حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ

حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ

((حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ وَالْوَطَنُ كُلُّكَ))

فَـ(الْوَطَنُ) كَلِمَةٌ صَغِيرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا عَظِيمٌ جَلِيلٌ، فَهُوَ التُّرْبَةُ الَّتِي مِنْهَا خَرَجْنَا، وَعَلَيْهَا دَرَجْنَا، وَفِيهَا حَيَاتُنَا، وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا وَمَآبُنَا.

وَهَلْ كَانَ الْوَطَنُ إِلَّا أَنْتَ، وَتِلْكَ الْعِظَامَ الَّتِي اخْتَلَطَتْ بِأَرْضِهِ مِنْ عِظَامِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ مِنَ الْقِدَمِ؟!!

فَأَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ، وَالْوَطَنُ كُلُّكَ؛ فِي حِيَاتِهِ حَيَاتُكَ وَلَوْ مُتَّ، وَفِي مَوْتِهِ مَوْتُكَ وَلَوْ حَيِيتَ.

وَلَا تَحْسَبَنَّ حَيَاتَكَ هِيَ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْقَصِيرَةَ الَّتِي تَقْضِيهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ، وَتَلْهُو وَتَلْعَبُ؛ إِنَّمَا حَيَاتُكَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هِيَ ذِكْرَى الْمَاضِي، وَعِظَةُ الْحَاضِرِ، وَأَمَلُ الْمُسْتَقْبَلِ، هِيَ كُلُّ هَذَا، وَكُلُّ هَذَا هُوَ الْوَطَنُ.

الْوَطَنُ هُوَّ الْأَرْضُ الَّتِي طَوَيْنَا فِيهَا ثَوْبَ طُفُولَتِنَا الْمَرِحَةِ، وَلَا نَزَالُ نَطْوِي فِيهَا رِدَاءَ شَبَابِنَا وَشَيْخُوخَتِنَا، وَالَّتِي نَشَأْنَا فِيهَا وَأَحْبَبْنَاهَا وَفَضَّلْنَاهَا -بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَاللُّغَةِ وَالنَّشْأَةِ- عَلَى كُلِّ بَلَدٍ سِوَاهَا.

هَذِهِ هِيَ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.

((تَجْسِيدُ النَّبِيِّ ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ))

لَقَدْ جَسَّدَ نَبِيُّنَا ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ حِينَ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، فَخَاطَبَهَا قَائِلًا: : ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْ لَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).

وَحَيْثُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا، وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا، وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..

الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ، فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ، وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ، وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:

ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ

حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ

وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ، فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.

أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ:

بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا  =    وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ

فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ    =     وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ

فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.

قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.

فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.

وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.

وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا، تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى، وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:

إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَادِكَ   =    ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا

فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيكَ       =    فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا

نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا        =    ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا

نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ   =     يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا

فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.

((مُقْتَضَيَاتُ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ))

إِنَّ حَقَّ الْوَطَنِ عَلَى أَبْنَائِهِ مِنْ أَوْجَبِ الْحُقُوقِ وَآكَدِهَا، وَالْمُشَارَكَةَ فِي بِنَائِهِ وَرُقِيِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ وَأَشْرَفِهَا، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ؛ فَالْحُرُّ الْكَرِيمُ يَفْتَدِي وَطَنَهُ بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ، وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَلِلْأَوْطَانِ فِي دَمِ كُلِّ حُرٍّ        =     يَدٌ سَلَفَتْ وَدَيْنٌ مُسْتَحَق

((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ؛ حَقُّ اللهِ وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.

فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ، يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.

رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.

فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.

وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ))

إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ أَوْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، إِنَّمَا هُوَ سُلُوكٌ وَتَضْحِيَّاتٌ وَحُقُوقٌ تُؤَدَّى؛ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفِهَا: التَّضْحِيَةُ فِي سَبِيلِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَزِيزِ، وَحِمَايَتُهُ مِنْ أَيِّ خَطَرٍ يَتَهَدَّدُهُ، أَوْ يُقَوِّضُ بُنْيَانَهُ، أَوْ يُزَعْزِعُ أَرْكَانَهُ، أَوْ يُرَوِّعُ مُوَاطِنِيهِ، فَحِمَايَةُ الْأَوْطَانِ مِنْ صَمِيمِ مَقَاصِدِ الْأَدْيَانِ، وَهَذَا سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ، فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِدَاءٌ وَتَضْحِيَةٌ، وَاعْتِزَازٌ بِالْوَطَنِ وَتُرَابِهِ، وَحِفَاظٌ عَلَى مُؤَسَّسَاتِهِ؛ فَالْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا، وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي الْحِفَاظَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ فَهُوَ رَكِيزَةٌ أَسَاسِيَّةٌ لِلدَّوْلَةِ، تُدِيرُ بِهِ شُؤُونَهَا، وَتُقِيمُ مُؤَسَّسَاتِهَا، وَتُقَدِّمُ خَدَمَاتِهَا، وَتَرْتَقِي بِأَفْرَادِهَا وَمُجْتَمَعِهَا، وَتُسْهِمُ مِنْ خِلَالِهِ فِي بِنَاءِ حَضَارَتِهَا؛ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

الْمَالُ الْعَامُّ مَالِي وَمَالُكَ، مَالُ كُلِّ مَنْ يَقْطُنُ هَذَا الْبَلَدَ، مَالُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، الْمَالُ الْعَامُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ ؛ تَجِدُ النَّاسَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ -مَالٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْيَانِهِمْ- لَا يَرْقُبُونَ فِي هَذَا الْمَالِ الْعَامِّ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا يُرَاعُونَهُ بِحَالٍ أَبَدًا!!

لا يَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِ وَاحِدٍ، وَلَا فِي وِجْدَانِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْإِثْمَ فِيهِ أَكْبَرُ مِنَ الْإِثْمِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلَى مَالٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي أَرْوَاحِنَا مِنْ دِمَاءٍ، وَمَا فِي عُرُوقِنَا مِنْ دِمَاءٍ.

لِلْغُلُولِ عُقُوبَةٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ الْوَفَاةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.

وَالْغُلُولُ فِي الْأَصْلِ هُوَ: الْخِيَانَةُ.

وَأَصْلُهُ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ.

وَهُوَ فِي زَمَانِنَا -كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا-: ((الْمَالُ الْعَامُّ)).

فَالْمَالُ الْعَامُّ مَا أُخِذَ مِنْهُ فَهُوَ غُلُولٌ، وَالَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْغُلُولِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ كَالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ.

وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا يَخُصُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَالتَّوَرُّطُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ بِأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ، أَوْ إِتْلَافِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُتْلَفَ كَالْأَخْذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الِاعْتَدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْخَاصَّ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الْمَالُ الْعَامُّ.. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ فَهُوَ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

فَعُقُوبَةُ الغُلُولِ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عِمْرَان: 161].

* وَأمَّا عُقُوبَتُهُ فِي الْقَبْرِ: فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : أنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَرٍ، فَقَالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرٍ مِنَ المَغَانِمِ قَبْلَ المَقَاسِمِ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ نَارًا».

وَالشَّمْلةُ: تَلْفِيعَةٌ، أَوْ هِيَ كِسَاءٌ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ بِهِ المَرْءُ بَدَنَهُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا في «الصَّحِيحَيْنِ»  عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ مَعَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- على قُبُورٍ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْقَبْرِ الثَّالِثِ: «كلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ».

إِذَنْ؛ الْغُلُولُ: هُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، يُعَاقَبُ بِهِ الْمُرْءُ في قَبْرِهِ؛ اشْتِعَالًا لَهُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

* وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَةُ بِهِ فِي الْمَوْقِفِ: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وَهُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ فِيمَا دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ -يَعْنِي غَلَّ ثِيَابًا أَوْ مَا يَسِيرُ مَسَارَ ذَلِكَ، وَيُدْرَجُ فِي سِلْكِهِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْمِهَنِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّهُ لَا يَكْفِي الْفَرْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَمَلَ صَحِيحًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتْقَنًا؛ فَهَل يَعِي ذَلِكَ الْمُسلِمُونَ، وَيَسْعَوْنَ إِلَى جَعْلِهِ مِيزَةً لِشَخْصِيَّاتِهِمْ، وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمَبْدَأً يَنْطَلِقُونَ مِنْهُ فِي مُؤَسَّسَاتِ الْعِلْمِ وَمَيَادِينِ الْعَمَلِ وَأَسْوَاقِ الصِّنَاعَةِ؛ لِيَصِلُوا بِهِ إِلَى الْإِنجَازِ، وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!!

إِنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ وَالتَّمَيُّرَ فِيهِ وَالْقِيَامَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِإِتْقَانٍ وَإِبْدَاعٍ؛ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ الْإِلَهِيِّ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

إِنَّ دِينَنَا دِينُ الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عُنِيَ عِنَايَةً بَالِغَةً بِذَلِكَ؛ سَوَاءٌ فِي مَجَالِ الصِّنَاعَةِ، أَمْ فِي مَجَالِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْهَضَ أَوْ تَتَقَدَّمَ بِلَا إِتْقَانٍ، وَدَوْرُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِتْقَانَ ثَقَافَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْإِتْقَانُ هُوَ الْأَصْلَ فِي حَيَاتِنَا، وَمَا عَدَاهُ هُوَ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَبُولُ بِهِ.

إِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْقَانِ فِي أَعْمَالِهِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ؛ إِحْكَامًا وَإِكْمَالًا، تَجْوِيدًا وَإِحْسَانًا.

الَّذِي لَا يُتْقِنُ عَمَلَهُ وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ -تَعَالَى- فِيهِ آثِمٌ بِقَدْرِ مَا يَتَسَبَّبُ فِي ضَيَاعِ الْأَمْوَالِ، وَإِهْدَارِ الطَّاقَاتِ، فَهَذَا وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ لَا تَتَّسِقُ أَعْمَالُهُمْ مَعَ الدِّينِ وَلَا الْوَطَنِيَّةِ وَلَا الضَّمِيرِ الْحَيِّ؛ إِذْ إِنَّ عَدَمَ الْإِتْقَانِ بِمَثَابَةِ غِشٍّ لِلْمُجْتَمَعِ، وَإِهْدَارٍ وَتَضْيِيعٍ لِثَرْوَاتِهِ وَمُقَدَّرَاتِهِ، وَإِيذَاءٍ لِخَلْقِ اللهِ الَّذِينَ نُهِينَا عَنْ إِيذَائِهِمْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، غِشًّا أَوْ تَدْلِيسًا.

إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ))

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي احْتِرَامَ النِّظَامِ الْعَامِّ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.

لِذَلِكَ فَإِنَّ احْتِرَامَ النِّظَامِ الْعَامِّ مَطْلَبٌ دِينِيٌّ وَوَطَنِيٌّ؛ فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا، كَرِيمٌ مَآلُهَا، وَهِيَ مَظَلَّةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا الْجَمِيعُ مِنْ حَرِّ الْفِتَنِ وَنَارِ التَّهَارُجِ، هَذِهِ النِّعْمَةُ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْحَاكِمُ وَالْمَحْكُومِ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؛ بَلْ إِنَّ الْبَهَائِمَ تَطْمَئِنُّ مَعَ الْأَمْنِ، وَتُذْعَرُ وَتُعَطَّلُ مَعَ الْخَوْفِ وَاضْطِرَابِ الْأَوْضَاعِ، تُعَطَّلُ وَتُذْعَرُ مَعَ تَهَارُجِ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ.

إِنَّ لِلْخُرُوجِ عَلَى الشَّرْعِ وَالتَّعَدِّي عَلَى النِّظَامِ الْعَامِّ عَوَاقِبَ وَخِيمَةً؛ فَيَجِبُ ألَّا يُنْقَضَ نِظَامُ الْحُكْمِ لِيَتَهَاوَى الْمُجْتَمَعُ، وَلِتَذْهَبَ هَيْبَةُ الدَّوْلَةِ، وَلِيَصِيرَ النَّاسُ فَوْضَى، وَلِتُطْلَقَ أَيْدِي النَّاسِ فِي دِمَاءِ النَّاسِ، وَالْكَاسِبُ الْوَحِيدُ الشَّيْطَانُ وَجُنْدُهُ.. الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ.

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: الْمُشَارَكَةُ فِي بِنَاءِ الْوَطَنِ))

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِإِخْلَاصٍ فِي بِنَاءِ الْوَطَنِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَسَاسٍ تُبْنَى عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْعَزِيزَةُ وَالدَّوْلَةُ الْقَوِيَّةُ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَقَاةُ مِنَ الْوَحْيَيْنِ الْمَعْصُومَيْنِ: الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ مَنْ يَفْهَمُ دِينَهُ فَهْمًا صَحِيحًا يُدْرِكُ أَنَّ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ لِلدِّينِ -وَهُوَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-- يُسْهِمُ وَبِقُوَّةٍ فِي بِنَاءِ وَاسْتِقْرَارِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ عَزِيزَةٍ تَقُومُ عَلَى أُسُسٍ شَرْعِيَّةٍ مَتِينَةٍ وَوَطَنِيَّةٍ رَاسِخَةٍ، كَمَا أَنَّ الدَّوْلَةَ الرَّشِيدَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْطَدِمَ مَعَ الْفِطْرَةِ وَالْإِسْلَامُ الْفِطْرَةُ، وَالْفِطْرَةُ الْإِسْلَامُ- الَّتِي تَبْحَثُ عَنِ الْإِيمَانِ الرَّشِيدِ الصَّحِيحِ.

((وَعَدَ اللهُ بِالنَّصْرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، بِأَنْ يُورِثَهُمْ أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَجْعَلُهُمْ خُلَفَاءَ فِيهَا، مِثْلَمَا فَعَلَ مَعَ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ -وَهُوَ الْإِسْلَامُ- دِينًا عَزِيزًا مَكِينًا، وَأَنْ يُبَدِّلَ حَالَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، إِذَا عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِخْلَافِ وَالْأَمْنِ وَالتَّمْكِينِ وَالسَّلْطَنَةِ التَّامَّةِ، وَجَحَدَ نِعَمَ اللهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ))، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ.

وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ.. كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَأَوْهَى قُوَّتَهُمْ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَؤُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.

فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأُسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ.. عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.

وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).

كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ.. كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.

عِبَادَ اللهِ! إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.

إِنَّ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَحْتَاجُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ!! هَؤُلَاءِ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ!!

وَهُؤَلَاءِ مِنْ جُنْدِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَوْحِيدُهُمْ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِخْلَاصُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

الْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَخَاتَمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَّقَهُمْ، وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].

قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

فَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.

هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَبِسَبَبِهِ كَانَتِ الْمِحْنَةُ، وَوَقَعَتِ الْمَلْحَمَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ، هُوَ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ، أَمْرُ التَّوْحِيدِ.

فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ، الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ.. فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛ الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ.. لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

((هَذَا مِنْ أَوْعَادِهِ الصَّادِقَةِ الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَمَخْبَرُهَا؛ فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِيهَا، الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذَى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهَدْ: الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ؛ بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ، فَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُدِيلُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)).

فَالِاسْتِخْلَافُ وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّصْرُ، وَبِنَاءُ الدَّوْلَةِ الْقَوِيَّةِ الْعَزِيزَةِ.. وَعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِغَيْرِ الْإِسْلَامِ وَبِتَضْيِيعِ الْعَقِيدَةِ فَلَا اسْتِخْلَافَ وَلَا تَمْكِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19-20].

((إِنَّ الدِّينَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لِخَلْقِهِ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ للهِ وَحْدَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ بِعْثَتِهِ دِينًا سِوَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].

إِنَّ الدِّينَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَلِرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمُتَابَعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِنَّ كُلَّ دِينٍ سِوَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ مَا يَأْمُرُ اللهُ بِهِ، وَيَرْضَى عَنْ فَاعِلِهِ، وَيُثِيبُهُ عَلَيْهِ.

وَمَنْ يَطْلُبُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ ﷺ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَرِيعَةً غَيْرَ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ صَارُوا إِلَى عَذَابِ النَّارِ الْأَبَدِيِّ فِي جَهَنَّمَ.

فِي بَابِ: ((وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَنَسْخِ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ)) مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) -رَحِمَهُ اللهُ-: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ)): حَلِفٌ بِاللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ نَفْسٍ، ((لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ)): أَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، وَيُضَافُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَيُرَادُ بِهَا أَحْيَانًا أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، أَيْ: مَنْ أَسْلَمَ؛ كَحَدِيثِ: ((شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي))، وَيُرَادُ بِهِ أَحْيَانًا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، أَيْ: كُلُّ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى أُمَّةِ الدَّعْوَةِ؛ الْمَوْجُودِ مِنْهَا فِي زَمَنِهِ، وَمَنْ سَيُوجَدُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: ((يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ)) أَيْ: ثُمَّ يَمُوتُ غَيْرَ مُؤْمِنٍ، ((إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) أَيْ: إِلَّا كَانَ مِنْ مُلَازِمِيهَا.

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَهَادِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاتَمًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَاسِخًا لِمِلَلِ السَّابِقِينَ، دَاعِيًا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الْإيمَانِ بِرِسَالَتِهِ، مُحَذِّرًا مِنْ كُفْرَانِهَا وَالصَّدِّ عَنْهَا، كَمَا حَذَّرَ الْمُشْرِكِينَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.

فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى مِلَّةٍ بُدِّلَتْ، أَوْ عَلَى مِلَّةٍ لَمْ تُبَدَّلْ، وَمَنْ سَمِعَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِآيَاتِهِ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا؛ إِذِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ رِسَالَةَ النَّبِيِّ ﷺ عَامَةٌ لِكُلِّ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ اللَّاحِقَةِ لِبِعْثَتِهِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي... وَفِيهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَأُرْسِلتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً)).

فِي ((الْمَوْسُوعَةِ الْمُيَسَّرَةِ)): ((وَحْدَةُ الْأَدْيَانِ هِيَ دَعْوَةٌ مَاسُونِيَّةٌ تَسْتَغِلُّ الْمُسْلِمِينَ السُّذَّجَ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِخْضَاعِ شُعُوبِهِ، وَتَتَّخِذُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ أَسْمَاءً جَذَّابَةً؛ مِثْلَ (الدَّعْوَةِ لِلْعَالَمِيَّةِ)، أَوِ (التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ)، أَوِ (الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ)، وَأَحْيَانًا تَحْتَ مُسَمَّى (حِوَارِ الْأَدْيَانِ).

وَتَقُومُ فَلْسَفَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ عَلَى زَعْمِ أَنَّ هُنَاكَ قَوَاعِدَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَكْرِيمِ أُمِّ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَأَنَّ  الْخِلَافَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ خِلَافٌ شَكْلِيٌّ، وَلَيْسَ بِجَوْهَرِيٍّ!!

بَدَأَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ مِنْ جَانِبِ النَّصَارَى مُنْذُ أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ -يَقْصِدُونَ الْقَرْنَ الْعِشْرِينَ-، وَتَبَنَّتْهَا الصُّهْيُونِيَّةُ الْعَالَمِيَّةُ مِنْ خِلَالِ عَقْدِ الْعَدِيدِ مِنَ الْمُؤْتَمَرَاتِ بِدَعْوَى التَّقْرِيبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، مِنْهَا: مَا عُقِدَ فِي بَيْرُوتَ عَامَ 1953م، وَكَذَا الْمُؤْتَمَرُ الَّذِي عُقِدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَامَ 1954م، كَذَلِكَ فِي (كَاتِدْرَائِيَّةِ سَان جُون) بِنِيُويُورْك عَامَ 1984م، وَفِي الْعَامِ نَفْسِهِ عُقِدَ لِقَاءٌ آخَرُ فِي (دَيْرِ سَانْت كَاتْرِين) بِسَيْنَاءَ، قَامَتْ بِتَمْوِيلِهِ الْمُنَظَّمَاتُ الصُّهْيُونِيَّةُ فِي أَمِرِيكَا وَإِسْرَائِيلَ أَيْ: فِي الدَّوْلَةِ الْعِبْرِيَّةِ-.

وَشَارَكَتْ فِيهِ عِدَّةُ جِنْسِيَّاتٍ تَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَالْيَهُودِيَّةِ، وَالْبُوذِيَّةِ، وَالْبَهَائِيَّةِ، وَدِيَانَاتِ الْهُنُودِ الْحُمْرِ، وَفِي هَذَا اللِّقَاءِ تَمَّ الْكَشْفُ عَنِ الْأَهْدَافِ الْحَقِيقِيَّةِ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْخَبِيثَةِ، وَالَّتِي يُمْكِنُ تَلْخِيصُهَا فِي الْآتِي:

ضَرُورَةُ اسْتِخْدَامِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ لِخِدْمَةِ قَضِيَّةِ السَّلَامِ وَوَقْفِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ، مُسْتَخْدِمَةً الضَّغْطَ الشَّعْبِيَّ -الدُّبْلُومَاسِيَّةَ الشَّعْبِيَّةَ- لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَلِمُحَاوَلَةِ إِذَابَةِ الْفَوَارِقِ الْعَقَدِيَّةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، بَعْدَمَا تَحَقَّقَ لِلْيَهُودِ إِزَاحَةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَنْ عَقِيدَتِهَا.

وَقَدْ تَوَلَّتْ أَمَانَةُ غَيْرِ الْمَسِيحِيِّينَ كَذَا- بِـ(الْفَاتِيكَان) كِبْرَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ بِزَعْمِ مُوَاجَهَةِ الْإِلْحَادِ وَالْمَادِّيَّةِ، وَبِتَأْثِيرٍ مُبَاشِرٍ مِنَ الْمَاسُونِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ، وَتَأْكِيدًا لِذَلِكَ أَصْدَرَتْ كِتَابًا يُفْصِحُ عَنْ هَذِهِ الرَّغْبَةِ عَامَ 1970م، وَهُوَ الْأَمْرُ نَفْسُهُ الَّذِي أَكَّدَهُ (يُوحَنَّا بُولُس الثَّانِي) فِي لِقَاءٍ لَهُ بِأَتْبَاعِ كَنِيسَتِهِ فِي أَنْقَرَةَ بِتُرْكِيَا، وَهُوَ مَا كَرَّرَهُ أَمَامَ حَشْدٍ غَفِيرٍ فِي الدَّارِ الْبَيْضَاءِ بِالْمَغْرِبِ فِي أَغُسْطُس سَنَةَ 1985م.

وَفِي 27 مِنْ أُكْتُوبَر 1986م أُقِيمَتْ صَلَاةٌ مُشْتَرَكَةٌ شَارَكَ فِيهَا بَعْضُ مُدَّعِي الْإِسْلَامِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَجْمُوعَاتٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْبُوذِيِّينَ، وَالنَّصَارَى الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ.

كَانَتْ ضِمْنَ تَوْصِيَّاتِ هَذَا اللِّقَاءِ: إِنْشَاءُ نَادِي الشَّبَابِ الْمُتَدَيِّنِ الَّذِي أُقِيمَ فِي صَيْفِ 1987م، وَكَذَلِكَ إِنْشَاءُ جَمْعِيَّة (الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّحِدُونَ) الَّتِي أُقِيمَتْ فِي أَبْرِيل 1987م بِحُجَّةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى جَمَاعَاتِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ عَلَا صَوْتُهُمْ فِي أُورُوبَّا وَأَمِرِيكَا بِإِنْكَارِ التَّثْلِيثِ.

وَمِنْ ضِمْنِ تَوْصِيَّاتِهِ -أَيْضًا-: الدَّعْوَةُ لِإِقَامَةِ مَعْبَدٍ وَاحِدٍ لِلْأَدْيَانِ (الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ) فِي سَيْنَاءَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الدَّعْوَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَدْيَانِ بِمَا فِيهَا الْبَهَائِيَّةُ، وَالْبُوذِيَّةُ، وَالْمَاسُونِيَّةُ، وَالْمُؤْمِنُونَ الْأَحْرَارُ، مَعَ الدَّعْوَةِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمُشْتَرَكَةِ -صَلَاةِ رُوحِ الْقُدُسِ- بِصِفَتِهَا وَوَقْتِهَا عَلَى حَسْبِ زَعْمِهِمْ!!

وَوُضِعَتْ لَوَائِحُ دَاخِلِيَّةٌ تَسْعَى لِإِذَابَةِ الْفَوَارِقِ الدِّينِيَّةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَأَخِيرًا اعْتَبَرُوا يَوْمَ صَلَاةِ الْبَابَا -وَهُوَ 27 مِنْ أُكْتُوبَر- عِيدًا لِكُلِّ الْأَدْيَانِ، وَكَذَلِكَ اعْتُبِرَ الْأَوَّلُ مِنْ يَنَايِر.

 وَقَدِ اتَّخَذُوا لَهُمْ رَايَةً وَشِعَارًا مَرْسُومًا عَلَيْهَا شِعَارُ الْأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ، وَقَوْسُ قُزَحٍ، وَإِشَارَةُ سَبْعَةٍ، وَهِيَ رَمْزُ النَّصْرِ -كَمَا يَدَّعُونَ-.

وَمِنْ أَهَمِّ مُؤَلَّفَاتِ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ: ((نَحْنُ جَمِيعًا أَبْنَاءُ إِبْرَاهِيمَ)) صَدَرَ سَنَةَ 1985م فِي بَارِيس مِنْ تَأْلِيفِ سِكِرْتَاريَةِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ؛ لِلِاتِّصَالِ بِالْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَاوُنِ مَعَ الْمَرْكَزِ الْوَطَنِيِّ لِلتَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ، وَكِتَابُ ((تَوْجِيهَاتٍ لِإِقَامَةِ الْحِوَارِ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ)) أَصْدَرَهُ (الْفَاتِيكَان) عَامَ 1970م، وَكِتَابُ ((مِيشيل نِعْمَةِ اللهِ))، وَكِتَابُ ((وَلَاءَانِ وَرَجَاءٌ وَاحِدٌ))، كَمَا تَحَمَّسَ لَهَا (لِويس مَاسِينْيُون) وَ(مِيشِيل حَايِك) فِي كِتَابَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي صَدَرَ فِي يَنَايِر عَامَ 1979م، وَهُوَ كِتَابُ ((الْعَرَبِ)).

وَتُعْتَبَرُ الْفَلْسَفَةُ الْهِنْدِيَّةُ الْجُذُورَ الْأُولَى لِـ(عَقِيدَةِ وَحْدَةِ الْأَدْيَانِ)، يَقُولُ (شَانْكِرَا): ((اعْبُدِ اللهَ فِي أَيِّ مَعْبَدٍ شِئْتَ، أَوِ ارْكَعْ أَمَامَ أَيِّ إِلَهٍ بِغَيْرِ تَفْرِيقٍ!!)).

وَقَدْ وُجِدَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبَعْضِ الْفَلْسَفَاتِ الْيُونَانِيَّةِ، كَمَا وُجِدَتْ عِنْدَ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ، قَالَ الْحَلَّاجُ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَغَيْرَ تِلْكَ الْأَدْيَانِ هِيَ أَلْقَابٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَسْمَاءٌ مُتَغَيِّرَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْتَلِفُ!!)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((بَلْ كَانَ ابْنُ سَبْعِينَ، وَابْنُ هُودَ، وَالتِّلْمِسَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُسَوِّغُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ كَمَا يَتَمَسَّكُ بِالْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلُونَ هَذِهِ طُرُقًا إِلَى اللهِ بِمَنْزِلَةِ مَذَاهِبِ الْمُسْلِمِينَ -كَمَا ذَكَرَ -رَحِمَهُ اللهُ-- أَنَّ أَكَابِرَ وُزَرَاءِ التَّتَارِ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ)).

وَفِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ دَعَتْ إِلَيْهَا الْبَهَائِيَّةُ، وَقَالَ بِهَا الْأَفْغَانِيُّ وَمُحَمَّد عَبْدُه مُتَأَثِّرًا بِالْقِسِّ الْإِنْجِلِيزِيِّ (إِسْحَاق تِيلُور) أَثْنَاءَ نَفْيِهِ فِي بَيْرُوت عَامَ 1883م، وَكَذَلِكَ مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبَيْهِمَا أَيْ: عَلَى دَرْبِ الْأَفْغَانِيِّ وَمُحَمَّد عَبْدُه- مِنَ الْعَصْرَانِيِّينَ الْيَوْمَ.

وَقَدْ دَعَا إِلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مُؤَخَّرًا الْفَيْلَسُوفُ الْفَرَنْسِيُّ الَّذِي أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ مُؤَخَّرًا (رُوجِيه جَارُودِي)، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِـ((وَثِيقَةِ إِشْبِيلِيَّةَ)).

وَالدَّعْوَةُ لِوَحْدَةِ الْأَدْيَانِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الدِّينِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ دَعْوَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ؛ فَدِينُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ، وَعَقِيدَتُهُ هِيَ: التَّوْحِيدُ للهِ -تَعَالَى- فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ،  بَيْنَمَا هِيَ عِنْدَ النَّصَارَى اسْمٌ فَقَطْ، أَمَّا الْمَضْمُونُ فَيَحْتَوِى عَلَى مَزِيجٍ مِنَ التَّثْلِيثِ وَعِبَادَةِ  الْمَسِيحِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ آل عمران : 85] .

الْقَوْلُ بِحُرِّيَّةِ الْأَدْيَانِ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّدَّةُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ السَّمَاحُ بِنَشْرِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَتَرْوِيجِهَا.

وَالدَّعْوَةُ إِلَى حُرِّيَّةِ الْأَدْيَانِ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسُوغُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَيَّنَ بِأَيِّ دِينٍ شَاءَ، أَوْ لَهُ الْحَقُّ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَالْكُفْرِ بِهِ، أَوْ إِنْكَارُ حَدِّ الرِّدَّةِ، هَذَا قَوْلٌ مُنَاقِضٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ آل عمران : 85].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ سَوَّغَ اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اتِّبَاعَ شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَهُوَ كَافِرٌ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِدِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرَّسُولِ -هَذَا فِي الْجُمْلَةِ-، وَالتَّعْيِينُ مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَحُكْمُهُ هَذَا فِي أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ فَأَطْفَالُ الْكُفَّارِ وَمَجَانِينُهُمْ كُفَّارٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، لَهُمْ حُكْمُ أَوْلِيَائِهِمْ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8-9].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130].

وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، يُخْبِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذِّبُ مَنْ جَاءَهُ الرَّسُولُ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَهُوَ الْمُذْنِبُ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وَالظَّالِمُ مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ ظَالِمٌ؟!!

*الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَذَابَ يُسْتَحَقُّ بِسَبَبَيْنِ:

*أَحَدُهُمَا: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحُجَّةِ، وَعَدَمُ إِرَادَتِهَا والْعَمَلِ بِهَا وَبِمُوجِبِهَا.

*الثَّانِي: الْعِنَادُ لَهَا بَعْدَ قِيَامِهَا، وَتَرْكُ إِرَادَةِ مُوجِبِهَا.

فَالْأَوَّلُ كُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَالثَّانِي كُفْرُ عِنَادٍ، وَأَمَّا كُفْرُ الْجَهْلِ مَعَ عَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا؛ فَهَذَا الَّذِي نَفَى اللهُ التَّعْذِيبَ عَنْهُ حَتَّى تَقُومَ حُجَّةُ الرُّسُلِ.

*وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ قِيَامَ الْحُجَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ؛ فَقَدْ تَقُومُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَفِي بُقْعَةٍ وَنَاحِيَةٍ دُونَ أُخْرَى، كَمَا أَنَّهَا تَقُومُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ آخَرَ؛ إِمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ وَتَمْيِيزِهِ؛ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِمَّا لِعَدَمِ فَهْمِهِ؛ كَالَّذِي لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ وَلَمْ يَحْضُرْ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْفَهْمِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ يُدْلُونَ عَلَى اللهِ بِالْحُجَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

 *الْأَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ -سُبْحَانَهُ- تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ الَّتِي لَا يُخِلُّ بِهَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا الْمَحْمُودَةِ وَعَوَاقِبِهَا الْحَمِيدَةِ)). انْتَهَى كَلَامُ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((طَرِيقِ الْهِجْرَتَيْنِ)).

قَالَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَيَتَّبِعْ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمِنَ الْكُفَّارِ؛ سَوَاءٌ كَانَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ هِنْدُوكِيًّا، أَوْ بُوذِيًّا، أَوْ شِيُوعِيًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَأَنْ يَتَّبِعُوا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ حَتَّى الْمَوْتِ؛ وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ لَهُمُ السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51-52].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40-41].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. 

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

وَجَمِيعُ الدِّيَانَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ بِاللهِ مَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ، وَبَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلَهُمْ، وَفِيهَا عَدَمُ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَدَمُ اتِّبَاعِهِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي كُفْرِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ غَضَبَ اللهِ وَعِقَابَهُ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِدُخُولِ النَّارِ؛ إِلَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، فَهَذَا أَمْرُهُ إِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُمْتَحَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ أَجَابَ لِمَا طُلِبَ مِنْهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ عَصَا دَخَلَ النَّارَ.

قَالَ: وَقَدْ بَسَطَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَدِلَّتَهَا فِي آخِرِ كِتَابِهِ: ((طَرِيقِ الْهِجْرَتَيْنِ)) تَحْتَ عُنْوَانِ: ((طَبَقَاتِ الْمُكَلَّفِينَ)) )).

وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعُثَيْمِينُ -رَحِمَهُ اللهُ- هَذَا السُّؤَالَ: نَسْمَعُ وَنَقْرَأُ كَلِمَةَ (حُرِّيَّةِ الْفِكْرِ!)، وَهِيَ دَعْوَةٌ إِلَى حُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ؛ فَمَا تَعْلِيقُكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((تَعْلِيقُنَا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الَّذِي يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حُرَّ الِاعْتِقَادِ، يَعْتَقِدُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَدْيَانِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَتَدَيَّنَ بِغَيْرِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا وَجَبَ قَتْلُهُ.

وَالْأَدْيَانُ لَيْسَتْ أَفْكَارًا، وَلَكِنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يُنْزِلُهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ لِيَسِيرَ عِبَادُهُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ -أَعْنِي كَلِمَةَ (فِكْرٍ)- الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الدِّينُ يَجِبُ أَنْ تُحْذَفَ مِنْ قَوَامِيسِ الْكُتُبِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ عَنِ الْإِسْلَامِ: فِكْرٌ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ فِكْرٌ، وَالْيَهُودِيَّةُ فِكْرٌ -وَأَعْنِي بِالنَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُهَا الْمَسِيحِيَّةَ-.

فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الشَّرَائِعُ مُجَرَّدَ أَفْكَارٍ أَرْضِيَّةٍ يَعْتَنِقُهَا مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْأَدْيَانَ السَّمَاوِيَّةَ أَدْيَانٌ سَمَاوِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَعْتَقِدُهَا الْإِنْسَانُ عَلَى أَنَّهَا وَحْيٌ مِنَ اللهِ، تَعَبَّدَ بِهَا عِبَادَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا (فِكْرٌ).

قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: وَخُلَاصَةُ الْجَوَابِ: أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَدَيَّنَ بِمَا شَاءَ، وَأَنَّهُ حُرٌّ فِيمَا يَتَدَيَّنُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، وَيَقُولُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ دِينًا سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ، بَلْ إِذَا اعْتَقَدَ هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عَنِ الْمِلَّةِ)).

فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((صَحِيحِهِ)) يَرُدُّ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ النَّعْرَاتِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا الْآنَ هُنَا وَهُنَاكَ مِنْ أَجْلِ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ.

وَيُثِيرُ الْعَلْمَانِيُّونَ شُبُهَاتِهِمْ مُعْتَمِدِينَ عَلَى بَعْضِ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَهَا وَتَفْسِيرَهَا، أَوْ يَفْهَمُونَ وَيَتَغَافَلُونَ وَيَمْكُرُونَ، الْآيَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، فَمَعْنَى الْقَوْلِ: قَلْ يَا مُحَمَّدُ ﷺ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا: الْحَقُّ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، وَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ، وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}: وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ.

فَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}: أَنَّهُ يُرَخِّصُ لِمَنْ أَرَادَ الْكُفْرَ أَنْ يَكْفُرَ وَيَكُونُ غَيْرَ مُعَاقَبٍ، بَلْ هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقُلِ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَسْتُ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لِهَوَاكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمِنُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا، فَإِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمْ رَبُّكُمْ نَارًا أَحَاطَ بِكُمْ سُرَادِقُهَا، وَإِنْ آمَنْتُمْ فَلَكُمْ مَا وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَهْلِ طَاعَتِهِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي مَعْنَى الْآيَةِ: ((مَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الْإِيمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30])).

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

لَا إِكْرَاهَ لِأَحَدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ الْبَيِّنُ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى إِكْرَاهِ أَحَدٍ عَلَيْهِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَفْسِيرِهِ)): ((يَقُولُ تَعَالَى: {لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ؛ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- {لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ})).

وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ بُنْدَارٍ بِهِ، وَمِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُرَشِيِّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: ((نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ من بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنُ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَلَا أَسْتَكْرِهُهُمَا؟ فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَرَوَى السُّدِّيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَزَادَ: ((وَكَانَا قَدْ تَنَصَّرَا عَلَى يَدَيْ تُجَّارٍ قَدِمُوا مِنَ الشَّامِ يَحْمِلُونَ زَيْتًا، فَلَمَّا عَزَمَا عَلَى الذَّهَابِ مَعَهُمْ أَرَادَ أَبُوهُمَا أَنْ يَسْتَكْرِهَهُمَا، وَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبْعَثَ فِي آثَارِهِمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ)).

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أُسَقَ، قَالَ: ((كُنْتُ فِي دِينِهِمْ مَمْلُوكًا نَصْرَانِيًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَآبَى، فَيَقُولُ: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، وَيَقُولُ: ((يَا أُسَقُ! لَوْ أَسْلَمْتَ لَاسْتَعَنَّا بِكَ عَلَى بَعْضِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ)).

وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ.

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْعَى جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ الْحَنِيفِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمُ الدُّخُولَ فِيهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ أَوْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ؛ قُوتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهَذَا مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الْفَتْحِ: 16]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 93]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التَّوْبَةِ: 123].

وَفِي ((الصَّحِيحِ)): «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ»: يَعْنِي: الْأَسَارَى الَّذِينَ يُقْدَمُ بِهِمْ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي الْوَثَائِقِ وَالْأَغْلَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَكْبَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْلِمُونَ، وَتَصْلُحُ أَعْمَالُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ، فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ».

قَالَ: ((إِنِّي أَجِدُنِي كَارِهًا)).

قَالَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا»، فَإِنَّهُ ثُلَاثِيٌّ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُكْرِهْهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَلْ دَعَاهُ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ قَابِلَةً لَهُ، بَلْ هِيَ كَارِهَةٌ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُكَ حُسْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ)).

((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ))

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ تُوجِبُ: ((أَنْ يَبْذُلَ الْمَرْءُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْخِبْرَةِ وَالنُّصْحِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ لِمَنْفَعَةِ بَنِي وَطَنِهِ؛ فَيَسْتَقِيمُ فِي وَظِيفَتِهِ، وَيَنْصَحُ فِي تِجَارَتِهِ، وَلَا يَغُشُّ فِي حِرْفَتِهِ.

وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْسِينِ حَالَتِهِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى الْمَمَالِكِ الْبَعِيدَةِ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ يُفِيدُ بِهِ قَوْمَهُ، أَوْ صَنْعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي وَطَنِهِ، أَوْ تِجَارَةٍ يَجْلِبُ مِنْهَا لِبِلَادِهِ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ)).

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُثَبِّتَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هَدَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَأَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

 أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُنَجِّيَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر

حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الِانْتِحَارُ.. الْأَسْبَابُ وَسُبُلُ الْوِقَايَةِ
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ وَدُرُوسٌ مِنْ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  مسألة اختلاف المطالع
  الْإِيمَانُ وَالْعِلْمُ
  عيد الفطر لعام 1437هـ .. اتقوا الظلم
  الرد على الملحدين:دلالة الآيات الكونية على خالقها ومبدعها
  الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  كيف تعرف الخارجي؟
  الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الثَّامِنُ: مَثَلُ الْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ))
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان