((مَنْزِلَةُ الرِّضَا))
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٢]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [ النِّسَاءِ: ١]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ:70 – 71 ]
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍﷺ, وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا, وَكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ, وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سُبُلُ النَّجَاةِ مِنَ الْفِتَنِ))
فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ نُبِّئَ وَلَا رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَّا وَحَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ.
وَالدَّجَّالُ أَعْظَمُ فِتْنَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ السَّاعَةَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَذِّرُ مِنْهُ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، فَيُصَعِّدُ فِيهِ وَيُصَوِّبُ، وَيُخَفِّضُ فِيهِ وَيُرَفِّعُ؛ حَتَّى قَالَ قَائِلُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ)).
وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ صِفَاتٍ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ ضَعِيفٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ.
فَفِيهِ مِنْ عَلَامَاتِ النَّقْصِ الْبَادِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حَوْلًا وَلَا حِيلَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ.
إِلَّا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَكَّنَهُ مِنْ أُمُورٍ، وَأَجْرَى عَلَى يَدَيْهِ أَشْيَاءَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَالْأَشْيَاءُ تَذْهَبُ بِلُبِّ الْحَلِيمِ.
وَفِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ عِبْرَةٌ غَيْرَ أَنَّا لَا نُرِيدُ الْيَوْمَ أَنْ نَسْتَفْصِلَهَا، وَلَا أَنْ نَخُوضَ فِي تَفَاصِيلِهَا، وَإِنَّمَا نَجْعَلُهَا مَدْخَلًا لِشَيْءٍ نُرِيدُهُ -بِحَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَقُوَّتِهِ-.
حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ مِنَ الْفِتَنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي مَتَى مَا أَخَذَ الْعَبْدُ بِهَا نَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْفِتَنِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.
وَفِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ يَغْتَرُّ أَقْوَامٌ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَرْءَ أَنْ يَأْتِيَ الدَّجَّالَ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي الدَّجَّالَ وَفِي حِسْبَانِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى فِتْنَتِهِ وَلَكِنَّهُ يُفْتَنُ بِهِ.
فَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ إِلَيْهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا أَلَّا يَكُونَ لَهُمْ غِشْيَانٌ لِلْفِتَنِ، بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَفِرَّ مِنَ الْفِتَنِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ الْأُسُودِ وَالْأَسَاوِدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلِأَنَّ الَّذِي يُثَبِّتُ الْقَلْبَ وَيُزِيغُهُ هُوَ اللهُ -وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَفِرَّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّهُ يُوشِكَ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ بِدِينِهِ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ.. يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي عَصْرِهِ تَتَنَزَّلُ خِلَالَ بُيُوتِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَتَنَزَّلُ الْقَطْرُ.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَفِرَّ مِنَ الْفِتَنِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَأَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَعَقْلَهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ -وَالْهَادِي إِلَى الْحَقِّ هُوَ اللهُ-.
فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ عَلَى أَمْرَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّى بِهَا الْمُسْلِمُ مِنَ الْفِتَنِ؛ وَأَوَّلُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْعِبَادَةُ، وَالثَّانِي الْعِلْمُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مُكْثَ الدَّجَّالِ فِي الْأَرْضِ سَيَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَأُسْبُوعٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ.
قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ تَكْفِي فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اُقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)).
فَإِذَا أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ وَالْمِحَنِ عَصَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَوَقَّى قَلْبَهُ مِنْهَا وَضَمِيرَهُ.
وَشَيْءٌ آخَرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الدَّجَّالُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ تَزِلُّ بِهَا الْأَقْدَامُ عَنِ الْمِنْهَاجِ، وَتَضِلُّ بِهَا الْأَفْهَامُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَوَاطِنِ الْحِلْمِ وَالرَّشَادِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الرَّجُلَ، ثُمَّ يُحْيِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَدَّعِي هُوَ أَنَّهُ أَحْيَاهُ، وَهَذَا شَيْءٌ عَظِيمٌ.
أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الَّذِي تَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ الْمَأْثُورِ، فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَجَاتَهُ مِنَ الْفِتْنَةِ الْمَاحِقَةِ وَالْمِحْنَةِ الْوَاصِلَةِ فِي كَلِمَةِ ((حَدَّثَنَا))؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، فَيَقُولُ: ((أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَذَّرَنَا مِنْهُ الرَّسُولُ ﷺ ))، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُشَقُّ بِنِصْفَيْنِ عَلَى كُلِّ جَانِبٍ نِصْفٌ، ثُمَّ يَمْضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: ((قُمْ))؛ فَيَقُومُ.
فَيَقُولُ: ((الْآنَ تُؤْمِنُ بِي؟)).
فَيَقُولُ: ((وَاللَّهِ! لَقَدِ ازْدَدْتُ فِيكَ بَصِيرَةً، أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ )).
فَجَعَلَ اللهُ نَجَاتَهُ فِي ((حَدَّثَنَا)).
فَبِالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالنَّأْيِ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتَنِ يُنَجِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْهَا.
((النِّعَمُ ثَلَاثَةٌ))
((النِّعَمُ ثَلَاثَةٌ؛ نِعْمَةٌ حَاصِلَةٌ يَعْلَمُ بِهَا الْعَبْدُ، وَنِعْمَةٌ مُنْتَظَرَةٌ يَرْجُوهَا، وَنِعْمَةٌ هُوَ فِيهَا لَا يَشْعُرُ بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ عَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ الْحَاضِرَةَ، وَأَعْطَاهُ مِنْ شُكْرِهِ قَيْدًا يُقَيِّدُهَا بِهِ حَتَّى لَا تَشْرُدَ؛ فَإِنَّهَا تَشْرُدُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتُقَيَّدُ بِالشُّكْرِ، وَوَفَّقَهُ لِعَمَلٍ يَسْتَجْلِبُ بِهِ النِّعْمَةَ الْمُنْتَظَرَةَ، وَبَصَّرَهُ بِالطُّرُقِ الَّتِي تَسُدُّهَا وَتَقْطَعُ طَرِيقَهَا، وَوَفَّقَهُ لِاجْتِنَابِهَا، وَإِذَا بِهَا قَدْ وَافَتْ إِلَيْهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، وَعَرَّفَهُ النِّعَمَ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلَا يَشْعُرُ بِهَا.
فَإِذَا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعَبْدٍ خَيْرًا وَفَّقَهُ لِشُكْرِ النِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ سَبِيلَ اجْتِلَابِ النِّعْمَةِ الْمُنْتَظَرَةِ، وَأَيْقَظَ قَلْبَهُ وَضَمِيرَهُ لِلنِّعْمَةِ الَّتِي لَا يَشْعُرُ بِهَا.
وَيُحْكَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! ثَبَّتَ اللهُ عَلَيْكَ النِّعَمَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا بِإِدَامَةِ شُكْرِهِ، وَحَقَّقَ لَكَ النِّعَمَ الَّتِي تَرْجُوهَا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَدَوَامِ طَاعَتِهِ، وَعَرَّفَكَ النِّعَمَ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا وَلَا تَعْرِفُهَا لِتَشْكُرَهَا)).
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: ((مَا أَحْسَنَ تَقْسِيمَهُ!)) )).
((مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا!))
((مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ أَنْ تَطْلُبَ التَّعْظِيمَ وَالتَّوْقِيرَ مِنَ النَّاسِ وَقَلْبُكَ خَالٍ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَوْقِيرِهِ؛ فَإِنَّكَ تُوَقِّرُ الْمَخْلُوقَ وَتُجِلُّهُ أَنْ يَرَاكَ فِي حَالٍ لَا تُوَقِّرُ اللهَ أَنْ يَرَاكَ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أَىْ: لَا تُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ تُوَقِّرُونَهُ، وَالتَّوْقِيرُ: الْعَظَمَةُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُوَقِّرُوهُ}: قَالَ الْحَسَنُ: ((مَا لَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًّا، وَلَا تَشْكُرُونَهُ)).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ((لَا تُبَالُونَ عَظَمَةَ رَبِّكُمْ)).
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ((لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ طَاعَةً)).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((لَا تَعْرِفُونَ حَقَّ عَظَمَتِهِ)).
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ: أَنَّهُمْ لَوْ عَظَّمُوا اللهَ وَعَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ؛ وَحَّدُوهُ وَأَطَاعُوهُ وَشَكَرُوهُ.
فَطَاعَتُهُ -سُبْحَانَهُ-، وَاجْتِنَابُ مَعَاصِيهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْهُ بِحَسَبِ وَقَارِهِ فِي الْقَلْبِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((لِيَعْظُمْ وَقَارُ اللهِ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَمَا يُسْتَحَى مِنْ ذِكْرِهِ))، فَيَقْرِنُ اسْمَهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ قَبَّحَ اللهُ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَالنَّتْنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِنْ وَقَارِ اللهِ -أَيْ: أَلَّا تَذْكُرَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ-.
وَمِنْ وَقَارِهِ: أَلَّا تَعْدِلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ لَا فِي اللَّفْظِ بِحَيْثُ تَقُولُ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ، مَا لِي إِلَّا اللهُ وَأَنْتَ، وَمَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ.
وَلَا فِي الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَلَا فِي الطَّاعَةِ؛ فَتُطِيعَ الْمَخْلُوقَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا تُطِيعُ اللهَ، بَلْ أَعْظَمُ، كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الظَّلَمَةِ الْفَجَرَةِ، وَلَا فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَيَجْعَلَهُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ.
وَلَا يَسْتَهِينَ بِحَقِّهِ، وَيَقُولُ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَلَا يَجْعَلَهُ عَلَى الْفَضْلَةِ، وَيُقَدِّمَ حَقَّ الْمَخْلُوقِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي حَدٍّ وَنَاحِيَةٍ وَالنَّاسُ فِي نَاحِيَةٍ وَحَدٍّ، فَيَكُونَ فِي الْحَدِّ وَالشَّقِّ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ دُونَ الْحَدِّ وَالشَّقِّ الَّذِي فِيهِ اللهُ وَرَسُولُهُ.
وَلَا يُعْطِي الْمَخْلُوقَ فِي مُخَاطَبَتِهِ قَلْبَهُ وَلُبَّهُ، وَيُعْطِي اللهَ فِي عِبَادَتِهِ بَدَنَهُ وَلِسَانَهُ دُونَ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَلَا يَجْعَلَ مُرَادَ نَفْسِهِ مُقَدَّمًا عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عَدَمِ وَقَارِ اللهِ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ لَا يُلْقِي لَهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَقَارًا وَلَا هَيْبَةً، بَلْ يُسْقِطُ وَقَارَهُ وَهَيْبَتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ وَقَّرُوهُ مَخَافَةَ شَرِّهِ فَذَاكَ وَقَارُ بُغْضٍ لَا وَقَارُ حُبٍّ وَتَعْظِيمٍ.
وَمِنْ وَقَارِ اللهِ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى سِرِّهِ وَضَمِيرِهِ، فَيَرَى فِيهِ مَا يَكْرَهُ.
وَمِنْ وَقَارِهِ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُ فِي الْخَلْوَةِ أَعْظَمَ مِمَّا يَسْتَحْيِي مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَا يُوَقِّرُ اللهَ وَكَلَامَهُ وَمَا آتَاهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ تَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ؟!!
الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَكَلَامُ الرَّسُولِ ﷺ صِلَاتٌ مِنَ الْحَقِّ، وَتَنْبِيهَاتٌ، وَرَوَادِعُ وَزَوَاجِرُ وَارِدَةٌ إِلَيْكَ.
وَالشَّيْبُ زَاجِرٌ وَرَادِعٌ وَمُوقِظٌ قَائِمٌ بِكَ؛ فَلَا مَا وَرَدَ إِلَيْكَ وَعَظَكَ، وَلَا مَا قَامَ بِكَ نَصَحَكَ، وَمَعَ هَذَا تَطْلُبُ التَّوْقِيرَ وَالتَّعْظِيمَ مِنْ غَيْرِكَ؟! فَأَنْتَ كَمُصَابٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ مُصِيبَتُهُ وَعْظًا وَانْزِجَارًا، وَهُوَ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَتَّعِظَ وَيَنْزَجِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى مُصَابِهِ، فَالضَّرْبُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زَجْرًا، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْزِجَارَ مِمَّنْ نَظَرَ إِلَى ضَرْبِهِ.
مَنْ سَمِعَ الْمَثُلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْآيَاتِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَيْسَ كَمَنْ رَآهَا عِيَانًا فِي غَيْرِهِ.
فَكَيْفَ بِمَنْ وَجَدَهَا فِي نَفْسِهِ؟!
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53].
فَآيَاتُهُ فِي الْآفَاقِ مَسْمُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَآيَاتُهُ فِي النَّفْسِ مَشْهُودَةٌ مَرْئِيَّةٌ -فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلَانِ-.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-97].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
وَالْعَاقِلُ الْمُؤَيَّدُ بِالتَّوْفِيقِ يَعْتَبِرُ بِدُونِ هَذَا، وَيُثَمِّرُ نَقَائِصَ خِلْقَتِهِ بِفَضَائِلِ أَخْلَاقِهِ وَمَحَاسِنِ أَعْمَالِهِ؛ فَكُلَّمَا امْتَحَى مِنْ جُثْمَانِهِ أَثَرٌ زَادَ إِيمَانَهُ أَثَرٌ، وَكُلَّمَا نَقَصَ مِنْ قُوَى بَدَنِهِ زَادَ فِي قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَرَغْبَتِهِ فِي اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقِفُ بِهِ عَلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَلَمِ وَالْفَسَادِ بِخِلَافِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ مَعَ طُولِ الْعُمُرِ؛ فَإِنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَلَمِهِ وَغَمِّهِ وَهَمِّهِ وَحَسْرَتِهِ.
وَإِنَّمَا حَسُنَ طُولُ الْعُمُرِ وَنَفَعَ؛ لِيَحْصُلَ التَّذَكُّرُ وَالِاسْتِدْرَاكُ وَاغْتِنَامُ الْفُرَصِ وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37].
فَمَنْ لَمْ يُورِثْهُ التَّعْمِيرُ وَطُولُ الْبَقَاءِ إِصْلَاحَ مَعَايِبِهِ، وَتَدَارُكَ فَارِطِهِ، وَاغْتِنَامَ بَقِيَّةِ أَنْفَاسِهِ، فَيَعْمَلَ عَلَى حَيَاةِ قَلْبِهِ وَحُصُولِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَإِلَّا فَلَا خَيْرَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ.
فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ؛ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
فَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ كَانَ طُولُ سَفَرِهِ زِيَادَةً لَهُ فِي حُصُولِ النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا طَالَ السَّفَرُ إِلَيْهَا كَانَتِ الصَّبَابَةُ أَجَلَّ وَأَفْضَلَ.
وَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ كَانَ طُولُ سَفَرِهِ زِيَادَةً فِي أَلَمِهِ وَعَذَابِهِ، وَنُزُولًا إِلَى أَسْفَلَ.
فَالْمُسَافِرُ إِمَّا صَاعِدٌ وَإِمَّا نَازِلٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْحَسَنِ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَقَبُحَ عَمَلُهُ)).
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِذْلَانِ!
فَالطَّالِبُ الصَّادِقُ فِي طَلَبِهِ:
كُلَّمَا خَرِبَ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ جَعَلَهُ عِمَارَةً لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ.
وَكُلَّمَا نَقَصَ مِنْ قُوَّتِهِ شَيْءٌ جَعَلَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي قُوَّةِ قَلْبِهِ وَإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ.
وَكُلَّمَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ دُنْيَاهُ جَعَلَهُ زِيَادَةً فِي آخِرَتِهِ.
وَكُلَّمَا مُنِعَ شَيْئًا مِنْ لَذَّاتِ دُنْيَاهُ جَعَلَهُ زِيَادَةً فِي لَذَّاتِ آخِرَتِهِ.
وَكُلَّمَا نَالَهُ هَمٌّ أَوْ حَزَنٌ أَوْ غَمٌّ جَعَلَهُ فِي أَفْرَاحِ آخِرَتِهِ؛ فَنُقْصَانُ بَدَنِهِ وَدُنْيَاهُ وَلَذَّتِهِ وَجَاهِهِ وَرِئَاسَتِهِ إِنْ زَادَ فِي حُصُولِ ذَلِكَ وَتَوْفِيرِهِ عَلَيْهِ فِي مَعَادِهِ كَانَ رَحْمَةً بِهِ وَخَيْرًا لَهُ، وَإِلَّا كَانَ حِرْمَانًا وَعُقُوبَةً عَلَى ذُنُوبٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ؛ فَإِنَّ حِرْمَانَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ)).
((مَعْرِفَةُ اللهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ))
((مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرِفُ اللهَ بِالْجُودِ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَالتَّجَاوُزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْبِرِّ وَاللُّطْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْقَهْرِ وَالْمُلْكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، وَإِغَاثَةِ لَهْفَتِهِ، وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ.
وَأَعَمُّ هَؤُلَاءِ مَعْرِفَةً مَنْ عَرَفَهُ مِنْ كَلَامِهِ؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ رَبًّا قَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَنُعُوتُ الْجَلَالِ، مُنَزَّهٌ عَنِ الْمِثَالِ، بَرِيءٌ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، لَهُ كُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ وَكُلُّ وَصْفِ كَمَالٍ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمُقِيمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، آمِرٌ نَاهٍ، مُتَكَلِّمٌ بِكَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَجْمَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَقْدَرُ الْقَادِرِينَ، وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.
فَالْقُرْآنُ أُنْزِلَ لِتَعْرِيفِ عِبَادِهِ بِهِ، وَبِصِرَاطِهِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَبِحَالِ السَّالِكِينَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ)).
((آثَارُ أَسْمَاءِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ))
((اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَلِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ؛ كَتَرَتُّبِ الْمَرْزُوقِ وَالرِّزْقِ عَلَى الرَّازِقِ، وَتَرَتُّبِ الْمَرْحُومِ وَأَسْبَابِ الرَّحْمَةِ عَلَى الرَّاحِمِ، وَتَرَتُّبِ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ عَلَى السَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عِبَادِهِ مَنْ يُخْطِئُ وَيُذْنِبُ لِيَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَغْفِرَ لَهُ وَيَعْفُوَ عَنْهُ لَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ أَسْمَائِهِ الْغَفُورِ وَالْعَفُوِّ وَالْحَلِيمِ وَالتَّوَّابِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا.
وَظُهُورُ أَثَرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا فِي الْخَلِيقَةِ كَظُهُورِ آثَارِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَمُتَعَلَّقَاتِهَا.
فَكَمَا أَنَّ اسْمَهُ الْخَالِقَ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا، وَالْبَارِيَ يَقْتَضِي مَبْرُوءًا، وَالْمُصَوِّرَ يَقْتَضِي مُصَوَّرًا وَلَا بُدَّ؛ فَأَسْمَاؤُهُ الْغَفَّارُ التَّوَّابُ تَقْتَضِي مَغْفُورًا لَهُ وَمَا يَغْفِرُهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَأُمُورًا يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا، وَمَنْ يَحْلُمُ عَنْهُ، وَيَعْفُو عَنْهُ وَيَتَجَاوَزُ، وَمَا يَكُونُ مُتَعَلَّقَ الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَيْرِ، وَمَعَانِيَهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَهَذَا بَابٌ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُدْرَكَ.
وَاللَّبِيبُ يَكْتَفِي مِنْهُ بِالْيَسِيرِ، وَغَلِيظُ الْحِجَابِ فِي وَادٍ وَنَحْنُ فِي وَادٍ!
فَتَأَمَّلْ ظُهُورَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ اسْمِ الرَّزَّاقِ وَاسْمِ الْغَفَّارِ فِي الْخَلِيقَةِ تَرَ مَا يُعْجِبُ الْعُقُولَ، وَتَأَمَّلْ آثَارَهُمَا حَقَّ التَّأَمُّلِ فِي أَعْظَمِ مَجَامِعِ الْخَلِيقَةِ وَانْظُرْ كَيْفَ وَسِعَهُمْ رِزْقُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهُ مِنْ قِيَامٍ أَصْلًا، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الرِّزْقِ وَالْمَغْفِرَةِ؛ فَإِمَّا مُتَّصِلًا بِنَشْأَتِهِ الثَّانِيَةِ، وَإِمَّا مُخْتَصًّا بِهَذِهِ النَّشْأَةِ)).
هَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى تَعَلُّمِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ، مَعَ التَّدَبُّرَ فِي ذَلِكَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسِهِ وَلُبِّهِ وَضَمِيرِهِ.
((الْجَاهِلُ يَشْكُو اللهَ إِلَى النَّاسِ!))
((مَنْ جَهِلَ مَعْرِفَةَ اللهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ شَكَا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَى النَّاسِ وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِالْمَشْكُوِّ وَالْمَشْكُوِّ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبَّهُ لَمَا شَكَاهُ، وَلَوْ عَرَفَ النَّاسَ لَمَا شَكَا إِلَيْهِمْ.
وَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ رَجُلًا يَشْكُو إِلَى رَجُلٍ فَاقَتَهُ وَضَرُورَتَهُ، فَقَالَ: ((يَا هَذَا! وَاللَّهِ، مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ شَكَوْتَ مَنْ يَرْحَمُكَ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُكَ)).
وَفِي ذَلِكَ قِيلَ:
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا = تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ
وَالصَّادِقُ إِنَّمَا يَشْكُو إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ جَعَلَ شَكْوَاهُ إِلَى اللهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنَ النَّاسِ؛ فَهُوَ يَشْكُو مِنْ مُوجِبَاتِ تَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ: أَخَسُّهَا أَنْ تَشْكُوَ اللهَ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَعْلَاهَا أَنْ تَشْكُوَ نَفْسَكَ إِلَيْهِ، وَأَوْسَطُهَا أَنْ تَشْكُوَ خَلْقَهُ إِلَيْهِ.
فَكُنْ عَالِيَ الْهِمَّةِ، وَلَا تَشْكُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَا تَشْكُ خَلْقَهُ إِلَيْهِ، وَاشْكُ نَفْسَكَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْكَ مَا يَنُوءُ بِهِ كَاهِلُكَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْسُطَ لَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَنْ يُهَيِّءَ لَكَ أَسْبَابَ الْعِبَادَةِ الصَّادِقَةِ، وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ)).
((مَنْزِلَةُ الرِّضَا وَحَقِيقَتُهُ))
الْإِنْسَانُ لَا يَصِحُّ لَهُ دِينٌ حَتَّى يَرْضَى عَنْ رَبِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْ رَبِّهِ فَمَا عَرَفَ فِي دِينِهِ شَيْئًا.
((قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا)).
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا؛ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ)).
وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي، وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ مَعَ الِانْقِيَادِ لَهُ، وَالرِّضَا بِدِينِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا، وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ، وَمِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا مِنْ ذَلِكَ؛ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّضَا كَانَ عَلَى لِسَانِهِ لَا عَلَى حَالِهِ.
* فَالرِّضَا بِإِلَهِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ: الرِّضَا بِمَحَبَّتِهِ، وَخَوْفَهُ، وَرَجَاءَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابَ قُوَى الْإِرَادَةِ وَالْحُبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ فِعْلَ الرَّاضِي بِمَحْبُوبِهِ كُلَّ الرِّضَا، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ.
* وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ: الرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالثِّقَةِ فِيهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِهِ.
وَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ، فَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.
الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ.
* وَأَمَّا الرِّضَا بِنَبِيِّهِ رَسُولًا فَيَتَضَمَّنُ: كَمَالَ الِانْقِيَادِ لَهُ، وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَلَقَّى الْهُدَى إِلَّا مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ، وَلَا يُحَاكِمُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُحَكِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ الْبَتَّةَ؛ لَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَمَقَامَاتِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لَا يَرْضَى فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِحُكْمِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ كَانَ تَحْكِيمُهُ غَيْرَهُ مِنْ بَابِ غِذَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُقِيتُهُ إِلَّا مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرَابِ الَّذِي إِنَّمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ.
* وَأَمَّا الرِّضَا بِدِينِهِ: فَإِذَا قَالَ أَوْ حَكَمَ أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا أَوْ قَوْلِ مُقَلَّدِهِ وَشَيْخِهِ وَطَائِفَتِهِ.
وَهَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ، وَهُمُ الَّذِينَ رَضُوا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا.
هَاهُنَا يُوحِشُكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ.
فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَوْحِشَ مِنَ الِاغْتِرَابِ وَالتَّفَرُّدِ؛ فَإِنَّهُ -وَاللَّهِ- عَيْنُ الْعِزِّ وَالصُّحْبَةِ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَرُوحُ الْأُنْسِ بِهِ وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا.
بَلِ الصَّادِقُ كُلَّمَا وَجَدَ مَسَّ الِاغْتِرَابِ وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ وَتَنَسَّمَ رَوْحَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنِي اغْتِرَابًا وَوَحْشَةً مِنَ الْعَالَمِ وَأُنْسًا بِكَ!
وَكُلَّمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ هَذَا الِاغْتِرَابِ وَهَذَا التَّفَرُّدِ رَأَى الْوَحْشَةَ عَيْنَ الْأُنْسِ بِالنَّاسِ، وَالذُّلَّ عَيْنَ الْعِزِّ بِهِمْ، وَالْجَهْلَ عَيْنَ الْوُقُوفِ عَلَى آرَائِهِمْ وَزِبَالَةِ أَذْهَانِهِمْ، وَالِانْقِطَاعَ عَيْنَ التَّقَيُّدِ بِرُسُومِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ، فَلَمْ يُؤْثِرْ بِنَصِيبِهِ مِنَ اللهِ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَبِعْ حَظَّهُ مِنَ اللهِ بِمُوَافَقَتِهِمْ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحِرْمَانَ، وَغَايَتُهُ مَوَدَّةُ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ، وَحَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَبُلِيَتِ السَّرَائِرُ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ دُونِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ؛ تَبَيَّنَ لَهُ -حِينَئِذٍ- مَوَاقِعُ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، وَمَا الَّذِي يَخِفُّ أَوْ يَرْجَحُ بِهِ الْمِيزَانُ -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ-.
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ، مَوْهِبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُنَالَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي أَسْبَابِهِ، وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ؛ اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا فَإِنَّ الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ، فَمَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا، وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ، وَعَدَمِ إِجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْهُ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمُ الرِّضَا.
فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَاخِطًا لِمَا يُؤْلِمُهُ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالرِّضَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُوجِبِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَلْقِهِ الرِّضَا؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، لَكِنْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا.
فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ؛ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ -كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ يَكُونُ مَحْفُوفًا بِذِكْرَيْنِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا ذَكَرَهُ وَفَّقَهُ لِذِكْرِهِ فَذَكَرَهُ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ ذَكَرَهُ؛ فَذِكْرُ الْعَبْدِ رَبَّهُ مَحْفُوفٌ بِذِكْرَيْنِ-.. فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنِ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ؛ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: رِضًا قَبْلَهُ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَرِضًا بَعْدَهُ هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ -فَاللهم ارْضَ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ-، وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ.
الرِّضَا بَابُ اللهِ الْأَعْظَمُ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةُ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمُ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةُ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ)).
((سُبُلُ الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا))
((مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللهُ رِضَاهُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ.
قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: ((مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟))
فَقَالَ: ((إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ، وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ، وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ)).
فَإِذَا قَامَ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ بَلَغَ مَقَامَ الرِّضَا.
يَقُولُ: ((إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ، وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ، وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ)) )).
((مَعْنَى الرِّضَا))
((قَالَ الْجُنَيْدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إِلَى الْقَلْبِ؛ فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا)).
وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُفَارِقَانِ الْمُتَلَبِّسَ بِهِمَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْبَرْزَخِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ لِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ، بَلْ هُوَ رَجَاءُ وَاثِقٍ بِوَعْدٍ صَادِقٍ مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ.
الرِّضَا: سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ.
فَيَرْضَى بِهِ مَهْمَا كَانَ مُؤْلِمًا لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ صَعْبًا عَلَيْهِ، وَمَهْمَا كَانَ ثَقِيلًا عَلَى قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَخِفُّ عِنْدَ الرِّضَا، وَيَخِفُّ عِنْدَ الْمَحَبَّةِ.
وَهَذَا الرِّضَا بِمَا مِنْهُ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ.
فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ، وَبَيْنَ مَنْ رِضَاهُ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ)).
((الْإِحْسَاسُ بِالْآلَامِ وَالْمَكَارِهِ لَا يُضَادُّ الرِّضَا))
((لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ، بَلْ أَلَّا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطَهُ.
لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَلَّا يُحِسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ، بَلْ يُحِسُّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ، وَلَكِنْ يُنْسِيهِ الْأَلَمَ مَا يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ سَعَةٍ فِي قَلْبِهِ بِرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ لَمَّا جُرِحَتْ إِصْبَعُهَا فَضَحِكَتْ.
فَقِيلَ: ((تُجْرَحِينَ ثُمَّ تَضْحَكِينَ؟!)).
فَقَالَتْ: ((إِنَّ عِظَمَ وَلَذَّةَ أَجْرِهَا أَنْسَانِي مَرَارَةَ أَلَمِهَا)).
وَلِهَذَا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ وَطَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةُ وَهُمَا ضِدَّانِ!
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةَ النَّفْسِ لَهُ لَا يُنَافِي الرِّضَا؛ كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا)).
((طَرِيقُ الرِّضَا وَثَمَرَتُهُ))
((طُرُقُ الرِّضَا طَرِيقٌ وَاحِدٌ، طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، مُوصِلَةٌ إِلَى أَجْلِّ غَايَةٍ، وَلَكِنَّ فِيهَا مَشَقَّةً، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مَشَقَّتُهَا بِأَصْعَبَ مِنْ مَشَقَّةِ طَرِيقِ الْمُجَاهَدَةِ، وَلَا فِيهَا مِنَ الْعَقَبَاتِ وَالْمَفَاوِزِ مَا فِيهَا، وَإِنَّمَا عَقَبَتُهَا هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَنَفْسٌ زَكِيَّةٌ، وَتَوْطِينٌ لِلنَّفْسِ عَلَى كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ اللهِ.
وَيُسَهِّلُ ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ عِلْمُهُ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ، وَرَحْمَةِ رَبِّهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَبِرِّهِ بِهِ.
فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَمْ يَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَرْضَ بِهِ وَعَنْهُ، وَلَمْ تَنْجَذِبْ دَوَاعِي حُبِّهِ وَرِضَاهُ كُلُّهَا إِلَيْهِ؛ فَنَفْسُهُ نَفْسٌ مَطْرُودَةٌ عَنِ اللهِ، بَعِيدَةٌ عَنْهُ، لَيْسَتْ مُؤَهَّلَةً لِقُرْبِهِ وَمُوَالَاتِهِ، أَوْ نَفْسٌ مُمْتَحَنَةٌ مُبْتَلَاةٌ بِأَصْنَافِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ.
فَطَرِيقُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ تُسَيِّرُ الْعَبْدَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ فَيُصْبِحُ أَمَامَ الرَّكْبِ بِمَرَاحِلَ.
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ = تَمْشِي الْهُوَيْنَا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ
فَطَرِيقُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ تُسَيِّرُ الْعَبْدَ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ فَيُصْبِحُ أَمَامَ الرَّكْبِ بِمَرَاحِلَ.
وَثَمَرَةُ الرِّضَا الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- )).
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْزُقَنَا الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ؛ إِنَّهُ -تَعَالى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِنَابَةِ وَالذِّكْرِ فِي أَيَّامِ الْمِحَنِ وَفِي زَمَانِ الْفِتَنِ؛ عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَعْصِمَ بِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَيْئًا كَانَ؛ فَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً، وَإِذَا أَرَادَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً أَنْ يَقْبِضَنَا إِلَيْهِ غَيْرَ فَاتِنِينَ وَلَا مَفْتُونِينَ، وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحْزُونِينَ، وَلَا مُغَيِّرِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الرِّضَا وَسِيلَةٌ لَا غَايَةٌ))
((فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جَهْدَكَ، وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ، فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ)).
وَهَذِهِ عَقَبَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَإِنَّ مُسَاكَنَةَ الْأَحْوَالِ وَالسُّكُونَ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفَ عِنْدَهَا اسْتِلْبَابًا وَمَحَبَّةً حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِحُظُوظِهِمْ عَنْ مُطَالَعَةِ حُقُوقِ مَحْبُوبِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ.
وَهِيَ عَقَبَةٌ لَا يَجُوزُهَا إِلَّا أُولُوا الْعَزَائِمِ.
إِيَّاكُمْ وَاسْتِحْلَاءَ الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّهَا سُمُومٌ قَاتِلَاتٌ.
اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جَهْدَكَ، وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ.
لَا يَكُونُ عَمَلُكَ لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَكَ عَلَيْهِ، بَلِ اجْعَلْهُ آلَةً لَكَ وَسَبَبًا مُوصِلًا إِلَى مَقْصُودِكَ وَمَطْلُوبِكَ؛ فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ، لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَكَ.
وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّضَا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْقَلْبِ الَّتِي يَسْكُنُ إِلَيْهَا الْقَلْبُ، حَتَّى إِنَّهُ -أَيْضًا- لَا يَكُونُ عَامِلًا عَلَى الْمَحَبَّةِ لِأَجْلِ الْمَحَبَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ بِهِ، بَلْ يَسْتَعْمِلُ الْمَحَبَّةَ فِي مَرَاضِي الْمَحْبُوبِ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا؛ فَالْوُقُوفُ عِنْدَهَا مِنْ عِلَلِ الْمَحَبَّةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَحَبَّةَ فِي مَرَاضِي الْمَحْبُوبِ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَقِفَ عِنْدَهَا، فَهَذَا مِنْ عِلَلِ الْمَحَبَّةِ)).
((عَلَامَاتُ الرِّضَا وَدَلَائِلُهُ))
((ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرِّضَا: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَفِقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ.
قِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ)).
فَقَالَ: ((رَحِمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ! أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللهِ لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللهُ لَهُ)).
مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللهِ لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللهُ لَهُ.
الرِّضَا أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ.
وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ)).
فَقَالَ: ((لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا)).
الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَأَمَّا الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَهُوَ الرِّضَا)).
وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَسَالِكِ أَهْلِ السَّعْيِ إِلَى جَنَّاتِ الْخُلْدِ وَتَحْصِيلِ مَرْضَاةِ الرَّبِّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِعِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَمُجَاهَدَةٍ لِهَوَاهُ، وَاسْتِحْوَاذٍ عَلَى شَهَوَاتِ نَفْسِهِ وَلَذَّاتِهَا.
((حُكْمُ الرِّضَا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَنْهُ وَثَمَرَتُهُ))
((الرِّضَا بِهِ -تَعَالَى- رَبًّا فَرْضٌ، بَلْ هُوَ مِنْ آكَدِ الْفُرُوضِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ إِسْلَامٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا حَالٌ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَائِهِ فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
فَفَرْقٌ بَيْنَ الرِّضَا بِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ.
فَأَمَّا الرِّضَا بِهِ رَبًّا فَوَاجِبٌ وَفَرْضٌ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ رَبًّا فَلَيْسَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبٍ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَائِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِخَلْقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((بَلِ الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَاجِبٌ)).
وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الرِّضَا وَالنَّدْبِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)).
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا عَنْهُ وَيَسْتَلْزِمُهُ؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ هُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ، وَيَقْسِمُهُ لَهُ، وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَيَمْنَعُهُ حِرْمَانًا مِنْهُ.
فَمَتَى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضيَ بِهِ رَبًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ رَبًّا مِنْ بَعْضِهَا؛ فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عَنْهُ وَيَتَضَمَّنُهُ بِلَا رَيْبٍ.
وَأَيْضًا فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا: يَتَعَلَّقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ فَهُوَ الرِّضَا بِهِ خَالِقًا، وَمُدَبِّرًا، وَآمِرًا وَنَاهِيًا، وَمَالِكًا، وَمُعْطِيًا، وَمَانِعًا وَحَكَمًا، وَحَاكِمًا، وَوَكِيلًا، وَوَلِيًّا، وَنَاصِرًا، وَمُعِينًا، وَكَافِيًا، وَحَسِيبًا، وَرَقِيبًا، وَمُبْتَلِيًا وَمُعَاقِبًا، وَقَابِضًا وَبَاسِطًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الرِّضَا عَنْهُ: فَهُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهِ وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَلِهَذَا إِنَّمَا جَاءَ فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28]، فَهَذَا رِضَاهَا عَنْهُ بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
فَالرِّضَا بِهِ أَصْلٌ لِلرِّضَا عَنْهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ ثَمَرَةُ الرِّضَا بِهِ.
فَاللهم ارْزُقْنَا الرِّضَا بِكَ وَعَنْكَ، وَارْضَ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالرِّضَا عَنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ.
فَالرِّضَا بِهِ أَصْلٌ لِلرِّضَا عَنْهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ ثَمَرَةُ الرِّضَا بِهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِمَنْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ﷺ: ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا)).
فَجَعَلَ الرِّضَا بِهِ قَرِينَ الرِّضَا بِدِينِهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَخَوْفَهُ، وَرَجَاءَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَالصَّبْرَ لَهُ وَبِهِ، وَالشُّكْرَ عَلَى نَعْمَائِهِ، بَلْ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَا مِنْهُ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا وَإِنْ سَاءَ عَبْدَهُ.
فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا يَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ؛ فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ.
وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ اتِّخَاذَهُ مَعْبُودًا دُونَ مَا سِوَاهُ، وَاتِّخَاذَهُ وَلِيًّا وَمَعْبُودًا وَإِبْطَالَ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- لِرَسُولِهِ ﷺ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].
وَقَالَ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14].
وَقَالَ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164].
فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّضَا بِهِ رَبًّا، جَعَلَ حَقِيقَةَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ؛ فَمَتَى سَخِطَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا فَقَدْ تَحَقَّقَ بِالرِّضَا بِهِ رَبًّا الَّذِي هُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ قُطْبَ رَحَى الدِّينِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ إِنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْعِبَادَةِ، وَسُخْطِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحًى تَدُورُ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحَى الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ -حِينَئِذٍ- مِنْ دَائِرَةِ الشِّرْكِ إِلَى دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ، فَتَدُورُ رَحَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ عَلَى قُطْبِهَا الثَّابِتِ اللَّازِمِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ حُصُولَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الرِّضَا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَرْضِيِّ بِهِ رَبًّا سُبْحَانَهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيَنْتَظِمُ فُرُوعَهَا وَشُعَبَهَا.
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ مَيْلَ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ حَامِلًا عَلَى طَاعَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَيْلُ أَقْوَى كَانَتِ الطَّاعَةُ أَتَمَّ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرَ، وَهَذَا الْمَيْلُ يُلَازِمُ الْإِنْسَانَ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَلُبُّهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ؟!
وَبِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)).
فَعَلَّقَ ذَوْقَ الْإِيمَانِ بِالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَعَلَّقَ وَجْدَ حَلَاوَتِهِ بِمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ -سُبْحَانَهُ- أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ هُوَ وَرَسُولُهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُبُّ التَّامُّ وَالْإِخْلَاصُ الَّذِي هُوَ ثَمَرَتُهُ أَعْلَى مِنْ مُجَرَّدِ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- كَانَتْ ثَمَرَتُهُ أَعْلَى وَهِيَ وَجْدُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ الرِّضَا ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ؛ فَهَذَا وَجْدٌ لِحَلَاوَةٍ، وَذَاكَ ذَوْقٌ لِطَعْمٍ -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ-)).
وَهُوَ الْمَسْؤُولُ وَحْدَهُ أَنْ يَرْزُقَنَا الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الرِّضا بِرَسُولِهِ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَأَنْ يُحْيِيَنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَتَوَفَّانَا مُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يُلْحِقَنَا بِالصَّالِحِينَ.
فَاللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ.
وَارْزُقْنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَارْزُقْنَا الْإِخْلَاصَ وَالصِّدْقَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُوءٍ، وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَحْسِنْ لَنَا الْخِتَامَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: مَنْزِلَةُ الرِّضَا