، وَلَا تُشَوَّهُ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا وَلَا يُزَادُ فِيهَا.
تَعْجَبُ! كُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ يَأْتِي بِمَنْهَجٍ يَدْعُو إِلَيْهِ وَمُعْجِزَةٍ تَقُومُ بُرْهَانًا عَلَى مَنْهَجِهِ إِلَّا مُحَمَّدًا يَأْتِي بِمَنْهَجٍ هُوَ عَيْنُ الْمُعْجِزَةِ وَبِمُعْجِزَةٍ هِيَ عَيْنُ الْمَنْهَجِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ ﷺ.
مُعْجِزَتُهُ الْكُبْرَى مَنْهَجُهُ، وَمَنْهَجُهُ الْأَعْظَمُ مُعْجِزَتُهُ الْكُبْرَى، مَنْهَجٌ فِي مُعْجِزَةٍ، وَمُعْجِزَةٌ فِي مَنْهَجٍ، وَالرَّسُولُ قَائِمٌ بِالْمُعْجِزَةِ وَالْمَنْهَجِ فِي شَخْصِهِ وَذَاتِهِ فِي آنٍ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.
((جُمْلَةٌ مِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ))
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3-4].
((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ، غَيْرَ مَقْطُوعٍ، بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، وَذَلِكَ لِمَا أَسْلَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ أَيْ: عَلِيًّا بِهِ، مُسْتَعْلِيًا بِخُلُقِكَ الَّذِي مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ بِهِ.
وَحَاصِلُ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ مَا فَسَّرَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِمَنْ سَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) .
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- لَهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} الْآيَةَ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْآيَاتِ الْحَاثَّاتِ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ؛ فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا.
فَكَانَ ﷺ سَهْلًا لَيِّنًا، قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْهُ أَمْرًا وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ.
وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ دُونَهُمْ، بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ.
وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا لَهُ إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةً وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ عَلَيْهِ فِي مَقَالِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشْرَهُ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ ﷺ )) .
*وَهَذِهِ بَعْضُ جَوَانِبِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهَا، وَنَجْعَلَ مِنْ هَذَا التَّأْسِّي وَاقِعًا عَمَلِيًّا فِي حَيَاتِنَا؛ وَمِنْهَا:
*أَمَانَةُ النَّبِيِّ ﷺ:
إِنَّ الْأَمَانَةَ وَصْفُ الْمُرْسَلِينَ، هِيَ أَبْرَزُ أَخْلَاقِ الرُّسُلِ.. نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ؛ فِي (سُورَةِ الشُّعَرَاءِ) يُخْبِرُنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18].
وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ كَانَ فِي قَوْمِهِ -قَبْلَ الرِّسَالَةِ.. قَبْلَ أَنْ يُنَبَّأَ.. قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ, وَبَعْدَ ذَلِكَ- كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ، كَانَ النَّاسُ يَخْتَارُونَهُ لِحِفْظِ وَدَائِعِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَمَّا هَاجَرَ وَكَّلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى أَصْحَابِهَا.
يَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِهِ وَإِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْهِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَيُكَذِّبُونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَيَأْتَمِنُونَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَمِينُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْأَمَانَاتُ كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَر اللهُ عِبَادَهَ بِأَدَائِهَا؛ أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ؛ وَالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا؛ فَوَجَبَ ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى أَهْلِهَا} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ وَتُؤَدَّى لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَلَوْ دَفَعَهَا لِغَيْرِ صَاحِبِهَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لَهَا)).
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: ٢٧].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨].
وَقَالَ ﷺ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
هَذَا دِينُ اللهِ، دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ لَا غَدْرَ فِيهِ وَلَا خِيَانَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مُطْلَقٌ, وَحَقٌ كَامِلٌ, وَأَمَانَةٌ شَامِلَةٌ.
أَدُّوا الْأَمَانَةَ!
لَا تَخُونُوا اللهَ!
لَا تَخُونُوا الرَّسُولَ!
لَا تَخُونُوا الْبَلَدَ الْإِسْلَامِيَّ الَّذِي أَظَلَّتْكُمْ سَمَاؤُهُ, وَأَقَلَّتْكُمْ أَرْضُهُ, وَرَوَاكُمْ مَاؤُهُ, وَاسْتَنْشَقْتُمْ هَوَاءَهُ, اتَّقُوا اللهَ فِيهِ, لَا تَخُونُوهُ, أَدُّوا الْأَمَانَةَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ.
*جُودُهُ وَكَرَمُهُ ﷺ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ».
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَفِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.
تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قِيلَ: الشَّمْلَةُ.
وَقِيلَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا.
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْسُنِيهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ». وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.
ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ, فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ -أَيْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ، أَقْبَلُوا- عَلَيْهِ لَائِمِينَ.
وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ ﷺ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا.. قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ -يَعْنِي مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-!!
وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا ﷺ عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.. فَكَانَتْ!
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ, كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ.
فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.
فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَهُ.
إِذَنْ؛ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَأَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَحْسَنَ النَّاسِ, وَأَجْمَلَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ﷺ.
وَلِمَكَانَةِ هَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ أَمَرَ بِهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ», يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَمِينُهُ مَلْأَى، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» .
نَعَمْ! لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَشَيْءٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ هُوَ الْجَوَادُ؛ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».
فَاللهُ هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.
*النَّبِيُّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالِاعْتِدَالَ؛ فَمِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الِاعْتِدَالُ وَالتَّوَازُنُ، وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].
قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)) .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ؛ مِنْ قَوَاعِدِهَا:
*رَفْعُ الْحَرَجِ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالِاعْتِدَالُ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ قَاصِرًا عَلَى الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ شَمِلَ جَمِيعَ مَنَاحِي الْحَيَاةِ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ.. مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ)).
وَالْمُسْلِمُ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ, وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الْأَكْلِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ, وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ, وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ, وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .
الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.
فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.
*وَمِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ، وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ: الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ مَعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ شُئُونِهِمْ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيمَا شَرَعَ، إِنَّ اللهَ نِعْمَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا لِأَقْوَالِكُمْ، بَصِيرًا بِأَفْعَالِكُمْ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}؛ أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عَدْلَ عِنْدَهُ وَلَا قِسْطَ، بَلْ كَمَا تَشْهَدُونَ لِوَلِيِّكُمْ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِ, وَكَمَا تَشْهَدُونَ عَلَى عَدُوِّكُمْ فَاشْهَدُوا لَهُ, وَلَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَدْلُ فِيهِ, وَقَبُولُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا لِأَنَّهُ قَالَهُ، وَلَا يُرَدُّ الْحَقُّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ, فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْحَقِّ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ.. فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَالَّذِي عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَحَدُهُمَا عَرَفَ الْحَقَّ وَخَالَفَهُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَأَحَدُهُمَا قَضَى بِهَوَاهُ؛ قَضَى بِجَهْلِهِ! فَهَذَانِ فِي النَّارِ)).
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).
قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟
قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ فَأَقْضِي لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ: حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ؛ وَمِمَّا دَلَّ عَلَيهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ:
((حُسْنُ الْجِوَارِ؛ يَعْنِي الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ يَسْكُنُ بِجِوَارِكَ بِبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَكَفِّ الْأَذَى.
وَالْجِيرَانُ هُمُ الْأَقَارِبُ فِي الْمَنْزِلِ، وَأَدْنَاهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]؛ فَأَوصَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ الْقَرِيبِ وَالْجَارِ الْبَعِيدِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَالَ ﷺ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)). كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- .
وَقَالَ ﷺ: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)).
قِيلَ: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَالْجَارُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا قَرِيبًا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا جَارًا فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا غَيْرَ قَرِيبٍ وَهُوَ جَارٌ فَلَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَإِنْ كَانَ جَارًا كَافِرًا بَعِيدًا فَلَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ: حَقُّ الْجِوَارِ.
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ الْيَومَ يُسِيئُونَ إِلَى الْجَارِ أَكْثَرَ مِمَّا يُسِيئُونَ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَجِدُهُ يَعْتَدِي عَلَى جَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ مُلْكِهِ وَإِزْعَاجِهِ.
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ النَّبَوِيَّةِ النَّبِيلَةِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ؛ وَهُوَ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ، وَشَرْعًا: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى هُوَ بِرِعَايَةِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ.
فَمَا يُصِيبُ الْيَتِيمَ مِنَ انْكِسَارِ الْقَلْبِ بِفَقْدِ الْأَبِ، فَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ، وَالْإِحْسَانُ إَلَى الْيَتَامَى يَكُونُ -أَيضًا- بِحَسَبِ الْحَالِ.
وَالْمَسَاكِينُ جَمْعُ مِسْكِينٍ؛ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى ابْنِ السَّبِيلِ؛ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ الَّذِي نَفِدَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ ضَاعَتْ أَو سُرِقَتْ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقُوقًا خَاصَّةً فِي الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْكَنَهُمْ وَأَضْعَفَهُمْ وَكَسَرَ قُلُوبَهُمْ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ جَبْرًا لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّقْصِ وَالِانْكِسَارِ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَسَاكِينِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى طَعَامٍ فَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِأَنْ تُطْعِمَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى كُسْوَةٍ فَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ بِأَنْ تَكْسُوَهُ، وَإِلَى اعْتِبَارِهِ بِأَنْ تُولِيهِ اعْتِبَارًا، فَإِذَا دَخَلَ الْمَجْلِسَ تُرَحِّبُ بِهِ وَتُقَدِّمُهُ لِأَجْلِ أَنْ تَرْفَعَ مِنْ شَأْنِهِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا النَّقْصِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ بِحِكْمَتِهِ، أَمَرَنَا -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ -وَهُوَ الْمُسَافِرُ-، وَهُوَ هَاهُنَا الْمُسَافِرُ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ السَّفَرُ أَو لَمْ يَنْقَطِعْ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ غَيرَ مُسْتَوحِشٍ، فَإِنَّكَ إِذَا آنَسْتَ مَنِ انْقَطَعَ بِهِ سَبَبُهُ فِي سَفَرِهِ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَهَذَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الشَّرْعُ.
فَإِذَا نَزَلَ ابْنُ السَّبِيلِ بِكَ ضَيْفًا فَمِنْ إِكْرَامِهِ أَنْ تُكْرِمَ ضِيَافَتَهُ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِكْرَامُهُ بِضِيَافَتِهِ إِلَّا فِي الْقُرَى دُونَ الْأَمْصَارِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ كَضِيقِ الْبَيْتِ مَثَلًا أَوْ أَسْبَابٌ أُخْرَى تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُضَيِّفَ هَذَا الرَّجُلَ، لَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَنْبَغِي إِذَا تَعَذَّرَ أَنْ تُحْسِنَ الرَّدَّ.
وَكَذَلِكَ الرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ، وَالرِّفْقُ ضِدُّ الْعُنْفِ، وَالرِّفْقُ لِينُ الْجَانِبِ، وَالْمَمْلُوكُ يَشْمَلُ الْآدَمِيَّ وَالْبَهِيمَ.
فَالرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ الْآدَمِيِّ أَنْ تُطْعِمَهُ إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهُ إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تُكَلِّفَهُ مَا لَا يُطِيقُ.
وَالرِّفْقُ بِالْمَمْلُوكِ مِنَ الْبَهَائِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُرْكَبُ أَوْ تُحْلَبُ أَوْ تُقْتَنَى يَخْتَلِفُ -أَيِ الرِّفْقُ- بِحَسَبِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ فَفِي الشِّتَاءِ تُجْعَلُ فِي الْأَمَاكِنِ الدَّافِئَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَحَمَّلُ الْبَرْدَ، وَفِي الصَّيفِ فِي الْأَمَاكِنِ الْبَارِدَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَحَمَّلُ الْحَرَّ، وَيُؤْتَى لَهَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا بِالرَّعْيِ، وَإِذَا كَانَتْ مِمَّا تَحْمِلُ فَلَا تُحَمَّلُ مَا لَا تُطِيقُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ حَتَّى الْبَهَائِمَ.
*وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا: النَّهْيُ عَنِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
الْفَخْرُ بِالْقَوْلِ، وَالْخُيَلَاءُ بِالْفِعْلِ، وَالْبَغْيُ: الْعُدْوَانُ، وَالِاسْتِطَالَةُ: التَّرَفُّعُ وَالِاسْتِعْلَاءُ.
فَيَنْهَى الشَّرْعُ عَنِ الْفَخْرِ؛ أَنْ يَتَفَاخَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ، فَيَقُولَ: ((أَنَا الْعَالِمُ، أَنَا الْغَنِيُّ، أَنَا الشُّجَاعُ))، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَطِيلَ عَلَى الْآخَرِينَ وَيَقُولَ: ((مَاذَا أَنْتُمْ عِنْدِي؟))، فَيَكُونُ هَذَا فِيهِ بَغْيٌ وَاسْتِطَالَةٌ عَلَى الْخَلْقِ.
وَالْخُيَلَاءُ تَكُونَ بِالْأَفْعَالِ؛ يَتَخَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ، وَفِي وَجْهِهِ، وَفِي رَفْعِ رَأْسِهِ وَرَقَبَتِهِ إِذَا مَشَى، كَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَبَّخَ مَنْ هَذَا فِعْلُهُ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
((كُنْ مُتَوَاضِعًا فِي الْقَولِ وَالْفِعْلِ)).
فِي الْقَولِ: لَا تُثْنِ عَلَى نَفْسِكَ بِصِفَاتِكَ الْحَمِيدَةِ، إِلَّا حَيْثُ دَعَتِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ)). كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَقَصَدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: حَثُّ النَّاسِ عَلَى تَعَلُّمِ كِتَابِ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَالثَّانِي: دَعْوَتُهُمْ لِلتَّلَقِّي عَنْهُ.
وَالْإِنْسَانُ ذُو الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لَا يَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ تَخْفَى عَلَيْهِمْ خِصَالُهُ أَبَدًا، سَوَاءٌ ذَكَرَهَا لِلنَّاسِ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهَا، بَلْ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَارَ يُعَدِّدُ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةَ أَمَامَ النَّاسِ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، فَاحْذَرْ هَذَا الْأَمْرَ وَاجْتَنِبْهُ.
وَالْبَغْيُ هُوَ الْعُدْوَانُ عَلَى الْغَيْرِ، وَمَوَاقِعُهُ ثَلَاثَةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) .
فَالْبَغْيُ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ؛ فِي الْأَمْوَالِ: كَأَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ أَو يُنْكِرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَو يَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَهُ، فَهَذَا بَغْيٌ عَلَى الْأَمْوَالِ. وَفِي الدِّمَاءِ: الْقَتْلُ فَمَا دُونَهُ، يَعْتَدِي عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ. وَفِي الْأَعْرَاضِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَعْرَاضُ؛ يَعْنِي: السُّمْعَةَ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ بِالْغِيبَةِ الَّتِي يُشَوِّهُ بِهَا سُمْعَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الزِّنَا وَمَا دُونَهُ، وَالْكُلُّ مُحَرَّمٌ.
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، وَ-كَذَلِكَ- الِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ؛ يَعْنِي الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
فَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْخَلْقِ يَنْهَى عَنْهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالِاسْتِعْلَاءُ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى غَيْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ إِذَا مَنَّ عَلَيْكَ بِفَضْلٍ عَلَى غَيْرِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ سِيَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَزْدَادَ تَوَاضُعًا حَتَّى تُضِيفَ إِلَى الْحُسْنِ حُسْنًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الرِّفْعَةِ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ حَقِيقَةً، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَطِيلَ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ - يَعْنِي حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ الْحَقُّ فِي بَيَانِ أَنَّهُ عَالٍ مُرْتَفِعٌ - فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّرَفُّعِ.
الِاسْتِطَالَةُ بِحَقٍّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الِاسْتِطَالَةِ حَقًّا؛ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَدَى عَلَيْهِ إِنْسَانٌ فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ أَكْثَرَ.
فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَنْهَوْنَ عَنْ الِاسْتِطَالَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْخَلْقِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ؛ أَيْ مَا كَانَ عَالِيًا مِنْهَا، كَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَنْهَى أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَنْ سَفْسَافِهَا -أَيْ رَدِيئِهَا-؛ كَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ.
كُلُّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَو يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذِهِ حَالٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لَهَا؛ وَهُوَ أَنَّنَا كُلُّ مَا نَقُولُهُ وَكُلُّ مَا نَفْعَلُهُ نَشْعُرُ حَالَ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَنَّنَا نَتَّبِعُ فِيهِ الرَّسُولَ ﷺ مَعَ الْإِخْلَاصِ لِلهِ لِتَكُونَ أَقْوَالُنَا وَأَفْعَالُنَا كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِهَذَا يُقَالُ: ((إِنَّ عِبَادَاتِ الْغَافِلِينَ عَادَاتٌ، وَعَادَاتِ الْمُنْتَبِهِينَ عِبَادَاتٌ))، فَالْإِنْسَانُ الْمُوَفَّقُ يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ الْعَادَاتِ إِلَى عِبَادَاتٍ، وَالْإِنْسَانُ الْغَافِلُ يَجْعَلُ عِبَادَاتِهِ عَادَاتٍ.
فَلْيَحْرِصِ الْمُؤْمِنُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا تَبَعًا لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، لِيَنَالَ بِذَلِكَ الْأَجْرَ وَيَحْصُلَ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
((اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ))
قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى وَصْفِ هَيْئَتِهِ ﷺ فَجَمَالٌ مَا بَعْدَهُ جَمَالٌ, وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى أَخْلَاقِهِ وَخِلَالِهِ فَكَمَالٌ مَا بَعْدَهُ كَمَالٌ, وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا -وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ خُصُوصًا- فَوَفَاءٌ مَا بَعْدَهُ وَفَاءٌ.
وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- :
وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي = وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
وَرَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ الْقُدْوَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ, حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الَّذِينَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْمُنْصِفِينَ يَتَّخِذُونَهُ قُدْوَةً لَهُمْ, وَيُعْجَبُونَ بِشَخْصِيَّتِهِ؛ فَقَدْ وَضَعَ الْأَمْرِيكِيُّ (مَايْكِل هَارْت) فِي كِتَابِهِ ((الْعُظَمَاءُ الْمِائَةُ فِي التَّارِيخِ)) مُحَمَّدًا ﷺ الْأَوَّلَ فِي أَهَمِّ وَأَعْظَمِ رِجَالِ التَّارِيخِ.
إِنَّ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ مُقْتَضَى الشَّهَادَةِ بِأَنَّ ((مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)), وَلَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا؛ إِذْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا: ((طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ, وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ, وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ, وَأَلَّا يُعْبَدُ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ)) .
وَهَذَا تَمَامُ الْمَحَبَّةِ, وَكَمَالُ التَّعْظِيمِ, وَغَايَةُ التَّوْقِيرِ, وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَوْ مَحَبَّةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَدَى مَنْ شَكَّ فِي خَبَرِهِ، أَوِ اسْتَنْكَفَ عَنْ طَاعَتِهِ، أَوِ ارْتَكَبَ مُخَالَفَتَهُ، أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِهِ وَعَبَدَ اللهَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ؟!!
وَلِذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى مَنْ سَلَكُوا فِي الْعِبَادَةِ سَبِيلًا لَمْ يَشْرَعْهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى: 21].
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
((رَدٌّ))؛ أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
فَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالتَّعْظِيمُ عِبَادَةً؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ.
وَيَتَحَقَّقُ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقَلْبِ؛ بِتَقْدِيمِ مَحَبَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ, وَالْوَالِدِ, وَالْوَلَدِ, وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تَوْقِيرَ وَلَا تَعْظِيمَ بِلَا مَحَبَّةٍ, وَإِنَّمَا يَزْرَعُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ, وَالْإِحَاطَةُ بِشَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهِ ﷺ.
وَإِذَا اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ فِي الْقَلْبِ كَانَ لَهَا لَوَازِمُ, هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا مَظَاهِرُ لِلتَّعْظِيمِ وَدَلَائِلُ عَلَيْهِ تَظْهَرُ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.
وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآيَةَ الَّتِي قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((إِنَّهَا آيَةُ الْمِحْنَةِ، أَوْ آيَةُ الِاخْتِبَارِ)) ؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا؛ مِنْ أَجْلِ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ آل عمران: 31] .
اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ.. أَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا؛ أَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّمْثِيلِ وَلَا التَّعْطِيلِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّجْسِيمِ وَلَا بِالتَّشْبِيهِ، أَلَّا يَأْتِيَ بِالْغُلُوِّ، وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالْجَفَاءِ، أَلَّا يَكُونَ خَارِجِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُرْجِئِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُئَوِّلًا وَلَا مُشَبِّهًا وَلَا مُجَسِّمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ آتِيًا بِالْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
يَعْرِفُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيُطِيعُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ آخِذًا بِأَسْبَابِهِ، فَلَا يَكُونُ جَبْرِيًّا يَتَوَاكَلُ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا قُدِّرَ! وَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي!!
وَلَا يَكُونُ قَدَرِيًّا؛ فَيَجْعَلُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ نَافِذَةً وَلَا مَشِيئَةَ لِرَبِّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرُ أَهْلُ السُّنَّةِ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ، فِيمَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَسْمَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.
فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْقَوْلِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُتَابِعًا، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.. يَنْبَغِي أَنْ تُتَابِعَ النَّبِيَّ ﷺ بَدْءًا فِي عَقِيدَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ أُرْسِلَ بِهَذَا الْأَمْرِ كَمَا أُرْسِلَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ لِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ!
وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَوْلِهِ!
وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي فِعْلِهِ!
وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ وَفِي سُلُوكِهِ ﷺ؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.
((ثَمَرَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ))
عِبَادَ اللهِ! الرَّسُولُ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ النَّظِيرَ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّظِيرِ، وَعَلَى أَنَّ الشَّبِيهَ يَلْتَصِقُ مَعَ الشَّبِيهِ، وَأَنَّ الطُّيُورَ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُلْحِقُ الْمُمَاثِلَ بِالْمُمَاثِلِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَجْمَعُ الْمُنَاظِرَ مَعَ الْمُنَاظِرِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْمَلْحَظِ الَّذِي يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْدَاءُ الدِّينِ يَغْفُلُونُ عَنْ هَذَا الْمَلْحَظِ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، فَيَقُولُ: ((إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) .
لِأَنَّ النَّظِيرَ يَجْتَمِعُ إِلَى النَّظِيرِ، وَلِأَنَّ الْمُمَاثِلَ يُضَمُّ إِلَى الْمُمَاثِلِ، وَحَقِيقٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لَا مُمَاثِلَ لَهُ، وَلَكِنَّمَا هُوَ الْأُسْوَةُ، فَهُنَاكَ وَجْهُ شَبَهٍ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ ضَعِيفًا.. مَهْمَا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ ضَعِيفًا فَهُنَاكَ وَجْهُ شَبَهٍ وَلَوْ كَانَ آثَارًا لَا تَرَاهَا الْأَعْيُنُ وَلَا تُدْرِكُهَا الْحَوَاسُّ.
وَإِذَنْ.. النَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، وَفِي عَظِيمِ رَكَائِزِ رِسَالَتِهِ، يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْسِينِ أَخْلَاقِهِمْ حَتَّى لَا يَبْعُدُوا عَنْهُ ﷺ عَلَى قَدْرِ بُعْدِهِمْ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَكَرِيمِ الْأَفْعَالِ، وَعَظِيمِ الشِّيَاتِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مُسْتَوَى الْخُلُقِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ؛ حَتَّى يَكُونُوا قَرِيبِينَ مِنْهُ ﷺ.
((وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ)).
الْمُتَفَيْهِقُونَ يَمْلَأُ الْوَاحِدُ بِاللَّفْظِ بِالْحَرْفِ مَا بَيْنَ شِدْقَيْهِ كَالطَّبْلِ الْأَجْوَفِ، ثُمَّ لَا رَصِيدَ هُنَالِكَ لِلْعُمْلَةِ الزَّائِفَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَهِيَ لَا تُسَاوِي الْحِبْرَ الَّذِي كُتِبَتْ بِهِ، وَلَا تُسَاوِي الْوَرَقَ الَّذِي قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ، لَا تُسَاوِي شَيْئًا، بَلْ إِنَّهَا سُبَّةٌ لِمَنْ يَحُوزُهَا وَتُهْمَةٌ لِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي آنٍ؛ لِأَنَّهَا لَا رَصِيدَ لَهَا هُنَالِكَ، وَكَذَلِكَ الْأَخْلَاقُ الزَّائِفَةُ لَا رَصِيدَ لَهَا هُنَالِكَ فِي الْخُلُقِ الْحَسَنِ.
((هَلْ عَرَفْنَا النَّبِيَّ ﷺ حَقًّا وَاتَّبَعْنَاهُ صِدْقًا؟!!))
لَقَد أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ وَطَاعَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ, وَهِيَ كَالْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَالتَّمَسُّكِ بِهِ وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ.
عِبَادَ اللهِ! لَقَدِ اصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْهُمْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؛ فَهُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ، لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ قَطُّ، مَا زَالَ يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَصْلَابِ النَّقِيَّةِ الطَّاهِرَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ النَّقِيَّةِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى وَضَعَتْهُ آمِنَةُ.
إِنَّ الْعَيْبَ عَلَى أَتْبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ لَمْ يُعَرِّفُوا الدُّنْيَا بِهِ؛ بِأَفْعَالِهِمْ، بِالْتِزَامِهِمْ، بِإِقَامَتِهِمْ لِسُنَّتِهِ، وَتَطْبِيقِهِمْ لِشَرِيعَتِهِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِنَهْجِهِ وَطَرِيقَتِهِ، وَدَلَالَةِ النَّاسِ عَلَى شِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَتَعْلِيمِ الْخَلْقِ جَمِيلَ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ.
لِأَنَّ الصُّورَةَ عِنْدَ الْغَرْبِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَعَنِ الرَّسُولِ الرَّشِيدِ وَعَمَّنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ صُورَةٌ سَلْبِيَّةٌ جِدًّا!!
أَضَلَّهُمْ مُفَكِّرُوهُمْ، وَقُسُوسُهُمْ، وَرُهْبَانُهُمْ، وَأَحْبَارُهُمْ، وَقَادَتُهُمْ، وَسَاسَتُهُمْ، وَمُتَعَصِّبُوهُمْ، وَصَدَّقَ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وِبِمُمَارَسَاتِهِمْ.
وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ.
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ سَفَاسِفَ الْأُمُورِ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ؛ فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى نَفْسِهِ مُفَتِّشًا فِيهَا: أَيْنَ أَنَا؟!! وَمَنْ أَنَا؟!! وَإِلَى أَيْنَ أَسِيرُ؟!!
عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَ نَفْسَكَ: مَنْ أَنْتَ؟!! مَنْ تَكُونُ؟!!
أَأَنْتَ عَبْدٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ؟!!
أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ مِنَ التَّعَالِيمِ عَلَى قَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ أَمْ هُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ وَالِاسْتِهَانَةُ؟!!
هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِمَّا كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْعَمَلِيِّ؛ فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخْلُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى مَا فَعَلَتْ، وَعَلَى مَا قَالَتْ، وَعَلَى مَا انْتَوَتْ، وَيُعَاقِبُ نَفْسَهُ؛ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ بِكَفِّهِ، وَكَانَ يَقُولُ: ((وَيْحَكَ يَا عُمَرُ! كُنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُدْعَى عُمَيْرًا فَصِرْتَ عُمَرَ، وَكُنْتَ تَرْعَى لِلْخَطَّابِ غَنَمَهُ فَصِرْتَ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ)) ؛ يَعْنِي يَرْعَى أُمَّةَ الرَّسُولِ ﷺ!!
يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَطْلَبِ رَبِّهِ.
عِنْدَمَا حَمَلُوهُ عَلَى بِرْذَوْنَ، فَهَمْلَجَ بِهِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، فَكُلَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَمْشِيَ مَشْيًا مُسْتَقِيمًا ازْدَادَ فِي عُجْبِهِ وَتَبَخْتُرِهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ: ((إِنَّمَا حَمَلْتُمُونِي عَلَى شَيْطَانٍ)) ، فَأَتَوْهُ بِدَابَّةٍ سَلِسَةٍ تَكُونُ طَوْعَ قِيادِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
إِنَّ مَسَارِبَ النَّفْسِ خَفِيَّةٌ جِدًّا، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكَامِنِ بَوَاعِثِ أَفْعَالِهَا وَنِيَّاتِهَا، فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَخْشَى هَذَا، وَأَنْ يَعُودَ عَبْدًا كَمَا خَلَقَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي رَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بِغْتَةً.
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْكُمْ بِالْعَمَلِ!
أَقِلُّوا مِنَ الْكَلَامِ -رَحِمَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، فَمَا الَّذِي أَدَّتْ إِلَيْهِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ؟!!
إِنَّمَا أَدَّتْ إِلَى الضَّيَاعِ.. إِلَى الشَّتَاتِ.. إِلَى الشُّرُورِ.. إِلَى الْحَيْرَةِ!!
كُونُوا كَأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ كُونُوا كَرَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَصْلٍ لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ، كَمَا قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ إِلَّا كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ طَاعَةَ اللهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ؛ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي لَعَلَّكُمْ تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ لَنْ يُحَقِّقَ الْقِيَادَةَ لِلْعَالَمِ -كَمَا كَانَ قَبْلُ- إِلَّا إِذَا عَادَ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي مَلَكَ زِمَامَ الْعَالِمِ فِي عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ، إِذَا تَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إِذَا كَانَ مُوَحِّدًا حَقًّا وَصِدْقًا.
فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ أَوَّلًا، وَلَا بُدَّ مِنَ السَّيْرِ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ بِاتِّبَاعِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِنَّ الْعِصْمَةَ فِي ذَلِكَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ