((شَرِيعَةُ التَّيْسِيرِ وَمُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ))
فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ التَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ المُفْرَدِ)).
وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ.
إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ، قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].
هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.
وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ، مِنْ قَوَاعِدِهَا:
* رَفْعُ الْحَرَجِ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
* وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((التَّيْسِيرُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجٌ وَحَيَاةٌ))
إِنَّ التَّيْسِيرَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ وَنَبَوِيٌّ، وَحَيَاةٌ قَائِمَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا تَوَافَرَتْ لَدَيْهَا شُرُوطُ التَّكْلِيفِ إِلَّا مَا يَكُونُ فِي إِمْكَانِهَا وَحُدُودِ اسْتِطَاعَتِهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا ضِيقٍ، بِحَيْثُ لَا تَسْتَطِيعُ الْأَمْرَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَجَهْدٍ.
فَعَلَى مِقْدَارِ الْهِبَةِ تَكُونُ دَرَجَةُ التَّكْلِيفِ وَالْمَسْئُولِيَّةِ، وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ مَسْئُولِيَّاتِ الْمُكَلَّفِينَ بِحَسَبِ هِبَاتِ اللهِ لَهُمْ؛ لِتَحْقِيقِ كَمَالِ الْعَدْلِ الرَّبَّانِيِّ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ التَّسْهِيلَ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
يُرِيدُ اللهُ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكُمْ فِي تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ؛ إِحْسَانًا وَتَفَضُّلًا مِنْهُ.
وَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِأَلَّا يَقْنُطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ, عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَمِّلُوا فِي رَوْحِ اللهِ، وَأَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ وَسِيعِ رَحْمَتِهِ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِوَسِيعِ كَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَيَحْثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَلَّا يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ.
فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
{لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا، وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا، وَلَا سَبِيلٌ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ.
وَلَكِنِ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: أَيْ وَصْفُهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا أَبَدًا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسِحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ.
وَلَكِنْ لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا، بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ؛ الْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ، وَالتَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَجَلِّ، وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ.
وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِا، فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بِقُلُوبِكُمْ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بِجَوَارِحِكُمْ.
إِذَا أُفْرِدَتِ الْإِنَابَةُ دَخَلَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْمَعْنَى كَمَا مَرَّ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ شَيْئًا.
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ} مَجِيئًا لَا يُدْفَعُ، {ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ الْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَمَا جُزْئِيَّاتُهَا وَأَعْمَالُهَا؟
فَأَجَابَ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} مِمَّا أَمَرَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ؛ كَمَحَبَّةِ اللهِ، وَخَشْيَتِهِ، وَخَوْفِهِ، وَرَجَائِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَمَحْبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَتَرْكِ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا.
فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُنِيبُ الْمُسْلِمُ، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
وَكُلُّ هَذَا حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ)).
((وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].
فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي)).
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((مَبْنَى الْعِبَادَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى التَّيْسِيرِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ ((اللَّهَ -تَعَالَى- يُرِيدُ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْكُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضْوَانِهِ أَعْظَمَ تَيْسِيرٍ، وَيُسَهِّلُهَا أَشَدَّ تَسْهِيلٍ، وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ فِي أَصْلِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الْمُوجِبَةِ لِثِقْلِهِ سَهَّلَهُ تَسْهِيلًا آخَرَ؛ إِمَّا بِإِسْقَاطِهِ، أَوْ تَخْفِيفِهِ بِأَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ.
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُهَا؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهَا جَمِيعُ الشَّرْعِيَّاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ)).
فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, قَالَ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: ((أَمَّا أَنَا؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا)).
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
* مِنْ مَظَاهِرِ التَّيْسِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ: التَّيْسِيرُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَاءِ؛ فَشَرَعَ اللهُ لِلْأُمَّةِ التَّيَمُّمَ، ((وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ: ((يَا فُلَانُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟)).
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ.
فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّعِيِدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟
قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ! فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ.
قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ».
فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ».
التَّيَمُّمُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.. اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْحَرَجَ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ وَأُمَّتِهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَالْمُسْلِمُونَ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ؛ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَكَرَمًا وَامْتِنَانًا؛ أَنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ كَانَ لَا يُطَهِّرُهُمْ إِلَّا الْمَاءُ، هَذِهِ الْأُمَّةُ جُعِلَ التُّرَابُ -لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ- طَهُورًا، وَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ فَاقِدًا لَهُ حُكْمًا؛ كَأَنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ بَلْ يَعْجِزُ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرَرٍ يُصِيبُهُ، فَهُوَ فَاقِدٌ الْمَاءَ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -امْتِنَانًا مِنْهُ وَرَحْمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ- التُّرَابَ حِينَ فَقْدِ الْمَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، جَعَلَهُ طَهُورًا.
وَمِنْ مَظَاهِرِ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوِ الْجَوْرَبَيْنِ:
الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالْجَوْرَبَيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ، وَاللَّفَائِفِ، وَالتَّسَاخِينِ؛ مِنَ الرُّخَصِ الدَّالَّةِ عَلَى يُسْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهَا -وَلِلهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ-.
وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ تُؤْتَى، وَمِنْ تَسْهِيلَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ.
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ ﷺ: ((دَعْهُمَا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ))، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الشَّرِيعَةِ: فَرْضُ الصَّلَوَاتِ خَمْسًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، رَاجَعَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَسْأَلَ اللهَ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ؛ قَالَ ﷺ: ((فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟
قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.
قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ؛ وَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.
قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.
قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((قَالَ اللهُ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ)).
لَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ بَعْضَ الرُّخَصِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ تَيْسِيرًا عَلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ، مِنْ تِلْكَ الرُّخَصِ: إِبَاحَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ -فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ الَّتِي يَجِدُ فِيهَا الْمُسْلِمُ الْمَشَقَّةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ الشَّدِيدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ-، أُبِيحَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَبَيْنَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كَذَلِكَ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا.
وَبَابَ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ مِنْ أَبْوَابِ فِقْهِ الصَّلَاةِ الْمُهِمَّةِ، وَقَدْ خَفَّفَ الشَّارِعُ عَنْهُمْ -أَيْ عَنْ أَهْلِ الْأَعَذْارِ-، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُصَلُّوا حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَهَذَا مِنْ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ وَسَمَاحَتِهَا، وَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
هَذَا كُلُّهُ مِنْ سَمَاحَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيُسْرِهَا، وَهُوَ فَضْلُ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِئَلَّا يَجْعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ تَيْسِيرِ الشَّرِيعَةِ فِي الْعِبَادَاتِ: التَّيْسِيرُ فِي تَشْرِيعِ الصَّوْمِ وَأَحْكَامِهِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183-184].
((فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا أَيَّامًا مُقَدَّرَاتٍ قَلِيلَاتٍ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْكُمْ صِيَامًا شَاقًّا مُضْنِيًا، يَأْخُذُ قِسْطًا كَبِيرًا مِنْ عُمُرِكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَتَى بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ أَوِ انْقَطَعَ مِنْ سَفَرِهِ صِيَامُ أَيَّامٍ بِعَدَدِ مَا أَفْطَرَ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ.
وَعَلَى الَّذِينَ يَتَكَلَّفُونَ الصِّيَامَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ -كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ السِّنِّ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى شِفَاؤُهُ- فِدْيَةٌ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ، وَهِيَ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ أَوْ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
وَصِيَامُكُمْ -لَوْ تَحَمَّلْتُمْ فِي الصِّيَامِ مَشَقَّةً كَبِيرَةً غَيْرَ ضَارَّةٍ بِصِحَّتِكُمْ- صِيَامُكُمْ حِينَئِذٍ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللهُ لَكُمْ مِنْ أَجْرٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِلصَّائِمِينَ)).
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وَقْتُ صِيَامِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِهِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا خِلَالَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْوَقَائِعِ.
وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ هُدًى لِلنَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، وَطَرِيقِ نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَهَذَا الْهُدَى جَاءَ فِي آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ كَاشِفَاتٍ وَجْهَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ، وَهَذَا الْهُدَى فَارِقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَقَعَ فِي الِالْتِبَاسِ، وَتَدَاخَلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ الْمُتَقَارِبَاتُ.
فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مُقِيمًا فَأَدْرَكَهُ الشَّهْرُ بِظُهُورِ هِلَالِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ فَلْيَصُمْ فِي أَيَّامِهِ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ فِي النَّفْسِ أَوْ زِيَادَةِ عِلَّةٍ وَاشْتِدَادِ وَجَعٍ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا سَفَرًا مُبَاحًا مَسَافَةَ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَيُجْهِدُهُ الصَّوْمُ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ التَّسْهِيلَ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَمِنْهَا الصَّوْمُ، وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ مُرَادَهُ فَأَنْزَلَ أَحْكَامَ التَّيْسِيرِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَشَرَعَ لَكُمْ فَرِيضَةَ الصِّيَامِ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ أَيَّامِ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا تَنْقُصُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَلِتُكْمِلُوا -أَيْضًا- عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرْتُمْ فِيهَا بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ وَلِتُعَظِّمُوهُ فِي نُفُوسِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَوَفَقَّكُمْ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَمَا مَنَحَكُمْ مِنْ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَلِكَيْ تُقَدِّمُوا بِالصِّيَامِ -الَّذِي تَصُومُونَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا- بَعْضَ الشُّكْرِ لَهُ -تَعَالَى- عَلَى جَلَائِلِ نِعَمِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ -لِمَرَضٍ أَوْ عَارِضٍ أَلَمَّ- أَنْ يَصُومَ، وَالْمَرَضُ مَرَضَانِ: مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَمَرَضٌ عَارِضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ فَإِذَا أَلَمَّ مَرَضٌ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ -أَيْ: لَا يُرْجَى كَشْفُهُ وَذَهَابُهُ وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ مِنْهُ- فَهَذَا يُفْطِرُ الْمَرْءُ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَكَانَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا كَبِرَ يُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ جَمَعَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ وَجْبَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ.
وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.
وَيُحَصِّلُ هُوَ بِنِيَّتِهِ ثَوَابَ صِيَامِهِ؛ إِذْ قَطَعَهُ عَنْهُ عُذْرٌ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَهُ عِبَادَةٌ فَقَطَعَهُ عَنْهَا مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ؛ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
مَنْ كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ.. مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ بِاللَّيْلِ وَتِلَاوَةٌ بِالنَّهَارِ.. مَنْ كَانَ لَهُ صِيَامٌ وَقِيَامٌ، وَصِلَةُ رَحِمٍ، وَسَعْيٌ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ لِلْإِصْلَاحِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَصُوَرِهِ؛ فَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ لَا يُدْفَعُ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ؛ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
فَالْمَرَضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُطْعَمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ مِسْكِينٌ وَجْبَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ الْمَرْءُ أَهْلَهُ.
وَأَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَهَذَا يُقْضَى عِنْدَ الشِّفَاءِ مِنْهُ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا مَعَالِمُ يُسْرِ الشَّرِيعَةِ: عِبَادَةُ الْحَجِّ؛ فِفِي يَوْمِ الْعِيدِ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ لِلنَّاسِ يُعَلِّمُهُمْ وَقَدْ بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا وَمُنْذِرًا وَبَشِيرًا ﷺ، مَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: ((افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، افْعَلْ وَلَا حَرَجَ)).
لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَيَسْعَى الْمُتَمَتِّعُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ إِذَا كَانَ أَخَّرَ السَّعْيَ فَلَمْ يُلْحِقْهُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَيَسْعَى حِينَئِذٍ أَيْضًا.
طَافَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَظَلَّ هُنَالِكَ إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ، وَسُنَّتُهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ﷺ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَكِنْ لَوْ تَدَافَعَ الْحَجِيجُ كُلُّهُمْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ.
وَلِذَلِكَ نَبِيُّكُمْ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ لَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ: ((وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ))، وَلَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ ﷺ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ قَالَ: ((وَقَفْتُ هَاهُنَا وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُعَسِّرْ عَلَيْنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ إِنْ أَخَذْنَا بِسُنَّتِهِ وَلَمْ نَتَجَاوَزْ، وَلَمْ نَقَعْ دُونَهَا، وَجَدْنَا الْيُسْرَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا الْعُسْرُ حَيْثُ ظَنَّ النَّاسُ الْيُسْرَ مُخَالِفِينَ شَرْعَ اللهِ وَهَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((الصَّلَاةُ بَيْنَ التَّخْفِيفِ وَضَرُورَةِ الْإِتْمَامِ))
إِنَّ مِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ التَّيْسِيرِ فِي شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ: أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بِتَخْفِيفِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلَكِنْ بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِحَقِّ الْعِبَادَةِ فِي صِحَّتِهَا أَوْ كَمَالِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: ((ذَا الْحَاجَةِ))، وَعِنْدَهُ ((الْكَبِير)).
وفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ : «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا)).
قَالَ: ((فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ)).
فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ سِوَى ((الصَّغِير))، فَإِنَّهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظ: ((الضَّعِيف)).
يُخْبِرُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَرَ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِمَامًا أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ، وَلَا يَتَجَاوَزَ الْمَشْرُوعَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى مَنْ وَرَاءَهُ؛ فَإِنَّ وَرَاءَهُ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، وَالْمَرِيضَ، وَصَاحِبَ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُحْتَاجُونَ إِلَى التَّخْفِيفِ، أَمَّا مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ فِي الصَّلَاةِ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَى أَحَدٍ بِذَلِكَ.
فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: يُخْبِرُ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَشْكُو إِمَامَهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ بِهِمْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ هَذَا الرَّجُلُ الشَّاكِي عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِ تَطْوِيلِ إِمَامِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ لِذَلِكَ، وَوَعَظَ النَّاسَ مَوْعِظَةً مَا رَآهُ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنَفِّرُونَ عِبَادَ اللهِ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ.
ثُمَّ أَمَرَ مَنْ كَانَ إِمَامًا فِي النَّاسِ أَنْ يُخَفِّفَ بِهِمْ، فَلَا يَتَجَاوَزُ الْمَشْرُوعَ فِي الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ وَرَاءَهُ كَبِيرَ السِّنِّ، وَضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، وَصَاحِبَ الْحَاجَةِ.
فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ:
- وُجُوبُ تَخْفِيفِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِتْمَامِ، وَغَضَبُهُ ﷺ عَلَى الْمُثْقِلِينَ، وَعَدُّهُ هَذَا مِنَ الْفِتْنَةِ.
- وَجَوَازُ تَطْوِيلِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ مَا شَاءَ، وَقُيِّدَ بِأَلَّا يَخْرُجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ ذَلِكَ كَيْ لَا تَصْطَدِمَ مَصْلَحَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ كَمَالِ الصَّلَاةِ مَعَ مَفْسَدَةِ إِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا.
- فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ مُرَاعَاةِ الْعَاجِزِينَ وَأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمَأْمُومِينَ يَنْحَصِرُ، وَآثَرُوا هُمُ التَّطْوِيلَ.
وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَ الْخَيْرِ، وَيُحَبِّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ التَّأْلِيفِ وَمِنَ الدِّعَايَةِ الْحَسَنَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.
- فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي مُرَاعَاةُ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، وَمِنْ مُرَاعَاتِهِمْ: أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي فِي وَقْتٍ رَاتِبٍ، فَلَا يَتَقَدَّمُ عَنْ عَادَتِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ؛ إِمَّا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ وَسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: ((إِنَّهُ مُنَافِقٌ)).
فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! -ثَلَاثًا- اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَنَحْوَهَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُؤَسَّسُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا: دَعْوَتُهُ لِكَيْ يَبْنِيَ مُجْتَمَعًا مُكَوَّنًا مِنْ عَنَاصِرَ مُخْتَلِفَةٍ تُكَوِّنُ مُجْتَمَعًا شَامِخًا وَصَرْحًا مَتِينًا يَسْتَعْصِي عَلَى قُوَّةِ التَّفْرِقَةِ وَالتَّبْدِيدِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ: التَّأْلِيفُ، وَالتَّيْسِيرُ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَعْسِيرٌ فِي أُمُورِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى تَكُونَ فِي نَظَرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ صَعْبَةً بَعِيدَةً عَنْ مُتَنَاوَلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الدِّينِ.
إِلَّا أَنَّ التَّأْلِيفَ لَا يَجُوزُ أَوْ يُسْتَحَبُّ إِلَّا بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِحَقِّ الْعِبَادَةِ فِي صِحَّتِهَا أَوْ كَمَالِهَا، أَمَّا إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ التَّطْوِيلُ عَنِ الْوَقْتِ.
مَعْرِفَةُ التَّخْفِيفِ الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ مِنَ الصُّعُوبَةِ يَنْتَابُهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ؛ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ ثَقِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ قَوْمٍ، خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَةِ آخَرِينَ.
إِذَا نَظَرْتَ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ غَضِبَ عَلَى مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ التَّطْوِيلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقِرَاءَةُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ؛ لَا سِيَّمَا إِذَا قَرَنْتَهُ بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي وَصَفَتْهَا السُّنَّةُ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِئَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَانَ يَقُومُ فِي الظُّهْرِ بِقَدْرِ مَا يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ -يَعْنِي: الْأَعْرَافَ-، وَأَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بـ ((الْمُؤْمِنُون))، وَفِي الْمَغْرِبِ أَيْضًا بـ: ((الطُّور)) ((وَالْمُرْسَلَات))، وَفِي الظُّهْرِ أَيْضًا بـ ((لُقْمَان)) وَ((السَّجْدَة))، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَعِنْدَمَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَالِ الصَّحَابَةِ وَحَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ تَعْرِفُ أَنَّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ تَخْفِيفًا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ الْيَوْمَ تَطْوِيلًا.
فَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا يَضَعُ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، فَيُطَوِّلُ تَطْوِيلًا لَا يَخْرُجُ إِلَى حَدِّ التَّنْفِيرِ تَارَاتٍ، وَيُخَفِّفُ تَخْفِيفًا لَا يَخْرُجُ إِلَى حَدِّ الْإِخْلَالِ بِحَقِّ الصَّلَاةِ تَارَاتٍ، وَيُغَلِّبُ جَانِبَ التَّخْفِيفِ عَلَى جَانِبِ التَّطْوِيلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَمَشِّيًا طَوْعَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْوَقْتُ وَتُمْلِيهَا الْمُنَاسَبَاتُ بِالنَّظَرِ إِلَى أَحْوَالِ الْمَأْمُومِينَ.
الْخَلَلُ وَاقِعٌ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَرَضِ عَلَى أَنَّهُ مَرَضٌ وَاقِعٌ، النَّاسُ لَا يَقْدُرُونَ الصَّلَاةَ قَدْرَهَا، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدُرُونَ كِتَابَ اللهِ قَدْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّطْوِيلِ فِي الْجُمْلَةِ فِي الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَتَسْمَعُ مِنْ هَذَا وَفِي هَذَا الْعَجَبَ، وَالنَّاسُ يَقْصِدُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي يُسْرِعُ فِيهَا وَيُخَفِّفُ الْإِمَامُ تَخْفِيفًا يُخِلُّ بِالصَّلَاةِ؛ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَطْمَئِنَّ فِي صَلَاتِهِ، لَا فِي رُكُوعِهِ وَلَا سُجُودِهِ، نَاهِيكَ عَمَّا يَأْتِي بِهِ حَالَ قِيَامِهِ.
الصَّلَاةُ لَا تُقْدَرُ بِقَدْرِهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّ، وَهِيَ أَرْكَنُ وَأَثْبَتُ وَأَسْمَى وَأَعْظَمُ مَا فِي هَذَا الدِّينِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ، وَإِيمَانُ الْمَرْءِ عَلَى قَدْرِ صَلَاتِهِ، وَحَالُهُ عِنْدَ اللهِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فِي صَلَاتِهِ.
((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ...)): فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَحْرِيمُ مَشَقَّةِ الْإِمَامِ بِالْمَأْمُومِينَ، وَاسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِحَاجَاتِهِمْ.
كَمَا قُلْتُ: الْمَرَضُ وَاقِعٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّلَطُّفِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّرَفُّقِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَدُّدِ؛ فَمَاذَا تَصْنَعُ؟! وَإِلَّا نَفَرُوا مِنَ الدِّينِ وَمِنْ أَهْلِهِ -أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ إِلَى الْحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا-.
فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ تَرْكِ الْمُسْتَحَبَّاتِ؛ مُرَاعَاةً لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَتَقْدِيرًا لِحَاجَاتِهِمْ، فَتَرْكُ تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ مَعَ اسْتِحْبَابِهِ مِنْ أَجْلِ مُرَاعَاةِ حَالِ الضَّعِيفِ وَالسَّقِيمِ وَذِي الْحَاجَةِ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ.
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّطْوِيلِ وَالتَّخْفِيفِ: أَحْوَالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَصَلَاةُ النَّبِيِّ ﷺ مُعْتَدِلَةٌ، وَلَا تُسَمَّى طَوِيلَةً.
هَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي اعْتِبَارِ التَّطْوِيلِ وَالتَّخْفِيفِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إِلَى أَعْرَافِ النَّاسِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ حُكِمَ بِأَنَّهُ طَوِيلٌ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ اتِّبَاعُ مَنْهَجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((سَمَاحَةُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ))
إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22])). قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، يَجْزِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا كَثِيرًا.
وَشَرَطَ اللهُ فِي الْعَفْوِ الْإِصْلَاحَ فِيهِ؛ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَانِي لَا يَلِيقُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي عُقُوبَتَهُ؛ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَكُونُ الْعَفْوُ مَأْمُورًا بِهِ.
إِذَا لَمْ يُثْمِرِ الْعَفْوُ إِصْلَاحًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}؛ فَكَانَ عَفْوُهُ مَدْعَاةً لِلْإِصْلَاحِ، أَمَّا إِذَا عَفَوْنَا فَلَمْ يَزْدَدِ الْقَوْمُ إِلَّا طُغْيَانًا، فَهَذَا عَفْوٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، إِنَّمَا الْعَفْوُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا أَنْتَجَ فَأَثْمَرَ إِصْلَاحًا.
وَفِي جَعْلِ أَجْرِ الْعَافِي عَلَى اللهِ مَا يُهَيِّجُ عَلَى الْعَفْوِ، وَأَنْ يُعَامِلَ الْعَبْدُ الْخَلْقَ بِمَا يُحِبُ أَنْ يُعَامِلَهُ اللهُ بِهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ فَلْيَعْفُ عَنْهُمْ، وَكَمَا يُحِبُّ أَنْ يُسَامِحَهُ اللهُ فَلْيُسَامِحْهُمْ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
مَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمِنَّةِ الْمُثْلَى، وَعَلَى رَاحَةِ الضَّمِيرِ، وَعَلَى كَثْرَةِ مَا يَجْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَى مَا يُرْجَى لَهُ مِنْ جَزَاءِ رَبِّهِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ يُرْجَى أَنْ يُكَمِّلَ اللهُ لَهُ النَّاقِصَ وَيَعْفُوَ عَمَّا مَزَجَ فِيهِ الْعَبْدُ أَغْرَاضَهُ وَشَهَوَاتِهِ النَّفْسِيَّةَ مَعَ دَوَاعِي الْإِخْلَاصِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْعَفْوُ عَنِ الْمُجْرِمِ الْمُفْسِدِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي الْعَفْوُ عَنْهُ مِمَّا يَزِيدُهُ فِي عُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ، فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَلَعَلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنَ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}، فَشَرَطَ اللهُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ فِيهِ صَلَاحٌ، فَأَمَّا الْعَفْوُ الَّذِي لَا صَلَاحَ فِيهِ بَلْ فِيهِ ضِدُّهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ -يَعْنِي: الْخَادِمَ- فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ، مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.
((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
* الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ؛ فَقَدْ قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَفْسِيرِهِ)): قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133-134].
أَمَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَيْفَ بِطُولِهَا، الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ؛ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِم وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-، هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ، وَأَعْلَى، وَأَجَلَّ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ:
الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.
* فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ: فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ))-؛ فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
* وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ: فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.
وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ».
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}؛ أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ.
وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.
فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!
فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ، وَهَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ».
لَقَدْ حَثَّتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ.
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِهِ: ((فِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالُ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ، وَتَرْكُ الْمُشَاحَّةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى أَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ)).
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ السَّمَاحَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟
قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ: ((أَنْظِرُوا الْمُوسِرَ، وَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ -هُوَ-: ((كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).
قَالَ: ((فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ)).
وَهَذِهِ نَمَاذِجُ مِنْ عَفْوِ النَّبِيِّ ﷺ وَسَمَاحَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَأْفَتِهِ؛ فَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).
فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.
ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ:
دَعْوَةُ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلهِ.
هِيَ أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ؛ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
هَذَا اسْتِفْهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}؛ أَيْ: لَا أَحَدَ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ، وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}: فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ.
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ لِلهِ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ، بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ، وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، لِلهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.
وَكُلُّ مُكَلَّفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعَا إِلَى اللهِ، وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ مَجَالٍ.
إِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الدَّعْوَةَ بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَالرِّفْقِ وَاللِّينِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ادْعُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ وَضْعُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يُوجِبُهُ الْعَقْلُ، وَتَكْشِفُهُ التَّجْرِبَةُ، وَتَتَحَقَّقُ بِهِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَبِالنُّصْحِ الْمَقْرُونِ بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ أَوِ الرَّهْبَةَ؛ لِلِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ وَاتِّبَاعِ مَا هَدَى إِلَيْهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا.
{وَجَادِلْهُم}: بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَدَبًا وَتَهْذِيبًا وَقَوْلًا وَفِكْرًا، وَتَابِعْ دَعْوَةَ مَنْ لَمْ تُثْبِتِ التَّجْرِبَةُ الطَّوِيلَةُ أَنَّهُمْ مَيْئُوسٌ مِنَ اسْتِجَابَتِهِمْ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ضَلَالًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِاسْتِعْدَادٍ مِنْ عُمْقِ نَفْسِهِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ لَدَيْهِ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
وَهَذِهِ نَمَاذِجُ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي مَسْجِدِهِ، فَبَالَ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ وَبِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَهَمَّ بِهِ الْأَصْحَابُ، غَلَّبَ جَانِبَ الْمَصْلَحَةِ، وَرَاعَى دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الرَّجُلِ، وَقَالَ الصَّحَابَةُ: ((مَهْ مَهْ!!))، يَزْجُرُونَهُ، مَاذَا تَفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ -فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ-، وَالرَّجُلُ لَا يَعْلَمُ الْأَحْكَامَ، حَدِيثُ عَهْدٍ هُوَ بِهَذَا الْحُكْمِ، لَا يَعْلَمُهُ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ.
فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ، وَقَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ)).
وَالْإِزْرَامُ: قَطْعُ الْبَوْلِ وَالدَّمْعِ وَمَا أَشْبَهَ، فَقَطْعُهُ يَضُرُّ -يَضُرُّ فَاعِلَهُ-.
قَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ))، فَلَمَّا قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ، أَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرَيْنِ: أَزَالَ جَهَالَةَ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ، فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِ الرَّجُلِ، فَطَهَّرَ الْمَوْضِعَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ: ((إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ)).
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأتْبَعَهُ إِيَّاهُ)).
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: ((يَرْحَمُكَ اللهُ))، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ.
فَقُلْتُ: وَاثُكْلَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ؟!!
فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونِي، لَكِنِّىِ سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ))، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ: عَدَمُ إِكْرَاهِ أَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وَانْتِشَارُهُ بِالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ خَلْقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ لَا إِكْرَاهَ لِأَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ الْبَيِّنُ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى إِكْرَاهِ أَحَدٍ عَلَيْهِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاحَةِ وَالتَّيْسِيرِ فِي الْإِسْلَامِ:
الْوَسَطِيَّةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَالْبُعْدُ عَنِ الْغُلُوِّ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ، وَالاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي وَصَّانَا اللهُ -تَعَالَى- بِاتِّبَاعِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الجَائِرَةِ.
لَكِنَّ الجَوْرَ قَدْ يَكُونُ جَوْرًا عَظِيمًا عَنِ الصِّرَاطِ، وَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا كَالطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ السَّالِكَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجُورُ جَوْرًا فَاحِشًا، وَقَدْ يَجُورُ دُونَ ذَلِكَ.
فَالْمِيزَانُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالجَوْرِ عَنْهُ: هُوَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ.
وَالجَائِرُ عَنْهُ إِمَّا مُفَرِّطٌ ظَالِمٌ، أَوْ مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ، أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاقْتِصَادُ وَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ، كَمَا أَنَّ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ الْمِلَلِ، وَلَمْ يُصِبِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مُتَوَرِّطٌ فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْهُمَا.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الْغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
قَالَ: ((ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا؛ فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ..
وَسَطًا فِي الأَنْبِيَاءِ: بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ كَالنَّصَارَى، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ كَاليَهُودِ، بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.
وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ: لَا تَشْدِيدَاتِ اليَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.
وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ: لَا كَالْيَهُودِ الَّذِين لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ ودَرَجَ.
بَلْ طَهَارَتُهُمْ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ.
فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا، وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهُمْ، فَلِهَذَا كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا}، كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ.
لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ)).
* وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ؛ ((فَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].
وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا: كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْي.
وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ: كَقِيامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ)).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: ((الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الْغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).
فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْعَجِيبِ أَنَّهُ يَشَامُّ النَّفْسَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّ القُوَّتَيْنِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا: أَقُوَّةُ الْإِقْدَامِ، أَمْ قُوَّةُ الِانْكِفَافِ وَالْإِحْجَامِ وَالْمَهَانَةِ، وَقَدْ وَقَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا أَقَلَّ القَلِيلِ فِي هَذَيْنِ الْوَادِيَيْنِ: وَادِي التَّقْصِيرِ، وَوَادِي الْمُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي.
وَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ جِدًّا الثَّابِتُ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ الْوَسَطُ)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْفَرْقُ بَيْنَ الِاقْتِصَادِ وَالتَّقْصِيرِ: أَنَّ الِاقْتِصَادَ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَهُ طَرَفَانِ هُمَا ضِدَّانِ لَهُ، وَهُمَا تَقْصِيرٌ وَمُجَاوَزَةٌ.
فَالْمُقْتَصِدُ قَدْ أَخَذَ بِالْوَسَطِ وَعَدَلَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [االأعراف:31].
وَالدِّينُ كُلُّهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ، بَلِ الْإِسْلَامُ قَصْدٌ بَيْنَ الْمِلَلِ، وَالسُّنَّةُ قَصْدٌ بَيْنَ الْبِدَعِ، وَدِينُ اللهِ قَصْدٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، وَالْغُلُوُّ: مُجَاوَزَتُهُ وَتَعَدِّيهِ.
وَمَا أَمَرَ اللهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: فَإِمَّا إِلَى غُلُوٍّ وَمُجَاوَزَةٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ.. وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ كَانَ وَسَطًا عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ يَسِيرُ.
وَالْغُلُوُّ وَالْمُجَاوَزَةُ، وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ، آفَتَانِ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمَا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ إِلَّا مَنْ مَشَى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَرَكَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، لَا مَنْ تَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِأَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ وَمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!
وَهَذَانِ الْمَرَضَانِ الْخَطِرَانِ قَدِ اسْتَوْلَيَا عَلَى أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ؛ وَلِهَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْهُمَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَخَوَّفُوا مَنْ بُلِيَ بِأَحَدِهِمَا بِالْهَلَاكِ.
وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، يَكُونُ مُقَصِّرًا مُفَرِّطًا فِي بَعْضِ دِينِهِ، غَالِيًا مُتَجَاوِزًا فِي بَعْضِهِ، وَالمَهْدِيُّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ)).
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).
فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ، الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ.
وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى.
وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.
وَالْحَيَاةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ -مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْوَحْي الْمَعْصُومِ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ الْبُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.
فَلَا تُفَرِّطْ وَلَا تُفْرِطْ وَكُنْ وَسَطًا = وَمِثْلَ مَا أَمَرَ الرَّحْمَنُ فَاسْتَقِمِ
سَدِّدْ وَقَارِبْ وَأَبْشِرْ وَاسْتَعِنْ بِغُدُوٍّ = وَالرَّوَاحِ وَأَدْلِجْ قَاصِدًا وَدُمِ
فَمِثْلَ مَا خَانَتِ الْكَسْلَانَ هِمَّتُهُ = فَطَالَمَا حُرِمَ الْمُنْبَتُّ بِالسَّأَمِ
((الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ سَبِيلَا التَّطَرُّفِ وَالتَّشَدُّدِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْجَهْلَ بِدِينِ اللهِ -خَاصَّةً بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْوَاجِبِ تَعَلُّمُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا-، وَالْكِبْرَ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ أَكْبَرِ سُبُلِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ رَبِّهِ، وَفِي الْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِيهِ الْهِدَايَةُ وَالِاهْتِدَاءُ، وَلِأَنَّ الْجَهْلَ فِيهِ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَمَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ=مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
فَمِنْ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَالِانْحِرَافِ عَنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ: الْجَهْلُ، الْجَهْلُ بَمَعَانِي وَدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ عُلَمَاءِ وَجَهَابِذَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ الْخَوَارِجَ، وَوَصَفَ عِبَادَتَهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، فَلَا يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَيَفْقَهُونَهُ، فَيَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
وَوَاقِعُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يَفْرِضُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ فِيهِ بِدِقَّةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ وَأَنَاةٍ.
إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ تَتَوَرَّطُ فِي أُمُورٍ مِنْ أُمُورِ مُخَالَفَاتِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي تُنْذِرُ بِأَسْوَأِ الْمَآلَاتِ فِي الْآخِرَةِ!
إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَكَادُ تُحَقِّقُ مِنَ الْعَقِيدَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْجُوَ بِدِينِهِ وَعِرْضِهِ سَالِمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الْمَعَابَةِ وَالتَّأْثِيمِ، وَالْوُلُوغِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَتَّى مِنْ مُسْلِمٍ صَحِيحِ الِاعْتِقَادِ!
إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَا زَالَتْ تَطْلُبُ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اللهِ، لَا مِنَ الْأَحْيَاءِ، بَلْ مِنَ الْأَمْوَاتِ!
إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَا تَزَالُ جَاهِلَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَسْمَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ مَنْ يَقُولُ مُعْتَقِدًا بِيَقِينٍ: إِنَّ اللهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ!! يُرِيدُ: بِذَاتِهِ!
مَا أَكْثَرَ مَا يَتَوَرَّطُ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ فِي مُخَالَفَةِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ!
إِنَّ الْجَمَاهِيرَ الَّتِي هِيَ كَالْقُطْعَانِ الشَّارِدَةِ تَؤُمُّ الرِّمَمَ الْبَالِيَةَ، تَقْصِدُهَا بِالطَّلَبِ، وَتَسْتَغِيثُ عِنْدَهَا بِمَا لَا يُسْتَغَاثُ فِيهِ إِلَّا بِاللهِ، وَمَا أَكْثَرَ الْخُرُوقَاتِ الَّتِي تَعْتَرِضُ وَتَلْحَقُ بِنَسِيجِ الْعَقِيدَةِ، حَتَّى صَارَ مُتَهَرِّئًا لَا يَكَادُ يَقُومُ، وَلَا يَكَادُ يَقِفُ عِنْدَهُ الْبَصَرُ لَا يَنْزَلِقُ عَلَيْهِ!
تَنْقِيَةُ الْعَقِيدَةِ مِنَ الْغَبَشِ، وَمِمَّا لَحِقَ بِهَا عَلَى مَرِّ الْقُرُونِ وَتَطَاوُلِ السِّنِينَ أَمْرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ الدَّاعِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْخِنْصَرَ عِنْدَ بَدْئِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-.
هَذَا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ؛ يُلَخِّصُونَ الدَّعْوَةَ فِي كَلِمَتَيْنِ: فِي التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ.
تَأَمَّلْ! إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يَنْفِي عَنِ الْعُقُولِ خُرَافَاتِهَا، وَعَنِ الْقُلُوبِ شَعْوَذَاتِهَا، وَيَنْفِي عَنِ الْجَوَارِحِ خَطَأَهَا، وَيُقِيمُ الْأَبْدَانَ وَالْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَنْفُسَ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، مِنْ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ قَالَ الصَّحَابَةُ، هَذَا هُوَ الْعِلْمُ.
مِنْ أَسْبَابِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: تَصَدُّرُ الْجُهَّالِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَوَعْظِهِمْ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَانْظُرْ حَوْلَكَ وَاسْمَعْ تُوقِنْ وَتَقْنَعْ.
هَذَا النَّصُّ الَّذِي ذَكَرَهُ نَبِيُّنَا ﷺ يَتَنَاوَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَيَانِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: «اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَدِ اجْتَهَدُوا أَنْ يُدْخِلُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ شَيْئًا مِنْ بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِذَبِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَدَفْعِ الْبَاطِلِ، حَتَّى ظَفِرُوا بِقَوْمٍ فِي آخِرِ الْوَقْتِ مِمَّنْ تَصَدَّى لِلْعِلْمِ، وَلَا عِلْمَ لَهُ، وَلَا فَهْمَ لَهُ، وَيَسْتَنْكِفُ وَيَتَكَبَّرُ أَنْ يَتَفَهَّمَ وَأَنْ يَتَعَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُتَصَدِّرًا مُعَلِّمًا -بِزَعْمِهِ-، فَيَرَى بِجَهْلِهِ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَارًا وَغَضَاضَةً، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَبَبًا إِلَى ضَلَالِهِ وَضَلَالِ جَمَاعَتِهِ مِنَ الْأُمَّةِ ((حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ: «لَا شَيْءَ أَوْجَبُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلرِّيَاسَةِ فِي الْعِلْمِ؛ فَمِنَ الْإِخْلَالِ بِهَا يَنْتَشِرُ الشَّرُّ، وَيَكْثُرُ الْأَشْرَارُ، وَيَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ التَّظَاهُرُ وَالتَّنَافُرُ، وَلَمَّا تَرَشَّحَ قَوْمٌ لِلزَّعَامَةِ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَحْدَثُوا بِجَهْلِهِمْ بِدَعًا اسْتَغْنَوْا بِهَا عَامَّةً، وَاسْتَجْلَبُوا بِهَا مَنْفَعَةً وَرِيَاسَةً، فَوَجَدُوا مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعَدَةً بِمُشَارَكَةٍ لَهُمْ، وَقُرْبِ جَوْهَرِهِمْ مِنْهُمْ.
وَفَتَحَوُا بِذَلِكَ طُرُقًا مُنْسَدَّةً، وَرَفَعُوا بِهِ سُتُورًا مُسْبَلَةً، وَطَلَبُوا مَنْزِلَةَ الْخَاصَّةِ، فَوَصَلُوهَا بِالْوَقَاحَةِ، وَبِمَا فِيهِمْ مِنَ الشَّرَهِ، فَبَدَّعُوا الْعُلَمَاءَ، وَجَهَّلُوهُمُ اغْتِصَابًا لِسُلْطَانِهِمْ، وَمُنَازَعَةً لِمَكَانِهِمْ، فَأَغْرَوْا بِهِمْ أَتْبَاعَهُمْ؛ حَتَّى وَطَئُوهُمْ بِأَظْلَافِهِمْ وَأَخْفَافِهِمْ، فَتَوَلَّدَ بِذَلِكَ الْبَوَارُ وَالْجَوْرُ الْعَامُّ وَالْعَارُ».
تَأَمَّلْ فِي كَلَامِهِ، وَانْظُرْ فِي حَالِ النَّاسِ حَوْلَكَ.
«مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مَا حَلَّ؛ مِنِ انْحِرَافِ بَعْضِ الشَّبَابِ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَظُهُورِ بَوَادِرِ الْفِتَنِ، وَتَجَرُّؤِ الصِّغَارِ عَلَى كِبَارِ الْأَئِمَّةِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقَاةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ مَعَ مَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمَوَاقِعِ الْمَصْلَحَةِ؛ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مَا حَلَّ مِنْ هَذَا إِلَّا لِاخْتِلَالِ الْمِيزَانِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ الْعُلَمَاءُ، وَارْتِقَاءِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ إِلَى مَصَافِّ الْكِبَارِ زُورًا وَظُلْمًا وَبُهْتَانًا، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى!!».
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ، قَلِيلٍ سُؤَّالُهُ، كَثِيرٍ مُعْطُوهُ». هَذَا حَالٌ.
وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَائِدًا لِلْهَوَى، «وَسَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْهَوَى فِيهِ قَائِدٌ لِلْعَمَلِ؛ اعْلَمُوا أَنَّ حُسْنَ الْهَدْيِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ الْعَمَلِ». أَخْرَجَ مَالِكٌ هَذَا الْأَثَرَ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِذْكَارِ»: «هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ حِسَانٍ مُتَوَاتِرَةٍ».
قَالَ: «وَالْعِيَانُ –يَعْنِي: الْمُشَاهَدَةَ- فِي هَذَا الزَّمَانِ –أَيْ: فِي زَمَانِهِ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْهِجْرِيِّ؛ فَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ 463هـ- عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَالْبُرْهَانِ».
يَقُولُ: «لَقَدْ وَقَعَ فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ». فَكَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الْمُشَاهَدَةِ كَالْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ فَمَا نَقُولُ فِي زَمَانِنَا؟!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قَالُوا: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى: «الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
وَفِي بَعْضِهَا: «مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
وَعَلَيْهِ؛ فَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْفَشَلِ الذَّرِيعِ؛ فَهَذَا اجْتِهَادُ أَقْوَامٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَهِدُوا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.
لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِحَقَائِقِ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِمَآلَاتِ الْأَحْوَالِ.
لِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ بِهَذَا الْوَاقِعِ الْمَنْظُورِ الْمُشَاهَدِ؛ وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَهُ.
وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَهُ.
وَحْدَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ.
وَإِنَّمَا لَا يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ إِلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ: مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ، فَالطِّفْلُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ، وَالْحَيَوَانُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ أَوْ لَا يَتَعَلَّمُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخَطَأِ.
مِنْ أَسْبَابِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالْكِبْرُ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: 43].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 50].
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَذَهَبَ إِلَى قَوْلٍ مُخَالِفٍ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هُدًى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَوًى، وَالْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ: إِمَّا اتِّبَاعُ الرَّسُولِ ﷺ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: إِنَّمَا يَأْتَمِرُ بِهَوَاهُ، فَمَهْمَا رَآهُ حَسَنًا فَعَلَهُ، وَمَهْمَا رَآهُ قَبِيحًا تَرَكَهُ، وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا عَبَدَهُ»(».
«إِذَا حَكَمَ الْهَوَى؛ اسْتُغْلِقَ الْعَقْلُ، وَسُدَّتْ مَنَافِذُ التَّفْكِيرِ، فَلَا نَظَرَ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَا إِلَى الدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ؛ لِأَنَّ الْهَوَى يَرُدُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ»، فَيُصْبِحُ الْمَرْءُ أَسِيرًا لِسُلْطَانِ الْهَوَى، تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ، وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الدُّرُوبُ، وَتُظْلِمُ فِي طَرِيقِهِ سُبُلُ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ.
مِنْ مَوَانِعِ قَبُولِ الْحَقِّ: الْحَسَدُ أَوِ الْكِبْرُ؛ فَهَذَا مَانِعٌ قَائِمٌ فِي الْقَلْبِ، يَمْنَعُ نَفَاذَ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَلْبِ لِتُبَدِّدَ أَنْوَارُ الْحَقِّ ظُلْمَتَهُ، وَهُوَ: إِمَّا حَسَدٌ أَوْ كِبْرٌ، وَذَلِكَ مَانِعُ إِبْلِيسَ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ، وَهُوَ دَاءُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ -إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ-، وَبِهِ تَخَلَّفَ الْإِيمَانُ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَعَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ، وَاتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ.
وَهُوَ الَّذِي مَنَعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَبِهِ تَخَلَّفَ الْإِيمَانُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرْتَابُونَ فِي صِدْقِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ؛ لَكِنْ حَمَلَهُمُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْكِبْرِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- قَارُونَ وَمَا أُوتِيَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَالُوا: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ رَغَّبَ -تَعَالَى- فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ بِالسَّبَبِ الْمُوصِلِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كُتُبِهِ، وَأَخْبَرَتْ بِهَا رُسُلُهُ، الَّتِي قَدْ جَمَعَتْ كُلَّ نَعِيمٍ، وَانْدَفَعَ عَنْهَا كُلُّ مُكَدِّرٍ وَمُنَغِّصٍ، {نَجْعَلُهَا} دَارًا وَقَرَارًا {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ إِرَادَةٌ؛ فَكَيْفَ الْعَمَلُ لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْحَقِّ؟! {وَلا فَسَادًا}: وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، فَإِذَا كَانُوا لَا إِرَادَةَ لَهُمْ فِي الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَا الْفَسَادِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ إِرَادَتُهُمْ مَصْرُوفَةً إِلَى اللَّهِ، وَقَصْدُهُمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَحَالُهُمُ التَّوَاضُعَ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْعَاقِبَةُ} أَيْ: حَالَةُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَمِرُّ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ -تَعَالَى-، وَغَيْرُهُمْ -وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ بَعْضُ الظُّهُورِ وَالرَّاحَةِ- فَإِنَّهُ لَا يَطُولُ وَقْتُهُ، وَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ.
وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْفَسَادَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، وَلَا لَهُمْ مِنْهَا نَصِيبٌ)).
وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
(({وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أَيْ: كِبْرًا وَتِيهًا وَبَطَرًا، مُتَكَبِّرًا عَلَى الْحَقِّ، وَمُتَعَاظِمًا عَلَى الْخَلْقِ؛ {إِنَّكَ} فِي فِعْلِكَ ذَلِكَ {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} فِي تَكَبُّرِكَ، بَلْ تَكُونُ حَقِيرًا عِنْدَ اللهِ، وَمُحْتَقَرًا عِنْدَ الْخَلْقِ، مَبْغُوضًا مَمْقُوتًا، قَدِ اكْتَسَبْتَ أَشَرَّ الْأَخْلَاقِ، وَاكْتَسَيْتَ أَرْذَلَهَا مِنْ غَيْرِ إِدْرَاكٍ لِبَعْضِ مَا تَرُومُ)).
وقال تَعَالَى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
(({وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أَيْ: لَا تُمِلْهُ وَتَعْبَسْ بِوَجْهِكَ النَّاسَ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ وَتَعَاظُمًا.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أَيْ: بَطَرًا؛ فَخْرًا بِالنِّعَمِ، نَاسِيًا الْمُنْعِمَ، مُعْجَبًا بِنَفْسِكَ؛ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} فِي نَفْسِهِ وَهَيْئَتِهِ وَتَعَاظُمِهِ {فَخُورٍ} بِقَوْلِهِ)).
وَكَمَا حَذَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْكِبْرِ فِي كِتَابِهِ حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ، وَرَهَّبَ مِنْهُ، وَنَفَّرَ عَنْهُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).
هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَعَرَّفَهُ، وَحَدَّدَهُ؛ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُسَامِحُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ؛ لَنْ يُدْخِلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَ((مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)): شَيْءٌ يَسِيرٌ، شَيْءٌ قَلِيلٌ، شَيْءٌ لَا وَزْنَ لَهُ؛ وَلَكِنَّهُ إِنْ دَخَلَ الْقَلْبَ أَفْسَدَهُ، وَاسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ النَّارَ.
((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).
اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْأَمْرَ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً))، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُفَسِّرًا، وَمُوَضِّحًا، وَمُبَيِّنًا: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))؛ يَعْنِي: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا إِنْ قُصِدَ بِهِ أَنْ يَعْلُوَ النَّاسُ بِهِ النَّاسَ، فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اسْتَكْبَرَ بِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ مَا إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَلَا عُجْبٍ؛ فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).
((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).
((بَطَرُ الْحَقِّ)): دَفْعُهُ، وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهِ؛ إِمَّا لِاخْتِلَافِ مَذْهَبِهِ، وَإِمَّا لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَإِمَّا لِحَقَارَةِ أَصْلِهِ، وَإِمَّا لِفَقْرِهِ، الْمُهِمُّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
رَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَأْمُونُ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ فَقِيرًا، وَلِأَنَّهُ ﷺ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَشْيَاخِهِمْ صَغِيرًا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: 31]، لَيْسَ إِلَّا هَذَا؟! هُوَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ!!
يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، فَرَدُّوا الْحَقَّ عَلَيْهِ.
رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ مُهْلِكٌ، وَالنَّاسُ فِي رَدِّ الْحَقِّ طَبَقَاتٌ:
* مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهُ.
أَبُو جَهْلٍ وَقَدْ حَارَبَ الرَّسُولَ ﷺ حَرْبَهُ، فَلَمَّا مَكَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ فِي بَدْرٍ -وَكَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ-؛ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا رَآهُ مُجَنْدَلًا وَفِيهِ حَيَاةٌ قَالَ: ((عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ!))، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدَنِهِ قِلَّةٌ، لَمَّا رَآهُ الْأَصْحَابُ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِسِوَاكٍ مِنْ شَجَرَةِ أَرَاكٍ، فَانْكَشَفَتْ رِجْلُهُ، انْكَشَفَتْ سَاقُهُ، فَضَحِكَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَضْحَكُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَحُمُوشَةِ رِجْلَيْهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُمَا لَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)).
فَلَمَّا وَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ صَعِدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ -سَيْفَ نَفْسِهِ-، وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَزَّ عُنُقَهُ؛ لِيَأْتِيَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمَّا أَنْ قَعَدَ عَلَى صَدْرِ أَبِي جَهْلٍ؛ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!)).
كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ؛ حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالِ!!
كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا الْآنَ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ، وَأَعَزَّهُ، وَأَعَزَّ دِينَهُ...؛ وَلَكِنْ.. كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ إِلَّا بِطُلُوعِ رُوحِهِ!! ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!))، ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ لِنَفْسِهِ أَنْ يُذْبَحَ بِسَيْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: ((أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ خُذْ سَيْفِي فَاحْتَزَّ بِهِ رَقَبَتِي!!))، فَكَانَ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).
إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَّبِعَهُ، لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ، وَلَا الْأَجْدَادُ، وَلَا مَا نَشَأْتَ عَلَيْهِ فِي بِيئَتِكَ، وَلَا مَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى الْخَطَأِ وَالْبَاطِلِ، لَا عَلَى الصَّوَابِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ فِي قَوْمٍ مُشْرِكِينَ، يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَيُقَدِّسُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَكْفُرُونَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَكَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّ الرَّأْيَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي عَلَى صَوَابٍ؟!!
كَانَ الرَّأْيُ الْعَامُّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ!!
وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ؛ فَكَانُوا قِلَّةً، وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَلَّمُوا عِلْمَ الْكِتَابِ السَّابِقِ -كَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ-؛ فَكَانُوا لَا يُعَدُّونَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قِلَّتِهِمْ.
فَهَلْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِهَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِحُجَّتِهِمْ: نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا -أَيْ: مَا وَجَدْنَا- عَلَيْهِ آبَاءَنَا؟! هَلَ سَلَّمَ لَهُمْ؟! كَانَ آبَاؤُهُمْ مُشْرِكِينَ، كَانُوا جَهَلَةً كَافِرِينَ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَجَرَّدَ، وَقَدْ دَعَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى ذَلِكَ، نَبِيُّكُمْ رَسُولُ اللهِ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ؛ لَمَّا أَنْ حَارَبُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ؛ كَانَتْ أَمَانَاتُهُمْ عِنْدَهُ، يَأْتَمِنُونَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيَثِقُونَ فِي عَقْلِهِ؛ وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُونَ لَهُ فِي دِينِهِ، يَقُولُونَ: يَعِيبُ آلِهَتَنَا وَدِينَ آبَائِنَا، وَيُسَفِّهُ حُلُومَنَا وَحُلُومَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا!!
كِبْرٌ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّسُولُ ﷺ عِنْدَهُمْ هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، مَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَلِكَ رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَتَاهُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ، كَذَّبُوهُ؛ لِلْعَصَبِيَّةِ: أَنَتْبَعُ هَذَا؟! أَنَسِيرُ وَرَاءَهُ؟! مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَاتِ فِي عِنَادِهِمْ، وَكِبْرِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ.
نَصَحَهُمُ اللهُ؛ لِأَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ هَذِهِ النَّصِيحَةَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46]، هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ!! تَقُولُونَ: مَجْنُونٌ!! لَقَدْ ظَلَّ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِيكُمْ، وَهُوَ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ؛ فَمَا الَّذِي جَدَّ؟!!
النَّبِيُّ ﷺ.. عَانَدُوهُ، وَحَارَبُوهُ، فَاحْذَرْ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي الْكِبْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.
((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ)): إِيَّاكَ أَنْ تَدْفَعَ الْحَقَّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ -مِنْ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ-، إِذَا رَدَدْتَهُ؛ فَأَنْتَ عَلَى خَطَرٍ كَبِيرٍ، لَا تَرُدُّهُ إِلَّا كِبْرًا!!
((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)): احْتِقَارُهُمْ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمْ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، وَعَدُّهُمْ هَبَاءً لَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَمَا يَعْلَمُ التَّقِيَّ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا اللهُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ الْإِكْرَامُ عِنْدَ اللهِ: تَقْوَى اللهِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ.. يَنْصَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِهِ، وَعَانَدُوهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}؛ دَعُوكُمْ مِنَ الْجَمْعِ، لَا تُفَكِّرُوا فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّ التَّفْكِيرَ الْجَمَاعِيَّ تَفْكِيرٌ كَتَفْكِيرِ الْقَطِيعِ.
وَأَنْتَ تَجِدُ الْقَطِيعَ يَسِيرُ لَا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَسِيرُ!! وَإِنَّمَا حَيْثُ يَقُودُهُ قَائِدُهُ، مِنَ الْأَنْعَامِ، مِنَ التُّيُوسِ، أَوْ مِنَ الْحَمِيرِ، أَوِ الْبِغَالِ!! هُوَ قَطِيعٌ يَسِيرُ!!
لَا تُفَكِّرْ تَفْكِيرًا جَمَاعِيًّا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ نَهَاكَ عَنْ ذَلِكَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.
ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَكْثَرَ؛ يَعْنِي: إِنْ كُنْتَ مُنْغَمِسًا فِي شَيْءٍ، فَلَنْ تَرَى سِوَاهُ، فَإِذَا ابْتَعَدْتَ عَنْهُ قَلِيلًا، تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَاهُ.
هَذِهِ الْوَرَقَةُ فِيهَا كَلَامٌ مَكْتُوبٌ، لَوْ أَنِّي جَعَلْتُهَا هَكَذَا مُلْصَقَةً بِعَيْنَيَّ؛ فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْرَأَهَا، وَلَوِ ابْتَعَدْتُ عَنْهَا قَلِيلًا، رَأَيْتُهَا رُؤْيَةً حَسَنَةً؛ فَابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَفْضَلَ، أَمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْغَمِسًا، تُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْقَطِيعُ؛ هَذَا حَرَامٌ، هَذَا لَا يَجُوزُ، تَدْمِيرٌ لِلْأُمَّةِ، وَعَبَثٌ بِمُقَدَّرَاتِهَا وَبِمُسْتَقْبَلِهَا.
الْحَقُّ فِي: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ.
هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ، وَهَذَا هُوَ الدِّينُ، وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْعِصْمَةَ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.
((التَّرْهِيبُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي التَّكْفِيرِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ: التَّكْفِيرَ بِلَا مُوجِبٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْخَوَارِجِ قَدِيمًا، وَمَا زَالَ وَاقِعًا مِمَّنْ تَبِعَ الْخَوَارِجَ، وَنَهَجَ نَهْجَهُمْ، مِنْ حُدَثَاءِ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءِ الْأَحْلَامِ.
وَأَكْثَرَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُونَ خُطُورَةَ النَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَهِيَ نَتَائِجُ مِنَ الْخُطُورَةِ إِلَي غَايَةٍ، وَمِنْهَا:
- أ-وُجُوبُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُكَفَّرِ وَزَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِكَافِرٍ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ.
- ب-أَنَّ أَوْلَادَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَوْا تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَسُلْطَانِهِ؛ لِأَنَّهُ بِكُفْرِهِ أَصْبَحَ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِ.
ج- أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وِلَايَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ وَنُصْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ وَمَرَقَ مِنْهُ بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَالرِّدَّةِ الْبَوَاحِ.
د- تَجِبُ مُحَاكَمَتُهُ أَمَامَ الْقَضَاءِ الْإِسْلَامِيِّ؛ لِيُنَفَّذَ فِيهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ، بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ، وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ عَنْهُ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
هـ- إِذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَرَّثُ.
و- لَا يَرِثُ مُوَرِّثَهُ إِذَا مَاتَ مُوَرِّثٌ لَهُ.
ز- أَخْطَرُ نَتَائِجِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلَعْنَةِ اللهِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ فِي النَّارِ.
وَلِخُطُورَةِ آثَارِ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْعَظِيمَةِ، زَجَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَنَهَى نَهْيًا عَظِيمًا.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا؛ إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ)).
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا فَهْوَ كَمَا قَالَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ)).
وَالتَّكْفِيرُ بِلَا مُوجِبٍ وَلَا دَلِيلٍ مِنْ أَخْطَرِ الْبِدَعِ، وَأَشَدِّهَا وَبَالًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرِيِّينَ يَسْتَبِيحُونَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ الْمَعْصُومَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِزَعْمِهِمْ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّ لَهُمْ بِهِ أَعْظَمَ الْأَجْرِ، وَأَجَلَّ الْمَثُوبَةِ عِنْدَ اللهِ!!
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلِهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا؛ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَفَّرَ أَهْلُهَا الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، مِثْلُ: الْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُمَثِّلَةِ، يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا، هُوَ ضَلَالٌ يَرَوْنَهُ هُوَ الْحَقَّ، وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ)).
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اِعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِخُرُوجِهِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ، لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِبُرْهَانٍ أَوْضَحَ مِنَ شَمْسِ النَّهَارِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ: ((مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)). هَكَذَا فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) وَغَيْرِهِمَا: ((مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ)) أَيْ: رَجَعَ.
وَفِي لَفْظٍ فِي ((الصَّحِيحِ)): ((فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا)).
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا وَرَدَ مَوْرِدَهَا أَعْظَمُ زَاجِرٍ وَأَكْبَرُ وَاعِظٍ عَنِ التَّسَرُّعِ فِي التَّكْفِيرِ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا فِيهِ بَعْضُ الْبَأْسِ لَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَشِحُّ عَلَى دِينِهِ، وَلَا يَسْمَحُ بِهِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا عَائِدَةَ, فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَخْطَأَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ مَنْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَافِرًا)).
وَعَنِ التَّكْفِيرِ بِلَا مُوجِبٍ، وَبِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ، وَيُنَاحُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَا جَنَاهُ التَّعَصُّبُ فِي الدِّينِ عَلَى غَالِبِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّرَامِي بِالْكُفْرِ لَا لِسُنَّةٍ، وَلَا لِبُرْهَانٍ، بَلْ لَمَّا غَلَتْ مَرَاجِلُ الْعَصَبِيَّةِ فِي الدِّينِ، وَتَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ مِنْ تَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ لَقَّنَهُمْ إِلْزَامَاتٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا هُوَ شَبِيهُ الْهَبَاءِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّرَابِ بِالْبَقِيعَةِ.
فَيَالَلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْفَاقِرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَاقِرِ الدِّينِ، وَالرَّزِيَّةِ الَّتِي مَا رُزِئَ بِمِثْلِهَا سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ!)).
وَهَذَا التَّشْدِيدُ كُلُّهُ هُوَ فِي تَكْفِيرِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَيْفَ بِتَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَاتٍ وَدُوَلًا؟!
وَكَيْفَ بِتَكْفِيرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ؟!
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!!
قَالَ الشَّيْخُ الْفَوْزَانُ -حَفِظَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا يُطْلَقُ التَّكْفِيرَ جُزَافًا الْجَهَلَةُ؛ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاءٌ، وَهُمْ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّمَا يَقْرَؤُونَ الْكُتُبَ وَيَتَتَبَّعُونَ الْعَثَرَاتِ، وَيَأْخُذُونَ مُسَمَّيَاتِ التَّفْسِيقِ وَيُطْلِقُونَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى غَيْرِ أَصْحَابِهَا أَوْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ وَضْعَ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي مَوْضِعِهَا لِعَدَمِ فِقْهِهِمْ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ إِنْسَانٍ جَاهِلٍ أَخَذَ سِلَاحًا، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ، فَهَذَا يُوشِكُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَأَقَارِبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْآلَةِ.
وَمِنْ هُنَا؛ يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مُسَمَّيَاتِ: ((التَّبْدِيعِ، وَالتَّفْسِيقِ، وَالتَّكْفِيرِ)) وَهُمْ لَا يَفْقَهُونَهَا: أَنْ يَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا، وَأَنْ يَتَّقُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِغَيْرِ عِلْمٍ -لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ- شَرٌّ عَظِيمٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [ الأعراف: 33 ] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [ النحل: 116 ].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ الصف: 7].
وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ: أَنْ يَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ النَّافِعَ مِنْ مَصَادِرِهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ الْمَعْرُوفِينَ بِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَتَكَلَّمُونَ، وَكَيْفَ يُنَزِّلُونَ الْأُمُورَ مَنَازِلَهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَماعَةِ -قَدِيمًا وَحَدِيثًا- قَدْ حَفِظُوا أَلْسِنَتَهُمْ فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِعِلْمٍ)).
وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُجَازِفِينَ بِالتَّكْفِيرِ لَا عِلْمَ لَهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخُوضُ لُجَجَ التَّكْفِيرِ لَا يُبَالِي!!
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو بَطِينٍ: ((وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّهَارَةِ أَوِ الْبَيْعِ، لَمْ يُفْتِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِ عَقْلِهِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِمَا قَالُوهُ.
فَكَيْفَ يَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أُمُورِ الدِّينِ وَأَشَدِّهَا خَطَرًا عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ؟)).
وَقَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَحْمَانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ، الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسَائِلِ التَّكْفِيرِ، وَهُمْ مَا بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو بَطِينٍ، مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّهَارَةِ، أَوِ الْبَيْعِ، أَوْنَحْوِهِمَا لَمْ يُفْتِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ، وَاسْتِحْسَانِ عَقْلِهِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَيُفْتِي بِمَا قَالُوهُ، فَكَيْفَ يَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أُمُورِ الدِّينِ، وَأَشَدُّهَا خَطَرًا عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَاسْتِحْسَانِ عَقْلِهِ؟)).
وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَشَدُّ النَّاسِ تَوَقِّيًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَعْظَمُ النَّاسِ تَثَبُّتًا فِيهِ، مَعَ مَا آتَاهُمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ وُفُورِ الْفِطْنَةِ وَرُسُوخِ الْعِلْمِ وَقَدَمِ الصِّدْقِ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- لِأُمَرَاءِ الْجَهْمِيَّةِ وَقُضَاتِهِمْ: ((وَلِهَذَا كُنْتُ أَقُولُ لِلْجَهْمِيَّةِ مِنَ الْحُلُولِيَّةِ وَالنُّفَاةِ الَّذِينَ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ اللهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ لَمَّا وَقَعَتْ مِحْنَتُهُمْ: أَنَا لَوْ وَافَقْتُكُمْ كُنْتُ كَافِرًا؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ كُفْرٌ، وَأَنْتُمْ عِنْدِي لَا تَكْفُرُونَ لِأَنَّكُمْ جُهَّالٌ -وَكَانَ هَذَا خِطَابًا لِعُلَمَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ-)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا -وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي- أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرِّسَالِيَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً، وَفَاسِقًا أُخْرَى، وَعَاصِيًا أُخْرَى، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ؛ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ.
وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ)).
حُرْمَةُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ:
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
أَيْ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ عَمِلُوهُ، فَقَدِ ارْتَكَبُوا أَفْحَشَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَأَتَوْا ذَنْبًا ظَاهِرَ الْقُبْحِ، مُؤَدِّيًا لِلْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ؛ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ)).
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: ((فَإِذَا كَانَ مَنْ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا عَادِلًا كَانَ فِي النَّارِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَحْكُمُ فِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْكُلِّيَّةِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا عَدْلٍ؟!)).
((فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ: فَأَنْ تَكُفَّ لِسَانَكَ عَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَا أَمْكَنَكَ مَا دَامُوا قَائِلِينَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)), غَيْرَ مُنَاقِضِينَ لَهَا؛ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ فِيهِ خَطَرٌ، وَالسُّكُوتُ لَا خَطَرَ فِيهِ)).
وَالْخَطَأُ فِي عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَوِالتَّبْدِيعِ أَوِ التَّفْسِيقِ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَرَمْيِ بَرِيءٍ بِهِ.
وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَمِيلَ الْمُحَصِّلُ إِلَيْهِ: الِاحْتِرَازُ عَنِ التَّكْفِيرِ مَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ فَإِنَّ اسْتِبَاحَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنَ الْمُصَلِّينَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمُصَرِّحِينَ بِقَوْلِ: ((لا إله إلا الله)) خَطَأٌ.
وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ فِي الْحَيَاةِ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي سَفْكِ مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمِ مُسْلِمٍ.
وَالْأَصْلُ: أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَا تَحِلُّ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ)).
فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟)).
قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَال: ((لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)).
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ))
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)).
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)).
وَالْوَرَطَاتُ: جَمْعُ (وَرْطَةٍ) وَهِيَ: الشَّيْءُ الَّذِي قَلَّمَا يَنْجُو مِنْهُ، أَوْ هِيَ: الْهَلَاكُ.
((لَا مَخْرَجَ)): لَا سَبِيلَ لِلْخَلاصِ مِنْهَا.
((سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ)): قَتْلَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.
((بِغَيْرِ حِلِّهِ)): بِغَيْرِ حَقٍّ يُبِيحُ الْقَتْلَ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا، أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا)).
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، بَلْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ تَرْوِيعِ الْمُسْلِمِ:
فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)).
فَكَيْفَ بِتَكْفِيرِهِ بِلَا مُوجِبٍ، وَتَكْفِيرُهُ أَعْظَمُ آثَارًا مِنْ قَتْلِهِ؟!
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمَذْْمُومَ هُوَ التَّسَرُّعُ فِي التَّكْفِيرِ، وَالتَّكْفِيرُ بِلَا مُوجِبٍ، وَقَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ))، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِحَقٍّ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَقَدْ كَفَّرَ اللهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
التَّكْفِيرُ حَقٌّ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ:
التَّكْفِيرُ حَقٌّ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
وَالْمَعْنَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ! لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِكُمْ, فَتَبْتَدِعُوا، وَخَافُوا اللهَ فِي قَوْلِكُمْ وَفِعْلِكُمْ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بِنِيَّاتِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْتدِعُوا فِي الدِّينِ، أَوْ يُشَرِّعُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ التَّكْفِيرُ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا يُكَفَّرُ بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا بِذَنْبٍ، وَلَا بِمُجَرَّدِ بُغْضٍ، أَوْ كَرَاهِيَةٍ، أَوْ لِشَهْوَةٍ، أَوْ شُبْهَةٍ، وَلَكِنْ لَابُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ؛ فَإِنَّ مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا فَقَدْ كَفَرَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ يُكَفِّرُهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِهِ, كَمَنْ كَذَبَ عَلَيْكَ وَزَنَا بِأَهْلِكَ, لَيْسَ لَكَ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَتَزْنِيَ بِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ وَالزِّنَا حَرَامٌ لِحَقِّ اللهِ -تَعَالَى-، وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُكَفَّرُ إِلَّا مَنْ كَفَّرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ)).
وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ ذُو شُعَبٍ، فَالْكُفْرُ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ بِالْعَبْدِ أَنْ يَصِيرَ كَافِرًا الْكُفْرَ الْمُطْلَقَ حَتَّى تَقُومَ بِهِ حَقِيقَةُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَامَ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ يَصِيرُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُومُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَق لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ عَلَى الْمُعَيَّنِ: ((فَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ أَوِ الْمَقَالَةُ كُفْرًا، وَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَيُقَالُ: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا.
وَهَذَا الْأَمْرُ مُطَّرِدٌ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ لِجَوَازِ أَلَّا يَلْحَقَهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ لِثُبُوتِ مَانِعٍ)).
فَلَا تَجْرِي الْأَحْكَامُ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ.
وَالْأَحْكَامُ فِي الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ وَآخِرِ الْأَمْرِ.
فَالْحُكْمُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَتَّشَ فِي بَوَاطِنِهِ، فَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِيمَانَ حُكِمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِلَافَهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ أَمْرِ الْمُكَلَّفِ وَخَاتِمَةُ حَالِهِ.
وَالتَّكْفِيرُ – كَمَا مَرَّ- حَقُّ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ, وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ, وَالتَّكْفِيرَ وَالتَّفْسِيقَ،- هُوَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَذَا حُكْمٌ, وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
وَقَدْ نَهَى اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْفُوا مُسَمَّى الْإِيمَانِ عَمَّنْ أَظْهَرَهُ وَاتَّصَفَ بِهِ، وَبَيَّنَ -تَعَالَى- أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقْبَلُوا الظَّوَاهِرَ, ويَكِلُوا الْبَوَاطِنَ إِلَى اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَهُ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِذَا جَاءَ التَّعْلِيلُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فَقَدْ يَكُونُ الْغَرَضُ طَلَبُ مَالٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ، أَوْ حَسَدٍ عَلَيْهِمَا، أَوْ تَشَفِّيًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الْفِرَقِ:
وَدِينُ اللهِ -تَعَالَى- وَسَطٌ بَيْنَ الْجَافِي عَنْهُ وَالْغَالِي فِيهِ، كَالْوَادِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَالْهُدَى بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، وَالْوَسَطِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ ذَمِيمَيْنِ.
وَكَمَا أَنَّ الْجَافِيَ عَنِ الْأَمْرِ مُضِيعٌ لَهُ، فَالْغَالِي فِيهِ مُضِيعٌ لَهُ، هَذَا بِتَقْصِيرِهِ عَنِ الْحَدِّ، وَهَذَا بِتَجَاوُزِهِ الْحَدَّ.
قَالَ تَعَالَى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]؛ أَيْ: عُدُولًا خِيَارًا.
وَكَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ وَسَطٌ بَيْنَ الْأُمَمِ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالْفِرَقِ.
فَفِي أَبْوَابِ الْإِيمَانِ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِيِّينَ وَالْغُلَاةِ، وَالْمُرْجِئَةِ وَالْجُفَاةِ.
وَفِي إِثْبَاتِ الْإِيمَانِ مِنْ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
وَفِي بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُمْ وَسَطٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالنَّوَاصِبِ.
وَفِي بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ: أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَطٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ.
((وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ، بَلِ الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي.
وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ, وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ، بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ عِنْدَهُمْ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ.
وَنَقُولُ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ, فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلَا يُسْلَبَ مُطْلَقَ الِاسْمِ)).
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللهُ وَإِيَّانَا-: أَنَّ بَابَ التَّكْفِيرِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ بَابٌ عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ فِيهِ، وَكَثُرَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ، وَتَشَتَّتَتْ فِيهِ الْأَهْوَاءُ وَالْآرَاءُ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ دَلَائِلُهُمْ، فَالنَّاسُ فِيهِ -فِي جِنْسِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ- عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ، مِنْ جِنْسِ الِاخْتِلَافِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْعَمَلِيَّةِ)).
بَيَانُ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي التَّكْفِيرِ:
مَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ خَطِيرَةٌ، وَأَحْكَامٌ عَظِيمَةٌ فِي الدُّنْيَا؛ كَاعْتِقَادِ رِدَّةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ, وَخُرُوجِهِ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوُجُوبِ قَتْلِهِ بِالرِّدَّةِ، وَسُقُوطِ وِلَايَتِهِ، وَتَحْرِيمِ مُنَاكَحَتِهِ وَذَبِيحَتِهِ، وَالْمَنْعِ مِنْ مُوَارَثَتِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبَادِ، لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءٍ وَلَا شَفَاعَةٍ، وَلَا يَغْفِرُ اللهُ لَهُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ.
فَالْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ بِالتَّكْفِيرِ أَعْظَمُ مِنَ الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَطَأِ فِيهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يُعَظِّمُونَ هَذَا، وَاشْتَدَّ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ كُفْرُهُ بِيَقِينٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا تَكْفِيرُ شَخْصٍ عُلِمَ إِيمَانُهُ بِمُجَرَّدِ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ فَعَظِيمٌ)).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ، وَلَا يَرْحَمُهُ، بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ هَذَا حُكْمَ الْكَافِرِ بَعْدَ الْمَوْتِ)).
وَمَسْأَلَةُ التَّكْفِيرِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ خَفِيَ الْحَقُّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ؛ بِسَبَبِ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ الْمُطْلَقِ وَتَكْفِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَخْلِيدِ الْمُكَفَّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهِ التَّخْلِيدَ، كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ؛ كَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّخْلِيدِ.
وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ الدَّلِيلَانِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ، كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَفِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ)).
وَالنَّاظِرُ فِي مَسَائِلِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ يَبْحَثُ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ وَثُبُوتِهِ مِنْ عَدَمِهِ.
وَالنَّاظِرُ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَبْحَثُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَجُزْئِيَّاتِهِ وَمَا تَصِحُّ بِهِ وَتَبْطُلُ.
فَالْبَابُ الْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي لِأَهَمِيَّتِهِ وَشُمُولِهِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَهَمِيَّةُ تَوَافُرِ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْعُلَمَاءُ لِلْمُفْتِي النَّاظِرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْفِيرِ، بَلْ تَأَكُّدُهَا فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوْجِهِ السَّابِقَةِ.
هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً مِنْ مَعْرِفَةِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْفِيرِ، وَالْإِلْمَامِ بِمَوَاقِفِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ، وَمَعْرِفَةِ طُرُقِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَنْزِيلِ الْأَحْكَامِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْمَعَيَّنِينَ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ كُفْرُهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُمْسِكَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِهَذَا عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ عِلْمِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وَلْيَحْذَرْ كُلُّ عَاقِلٍ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ آثَارٍ سَيِّئَةٍ وَخَطِيرَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ.
فَكَمْ فُتِنَ فِي هَذَا الْبَابِ مَنْ فُتِنَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْجَهْلِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، حَتَّى أَصْبَحَ التَّكْفِيرُ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ التَّكْفِيرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَالِاحْتِيَاطَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ الْجَمَاعَةَ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَسَّقَ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَبْتَدِعُونَ رَأْيًا، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، بَلْ هُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَأَرْحَمُ بِالْخَلْقِ)).
فَالْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ.
فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ.
فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ؛ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ ، مِثْلِ: أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, وَسُفْيَانَ, وَمَالِكٍ, وَالْأَوْزَاعِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ؛ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ, وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ, وَابْنِ عُيَيْنَةَ, وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وَمَنْ بَعْدَهُمْ: مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ, وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ, وَالْحُمَيْدِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ, وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ.
قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَقِّبًا عَلَى كَلَامِ أَبِي حَاتِمٍ: ((فَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، جَعَلَ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَعَدَلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُقَلِّدُونَ إلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَاءُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ التَّيَمُّمِ بِكَثِيرٍ!)).
وَالْوَاجِبُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالتَّكْفِيرِ أَنْ يُنْظَر فِي أَمْرَيْنِ:
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا مُكَفِّرٌ؛ لِئَلَّا يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ.
الثَّانِي: اِنْطِبَاقُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِحَيْثُ تَتِمُّ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّهِ، وَتَنْتَفِي الْمَوَانِعُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَابُدَّ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَنَحْوِهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ يَرُدُّ إِلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتِ؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ، وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ تَسَلُّطَ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِيهِ مِنَ الدِّينِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلَامِهِ لِخَطَأٍ أَخْطَأَهُ يُكَفَّرُ، وَلَا يُفَسَّقُ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وَفِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ)).
فَعَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِي لَفْظِهِ وَعَمَلِهِ وَعَقْدِ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ تُفْسِدُ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْآخَرُ مُذْنِبٌ، فَأَبْصَرَ الْمُجْتَهِدُ الْمُذْنِبَ عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ.
فَقَالَ لَهُ: خَلِّنِي وَرَبِّي.
قَالَ: وَكَانَ يُعِيدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَاسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! أَقْصِرْ.
قَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟
فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَبَدًا -أَوْ قَالَ: لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا-.
فَبُعِثَ إِلَيْهِمَا مَلَكٌ, فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، فَقَالَ رَبُّنَا لِلْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ عَالِمًا؟ أَمْ كُنْتَ قَادِرًا عَلَى مَا فِي يَدِي؟
وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اِذْهَبْ إِلَى الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي.
وَقَالَ لِلْآخَرِ: اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ)).
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: ((أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ! لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ. وَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِى يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَلَّا أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؛ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ)).
((الْإِسْلَامُ سَمَاحَةٌ وَيُسْرٌ كُلُّهُ))
عِبَادَ اللهِ! دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ دِينُ السَّمَاحَةِ وَالْيُسْرِ كُلِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ-: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أَيْ: دِينُ الْإِسْلَامِ ذُو يُسْرٍ، مَوْصُوفٌ بِالْيُسْرِ وَصَاحِبُ يُسْرٍ.
أَوْ سُمِّيَ الدِّينُ يُسْرًا، فَهُوَ يُسْرٌ كُلُّهُ؛ مُبَالَغَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ تَوْبَةَ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا كَانَتْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَوْبَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، بَلْ حَظَرَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ مِنَّا ذَلِكَ.
الْأَفْضَلُ الْأَرْفَقُ فِي شَرِيعَةِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ، شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، الَّتِي لَا يَقْدُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْرَهَا، وَوَاللهِ مَا مِنْ سَعَادَةٍ كَانَتْ وَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ.
الَّذِي يَعْرِفُ السُّنَّةَ يَسْتَرِيحُ؛ يَسْتَرِيحُ قَلْبُهُ، وَيَسْتَرِيحُ بَدَنُهُ، وَيَسْتَرِيحُ بَالُهُ، وَيَسْتَقِيمُ مِنْهَاجُهُ، وَالْمَشَقَّةُ تَأْتِي مِنْ مُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.
الْمَشَقَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِالِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، لَا بُدَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحَرَجُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ جَاءَ بِرَفْعِ الحَرَجِ، وَبِنَفْيِ الْمَشَقَّةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: شَرِيعَةُ التَّيْسِيرِ وَمُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ