ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ

ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ

((ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى

وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((ذِكْرُ اللهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْإِسْلَامِ))

فَذِكْرُ اللهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ قَدْرُهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَكَرَ ذَلِكَ -جَلَّ وَعَلَا- نَصًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَالْمَقْصِدُ: أَنْ يُذْكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُعْبَدَ فَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْتِفَاتًا صَحِيحًا عَسَى أَنْ تَتَغَيَّرَ حَيَوَاتُنَا؛ لِأَنَّنَا إِذَا سَمِعْنَا مَا يُقَالُ، وَتَأَمَّلْنَا فِيهِ بِقَصْدِ الْإِفَادَةِ مِنْهُ نَفَعَنَا اللهُ -تَعَالَى- بِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ وَغَيْرَ سَوِيٍّ، وَلَكِنْ يُؤْتِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ، لَوْ رَكَّزْنَا عَسَى أَنْ تَتَغَيَّرَ حَيَاتُنَا.

وَأَقُولُ لَكَ صَادِقًا عَلَى حَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ سِيَرُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: لَوْ أَخَذْتَ بِهَذَا الْأَصْلِ وَشَدَدْتَ عَلَيْهِ يَدَيْكَ، وَعَضَضْتَ عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ؛ تَغَيَّرَتْ حَيَاتُكَ.

((التَّرْغِيبُ فِي ذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا))

عِبَادَ اللهِ! ((يَأْمُرُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ ذِكْرًا كَثِيرًا مِنْ تَهْلِيلٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَسْبِيحٍ، وَمِنْ كُلِّ قَوْلٍ فِيهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْإِنْسَانُ أَوْرَادَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَأَوْرَادَ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعِنْدَ الْعَوَارِضِ وَالْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ يَسْبِقُ بِهَا الْعَامِلُ وَهُوَ مُسْتَرِيحٌ، وَكَفُّ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41-43].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ بِقُلُوبِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ، وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِهِ أَبَدًا.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؛ لِاجْتِمَاعِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا، هُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي يَرْحَمُكُمْ وَيُثْنِي عَلَيْكُمْ، وَتَدْعُوا لَكُمْ مَلَائِكَتُهُ وَتَسْتَغْفِرُ لَكُمْ لِيُخْرِجَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِ لَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْمَعاصِي إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالطَّاعَةِ، وَكَانَ اللهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دَائِمَ الرَّحْمَةِ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًاقَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فِي الصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ)).

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمْ لِرَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَصُنُوفِ الْمِنَنِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَجَمِيلِ الْمَآبِ)).

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].

إِنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشْرِ؛ وَمِنْهَا: الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَالذَّاكِرَاتِ.

الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَاسِعَةً تَمْحُو ذُنُوبَهُمْ، وَأَجْرًا عَظِيمًا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}؛ يَعْنِي: بِاللِّسَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا فِي مَقَامِ الْمَدْحِ لِلذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ.

وَالذَّاكِرُ اللهَ كَثِيرًا: مَنْ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ اللهِ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ أَوْ بِهِمَا، وَقِراءَةُ الْقُرْآنِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ مِنَ الذِّكْرِ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ وَصَلَّيَا جَمِيعًا رَكْعَتَيْنِ؛ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).

وَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُوْ عَمْرٍو ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الْمَرْءُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا، فَقَالَ: ((إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُثْبَتَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَفِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ إِذَا وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا)).

وَذِكْرُ اللهِ -تَعَالَى- لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ، غَيْرَ الذِّكْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يَجْعَلْ لِلذِّكْرِ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فِي السُّقْمِ وَالصِّحَّةِ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ)).

فَالذِّكْرُ: هُوَ الْعِبَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِلَا حَدٍّ تَنْتَهِي إِلَيْهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، وَبِلَا وَقْتٍ تَخْتَصُّ بِهِ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ} [طه: 130]، وَبِلَا حَالٍ تُسْتَثْنَى مِنْهُ، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وَبِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَى الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ خُتِمَتْ صِفَاتُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ كَمَا مَرَّ فِي تَمَامِ آيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَذْكُرُونَ اللهَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَفِي الْمَضَاجِعِ، وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَكُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَكَرَ اللهَ تَعَالَى)).

فَذِكْرُ اللهِ -تَعَالَى- الْعِبَادَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي لَمْ يَجْعَلْ لَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَكُلُّ الْعِبَادَاتِ جَعَلَ اللهُ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حَالِ الْعُذْرِ سِوَى الذِّكْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَمْ يَجْعَلْ لِلذِّكْرِ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تَرْكِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا أَقَلَّ الْمُوَفَّقِينَ الَّذِينَ هُدُوا إِلَى هَذَا النَّهْجِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَانَتْ أَلْسِنَتُهُمْ رَطْبَةً بِذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

((أَيْ: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ حَجِّكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ، وَذَبَحْتُمْ ذَبَائِحَكُمْ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمِنًى؛ فَاذْكُرُوا اللهَ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ مَفَاخِرَ آبَائِكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ أَكْثَرَ ذِكْرًا؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلذِّكْرِ وَالْحَمْدِ مُطْلَقًا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 5]؛ فَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ كُلِّ عَمَلٍ، وَأَجْرُهُ فَوْقَ كُلِّ أَجْرٍ، وَهُوَ لَيْسَ كَبِيرًا فَحَسْبُ؛ بَلْ هُوَ أَكْبَرُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ عِدَّةَ مَعَانٍ هِيَ جَدِيرَةٌ بِالِاهْتِمَامِ تُوَضِّحُ كَوْنَ الذِّكْرِ أَكْبَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ:

* أَنَّ ذِكْرَ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ.

* أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ، فَكَانَ ذِكْرُهُ لَكُمْ أَكْبَرَ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ، {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ}.

* أَنَّ ذِكْرَ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ فَاحِشَةٌ وَمُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا تَمَّ الذِّكْرُ مَحَقَ كُلَّ خَطِيْئَةٍ وَمَعْصِيَةٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي, وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا, وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ, وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ, وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ, وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟))‏.‏

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُفَرِّدُونَ, هُمُ الذَّاكِرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ؛ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)).

قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)).

وَرَوَى البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ النَّاسَ إِذَا اجْتَمَعُوا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَأَنْ يَتَذَكَّرُوا آلَاءَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَأَنْ يَتَعَلَّمُوا دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي حِلَقِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ, فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا -يَعْنِي نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا-: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ, فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.

لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَلَائِكَةٌ سَيَّارُونَ سَيَّاحُونَ طَوَّافُونَ, يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، وَلَيْسِ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا أَنْ يَلْتَمِسُوا الذَّاكِرِينَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَالذَّاكِرَاتِ, فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ نَادَى بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضًا أَنْ هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ, فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَأْتِي الْمَلَائِكَةُ يَحُفُّونَ الْجَالِسِينَ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ, وَمَا يَزَالُ الْمَلَكُ يَضَعُ جَنَاحَيْهِ عَلَى جَنَاحَيْ أَخِيهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ-.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ))، قَالَ: ((فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا))، قَالَ: ((فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟)).

قَالُوا: ((يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ)).

قَالَ: ((فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟)).

قَالَ: ((فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ)).

قَالَ: ((فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا)).

قَالَ: ((يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟)).

يَقُولُونَ: ((يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ)).

قَالَ: ((يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا)).

قَالَ: ((يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً)).

قَالَ: ((فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ)).

قَالَ: ((يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا)).

قَالَ: ((يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: ((يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً)).

قَالَ: ((فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).

قَالَ: ((يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ)).

قَالَ: ((هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).

وَعَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ مَا هِيَ حَلْقَةُ الذِّكْرِ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ..

أَهِيَ تِلْكَ الْحَلْقَاتِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَهْوُوسِينَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ كَأَنَّمَا بِهِمْ مَسٌّ مِنَ الشَّيَاطِينِ، لَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ، وَيُحَرِّفُونَ الذِّكْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ!! أَهِيَ تِلْكَ؟!!

إِنَّ الْفَضِيلَةَ وَسَطٌ بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ؛ فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْقَبْرِيِّينَ الْخُرَافِيِّينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا تَعَامَلُوا مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَلْقِهِ -وَهُوَ ذِكْرُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--؛ تَعَامَلُوا مَعَهُ تَعَامُلًا بِدْعِيًّا؛ فَوَقَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالشُّرُورِ!!

وَقَابَلَهُمْ طَائِفَةٌ تَشَدَّدُوا فِي هَذَا، وَكَأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ -الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْخُرَافِيُّونَ، فَبَدَّلُوهَ وَحَرَّفُوهُ، وَغَيَّرُوهُ وَابْتَدَعُوا فِيهِ- كَأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ!!

فَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الذِّكْرِ؛ عَدُّوهُ خُرَافِيًّا صُوفِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّ هَذَا أَصْلُ الْأُصُولِ، وَالذِّكْرُ بَابُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْمَرْءُ عَلَى اللهِ مِنْ بَابٍ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ لَهُ، وَالِانْكِسَارِ وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ؛ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى, وَالضِّيَاءُ فِي ((المُخْتَارَةِ)) وَحَسَّنَهُ, وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ سَهْلِ بنِ الخَنْظَلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ، فَيَقُومُونَ، حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ: قُومُوا قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الكَبِيرِ)), وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا)).

قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟

قَالَ: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى, وَالبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)), وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

((أَفْضَلُ الذِّكْرِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ))

إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَكْبَرُ مِنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ وَعَلَى قَوْمِهِ.

وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقُرْآنَ رِفْعَةٌ وَسُؤْدَدٌ، وَفَخْرٌ وَفَخَارٌ لِنَبِيِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]: وَإِنَّهُ لَفَخَارٌ وَشَرَفٌ، وَسُؤْدَدٌ وَعِزَّةٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هِدَايَةً وَنُورًا.

الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ خَاتَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللهِ، الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} [الشعراء: 193-195].

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.

وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرِّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.

وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.

وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يُبْقِ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:

1- الْمَغْفِرَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.

2- وَرِفْعَةَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

3- وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ الْمُتَضَمِّنَ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

 ((أَوْجُهُ الذِّكْرِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

لَقَدْ ذَكَرَ العَلَّامَةُ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مَدَارِجِ السَّالِكِينَ)): ((أَنَّ الذِّكْرَ وَرَدَ فِي القُرْآنِ المَجِيدِ عَلَى عَشْرَةِ أَوْجُهٍ, وَدَلَّلَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ:

الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].

الثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

الثَّالِثُ: تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِكَثْرَتِهِ وَاسْتِدَامَتِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

الرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالجَزَاءُ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

الْخَامِسُ: الْإِخْبَارُ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنْهُ بِغَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذِكْرَهُ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

السَّابِعُ: الْإِخْبَارُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتِمَةَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا كَانَ مِفْتَاحَهَا؛ قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَأْنِ الصِّيَامِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

وَفِي شَأْنِ الحَجِّ قَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

وَفِي شَأْنِ الصَّلَاةِ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].

وَفِي شَأْنِ صَلَاةِ الجُمُعَةِ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

التَّاسِعُ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَهْلِ الذِّكْر أَنَّهُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191].

الْعَاشِرُ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُوَ قَرِينُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرُوحُهَا، فَمَتَى عُدِمَتْهُ؛ كَانَتْ كَالْجَسَدِ بِلَا رُوحٍ؛ قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وَفِي الجِهَادِ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45])).

((ذِكْرُ اللهِ وَظِيفَةُ الْحَيَاةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْأُصُولِ الْأَصِيلَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: الذِّكْرَ, وَهَذَا الْأَصْلُ غَفَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا الْأَصْلَ, وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِصَابَةِ مِنْهُ بِسَهْمٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ وَخَطَرَهُ.. وَلِأَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ؛ كَبِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَفِي آخِرَتِهِ.

إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: هِيَ الْقِيَامُ بِعِبَادَةِ اللهِ؛ كَمَا قال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], أَيْ: لِتَكُونَ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَةً لِي؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُتَحَتِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَلَّا تُغَادِرَ الْعِبَادَةُ شَيْئًا مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا وَشَمِلَتْهُ.

وَالذِّكْرُ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهَا وَمَبْنَاهَا, وَلَيْسَ لِلْعِبَادَةِ مَعْنًى وَلَا قِيمَةٌ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعِبَادَةُ ذِكْرًا لِلهِ.

وَشُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ لِلْعِبَادَةِ كَشُمُولِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلْحَيَاةِ, وَتَعْلُو الْعِبَادَةُ وَيَزْدَادُ شَأْنُهَا بِقَدْرِ تَمَكُّنِ ذِكْرِ اللهِ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ الْقَائِمِ بِهَا.

فَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ لِلْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَا كَانَتْ إِلَّا لِلذِّكْرِ؛ إِذْ إنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى, وَالْمَقْصُودُ بِهَا: تَحْصِيلُ ذِكْرِ اللهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

إِنَّ مِنْ أَجْلَى وَأَوْضَحِ خَصَائِصِ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ: الشُّمُولِيَّةَ.

قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ ((ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالِابْتِدَاعِ)): ((شُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ:

النَّاحِيَةُ الأُوْلَى: شُمُولِيَّةُ الْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ لِكُلِّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَكُلِّ أَوْقَاتِهِ، وَكِفَايَتُهَا لِجَمِيعِ حَاجَاتِهِ, وَإِشْبَاعُهَا لِلْجَوَانِبِ الْعَاطِفِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ لَدَيْهِ؛ كَعَاطِفَتِهِ لِلتَّعَبُّدِ، وَمَيْلِهِ إِلَى كَنَفٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ, وَذَلِكَ بِإِشْعَارِهِ بِمَعِيَّةِ اللَّهِ وَحِمَايَتِهِ, وَلِأَوْجَاعِهِ وَأَسْقَامِهِ وَمَخَاوِفِهِ جَاءَتْ أَذْكَارُ الرُّقَى وَالتَّعَوُّذِ مِنْ كُلِّ الشَّرِّ وَكُلِّ الأَشْرَارِ مِنَ الْإِنْسِ كَانُوا أَوِ الْجِنِّ.

بَلْ إِنَّ شُمُولِيَّةَ الذِّكْرِ جَاءَت لِأُمُورِ الْإِنْسَانِ الْعَارِضَةِ؛ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَمُوَاسَاةٍ, فَقَدْ جَاءَ الذِّكْرُ الشَّرْعِيُّ شَامِلًا لِهَذِهِ النَّوَاحِي وَتِلْكَ الْأَحْوَالِ, شُمُولِيَّةً أَتَتْ عَلَى كُلِّ تَقَلُّبَاتِ الْإِنْسَانِ بَيْنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ذِكْرِهِ لِهَذَا المَعْنَى: ((وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَبَدَنِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَعَامَّةُ ذَلِكَ يُشْرَعُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ, فَيُشْرَعُ لَهُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحَمْدِهِ عَلَى أَكْلِهِ، وَشُرْبِهِ، وَلِبَاسِهِ, وَجِمَاعِهِ لِأَهْلِهِ, وَدُخُولِهِ مَنْزِلَهُ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ, وَدُخُولِهِ الْخَلَاءَ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ, وَرُكُوبِهِ دَابَّتَهِ, وَيُسَمِّي عَلَى مَا يَذْبَحُهُ مِنْ نُسُكٍ وَغَيْرِهِ.

وَيُشْرَعُ لَهُ حَمْدُ اللهِ عَلَى عُطَاسِهِ, وَعِنْدَ رُؤيَةِ أَهْلِ البَلَاءِ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا, وَعِنْدَ الْتِقَاءِ إِخْوَانِهِ وَسُؤالِ بَعْضِهِم بَعْضًا عَنْ حَالِهِ, وَعِنْدَ تَجَدُّدِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النِّعَمِ, وَانْدِفَاعِ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ النِّقَمِ, وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ, وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ, يَحْمَدُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَيُشْرَعُ لَهُ دُعَاءُ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِ السُّوقِ, وَعِنْدَ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الدِّيَكَةِ بِاللَّيْلِ, وَعِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ, وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ, وَعِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِ الرِّيحِ, وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ, وَعِنْدَ رُؤْيَةِ بَاكُورَةِ الثِّمَارِ.

وَيُشْرَعُ -أَيْضًا- ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْكَرْبِ, وَحُدُوثِ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّهِ, وَعِنْدَ الْخُرُوجِ لِلسَّفَرِ, وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَنَازِل فِي السَّفَرِ, وَعِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ.

وَيُشْرَعُ التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ عِنْدَ الْغَضَبِ, وَعِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُهُ فِي مَنَامِهِ, وَعِنْدَ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ, وَيُشْرَعُ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى مَا يَظْهَرُ الْخِيَرَةُ فِيهِ, وَتَجِبُ التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135], فَمَنْ حَافَظَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ لِسَانُهُ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ)).

وَشُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ هَذِهِ هِيَ الَّتِي حَدَتْ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ أَلَّفُوا فِي الْأَذْكَارِ إِلَى تَسْمِيَةِ كُتُبِهِم بِـ ((عَمَلُ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))؛ وَذَلِكَ لِلتَّدْلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ وَقْتٌ لِلْمُسْلِمِ وَلَا حَالٌ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لَمْ يَأْتِهِ فِيهَا مِنْ هَدْيِ الشَّارِعِ ذِكْرُهُ؛ فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِعِبَادِهِ وَسِيلَةً وَصِلَةً بَيْنَهُم وَبَيْنَهُ لَيْسَ لَهَا انْقِطَاعٌ.

وَآخِرُ شَيْءٍ أَنْتَ فِي كُلِّ هَجْعَةٍ = وَأَوَّلُ شَيْءٍ أَنْتَ حِينَ هُبُوبِي

وَإِذَا ((شَرَعَ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِ أَذْكَارًا كَثِيرَةً مُسْتَغْرِقَةً كُلَّ أَوْقَاتِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ, فِي صَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى العَبْدُ مُرْتَبِطًا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ بِخَالِقِهِ, يَحْتَمِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِحِمَاهُ, وَيَتَحَصَّنُ بِعَظَمَتِهِ وَأَسْمَائِهِ, وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ)).

وَلَوْ تَصَفَّحْنَا كُتَبَ السُّنَّةِ وَقَرَأْنَا فِيهَا أَبْوَابَ الدُّعَاءِ؛ وَجَدْنَا أَدْعِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَشَأْنٍ مِنْ شُئُونِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الكَرْبِ.

وَهَذِهِ هِيَ النَّاحِيَةُ الْأُولَى مِنْ شُمُولِيَّةِ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ، وَهِيَ الْأَهَمُّ, فَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُفَرِّطْ فِي شَيْءٍ؛ مَا كَانَ لِيُفَرِّطَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَيَبْقَى فِيهِ مِسَاحَةٌ لِمُسْتَزِيدٍ, كَيْفَ وَهُوَ ذَاتُهُ ذِكْرٌ؟!! فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- ذِكْرًا فَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9], وَوَصَفَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالذِّكْرِ فَقَالَ: {وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء: 50], وَأْخَبَرَ -سُبْحَانَهُ- بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ لَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].

وَبِذَلِكَ أَصْبَحَ المُعْرِضُ عَنِ الْقُرْآنِ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ, وَسُنَّةُ سَيِّدِ الذَّاكِرِينَ لَمْ تُبْقِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ لِقَائِلٍ مَقَالًا, وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ يِكُونُ النِّقَاشُ مَعَ الَّذِينَ ضَاقَ بِهِمُ الْوَاسِعُ، وَلَمْ يَسَعْهُمُ الشَّامِلُ، وَأَخَذُوا يَتَعَاطَوْنَ بِالزِّيَادَةِ فِي دِينِ اللَّهِ الْكَامِلِ.

النَّاحِيَةُ الثَّانِيَةُ: شُمُولِيَّةُ الذِّكْرِالشَّرْعِيِّ لِفِكْرِ الْإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ, وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ الَّتِي لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهَا فِي النَّاحِيَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ لَمْ يَشْمَل غَيْرَ الْحَدِيثِ عَنِ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، وَالذِّكْرُ مَعْنَاهُ فِي التَّعْرِيفِ أَنْوَاعٌ, وَوَاضِحٌ شُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ لِلْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَالْفِكْرِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِنْسَانُ بِكُلِّيَّتِهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ عَابِدًا لِلَّهِ ذَاكِرًا لَهُ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

فَتَفَكُّرُ الإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ, وَقَصْدُهُ قَبْل أَنْ يَعْمَل, فَضْلًا عَنْ كُلِّ حَرَكَةٍ مِنْ حَرَكَاتِ جَوَارِحِهِ, وَمُدَارَسَتُهُ لِلْعِلْمِ لِيَعْلَمَ أَيْنَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ حَتَّى يَأْتِيَ أَوْ يَذَرَ, وَتَأَمُّلُهُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ وَحِكَمِهِ؛ كُلُّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ إِذَا كَانَ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ وَلِأَجْلِهِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَشُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ كَمَا شَمِلَتْ وَقْتَ المُسْلِمِ وَأَحْوَالَهُ فَهِيَ شَامِلَةٌ لِفِكْرِهِ وَقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ)).

 ((جُمْلَةٌ مِنَ الْأَذْكَارِ الْمُوَظَّفَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))

لَقَدْ وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ؛ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ بِالْقَوْلِ وَالْقَلْبِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].

الَّذِينَ آتَاهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْعَقْلِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنُّهَى.. هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ اللهَ -تَعَالَى- قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.

وَلَقَدْ شَرَعَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: ((اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ))، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: ((اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ؛ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي؛ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ)).

وَكَذَلِكَ عَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَذْكَارًا تُقَالُ عِنْدَ الْمَنَامِ، وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ؛ قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: ((بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا))، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَذْكَارًا تُقَالُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ ((منَ قَالَ -يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللهِ, تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.. يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ, وَوُقِيتَ، وَهُدِيتَ, وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ, فَيَقُولُ لِشَيْطَانٍ آخَرَ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟!!)). خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَقَالَتْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ)). خَرَّجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ -تَعَالَى- عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ -تَعَالَى- عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ -تَعَالَى- عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ)). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَذْكَارًا تُقَالُ عِنْدَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا بُنَيَّ! سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ -تَعَالَى- فِي أَوَّلِهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ -تَعَالَى- فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ)). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَقَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا)). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ)).

* إِنَّ ذِكْرَ اللهِ يَلْتَزِمُهُ الْمُسْلِمُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَالسُّوقُ لَهُ دُعَاءٌ يَقُولُهُ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْلِمَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ)). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ.

كَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُعْجِبُهُ وَيَخَافُ عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ)). حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُعْجِبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيُبَرِّكْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ)).

وَكَذَلِكَ عِنْدَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَاءِ، يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ)). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ)).

كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي الْكَرْبِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: ((يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)).

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ -أَوْ فِي الْكَرْبِ-؟ اللهُ، اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ.

هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.

وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا، ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ، وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ؛ جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.

هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي سَنَّهَا لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، مَنْ وَاظَبَ عَلَيْهَا كَانَتْ حِرْزًا لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَنَجَاةً لَهُ مِنَ الْغَفْلَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

اللهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَتَنَزُّهِهِ عَنِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ، وَفِي اشْتِمَالِهِ عَلَى أَخْبَارِ الْمَاضِينَ، وَقَصَصِ الْأَوَّلِينَ، وَأَخْبَارِ الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ، كِتَابًا مَصُونًا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، مُتَمَاثِلَ الْكَمَالِ، وَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فِيهِ مَطْوِيَّاتٌ بَيْنَ جُمَلِهِ وَبَيْنَ أَجْزَاءِ الْجُمْلَةِ مِنْهُ، هِيَ مَحْذُوفَاتٌ لَفْظًا، تُدْرَكُ عَنْ طَرِيقِ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَاللَّوَازِمِ الْفِكْرِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِعْجَازِ الْإِيجَازِيِّ فِي الْقُرْآنِ.

تَنْفَعِلُ قُلُوبُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ حِينَمَا يَسْمَعُونَ أَوْ يَتْلُونَ آيَاتٍ فِيهَا تَرْهِيبٌ مِنْ عِقَابِ اللهِ، وَمَشَاعِرُ الْخَشْيَةِ وَالْوَجَلِ الَّذِي يَحْدُثُ فِي قُلُوبِهِمْ يَمْتَدُّ إِلَى أَعْصَابِهِمُ الْوَاصِلَةِ إِلَى جُلُودِهِمْ، فَتَرْجُفُ جُلُودُهُمُ الَّتِي تَتَرَكَّزُ فِيهَا النِّهَايَاتُ الْعَصَبِيَّةُ، ثُمَّ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ بِمُتَابَعَةِ مَسِيرَتِهِمُ الْإِيمَانِيَّةِ، فَيَصِلُونَ إِلَى مَرْحَلَةِ الطُّمَأْنِينَةِ الْكَامِلَةِ، فَيَغْلِبُ رَجَاؤُهُمْ بِعَفْوِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، وَيَطْمَئِنُّونَ إِلَى أَنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَأَحَاطَهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ.

ذَلِكَ الْأَمْرُ الْحَمِيدُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، هَذَا هُوَ هُدَى اللهِ لِلْمُقِرِّينَ بِالْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ؛ إِذِ ارْتَقَوْا بِتَوْفِيقِهِ -سُبْحَانَهُ- مِنْ مَرْتَبَةِ الْخَشْيَةِ إِلَى الْخُشُوعِ، إِلَى الطُّمَأْنِينَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ.

وَمَنْ يَحْكُمِ اللهُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ -لِأَنَّهُ ضَلَّ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ-؛ فَمَا لَهُ مِنْ حَاكِمٍ يَحْكُمُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

وَاذْكُرْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ! اذْكُرْ رَبَّكَ سِرًّا فِي نَفْسِكَ، وَاسْتَحْضِرْ عَظَمَتَهُ فِي قَلْبِكَ؛ مُتَذَلِّلًا لَهُ، خَائِفًا مِنْهُ، وَاذْكُرْهُ -سُبْحَانَهُ- بِاللِّسَانِ ذِكْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي وَقْتَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُفَضَّلَيْنِ، فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَفِي آخِرِ النَّهَارِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ.

وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي خَلْقِهِ، وَتَصَارِيفِهِ فِي كَوْنِهِ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

وَمَنْ يَجْعَلْ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ عَلَى بَصَرِ بَصِيرَتِهِ غِشَاوَةً تَجْعَلُهُ ضَعِيفًا كَلِيلًا عَنِ الرُّؤْيَةِ فِي ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِ، فَيُعْرِضُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ آيَاتِ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ، مُتَّبِعًا أَهْوَاءَهُ وَشَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ مِنْ دُنْيَاهُ؛ نُهَيِّءْ لَهُ شَيْطَانًا عَاتِيًا مُتَمَرِّدًا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْجِنِّ، وَنَضُمُّهُ إِلَيْهِ، وَنُسَلِّطُهُ عَلَيْهِ ضِمْنَ سُنَّتِنَا السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تَأْتِي بِأَسْبَابٍ مِنْ إِرَادَاتِ الْمَوْضُوعِينَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ مُصَاحِبٌ مُلَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُ، يُزَيِّنُ لَهُ الْعَمَى، وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى هُدًى.

((مِنْ كُنُوزِ الْأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ ذِكْرَ اللهِ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي قَلْبِهِ وَفِي قَوْلِهِ وَفِي قَبْرِهِ وَيَوْمَ حَشْرِهِ.

((وَمَنزِلَةُ الذِّكْرِ مِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5], وَهِيَ مَنْزِلَةُ السَّالِكِينَ إِلَى اللهِ الْكُبْرَى, الَّتِي مِنْهَا يَتَزَوَّدُونَ وَفِيهَا يَتَّجِرُونَ، وَإِلَيْهَا دَائِمًا يَتَرَدَّدُونَ.

وَالذِّكْرُ مَنْشُورُ الْوَلَايَةِ الَّذِي مَنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ وَمَنْ مُنِعَهُ عُزِلَ، وَهُوَ قُوتُ قُلُوبِ السَّائِرِين, الَّذِي مَتَى فَارَقَهَا صَارَتِ الْأَجْسَادُ لَهَا قُبُورًا، وَعِمَارَةُ دِيَارِهِمْ الَّتِي إِذَا تَعَطَّلَتْ عَنْهُ صَارَتْ بُورًا، وَهُوَ سِلَاحُهُمُ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يُطْفِئُونَ بِهِ الْتِهَابَ الطَّرِيقِ, وَدَوَاءُ أَسْقَامِهِمُ الَّذِي مَتَى فَارَقَهُمُ انْتَكَسَتْ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.

إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوِينَا بِذِكْرِكُمُ = وَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ

بِهِ يَسْتَدْفِعُونَ الْآفَاتِ, وَيَسْتَكْشِفُونَ الْكُرُبَاتِ, وَتَهُونُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمُصِيبَاتُ، إِذَا أَظَلَّهُمُ الْبَلَاءُ فَإِلَيْهِ مَلْجَؤُهُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَإِلَيْهِ مَفْزَعُهُمْ, فَهُوَ رِيَاضُ جَنَّتِهِمُ الَّتِي فِيهَا يَتَقَلَّبُونَ, وَرُءُوسُ أَمْوَالِ سَعَادَتِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ, يَدَعُ الْقَلْبَ الْحَزِينَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا، وَيُوصِّلُ الذَّاكِرَ إِلَى الْمَذْكُورِ، بَلْ يُعِيدُ الذَّاكِرَ مَذْكُورًا.

وَعَلَى كُلِّ جَارِحَةٍ مِنَ الْجَوَارِحِ عُبُودِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالذِّكْرُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، بَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِذِكْرِ مَعْبُودِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ؛ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ, وَكَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ قِيعَانٌ وَهُوَ غِرَاسُهَا، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ بُورٌ خَرَابٌ وَهُوَ عِمَارَتُهَا وَأَسَاسُهَا.

وَهُوَ جِلَاءُ الْقُلُوبِ وَصِقَالُهَا، وَدَوَاؤُهَا إِذَا غَشِيَهَا اعْتِلَالُهَا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الذَّاكِرُ فِي ذِكْرِهِ اسْتِغْرَاقًا؛ ازْدَادَ لمَذْكُورِهِ مَحَبَّةً وَإِلَى لِقَائِهِ اشْتِيَاقًا، وَإِذَا وَاطَأَ فِي ذِكْرِهِ قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ؛ نَسِيَ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ كُلَّ شَيْءٍ, وَحَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ, وَكَانَ لَهُ عِوَضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، بِهِ يَزُولُ الْوَقْرُ عَنِ الْأَسْمَاعِ, وَالْبَكَمُ عَنِ الْأَلْسُنِ, وَتَنْقَشِعُ الظُّلْمَةُ عَنِ الْأَبْصَارِ, زَيَّنَ اللَّهُ بِالذِّكْرِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ.

وَالذِّكْرُ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَفَقَّدُوا الْحَلَاوَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.. فَإِنْ وَجَدْتُمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ)).

وَبِالذِّكْرِ يَصْرَعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِذَا تَمَكَّنَ الذِّكْرُ مِنَ الْقَلْبِ؛ فَإِذِا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ صُرِعَ كَمَا يُصْرَعُ الْإِنْسَانُ إِذَا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ، فَتَجْتَمِعُ الشَّيَاطِينُ عَلَى الْمَصرُوعِ مِنَ الشَّيَاطِين فَيَقُولُونَ: مَا لِهَذَا؟ فَيُقَالُ: قَدْ مَسَّهُ الْإِنْسِيُّ!!)).

وَالذِّكْرُ رُوحُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ عَنِ الذِّكْرِ كَانَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ)).

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ كُنُوزِ الْأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ وَفَضَائِلِهَا:

فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ, قَالَ:

«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ, وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ».

وَقَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ, وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».

وَفِيهِمَا أَيْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ».

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ.. أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَخَرَّجَ أَيْضًا: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟».

فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟

قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ؛ فَتُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ تُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».

وَفِيهِ أَيْضًا: عَنْ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟».

قَالَتْ: نَعَمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ, سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ».

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى -أَوْ حَصًى- تُسَبِّحُ بِهِ, فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا، أَوْ أَفْضَلُ؟».

فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ, وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ مِثْلَ ذَلِكَ». خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ».

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ؟

قَالَ: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا, سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟

قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي».

فَلَمَّا وَلَّى الْأَعْرَابِيُّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ».

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!

قَالَ: «قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَكُنْ ذَاكِرًا لِلهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ= فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ

فَذِكْرُ إِلَهِ الْعَرْشِ سِرًّا وَمُعْلَنًا= يُزَيلُ الشَّقَا وَالْهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ

وَيَجْلِبُ لِلْخَيْرَاتِ دُنْيَا وَآجِلًا= وَإِنْ يَأْتِكَ الْوَسْوَاسُ يَوْمًا يُشَرِّدُ

فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُخْتَارُ يَوْمًا لِصَحْبِهِ= بِأَنَّ كَثِيرَ الذِّكْرِ في السَّبْقِ مُفْرِدُ

وَوَصَّى مُعَاذًا يَسْتَعِينُ إِلَهَهُ= عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بالْحُسْنِ يَعْبُدُ

وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدَ أَتَى لِنَصِيحَةٍ= وَكَانَ فِي حَمْلِ الشَّرَائِعِ يُجْهَدُ

بِأَنْ لَمْ يَزِلْ رَطْبًا لِسَانُكَ هَذِهِ= تُعِينُ عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ وَتُسْعِدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لِأهْلِهِ= بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالْمَسَاكِنُ تُمْهَدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ= وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الْأَمُــورِ يُسَدِّدُ

وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرِ يَبْقَى بِجَنْبِهِ= وَيَنْقَطِعُ التّكْلِيفُ حِيَنْ يُخَلَّدُ

وَلَوْ لَمْ يَكُن فِي ذِكْرِهِ غَيَرْ أَنَّهُ= طَرِيقٌ إِلَى حُبِّ الْإِلَهِ وَمُرْشِدُ

وَيَنَهْى الْفَتىَ عَنْ غِيْبَةٍ وَنَمِيمَةٍ= وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ يُفْسِدُ

لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيمٌ وَرَغْبَةٌ= بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ المُوَحَّدُ

وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا= كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلْإِلَهِ التَّعَبُّدُ

((دَرَجَاتُ الذِّكْرِ وَدَلَالَاتُهُ))

إِنَّ ذِكْرَ اللهِ زَيَّنَ اللَّهُ بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ, وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ, وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ.

وَهُوَ -أَيِ: الذِّكْرُ- بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ.

وَبِالذِّكْرِ: يَصْرَعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].

سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

فَقَالَ: ((أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

وَفِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ)): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ)).

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟

إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).

إِنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَذْلِ مَالٍ, وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَبِيرِ مَجْهُودٍ.

لَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَنَازِلِ)) وَفِي شَرْحِهَا عَنْ دَرَجَاتِ الذِّكْرِ: ((وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ:

الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الذِّكْرُ الظَّاهِرُ ثَنَاءً أَوْ دُعَاءً أَوْ رِعَايَةً.

فَأَمَّا ذِكْرُ الثَّنَاءِ فَنَحْوُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ.

وَأَمَّا ذِكْرُ الدُّعَاءِ فَنَحْوُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

وَأَمَّا ذِكْرُ الرِّعَايَةِ فَمِثْلُ قَوْلِ الذَّاكِرِ: اللهُ مَعِي، اللهُ نَاظِرٌ إِلَيَّ، اللهُ شَاهِدِي.

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الذِّكْرُ الْخَفِيُّ؛ وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الْقُيُودِ، وَالْبَقَاءُ مَعَ الشُّهُودِ، وَلُزُومُ الْمُسَامَرَةِ.

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ؛ وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ.

وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الذِّكْرُ حَقِيقِيًّا -كَمَا يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَدَارِجِ))-؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى, فَذِكْرُ اللهِ لِعَبْدِهِ هُوَ الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَبْدَهُ)).

وَأَمَّا الدَّلَالَاتُ الْعَامَّةُ لِلذِّكْرِ؛ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ: الْإِتْيَانُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي قَوْلِهَا وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا؛ مِثْلُ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهِيَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ, وَمَا يَلْتَحِقُ بِهَا مِنَ الْحَوْقَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَسْبَلَةِ -وَالْحَسْبَلَةُ قَوْلُ الذَّاكِرِ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, وَأَمَّا الْحَوْقَلَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ, وَالْبَسْمَلَةُ قَوْلُهُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ-, فَهَذِهِ تَلْتَحِقُ -أَيْضًا- بِالذِّكْرِ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ.

وَالدُّعَاءُ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُطْلَقُ ذِكْرُ اللهِ -أَيْضًا- وَيُرَادُ بِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَهُ أَوْ نَدَبَ إِلَيْهِ؛ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ، وَالتَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ.

ثُمَّ الذِّكْرُ يَقَعُ تَارَةً بِاللِّسَانِ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ النَّاطِقُ، وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَقْصِدَ بِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ -لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَأْتُونَ بِأَذْكَارٍ مِنَ الْمَأْثُورِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى مَا يَنْطِقُونَ بِهِ؛ فَهَلْ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى وَمَعْرِفَتِهِ؟ يَقُولُ: لَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَلَّا يَقْصِدَ بِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ- وَإِنِ انْضَافَ إِلَى النُّطْقِ الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ أَكْمَلُ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِحْضَارُ مَعْنَى الذِّكْرِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ ازْدَادَ كَمَالًا, فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ مِمَّا فُرِضَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ازْدَادَ كَمَالًا، فَإِنْ صَحَّ التَّوَجُّهُ وَأَخْلَصَ لِلهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَبْلَغُ الْكَمَالِ.

وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللِّسَانِ: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ.

وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ: التَّفَكُّرُ فِي أَدِلَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ, وَفِي أَدِلَّةِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَفِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ.

وَالذِّكْرُ بِالْجَوَارِحِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الطَّاعَاتِ, وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى اللهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا فَقَالَ: {فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].

وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ، قَالَ: ((الذِّكْرُ عَلَى سَبْعَةِ أَنْحَاءٍ: فَذِكْرُ الْعَيْنَيْنِ بِالْبُكَاءِ، وَذِكْرُ الْأُذُنَيْنِ بِالْإِصْغَاءِ، وَذِكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ، وَذِكْرُ الْيَدَيْنِ بِالْعَطَاءِ، وَذِكْرُ الْبَدَنِ بِالْوَفَاءِ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَذِكْرُ الرُّوحِ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ)). انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْفَتْحِ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَذِكْرُ اللهِ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ, وَذِكْرَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ, وَذِكْرَهُ بِكَلَامِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَتَهُ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ, وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْمَدْحِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَوْحِيدِهِ, فَذِكْرُهُ الْحَقِيقِيُّ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ, فَيَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ)).

((الْكَوْنُ كُلُّهُ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ اللهِ!!))

لَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ الكَثِيرَ مِنَ الآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ لَنَا حَقِيقَةً يَعْمَى عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ الخَلْقِ؛ فَالكَوْنُ كُلُّهُ نَاطِقُهُ وَصَامِتُهُ, عَاقِلُهُ وَغَيْرُ عَاقِلِهِ, عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ؛ ذَاكِرٌ لِلَّهِ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِهِ.

وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ بِاعْتِبَارِ الفَاعِلِ: مَا وَقَعَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إِسْنَادِ التَّسْبِيحِ إِلَى أَصْنَافِ الكَائِنَاتِ المُخْتَلِفَةِ؛ مِنَ الحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالجَمَادَاتِ, العَاقِلَةِ وَغَيْرِ العَاقِلَةِ, وَالنَّاطِقَةِ وَغَيْرِ النَّاطِقَةِ, وَالنَّامِيَةِ وَالجَامِدَةِ, وَكُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ أَوْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِأَنْوَاعِهَا, وَلَا يُحْصِي أَعْدَادَهَا إِلَّا اللَّهُ الْخَالِقُ الْقَدِيرُ, الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا, وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا.

قَالَ فِي كِتَابِ ((التَّسْبِيحِ)): ((فَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً؛ أُسْنِدَ فِيهَا التَّسْبِيحُ إِلَى هَذِهِ الكَائِنَاتِ مُجْمَلَةً فِي بَعْضِهَا وَمُفَصَّلَةً فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.

* فَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي أُسْنِدَ فِيهَا التَّسْبِيحُ إِلَى الكَائِنَاتِ مُجْمَلَةً فَهِيَ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1], فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 1 , الصف: 1], فِي أَوَّلِ الْحَشْرِ, وَفي أَوَّلِ الصَّفِّ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]؛ كَمَا فِي الْحَشْرِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ التَّغَابُنِ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1].

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ جَمِيعِهَا يُخْبِرُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ سَبَّحَ لَهُ وَيُسَبِّحُ لَهُ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ (لِلَّهِ) تَحْتَمِلُ أَوْجُهًا أَظْهَرُهَا أَنَّهَا لِلِاختِصَاصِ؛ أَيْ: أَنَّهَا تُفِيدُ كَمَالَ الْإِرَادَةِ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسَبِّحِ, وَكَمَالَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنَ اللَّهِ الْمُسَبَّح -جَلَّ وَعَلَا-.

وَلَفْظُ (مَا) الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّسْبِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى: الَّذِي, وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ, وَالْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ, وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ غَالِبًا, وَفِي الْعَاقِلِ قَلِيلًا, وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِ الْعَاقِلِ؛ بِتَغْلِيبِ غَيْرِ الْعَاقِلِ لِكَثْرَتِهِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشِّنْقِيطِيُّ فِي ((أَضْوَائِهِ)).

كَمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ, فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَامِلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي نِطَاقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فِي السَّمَوَاتِ}؛ يَعْنِي: كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِم؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَجَاءَ لَفْظُ السَّمَاوَاتِ مَجْمُوعًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ: الْإِخْبَارُ عَنْ تَسْبِيحِ سُكَّانِهَا عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَبَايُنِ مَرَاتِبِهِمْ, فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ جَمْعِ مَحَلِّهِمْ.

وَقَوْلُهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {وَمَا فِي الأَرْضِ}؛ يَعْنِي: كُلَّ مَا فِي الْأَرَضِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ, وَالْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ, وَالْجِبَالِ وَالْأَشْجَارِ, وَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَرَّرَ ذِكْرَ (مَا) مَعَ (الْأَرْضِ) فِي هَذِهِ الْآيَاتِ -مَا عَدَا آيَةِ سُورَةِ الحَدِيدِ-؛ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ {مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} بِالتَّسْبِيحِ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ؛ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَجَمِيعَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ يُنَزِّهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَسُلْطَانِهِ, وَيُقَدِّسُهُ وَيُمَجِّدُهُ, وَيُوَحِّدُهُ وَيُفْرِدُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ-.

* وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي أُسْنِدَ فِيهَا التَّسْبِيحُ إِلَى الْكَائِنَاتِ مُفَصَّلَةً فَهِيَ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى -فِي قِصَّةِ نَبِيِّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ--: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 18-19].

* وَهُنَاكَ آيَتَانِ أُخْرَيَانِ أُسْنِدَ فِيهِمَا التَّسْبِيحُ إِلَى الْكَائِنَاتِ مُجْمَلَةً وَمُفَصَّلَةً؛ وَهُمَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].

وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].

فَجَمِيعُ الكَائِنَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى -اخْتِيَارًا أَوْ تَسْخِيرًا- تَسْبِيحًا حَقِيقِيًّا بِلِسَانِ المَقَالِ -كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ-.

وَجَاءَ إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى هِذِهِ الْكَائِنَاتِ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَجَاءَ مَاضِيًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1], وَمُضَارِعًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44], وَأَمْرًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74, و96, الحاقة: 52], وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10], وَمَصْدَرًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]؛ لِيَدُلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى دَوَامِ التَّسْبِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ, وَأَنَّ التَّسْبِيحَ شَأْنُهَا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

فَالتَّسْبِيحُ وَظِيفَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ؛ الْعَاقِلِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْعَاقِل, النَّاطِقِ مِنْهَا وَغَيْرِ النَّاطِقِ, كُلٌّ مِنْهَا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِلُغَتِهِ الْخَاصَّةِ, فَلَا الْإِنْسَانُ يَفْهَمُ عَنِ الْحَيَوَانِ وَالطَّيْرِ وَالْجَمَادِ مَا يَقُولُ, وَلَا كَيْفَ يُسَبِّحُ, وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَالطَّيْرُ وَالْجَمَادُ لَا يَفْهَمُ عَنِ الْإِنْسَانِ مَا يَقُولُ, وَلَا كَيْفَ يُسَبِّحُ, بَلِ الْكُلُّ مُتَوَجِّهٌ بِلُغَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى خَالِقِهِ، يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ, وَلَا يَفْقَهُ نَوْعٌ مِنْهَا لُغَةَ النَّوْعِ الْآخَرِ, {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44])).

فَالْكَوْنُ كُلُّهُ؛ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ, نَاطِقُهُ وَصَامِتُهُ, عَاقِلُهُ وَغَيْرُ عَاقِلِهِ, الْكَوْنُ كُلُّهُ بِجَمَادِهِ وَحَيَوَانِهِ وَنَبَاتِهِ, بسُهُولِهِ وَجِبَالِهِ, وَقِفَارِهِ وَبِحَارِهِ, الْكَوْنُ كُلُّهُ ذَاكِرٌ لِلَّهِ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِهِ؛ إِلَّا مَنْ غَفَلَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

فَادْخُلْ فِي مَنْظومَةِ الْكَوْنِ الذَّاكِرِ الْمُسَبِّحِ بِحَمْدِ رَبِّهِ، وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ, وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

((جُمْلَةٌ مِنْ مَعَانِي الْأَذْكَارِ))

عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ مَعَانِي مَا يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى بِهِ.

فَإِذَا حَمِدَ الْعَبْدُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْحَمْدِ، وَإِذَا سَبَّحَ اللهَ يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ.

فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ الْمَعْنَى -مَعْنَى الذِّكْرِ-؛ أَثَّرَ هَذَا الذِّكْرُ فِي قَلْبِهِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَذْكُرُ رَبَّهُ لَيْلًا طَوِيلًا وَلَا يَدْرِي مَعْنَى مَا يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ, وَالنَّاسُ يَسْجُدُونَ وَيَرْكَعُونَ, يُسَبِّحُونَ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ!!

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَلْزَمُ أَدْعِيَةً يَدْعُو بِهَا, وَلَا يَدْرِي مَعْنَاهَا, وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فَقِيهًا لِلْمَعْنَى مُحِيطًا بِهِ مُلِمًّا بِغَرَضِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْ رَبِّهِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مَعَانِي الْأَذْكَارِ الْعَظِيمَةِ:

فَكَلِمَةُ ((سُبْحَانَ اللهِ)): لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْأَذْكَارِ لِلهِ تَعَالَى.

وَمَعْنَى ((سُبْحَانَ اللهِ)): تَنَزَّهَ اللهُ وَتَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَالْمَعَايِبِ.

مَعْنَى التَّسْبِيحِ: التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنَ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ وَالنَّقَائِصِ مُطْلَقًا، وَمِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ مُطْلَقًا.

فَـ ((سُبْحَانَ اللهِ)): تَنْزِيهٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ.

((سُبْحَانَ اللهِ)): مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ لِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ لِلَّهِ عِنْدَ الْعَرَبِ: التَّنْزِيهُ لَهُ مِنْ إِضَافَةِ مَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ إِلَيْهِ, وَالتَّبْرِئَةُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((سُبْحَانَ اللهِ: تَنْزِيهُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ كُلِّ سُوءٍ)).

وَالتَّسْبِيحُ: هُوَ التَّنْزِيهُ؛ تَبْرِئَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَتَنْزِيهُهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ, وَمِنْ أَنْ يُشْبِهَهُ أَحَدٌ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ, وَلَيْسَ لَهُ نِدٌّ, وَلَيْسَ لَهُ كُفْءٌ؛ بَلْ هُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْوَاحِدُ الْأَحَدُ, الَّذِي تَفَرَّدَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْجَلَالِ.

وَالْأَمْرُ بِتَسْبِيحِهِ يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَسُوءٍ, وَإِثْبَاتَ الْمَحَامِدِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنْزِيهَهُ وَتَحْمِيدَهُ وَتَكْبِيرَهُ وَتَوْحِيدَهُ.

إِذَنْ؛ تَسْبِيحُ اللهِ يَكُونُ بِتَبْرِئَةِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَيْبٍ، مَعَ إِثْبَاتِ الْمَحَامِدِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْجَلَالِ لَهُ وَحْدَهُ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِهِ.

* وَ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)): إِثْبَاتٌ لِمَا يَتَوَجَّهُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ؛ فَجَمَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ وَالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةَ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ هِيَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ؛ إِذْ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُهُ، وَمَالِكُهُ، وَأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمَدَهُ وَنُثْنِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.

التَّسْبِيحُ: تَنْزِيهُ اللهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ.

وَالتَّحْمِيدُ: إِثْبَاتُ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا لِلَّهِ.

فَإِنَّ صِيغَةَ التَّسْبِيحِ الْمَقْرُونِ بِالتَّحْمِيدِ مِنْ أَكْمَلِ صِيَغِ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَأَدَلِّهَا عَلَى اسْتِغْرَاقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- بِكُلِّ كَمَالٍ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ دَالٌّ عَلَى التَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ, وَالْعُيُوبِ وَالْأَمْثَالِ وَالشُّرَكَاءِ، وَأَمَّا التَّحْمِيدُ, فَدَالٌّ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَحَامِدِ وَالْفَضَائِلِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ.

فَإِذَا سَبَّحَ الْعَبْدُ بِحَمْدِهِ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.

فَنَفَى بـ ((سُبْحَانَ اللهِ)) كُلَّ نَقْصٍ عَنِ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقْيِيدِ فِيهِ مُشْعِرٌ بِالتَّعْمِيمِ.

وَأَثْبَتَ بِحَمْدِهِ كُلَّ وَصْفِ كَمَالٍ وَجَلَالٍ ثَابِتٍ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ؛ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ.

فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: ((سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ))، وَ((سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ))، وَنَحْوِهِ إِثْبَاتُ تَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.

* وَمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

فَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعِبَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى عَابِدِهِ، فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

* ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ..

فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مُتَضَمِّنَةٌ لِلْكُفْرِ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): إِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ لِلهِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى الْكُفْرِ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَاعْتِقَادُ بُطْلَانِهِ.

وَهَذَا مَعْنَى الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256].

وَالطَّاغُوتُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ.

وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لِلهِ وَحْدَهُ؛ بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَلَا يَعْبُدَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالِيَ إِلَّا لَهُ، وَلَا يُعَادِيَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يَعْمَلَ إِلَّا لِأَجْلِهِ.

وَلِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِثْبَاتَ مَا أَثْبَتَهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَإِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لِلهِ وَحْدَهُ، وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللهِ.

وَالْإِلَهُ: الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ؛ عِبَادَةً لَهُ، وَاسْتِعَانَةً بِهِ، وَرَجَاءً لَهُ، وَخَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا.

فَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ.

وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ هِيَ أَعْظَمُ الْكَلَامِ وَأَفْخَمُهُ، وَأَجَلُّهُ وَأَكْرَمُهُ.

وَ((اللهُ أَكْبَرُ)): إِرَادَةُ التَّعْمِيمِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ.

وَأَمَّا مَعْنَى: ((سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ, وَزِنَةَ عَرْشِهِ, وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ, وَرِضَاءَ نَفْسِهِ)): وَالْمَعْنَى سَبَّحْتُهُ تَسْبِيحًا مَبْلَغَ عَدَدِ خَلْقِهِ.

((وَرِضَا نَفْسِهِ)): أَيْ مَا يَقَعُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- مَوْقِعَ الرِّضَا, أَوْ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ.

((وَزِنَةَ عَرْشِهِ)): أَيْ مَا يُوَازِنُ فِي الْقَدْرِ وَالرَّزَانَةِ, يُقَالُ: هُوَ زِنَةُ الْجَبَلِ؛ أَيْ حِذَاهُ فِي الثِّقَلِ وَالرَّزَانَةِ.

((وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)): الْمِدَادُ مَصْدَرٌ كَالْمَدَدِ؛ تَقُولُ: مَدَدْتُ الشَّيْءَ أَمُدُّهُ مَدًّا وَمِدَادًا, وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مُدٍّ؛ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى مِدَادٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْمِدَادِ: الْمِكْيَالَ وَالْمِعْيَارَ.

وَمَعْنَاهُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا تُحْصَى بِعَدٍّ وَلَا بِغَيْرِهِ, وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْصُرُهُ الْعَدُّ الْكَثِيرُ مِنْ عَدَدِ الْخَلْقِ, ثُمَّ زِنَةَ الْعَرْشِ, ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ, وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا، أَيْ وَمَا لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ كَمَا لَا تُحْصَى كَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.

وَتَأَمَّلْ! وَكُنْ حَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ عِنْدَ قَوْلِكَ: ((سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ))؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ يُمْكِنُ أَنْ تَنْصَرِفَ إِلَى الْعَوَالِمِ؛ عَدَدَ خَلْقِهِ عَوَالِمَ: فَعَالَمُ السَّمَاءِ, وَعَالَمُ الْأَرْضِ, وَعَالَمُ الْإِنْسِ, وَعَالَمُ الْجِنِّ, وَعَالَمُ الْمَلَائِكَةِ, وَعَالَمُ الْحَشَرَاتِ, وَعَالَمُ الطُّيُورِ وَمَا أَشْبَهَ, وَهَذَا جَيِّدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلَّ.

((عَدَدَ خَلْقِهِ)): كُلُّ مَا هُوَ مِنْ خَلْقِهِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مُكَوَّنٌ مِنْ ذَرَّاتٍ خَلَقَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَكُلُّ ذَرَّةٍ فِيهَا ذَوَاتٌ, وَفِيهَا كُهَيْرِبَاتٌ مُوجَبَةٌ يَدُورُ حَوْلَهَا فِي مَدَارَتِهَا كُهَيْرِبَاتٌ سَالِبَةٌ , مِنْ أَدَقِّ الْخَلْقِ إِلَى أَجَلِّ الْخَلْقِ.

فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ وَالنُّجُومَ وَالْفَلَكَ كُلُّ ذَلِكَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مَرْكَزٌ يَدُورُ حَوْلَهُ فِي مَدَارَاتٍ يَعْلَمُهَا اللهُ مَا يَدُورُ, كَالشَّمْسِ يَدُورُ حَوْلَهَا مَا يَدُورُ مِنَ الْكَوَاكِبِ, وَمِنْهَا الْأَرْضُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَمِنْ تِلْكَ النُّجُومِ وَالشُّمُوسِ؛ فَالْفَلَكُ دَائِرٌ هَكَذَا.

وَمَعْنَى هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)): لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَهِيَّتِكَ، أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي.

وَأَمَّا الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))؛ فَمَعْنَاهَا: أَيِ اللهُ كَافِينَا، وَاللهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ الَّذِي يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.

هَذَا ذِكْرٌ عَظِيمٌ قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي شِدَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الشَّدَائِدِ: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))؛ قَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ هَذَا الذِّكْرَ فِي مِحْنَةِ الْمِحَنِ وَشِدَّةِ الشَّدَائِدِ؛ إِذْ ((لَمَّا أَعْيَتْ قَوْمَهُ الْمُقَاوَمَةُ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَـ{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}، فأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً جِدًّا فَأَلْقَوْهُ بِهَا، فَقَالَ -وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ-: ((حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: {يا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فَلَمْ تَضُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا لِيَنْصُرُوا آلَهِتَهُمْ، وَيُقِيمُوا لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الْخُضُوعَ وَالتَّعْظِيمَ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ وَبَالًا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ انْتِصَارُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ نَصْرًا عَظِيمًا عِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ وَالْحادِثِينَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَصَرَ الْخَلِيلُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ وَالرُّؤَساءِ وَالْمَرْءُوسِينَ».

عِبَادَ اللهِ! إِنِ انْضَافَ -كَمَا سَبَقَ- إِلَى النُّطْقِ بِالذِّكْرِ الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ أَكْمَلُ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْتِحْضَارُ مَعْنَى الذِّكْرِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَنَفْيِ النَّقَائِصِ عَنْهُ ازْدَادَ كَمَالًا.

((مِنْ ثَمَرَاتِ ذِكْرِ اللهِ))

إِنَّ ذِكْرَ اللهِ -تَعَالَى- لَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُقَابِلَ أَنْ يَذْكُرَهُ الْعَبْدُ: أَنْ يَذْكُرَهُ الرَّبُّ؛ وَهَذَا عَطَاءٌ كَبِيرٌ جِدًّا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

فَاذْكُرُوني بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، أَذْكُرْكُمْ فِي نَفْسِي إِنْ ذَكَرْتُمُونِي فِي أَنْفُسِكُمْ، وَأَذْكُرْكُمْ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنَ الْمَلَأِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوْنِي فِيهِ إِنْ ذَكَرْتُمُونِي فِي مَلَأٍ.

فَاذْكُرُونِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالرِّضَا عَنْكُمْ.

وَاشْكُرُوا لِي مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ بِعِبَادَتِي وَاتِّبَاعِ رَسُولِي، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَحْكَامِ شَرِيعَتِي، وَلَا تَجْحَدُوا نِعَمِي عَلَيْكُمْ كَمَا فَعَلَ الْمُعَانِدُونَ الْجَاحِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَابَلُوا نِعَمِي بِالْجُحُودِ وَالْكُفْرَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؛ يَعْنِي: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، فَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ ذَكَرَهُ، فَمَنْ ذَكَرَهُ فِي طَاعَةٍ ذَكَرَهُ اللهُ بِخَيْرٍ، وَمَنْ ذَكَرَهُ فِي مَعْصِيَةٍ ذَكَرَهُ اللهُ بِاللَّعْنَةِ وَسُوءِ الدَّارِ.

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اذْكُرُونِيِ فِي النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ، أَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ)).

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: ((اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي، أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي)) -وَفِي رِوَايَةٍ: بِرَحْمَتِي-)).

وَقَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ هُوَ مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَهُوَ الَّذِي يُثْمِرُ مَعْرِفَةَ اللهِ وَمَحَبَّتَهُ وَكَثْرَةَ ثَوَابِهِ، وَالذِّكْرُ هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ، فَلِهَذَا أَمَرَ بِهِ خُصُوصًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَمَرَ بِالشُّكْرِ عُمُومًا؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ فِيهِ بَقَاءٌ لِلنِّعْمَةِ الْمَوْجُودَةِ وَزِيَادَةٌ فِي النِّعْمَةِ الْمَفْقُودَةِ، قَالَ تَعَالَى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيْدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7])).

فَأَمَرَ بِذِكْرِهِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِشُكْرِهِ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.

أَمَرَ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الثَّنَاءُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى مَنْ ذَكَرَهُ، فَأَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ، وَأَيُّ فَخْرٍ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- إِلَّا هَذَا الْفَضْلُ؛ لَكَفَى بِهِ شَرَفًا وَفْضَلًا.

وَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ يَذْكُرَ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَلَا الضَّعِيفُ الْقَوِيَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ يَذْكُرَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَالْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَإِذَا ذَكَرَ الرَّبُّ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ الْعَبْدَ الْفَقِيرَ الضَّعِيفَ كَانَ ذِكْرُهُ لَهُ عَلَامَةً عَلَى وَصْلِهِ بِبِرِّهِ وَكَرَمِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ وَأَجْوَدِ الْأَجْوَدِينَ إِذَا ذَكَرَ عَبْدَهُ الذَّاكِرَ وَرَضِيَ عَنْهُ؟

الذِّكْرُ يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ حَقِيقٌ بِهَا وَحَرِيٌّ أَلَّا تَطْمَئِنَّ لِشَيْءٍ سِوَى ذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَلَذَّ لِلْقُلُوبِ، وَلَا أَشْهَى وَلَا أَحْلَى مِنْ مَحَبَّةِ خَالِقِهَا، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهَا بِاللهِ، وَمَحَبَّتِهَا لَهُ؛ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَهُ، ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللهِ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ اللهِ: أَنَّهَا حِينَ تَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ تَطْمَئِنُّ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، فَبِذَلِكَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فَإِنَّهَا لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ مَضْمُونٌ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ؛ فَلَا تَطْمَئِنُّ بِهَا، بَلْ لَا تَزَالُ قَلِقَةً مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَضَادِّ الْأَحْكَامِ)).

وَفَوَائِدُ الذِّكْرِ وَثَمَرَاتُهُ وَمَنَافِعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْهَا ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فَائِدَةً, وَمُلَخَّصُهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ:

الذِّكرُ يَطرُدُ الشَّيطَانَ وَيَقْمَعُهُ وَيَكْسِرُهُ.

ويُرضِي الرَّحمَنَ -عَزَّ وَجَلَّ-.

ويُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ عَنِ الْقَلبِ.

وَيَجْلِبُ لِلْقَلبِ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالْبَسْطَ.

وَالذِّكْرُ يُقَوِّي الْقَلبَ وَالْبَدَنَ.

وَيُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَالْقَلبَ.

ويَجلِبُ الرِّزقَ.

وَيَكسُو الذَّاكِرَ الْمَهَابَةَ وَالْحَلَاوَةَ وَالنُّضْرَةَ.

وَالذِّكْرُ يُورِثُ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِسلَامِ وَقُطْبُ رَحَى الدِّينِ.

وَالذِّكرُ يَجْلِبُ مُرَاقَبَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ حَتَّى يُدْخِلَهُ فِي بَابِ الْإِحسَانِ.

وَهُوَ يُورِثُ الْإِنَابَةَ: وَهِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَبْقَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَفْزَعَهُ وَمَلْجَأَهُ.

وَالذِّكْرُ يُورِثُ قُرْبَ الذَّاكِرِ مِنَ رَبِّهِ، فَعَلَى قَدرِ ذِكْرِهِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَكُونُ قُربُهُ مِنْهُ.

وَالذِّكْرُ يَفتَحُ اللَّهُ بِهِ لِلذَّاكِرِ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبوَابِ الْمَعرِفَةِ.

ويُورِثُ الذِّكْرُ الذَّاكِرَ الْهَيْبَةَ لِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِجلَالَهُ؛ لِشِدَّةِ استِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَحُضُورِهِ مَعَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالذِّكْرُ يُورِثُ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِلذَّاكِرِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكرِ إِلَّا هَذِهِ لَكَفَى بِهَا فَضْلًا وَشَرَفًا.

وَيَجْلِبُ حَيَاةَ الْقَلْبِ.

وَالذِّكْرُ مِثْلُ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ.

وَالذِّكرُ قُوتُ الْقُلْبِ وَالرُّوحِ، فَإِذَا فَقَدَهُ الْعَبْدُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِسْمِ إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُوتِهِ.

وَهُوَ يُورِثُ جِلَاءَ القَلْبِ مِنْ صَدَئِهِ، وَصَدَأُ القَلْبِ هُوَ: الْغَفْلَةُ وَالذَّنْبُ.

وَالذِّكْرُ يَحُطُّ الْخَطَايَا وَيُذهِبُهَا؛ فَإنَّهُ مِنْ أَعظَمِ الْحَسَنَاتِ، وَالْحَسَنَاتُ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ.

وَالذِّكْرُ يُزِيلُ الْوَحشَةَ بَينَ الْعَبدِ وَرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالْغَفْلَةُ وَحْشَةٌ تَزُولُ بِالذِّكْرِ.

وَالذِّكْرُ يُذْكَرُ بِهِ صَاحِبُهُ حَوْلَ الْعَرْشِ.

وَإِذَا تَعَرَّفَ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ بِذِكرِهِ فِي الرَّخَاءِ؛ عَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ.

وَالذِّكرُ يُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَمَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

والذِّكرُ سَبَبٌ لِتَنَزُّلِ السَّكِينَةِ، وَغِشْيَانِ الرَّحْمَةِ، وَحُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ بِالذَّاكِرِ.

وَهُوَ يَشْغَلُ اللِّسَانَ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْفُحْشِ وَالْبَاطِلِ.

وَمَجَالِسُ الذِّكْرِ مَجَالِسُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَجَالِسُ اللَّغْوِ وَالْغَفْلَةِ مَجَالِسُ الشَّيَاطِينِ.

وَيَسعَدُ الذَّاكِرُ بِذِكْرِهِ وَيَسْعَدُ بِهِ جَلِيسُهُ، وَهُوَ الْمُبَارَكُ أَيْنَمَا كَانَ.

وَيُؤَمِّنُ الْعَبدَ مِنَ الْحَسْرَةِ يَومَ الْقِيَامَة؛ فَإنَّ كُلَّ مَجْلِسٍ لَا يُذكَرُ اللَّهُ فِيهِ يَكُونُ حَسْرَةً عَلَى صَاحِبِهِ.

وَالذِّكْرُ مَعَ الْبُكَاءِ فِي الْخَلْوَةِ سَبَبٌ لِإِظْلَالِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْحَرِّ الْأَكْبَرِ.

وَالِاشْتِغَالُ بِالذِّكرِ سَبَبٌ لِعَطَاءِ اللهِ لِلذَّاكِرِ أَفْضَلَ مَا يُعطِي السَّائِلِينَ.

وَالذِّكْرُ أَيْسَرُ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِهَا؛ فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ أَخَفُّ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ.

وَالذِّكْرُ غِرَاسُ الْجَنَّة؛ فَالْجَنَّةُ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ, عَذْبَةُ الْمَاءِ, وَهِيَ قِيعَانٌ وَغِرَاسُهَا الذِّكْرُ.

وَالْعَطَاءُ وَالْفَضلُ الَّذِي رُتِّبَ عَلَى الذِّكرِ لَمْ يُرَتَّبَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِأَعمَالِ.

وَدَوَامُ ذِكْرِ الرَّبِّ يُوجِبُ الْأَمَانَ مِنْ نِسْيَانِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ شَقَاءِ الْعَبْدِ.

وَالذِّكْرُ يُسَيِّرُ الْعَبدَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي فِرَاشِهِ, وَفِي حَالِ صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفِي حَالِ نَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ.

وَالذِّكرُ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي الدُّنيَا، ونُورٌ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنُورٌ لَهُ فِي مَعَادِهِ.

وَالذِّكْرُ رَأسُ الْأُمُورِ، فَمَنْ فُتِحَ لَهُ فِيهِ فَقَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الدُّخُولِ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَفِي الْقَلْبِ خَلَّةٌ وَفَاقَةٌ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالذِّكْرُ يَجمَعُ المُتَفَرِّقَ، فَيَجمَعُ مَا تَفَرَّقَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمُومِهِ.

وَالذِّكْرُ يُنَبِّهُ الْقَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ، وَيُوقِظُهُ مِنْ سِنَتِهِ, وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الْأَرْبَاحُ.

وَالذِّكْرُ شَجَرَةٌ تُثمِرُ الْمَعَارِفَ, وَتُثْمِرُ الْأَحْوَالَ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ.

وَالذَّاكِرُ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ, وَاللَّهُ مَعَهُ, وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِالْقُرْبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ.

وَالذِّكْرُ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ, وَنَفَقَةَ الْأَمْوَالِ, وَالْحَمْلَ علَى الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

الذِّكْرُ رَأسُ الشُّكرِ، فَمَا شَكَرَ اللهَ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَذكُرْهُ.

أَكْرَمُ الخَلقِ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ مَنْ لَا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطبًا بِذِكْرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَفِي الْقَلبِ قَسْوَةٌ لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكرُ اللهِ, فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُدَاوِيَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ بِذِكْرِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالذِّكْرُ شِفَاءُ الْقَلبِ وَدَوَاؤُهُ، وَالْغَفلَةُ مَرَضُهُ وَسَقَمُهُ.

وَالذِّكْرُ أَصْلُ مُوَالَاةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَأْسُهَا، وَالْغَفْلَةُ أَصْلُ مُعَادَاتِهِ وَرَأْسُهَا.

ومَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَا اسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

والذِّكْرُ يُوجِبُ صَلَاةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَلَائِكَتِهِ عَلَى الذَّاكِرِ.

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ رِيَاضَ الجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا؛ فَلْيَجْلِسْ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ, وَهِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ كَيْفَ تَبِيعُ وَكَيْفَ تَشْتَرِي, وَكَيْفَ تَنْكِحُ وَكَيْفَ تُطَلِّقُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّمُ بِهِ المُسْلِمُ أُمُورَ دِينِهِ.

مَجَالِسُ الذِّكرِ مَجَالِسُ الْمَلَائِكَةِ، لَيسَ لَهُم مِنْ مَجَالِسِ الدُّنيَا مَجْلِسٌ سِوَى مَجْلِسٍ يُذْكَرُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ, وَأَمَّا مَجَالِسُ الْغَفْلَةِ فَهِي مَجَالِسُ الشَّيَاطِينِ.

إنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي بِالذَّاكِرِينَ مَلَائِكَتَهُ، وَمُدْمِنُ الذِّكْرِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.

وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ؛ إِقَامَةً لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَأَفضَلُ أَهْلِ كُلِّ عَمَلٍ أَكثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَإِدَامَةُ الذِّكرِ تَنُوبُ عَنِ التَّطَوُّعَاتِ, وَتَقُومُ مَقَامَهَا؛ سَواءٌ كَانَت بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً.

وَذِكرُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ أَكْبَرِ العَوْنِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ يُحَبِّبُهَا إِلَى الْعَبْدِ, وَيُلَذِّذُهَا لَهُ.

وَذِكْرُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- يُسَهِّلُ الصَّعْبَ، وَيُيَسِّرُ الْعَسِيرَ, وَيُخَفِّفُ الْمَشَاقَّ.

وَذِكْرُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُذْهِبُ عَنِ الْقَلْبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.

وَالذِّكْرُ يُعْطِي الذَّاكِرَ قُوَّةً؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَفْعَلُ مَعَ الذِّكْرِ مَا لَمْ يُطِقْ فِعْلَهُ بِدُونِهِ.

وَعُمَّالُ الْآخِرَةِ كُلُّهُم فِي مِضْمَارِ السِّبَاقِ، وَالذَّاكِرُونَ هُمْ أَسبَقُهُمْ.

وَالذِّكْرُ سَبَبٌ لِتَصْدِيقِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- عَبْدَهُ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ.

وَدُورُ الجَنَّةِ إِنَّمَا تُبْنَى بِالذِّكْرِ.

وَالذِّكْرُ سَدٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ جَهَنَّمَ.

وَالْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لِلذَّاكِرِ.

وَالْجِبَالُ وَالْقِفَارُ تَتَبَاهَى, وَتَسْتَبْشِرَ بِمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهَا.

وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَمَانٌ مِنَ النِّفَاقِ؛ فَإِنَّ المُنَافِقِينَ قَلِيلُوا الذِّكْرِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَلِلذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ لَذَّةٌ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ.

وَالذِّكْرُ يَكْسُو الْوَجْهَ نُضْرَةً فِي الدُّنْيَا، وَنُورًا فِي الْآخِرَةِ.

وَفِي دَوَامِ الذِّكْرِ فِي الطَّرِيقِ وَالْبَيْتِ وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْبِقَاعِ تَكْثِيرٌ لِشُهُودِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ اشْتِغَالٌ عَنِ الْكَلَامِ الْبَّاطِلِ مِنَ الْغِيبَةِ وَاللَّغْوِ.

وَالذِّكْرُ يَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ عَنِ الْعَبْدِ.

لِلذِّكْرِ فَوَائِدُ وَثَمَرَاتٌ وَمَنَافِعُ لَا تُحْصَى, وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ -إِضَافَةً إِلِى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ-: حَدِيثُ الْحَّارِثِ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي)).

قَالَ: ((فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ؛ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ.

أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي عَمَلَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا.

وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ, كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ, وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ, وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ, فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ, فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ, وَقَرَّبُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ, فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ.

وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا, وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ, فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)).

قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ؛ بِالْجَمَاعَةِ, وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ, وَالْهِجْرَةِ, وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّه مَنْ خَرَجَ مِنَ الجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ؛ فَقَدَ خَلَعَ رِبْقَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ, وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟

قَالَ: ((وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ, فادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ؛ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ.

 ((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا, وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ))..

فَتَنْظُرُ -الْآنَ- إِلَى الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ، إِلَى رَجُلٍ يَتبعهُ الْأَعْدَاءُ, وَهُوَ يَعْدُو جَاهِدًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ تَوَقَّفَ فَفِي التَّوَقُّفِ هَلَاكُهُ وَقَتْلُهُ, فَهُوَ يَمْضِي لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ, وَيَبْذُلُ غَايَةَ الْجَهْدِ وَالْعَدْوِ فِي أَثَرِهِ, وَالْعَدُوُّ يَكَادُ يُدْرِكُهُ, يَكَادُ يُمْسِكُ بِهِ يَلْحَقُهُ؛ ((فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)).

فَضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَثَلَ فِي هَذَا الَّذِي أَوْحَى بِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-؛ بِأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا ((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا))؛ وَقَيَّدَهُ بِالْكَثْرَةِ عَلَى إِطْلَاقِ الْكَثْرَةِ, وَلَمْ يَأْمُرْ بِذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ, وَإِنَّمَا ((وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ -يَعْنِي: وَمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا- كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ, فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ, وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ)).

فالَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا؛ كَأَنَّمَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ, وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ.

مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْجَنَّةُ، وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَبَيَاضُ الْوَجْهِ، وَالْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ عِنْدَ اللهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-؛ يَقُولُ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((مَا أَجْلَسَكُمْ؟)).

قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا.

فَجَلَسُوا يَذْكُرُونَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ, وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغِوَايَةِ, وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ, وَالْبُعْدِ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, ثُمَّ يَذْكُرُونَ مَا مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ, جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا.

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟)).

قَالُوا: آللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ.

قَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ, وَلَكِنْ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ)). وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- رِجَالٌ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْشَى بَيَاضُ وُجُوهِهِمْ نَظَرَ النَّاظِرِينَ -يَعْنِي: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِ وُجُوهِهِمْ-, يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقْعَدِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ هُمْ؟

قَالَ: ((هُمْ جُمَّاعٌ مِنْ نَوَازِعِ القَبَائِلِ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

فَهَؤُلَاءِ الْأَخْلَاطُ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى, وَمِنْ قُرًى مُتَعَدِّدَةٍ؛ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ, وَمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ صِرَاطِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

((عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- رِجَالٌ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْشَى بَيَاضُ وُجُوهِهِمْ نَظَرَ النَّاظِرِينَ, يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقْعَدِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

هُمْ أُولَئِكَ النَّوَازِعُ الْأَخْلَاطُ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى, وَمِنْ قُرًى مُتَعَدِّدَةٍ, وَمِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ؛ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

((مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، لا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا مَا اجْتَمَعُوا لَا يُرِيدُونَ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- -وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الذِّكْرِ إِلَّا وَجْهَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--؛ نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو-: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ؟)).

قَالَ: ((غَنِيمَةُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْجَنَّةُ)).

فَالرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يُرَتِّبُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثَوَابًا وَجَزَاءً لِلذَّاكِرِينَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيَبْعَثَنَّ اللهُ أَقْوَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي وُجُوهِهِمُ النُّورُ عَلَى مَنَابِرِ اللُّؤْلُؤِ؛ يَغْبِطُهُمُ النَّاسُ، لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ)).

قَالَ: فَجَثَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! حَلِّهِمْ لَنَا نَعْرِفُهُمْ))؛ يَعْنِي: اوْصِفْهُمْ لَنَا حَتَّى نَعْرِفَهُمْ.

قَالَ: ((هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى وَبِلَادٍ شَتَّى؛ يَجْتَمِعُونَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ يَذْكُرُونَهُ)).

ذِكْرُ اللهِ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ؛ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيُدَاوِمُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيٌّ, حَيٌّ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ, وَأَمَّا الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذِكْرًا كَثِيرًا, وَلَا يُقْبِلُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ مَيِّتٌ؛ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ, وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

فَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ الَّذِي لَا حَيَاةَ فِيهِ لَا يَأْتِي مِنْهُ ذِكْرٌ وَإِنَّمَا هُوَ جِيفَةٌ أَوْ رِمَّةٌ؛ فَكَذَلِكَ الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَفْسِ الْمَثَابَةِ وَعَلَى ذَاتِ الدَّرَجَةِ, وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ فِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَذَلِكَ, حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا))؛ لَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا.

يَعْنِي: إِذَا مَا صَلَّى الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ, وَكَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ؛ فَإِنَّ الْبَيْتَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ كَالْقَبْرِ الَّذِي هُوَ فِي هُمُودٍ وَخُمُودٍ وَجُمُودٍ وَعَدَمِ حَيَاةٍ, وَإِنَّمَا إِذَا مَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْصُولًا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَإِنَّ الشَّأْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا كَمَا أَعَدَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بُيُوتَهُمْ قُبُورًا، وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيُتْلَى فِيهِ الْقُرْآنُ فَيَتَرَاءَى لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ».

إِنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ تَبْدُو لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ مُنِيرَةً مُتَلَأْلِئَةً مُشْرِقَةً كَمَا تَبْدُو لَنَا النُّجُومُ فِي صَفْحَةِ السَّمَاءِ بِاللَّيْلِ.

((أَثَرُ ذِكْرِ اللهِ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! الذِّكْرُ -كَمَا بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ- يُحَرِّزُ الْإِنْسَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الصَّبَاحِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ مَنْ قَالَهَا مِئَةَ مَرَّةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ -فِي الصَّبَاحِ, وَهِيَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ, وَمِنْ أَذْكَارِ الْمَسَاءِ أَيْضًا-؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الذِّكْرَ حِرْزًا لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ)).

فَكَأَنَّهُ دَخَلَ فِي حِصْنٍ وَتَحَصَّنَ بِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيئًا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، ((فَتَكُونُ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ, وَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ؛ إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَهُ، أَوْ زَادَ علَيْهِ)).

إِنَّ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ كُلِّهِ هُوَ ذِكْرُ اللهِ..

الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ يَشْكُو مِنْ قَسْوَةِ الْكَلَامِ، وَمِنْ حِدَّةِ اللِّسَانِ، وَأَنَّهُ مُرُّ الطَّبْعِ، غَلِيظُ السَّخِيمَةِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا، وَلَا شَفِيقًا، وَلَا هَادِئًا، وَلَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِرِفْقٍ، وَلَا أَنْ يَتَعَامَلَ مَعَ خَلْقِ اللهِ كَمَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ، بَلْ يَتَعَامَلُ كَمَا تَتَعَامَلُ الْبَهَائِمُ، وَرُبَّمَا أَحَطُّ!!

الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ؛ عِلَاجُهُ فِي ذِكْرِ اللهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَشْكُو إِلَيْكَ ذَرَبَ لِسَانِي))؛ عِنْدِي حِدَّةٌ فِي اللِّسَانِ.

قَالَ ﷺ: ((أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ؟!!)).

لَنْ يُذْهِبَ الْأَذَى مِنْ لِسَانِكَ وَلَنْ يَغْسِلَهُ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ..

الْهُمُومُ عِنْدَمَا تَكْثُرُ، وَالْغُمُومُ عِنْدَمَا تَتَوَارَدُ؛ كَيْفَ تَزُولُ؟!!

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟!! لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

النَّاسُ عِنْدَمَا يُصِيبُهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَسٍّ مِنْ نُصْبٍ وَعَذَابٍ وَمَرَضٍ وَشَقَاءٍ.. عِنْدَمَا يُصَابُونَ بِذَلِكَ؛ لَا يَلْجَئُونَ إِلَى الطَّبِيبِ، وَإِنَّمَا يَهِيمُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي أَوْدِيَةِ اتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ، مَعَ أَنَّ الْعِلَاجَ عِنْدَ الطَّبِيبِ، وَطَبِيبُهَا اللهُ.

فَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يُمَسُّ بِشَيْءٍ يَنْطَرِحُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يُقَدِّرْ عَلَى الْإِنْسَانِ شَيْئًا مِنَ الْمَقَادِيرِ غَيْرِ الْمُوَاتِيَةِ، وَلَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْئًا مِنْ أَلَمٍ، وَلَا مِنْ نَصَبٍ، وَلَا مِنْ هَمٍّ، وَلَا مِنْ مَرَضٍ، وَلَا مِنْ تَعَبٍ، وَلَا مِنْ غَمٍّ؛ إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ إِلَيْهِ؛ فَلِمَ لَا يَعُودُ؟!!

إِنَّنَا نُقِيتُ أَهْلِينَا بِمَا تَقُومُ بِهِ أَجْسَادُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُقِيتَ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَعُقُولَهُمْ بِمَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، يَسْتَمِدُّونَ الْحَيَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

أَلَا فَلْنُوَجِّهْهُمْ بَعْدَ أَنْ نُوَجِّهَ أَنْفُسَنَا إِلَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَإِنَّ فِي الْقَلْبِ قَسْوَةً لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتْ عَلَيْنَا الْأَوَامِرُ، وَعَظُمَتْ عَلَيْنَا النَّوَاهِي، فَيَنْبَغِي أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ الْأَصِيلِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيُّ النَّبِيلُ ﷺ، فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ -سَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسْرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ)).

كَثُرَتْ عَلَيَّ الشَّرَائِعُ؛ عَظُمَتْ عَلَيَّ الْأُمُورُ، ((دُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ))؛ ضَعْ يَدِي عَلَى ذَلِكَ الْمَعْلَمِ الْأَصِيلِ بِرَايَةِ التَّوْحِيدِ أَرْفَعُهَا، دُلَّنِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَكَانَ قَدْ دَلَّهُ، فَدَلَّهُ عَلَى الْمَعْلَمِ الْأَكْبَرِ فِيهِ، فَقَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-)).

مَا مِنْ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَتَغَيَّرُ بِهِ وَجْهُ الْحَيَاةِ، وَتَسْتَقِيمُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى سَنَنِهَا وَسُنَّتِهَا هُوَ أَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالْعَبْدُ إِذَا هُدِيَ إِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ؛ هُدِيَ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ.

((عَاقِبَةُ الْغَفْلَةِ عِنْ ذِكْرِ اللهِ))

إِنَّ الْبُعْدَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- فِيهِ الْغَفْلَةُ، وَالْخَسَارَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُقُوبَتِهِ الْبَلِيغَةِ بِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ؛ فَقَالَ: {وَمَن يَعْشُ}؛ أَيْ: يُعْرِضْ وَيَصُدَّ.

{عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ، فَمَنْ قَبِلَهَا فَقَدْ قَبِلَ خَيْرَ الْمَوَاهِبِ، وَفَازَ بِأَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَرَدَّهَا فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ خَسَارَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَقَيَّضَ لَهُ الرَّحْمَنُ شَيْطَانًا مَرِيدًا يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ، وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيَؤُزُّهُ إِلَى الْمَعَاصِي أَزًّا، وَمِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ أَنْ جَعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ)).

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللهِ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ -اتَّبَعُوا هَدْيَهُ وَسَارُوا عَلَى أَثَرِهِ-! لَا تَشْغَلْكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَّصِلُ بِاللهِ -سُبْحَانَهُ- مِنْ عَقَائِدَ إِيمَانِيَّةٍ، وَوَاجِبَاتٍ أَمَرَ اللهُ بِهَا، وَمُحَرَّمَاتٍ نَهَى عَنْهَا، كَمَا أَلْهَتِ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ الْمُنَافِقِينَ.

وَمَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ مَرَاتِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْخَاسِرُونَ فِي تِجَارَتِهِمُ، الَّذِينَ خَسِرُوا رَأْسَ مَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ عُمُرُهُمُ الْمَحْدُودُ، وَمَنْ خَسِرَ ذَاتَهُ كَانَ الْخَاسِرَ الْأَكْبَرَ.

فَمَنْ وَجَّهَ كُلَّ هَمَّهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِلْأَمْوَالِ وَجَمْعِهَا، وَعَدِّهَا وَتَنْمِيَتِهَا، وَلِلْأَوْلَادِ وَحَاجَاتِهِمْ وَمَطَالِبِهِمُ الَّتِي لَا تَنْتَهِي؛ اضْطُرَّ أَنْ يُنْفِقَ فِي ذَلِكَ كُلَّ طَاقَاتِ فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ، حَتَّى تَنْمَحِيَ مِنْ تَصَوُّرَاتِهِ عَقَائِدُ الْإِيمَانِ، وَأَوَامِرُ اللهِ الَّتِي كَلَّفَهُ بِهَا، وَيَحِلَّ مَحَلَّهَا مَفْهُومَاتُ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَمَطَالِبُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَتَّفِقَ فِي مَفْهُومَاتِهِ وَسُلُوكِهِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ؛ {فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

 ((حَالُ السَّلَفِ مَعَ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].

هَذَا حَالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ))، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ ﷺ: ((تَنَامُ عَيْنَايَ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي)).

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَخْذِ بِهَذَا الْأَصْلِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَجْمَعُ لَهُ شَتَاتَ الْأُمُورِ، فَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ أَمْرَهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَكُونَ فُرُطًا جَمْعًا مَجْمُوعًا؛ فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ)).

يَقُولُ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، وَوَقَعَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ تَبَعْثُرِ الْقُوَى وَالْفِكْرِ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَصْلٍ وَمِحْوَرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ؛ حَتَّى لَا أَقَعَ فِي التِّيهِ!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-)).

ذِكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَدَعُهُ فِي حَالٍ وَلَا عَلَى حَالٍ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فَضْلَهُ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِقِسْطٍ مِنْهُ وَافِرٍ، وَخَاصَّةً مَنْ كَانَ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ طُلَّابَ الْعِلْمِ هُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى النَّاسِ بِالْأَخْذِ بِهَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ يُجَالِدُونَ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَهْوَاءَ الْبَشَرِ وَشُرُورَهُمْ وَنَزَائِعَهُمْ إِلَى الْخَنَا وَالشُّرُورِ، وَلَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنْ عُدَّةٍ وَذَخِيرَةٍ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَقْوَى عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَيَفْتَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَبِهِمْ فُتُوحًا لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا إِلَّا اللهُ.

مَشْهُورٌ جِدًّا أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-.. وَكَانَ فِي جِلَادٍ، وَفِي صِرَاعٍ بِالسَّيْفِ, كَانَ يُحَارِبُ بِسَيْفِهِ, وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ, وَلَا يَكَادُ يَجِدُ ثَانِيَةً وَاحِدَةً مِنَ الزَّمَانِ مُتَفَرِّغًا فِيهَا لِشَأْنِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ عَلَى بَابِ غُرْفَتِهِ الَّتِي هِيَ بَيْتُ كُتُبِهِ -أَيْ: مَكْتَبَتُهُ-, وَمِنْ كَثْرَةِ انْشِغَالِهِ بِالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيبِ, وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْعِلْمِ, كَانَ الطَّعَامُ يَظَلُّ عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ, وَرُبَّمَا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي -رَحِمَهُ اللهُ-!!

يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ؛ بَلْ كَانَ الثَّوْبُ يَظَلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَزَوِّجًا -رَحِمَهُ اللهُ-, فَكَانَتْ خِدْمَتُهُ لَا تَلْزَمُ أَحَدًا بِصُورَةٍ ضَرُورِيَّةٍ, فَكَانَ الثَّوْبُ يَظَلُّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَهُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغْسَلَ وَيُنَظَّفَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَمَعَ ذَلِكَ, مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ, وَمَا كَانَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنَ الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ, وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ, وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ, وَالسَّعْيِ بِالْخَيْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ نَصِيحَةِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ, وَمِنَ الْأَخْذِ عَلَى يَدِ الْعَامَّةِ الْمَسَاكِينِ؛ حَتَّى لَا يَتَوَرَّطُوا فِي الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَثِيرَ الذِّكْرِ جِدًّا.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -تِلْمِيذُهُ الْهُمَامُ، رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا-: ((كُنْتُ أُصَلِّي الصُّبْحَ مَعَ شَيْخِي -شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ--، فَيَظَلُّ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الصُّبْحَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فِي ذِكْرٍ، وَدُعَاءٍ، وَإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-)).

إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ!! لَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَوْضِعِهِ, يَظَلُّ فِي ذِكْرٍ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

عِبَادَةٌ سَهْلَةٌ مُيَسَّرَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُوَفَّقُ إِلَيْهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ؛ لِأَنَّ: مَا يُكَلِّفُكَ الذِّكْرُ؟!! وَالْمَرْأَةُ -أَيْضًا- فِي بَيْتِهَا، مَا الَّذِي يُكَلِّفُهَا الذِّكْرُ؟!!

إِنَّهَا لَا تَطْبُخُ بِلِسَانِهَا, وَإِنَّهَا لَا تَكْنُسُ بِلِسَانِهَا, وَإِنَّهَا لَا تَغْسِلُ بِلِسَانِهَا!! وَلَكِنْ لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ؛ مَعَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَعْطَاهَا فُسْحَةً لِلِّسَانِ؛ إِلَّا أَنَّهُنَّ يَا لَيْتَهُنَّ يَسْكُتْنَ, وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمْنَ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ, وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ, وَالشِّرْكِ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ, وَالصُّرَاخِ وَالْعَوِيلِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ, وَتَجِدُ أَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ -إِلَّا عِنْدَ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُنَّ-.

مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الذِّكْرِ لَوْ أَنَّ اللهَ وَفَّقَ إِلَيْهَا امْرَأَةً -عَلَى كَثْرَةِ مَا عِنْدَهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ تَصْرِفَهُ فِي الذِّكْرِ؛ حَتَّى عِنْدَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ-؛ لَكَانَتْ مِنَ السَّابِقَاتِ, إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوَفَّقُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ, عَلَى يُسْرِهِ، وَعَلَى بَسَاطَتِهِ, وَعَلَى عَدَمِ تَكْلِفَتِهِ الْإِنْسَانَ شَيْئًا, بَلْ عَلَى عَظِيمِ عَطَائِهِ فِي الْمُقَابِلِ.

كَانَ الشَّيْخُ يَظَلُّ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فِي ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَيَّ يَقُولُ: يَا بُنِيَّ! هَذِهِ غَدْوَتِي, وَلَوْ لَمْ أَتَغَدَّ الْغَدَاءَ لَذَهَبَتْ قُوَّتِي)).

فَالسِّرُّ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ النُّصْرَةِ, وَالسِّرُّ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ التَّأْيِيدِ, وَالسِّرُّ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْبَاهِرِ, وَالتَّغْيِيرِ لِلْمُنْكَرَاتِ, وَإِقَامَةِ سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْكَوْنِ؛ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

يُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْحَبْسَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ كَانَ الْمَحَابِيسُ الَّذِينَ يَأْتِي أَوَانُ وَزَمَانُ الْإِفْرَاجِ عَنْهُمْ يَرْفُضُونَ الْخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ, وَيَقُولُونَ: نَظَلُّ فِي السِّجْنِ مَعَ الشَّيْخِ؛ لِأَنَّ السِّجْنَ تَحَوَّلَ إِلَى مَدْرَسَةٍ عِلْمِيَّةٍ لِذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَالْإِقْبَالِ عَلَى دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَكَانَ الْمَحَابِيسُ مِمَّا وَجَدُوا مِنْ لَذَّةِ الذِّكْرِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ, وَبَهْجَةِ الْعِلْمِ, وَأَثَرِ الْعِلْمِ فِي النُّفُوسِ؛ بِتَغْيِيرِ النَّفْسِ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ السُّوءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْبَهْجَةِ, وَالْإِحْسَاسِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ, وَالْجَمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كَوْنِهِ؛ كَانُوا يَرْفُضُونَ أَنْ يَخْرُجُوا، وَأَنْ يُفَارِقُوا الشَّيْخَ, يَقُولُونَ: بَلْ نَحْنُ مَعَ الشَّيْخِ!!

آنَ أَوَانُ الْإِفْرَاجِ؛ فَاخْرُجُوا إِلَى الْحُرِّيَّةِ!!

يَقُولُونَ: الْحُرِّيَّةِ هَاهُنَا, فِي الْخَارِجِ حَبْسٌ وَسِجْنٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا هُنَا؛ فُحُرِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ!!

فَهَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُيَسَّرًا, وَمِنَ الْحُجَجِ الَّتِي يُقِيمُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ الْأَنْفَاسَ الَّتِي نَتَنَفَّسُهَا إِنَّمَا هِيَ فِي النِّهَايَةِ خَزَائِنُ.

سَتَأْتِي أَنْفَاسُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَةِ الْخَزَائِنِ -تَمْثِيلًا-, وَهَذِهِ الْخَزَائِنُ مَهْمَا وَجَدْتَ فِيهَا مِنْ خِزَانَةٍ فَارِغَةٍ فَهِيَ الْحَسْرَةُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَنْدَمُونَ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَمَا يَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا جَعَلَ الْحَيَاةَ مَبْنِيَّةً عَلَى قَاعِدَةِ الْمَنْفَعَةِ, فَالْكَائِنُ الْإِنْسَانِيُّ لَا يَبْحَثُ إِلَّا عَمَّا فِيهِ مَنْفَعَتُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْفَعَةً أُخْرَوِيَّةً, أَمْ كَانَتْ مَنْفَعَةً دُنْيَوِيَّةً؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي ذَلِكَ حَظًّا وَنَصِيبًا.

((احْرِصُوا عَلَى ذِكْرِ اللهِ!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَذَا الْأَصْلُ الْكَبِيرُ مِنْ أُصُولِ هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ -أَعْنِي: أَصْلَ الذِّكْرِ-مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ، بَلْ إِنَّ الْعِبَادَاتِ -كُلَّ الْعِبَادَاتِ- إِنَّمَا شُرِعَتْ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَرَأْسُهَا -أَعْنِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيِّةِ وَهُوَ الصَّلَاةُ- نَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ إِقَامَتَهَا لِذِكْرِهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]؛ فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي أَنْ نُولِيَ هَذَا الْأَصْلَ الْأَصِيلَ مَزِيدَ الْعِنَايَةِ وَفَائِقَ الِاهْتِمَامِ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ هُوَ مَنْشُورُ الْوِلَايَةِ، وَبَابُ الْوُصُولِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَعْظَمُ الْعُبَّادِ عِبَادَةٍ فِي عِبَادَاتِهِمْ مِنَ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ أَكْثَرُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ذِكْرًا لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَأَعْظَمُ الْمُجَاهِدِينَ أَجْرًا أَكْثَرُهُمْ لِلهِ فِي الْجِهَادِ ذِكْرًا، وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ.

فَلْنَحْرِصْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَلْنَتَعَلَّمْهُ، وَلْنَجْعَلْهُ غِذَاءَ قُلُوْبِنَا وَرُوحَ أَفْئِدَتِنَا، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْأَخْذِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

عِبَادَ اللَّهِ؛ إِنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ ذَاكِرٌ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-, إِنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ رَبِّهِ, وَلَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ القَاعِدِةِ إِلَّا الثَّقَلَانِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ مِمَّنْ حُرِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَنْظُومَةِ الْكَوْنِ الذَّاكِرِ الْمُسَبِّحِ بِحَمْدِ رَبِّهِ.

فَادْخُل فِي مَنْظُومَةِ هَذَا الْكَوْنِ الْعَابِدِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بِذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَحَمْدِهِ, وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ, وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَرْعَاكَ, وَيُسَدِّدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاكَ.

فِي الْقَلْبِ قَسْوَةٌ لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُنَجِّيكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْمَهَالِكِ، وَلَا يُسَلِّطُ عَلَيْكَ مَنْ لَا يَرْحَمُكَ، وَيَغْفِرُ لَكَ الذَّنْبَ لِأَنَّكَ تَتُوبُ مِنْهُ وَتَتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْكَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فَالْتَفِتُوا إِلَيْهِ -بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ وَنَفَعَ بِكُمْ-، وَلَا تُهْمِلُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ، وَفِي أَهْلِيكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَحَفَدَتِكُمْ وَأَرْحَامِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ إِنْ أَصْلَحَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالذِّكْرِ أَصْلَحَ بِكُمْ غَيْرَكُمْ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُكُمْ وَأُمُورُهُمْ.

عَلَيْنَا أَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَأَنْ نَتَوَدَّدَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِإِكْثَارِ ذِكْرِهِ, فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْءٌ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا أَحَدَ يُحِبُّ الْمِدْحَةَ كَمَا يُحِبُّهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَلَا أَحَدَ يُحِبُّ الثَّنَاءَ كَمَا يُحِبُّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-, وَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهْلٌ، وَهُوَ لِلثَّنَاءِ أَهْلٌ.

وَمَهْمَا قُلْنَا فَإِنَّنَا لَا نَبْلُغُ مِنْ مَدْحِ رَبِّنَا شَيْئًا, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ رَبِّنَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ حَمَلَ عَنَّا مَشَقَّةً وَتَعَبًا أَنْ نَحْمَدَهُ عَلَى قَدْرِ مَا نَسْتَطِيعُ فَحَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْنَا إِلَّا هَذِهِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ رَفَعَ عَنَّا التَّعَبَ فِي الْحَمْدِ بِأَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, وَهِيَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ حَمْدًا لَا يَنْفَدُ أَبَدًا وَثَنَاءً يَبْقَى سَرْمَدًا، وَلَكِنْ عَطَاءُ رَبِّنَا مَوْصُولٌ وَخَيْرُ رَبِّنَا وَاصِلٌ, وَنَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذِكْرِهِ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَفْتَحَ لَنَا فِي الذِّكْرِ فَتْحًا مُبَارَكًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حُسْنُ الخُلُقِ سَبَبُ بِنَاءِ المُجْتَمِعِ الصَّالِحِ
  المد الشيعي في مصر
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  تَكْرِيمُ المَرْأَةِ فِي الإِسْلَامِ وَدَوْرُهَا فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  فَضَائِلُ الْعَشْرِ وَمَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ
  خُطْبَةُ عِيدِ الْفِطْرِ 1444هـ
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان