تفريغ خطبة التكفير .. أصوله وضوابطه

التكفير .. أصوله وضوابطه

تفريغ خطبة التكفير ... أصوله وضوابطه

خطبة الجمعة 3 من ربيع الثاني 1436هـ الموافق 23-1-2015م

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعلي آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُهُمَا اللهُ; الحِلمُ والأَنَاةُ» والحَدِيثُ فِي الصَحِيحَينِ .

والحِلمُ نَقِيضُ السَّفَهِ, وَهُوَ الأَنَاةُ والعَقلُ, وجَمْعُهُ أَحْلَامٌ وحُلُومٌ, وأحْلَامُ القَومِ : حُلَمَاؤُهُم, ورَجُلٌ حَلِيمٌ مِنْ قَوْمٍ أَحْلَامٍ وحُلَمَاءٍ, وحَلُمَ بِالضَّمِ يَحلُمُ حِلْمًا : صَارَ حَلِيمًا, وتَحَلَّمَ : تَكَلَّفَ الحِلْمَ, وتَحَالَمَ: أَرَى مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ ولَيْسَ بِهِ .

وَقَدْ عَرَّفَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الحِلْمَ فَقَالَ:

" الحِلْمُ حَالَةُ تَوَقُّرٍ وَثَبَاتٍ عِندَ الأَسْبَابِ المُحَرِّكَاتِ ", والتَّوَقُّرُ إِظْهَارُ الوَقَارِ وَهُوَ السُّكُون, والأسْبَابُ المُحَرِّكَاتُ كالغَضَبِ مَثلًا, فَالحِلْمُ حَالَةٌ تُكْسِبُ الوَقَارَ, وَهُوَ خَصْلَةٌ يُحِبُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِلأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ القَيْس «إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُهُمَا اللهُ; الحِلمُ والأَنَاةُ» .

قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِهِ:

"أمَّا الأَشَجُّ فَاسْمُهُ المُنْذِرُ بْنِ عَائِذٍ -بالذَّالِ المُعْجَمَةِ- العَصَرِيُّ -بِفَتْحِ العَيْنِ والصَّادِ المُهْمَلَتَينِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ - وأمَّا الحِلْمُ فَهُوَ العَقْلُ، وأمَّا الأَنَاةُ فَهِيَ التَّثَبُّتُ وَتَرْكُ العَجَلَة. وسَبَبُ قَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ, مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الوَفْدِ, أنَّهُم لَمَّا وَصَلُوا المَدِينَةَ, بَادَرُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأَقَامَ الأَشَجُّ عِندَ رِحَالِهِم فَجَمَعَهَا وَعَقَلَ نَاقَتَهُ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ, ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ : فَقَرَّبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: تُبَايِعُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَقَوْمِكُم، فَقَالَ القَوْمُ: نَعَمْ, فَقَالَ الأَشَجُّ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّكَ لَمْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ, نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَنُرْسِلُ مَنْ يَدعُوهُم, فَمَنْ اتَّبَعَنَا كَانَ مِنَّا وَمَنْ أَبَي قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: صَدَقْتَ، إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُهُمَا الله; الحِلمُ والأَنَاة" .

قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ:

" فَالأَنَاةُ تَرَبُّصُهُ حَتَّى نَظَرَ فِي مَصَالِحِهِ وَلَمْ يَعْجَلْ، والحِلْمُ هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الدَّالُّ عَلَى صِحَةِ عَقْلِهِ، وَجَوْدَةِ نَظَرِهِ لِلْعَوَاقِبِ".

وَقَدْ سَمَّى الأَشَجُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِبَادَةِ قَوْمِهِ لِلأَصْنَامِ دِينًا, وَأَقَرَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: صَدَقْتَ، بَلْ إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّى مَا عَلَيْهِ الكَافِرُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيرِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا, سَمَّاهُ دِينًا يَدِينُونَ بِهِ, فَقَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، - إِلَى أنْ قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ -، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ فَسَمَّى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيرِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَمِنَ الشِّرْكِ بِهِ تَعَالَى, سَمَّاهُ دِينًا.

والَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ الأَشَجِّ أَمْرٌ مُهِمٌ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ, لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا قَالَ الأَشَجُّ " إنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ ",  مَعَ أنَّ دِينَهُ الْكُفْرُ الَّذِي يَعْنِيهِ هَا هُنَا, مِنْ كَوْنِ الْرَّجُلِ عَلَى دِينٍ يُزَاوَلُ عَنْهُ, مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ هُوَ الْكُفْرُ, وَمَعَ ذَلِكَ فَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَنْتَقِلَ حَتَّى عَنْ كُفْرِهِ مَا دَامَ لَهُ دِينًا - وَالَّذِينَ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَصْرِفُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ الدِّينِ الْحَقِّ, الَّذِي هُوَ الدِّينُ وَحْدَهُ وَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا, هَؤلَاءِ يُحَاوُلُونَ مَا يُحَاوُلُونَ وَالْقَافِلَةُ تَمْضِي وَالْكِلَابُ تَنْبَحُ, وَلَنْ يُؤَثِّرُوا فِي الإِسْلَامِ وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا, وَإنَّمَا هُوَ نُبَاحُ الكِلابِ مَعَ سَيْرِ القَافِلَةِ وَسَيْرِ السِّحَابِ - إنَّكَ لَنْ تُزَاوِلَ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ, قَالَ: صَدَقْتَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

الكُفْرُ الأَكْبَرَ أَرْبَعَةُ أَقْسَام, وَزَادَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى خَامِسًا, هِيَ : كُفْرُ الْجَهْلِ وَالتَّكْذِيبِ, وَكُفْرُ الْجُحُودُ, وَكُفْرُ العِنَادِ وَالإِسْتِكْبَارِ, وَكُفْرُ النِّفَاقِ, وَكُفْرُ الشَّكِ وَهُوَ الخَامِسُ الَّذِي زَادَهُ الْعَلَامَةُ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

*كُفْرُ الْجَهْلِ وَالتَّكْذِيبِ: هُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَغَالِبِ الْكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ ﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ. هَذَا كُفْرُ الْجَهْلِ وَالتَّكْذِيبِ وَهُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَغَالِبِ الكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ قَبْلِهُم مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ.

*وَأَمَّا كُفْرُ الجُحُودِ: فَهُوَ مَا كَانَ بِكِتْمَانِ الْحَقِّ وَعَدَمِ الْإِنْقِيَادِ لَهُ ظَاهِرًا مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بَاطِنًا, فَهُوَ مُقِرٌّ بِالْحَقِّ بَاطِنًا وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُهُ وَلَا يَنْقَادُ لَهُ ظَاهِرًا كَكُفْرِ فِرْعَونَ وَقَوْمِهِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامِ، وَكَكُفْرِ اليَهُودِ بِمُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى فِي كُفْرِ فَرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ فَهُمْ مُسْتَيْقِنُونَ بِالحَقِّ بَاطِنًا, وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونُهُ بِالْلِّسَانِ ظَاهِرًا, وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي الْيَهُودِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. فَهَذَا هُوَ كُفْرُ الْجُحُود.

*وَأَمَّا كُفْرُ الْعِنَادِ والاسْتِكْبَارِ: فَهُوَ مَا كَانَ بِعَدَمِ الإِنْقِيَادِ لِلْحَقِّ مَعَ الإِقْرَارِ بِهِ، فَهُوَ يُقِرُّ بِأَنَّهُ حَقُّ وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقَادُ لَهُ, كَكُفْرِ إِبْلِيسَ؛ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهِ ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ﴾ وَهُوَ لَنْ يُمْكِنَهُ جُحُودُ أَمْرِ اللهِ بِالسِّجُودِ وَلَا إِنْكَارُهُ، وَإنَّمَا إِعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَطَعَنَ فِي حِكْمَةِ الْآمِرِ بِهِ وَعَدْلِهِ فَقَالَ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ وَقَالَ ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَقَالَ ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾. فَهَذَا كُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ مَعَ الإِقْرَارِ بِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيس.

*وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ: فَهُوَ مَا كَانَ بِعَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ مَعَ الإِنْقِيَادِ ظَاهِرًا رِئَاءَ النَّاسِ، كَكُفْرِ ابْنِ سَلُولٍ وَحِزْبِهِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهِمْ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الآيَاتِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أنَّ الْكُفْرَ هُوَ النِّفَاقَ, أَنْ يُبْطِنَ الكُفْر ويُظهِرَ الإِسْلَامِ, فَكُفْرُ النِّفَاقِ مَا كَانَ بِعَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ مَعَ الإِنْقِيَادِ ظَاهِرًا رِئَاءَ النَّاسِ, كَكُفْرِ ابنِ سَلُولَ وَهُوَ شَيْخُ المُنَافِقِينَ غَيرَ مُنازَع, وَكَذَا كَكُفْرِ حِزْبِهِ, وَقَدْ فَضَحَهُم اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَاتِ القُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُم الْبَاطِنَةِ الَتَّي ظَنُوا أَنَّهَا تُخْفِي عَلَى هَذَا الدِّينِ .

وَقَدْ زَادَ الإِمَامُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قِسْمًا خَامِسًا وَهُوَ كُفْرُ الشَّكِّ: وَهُوَ أَنْ يَتَرَدَدَ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ, أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِدًا شَاكًّا لَا يُصَدِّقُ وَلَا يُكَذِّبُ. فَهَذَا قِسْمٌ خَامِسٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكُفْرِ الأَكْبَرِ النَّاقِلِ عَنِ الْمِلَّةِ وَهُوَ كُفْرُ الشَّكِّ, وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الإِعْتِقَادِيُّ المُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

وَأَمَّا الْكُفْرُ العَمَلِيُّ الَّذِي لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ فَهُوَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أطْلَقَ عَلَيْهَا الشَّارِعُ اسْمَ الكُفْرِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الإِيمَانِ عَلَى عَامِلِهِ, كَقَولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوُاهُ الجَمَاعَةُ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, فَأَطْلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَنَّهُ كُفْر, وَسَمَّى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُفَّارًا, مَعَ قَولِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ فَأَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لَهُم الإِيمَانَ وَأُخُوَّةَ الإِيمَان، وَلَمْ يَنْفِ عَنهُم شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» فَهَذِهِ مَعْصِيَة أَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَ الكُفْرِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الإِيمَانِ عَلَى عَامِلِهِ، فَهِيَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ؛ كُفْرٌ أَصْغَر؛ كُفْرٌ دُونَ كُفْر، فَهَذَا الْكُفْرُ الأَصْغَرُ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ القِصَاصِ ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فَأَثْبَتَ تَعَالَى لَهُ أُخُوَّةَ الإِسْلَامِ وَلَمْ يَنْفِهَا عَنْهُ مَعَ تَوَرُّطِهِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ.

وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحَينِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَلَا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَفِي رِوَايَةٍ  «وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ أَبُو ذَرٍ: قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ثَلَاثًا يُرَاجِعُهُ وَيَقُولُ «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ثُمَّ قَالَ فِي الرَابِعَةِ «عَلَى رَغِمَ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» الحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رِوَايَتِهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.

وَتَأَمَّل فِي قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ} مَاتَ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَنْقُضْهَا, لَمْ يَأْتِ بِنَاقِضٍ لِــ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ قَدْ مَاتَ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ .

فَهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ عَنْ الزَّانِيِ وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالقَاتِلِ مُطْلَقَ الإِيمَانِ بِالْكُلِّيَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ لَوُ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يُخْبِر بِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّة, وإنْ فَعَلَ تِلْكَ الْمَعَاصِي، فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ نَقْصَ الإِيمَانِ وَنَفْيَ كَمَالِهِ لَا انْتِفَاءَ أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا يَكْفُرُ الْعَبْدُ بِتِلْكَ المَعَاصِي مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لَهَا, وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَكْذِيبِ الكِتَابِ وَالرَّسُولِ فِي تَحْرِيمِهَا، بَلْ يَكْفُرُ العَبْدُ بِاعْتِقَادِ حِلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا .

يَعْنِي إِذَا لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرُ وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ يَقِينًا فِي بَاطِنِهِ أَنَّهَا غَيرُ مُحَرَّمَةٌ مَعَ ثِبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهَا إِلَّا أَنَّهُ اعْتَقَدَ حِلَّهَا, وَاعْتِقَادُ حِلِّهَا مُسْتَلْزِمٌ لِتَكْذِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِهَا فَيَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ.

فَلَيْسَ شَرْطًا فِي الاِسْتِحْلَالِ أَنْ يَقَعَ الْمُسْتَحِلُّ فِي الْمَعْصِيَةِ, أَوْ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ اللهِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ أَوْ حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ بِتَحْرِيمِ اللهِ إِيَّاهُ, لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَقَعَ فِيهِ مَنْ اسْتَحَلَّهُ, بَلْ إِنَّهُ إِنْ اعْتَقَدَ الْحِلَّ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا مُرْتَدًّا .

وَهُنَا أَمْرٌ مُهِمٌ وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِالَّفْظِ, وَيَكُونُ بِالإِعْتِقَادِ, وَيَكُونُ بِالْجَوَارِحِ وَالْعَمَلِ، فَإِذَا قِيلَ لَنَا السُّجُودُ لِلصَّنَمِ, والإِسْتِهَانَةُ بِالْكِتَابِ - أَيْ بِالْقُرآنِ - وِسَبُّ الرَّسُولِ, وَالهَزْلُ بِالدَّينِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ الكُفْرِ الْعَمَلِيِّ فِيمَا يَظْهَرُ, فَلِمَا كَانَ مُخْرِجًا مِنْ الدِّينِ وَقَدْ عَرَّفْتُم الكُفْرَ الأَصْغَرَ بِأَنَّهُ الكُفْرُ العَمَلِي؟

وَالجَوَابُ: هَذِهِ الأَرْبَعُةُ وَمَا شَاكَلَهَا لَيْسَتْ هِيَ مِنْ الكُفْرِ العَمَلِيِّ إِلَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا وَاقِعَةً بِعَمَلِ الجَوَارِحِ فِيمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ, وَلَكِنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَ ذَهَابِ عَمَلِ الْقَلْبِ مِنْ نِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَانْقِيَادِهِ .

السُّجُودُ لِلصَّنَمِ!! إِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ إِلَّا مِمَّنْ ذَهَبَ عَمَلُ قَلْبِهِ مِنْ نِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَانْقِيَادِهِ، لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ مَعَ هَذِهِ شَيْءٌ مِنْ الإِيمَانِ, وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ عَمَلِيَّةً فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلكُفْرِ الإِعْتِقَادِيِّ وَلَابُدَّ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ لِتَقَعَ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ مَارِقٍ أَوْ مُعَانِدٍ مَارِدٍ.

 الَّذِي يَسُبُّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ, أَوْ يُلْقِيَ المُصْحَفَ فِي القَاذُورَاتِ أَوْ يَطَؤُهُ بِقَدَمَيْهِ, أَوْ يَسْجُدُ لِلصَّنَمِ, أَوْ يَهْزُلُ بِالدِّينِ, لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُنَافِقًا مَارِقًا أَوْ مُعَانِدًا مَارِدًا .

فَالْكُفْرُ الأَصْغَرُ لَمْ يُعَرَّفْ بِالْعَمَلِيِّ مُطْلَقًا بَلْ بِالْعَمَلِيِّ الْمَحْضِ, الَّذِي لَمْ يَسْتَلزِمْ الإِعْتِقَادَ, وَلَمْ يُنَاقِضُ قَوْلَ الْقَلْبِ وَلَا عَمَلَهُ.

إِلْتَفِتْ إِلَى هَذَا الْمَوْطِنِ جَيِّدًا,,, فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ يَقَعُ فِي الإِرْجَاءِ بِسَبَبِهِ .

وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا كُفْرٌ عَمَلِيٌّ, فَلَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ سَجَدَ لِلصَّنَمِ, وَلَا مَنْ اسْتَهَانَ بِالقُرآنِ فَوَطَأَهُ, أَوْ أَلْقَى بِهِ فِي الْقَاذُورَاتِ, أَوْ سَبَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غِيرِ ذَلِكَ... يَقُولَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ!!!

وَهَذَا خَطَأٌ مَحْضُ, هَذَا عَمَلُ الْمُرْجِئَةِ، بَلْ يُحْكَمُ عَلَى هَؤلَاءِ بِأَنَّهُم خَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ, لَأَنَّ هَذَا الأَمْرَ مُسْتَلزِمٌ لِلذَّهَابِ بِعَمَلِ الْقَلْبِ مِنْ إِخْلَاصِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَانْقِيَادِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ مَعَ ذَلِكَ.

وَالْكُفْرُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ إِلَى أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ, فَكَذَلِكَ الظُّلْمُ وَالفُسُوقُ وَالنِّفَاقُ, كُلُّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى أَكْبَرَ يُخرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ وَأَصْغَرَ لَا يُخرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.

الظُّلْمُ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ:

مِثَالُ الأَكْبَرِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي قَوْلِهِ ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ الظُّلمُ هَا هُنَا هُوَ الشِّركُ, هُوَ المُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ, لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ يَكُونُ كَاِفرًا، فَالظُّلمُ هَا هُنَا أَكْبَرُ, وَكَذَا قَولُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾, وَكَقْولِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِين مِنْ أَنصَارٍ﴾ .

وَمِثَالُ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ دُونَ ذَلِكَ " ظُلمٌ دُونَ ظُلْم " مَا ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ فِي الطَّلَاقِ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فَهَذا ظُلمٌ دُونَ ظُلْم هَذَا ظُلمٌ أَصْغَرَ، وَكَذَا قَولُهُ تَعَالَى ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَظُلْمًا دُونَ ظُلْم، قَالَ مَا هَا هُنَا ظُلْمًا دُونَ الظُّلْمِ الأَكْبَرِ .

وَكَذَا الفُسُوقُ مِنْهُ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ:

مِثَالُ الفُسُوقِ الأَكْبَرِ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي قَولِهِ ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَكَذَا قَولُهُ تَعَالَى ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فَهَذَا فُسُوقٌ أَكْبَرُ, لِأَنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَأَمَّا الفُسُوقُ الَّذِي دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الفُسُوقُ الأَصْغَرَ كَقَولِهِ تَعَالَى فِي الْقَذَفَةِ ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَكَقَولِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ، فُسُوقٌ دُونَ فُسُوق, هَذَا فُسُوقٌ أَصْغَرُ.

وَالنِّفَاقُ كَذَلِكَ مَنْهُ أَكْبَرُ وَمَنْهُ أُصْغَرُ:

مِثَالُ الأَكْبَرِ قَولُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ وَكَقَولِهِ سُبْحَانَهُ ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَمِثَالُ النِّفَاقِ الَّذِي دُونَ ذَلِكَ هُوَ النِّفَاقُ الأَصْغَرُ الَّذِي لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ, مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَولِهِ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» وَالحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, وَكَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بنُ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا...» الْحَدِيثَ .

النِّفَاقُ هُوَ الْكُفْرُ، يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

"النِّفَاقُ هُوَ الْكُفْرُ, أَنْ يَكْفُرَ بِاللهِ وَيَعْبُدَ غَيْرَهُ, وَيُظْهِرَ الإِسْلَامَ فِي الْعَلَانِيَةِ مِثْلُ المُنَافِقِينَ الَّذِين كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الإِعْتِقَادِيُّ, وَهُوَ النِّفَاقُ الأَكْبَرُ كَنِفَاقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ وَحِزْبِهِ, أَمَّا قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ» فَهَذَا مُنَافِقٌ عَلَى التَّغْلِيظِ, فَتُرْوَى الأَحَادِيثُ كَمَا جَاءَتْ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا, وَكَذَا قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ» .

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ:

"فَإِنَّا نُسَلِّمُ لَهُ, وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَفْسِيرَهَا, وَلَا نَتَكَلَّمُ فِيهَا وَلَا نُجَادِلُ فِيهَا, وَلَا نُفَسِّرُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ إِلَّا مِثْلَ مَا جَاءَت, لَا نَرُدُّهَا إِلَّا بِأَحَقَّ مِنْهَا"

فَذَكَرَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَاعِدَةَ السَّلَفِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِم رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ, وَذَكَرَ بَعْضَ الأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالفُسُوقِ عَلَى بَعْضِ الذِّنُوبِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عُلَمَائِنَا عَلَيْهِم الرَّحْمَةِ لَا يُفَصِّلُونَ فِي هَذَا الإِطْلَاقِ, لَأَنَّهُمْ يَرَونَ أَنَّ التَّفْصِيلَ سَوْفَ يُهَوِّنُ الزَّجْرَ وَالوَعِيدَ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ بِالتَّفْصِيلِ .

يَعْنِي إِذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» ثُمَّ قُلْنَا هَذَا كُفْرٌ دُونَ كُفْر, يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِمَعْصِيَةٍ لَا تُخْرِجُهُ مِنَ الْمِلَّةِ !!

هَانَ قِتَالُ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ, وَهَانَ سِبَابُ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ !!

فَكَانَ العُلَمَاءُ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ كَعَبْدِ الرَحْمَنِ بنِ مَهْدِي, وَالإِمَامِ أَحْمَدُ, وَيَحْيَّ بنَ مَعِينَ وَغَيْرِهُم رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ, كَانُوا يَرَوْنَ أَلَّا تُفَسَّرَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ, وَإِنَّمَا تُمَرُّ كَمَا جَاءَت لِيَعْمَلَ الوَعِيدُ عَمَلَهُ فِي نَفْسِ الْمُتَلَقِّي .

أَهْلُ السُّنَّةِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الكُفْرِ الأَصْغَر, وَالكُفْرِ الأَكْبَر, وَبَيْنَ النِّفَاقِ العَمَلِيِّ وَالنِّفَاقِ الاعْتِقَادِيِّ, وَبَيْنَ الفِسْقِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الكُفْر, وَالفِسْقِ الَّذِي بِمَعْنَى المَعْصِيَةِ.

أَهْلُ السُّنَّةِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَوْصَافِ وَالأَعْيَانِ, وَتُطْلَقُ الأَحْكَامُ عَلَى الأَوْصَافِ وَلَكِنْ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا عَلَى الأَعْيَانِ وَعِنْدَ تَنْزِيلِهَا عَلَى الأَعْيَانِ؛ لَابُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الشِّرُوطِ وَانْتِفَاءِ المَوَانِعِ, وَلَابُدَّ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الوَصْفِ وَالتَّعْيِينِ .

الأَحْكَامُ تُطْلَقُ عَلَى الأَوْصَافِ؛ لَكِنْ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا عَلَى المُعَيَّنِينَ لَابُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ الشِّرُوطِ وَانْتِفَاءِ المَوَانِعِ وَإِقَامَةِ الحُجَّة .

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ:

"وَكَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِلمُؤْمِن شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ, ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ, وَقَدْ يَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ بَعْضُ مَا يُوجِبُ النِّفَاق وَيَدْفَعُهُ اللهُ عَنْهُ, وَالمُؤْمِنُ يُبْتَلَى بِوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَبِوَسَاوِسِ الكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِهَا صَدْرُهُ, كَمَا قَالَت الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَإِنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ, فَقَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَفِي رِوَايَةٍ «مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ - أَيْ المَرْءُ مِمَّا يَجِدُهُ مِنْ وَسَاوِسِ الكُفْرِ فِي صَدْرِهِ وَمَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ - فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ - يَعْنِي الشَّيْطَانَ - إِلَى الوَسْوَسَةِ» .

وَالشَّيْطَانُ يُكْثِرُ تَعَرُّضَهُ لِلعَبْدِ إِذَا أَرَادَ الإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِ, وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ وَالانْطِرَاحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِهَذَا يَعْرِضُ الشَّيْطَانُ لِلمُصَلِّينَ مَا لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِمْ, وَيَعْرِضُ لِخَاصَةِ أَهْلِ العِلْمِ وَالدِّينِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلعَامَةِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ عِنْدَ طُلَّابِ العِلْمِ وَالعِبَادَةِ مِنَ الوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ العَوَامِ وَغَيْرِهِمْ.

وَلَكِنْ هَلْ يَدُلُّ هَذَا عَلَى انْحِطَاطِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ؟

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هَذَا صَرِيحُ الإِيمَانِ, وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الوَسْوَسَةِ».

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ بَعْضَ المَعَاصِي يُقَالَ عَنْهَا كُفْرٌ, إِلَّا أَنَّ هَذَا الكُفْرَ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ مِنَ المِلَّةِ, وَإِنَّمَا هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْر.

وَكَذَلِكَ النِّفَاقُ مِنْهُ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ, وَكَذِلِكَ أَيْضًا الفُسُوقُ مِنْهُ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ, وَكَذِلِكَ الظُّلْمُ مِنْهُ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ .

الأَكْبَرُ مُنَاقِضٌ لِأَصْلِ الإِيمَانِ وَأَمَّا الأَصْغَرُ فَمُنَاقِضٌ لِكَمَالِ الإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ إِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي هَذِهِ المَعَاصِي مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشُرْبِ الخَمْرِ وَمَا أَشْبَه مِمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» - أَي إِيمَانًا كَامِلًا – نَفَى عَنْهُ الإِيمَانَ المُطْلَقَ, وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ مُطْلَقَ الإِيمَان، نَفَى عَنْهُ الإِيمَانَ المُطْلَقَ الكَامِلَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رَيْبٌ وَلَا يَلْحَقُهُ مَا يَسُوؤُهُ، فَهَذَا مَنْفِيٌ عَنْهُ .

نَعَم لَمَّا نَقَصَ إِيمَانُهُ وَقَعَ فِي تِلْكَ المَعَاصِي، وَلَوْ كَانَ إِيمَانُهُ إِيمَانًا مُطْلَقًا - أَي كَامِلًا - مَا وَقَعَ فِيهَا، وَلَكِنْ لَمَّا نَقَصَ الإِيمَانُ وَقَعَ فِي المَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ هَلْ ذَهَبَ الإِيمَانُ بِالكُلِّيَّةِ ؟

لَمْ يَنْفِ عَنْهُ مُطْلَقَ الإِيمَان، فَهَذَا هُوَ الفَاسِقُ المِلِّيُّ وَهَذَا حُكْمُهُ فِي دِينِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الأُمُور تَعَلُّمًا صَحِيحًا, وَأَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الشِّنْشِنَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا مَنْ يَأْتِي مِنَ الكَلَامِ عَنْ التَّكْفِير, وَمَلْءِ آذَانِ الشَّبَابِ بِهَذَا الكَلَامَ الَّذِي لَمْ يُؤَصَّلْ عَلَى كِتَابٍ وَلَا عَلَى سُنَّةٍ, مِنْ أَجْلِ أَنْ يُكَفِّرُوا المُسْلِمِينَ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ ضَابِطٍ, أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَزِّلُوا التَّكْفِيرَ عَلَى الأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِ رَابِطٍ، وَكُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

التَّكْفِيرُ حَقُّ اللهِ وَحْدَهُ، التَّكْفِيرُ مِنَ الوَعِيدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ القَوْلَ تَكْذِيبًا  لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ, أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ, فَمِثْلُ هَذَا لَا يُكَفَّرُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الحُجَّة، قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ النُّصُوص, أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ, أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، فَلَابُدَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ طَالِبِ عَلْمٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِنَوَاقِضِ الإِسْلَامِ وَمَوَانِعِ التَّكْفِيرِ, حَتَّى يَكُونَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ بَيْنَ غُلُوِّ الخَوَارِجِ وَتَفْرِيطِ المُرْجِئَةِ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللهُ:

"إِنَّ المُتَأَوِّلَ الَّذِي قَصْدُهُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْفُر"، قَالَ "وَلِذَلِكَ كُنْتُ أَقُولُ لِلجَهْمِيَّةِ مِنَ الحُلُولِيَّةِ وَالنُّفَاةِ الَّذِينَ نَفَوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ العَرْشِ، لَمَّا وَقَعَتْ مِحْنَتُهُمْ أَنَا لَوْ وَافَقْتُكُمْ كُنْتُ كَافِرًا لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكُمْ كُفْرُ وَأَنْتُمْ عِنْدِي لَا تَكْفُرُونَ لِأَنَّكُمْ جُهَّالٌ".

وكَذَلِكَ يَقُولُ:

"إِنِّي دَائِمًا وَمَنْ يُجَالِسُنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا مَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إِلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إِلَّا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةِ" .

فَلَابُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ المَوَانِعِ كَالتَّأْوِيلِ وَالجَهْلِ وَالإِكْرَاهِ وَمَا أَشْبَه مِنْ مَوَانِعِ التَّكْفِيرِ مَعَ قِيَامِ الحُجَّةِ؛ لِأَنَّ لِلتَّكْفِيرِ شُرُوطًا وَمَوَانِعَ قَدْ تُنْتَفَي فِي حَقِّ المُعَيَّن، وَالتَّكْفِيرُ المُطْلَقُ لَا يَعْنِي تَكْفِيرَ المُعَيَّنِ إِلَّا إِذَا تَوَافَرَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ المَوَانِعُ.

فَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالْكُفْرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ, وَالحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مَرَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 فَمَا دَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ فَهُوَ كُفْرٌ وَمَا دَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْر فَلَيْسَ بِكُفْر.

فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كُفْرِهِ.

التَّكْفِيرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَرَدُّهُ كَسَائِرِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .

وَلِتَكْفِيرِ المُعَيَّنِينَ شُرُوطٍ؛ فَلَابُدَّ فِي التَّكْفِيرِ مِنْ شُرُوطٍ أَرْبَع:

الأَوَّلُ: ثُبُوتُ أَنَّ هَذَا القَوْلَ أَوْ الفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ .

لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَفَّرَ بِغَيرِ مُكَفِّرٍ، فَإِذَا رَأَى رَجُلًا قَالَ أَوْ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ أَمْرًا مِنَ الأُمُورِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُهُ مَعَ أَنَّ مَا يُكَفِّرُهُ بِهِ لَيْسَ بِمُكَفِّرٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَرَدُّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِ اللهِ, فَلَابُدَّ مِنْ ثُبُوتِ أَنَّ هَذَا القَوْلَ أَوْ الفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ: ثُبُوتِ قِيَامِهِ بِالمُكَلَّفِ.

الثَّالِثُ: بُلُوغُ الحُجَّةُ.

الرَّابِعُ: انْتِفَاءُ مَانِعِ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّهِ .

فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَذَا القَوْلَ أَوْ الفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ كُفْرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾،

وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ .

وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّه كُفْرٌ، إِذَا لَمْ يَثْبُتْ قِيَامُهُ بِالمُكَلَّفِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُرْمَى بِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِحْلَالِ دَمِ المَعْصُومِ بِلَا حَقٍّ, وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَكَذِلِكَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الحُجَّةُ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا

فَإِنْ كَانَ مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الحُجَّةُ, لَا يَدِينُ بِدِينِ الإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُعَامَلُ فِي الدُّنْيَا مُعَامَلَةَ المُسْلِمِ وَفِي الآخِرَةِ أَمْرُهُ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الحُجَّةُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دِينُ الإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةِ, إِذَا تَمَّتْ الشُّرُوطُ وَهِيَ ثُبُوتُ أَنَّ القَوْلَ أَوْ الفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ كُفْرٌ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَأَنَّ هَذَا قَدْ قَامَ بِالمُكَلَّفِ, وَأَنَّ المُكَلَّفَ قَدْ بَلَغَتْهُ الحُجَّةُ, وَلَكِنْ وُجِدَ مَانِعٌ فِي التَّكْفِيرِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ؛ لِوُجُودِ المَانِعِ .

وَمِنْ مَوَانِعِ التَّكْفِيرِ الإِكْرَاهُ، فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الكُفْرِ فَكَفَرَ وَكَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ لِوُجُودِ المَانِعِ.

وَمِنْ مَوَانِعِ التَّكْفِيرِ أَنْ يُغْلَقَ عَلَى المَرْءِ قَصْدُهُ فَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ, لِشِدَّةِ فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَ ذَكَرَ الرَّجُلَ الَّذِي فَقَدَ رَاحِلَتَهُ فِي الفَلَاةِ وَلَمَّا أَيِسَ مِنْ وُجْدَانِهَا نَامَ عَلَى يَقِينِ المَوْتِ فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا هِيَ عِنْدَهُ، فَقَالَ «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ» قَالَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ».

وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالجَهْلِ فَإِنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الأُصُولِ أَوْ فِي الفُرُوعِ مُعْتَبَرٌ العُذْرُ بِهِ وَلِكُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيل، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَينِ مُتَلَازِمَينِ إِلَى يَومِ الدِينِ، أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ حَرَّمَ الإِسْلَامُ حَمْلَ السِّلَاحِ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ المُسْلِمِينَ, وَحَرَّمَ المُشَارَكَةَ فِي ذَلِكَ،

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ  «سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءَ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ, فَمَنْ عَرِفَ بَرِئ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ, وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .

وَفِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ» أَي فَمَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيَّرَ لَا بِيَدِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ، وَهَذَا يَكُونُ خُرُوجًا حِينَئِذٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَلَكِنْ أَمْرُ القَلْبِ لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ، فيُنْكِرُ بِالقَلْبِ بَاطِنًا وَيَبْرَأُ بِالقَلْبِ بَاطِنًا، وَلَا يُعْدِّي بِذَلِكَ يَدًا وَلَا لِسَانًا.

وَفِي شَرْحِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ لِهَذَا الحَدِيث، قَالَ:

"هَذَا الحَدِيثُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالإِخْبَارِ بِالمُسْتَقْبَلِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَمَعْنَاهُ : مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ المُنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِنْكَارَهُ بِيَدِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ فَلْيَكْرَهُهُ بِقَلْبِهِ وَلْيَبْرَأَ .

 وَمَنْ عَرِفَ المُنْكَرَ وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ المُنْكَرُ, فَقَدْ صَارَتْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى البَرَاءَةِ مِنْ إِثْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ, بِأَنْ يُغَيِّرهٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ عَجِزَ فَلْيَكْرَهُهُ بِقَلْبِهِ .

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجِزَ عَنْ إِزَالَةِ المُنْكَرِ لَا يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ السِّكُوتِ، بَلْ إِنَّمَا يَأْثَمُ بِالرِّضَا بِهِ، أَوْ بِأَلَّا يَكْرَهُهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ" .

قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:"

لَا يَجُوزُ الخُرُوجُ عَلَى الخُلَفَاءِ بِمُجَرَّدِ الظُّلْمِ أَوْ الفِسْقِ مَا لَمْ يُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الإِسْلَامِ" .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهِ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ«مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا».

قَالَ الحَافِظ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَّتْحِ:

"{فَلَيْسَ مِنَّا}: أَي لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا أَوْ لَيْسَ مُتَّبِعًا لِطَرِيقَتِنَا؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم ِأَنْ يَنْصُرَهُ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ, لَا أَنْ يُرْعِبَهُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ قَتْلِهِ أَوْ لِقِتَالِهِ"

«فَمَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاح فَلَيْسَ مِنَّا».

قَالَ الإِمِامُ البَرْبَهَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

"وَلَا يَحِلُّ قِتَالُ السُّلْطَانِ وَلَا الخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَارَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ, وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِتَالُ السُّلْطَان فَإِنَّ فِيهِ فَسَادَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا".

وَالسُّلْطَانُ وَأَمْيرُ المُؤْمِنِينَ وَالخَلِيفَةُ هَذِهِ كُلُّهَا مُصْطَلَحَاتٌ كَانَتْ فِي العَصْرِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ الأَئِمَّةُ رَحِمَهُمْ اللهُ مَا كَتَبُوا، وَجَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَى المُسَمَّى وَلَا يُفَارِقَهُ، فَيُقَالُ الرَّئِيسُ أَوْ الحَاكِمُ أَوْ المَلِكُ أَوْ الأَمِيرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ الَّتِي لَهَا مُسَمَّىً وَاحِدًا، فَيَكُونُ الكَلَامُ مُنَزَّلًا عَلَى ذَلِكَ.

يَقُولُ الإِمِامُ البَرْبَهَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَا يَحِلُّ قِتَالُ السُّلْطَانِ وَالخُرُوجُ عَلَيْهِ"

أَيْ وَلَا يَحِلُّ الخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَارِ, وَإِنْ تَعَدَّى وَظَلَمَ, وَإِنْ اسْتَأْثَرَ بِالدُّنْيَا وَبِالأَمْوَالِ, وَوَقَعَ مِنْهُ حَيْفٌ وَظُلْمٌ عَلَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُخْرَجَ عَلَيْهِ، وَالأَمْرُ لَا يَأْتِي مِنْ هُنَا وَإِنَّمَا الأَمْرُ يَأْتِي مِنْ هُنَا، كَمَا قَالَ الحَسَنُ رَحِمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ بِأُصْبُعِهِ .

إِنَّ الأَمْرَ يَأْتِي مِنْ هَا هُنَا، لَا يَأْتِي مِنْ هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى الأَرْضِ, وَبَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ البَلَاءِ، مَا يَقَعُ مِنَ العَسْفِ, وَمِنَ الجَوْرِ, وَمِنَ الاسْتِئْثَارِ بِالثَّرْوَةِ وَبِالسُّلْطَانِ وَمَا أَشْبَهَ, إِنْ وَقَعَ فَهَذَا مِنَ البَلَاءِ، وَالبَلَاءُ لَا يُدْفَعُ بِالأَكُفِّ وَإِنَّمَا بِالاسْتِكَانَةِ, وَالإِخْبَاتِ وَالإِنَابَةِ وَالخُشُوعِ, وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، إِذْ هُوَ مُفَرِّجُ الكُرُوبِ, وَسَتِّيرُ العِيُوبِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قَالَ: "وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِتَالُ السُّلْطَان"

هَذَا لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ، هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ: كَالمُعْتَزِلَةِ وَالخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ .

مِنْ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُّ عَنْ المُنْكَرِ وَهُوَ يَعْنِي عِنْدَهُمْ الخُرُوجَ عَلَى الأَئِمَّةِ, وَمُجَالَدَةَ الأَئِمَّةِ بِحَدِّ السِّيُوفِ .

هَذَا مِنْ عَمَلِ أَهْلِ البِدَعِ وَمِنْ أُصُولِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ فِي أُصُولِهِمْ وَلَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالُ السُّلْطَان، فَإِنَّ فِيهِ فَسَادَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ, وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ, وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ, وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ, فَقَالَ: لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ, وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ, وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» .

فِي شَرْحِ الرِّيَاضِ قَالَ ابنُ عَلَّان رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

"قوله: {مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ} إِنَّمَا مَنَعَ مُقَاتَلَتَهُمْ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِنْوَانُ الإِسْلَام, وَالفَارِقُ بَيْنَ الكُفْرِ وَالإِسْلَام، إِنَّمَا مَنِعَ مِنْ مُقَاتَلَتِهُمْ حَذَرًا مِنْ تَهْيِيجِ الفِتَنِ, وَاخْتِلَافِ الكَلِمَةِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَشَدَّ نَكَارَةً مِنْ تَحَمُّلِ مُنْكَرِهِمْ, وَالمُضَارَّةِ عَلَى مَا يُنْكَرُ مِنْهُمْ".

رَوَى البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ - أَي أَذَعْتُهُ, تَحَمَّلْتُهُ وَرَوَيْتُهُ, وَأَدَّيْتُهُ - وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُوم» .

فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَحْفَظُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ فِيهَا ذِكْرٌ لِأَسْمَاءِ بَعْضِ الأُمَرَاءِ الظَّلَمَةُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ, وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الأَحَادِيث، وَلَمْ يَدْعُ المُسْلِمِينَ إِلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَالخُرُوجِ عَلَيْهِمْ, أَخْذًا بِمَبْدَأِ وُجُوبِ طَاعَةِ الوُلَاةِ الظَّلَمَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا, وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ أَبْو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ .

قَالَ الحَافِظُ:

"وَحَمْلُ العُلَمَاءُ الوعَاءَ الَّذِي لَمْ يَبُثَّه عَلَى الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَبْيِينُ أَسَامِي الأُمَرَاءِ - أُمَرَاءُ السُّوءِ - وَأَحْوَالِهِمْ وَزَمَنِهِمْ, وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَنِّي عَنْ بَعْضِهِ وَلَا يُصَرِّحُ بِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ وَحَتَّى لَا يَفْتَحَ بَابِ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ،

قَالَ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ رَأْسِ السِّتْينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ" يُشِيرُ إِلَى خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةِ, فَإِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ سِتِّينَ مِنَ الهِجْرَةِ, وَاسْتِجَابِ اللهِ دُعَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَ خِلَافَةِ يَزِيدَ بِسَنَةٍ" .

وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْن عِمَارَة قَالَ: (أَخْبَرَنِي جَدِّي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالمَدِينَةِ وَمَعَنَا مَرْوَانُ‏- أَيْ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَم- قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ الصَّادِقَ المَصْدُوقَ يَقُولُ: ‏«هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ‏»‏‏.‏

فَقَالَ مَرْوَانُ‏:‏ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فُلانٍ، وَبَنِي فُلانٍ لَفَعَلْتُ‏.، فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَان حِينَ مَلَكُوا بِالشَّامِ- يَقُول رَاوِي الحَدِيث عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْن عِمَارَة - فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ جَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَان حِيْنَ مَلَكُوا بِالشَّامِ، فَإِذَا رَآهُم غِلْمَانًا أَحْدَاثًا قَالَ لَنَا عَسَى هَؤلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْهُم، قُلْنَا أَنْتَ أَعْلَمُ) .

قَالَ الحَافِظُ:

"وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ المَذْكُورِينَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأَنَّ أَوَّلَهُمْ يَزِيدُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَة (رَأْسُ السِّتِّينَ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ)"

وَفِي هَذَا الحَدِيث أَيْضًا حُجَّةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْكِ القِيَامَ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ, وَلَوْ ظَلَمَ وَلَوْ تَعَدَّى وَلَوْ فَسَقَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِأَسْمَاءِ هَؤلَاءِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ, وَلَمْ يَأْمُر بِالخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّ هَلَاكَ الأُمَّةِ عَلَى أَيْدِيهِمْ, لِكَوْنِ الخُرُوجِ أَشَدَّ فِي الهَلَاكِ, وَأَقْرَبَ إِلَى الاسْتِئْصَالِ مِنْ طَاعَتِهِمْ، فَاخْتَارَ أَخَفَّ المَفْسَدَتَيْنِ وَأَيْسَرَ الأَمْرَيْنِ .

كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَرَى وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الوُلَاةِ, وَنَهَى عَنْ الخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْرِيقًا لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ, وَسَفْكًا لِدِمَائِهِمْ, وَإِشَاعَةً لِلفِتْنَةِ وَالفَوْضَى فِيمَا بَيْنَهُمْ .

رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ الْحَجَّاجِ, فَقَالَ: اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ, سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»

وَقَدْ بَايَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ, وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ الحُكْمُ وِرَاثِيًّا؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ جَعَلَ الخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِهِ لِيَزِيدَ, وَمَعَ ذَلِكَ بَايَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَبَايَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ.

وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ صِيَانَةِ دِمَاءِ أَبْنَاءِ الأُمَّةِ, وَمِنْ أَجْلِ المُحَافَظَةِ عَلَى المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلأُمَّةِ وَمِنْ أَجْلِ أَلا يَتَسَلَّطَ الأَعْدَاءُ عَلَى الأُمَّةِ, وَعَلَى دِينِ الأُمَّةِ, وَثَرْوَاتِ الأُمَّةِ, وَأَرْضِ الأُمَّةِ وَدِيَارِهَا .

قَالَ الحَافِظُ بْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ:

"لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ سِتِّينَ لِلهِجْرَةِ وَبُويِعَ لِيَزِيدَ، بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ" .

كُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ وَدَرْءًا لِلْفِتْنَةِ, وَمُحَافَظَةً عَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ.

بَلْ إِنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلَيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَصْلَحَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَتَنَازَلَ عَنْ الخِلَافَةِ، تَنَازَلَ عَنْهَا لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَعَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ . فَكَانَ مَاذَا؟!

النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ, وَعَسَى اللهُ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ».

فَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ الجَمَاعَةِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ, وَتَنَازَلَ الحَسَنُ بْنُ عَلَيٍّ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ عَنْ الخِلَافَةِ وَقَدْ بُويِعَ، تَنَازَلَ عَنْهَا لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ الحَسَنِ وَعَنْ عَلَيٍّ وَعَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ .

لَوْ كَانَ هَذَا عَلَى غَيْرِ المُقْتَضَى الشَّرْعِيِّ أَكَانَ النَّبِيُّ يَمْدَحُهُ؟!

يَقُولُ: «سَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ», وَهَذا الإِصْلَاحُ كَانَ بِتَنَازُلِهِ عَنْ الحُكْمِ، أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْدَحُ مَا لَيْسَ بِشَرْعٍ !!

هَذَا هُوَ الدِّينُ, وَهَذِهِ عَقِيدَةُ المُسْلِمِينَ, وَأَمَّا الخَوَارِجُ وَأَمَّا مَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ مِنَ التَّكْفِيرِيينَ فَهَؤلَاءِ يَتَوَعَّدُونَ مَثَلًا المِصْرِيينَ فِي يَوْمِ الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ .

يَقُولُونَ: سَنَنْزِل!! نَعَمْ مَا زِلْتُمْ فِي نُزُولٍ - أَنْزَلَكُمْ اللهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ-

يَقُولُونَ: سَنَنْزِلُ!! انْزِلُوا, مَازِلْتُمْ فِي سُفُولٍ وَنُزُولٍ .

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَفِي عُلُوٍّ وَارْتِقَاءٍ، فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ .

لِمَاذَا يَنْزِلُونَ ؟

هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَ مَثَلًا عَقِيدَتَكَ أَوْ حِسَّكَ أَوْ عَقْلَكَ: مَنْ يَضَعُ قُنْبُلَةً عَنْدَ خَطٍ حَدِيدِيٍ سَيَمْضِي عَلَيْهِ قِطَارٌ يَحْمِلُ عِدَّةَ آلَافٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِقَلْبٍ بَارِدٍ مَنْ أَجْلِ أَنْ يَضَعَ المُتَفَجِّرَاتِ فِي مُوَاجَهَةِ هَذَا القِطَارِ, قَدْ يَمُوتُ الآلَافِ !!

أَوَقَدْ رَخُصَ الدَّمُ إِلَى هَذَا الحَدِّ ؟! وَهَانَت الحَيَاةُ إِلَى هَذَا الحَدِّ ؟!

أَيُّ بَشَرٍ هَؤلَاءِ ؟!! وَهَلْ هَؤلَاءِ بَشَرٌ بِالحَقِيقَةِ ؟!!

مَنْ يَكُونُ هَؤلَاءِ ؟! أَهَؤلَاءِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى القِبْلَةِ ؟!!

حَتَّى هَؤلَاءِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا مُرْتَدِينَ. أَيَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِهَذِهِ الصُّورَةُ ؟!

يَقُولُونَ: سَنَنْزِلُ يَوْمَ الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ. لِمَاذَا تَنْزِلُونَ ؟

يَقُولُونَ: مِنْ أَجْلِ أَنْ نُعِيدَ الأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ.

وَيُؤَصِّلُ لَهُمْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَالزَّيْعِ مِنْ أَتْبَاعِ البِدَعِ وَالهَوَى, الَّذِينَ فَرُّوا كَالأَشَاوُسِ، فَرُّوا كَالشُّجْعَانِ !!

فَكَانُوا هُنَالِكَ فِي قَطَرٍ، فِي تُرْكِيَا، لَا يَقْدِرُونَ إِلَّا عَلَى الجِهَادِ الحَنْجُورِيِّ، ظَوَاهِرُ صَوْتِيَّةٌ، تُصَدِّعُ الأُمَّةَ صَبَاحَ مَسَاء, بِالهُرَاءِ وَالنَعِيبِ - نَعِيبِ الغِرْبَانِ وَنَعِيبِ البُومِ - عَلَى الأَطْلَالِ تَدْعُو إِلَى الخَرَابِ .

يَقُولُونَ لِلشَّبَابِ المَفْتُونِ الَّذِي لَيْسَتْ عِنْدَهُ قَوَاعِدُ وَلَا أُصُولٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالايِمَانِ وَالكُفْرِ, وَفِي تَكْفِيرِ المُسْلِمِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ .

يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّ الجُوَيْنِيَّ قَدْ قَرَّرَ فِي (غِيَاثِ الأُمَمِ) أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ خَلِيفَة، إِذَا شَغَرَ الزَّمَانُ مِنَ الإِمَامِ مَادِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا فَلَابُدَّ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ. إِلَى أَيْن ؟!!

لَقَدْ جَرَّبْنَا شُغُورَ الزَّمَانِ مِنَ الإِمَامِ لَمَّا سَقَطَتْ السُّلْطَةُ المَرْكَزِيَّةُ بَعْدَ أَحْدَاثِ الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ يَنَايِر .

فَسَقَطَتْ السُّلْطَةُ المَرْكَزِيَّةُ، وَانْسَاقَ النَّاسُ تِلْقَائِيًّا إِلَى تَشْكِيلِ لِجَانٍ شَعْبِيَّةٍ وَمَا أَشْبَه؛ مِنْ أَجْلِ حِيَاطَةِ المُمْتَلَكَاتِ وَالأَرْوَاحِ وَالأَعْرَاضِ .

وَهَذَا مَا قَصَدَهُ الجُوَيْنِيُّ عِنْدَ شُغُورِ الزَّمَانِ مِنَ الإِمَامِ, كَانَ يَفْتَرِضُ !!

فَقَالَ حِينَئِذٍ: إِذَا سَقَطَتْ السُّلْطَةُ المَرْكَزِيَّةُ - هَذَا شَرْطُهُ - يَعْنِي إِذَا خَلَا الزَّمَانُ مِنَ الإِمَامِ وَشَغَرَ مِنْهُ مَادِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا, فَحِينَئِذٍ يَكُونَ هَذَا .

لَمْ يَقُلْ: فَلْيَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرِيقُوا دِمَاءَ بَعْضٍ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى المُمْتَلَكَاتِ وَالأَرْوَاحِ وَالأَعْرَاضِ وَالدِّيَارِ وَالأَرَاضِي، وَإِنَّمَا لِحِفْظِ الأَمْنِ .

فَيَأْتِي هَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُولَ - مِنْ تُرْكِيَا - يَبُثُّهَا لِلشَّبَابِ المُسْلِمِ المَصْرِيِ .

يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا, انْزِلُوا، فَإِنَّ الفَوْضَى خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.

أَيُّهَا الكَذَّابُ الأَشِرُ، وَيْحَكْ!! قَطَعَ اللهُ لِسَانَكَ .

قَدْ جَرَّبَ النَّاسُ الفَوْضَى وَعَرَفُوا تَبِعَاتِهَا وَسَلَّمَ اللهُ .

تُجَرِّبُونَ الفَوْضَى هُنَا وَهُنَالِكَ عَلَى تُخُومِنَا وَحُدُودِنَا, فِي لِيبْيَا حَفِظَهَا اللهُ وَسَلَّمَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ, وَفِي سُورِيَّا سَلَّمَهَا اللهُ تَعَالَى وَحَفِظَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ .

وَفِي اليَمَنِ الَّتِي أَسْلَمَهَا الإِخْوَانُ المُسْلِمُونَ وَالتَّكْفِيرِيُّونَ بِثَوْرَتِهِمْ إِلَى الرَّوَافِضِ, صَارَتْ حُوثِيَّةً رَافِضِيَّةً !! اسْتَوْلَوْا عَلَى مَقَالِيدِ السُّلْطَةِ فِي اليَمَنِ، فَصَارَتْ رَافِضِيَّة !!

الحُوثِيُّونَ فَرْعُ حِزْبِ اللهِ فِي اليَمَنِ، حِزْبُ اللَّاتِ هُوَ فَرْعُ الآيَاتِ النَّجِسَةِ فِي إِيرَانِ . فَهَذِهِ شَوْكَةٌ فِي ظَهْرِ الأُمَّةِ .

الحُوثِيُّونَ الآنَ يَسْتَوْلُونَ عَلَى مَقَالِيدِ السُّلْطَةِ فِي اليَمَنِ .

أَلَا تُفِيقُونَ ؟!! مَاذَا تُرِيدُونَ ؟!!

مَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ لِبَلَدِكُمْ!! لِأَرْضِكُمْ!! لِعِرْضِكُمْ!! لِمَالِكُمْ!! لِأَرْوَاحِكُمْ!!

لِنِسَائِكُمْ!! لِبَنَاتِكُمْ!! لِأُمَّهَاتِكُمْ!! مَاذَا تُرِيدُون ؟!!

تُرِيدُونَ أَنْ يُسْتَبَاحَ الشَّرَفُ المَصُونُ ؟ مَاذَا تُرِيدُونَ ؟!!

يَنْبَغِي عَلَى كَلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا, وَأَنْ يُلْتَفَتَ لِمُسْتَقْبَلِ الإِسْلَامِ فِي بَلَدِهِ، بَلْ وَلِمُسْتَقْبَلِ هَذَا الوَطَنِ فِي العَالَمِ .

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ بَلَدَنَا وَجَمِيعَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ .

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ .

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان