((عُلُوُّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا الْحَمْدَ وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ))
فَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ يَسْأَلُونَهُ مَطَالِبَهُمْ، وَيَسْتَدْفِعُونَهُ مَا يَضُرُّهُمْ؛ وَلَكِنَّ هِمَمَهُمْ وَمَقَاصِدَهُمْ مُتَبَايِنَةٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}؛ أَيْ: يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ مَطَالِبِ دُنْيَاهُ وَشَهَوَاتِهِ فَقَطْ {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]؛ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا، وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْهَا.
وَمِنْهُمْ عَالِي الْهِمَّةِ مَنْ يَدْعُو اللهَ لِمَصْلَحَةِ الدَّارَيْنِ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى رَبِّهِ فِي مُهِمَّاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَسْبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمُ اللهُ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ جَزَاءً دَائِرًا بَيْنَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ لِلْمَقْبُولِينَ، وَبَيْنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِغَيْرِهِمْ.
لَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ بِصِفَاتٍ تَعْكِسُ عُلُوَّ هِمَمِهِمْ وَسُمُوَّ آمَالِهِمْ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 63-73].
الْعُبُودِيَّةُ للهِ نَوْعَانِ:
* عُبُودِيَّةٌ لِرُبُوبِيَّةِ اللهِ وَمُلْكِهِ، فَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْخَلْقِ؛ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، فَكُلُّهُمْ عَبِيدٌ للهِ مَرْبُوبُونَ مُدَبَّرُونَ.
* وَعُبُودِيَّةٌ لِأُلُوهِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهِيَ عُبُودِيَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا؛ وَلِهَذَا أَضَافَهَا إِلَى اسْمِهِ (الرَّحْمَنِ)؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَلُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَذَكَرَ صِفَاتِهِمْ أَكْمَلَ الصِّفَاتِ، وَبِالِاتِّصَافِ بِهَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِعُبُودِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ النَّافِعَةِ الْمُثْمِرَةِ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، فَوَصَفَهُمْ بِأَوْصَافٍ..
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أَيْ: قُرَنَائِنَا؛ مِنْ أَصْحَابٍ، وَأَخِلَّاءَ، وَأَقْرَانٍ، وَزَوْجَاتٍ، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أَيْ: تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا، وَإِذَا اسْتَقْرَأْنَا حَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ؛ عَرَفْنَا مِنْ عُلُوِّ هِمَمِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِذُرِّيَّاتِهِمْ: أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ صَلَاحَهُمْ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الذُّرِّيَّةِ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى وَالِدِيهِمْ؛ لِأَنَّ النَّفْعَ يَعُودُ عَلَى الْجَمِيعِ؛ بَلْ صَلَاحُهُمْ يَعُودُ إِلَى نَفْعِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا؛ لِأَنَّ بِصَلَاحِ الْمَذْكُورِينَ صَلَاحًا لِكُلِّ مَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِمْ، ثُمَّ يَتَسَلْسَلُ الصَّلَاحُ وَالْخَيْرُ.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]؛ أَيْ: أَوْصِلْنَا يَا رَبَّنَا إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالْكُمَّلِ مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، يُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُطْمَأَنُّ إِلَيْهَا؛ لِثِقَةِ الْمُتَّقِينَ بِعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَيَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ بِهِمْ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ؛ أَنَّ الدُّعَاءَ بِحُصُولِ شَيْءٍ دُعَاءٌ بِهِ، وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]؛ فَهَذَا الدُّعَاءُ يَسْتَلْزِمُ مِنْ حُصُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَمِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ التَّامِّ الرَّاسِخِ الَّذِي يُوصِلُ صَاحِبَهُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ.. يَسْتَلْزِمُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَعَطَاءً جَزِيلًا.
وَلَمَّا كَانَتْ هِمَمُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ عَالِيَةً؛ كَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَازَاهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَقَالَ: {أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أَيِ: الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ الْجَامِعَةَ لِكُلِّ نَعِيمٍ رُوحِيٍّ وَبَدَنِيٍّ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْجَلِيلَةِ، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75] مِنْ رَبِّهِمْ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وَتَحِيَّةً مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَسْلَمُونَ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَغِّصَاتِ وَالْمُكَدِّرَاتِ.
وَالْحَاصِلُ؛ أَنَّ اللهَ وَصَفَهُمْ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَلِعِبَادِهِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ، وَالْحِلْمِ، وَسَعَةِ الْخُلُقِ، وَالْعَفْوِ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَمُقَابَلَةِ إِسَاءَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَالْخَوْفِ مِنَ النَّارِ، وَالتَّضَرُّعِ لِرَبِّهِمْ أَنْ يُنَجِّيَهُمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ فِي النَّفَقَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَادِ، وَإِذَا كَانُوا مُقْتَصِدِينَ فِي النَّفَقَاتِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا أَوِ الْإِفْرَاطِ؛ فَاقْتِصَادُهُمْ وَتَوَسُّطُهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَوَصَفَهُمْ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِهَا، وَبِالتَّوْبَةِ مِمَّا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْهَا.
وَمِنْهَا: الْإِخْلَاصُ للهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ وَالْفُسُوقِ الْقَوْلِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ، وَلَا يَفْعَلُونَهَا، وَأَنَّهُمْ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ اللَّغْوِ وَالْأَقْوَالِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا نَفْعَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ إِنْسَانِيَّتِهِمْ وَمُرُوءَتِهِمْ، وَكَمَالَهُمْ، وَرِفْعَةَ نُفُوسِهِمْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ رَذِيلٍ، وَأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ آيَاتِ اللهِ بِالْقَبُولِ لَهَا، وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهَا، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَنْفِيذِ أَحْكَامِهَا.
وَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِأَكْمَلِ دُعَاءٍ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ؛ مِنْ صَلَاحِ أَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: سَعْيُهُمْ فِي تَعْلِيمِهِمْ، وَوَعْظُهُمْ وَنُصْحُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَرِصَ عَلَى شَيْءٍ، وَدَعَا اللهَ فِي حُصُولِهِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي تَحْصِيلِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، مُسْتَعِينًا بِرَبِّهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ دَعَوُا اللهَ فِي حُصُولِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَهُمْ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْإِمَامَةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ.
فَللهِ مَا أَعْلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَرْفَعَ هَذِهِ الْهِمَمِ، وَأَجَلَّ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَأَزْكَى تِلْكَ النُّفُوسِ!! وَللهِ مَا أَعْظَمَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَلُطْفَهُ بِهِمُ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالْمَنَازِلِ!! وَللهِ الْحَمْدُ مِنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ؛ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَوْصَافَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا، وَأَعَانَ السَّالِكِينَ، وَيَسَّرَ الطَّرِيقَ لِمَنْ سَلَكَ رِضْوَانَهُ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ الْمُعِينُ.
تَأَمَّلْ فِي الْآيَاتِ! تَأَمَّلْ فِي مَعَانِيهَا، وَاصْنَعْ شَيْئًا آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الصِّفَاتِ، وَأَنْ تَنْظُرَ فِي نَفْسِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَرَى: أَحَصَّلْتَ أَمْ لَمْ تُحَصِّلْ؟! وَإِنْ كُنْتَ حَصَّلْتَ؛ فَكَمْ حَصَّلْتَ؟!! وَإِنْ كُنْتَ فَقَدْتَ؛ فَكَمْ فَقَدْتَ؟!! ثُمَّ قِسْ نَفْسَكَ عَلَى عِبَادِ الرَّحْمَنِ، وَاللهُ يَرْعَاكَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ وُقُوفَ هِمَّةِ الْعَبْدِ عِنْدَ مُرَادِ نَفْسِهِ فَقَطْ مِنْ ضَعْفِ الْهِمَّةِ؛ وَلِهَذَا لَامَهُمُ اللهُ عَلَى عَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ الْمُحْتَاجِينَ، فَقَالَ: {كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ وَكَاسِبَهُ، وَاحْتَاجَ إِلَى جَبْرِ خَاطِرِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
فَأَنْتُمْ لَا تُكْرِمُونَهُ؛ بَلْ تُهِينُونَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ.
((التَّرْغِيبُ فِي عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
((إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ خُلُقٌ رَفِيعٌ وَغَايَةٌ نَبِيلَةٌ، تَتَعَشَّقُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَهْفُو إِلَيْهِ الْفِطَرُ الْقَوِيمَةُ، وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ الْأُسُسِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْفَاضِلَةِ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْخُلُقِيَّةِ؛ كَالْجِدِّ فِي الْأُمُورِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالدَّنَايَا، وَكَالطُّمُوحِ إِلَى الْمَعَالِي)).
وَالْإِسْلَامُ يَحُثُّ عَلَى هَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ، وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133-134].
((أَمَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَكَيْفَ بِطُولِهَا؟! الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ؛ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِم وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-، هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ، وَأَعْلَى، وَأَجَلَّ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ)).
لَقَدْ نَدَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُسَارَعَةِ، وَتَرْكِ التَّبَاطُؤِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ؛ حَتَّى نَلْقَى جَزَاءَ ذَلِكَ وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]؛ يَعْنِي: يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا، فَهُمْ يَتَسَابَقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقًا.
وَمَعْنَى قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]: حَثٌّ واسْتِعْجَالٌ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِالْعُمُومِ.
الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ: مُبَادَرَةٌ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَسَبْقٌ إِلَيْهَا، وَاسْتِعْجَالٌ فِي أَدَائِهَا، وَعَدَمُ الْإِبْطَاءِ فِيهَا أَوْ تَأْخِيرِهَا.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114].
وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا كَانَ مِنْ زَكَرِيَّا وَآلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90-89].
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].
وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].
فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ التَّوَانِيَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ لَيْسَ بِالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْإِسْرَاعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ هُوَ الْخَيْرُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُسَارِعًا فِي تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ بِأَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا؛ وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
فَاصْبِرْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ مِثْلَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.
فَإِنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ وَالْهِمَمَ الْعَلِيَّةَ لَا تَرْضَى لِأَنْفُسِهَا بِغَيْرِ هَذَا الْخُلُقِ الْفَاضِلِ -وَهُوَ الصَّبْرُ- الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْأَخْلَاقِ وَأَنْفَعُهَا.
وَمِنْ دَلَائِلِ الْحَثِّ عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِالطَّاعَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قَوْلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41-43].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ بِقُلُوبِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ، وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِهِ أَبَدًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؛ لِاجْتِمَاعِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيهِمَا، هُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي يَرْحَمُكُمْ، وَيُثْنِي عَلَيْكُمْ، وَتَدْعُو لَكُمْ مَلَائِكَتُهُ، وَتَسْتَغْفِرُ لَكُمْ؛ لِيُخْرِجَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِ لَكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْمَعاصِي إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالطَّاعَةِ، وَكَانَ اللهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دَائِمَ الرَّحْمَةِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}؛ قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فِي الصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ)).
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمْ لِرَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَصُنُوفِ الْمِنَنِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَجَمِيلِ الْمَآبِ)).
وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَزِيلَ الْأَجْرِ لِمَنْ سَعَى وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي عِبَادَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
وَمَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَسَعَى لِلْآخِرَةِ بِطَاعَةِ اللهِ وَالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ وَهُوَ مُؤمِنٌ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَأُولَئِكَ رَفِيعُو الْمَنْزِلَةِ كَانَ سَعْيُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مَقْبُولًا مَثْنِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ كَثِيرٌ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّحَلِّي بِهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَنْفِرُ الْهِمَمَ: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ؛ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى؛ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا)).
((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ؛ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى))، لَا تَكُنْ ضَعِيفَ الْهِمَّةِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَيِّتَهَا!!
وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: ((سَلْ)).
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
فَقَالَ: ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟!!)).
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ: ((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)).
وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي اسْتِغْلَالِ نِعْمَتَيِ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ، يَقُولُ ﷺ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)).
عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ؛ فَهُوَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي الطَّاعَةِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّدُ صِحَّتُهُ فِيمَا لَا يُفِيدُ، فَإِذَا مَا سُلِبَتْ مِنْهُ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، وَأَرَادَ أَمْرًا؛ لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْفَرَاغِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ مِنَ الْهُمُومِ وَمِنَ الْأَحْزَانِ؛ فَهَذِهِ الْفَتْرَةُ مِنَ الْفَرَاغِ نِعْمَةٌ يَظْلِمُ الْعَبْدُ فِيهَا نَفْسَهُ؛ حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَلَلِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُمَضِّي وَقْتَهُ، وَلَا كَيْفَ يُضَيِّعُ هَذَا الْوَقْتَ!!
وَكَثِيرًا مَا تَسْمَعُ مِنْ زَائِرٍ يَزُورُكَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَارَكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْوَقْتِ!! فَهُوَ جَاءَ لِيُضَيِّعَ وَقْتَ نَفْسِهِ!!
فَهَذِهِ نِعْمَةٌ هُوَ لَا يُحِسُّ بِهَا، وَلَا يَدْرِيهَا!!
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ))، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النِّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا -يَعْنِي: لَوْ كَانَ كَذَا؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا-، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
وَالْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ ذَكَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَقُوَّةُ الرُّوحِ، وَعَزِيمَةُ النَّفْسِ، فَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرْءَ فِي الْجِلَادِ عِنْدَ الْجِهَادِ لِأَنْ يَكُونَ سَابِقًا فِي مَوْطِنِ الْمَوْتِ، تَنُوشُهُ الرِّمَاحُ، وَتُمَزِّقُهُ السُّيُوفُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَلَكِنَّ جَمْهَرَةً غَالِبَةً مِنْ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- أَخَذُوا بِالْإِطْلَاقِ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ، قَوِيٌّ فِي إِيمَانِهِ، قَوِيٌّ فِي صِحَّتِهِ، قَوِيٌّ فِي يَقِينِهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَلَّا نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي حَالِ صِحَّتِنَا، وَلَا فِي حَالِ فَرَاغِنَا وَعَدَمِ شُغُلِنَا، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الصِّحَّةِ لِلْمَرَضِ، وَأَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْفَرَاغِ لِلشُّغُلِ.
فَاحْرِصْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدَى، وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، كَمَا حَثَّ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟
قَالَ ﷺ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى التَّحَلِّي بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ».
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ».
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ يَعْمَلَ أَحَدٌ لَكَ بَعْدَ مَوْتِكَ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَغَيْرِهَا، فَهُبَّ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَاحْرِصْ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كُلَّ يَوْمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ مَا تَقَرُّ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَهْنَأُ بِهِ الْقُلُوبُ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ: (أَلْفٌ) حَرْفٌ، وَ(لَامٌ) حَرْفٌ، وَ(مِيمٌ) حَرْفٌ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ؛ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى؛ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ ((مَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِعَشْرِ آيَاتٍ؛ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِمِائَةِ آيَةٍ؛ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِأَلْفِ آيَةٍ؛ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ)).
وَالمُقَنْطِرُونَ: الَّذِينَ يُعْطَوْنَ قِنْطَارًا مِنَ الْأَجْرِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَمَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ؛ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
وَ((مَنْ قَامَ بِاللَّيْلِ، فَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا جَمِيعًا رَكْعَتَينِ؛ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ))، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ.
وَدَعَا نَبِيُّنَا ﷺ بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ يَقُومُ بِاللَّيْلِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُوقِظُ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ قَامَتْ؛ وَإِلَّا نَضَحَ فِي وَجْهِهَا المَاءَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ بِاللَّيْلِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، فَإِنْ قَامَتْ؛ وَإِلَّا نَضَحَ فِي وَجْهِهَا المَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ بِاللَّيْلِ فَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ قَامَ؛ وَإِلَّا نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ المَاءَ)).
إِنَّ الْأَمْرَ جِدُّ خَطِيرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ ((فِي الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا)).
قَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَقَامَ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ)).
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ-: «إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الْجَوَادُ، وَيُحِبُّ الْكَرَمَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَرَمَ وَالْجُودَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ.
وَيَكْرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- السَّفَاسِفَ، وَالْأُمُورَ الْـمُسْتَصْغَرَةَ، وَالْأَحْوَالَ الْـمُسْتَرْذَلَةَ، يَكْرَهُ اللهُ سَفْسَافَ الْأَخْلاقِ ومُنْحَطَّهَا، وَيُحِبُّ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَعَالِيَ الْأُمُورِ.
((سُبُلُ عُلُوِّ الْهِمَّةِ))
إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ يَحْتَاجُ إِلَى جَهْدٍ وَمُصَابَرَةٍ، وَلَهَا أَسْبَابٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْتَمِسَهَا، وَسُبُلٌ عَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَهَا، وَمِنْهَا:
* تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ؛ فَالتَّوْحِيدُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَالْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ تَخِفُّ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ؛ لِمَا يَرْجُو مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي؛ لِمَا يَخْشَى مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ.
وَمَتَى كَمُلَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَلْبِ؛ حَبَّبَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ؛ فَالتَّوْحِيدُ يُخَفِّفُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَكَارِهَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ، وَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ الْعَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ يَكُونُ تَلَقِّيهِ لِلْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.
وَالتَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ، وَخَوْفِهِمْ، وَرَجَائِهِمْ، وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي.
وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ، وَحُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالتَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى، وَإِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّسْدِيدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَدْفَعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الْإِيمَانِ.. يَدْفَعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِذِكْرِهِ.
وَالشِّرْكُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الدُّعَاءُ؛ دُعَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَكَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَسْأَلُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَاجَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُم إِذَا لَمْ يَجِدْ مِلْحَ طَعَامِهِ؛ سَأَلَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِلْحَ طَعَامِهِ، وَإِذَا انْقَطَعَ شِرَاكُ نَعْلِهِ؛ سَأَلَ اللهَ أَنْ يُعَوِّضَهُ خَيْرًا، فَيُعَوِّضُهُ اللهُ خَيْرًا.
وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيَغْضَبُ إِنْ تَرَكَ النَّاسُ سُؤَالَهُ، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ بَنِي آدَمَ الْمَالَ أَوِ الْعَوْنَ، وَكَرَّرْتَ ذَلِكَ؛ أَغْضَبْتَهُمْ، وَأَحْرَجْتَهُمْ؛ قال ﷺ: ((إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).
وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَاحِبُ الْخَزَائِنِ الَّتِي لَا تَنْقُصُ، يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَفِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، اسْأَلْ مَا شِئْتَ رَبَّكَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
اسْأَلْهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُمُورَ الآخِرَةِ بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَاسْأَلْهُ مَا شِئْتَ مِنْ دُنْيَاكَ، وَلَا تَتَجَاوَزْ حُدُودَ الشَّرْعِ، وَلا تَعْتَدِ فِي الدُّعَاءِ.
وقالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
أَيْ: وَإِذَا سَأَلَكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- عِبَادِي عَنْ ذَاتِي أَوْ صِفَاتِي أَوْ أَفْعَالِي؛ فَقُلْ لَهُم: إِنِّي قَرِيبٌ بِالعِلْمِ وَالحِفْظِ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ، أَسْمَعُ دُعَاءَ عَبْدِي إِذَا دَعَانِي، وَأُلَبِّي دَعْوَةَ الدَّاعِي، وَأُسْعِفُ السَّائِلَ إِذَا التْجَأَ إِلَيَّ؛ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بِعِبَادَتِي وَطَاعَتِي، وَلْيُؤمِنُوا بِي الإِيمَانَ الصَّحِيحَ الوَاجِبَ عَلَيْهِم، بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ؛ رَغْبَةَ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى مَصَالِحِ دِينِهِم وَدُنْيَاهُم، وَيَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الرَّشَادِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ، فيَصْلُحُونَ وَيُصْلِحُونَ.
فَإِذَا سَأَلَكَ -أَيُّهَا النَّبِيُّ- عِبَادِي عَنْ قُرْبِي، وَإِجَابَتِي لِدُعَائِهِم؛ فَإِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُم، عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِم، سَامِعٌ لِدُعَائِهِم، لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى وُسَطَاءَ، وَلَا إِلَى رَفْعِ أَصْوَاتِهِم، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي مُخْلِصًا فِي دُعَائِهِ؛ فَلْيَنْقَادُوا لِي وَلِأَوَامِرِي، وَلْيَثْبُتُوا عَلَى إِيمَانِهِم؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ وَسِيلَةٍ لِإِجَابَتِهِمْ؛ لَعَلَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِذَلِكَ سَبِيلَ الرُّشْدِ فِي شُئونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
* مِنْ أَهَمِّ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ ﷺ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)): لِتَكُنِ اسْتِعَانَتُكَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، ((وَلَا تَعْجِزْ)).
إِذَنْ؛ مَعَنَا فِي الْفَاتِحَةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: لَا نَعْبُدُ إِلَّا أَنْتَ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: لَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ؛ فَمَدَارُ الدِّينِ عَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ، وَهُمَا: الْعِبَادَةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الْمُوصِلَةِ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ: الِاقْتِدَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ، مِنْ حَقِّهَا: أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ هُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْهِدَايَةِ؛ فَاتَّبِعْ -يَا رَسُولَ اللهِ- هُدَاهُمْ، وَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ.
* وَمِنْ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: عَزِيمَةُ النَّفْسِ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِن الضَّعِيفِ)).
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): يُرِيدُ بِالْقُوَّةِ هَاهُنَا: عَزِيمَةَ النَّفْسِ، وَقُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُصَرِّفَ الْجَسَدَ مَعَهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَيْسَ الْمُرَادُ -بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى- مَا يَتَعَلَّقُ بِقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَسَلَامَةِ الْجَسَدِ وَالصِّحَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يُخْفِقُ وَيَفْشَلُ فِيهِ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْقُوَّةَ وَالصِّحَّةَ، فَيُصَرِّفُهَا فِي ظُلْمِ النَّاسِ، وَفِعْلِ السَّيِّئَاتِ.
وَلَكِنْ ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): يُرِيدُ عَزِيمَةَ النَّفْسِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَتَحُثُّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَجْعَلُ الْإِنْسَانَ عَابِدًا لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يُرِيدُهُ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ.
* وَالْعِلْمُ أَحَدُ أَسْبَابِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ؛ فَهُوَ يُرْشِدُ مَنْ طَلَبَهُ إِلَى مَصَالِحِهِ، وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ، وَهُوَ نَتِيجَةُ الْعِلْمِ، وَحَامِلُ الْعِلْمِ.
* وَمِنْ وَسَائِلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الصِّدْقُ مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
هَذَا نَعْتُ رِجَالِ الدِّينِ؛ الصِّدْقُ الْكَامِلُ فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ؛ مِنَ الْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَإِنْهَاضِ أَهْلِهِ، وَنَصْرِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ؛ مِنْ مَقَالٍ، وَمَالٍ، وَبَدَنٍ، وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ.
وَمِنْ وَصْفِهِم: الثَّبَاتُ التَّامُّ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَالْمُضِيُّ فِي كُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَا نَصْرُ الدِّينِ، فَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِمَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْحَاثُّ لِإِخْوَانِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِكُلِّ مُسْتَطَاعٍ مِنْ شُؤُونِ الدِّينِ، وَالسَّاعِي بَيْنَهُمْ بِالنَّصِيحَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمِنْهُمُ الْمُنَشِّطُ بِقَوْلِهِ وَجَاهِهِ وَحَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْفَذُّ الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
فَهَؤُلَاءِ رِجَالُ الدِّينِ وَخِيَارُ الْمُسْلِمِينَ، بِهِمْ قَامَ الدِّينُ وَبِهِ قَامُوا، وَهُمُ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِي إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِ صَادٌّ، تَتَوَالَى عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ وَالْكَوَارِثُ، فَيَتَلَقَّوْنَهَا بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ، وَصُدُورٍ مُنْشَرِحَةٍ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، وَالْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
* مِنْ أَهَمِّ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: التَّحَلِّي بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ قَضَايَا الْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12].
وَهَبْنَا لِزَكَرِيَّا يَحْيَى، وَقُلْنَا لَهُ: خُذْ كِتَابَ التَّوْرَاةِ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ وَنَشْرِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ، وَسَدَادَ الرَّأْيِ، وَحُسْنَ الْفَهْمِ، وَالْبَصِيرَةَ، وَتَصْرِيفَ الْأَمْرِ، وَالْفَصْلَ بَيْنَ الْأَقْضِيَةِ وَالْخُصُومَاتِ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ.
* مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: النَّظَرُ فِي سِيَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؛ فَعَلَى كُلِّ مُشْتَغِلٍ بِالْعِلْمِ؛ مِنْ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ، وَدَاعٍ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَنْظُرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ السَّابِقِينَ؛ فَإِنَّمَا أُتِيَ الْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ جَهْلِهِمْ بِسِيَرِ سَلَفِهِمُ الْمُتَقَدِّمِينَ!!
وَعَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ أَلَّا يُعَوِّلُوا عَلَى الْمُعَاصِرِينَ؛ فَلَيْسُوا بِأَمْثِلَةٍ تُحْتَذَى، وَعَلَيْكُمْ بِأَنْ تَكُونُوا أَصْحَابَ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، فَانْظُرُوا إِلَى سَلَفِكُمُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتِكُمُ السَّالِفِينَ، وَقُصُّوا عَلَى أَثَرِهِمْ؛ حَتَّى تُفْلِحُوا وَتَنْجَحُوا بِإِذْنِ رَبِّكُمْ.
((هَذَا هُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -وَقَارِنْ بَيْنَ حَالِهِ وَحَالِ جُمْلَةٍ مِنَ الْمُتَصَدِّرِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ-، أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ طُلَّابِهِ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ، فَمَنَعَهُ!!
فَقَالَ: أَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تُقَبَّلَ يَدُ الْعَالِمِ؟!!
قَالَ: نَعَم؛ وَلَكِنْ هَلْ رَأَيْتَ عَالِمًا؟!! وَمَنَعَهُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-)).
فَهَذَا نَظَرُهُ إِلَى نَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِالَّذِينَ يَبْسُطُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِتُلْعَقَ؟!!
وَعَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ أَلَّا يَفْعَلُوا ذَلِك، وَلِمَ يَفْعَلُونَ؟!! وَأَيُّ جَدْوَى مِنْ وَرَائِهِ؟!! إِنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ عَلَى مَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذَلَّةٌ لِمَنْ فَعَلَهُ؛ فَدَعُونَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَتَأَمَّلُوا فِي حَالِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ!
هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-؛ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((بَلَغَنِي يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَنَّكَ مِنَ الْعَرَبِ)).
فَقَالَ: ((نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ)).
فَقَالَ: ((وَلَكِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ مِنَ الْعَرَبِ)).
قَالَ: ((نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ)).
فَمَا زَالَ يُدَافِعُهُ حَتَّى خَرَجَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، وَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ صَلِيبَةً -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
يَأْتِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الشَّمَالِ، فَيْنُظُرُ فِي وَجْهِهِ وَيَقُولُ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ نِيَّةٍ فِي سَفَرِي هَذَا عَلَى طُولِهِ إِلَّا أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِكَ، ثُمَّ أَعُودَ، وَأَنَا الْآنَ أَعُودُ، وَأُبَشِّرُكَ.. إِنَّا كُنَّا إِذَا حَاصَرْنَا قَوْمًا فَاسْتَعْصَى عَلَيْنَا الْحِصْنُ، وَكَانَ الْعِلْجُ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِ الْحِصْنِ؛ ضَرَبْنَا بِالْمِنْجَنِيقِ الْحَجَرَ، نَقُولُ: هَذِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ حَتَّى يُطَاحَ بِرَأْسِهِ!!)).
فَبَكَى أَحْمَدُ، وَقَالَ: ((لِمَ هَذَا؟!! وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ هَذَا؟!!)).
لَا يَرَى نَفْسَهُ شَيْئًا!!
وَهَذَا هُوَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؛ لِأَنِّي تَبَسَّمْتُ؛ إِذْ تُحَرِّكُ رَأْسَكَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً -وَالرَّجُلُ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ تَبَسُّمَهُ-، فَقَالَ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، لَا أَلْقَى اللهَ وَهِيَ فِي صَحِيفَتِي!!)).
أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!
تَأَمَّلْ كَثِيرًا فِي سِيَرِ سَلَفِكَ الصَّالِحِينَ؛ حَتَّى تَعْرِفَ الرِّجَالَ بِحَقٍّ، وَحَتَّى تَعْرِفَ مَثَلَكَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ زَمَانِكَ؛ فَلَنْ تَجِدَ فِيهِمْ وَاحِدًا -مَهْمَا بَلَغَ- يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ قُدْوَةً، قُدْوَتُكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قُدْوَتُكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ؛ فَلْتَكُنْ هِمَّتُكَ عَالِيَةً، أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِكَ؛ مَنْ يَكُونُ؟!!
مَا حِفْظُهُ؟!!
وَمَا فَهْمُهُ؟!!
وَمَا عِبَادَتُهُ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ مِثْلَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ؟!! كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَالذَّهَبِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَتِلْكَ الْكَوْكَبَةِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ؟!!
ثُمَّ تَقَدَّمْ قَلِيلًا، فَتَأَمَّلْ فِي الْأَئِمَّةِ وَحَالِهِمْ؛ لِمَ لَا تَكُونُ كَالشَّافِعِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَأَحْمَدَ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَمَالِكٍ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَالْأَوْزَاعِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَأَحَدِ السُّفْيَانَيْنِ؟!!
ثُمَّ تَقَدَّمْ قَلِيلًا حَتَّى تَصِلَ إِلَى أَصْحَابِ نَبِيِّكَ، ثُمَّ تَقَدَّمْ حَتَّى تَصِلَ إِلَى نَبِيِّكَ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
لِتَكُنْ هِمَّتُكَ عَالِيَةً؛ كَالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُزَحْزِحَنِي عَنِ النَّارِ)).
هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْفَوْزِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 85]، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُزَحْزِحْكَ؛ مَاذَا يَكُونُ الْعَمَلُ؟!!
يَا أَخِي! إِذَا دَعَوْتَ فَقُلْ: أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَكَ؛ أَدْخَلَكَ جَنَّةَ عَدْنٍ، أَوْ جَنَّةَ الْخُلْدِ، أَوْ جَنَّةَ الْمَأْوَى، أَمَّا ((زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ!!)) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكَ وَلَمْ يُزَحْزِحْكَ؛ دَخَلْتَ النَّارَ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّتْرَ-.
((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ؛ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى))، لِيَكُنْ لِسَانُكَ دَائِمًا رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ، لَا تُضَيِّعْ عُمُرَكَ؛ وَلَا ثَانِيَةً.
عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ لَا يُضَيِّعُ مِنْ عُمُرِهِ وَلَا ثَانِيَةً، لَقِيَهُ رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ: ((قِفْ حَتَّى أُكَلِّمَكَ!)).
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: ((أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً)).
قَالَ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ))؛ يَعْنِي: اجْعَلْ هَذَا الزَّمَانَ لَيْسَ مِنْ عُمُرِي، أَمْسِكِ الشَّمْسَ وَأَنَا أُكَلِّمُكَ!!
لِأَنَّا نُكَلِّمُ بَعْضَنَا فِي أَيِّ شَيْءٍ!! كَلَامُنَا لَغْوٌ، لَوْ مَرَّ لَا لَنَا وَلَا عَلَيْنَا؛ لَكَانَ ضَيَاعًا لِرَأْسِ الْمَالِ؛ فَكَيْفَ وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَمُرُّ إِلَّا عَلَيْكَ؟!!
وَتَأَمَّلْ أَيَّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِكَ مَعَ أَخْلَصِ خُلَصَائِكَ مِنْ إِخْوَانِكَ؛ أَتُذَكِّرُهُ بِاللهِ وَيُذَكِّرُكَ؟!!
أَتَأْخُذَانِ فِي مُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ؟!!
هُوَ كَلَامٌ!! غِيبَةٌ، أَوْ وُقُوعٌ فِي الْأَعْرَاضِ!! كَلَامٌ فِيمَا لَا يُجْدِي وَلَا يَنْفَعُ!!
تَأَمَّلْ فِي حَالِكَ، وَتُبْ إِلَى رَبِّكَ.
هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَئِمَّةُ؛ فَاقْتَدُوا بِهِمْ، وَدَعُوكُمْ مِنْ قَوَاطِي الصَّلْصَةِ!! فَقَدْ أَضَلُّوا الْعِبَادَ، وَأَفْسَدُوا الْبِلَادَ!!
وَأَنَّا أَوَّلُكُمْ أَقْتَدِي بِأُولَئِكَ، نَحْنُ جَمِيعًا طُلَّابُ عِلْمٍ، وَأَنَا طُوَيْلِبُ عِلْمٍ، لَمْ أَرْقَ بَعْدُ أَنْ أَكُونَ طَالِبَهُ، وَإِنَّمَا أَنَا طُوَيْلِبُ عِلْمٍ، أَقْتَدِي بِسَلَفِي الصَّالِحِينَ، وَأَجْتَهِدُ فِي الْقَصِّ عَلَى آثَارِهِمْ؛ فِي حَيَاتِهِمْ، فِي مَطْعَمِهِمْ، فِي مَشْرَبِهِمْ، فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ، فِي سُلُوكِيَّاتِهِمْ.
دَعُونَا مِنْ هَذَا الْوَغَشِ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْنَا الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَعُودُوا إِلَى الْحَقِّ تُفْلِحُوا.
* مِنَ السُّبُلِ الْعَظِيمَةِ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ: تَذَكُّرُ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا؛ فَالنَّاسُ لَوْ عَرَفُوا الْجَنَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ مَا نَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةً؛ لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا مُشْتَاقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((وَاهًا لَكِ يَا رِيحَ الْجَنَّةِ!))، ((إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ))، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْكَسْرَةُ كَانَتْ حَاضِرَةً، فَلَمَّا جَاءَهُ رُمْحٌ غَادِرٌ، فَانْتَظَمَ حَبَّةَ قَلْبِهِ، فَانْفَجَرَتِ الدِّمَاءُ مِنْ أَمَامَ كَالنَّافُورَةِ؛ كَانَ يَحْفِنُهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!))؛ لِأَنَّهَا انْتِقَالَةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ؛ مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنِعْمَ الْقَرَارُ، لَا مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
لَوْ عَرَفَ النَّاسُ النَّارَ؛ مَا رَقَأَ لَهُمْ جَفْنٌ مِنْ دَمْعٍ، وَمَا اسْتَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنْبٌ عَلَى فِرَاشٍ!!
كَانَ السَّلَفُ إِذَا بَلَغَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الْبَيْتِ فِرَاشٌ، وَإِنَّمَا يَنَامُ نَوْمَ الْغَلَبَةِ، وَنَوْمُ الصَّالِحِينَ غَلَبَةٌ.
لَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ -طَلَبِ الْعِلْمِ- يَنَامُ قَاعِدًا!!
ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ لَمْ يَضَعْ جَنْبًا عَلَى فِرَاشٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَامُ قَاعِدًا مِنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ لِلْعِلْمِ، وَمَاتَ شَابًّا -كَمَا تَعْلَمُونَ-، وَخَلَّفَ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ سِنِّهِ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا مَا زَالُوا يَلْعَبُونَ فِي التُّرَابِ فِي الشَّوَارِعِ!! هِمَمُهُمْ دَانِيَةٌ؛ بَلْ هِمَمُهُمْ مَيِّتَةٌ، وَلَا شَغَفَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَلَذَّاتِ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَارِ، وَالْوُقُوعِ فِيمَا يُغْضِبُ الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ، وَإِنَّمَا أُتِيَ الْقَوْمُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِسِيرَةِ السَّلَفِ.
* وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ لِلتَّحَلِّي بِالْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَالنُّفُوسِ السَّامِيَةِ: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ الْمُعِينَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبِرِّ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ -وَغَيْرُهُ أُسْوَتُهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي- أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُبَّادِ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؛ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.
فَوَصَفَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا.
فَأَمَرَ اللهُ بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى صُحْبَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ؛ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ؛ فَإِنَّ فِي صُحْبَتِهِمْ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
وَاحْبِسْ -يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ- نَفْسَكَ، صَابِرًا عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، مُصَاحِبًا وَمُلَازِمًا الَّذِينَ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ {بِالْغَدَاةِ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ {وَالْعَشِيِّ}: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَجْهَ اللهِ، لَا يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا.
* مِنْ سُبُلِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: اسْتِشْعَارُ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَتَحَمُّلُ الْأَمَانَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
* مِنَ السُّبُلِ الْمُهِمَّةِ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ: تَرْبِيَةُ النَّشْءِ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ:
مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْإِسْلَامِ: الْبُلُوغُ مَعَ الرُّشْدِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ وَلَكِنْ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يُرَاعُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي صِغَرِهِمْ، وَيُرَبُّوهُمْ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَنْشَئُوا عَلَى حُبِّهَا، وَيُدَاوِمُوا عَلَيْهَا.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ».
وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَقُومُونَ بِتَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ عَلَى الْأَدَبِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَقَدْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبِيبَهُ فِي حَجْرِهِ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ رَآهُ تَطِيشُ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ أَثْنَاءَ الأَكْلِ -وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ -مُعَلِّمًا، وَمُهَذِّبًا، وَمُؤَدِّبًا-: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).
وَيَبْقَى أَثَرُ هَذَا التَّأْدِيبِ فِي نَفْسِ الْغُلَامِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، اسْتَمِعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ بَعْدُ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
أَيْ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ هَيْئَةَ أَكْلَتِي بَعْدُ، عَلَى حَسَبِ مَا عَلَّمَهُ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنَّا نُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ -أَيْ: مِنَ الصُّوفِ-، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ؛ أَعْطَيْنَاهُ ذَلِكَ -تَعْنِي: اللُّعْبَةَ-؛ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)).
فَهَكَذَا تَرْبِيَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ رَبَّى الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَبْنَاءَهُمْ، فَخَرَجَتْ أَجْيَالٌ مُسْلِمَةٌ تَنْشُرُ الْخَيْرَ فِي رُبُوعِ الْأَرْضِ، وَعَاشَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلِلْإِسْلَامِ.
((أَسْبَابُ دُنُوِّ الْهِمَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! فَكَمَا أَنَّ لِعُلُوِّ الْهِمَّةِ أَسْبَابًا تُلْتَمَسُ وَسُبُلًا تُرْتَقَى؛ فَلِدُنُوِّ الْهِمَّةِ طَرَائِقُ تُحْذَرُ وَوَسَائِلُ تُجْتَنَبُ، وَمِنْ أَسْبَابِ دُنُوِّ الْهِمَّةِ وَانْحِطَاطِهَا:
* الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ؛ ((فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَكَانَ يَقُولُ ﷺ فِي دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)).
فَاسْتَعَاذَ ﷺ بِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ؛ كُلُّ شَيْئَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ: فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ، وَهُمَا الْأَلَمُ الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فَهُوَ الْحَزَنُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ الْهَمُّ، فَالْأَلَمُ الْوَارِدُ إِنْ كَانَ مَصْدَرُهُ فَوْتَ الْمَاضِي؛ أَثَّرَ الْحَزَنَ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرُهُ خَوْفَ الْآتِي أَثَّرَ الْهَمَّ.
وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ، فَإِنْ تَخَلَّفَتْ عَنِ الْعَبْدِ مَصْلَحَتُهُ وَبَعُدَتْ عَنْهُ؛ إِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ عَجْزٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ فَهُوَ كَسَلٌ.
وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ يُفْرِحُ الْقَلْبَ، وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيَجْلِبُ النِّعَمَ، وَيَدْفَعُ النِّقَمَ، وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ يُوجِبُ الْغَمَّ وَالضِّيقَ، وَيَمْنَعُ وُصُولَ النِّعَمِ إِلَيْهِ، فَالْجُبْنُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْبَدَنِ، وَالْبُخْلُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ بِالْمَالِ.
وَضَلَعُ الدَّيْنِ وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ؛ فَإِنَّ الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْعَبْدِ؛ إِمَّا مِنْهُ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِمَّا بِحَقٍّ وَإِمَّا بِبَاطِلٍ مِنْ غَيْرِهِ.
فَضَلَعُ الدَّيْنِ غَلَبَةٌ سَبَبُهَا مِنْهُ، وَهِيَ غَلَبَةٌ بِحَقٍّ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ قَهْرٌ بِبَاطِلٍ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ الْحَزَنَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَزَنَ يُضْعِفُ الْقَلْبَ، وَيُوهِنُ الْعَزْمَ، وَيُغَيِّرُ الْإِرَادَةَ، فَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الشَّيْطَانِ مِنْ حُزْنِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10])).
فَالْحَزَنُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ، يَمْنَعُهُ مِنْ نُهُوضِهِ وَسَيْرِهِ وَتَشْمِيرِهِ.
إِنَّ الْحُزْنَ نَقِيضُ الْفَرَحِ وَخِلَافُ السُّرُورِ، وَهُوَ غَمٌّ يَلْحَقُ؛ مِنْ فَوَاتِ نَافِعٍ أَوْ حُصُولِ ضَارٍّ، وَهُوَ الْغَمُّ الْحَاصِلُ لِوُقُوعِ مَكْرُوهٍ أَوْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ، وَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الطَّرِيقِ، لَا مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَا مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ.
فَلَيْسَ الْحَزَنُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا هُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَارِضٌ يَعْرِضُ فِي الطَّرِيقِ، وَنَاشِبٌ يَنْشِبُ أَظْفَارَهُ وَأَنْيَابَهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَكْبَادِ.
* وَمِنْ أَسْبَابِ دُنُوِّ الْهِمَّةِ: حُبُّ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا تَشَتَّتَتْ إِرَادَتُهُ، وَتَوَزَّعَتْ هِمَّتُهُ، وَضَعُفَتْ نِيَّتُهُ، وَشُغِلَ بِهَذَا وَهَذَا، وَتِلْكَ وَتِلْكَ، وَمَا هُنَالِكَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا؛ فَأَيْنَ يَجِدُ قُوَّةً عَلَى سَيْرِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَأَوْبَتِهِ إِلَى خَالِقِهِ، عَابِدًا عُبُودِيَّةَ الْأَبْرَارِ، مُخْبِتًا إِخْبَاتَ الْمُنِيبِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا طَرِيقَ الْأَشْرَارِ وَالْفُجَّارِ، فَسَلَّمَهُمُ اللهُ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ -جَلَّ وَعَلَا- بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَنِعْمَتِهِ؟!!
فَأَكْبَرُ شَيْءٍ يُزَاوِلُهُ الْقَلْبُ بَدْءًا أَنْ يَتَشَتَّتَ مُتَفَرِّقًا، وَأَنْ يَتَنَاثَرَ مُتَبَعْثِرًا، فَمَهْمَا حَاوَلَ أَنْ يُجْمِعَ عَلَى رَبِّهِ أَبَى، وَإِنَّمَا هُوَ هَائِمٌ بِكُلِّ سَبِيلٍ، طَائِرٌ فِي كُلِّ وَادٍ، فَلَا يُحَصِّلُ خَيْرًا، وَلَا يَقَعُ عَلَى مَعْرُوفٍ!!
* وَمِنْ أَسْبَابِ دُنُوِّ الْهِمَّةِ وَانْحِطَاطِهَا: الْغَفْلَةُ عَنِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالتَّعَلُّقُ الْمُحَرَّمُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ عُقُوبَتِهِ الْبَلِيغَةِ بِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، فَقَالَ: {وَمَن يَعْشُ}؛ أَيْ: يُعْرِضْ وَيَصُدَّ.
{عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ، فَمَنْ قَبِلَهَا؛ فَقَدْ قَبِلَ خَيْرَ الْمَوَاهِبِ، وَفَازَ بِأَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَالرَّغَائِبِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَرَدَّهَا؛ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ خَسَارَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَقَيَّضَ لَهُ الرَّحْمَنُ شَيْطَانًا مَرِيدًا يُقَارِنُهُ وَيُصَاحِبُهُ، وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيَؤُزُّهُ إِلَى الْمَعَاصِي أَزًّا))، وَمِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ: أَنْ جَعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ)).
وَ«مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللهِ؛ عَذَّبَهُ اللهُ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الَّذِي أَحَبَّهُ مَعَ اللهِ.
فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفَ بَالًا، وَلَا أَنْكَدَ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبَ قَلْبًا.
فَهُمَا مَحَبَّتَانِ؛ مَحَبَّةٌ هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَنَعِيمُ الرُّوحِ وَغِذَاؤُهَا، وَدَوَاؤُهَا؛ بَلْ حَيَاتُهَا، وَقُرَّةُ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَحَبَّةُ اللهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ كُلِّهَا إِلَيْهِ.
وَمَحَبَّةٌ هِيَ عَذَابُ الرُّوحِ، وَغَمُّ النَّفْسِ، وَهِيَ سِجْنُ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنَّكَدِ وَالْعَنَاءِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ مَا سِوَى اللهِ -سُبْحَانَهُ-)).
* وَمِنْ أَسْبَابِ مَوْتِ الْهِمَّةِ: الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُلَازِمٌ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَهُوَ النَّافِعُ، وَبِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ، وَيُخْشَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ خُلُقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ حَتَّى يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَجَارَى بِهِ الرَّجَاءُ حَتَّى يَأْمَنَ مَكْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ، فَمَتَى بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا؛ فَقَدْ ضَيَّعَ وَاجِبَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ.
وَلِلْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ سَبَبَانِ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْرِفَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى الْمَحَارِمِ، فَيُصِرَّ عَلَيْهَا، وَيُصَمِّمَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ الرَّحْمَةَ.
فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ هَذَا وَصْفًا وَخُلُقًا لَازِمًا، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؛ لَمْ يُرْجَ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِقْلَاعٍ قَوِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْوَى خَوْفُ الْعَبْدِ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَيَضْعُفَ عِلْمُهُ بِمَا لِلهِ مِنْ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ؛ وَلَوْ تَابَ وَأَنَابَ!! وَتَضْعُفَ إِرَادَتُهُ؛ فَيَيْأَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحَاذِيرِ الضَّارَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَعْفِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ، وَعَجْزِهَا وَمَهَانَتِهَا.
فَلَوْ عَرَفَ هَذَا رَبَّهُ، وَلَمْ يَخْلُدْ إِلَى الْكَسَلِ؛ لَعَلِمَ أَنَّ أَدْنَى سَعْيٍ يُوصِلُهُ إِلَى رَبِّهِ، وَإِلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِ الْإِثْمِ)).
* وَمِنْ أَسْبَابِ دُنُوِّ الْهِمَّةِ: الْمَعَاصِي، فَـ((الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَ، وَمِنْ عُقُوبَتِهَا: أَنَّهَا تُضْعِفُ سَيْرَ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، أَوْ تُعَوِّقُهُ، أَوْ تُوقِفُهُ وَتَقْطَعُهُ عَنِ السَّيْرِ؛ فَلَا تَدَعُهُ يَخْطُو إِلَى اللهِ خُطْوَةً، هَذَا إِنْ لَمْ تَرُدَّهُ عَنْ وِجْهَتِهِ إِلَى وَرَائِهِ، فَالذَّنْبُ يَحْجِبُ الْوَاصِلَ، وَيَقْطَعُ السَّائِرَ، وَيُنَكِّسُ الطَّالِبَ، وَالْقَلْبُ إِنَّمَا يَسِيرُ إِلَى اللهِ بِقُوَّتِهِ، فَإِذَا مَرِضَ بِالذُّنُوبِ؛ ضَعُفَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي تُسَيِّرُهُ، فَإِنْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ انْقَطَعَ عَنِ اللهِ انْقِطَاعًا يَبْعُدُ تَدَارُكُهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَالذَّنْبُ إِمَّا يُمِيتُ الْقَلْبَ، أَوْ يُمْرِضُهُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ يُضْعِفُ قُوَّتَهُ وَلَا بُدَّ!!)).
* وَمِنْ أَسْبَابِ مَوْتِ الْهِمَّةِ: التَّأَثُّرُ بِالْمُخَذِّلِينَ؛ فَالْجُبَنَاءُ الْمُرْجِفُونَ لَا تَرَى مِنْهُمْ إِعَانَةً قَوْلِيَّةً وَلَا فِعْلِيَّةً وَلَا جِدِّيَّةً، قَدْ مَلَكَهُمُ الْبُخْلُ وَالْجُبْنُ وَالْيَأْسُ، وَفِيهِمُ السَّاعِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَاتِ وَالْفِتَنِ وَالتَّفْرِيقِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ الْمُحَارِبِ؛ بَلْ هُمْ سِلَاحُ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ -تَعَالَى- فِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]؛ أَيْ: يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ؛ تَغْرِيرًا أَوِ اغْتِرَارًا.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُمْ خَطِيرٌ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي اضْطُرَّ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِكُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ، وَإِلَى مَنْ يُعِينُهُمْ وَيُنَشِّطُهُمْ!!
فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيُخَدِّرُونَ أَعْصَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي أَسْبَابِ الرُّقِيِّ، وَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يُجْدِي نَفْعًا!!
فَهَؤُلَاءِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لَا دِينَ صَحِيحَ، وَلَا شَهَامَةَ دِينِيَّةً، وَلَا قَوْمِيَّةً، وَلَا وَطَنِيَّةً، لَا دِينَ صَحِيحَ، وَلَا عَقْلَ رَجِيحَ؛ فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِلَّا وُسْعَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ.
* وَمِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْهِمَّةِ: الصُّحْبَةُ الْفَاسِدَةُ؛ ((فَإِنَّ كَثْرَةَ الْخُلْطَةِ تُورِثُ الْقَلْبَ امْتِلَاءً مِنْ دُخَانِ أَنْفَاسِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَيُوجِبَ لَهُ تَشَتُّتًا وَتَفَرُّقًا، وَهَمًّا وَغَمًّا، وَضَعْفًا، وَحَمْلًا لِمَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ؛ مِنْ مَئُونَةِ قُرَنَاءِ السُّوءِ، مَعَ إِضَاعَةِ مَصَالِحِهِ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِهِمْ وَبِأُمُورِهِمْ، وَتَقْسِيمِ فِكْرِهِ فِي أَوْدِيَةِ مَطَالِبِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ؛ فَمَاذَا يَبْقَى مِنْهُ لِلَّهِ وَلِلدَّارِ الْآخِرَةِ؟!!
هَذَا؛ وَكَمْ جَلَبَتْ خُلْطَةُ النَّاسِ مِنْ نِقْمَةٍ، وَدَفَعَتْ مِنْ نِعْمَةٍ، وَأَنْزَلَتْ مِنْ مِحْنَةٍ، وَعَطَّلَتْ مِنْ مِنْحَةٍ، وَأَحَلَّتْ مِنْ رَزِيَّةٍ، وَأَوْقَعَتْ فِي بَلِيَّةٍ؟!! وَهَلْ آفَةُ النَّاسِ إِلَّا النَّاسُ؟!!
وَهَلْ كَانَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْوَفَاةِ أَضَرَّ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ؟!!
لَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ لَهُ سَعَادَةَ الْأَبَدِ، وَالنَّبِيُّ عِنْدَ رَأْسِهِ يَقُولُ: ((يَا عَمَّاهُ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.. هِيَ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)).
فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانُ الْإِنْسِ: أَتَدَعُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ؟!!
فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: أَنَّهُ عَلَى دِينِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَدَخَلَ النَّارَ.
فَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِكَ، وَأَقْلِلْ مِنَ الْمُخَالَطَةِ عَلَى قَدْرِ وُسْعِكَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَقٌّ تُؤَدِّيهِ؛ مِنْ رَحِمٍ تَصِلُهُ، أَوْ بِرٍّ تَذْهَبُ بِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْزَمْ قَعْرَ بَيْتِكَ، وَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكَ، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ نَبِيُّكَ ﷺ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ عَامَّتِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَضَرِّ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرٍ عَلَيْكَ-)).
((مَظَاهِرُ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ))
إِنَّ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ كُلَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ؛ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.
وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى.. بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَم يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وَأُمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ تَنُوشُهَا الرِّيَاحُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَتَتَجَمَّعُ عَلَيْهَا الْأَكَلَةُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)).
قَالُوا: أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((لَا، أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ الْهَيْبَةَ مِنْكُمْ مِنْ صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)).
وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ، وِالِالْتِصَاقُ بِالْأَرْضِ، وَضَعْفُ الْهِمَمِ؛ بَلْ مَوْتُهَا، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ دُونَ مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ الْعُلْيَا، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحْرِصُونَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلَكِنْ {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
إِنَّمَا هُوَ التَّمْحِيصُ، وَمَنْ لَمْ يُثَبِّتْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ هَلَكَ وَضَاعَ، وَسَيْأَتِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، سَيَسْتَبْدِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَقْوَامًا حَادُوا عَنْ دِينِهِ، وَغَيَّرُوا مَنْهَجَهُ، وَتَلَاعَبُوا بِشَرِيعَتِهِ، سَيَسْتَبْدِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَيَدْعُو إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ.
إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَنَقُولُ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَع؛ وَلَكِنَّهَا تُنَادِي أَبْنَاءَهَا أَنْ يَفِيئُوا إِلَى ظِلِّهَا، وَأَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا؛ لِيَحْمُوهَا مِنْ أَعْدَائِهَا.
إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، إِلَّا تَكُنْ بِكُمْ تَكُنْ بِغَيْرِكُمْ، ثُمَّ لَا تُحَصِّلُونَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا.
دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَا؛ كَانَ بِغَيْرِنَا، وَيَخْسَرُ مَنْ يَخْسَرُ فِي ذَلِكَ؛ فَسَارِعُوا إِلَى نُصْرَةِ دِينِ رَبِّكُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِدِينِهِ، وَمِنْهَاجِ نُبُوَّةِ نَبِيِّكُمْ ﷺ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ)).
رَجُلٌ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَلَا يَرْضَى بِالدُّونِ، فَهُوَ يَقُولُ: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ مِنَ الْمَنَازِلِ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا، وَأَنَا الْآنَ قَدْ آتَانِيَ اللهُ الْخِلَافَةَ، وَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا فِي الدُّنْيَا، فَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى الْآخِرَةِ))؛ فَانْخَلَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَانْسَلَخَ مِنْهَا، مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ -رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-.
((مِنْ مَظَاهِرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْحَيَاةِ:
عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَيَادِينِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: مَيْدَانَ الْعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ؛ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9]، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ؛ بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).
قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ؛ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا)).
وَبَيَّنَ لَنَا ﷺ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ مَالٍ)).
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ طَلَبِ الْعِلْمِ: عُلُوَّ الْهِمَّةِ؛ فَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنْ طَرَائِقِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ؛ مَهْمَا امْتَدَّ بِهِ الْعُمُرُ، فَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ؛ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ، وَمَهْمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ، وَقَانُونُ الْعُلَمَاءِ فِي الطَّلَبِ هُوَ: ((مَعَ الْمَحْبَرَةِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ))، وَ((الْعِلْمُ مِنَ الْمَهْدِ إِلَى اللَّحْدِ)).
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ)).
وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟)).
قَالَ: ((حَتَّى الْمَمَاتِ -إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى-)).
وَقِيلَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: ((لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَنْفَعُنِي لَمْ أَكْتُبْهَا بَعْدُ)).
وَقَالَ الْمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ لِلْمَأْمُونِ: ((أَيَحْسُنُ بِالشَّيْخِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟)).
فَقَالَ: ((إِذَا كَانَ الْجَهْلُ يَعِيبُهُ؛ فَالتَّعَلُّمُ يَحْسُنُ بِهِ)).
وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْإِجَابَةِ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟
قَالَ: ((حَتَّى الْمَمَاتِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَنْفَعُنِي لَمْ أَكْتُبْهَا بَعْدُ))؛ هَذَا يُفَسَّرُ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَقَعُ فِي هَامِشِ الشُّعُورِ، وَلَا تَقَعُ فِي بُؤْرَةِ الشُّعُورِ، وَيَسْمَعُهَا الْإِنْسَانُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِهَا؛ بَلْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْهَمَهَا، فَإِذَا قَدَّرَ اللهُ -تَعَالَى- أَنْ تُزَحْزَحَ مِنْ هَامِشِ الشُّعُورِ حَتَّى تَقَعَ فِي بُؤْرَةِ الشُّعُورِ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَسْتَفِيدُ مِنْهَا، وَيَنْتَفِعُ بِهَا، وَكَأَنَّهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ يَسْمَعُهَا.
وَقَدْ ضَرَبْتُ عَلَى ذَلِكَ مِثَالًا بِمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ؛ كَانَ عُمَرُ ثَائِرًا، يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ مَاتَ؛ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مُحَمَّدٌ ﷺ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، وَلَيَعُودَنَّ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَ أَقْوَامٍ وَأَرْجُلَهُمْ.. زَعَمُوا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ)).
فَظَلَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ أَبُو بَكْرٍ -وَكَانَ غَائِبًا-، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ؛ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ ﷺ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَاكِيًا، وَقَالَ: ((بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، فَلَنْ تَذُوقَ الْمَوْتَ بَعْدَهَا أَبَدًا))، ثُمَّ سَجَّى وَجْهَ النَّبِيِّ ﷺ وَخَرَجَ.
فَقَالَ: ((إِلَيْكَ يَا عُمَرُ عَنِّي))، وَهُوَ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ، يُرِيدُ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ ثَائِرَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَأَقْبَلَ هُوَ مُتَكَلِّمًا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144])).
قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهُنَا مَوْطِنُ الشَّاهِدِ-: ((فَكَأَنِّي وَاللهِ لَمْ أَسْمَعْهَا إِلَّا حِينَ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَاتَ)).
فَالْآيَةُ مَرَّتْ عَلَيْهِ قَبْلُ، وَكَانَ لَهَا حَامِلًا؛ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ إِلَّا حِينَ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَنْفَعُنِي لَمْ أَكْتُبْهَا بَعْدُ))؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا أَفَادَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكَلِمَةٍ يَسْمَعُهَا؛ أَحْدَثَتْ فِي قَلْبِهِ خَشْيَةً وَإِنَابَةً، أَوْ فِي حَيَاتِهِ تَوْبَةً وَرُجُوعًا وَمَثُوبَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ قَبْلُ يَسْمَعُهَا كَثِيرًا فَلَا تُفِيدُهُ شَيْئًا.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ عُمُرَهُ، وَأَلَّا يَتَوَانَى فِي الطَّلَبِ؛ عَسَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُهَيِّئَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ رَشَدًا.
وَلَمْ يَمْنَعْ عُلُوُّ الرُّتْبَةِ وَلَا ارْتِفَاعُ الْمَقَامِ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَلَا مَنَعَهُ سِنُّهُ أَنْ يَخْرُجَ لِلِقَاءِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ لَمَّا أَخْبَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ يَعْلَمُهُ، وَفِي ((الصَّحِيحِ)): ((بَابٌ: مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى ﷺ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66])).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهَ تَمَارَى -أَيْ: تَجَادَلَ- هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((هُوَ خَضِرٌ))، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: ((إِنِّي تَمَارَيْتُ وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟
قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى؛ بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ؛ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ.
وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ؛ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ)).
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: ((بَابٌ: مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ))؛ هَذَا الْبَابُ مَعْقُودٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَا يُغْتَبَطُ بِهِ.. تُحْتَمَلُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ، وَلِأَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَمْنَعْهُ بُلُوغُهُ مِنَ السِّيَادَةِ الْمَحَلَّ الْأَعْلَى مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَرُكُوبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِأَجْلِهِ -أَيْ: لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ-، وَفِي الْحَدِيثِ: لُزُومُ التَّوَاضُعِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ وَلِهَذَا حَرَصَ مُوسَى عَلَى الِالْتِقَاءِ بِالْخَضِرِ (سلم2)، وَطَلَبِ التَّعَلُّمِ مِنْهُ؛ تَعْلِيمًا لِقَوْمِهِ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِأَدَبِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ أَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكَ التَّوَاضُعِ)).
وَيَجْمَعُ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ هُنَا: قَوْلُ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ))، وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- دَالٌّ عَلَى تَمَامِ فِقْهِهِ، وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِ؛ فَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ؛ لِكِبَرِ السِّنِّ؛ إِذْ مَا مَنَعَ ذَلِكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يَكُونُوا فِي الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ.
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَا أَسْلَمُوا إِلَّا وَهُمْ كِبَارٌ؛ وَلَكِنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَنْهَلُونَ مِنْ بِحَارِ عِلْمِهِ؛ حَتَّى أَوْفَوْا عَلَى الْغَايَةِ، وَبَلَغُوا الْمُنْتَهَى -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
أَخْرَجَ أَبُو خَيْثَمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانُوا كَالْإِخَاذِ يَرْوِي الرَّاكِبَ، وَالْإِخَاذِ يَرْوِي الرَّاكِبَيْنِ، وَالْإِخَاذِ يَرْوِي الْعَشَرَةَ، وَالْإِخَاذِ لَوْ نَزَلَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ لَأَصْدَرَهُمْ، وَإِنَّ عَبْدَ اللهِ مِنْ تِلْكَ الْإِخَاذِ)).
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((الْإِخَاذُ -بِوَزْنِ كِتَابٍ-: مَجْتَمَعُ الْمَاءِ، وَالسَّنَدُ صَحِيحٌ، وَعَبْدُ اللهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).
وَأَخْرَجَ أَبُو خَيْثَمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَوْ أَنَّ عِلْمَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وُضِعَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ؛ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ)).
وَهُوَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: ((إِنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ قَدْ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ)).
مَعَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَسْلَمَ كَبِيرًا؛ وَلَكِنَّهُ فَتَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ سُبُلَ التَّلَقِّي، وَلَزِمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَخْلَصَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ، وَصَبَرَ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَآتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ.
وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَحَلَّى بِالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ؛ فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قال: ((مَا أَوَى شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَزْيَنَ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ)).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ عَالِمٍ حَلِيمٍ، إِذَا تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ، وَإِذَا سَكَتَ سَكَتَ بِحِلْمٍ، يَقُولُ الشَّيْطَانُ: انْظُرُوا إِلَيْهِ!! كَلَامُهُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ سُكُوتِهِ)).
وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ؛ بَقِيَ عُمُرَهُ فِي عَمَايَةِ الْجَهْلِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ؛ آلَ عُمُرُهُ إِلَى عِزِّ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا)).
وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((ذَلَلْتُ طَالِبًا؛ فَعَزَزْتُ مَطْلُوبًا)).
وَأَخْرَجَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أَشُكُّ فِي ثِنْتَيْنِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا أَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا أَسْأَلُهُ فِيهِ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا وَصَحِبْتُهُ، حَتَّى كُنَّا بِـ (مَرِّ الظَّهْرَانِ)؛ ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ: ((أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ))، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَرَجَعَ؛ أَتَيْتُهُ بِالْإِدَاوَةِ أَصُبُّهَا عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُ مَوْضِعًا -أَيْ: فَرَأَيْتُ مَوْضِعًا وَمُنَاسَبَةً لِلسُّؤَالِ-، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَنِ الْمَرْأَتَانِ الْمُتَظَاهِرَتَانِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَمَا قَضَيْتُ كَلَامِي -يَعْنِي: فَمَا انْتَهَيْتُ مِنْ سُؤَالِي- حَتَّى قَالَ: ((عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ)))).
وَالْمُتَظَاهِرَتَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي قَوْلِهِ: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
فَبَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَلَى هَذَا الْحِلْمِ مُقِيمًا سَنَةً كَامِلَةً: ((مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أَشُكُّ فِي ثِنْتَيْنِ))، حَتَّى وَجَدَ فُرْصَةً لِلسُّؤَالِ، فَسَأَلَ، فَعُلِّمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: ((لَمْ يَمْنَعِ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ سُؤَالِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ إِلَّا هَيْبَتُهُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ))، وَهُوَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((مَكَثْتُ سَنَتَيْنِ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ حَدِيثٍ مَا مَنَعَنِي مِنْهُ إِلَّا هَيْبَتُهُ، حَتَّى تَخَلَّفَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فِي الْأَرَاكِ الَّذِي بِبَطْنِ (مَمَرِّ الظَّهْرَانِ) لِحَاجَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ؛ خَلَوْتُ بِهِ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ مَا مَنَعَنِي إِلَّا هَيْبَةٌ لَكَ)).
قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلْ -أَيْ: فَلَا تَمْتَنِعْ عَنِ السُّؤَالِ-، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ فَسَلْ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُ عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ؛ وَإِلَّا قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ، فَسَأَلْتَ مَنْ يَعْلَمُ)).
قُلْتُ: ((مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا اللهُ أَنَّهُمَا تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).
قَالَ: ((عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((كَانَ لِي أَخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكُنَّا نَتَعَاقَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنْزِلُ يَوْمًا وَيَنْزِلُ يَوْمًا، فَمَا أَتَى مِنْ حَدِيثٍ أَوْ خَبَرٍ أَتَانِي بِهِ، وَأَنَا مِثْلُ ذَلِكَ -الَّذِي يَتَكَلَّمُ هُنَا هُوَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، قَالَ: وَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ -يَعْنِي: أَخَاهُ الَّذِي كَانَ يُنَاوِبُهُ مِنَ الْأَنْصَارِ-، وَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَتَخَلَّفْتُ، فَجَاءَنِي..)) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَتَمَامِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: ((الَّذِي آخَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الْأَنْصَارِ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)).
فَانْظُرْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ كَيْفَ صَبْرُهُ؟! وَكَيْفَ أَدَبُهُ؟! وَكَيْفَ تَحَيُّنُهُ لِلْفُرَصِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ؟!
فَمَنْ كَانَ مُتَأَسِّيًا فِي الصَّبْرِ عَلَى الطَّلَبِ؛ فَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِهِ شَامِخٌ، وَقِمَّةٌ مِنْ قِمَمِهِ سَامِقَةٌ.
لَقَدْ أَدْرَكَ تَوْفِيقُ اللهِ حَبْرَ الْأُمَّةِ وَتُرْجَمَانَ الْقُرْآنِ، وَأَدْرَكَتْهُ بَرَكَةُ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ دَعَا لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللهُ الْكِتَابَ، كَمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)).
قَالَ الْحَافِظُ: ((الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّعْلِيمِ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ حِفْظِهِ، وَالتَّفَهُّمِ فِيهِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((ضَمَّنِي النَّبِيُّ ﷺ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ)).
قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْحِكْمَةُ: الْإِصَابَةُ فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ)).
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحِكْمَةِ هُنَا، فَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْفَهْمُ عَنِ اللهِ، وَقِيلَ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقِيلَ: نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْوَسَاوِسِ، وَقِيلَ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ)).
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَعْلَمَ الصَّحَابَةِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.
يَحْكِي حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْعَلِيَّةِ مِنَ الْعِلْمِ، فَيَقُولُ: ((لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُمًُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ: يَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَنْ فِيهِمْ؟!
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَرَكْتُ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ، فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ -مِنْ: قَالَ يَقِيلُ؛ نَامَ نَوْمَةَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهِيَ الْقَائِلَةُ وَالْقَيْلُولَةُ-، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ؛ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ! مَا جَاءَ بِكَ؟! هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟!
فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونَنِي، فَقَالَ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي)).
وَقَدِيمًا قِيلَ: ((مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَجَدَّ؛ وَجَدَ، وَمَنْ قَرَعَ الْبَابَ وَلَجَّ؛ وَلَجَ)).
وَقِيلَ: ((بِقَدْرِ مَا تَتَعَنَّى؛ تَنَالُ مَا تَتَمَنَّى)).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّحْصِيلِ، وَالْجِدِّ فِي الطَّلَبِ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ مَعَ قِصَرِ الْمُدَّةِ فِي الصُّحْبَةِ؛ وَلَكِنْ بِالْمُلَازَمَةِ وَالصَّبْرِ، وَالْجِدِّ وَالْإِقْبَالِ وَالْحَزْمِ- قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنْتُ أَلْزَمُ النَّبِيَّ ﷺ لِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَبِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَلَا فُلَانَةٌ، وَأُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ، وَأَسْتَقْرِأُ الرَّجُلَ الْآيَةَ وَهِيَ مَعِي؛ كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي)).
قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْحَبِيرُ؛ قَالَ عِيَاضٌ: ((هُوَ الثَّوْبُ الْمُحَبَّرُ))، وَهُوَ الْمُزَيَّنُ الْمُلَوَّنُ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ، وَقِيلَ: الْحَبِيرُ: ثَوْبٌ وَشْيٌ مُخَطَّطٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَدِيدُ)).
فَالصَّبْرُ عَلَى مَشَقَّةِ التَّحْصِيلِ أَهَمُّ مَا يَلْزَمُ طَالِبَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ بَلَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الرِّوَايَةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ مَبْلَغًا بَعِيدًا؛ وَلَكِنَّهُ ضَحَّى فِي سَبِيلِ ذَلِكَ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ، وَشَهْوَةِ الْمَطْعَمِ، وَلَذِيذِ الْغُمْضِ، وَتَحَمَّلَ الْجُوعَ، وَصَبَرَ عَلَى الضَّنَى، وَانْقَطَعَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، يَسْمَعُ وَيَحْفَظُ، وَيَعِي وَيُدْرِكُ؛ إِذْ لَا يَشْغَلُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْءٌ؛ حَتَّى بَلَغَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَبَالِغَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.
وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً؛ فَلَا يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعِلْمِ مَعَ إِمْكَانِ الْكَثِيرِ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يُؤَخِّرَ وَاجِبَاتِ يَوْمِهِ لِغَدِهِ، وَلَا يَغْفُلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ لِدُرُوسِهِ، وَلَا يُضَيِّعَ وَقْتَهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ: ((لَمْ أَرَ الشَّافِعِيَّ آكِلًا بِنَهَارٍ، وَلَا نَائِمًا بِلَيْلٍ؛ لِاهْتِمَامِهِ بِالتَّصْنِيفِ -رَحِمَهُ اللهُ-)).
وَلَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ذَوِي هِمَمٍ عَالِيَةٍ، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ نَاطِقَةٌ بِأَحْوَالِهِمْ، مُخْبِرَةٌ بِدَفَائِنِ قُلُوبِهِمْ، وَهَذِهِ -فَانْتَبِهْ لَهَا- بَعْضُ أَخْبَارِهِمْ.
((الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْجَوَّالُ مُحَدِّثُ الْعَصْرِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَه، وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَثَلَاثِ مِائَةٍ (310هـ)، وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثٍ مِائَةٍ (395هـ)، وَعِدَّةُ شُيُوخِهِ الَّذِينَ سَمِعَ مِنْهُمْ وَأَخَذَ عَنْهُمْ أَلْفٌ وَسَبْعُ مِائَةِ شَيْخٍ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ؛ كَانَتْ كُتُبُهُ عِدَّةَ أَحْمَالٍ؛ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ حِمْلًا!! وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَمِعَ مَا سَمِعَ وَلَا جَمَعَ مَا جَمَعَ، وَكَانَ خِتَامَ الرَّحَّالِينَ، وَفَرْدَ الْمُكْثِرِينَ مَعَ الْحِفْظِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالصِّدْقِ، وَكَثْرَةِ التَّصَانِيفِ.
وَأَوَّلُ ارْتِحَالِهِ كَانَ قَبْلَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ (330هـ) إِلَى (نَيْسَابُورَ)، قَالَ الْحَاكِمُ: ((الْتَقَيْنَا بِـ (بُخَارَى) سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَقَدْ زَادَ زِيَادَةً ظَاهِرَةً، ثُمَّ جَاءَنَا إِلَى (نَيْسَابُورَ) سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ذَاهِبًا إِلَى وَطَنِهِ»».
فَرَحَلَ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَرَجَعَ وَعُمُرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَتْ رِحْلَتُهُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ يَعُدْ فِيهَا إِلَى وَطَنِهِ، فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بِطُولِهَا لَمْ يَعُدْ إِلَى وَطَنِهِ، كَانَتْ رِحْلَتُهُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى وَطَنِهِ، فَتَزَوَّجَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَرُزِقَ الْأَوْلَادَ، وَحَدَّثَ بِالْكَثِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
فَهَلْ سَمِعْتَ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ قَبْلُ؟!!
هَلْ سَمِعْتَ بِمِثْلِ هَذَا قَطُّ؟!!
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِهِ: ((تَقْدِمَةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ)) فِي تَرْجَمَةِ وَالِدِهِ الْإِمَامِ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الرَّازِيِّ الْمَوْلُودِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ (195هـ)، وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ (277هـ) عِنْدَ ذِكْرِ رِحْلَتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، قَالَ: ((سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَوَّلُ سَنَةٍ خَرَجْتُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ؛ أَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ، أَحْصَيْتُ مَا مَشَيْتُ عَلَى قَدَمَيَّ.. زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ فَرْسَخٍ -الْفَرْسَخُ بِمَشْيِ الْقَدَمِ نَحْوُ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، نَحْوَ خَمْسَةِ كِيلُو مِتْرَاتٍ-.
فَيَقُولُ: أَحْصَيْتُ مَا مَشَيْتُ عَلَى قَدَمَيَّ.. زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ فَرْسَخٍ، لَمْ أَزَلْ أُحْصِي حَتَّى لَمَّا زَادَ عَلَى أَلْفِ فَرْسَخٍ تَرَكْتُهُ، أَمَّا مَا كُنْتُ سِرْتُ أَنَا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى بَغْدَادَ؛ فَمَا لَا أُحْصِي كَمْ مَرَّةً، وَمِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَخَرَجْتُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ قُرْبِ مَدِينَةِ (صَلَا) إِلَى مِصْرَ مَاشِيًا، وَمِنْ مِصْرَ إِلَى (الرَّمْلَةِ) مَاشِيًا، وَمِنَ (الرَّمْلَةِ) إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمِنَ (الرَّمْلَةِ) إِلَى (عَسْقَلَانَ)، وَمِنَ (الرَّمْلَةِ) إِلَى (طَبَرِيَّةَ)، وَمِنْ (طَبَرِيَّةَ) إِلَى دِمَشْقَ، وَمِنْ دِمَشْقَ إِلَى حِمْص، وَمِنْ حِمْصَ إِلَى (أَنْطَاكِيَّةَ)، وَمِنْ (أَنْطَاكِيَّةَ) إِلَى (طَرَسُوسَ)، ثُمَّ رَجَعْتُ مِنْ (طَرَسُوسَ) إِلَى حِمْصَ، وَكَانَ بَقِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَمَانِ، فَسَمِعْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ حِمْصَ إِلَى (بَيْسَانَ)، وَمِنْ (بَيْسَانَ) إِلَى (الرَّقَّةِ)، وَمِنَ (الرَّقَّةِ) رَكِبْتُ الْفُرَاتَ إِلَى بَغْدَادَ، وَخَرَجْتُ قَبْلَ خُرُوجِي إِلَى الشَّامِ مِنْ (وَاسِطٍ) إِلَى النِّيلِ، وَمِنَ النِّيلِ إِلَى الْكُوفَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مَاشِيًا، كُلُّ ذَلِكَ مَاشِيًا!! هَذَا فِي سَفَرِي الْأَوَّلِ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، أَجُولُ سَبْعَ سِنِينَ، خَرَجْتُ مِنَ (الرَّيِّ) سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ (213هـ) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَجَعْتُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ (221هـ).
وَخَرَجْتُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَرَجَعْتُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، أَقَمْتُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَكَانَتْ سِنِّي فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً)).
هَذَا الْحَافِظُ الْبَارِعُ الْجَوَّالُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَرْغِيَانِيُّ، الْمَوْلُودُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ (223هـ)، وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ (315هـ) -رَحِمَهُ اللهُ-، حَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْهُ قَالَ: ((كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ يَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّهِ مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ)).
فَقِيلَ لِأَبِي عَلِيٍّ: فَكَيْفَ كَانَ يُمْكِنُ هَذَا؟!!
قَالَ: ((كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ صِغَارًا بِخَطٍّ دَقِيقٍ، وَفِي كُلِّ جُزْءِ أَلْفُ حَدِيثٍ مَعْدُودَةٌ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ مِائَةَ جُزْءٍ، فَصَارَ هَذَا كَالْمَشْهُورِ مِنْ شَأْنِهِ -وَكَانُوا يُوَسِّعُونَ أَكْمَامَهُمْ؛ لِكَيْ يَحْمِلُوا فِيهَا الْكُتُبَ، وَمَا أَشْبَهَ، فَكَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ فِي كُمِّهِ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ-، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ بَكَى حَتَّى نَرْحَمَهُ، وَعَمِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ -رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-)).
وَقَالَ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ كَانَ خَلْقٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ يَأْخُذُونَ مَوَاضِعَهُمْ فِي مَجْلِسِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِمْلَاءِ، وَيَبِيتُونَ هُنَاكَ -فِي مَوَاضِعِهِمْ-؛ حِرْصًا عَلَى السَّمَاعِ، وَتَخَوُّفًا مِنَ الْفَوَاتِ)).
فَيَحْجُزُ مَوْضِعَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ مِنَ اللَّيْلِ، مَعَ أَنَّ الْإِمْلَاءَ يَكُونُ مِنْ صَبَاحِ الْغَدِ؛ وَلَكِنْ كَانَ خَلْقٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ يَأْخُذُونَ مَوَاضِعَهُمْ فِي مَجْلِسِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِمْلَاءِ، وَيَبِيتُونَ هُنَاكَ فِي مَوَاضِعِهِمْ؛ حِرْصًا عَلَى السَّمَاعِ، وَتَخَوُّفًا مِنَ الْفَوَاتِ.
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ دُرُسْتُوَيْهِ قَالَ: ((كُنَّا نَأْخُذُ الْمَجْلِسَ فِي مَجْلِسِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقْتَ الْعَصْرِ، الْيَوْمَ لِمَجْلِسِ غَدٍ، فَنَقْعُدُ طُولَ اللَّيْلِ؛ مَخَافَةَ أَلَّا نَلْحَقَ مِنَ الْغَدِ مَوْضِعًا نَسْمَعُ فِيهِ؛ فَرَأَيْتُ شَيْخًا فِي الْمَجْلِسِ يَبُولُ فِي طَيْلَسَانِهِ، وَيُدْرِجُ الطَّيْلَسَانَ؛ حَتَّى مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ مَكَانُهُ إِنْ قَامَ لِلْبَوْلِ!!)).
وَالطَّيْلَسَانُ: كِسَاءٌ أَخْضَرُ، أَوْ أَسْوَدُ، أَوْ أَبْيَضُ، لُحْمَتُهُ وَسُدَاهُ مِنْ صُوفٍ، يَلْبَسُهُ كِبَارُ الْعُلَمَاءِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْمَشَايِخُ كَانَ، فَكَانَ لِبَاسًا مَعْرُوفًا.
فَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَمَّا حُصِرَ بِبَوْلِهِ؛ أَخَذَ يَبُولُ فِي طَيْلَسَانِهِ، وَيُدْرِجُ الطَّيْلَسَانَ، كُلَّمَا أَصَابَ جُزْءًا مِنْهُ بَعْضُ الْبَوْلِ؛ أَدْرَجَ الطَّيْلَسَانَ، كُلُّ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ مَكَانُهُ إِنْ قَامَ لِلْبَوْلِ!!
وَفِي تَرْجَمَةِ أَبِي نَصْرٍ السِّجْزِيُّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ عَلَمُ السُّنَّةِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ، أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ، الْمُتَوَفَّى بِمَكَّةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ (444هـ) -رَحِمَهُ اللهُ-: مِنْ أَحْفَظِ أَهْلِ زَمَانِهِ، طَوَّفَ الْآفَاقَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَبَّالُ: ((كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي نَصْرٍ، فَدُقَّ الْبَابُ، فَقُمْتُ، فَفَتَحْتُ، فَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ، وَأَخْرَجَتْ كِيسًا فِيْهِ أَلْفُ دِيْنَارٍ -وَهُوَ قَدْرٌ مِنَ الْمَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَ الْآنَ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ-، فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ، وَقَالَتْ: أَنْفِقْهَا كَمَا تَرَى!
قَالَ: وَالْمَقْصُودُ؟
قَالَتْ: تَتَزَوَّجُنِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي الزَّوَاجِ؛ وَلَكِنْ لِأَخْدُمَكَ.
فَأَمَرَهَا بِأَخْذِ الْكِيسِ، وَأَنْ تَنْصَرِفَ، فَلَمَّا انَصْرَفَتْ؛ قَالَ فِي بَيَانِ الْعِلَّةِ الَّتِي دَعَتْهُ لِفِعْلِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ جَاءَتْ مُمَوِّلَةً لَهُ، مُعِينَةً لَهُ عَلَى شُؤُونِهِ وَحَالِهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، ثُمَّ هِيَ لَا تَطْلُبُ الزَّوَاجَ لِلزَّوَاجِ، وَإِنَّمَا لِخِدْمَتِهِ، فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى خَادِمٍ وَمُنْفِقَةٍ، مَعَ ذَلِكَ رَدَّهَا -رَحِمَهُ اللهُ-؛ مَا الْعِلَّةُ؟!!
فَلَمَّا انَصْرَفَتْ؛ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ (سِجِسْتَانَ) بِنِيَّةِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَتَى تَزَوَّجْتُ؛ سَقَطَ عَنِّي هَذَا الِاسْمُ، وَمَا أُوثِرُ عَلَى ثَوَابِ طَلَبِ الْعِلْمِ شَيْئًا!!)).
فَأَرَادَ أَلَّا تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَمَا الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ظَلَّ عَلَى نِيَّتِهِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُقِيمًا.
ذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْمَجْدِ الْفَيْرُوزَآبَادِيِّ -صَاحِبِ ((الْقَامُوسِ))- أَنَّهُ قَرَأَ ((صَحِيحَ مُسْلِمٍ)) فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِدِمَشْقَ، وَأَنْشَدَ:
قَرَأْتُ بِحَمْدِ اللهِ جَامِعَ مُسْلِمِ=بِجَوْفِ دِمْشَقَ الشَّامِ جَوْفِ الْإِسْلَامِ
عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ الْإِمَامِ ابْنِ جَهْبَلِ=بِحَضْرَةِ حُفَّاظٍ مَشَاهِيرَ أَعْلَامِ
وَتَمَّ بِتَوْفِيقِ الْإِلَهِ وَفَضْلِهِ=قِرَاءَةَ ضَبْطٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامِ
لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا هَيِّنًا، فَهَذَا مَتْنُ ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) بَيْنَ أَيْدِينَا فِي نَشْرَةِ مُحَمَّد فُؤَاد عَبْدِ الْبَاقِي بِخَطٍّ دَقِيقٍ يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ مُجَلَّدَاتٍ، عِدَّةُ صَفْحَاتِهَا ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَتَانِ وَأَلْفَا وَرَقَةٍ (2223) وَرَقَةً؛ فَيَكُونُ الْفَيْرُوزُ آبَادِيُّ قَرَأَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسًا وَسَبْعِينَ وَسَبْعَ مِائَةِ (775) وَرَقَةٍ، مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ نُسْخَتَهُ لَيْسَتِ كَنُسْخَتِنَا الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ حَيْثُ الضَّبْطُ وَالتَّرْقِيمُ وَالْكِتَابَةُ وَالْوَرَقُ، وَلَيْسَتْ مَطْبُوعَةً؛ إِذْ لَا طِبَاعَةَ هُنَاكَ وَلَا مَطْبَعَةَ، بَلْ هِيَ مَخْطُوطَةٌ بِخَطِّ الْيَدِ، مَكْتُوبَةٌ بِالْمِدَادِ، وَمَعَ اخْتِلَافِ الْوَسَائِلِ الْمُسَاعِدِةِ الَّتِي نَتَمَتَّعُ بِهَا الْيَوْمَ مِنَ الْإِضَاءَةِ وَوَسَائِلِ الرَّاحَةِ الَّتِي فِيهَا يَرْفُلُونَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلِعُلُوِّ هِمَّتِهِ قَرَأَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ!!
وَفِي ((تَارِيخِ الذَّهَبِيِّ)) فِي تَرْجَمَةِ: إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ الْحِيَرِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ الضَّرِيرِ مَا نَصُّهُ: ((وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِمَكَّةَ ((صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ)) بِسَمَاعِهِ مِنَ الْكُشْمَهَيْنِيِّ فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ؛ اثْنَانِ مِنْهَا فِي لَيْلَتَيْنِ، كَانَ يَيْتَدِئُ بِالْقِرَاءَةِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، وَيَخْتِمُ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالثَّالِثُ مِنْ ضَحْوَةِ النَّهَارِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ))؛ مِنْ ضَحْوَةِ النَّهَارِ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَلَى.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((وَهَذَا شَيْءٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا يَسْتَطِيعُهُ)).
قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ: ((وَقَعَ لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ أَجَلُّ مِمَّا وَقَعَ لِشَيْخِهِ الْمَجْدِ اللُّغَوِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَرَأَ ((صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ)) فِي أَرْبَعِينَ سَاعَةً رَمْلِيَّةً، وَقَرَأَ ((صَحِيحَ مُسْلِمٍ)) فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ سِوَى مَجْلِسِ الْخَتْمِ فِي يَوْمَيْنِ وَشَيْءٍ، وَقَرَأَ ((سُنَنَ ابْنِ مَاجَه)) فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ، وَقَرَأَ ((كِتَابَ النَّسَائِيِّ الْكَبِيرَ)) فِي عَشْرَةِ مَجَالِسَ، كُلُّ مَجْلِسٍ مِنْهَا نَحْوُ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ، وَقَرَأَ ((صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ)) فِي عَشْرَةِ مَجَالِسَ، كُلُّ مَجْلِسٍ مِنْهَا أَرْبَعُ سَاعَاتٍ)).
ثُمَّ قَالَ السَّخَاوِيُّ: ((وَأَسْرَعُ شَيْءٍ وَقَعَ لَهُ -أَيْ: لِابْنِ حَجَرٍ-: أَنَّهُ قَرَأَ فِي رِحْلَتِهِ الشَّامِيَّةِ ((مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ الصَّغِيرَ)) فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَذَا الْكِتَابُ فِي مُجَلَّدٍ يَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِ مِائَةِ حَدِيثٍ)).
فَقَرَأَهُ قِرَاءَةَ ضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَوَاهِبُ الْجَلِيلَةُ وَالْهِمَمُ الْوَثَّابَةُ وَقْفًا عَلَى السَّابِقِينَ، بَلْ مَا زَالَ الْخَيْرُ فِي الْأُمَّةِ قَائِمًا مَوْصُولًا، وَهَذَا عَلَّامَةُ الشَّامِ فِي عَصْرِهِ مُحَمَّد جَمَالُ الدِّينِ الْقَاسِمِيُّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1332هـ) يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ: ((وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ جَامِعُ هَذَا الْكِتَابِ -يُرِيدُ -رَحِمَهُ اللهُ- كِتَابَهُ ((قَوَاعِدُ التَّحْدِيثِ))- قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ، فَأَسْمَعَ ((صَحِيحَ مُسْلِمٍ)) رِوَايَةً وَدِرَايَةً فِي مَجَالِسَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، آخِرُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ 28 مِنْ شَهْرِ صَفَرِ الْخَيْرِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1316هـ)، وَأَسْمَعَ -أَيْضًا- ((سُنَنَ ابْنِ مَاجَه)) كَذَلِكَ فِي مَجَالِسَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَوْمًا، آخِرُهَا فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ 22 مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1316هـ)، وَأَسْمَعَ -أَيْضًا- ((الْمُوَطَّأَ)) كَذَلِكَ مَجَالِسَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، آخِرُهَا فِي الْخَامِسَ عَشَرَ 15 مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1316هـ)، وَطَالَعْتُ بِنَفْسِي لِنَفْسِي: ((تَقْرِيبَ التَّهْذِيبِ)) لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ مَعَ تَصْحِيحِ سَهْوِ الْقَلَمِ فِيهِ، وَضَبْطِهِ وَتَحْشِيَتِهِ مِنْ نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ جِدًّا فِي مَجَالِسَ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ، آخِرُهَا فِي الثَّامِنَ عَشَرَ 18 مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1315هـ))).
قَالَ: أَقُولُ: وَهَذِهِ الْكُتُبُ قَرَأْتُهَا بِإِثْرِ بَعْضِهَا، فَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وَبَصَرِي حَتَّى رَمِدْتُ، بِإِثْرِ ذَلِكَ شَفَانِي اللهُ بِفَضْلِهِ، وَأَشْفَقْتُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْخِيرَةَ فِي الِاعْتِدَالِ؛ نَعَمْ، لَا يُنْكَرُ أَنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ لَا تَتَأَثَّرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِقُوَّةِ حَوَاسِّهَا، وَالْإِنْسَانُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَهُوَ أَدْرَى بِهَا!)).
قَالَ لَكَ هَذَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ؛ لِكَيْ لَا يُيَئِّسَكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ((قَرَأْتُ هَذِهِ الْكُتُبَ بِإِثْرِ بَعْضِهَا، فَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وَبَصَرِي حَتَّى رَمَدْتُ، بِإِثْرِ ذَلِكَ شَفَانِي اللهُ بِفَضْلِهِ، وَأَشْفَقْتُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْخِيرَةَ فِي الِاعْتِدَالِ)).
هُوَ لَا يَقُولُ لَكَ: اعْتَدِلْ، وَإِنَّمَا يَقُولُ لَكَ: هَذَا مَا تَحَمَّلَهُ حَالِي، وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَتَحَمَّلُ حَالُهُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ لِذَلِكَ قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَعَمْ، لَا يُنْكَرُ أَنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ لَا تَتَأَثَّرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِقُوَّةِ حَوَاسِّهَا، وَلِلْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَهُوَ أَدْرَى بِهَا!)).
أَخْرَجَ أَبُو خَيْثَمَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَيَّانَ: ((أَنَّ رَجُلًا رَحَلَ إِلَى مِصْرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَحُلَّ رَحْلَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ: ((مَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ)).
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي رَحَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَرَكِبَ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى مِصْرَ، كَمَا فِي ((الْمُسْنَدِ)).
قَالَ الطَّحَّانُ -عَفَا اللهُ عَنْهُ- فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى ((الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ)): ((هَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-)). وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي ((مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ)) بِإِسْنَادٍ عَالٍ، وَبِسِيَاقٍ مُفَصَّلٍ.
فَهَذَا مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمِنْ بُعْدِ هِمَمِهِمْ وَصَفَاءِ بَصَائِرِهِمْ، وَقَدْ خَلَفَهُمْ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ، وَارْتَضَى طَرِيقَتَهُمْ؛ فَكَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ.
فَالصَّحَابِيُّ يَرْحَلُ إِلَى مِصْرَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، يَرْكَبُ مِنَ الْمَدِينَةِ مَرْكَبًا شَاقًّا عَسِرًا، وَيَمْضِي فِي طُرُقَاتٍ مَخُوفَةٍ، مَعَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْمَخَاطِرِ فِي الْفَلَوَاتِ وَمَا أَشْبَهَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْمَعَ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَهَذَا مِنْ صَبْرِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الطَّلَبِ، وَمَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَسِيرُ عَلَى دَرْبِهِمْ.
أَخْرَجَ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ((إِنْ كُنْتُ لَأَغِيبُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ)).
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ((إِنْ كُنْتُ لَأَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ)).
وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: ((لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا مَا لِي حَاجَةٌ إِلَّا رَجُلٌ عِنْدَهُ حَدِيثٌ، يَقْدُمُ -أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ-، فَأَسْمَعُهُ مِنْهُ)).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَا تُعْطِي الْمُعَلِّمَ، وَكَانَ الْمُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَخْلُفَهُ إِذَا قَامَ، فَلَمَّا خَتَمْتُ الْقُرْآنَ؛ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَكُنْتُ أُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ، وَأَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَالْمَسْأَلَةَ، وَكَانَ مَنْزِلُنَا بِمَكَّةَ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ، وَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْعَظْمِ يَلُوحُ، فَأَكْتُبُ فِيهِ -أَيْ: فِي الْعَظْمِ- الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ، وَكَانَتْ لَنَا جَرَّةٌ قَدِيمَةٌ، فَإِذَا امْتَلَأَ الْعَظْمُ؛ طَرَحْتُهُ فِي الْجَرَّةِ)) -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَهَذِهِ كُتُبُهُ؛ كَانَ يَكْتُبُ فِي تِلْكَ الْآوِنَةِ عَلَى الْعِظَامِ الَّتِي تَلُوحُ بِبَيَاضِهَا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
وَأَخْرَجَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ خَالِدٍ الزَّنْجِيَّ يَقُولُ لِلشَّافِعِيِّ: ((أَفْتِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! فَقَدْ وَاللهِ آنَ لَكَ أَنْ تُفْتِيَ))، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً -يَعْنِي: الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ--.
فَكَانَ يُفْتِي مَأْذُونًا لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً!! وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ شَبَابَ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السِّنِّ يَلْعَبُونَ فِي التُّرَابِ مَا زَالُوا!!
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ -أَيْضًا-، أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً: ((أَفْتِ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُفْتِيَ)).
كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَا تَكَادُ نَفْسُهُ تَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا تَرْتَوِي مِنَ الْمُطَالَعَةِ، وَلَا تَمَلُّ مِنَ الِاشْتِغَالِ، وَلَا تَكَلُّ عَنِ الْبَحْثِ، وَقَلَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ إِلَّا وَيُفْتَحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ أَبْوَابٌ، وَيَسْتَدْرِكُ مُسْتَدْرَكَاتٍ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَى حُذَّاقِ أَهْلِهِ مَبْسُوطَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي مَبَادِئِ أَمْرِهِ: ((إِنَّهُ لَيَقِفُ خَاطِرِي فِي الْمَسْأَلَةِ أَوِ الشَّيْءِ، أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي تُشْكِل عَلَيَّ -فَمَاذَا يَصْنَعُ؟!!-، فَأَسْتَغْفِرُ اللهَ -تَعَالَى- أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ؛ حَتَّى يَنْشَرِحَ الصَّدْرُ، وَيَنْجَلِيَ إِشْكَالُ مَا أَشْكَلَ)).
وَقَالَ: ((وَأَكُونُ إِذْ ذَاكَ فِي السُّوقِ، أَوِ الْمَسْجِدِ، أَوِ الدَّرْبِ، أَوِ الْمَدْرَسَةِ؛ لَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنَ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَى أَنْ أَنَالَ مَطْلُوبِي)).
وَقَالَ الْبَزَّارُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَانَ الْعِلْمُ كَأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَسَائِرِهِ؛ فَإِنَّهُ -أَيِ: الْعِلْمَ- لَمْ يَكُنْ لَهُ مُسْتَعَارًا، بَلْ كَانَ لَهُ شِعَارًا وَدِثَارًا)).
وَالشِّعَارُ: مَا يَلِي الْبَدَنَ مِنَ الثِّيَابِ، وَالدِّثَارُ: مَا يُتَدَثَّرُ بِهِ.
وَلَا بُدَّ لِكَيْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ -بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ-؛ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْوَقْتِ إِلَى غَايَةِ الْمَدَى، وَالِاتِّصَافِ بِالِاسْتِفَادَةِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.
((مِنْ مَظَاهِرِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ:
الْحِرْصُ عَلَى الْوَقْتِ))
إِنَّ مِنْ أَوْضَحِ صُوَرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الْوَقْتِ، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ أُصُولِ نِعَمِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ: نِعْمَةَ الْوَقْتِ؛ أَنْ آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عُمُرًا، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِفُسْحَةٍ مِنَ الزَّمَنِ؛ لِكَيْ يَعْمَلَ صَالِحًا، وَيَسْتَدْرِكَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ؛ لِيَتُوبَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَكَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَتَنَافَسُونَ فِي حِفْظِ الْأَوْقَاتِ أَشَدَّ مِمَّا يَتَنَافَسُ الْخَلْقُ الْحَاضِرُونَ فِي زَمَانِنَا فِي تَضْيِيعِهَا، فَهَذَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعِينَ الزُّهَّادِ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا: ((كَلِّمْنِي!)).
فَقَالَ لَهُ عَامِرٌ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ!!))؛ يَعْنِي: أَوْقِفْ لِيَ الشَّمْسَ، وَاحْبِسْهَا عَنِ الْمَسِيرِ حَتَّى أُكَلِّمَكَ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مُتَحَرِّكٌ دَائِبُ الْمُضِيِّ، لَا يَعُودُ بَعْدَ مُرُورِهِ، فَخَسَارَتُهُ خَسَارَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُهَا وَاسْتِدْرَاكُهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَإِذَا مَرَّ وَقْتٌ؛ فَقَدْ مَرَّ بِمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْلَأَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا اسْتَدْرَكْتَهُ بِوَقْتٍ جَدِيدٍ؛ فَلِلْوَقْتِ الْجَدِيدِ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَمَاذَا تَصْنَعُ يَا مِسْكِينُ وَأَنْتَ تُضَيِّعُ الْعُمُرَ هَبَاءً؟!!
قَالَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ.. نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي)).
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ؛ فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ))؛ يَنْحِتَانِ فِي صِحَّتِكَ، وَيُشِيبَانِ سَوَادَ شَعْرِكَ، وَيَحْنِيَانِ ظَهْرَكَ، وَيُنْقِصَانِ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَيَسْتَنْفِذَانِ مِنْ قُوَّتِكَ، ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ؛ فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَإِذَا ذَهَبَ يَوْمٌ؛ ذَهَبَ بَعْضُكَ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ)).
وَقَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، كَانَ بَارِعًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَقِيهًا فَصِيحًا مُفَوَّهًا، صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَكَانَ عَابِدًا مِنَ الْعُبَّادِ، قَالَ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ((لَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا؛ مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا!!)).
وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ جِدًّا، وَوَصْفٌ هُوَ أَعْجَبُ!! ((لَوْ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا؛ مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ شَيْئًا!!)).
وَقَالَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ: ((لَوْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي مَا رَأَيْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ ضَاحِكًا؛ لَصَدَقْتُ)).
كَانَ مَشْغُولًا؛ إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسَبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، وَقَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ يُونُسُ الْمُؤَدِّبُ: ((مَاتَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ)) -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
كَانُوا يَغَارُونَ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَمْضِيَ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَيْهِمْ تَعُودُ، وَعَائِدَةٍ بِهَا يَعُودُونَ؛ مِنْ خَيْرٍ يُحَصِّلُونَ، وَشَرٍّ عَنْهُ يَبْتَعِدُونَ؛ حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ -كَأَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَكَجَدِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ؛ أَمَرَ وَلَدَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ؛ لِيَسْمَعَ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ؛ حَتَّى لَا يُضَيِّعَ الْوَقْتَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَعِلْمٍ، فَكَانَ يُمَاشِيهِ إِلَى بَيْتِ الْخَلَاءِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَخَلَ؛ اعْتَزَلَ نَاحِيَةً فَقَرَأَ رَافِعًا صَوْتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُهُ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ، يُحَصِّلُ الْعِلْمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْخَلَاءِ!! لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ.
بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ وَصَلَ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ لَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْعَجَبُ، كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَأْكُلُ، فَيَمْضُغُ وَيُعَالِجُ بِأَسْنَانِهِ تَكْسِيرًا وَطَحْنًا، فَأَخَذَ يَحْسِبُ فَرْقَ مَا بَيْنَ هَذَا وَفَرْقَ أَنْ يُعَدَّ لَهُ فَتِيتًا حَتَّى يَسْتَفَّهُ اسْتِفَافًا، قَالَ: ((فَوَجَدْتُ بَيْنَهُمَا كَذَا تَسْبِيحَةٍ!!))، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا فَتِيتًا، فَيُفَتُّ لَهُ الطَّعَامُ وَالْخُبْزُ، وَهُوَ يَسْتَفُّهُ اسْتِفَافًا.
وَهَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ، كَمَا قِيلَ لِلثَّوْرِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-؛ قِيلَ لَهُ: ((الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ -وَإِذَا أُطْلِقُ دَخَلَ فِيهِ اللَّيْلُ-، الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ أَكْلَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: أَكْلُ الصَّالِحِينَ.
قَالَ: فَيَأْكُلُ أَكْلَتَيْنِ.
قَالَ: أَكْلُ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: يَأْكُلُ ثَلَاثَ أَكْلَاتٍ.
قَالَ: قُولُوا لِأَهْلِهِ يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!))، هَذَا حَيَوانٌ! ((قُولُوا لِأَهْلِهِ يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!)).
حَتَّى الْوَقْتُ يَغَارُونَ عَلَى تَضْيِيعِهِ؛ حَتَّى فِي الطَّعَامِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ.
فَاللَّهُمَّ سَلِّمْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتِلْمِيذُهُ، وَنَاشِرُ عِلْمِهِ وَمَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَاضِي الْمُلُوكِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: الْمَهْدِيِّ، وَالْهَادِي، وَالرَّشِيدِ، وَقَدْ قَوَّمُوا الزَّمَنَ بِالْمَالِ؛ فَوَجَدُوا أَنَّ الْمَالَ لَا يُسَاوِي شَيْئًا.
هَذَا كَانَ قَاضِي قُضَاةِ الدُّنْيَا، كَانَ يُبَاحِثُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَهُوَ فِي النَّزْعِ وَالذَّمَاءِ؛ يَعْنِي: فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنَ الْحَيَاةِ، فَكَانَ يُبَاحِثُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَعْضَ عُوَّادِهِ -زُوَّرِاهِ فِي مَرَضِهِ- فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ؛ رَجَاءَ النَّفْعِ بِهَا لِمُسْتَفِيدٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَلَا يُخْلِي اللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ اللَّحْظَاتِ فِي الْحَيَاةِ مِنْ كَسْبِهَا فِي مُذَاكَرَةِ عِلْمٍ، وَإِفَادَةٍ وَاسْتِفَادَةٍ!!
قَالَ تِلْمِيذُهُ الْقَاضِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ الْكُوفِيُّ، ثُمَّ الْمِصْرِيُّ: ((مَرِضَ أَبُو يُوسُفَ، فَأَتَيْتُهُ أَعُودُهُ -وَالْعِيَادَةُ: الزِّيَارَةُ فِي الْمَرَضِ خَاصَّةً-، فَجِئْتُهُ -أَتَيْتُهُ- أَعُودُهُ، فَوَجَدْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لِي: يَا إِبْرَاهِيمُ! مَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةٍ؟!!
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟!!
قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، نَدْرُسُ؛ لَعَلَّهُ يَنْجُو بِهِ نَاجٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ -أَيْ: فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ-؛ أَنْ يَرْمِيَهَا مَاشِيًا، أَوْ رَاكِبًا؟
قُلْتُ: رَاكِبًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: مَاشِيًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: قُلْ فِيهَا يَرْضَى اللهُ عَنْكَ.
قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ؛ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا، وَأَمَّا مَا كَانَ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ؛ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ رَاكِبًا.
ثُمَّ قُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا بَلَغْتُ بَابَ الدَّارِ وَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-)).
فَاحْفَظْ زَمَانَكَ، وَاشْغَلْ نَفْسَكَ بِمَا يَنْفَعُكَ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ عَلَى حَذَرٍ؛ فَنَحْنُ فِي زَمَانٍ قَدْ مَرِجَتْ فِيهِ الْأَمَانَاتُ، وَخَفَّتْ فِيهِ الْعُهُودُ، وَاضْطَرَبَ فِيهِ أَمْرُ النَّاسِ؛ فَانْجُ بِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ.
((مِنْ مَظَاهِرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ:
عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي الْعِبَادَةِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ وَصُوَرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ: عُلُوَّ الْهِمَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَعَلَى الْقِمَّةِ السَّامِقَةِ الشَّامِخَةِ فِي عُلُوِّ الْهِمَّةِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-6].
((الْمُزَّمِّلُ: الْمُتَغَطِّي بِثِيَابِهِ كَالْمُدَّثِّرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ حَصَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِإِنْزَالِ وَحْيِهِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ، فَرَأَى أَمْرًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُرْسَلُونَ، فَاعْتَرَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ انْزِعَاجٌ حِينَ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَتَى إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، وَهُوَ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ.
ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: ((اقْرَأْ)).
فَقَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدُ، وَهُوَ يُعَالِجُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَرَأَ ﷺ، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّبَاتَ، وَتَابَعَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ؛ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغًا مَا بَلَغَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَعْظَمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ ابْتِدَاءِ نُبُوَّتِهِ وَنِهَايَتِهَا؛ وَلِهَذَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ.
فَأَمَرَهُ هُنَا بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّدْعِ بِأَمْرِهِ، وَإِعْلَانِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَهُ هُنَا بِأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَبِآكَدِ الْأَوْقَاتِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى-: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، بَلْ قَالَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، ثُمَّ قَدَّرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ}؛ أَيْ: مِنَ النِّصْفِ {قَلِيلًا} بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ وَنَحْوَهُ.
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}؛ أَيْ: عَلَى النِّصْفِ، فَيَكُونُ نَحْوَ الثُّلُثَيْنِ، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}؛ فَإِنَّ تَرْتِيلَ الْقُرْآنِ بِهِ يَحْصُلُ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَتَحْرِيكُ الْقُلُوبِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدُ بِآيَاتِهِ، وَالتَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}؛ أَيْ: نُوحِي إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الثَّقِيلَ؛ أَيِ: الْعَظِيمَةُ مَعَانِيهِ، الْجَلِيلَةُ أَوْصَافُهُ، وَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ حَقِيقٌ أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُ، وَيُرَتِّلَ، وَيَتَفَكَّرَ فِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فِي أَمْرِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ}؛ أَيِ: الصَّلَاةُ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}؛ أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ مَقْصُودِ الْقُرْآنِ، يَتَوَاطَأُ عَلَى الْقُرْآنِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَتَقِلُّ الشَّوَاغِلُ، وَيَفْهَمُ مَا يَقُولُ، وَيَسْتَقِيمُ لَهُ أَمْرُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهَارِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ)).
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا!!)) ﷺ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ -بَلِ التَّفْرِيطِ- وَالْأَمْنِ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ)).
وَذُكِرَ عَنْهُ -أَيْضًا- أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ بِلِسَانِهِ، وَيَقُولُ: ((هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)).
وَكَانَ يَبْكِي كَثِيرًا، وَيَقُولُ: ((ابْكُوا! فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا)).
وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأُتِيَ بِطَائِرٍ فَقَلَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ، وَلَا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ)).
وَلَمَّا احْتُضِرَ؛ قَالَ لِعَائِشَةَ: ((يَا بُنَيَّةُ! إِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ، وَهَذِهِ الْحِلَابَ -وَهُوَ إِنَاءٌ يُحْلَبُ فِيهِ-، وَهَذَا الْعَبْدَ؛ فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي خَضِرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ)).
وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطُّورِ: 77]، فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ؛ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ.
وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ: ((وَيْحَكَ! ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ؛ عَسَى أَنْ يَرَى ذُلِّي فَيَرْحَمَنِي، ثُمَّ قَالَ: وَيْلَ أُمِّي إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي -ثَلَاثًا-، ثُمَّ قُضِيَ وَمَضَى)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلَةِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ، وَفَعَلَ وَفَعَلَ)).
فَقَالَ: ((وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ)).
وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ؛ يَبْكِي حَتَّى تُبْتَلَّ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ: ((لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي؛ لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ)).
وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْأَمَلِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ؛ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى؛ فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَنُونُ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ)).
وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! قَدْ عَلِمْتَ؛ فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)).
وَكَانَ يَقُولُ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعِيدِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، ثُمَّ تُؤْكَلُ)).
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَسْفَلَ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: ((يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ))، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقَالَ: ((عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا، وَأَحْمُرُةٌ نَنْقُلُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ فِيهَا)).
وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْجَاثِيَةِ: 21]؛ جَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ!!
وَقَدْ صَامَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَهْلُهُ وَلَا أَحَدٌ، كَانَ يَأْخُذُ غَدَاءَهُ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ قَاصِدًا السُّوقَ، وَكَانَ خَزَّازًا، فَيَتَصَدَّقُ بِالطَّعَامِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ، فَيَظُنُّ أَهْلُ السُّوقِ أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ فِي بَيْتِهِ، وَيَظُنُّ أَهْلُ بَيْتِهِ أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ فِي السُّوقِ، حَتَّى إِذَا مَا كَانَ بِالْعَشِيِّ؛ رَجَعَ فَأَفْطَرَ فِي بَيْتِهِ؛ لَمْ يَعْلَمْ بِصِيَامِهِ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
لَقَدْ كَانُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَأَعْمَارَهُمْ، وَيَعْمُرُونَهَا بِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ.
وَمَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ أَزْكَى الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفُهَا، وَأَنْفَعُهَا وَأَرْفَعُهَا، وَهِيَ أَعْلَى الْمَجَالِسِ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ، وَأَجَلُّهَا مَكَانَةً عِنْدَهُ.
كَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَهْتَمُّونَ بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ أَعْظَمَ الِاهْتِمَامِ، وَيَعْتَنُونَ بِهَا غَايَةَ الْعِنَايَةِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((اذْكُرِ اللهَ عِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ، وَحُكْمِكَ إِذَا حَكَمْتَ، وَقَسْمِكَ إِذَا قَسَمْتَ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ: أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا، وَأَتْقَاهُمْ قَلْبًا)).
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقْصِدُ السُّوقَ؛ لِيَذْكُرَ اللهَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ.
وَالْتَقَى رَجُلَانِ مِنْهُمْ فِي السُّوقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ((تَعَالَ حَتَّى نَذْكُرَ اللهَ فِي غَفْلَةِ النَّاسِ! فَخَلَوَا فِي مَوْضِعٍ، فَذَكَرَا اللهَ -تَعَالَى-، ثُمَّ تَفَرَّقَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَلَقِيَهُ الْآخَرُ فِي مَنَامِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ غَفَرَ لَنَا عَشِيَّةَ الْتَقَيْنَا فِي السُّوقِ؟)). ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
((مِنْ أَعْظَمِ مَيَادِينِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ:
مَيْدَانُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ))
إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ فِي الْعِبَادَةِ يَقْتَضِي: حُسْنَ أَدَائِهَا، وَأَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِي سُلُوكِ الْإِنْسَانِ وَأَخْلَاقِهِ، فَلَا يَكْذِبُ، وَلَا يَخُونُ، وَلَا يَغُشُّ، وَلَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَكَفُّ الْأَذَى يَتَطَلَّبَانِ هِمَّةً عَالِيَةً وَمُصَابَرَةً، عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقرَبِكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ! قَدْ عَلِمنَا الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟
قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)).
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حُسْنُ الْخُلُقِ: طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى)).
وَقَالَ غَيْرُهُ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَكُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ اللهِ يُوجِبُ شُكْرًا، فَلَا تَزَالُ شَاكِرًا لَهُ، مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ، سَائِرًا إِلَيْهِ بَيْنَ مُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ وَشُهُودِ عَيْبِ نَفْسِكَ وَأَعْمَالِكَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ؛ وَجِمَاعُهُ أَمْرَانِ: بَذْلُ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَكَفُّ الْأَذَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ: الْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَالصَّبْرِ، وَطِيبِ الْعُودِ، وَصِحَّةِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْعِلْمُ؛ فَلِأَنَّهُ يُعَرِّفُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَسَفْسَافَهَا، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذَا وَيَتَحَلَّى بِهِ، وَيَتْرُكَ هَذَا وَيَتَخَلَّى عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجُودُ؛ فَسَمَاحَةُ نَفْسِهِ وَبَذْلُهَا، وَانْقِيَادُهَا لِذَلِكَ إِذَا أَرَادَهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا الصَّبْرُ؛ فَلِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى احْتِمَالِ ذَلِكَ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ.
وَأَمَّا طِيبُ الْعُودِ؛ فَأَنْ يَكُونَ اللهُ -تَعَالَى- خَلَقَهُ عَلَى طَبِيعَةٍ مُنْقَادَةٍ سَهْلَةِ الْقِيَادِ، وَسَرِيعَةِ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْخَيْرَاتِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ((لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللهِ)).
وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).
فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ فَلَا أَسْأَلَ شَيْئًا.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)).
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَفِيهِ -أَيْضًا- وَصَحَّحَهُ -أَيْ: عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟
فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).
وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟
فَقَالَ: ((الْفَمُ وَالْفَرْجُ)).
((الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ)).
وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ أَحْسَنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).
وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).
وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).
وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ.
فَالصَّبْرُ يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ.
وَالْعِفَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَالشَّجَاعَةُ تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ؛ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا أَمْسَكَ عِنَانَهَا، وَكَبَحَهَا بِلِجَامِهَا عَنِ التَّسَرُّعِ وَالْبَطْشِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ.
وَالْعَدْلُ يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَعَلَى خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ، وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ، وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ.
وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ)).
((مِنْ أَعْظَمِ مَيَادِينِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ:
مَيْدَانُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْمَيَادِينِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ الْهِمَمَ الْعَالِيَةَ، وَالْجِهَادَ وَالْمُصَابَرَةَ: مَيْدَانَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ بِقَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اقْرَأْ}؛ [العلق:1] مَضَتْ أَيَّامٌ طَالَتْ عَلَيْهِ جِدًّا لَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا صَارَ بِهِ رَسُولًا بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ مَا كَانَ بِهِ نَبِيًّا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1-2]، فَكَانَ لَا يَكَادُ يَنَامُ.
فَتَقُولُ لَهُ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَلَا تَنَامُ يَا رَسُولَ اللهِ؟!!)).
فَيَقُولُ لَهَا: ((مَضَى زَمَانُ النَّوْمِ يَا خَدِيجَةُ!!)).
كُلُّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ.. كُلُّ صَاحِبِ إِصْلَاحٍ.. كُلُّ دَاعٍ إِلَى الْخَيْرِ مَضَى زَمَانُ نَوْمِهِ، وَجَاءَ أَوَانُ عَنَائِهِ، وَالْمُتَعُ لَيْسَتْ هَاهُنَا، الْمُتَعُ هُنَالِكَ!!
فَأَمَّا مَنْ خَالَفَ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ يَتَسَاقَطُ، نَسْأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ، وَدَوَامَ الثَّبَاتِ، وَدَوَامَ الْعَافِيَةِ.
إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ فِي مَيْدَانِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ لَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَنُصْرَتِهِ، جِيلُ التَّأْسِيسِ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيَنْطَلِقُ بِهَا شَامِخًا عَالِيًا، قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ، قَدْ جَعَلَ الدُّنيَا مَعْدُومَةً فِي نَظَرِهِ، لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا، وَلَا يَتَأَمَّلُ فِيهَا.
مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ وَهُوَ أَوَّلُ سَفِيرٍ فِي الإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ كُلَّ حَسَنَاتٍ أَتَى بِهَا مَنِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ الَّذِي تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَهَذَا الصَّحَابِيُّ الَّذِي فَتَحَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِهِ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُقْرِئَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَوْفَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ؛ لِكَيْ يَكُونَ سَفِيرَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْشُرَ الْإِسْلَامَ فِي يَثْرِبَ؛ حَتَّى سُمِّيَتْ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ.
مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَاعَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا، نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ رِسَالَةٍ عَلَى الوَجْهِ الْأَتَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْفَانِي السَّاقِطِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى طَرِيقِهِ، لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.
هَذَا هُوَ الْجِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَالِيَةً شَامِخَةً فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْجِيلُ الَّذِي فَاخَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مَنْ جَاءَ بَعْدُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى هَذَا الْجِيلِ الْمُبَارَكِ الشَّرِيفِ.
هَذَا الْجِيلُ هُوَ الْجِيلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا بِحَقٍّ، وَهَذَا مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ أَعْطَرَ فَتًى فِي قُرَيشٍ، وَكَانَ أَنْهَدَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ أَجْمَلَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ عِطْرُهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا.
وَكَانَتْ أُمُّهُ عَظِيمَةَ الْيَسَارِ، كَثِيرَةَ الْمَالِ، وَكَانَتْ لَا تَبْخَلُ عَلَيهِ بِشَيْءٍ؛ حَتَّى إنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ فِيهِ لَمَّا رَآهُ: ((رَأَيْتُ هَذَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ يَغْذُوَانِهِ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ بِمَكَّةَ))، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا أَسْلَمَ لِلهِ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ وَقَالَبَهُ، وَأَلْقَى الْمَقَادَةَ بَينَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ، أَتَى بِأَطْمَارٍ بَالِيَاتٍ، لَمْ يُحَصِّلْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَرَّةً وَمَرَّةً، ثُمَّ عَادَ إلَى جِوَارِ النَّبِيِّ ﷺ، وَحُرِمَ مِنْ مُدُودِ الْيَسَارِ وَوَارِفِ الثَّرْوَةِ.
حَرَمَهُ أَبَوَاهُ مِن هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَبَأَ بِزَعْمِهِمَا، وَتَبِعَ مُحَمَّدًا ﷺ؛ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ قَدْ بَاعَ وَانْتَهَى الأَمْرُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اشْتَرَى، وَوَقَعَ الْبَيْعُ رَابِحًا.
وَإذَنْ؛ فَلَا يَلْتَفِتُ بَعْدَهَا أبَدًا، وَإنَّمَا يَتْبَعُ نَبِيَّهُ ﷺ، عَقْلٌ رَاجِحٌ بِحَقٍّ، وَعَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ تَقُومُ الأُمَمُ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الأُسُسُ المَكِينَةُ الرَّكِينَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا الصُّرُوحُ، وَعَلَى مِثْلِهَا تُؤَسَّسُ، عَلَى مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ!!
وَتَتَأَمَّلُ فِي حِكْمَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذْ ألْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمَانَةَ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَأَوْفَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ مُقْرِئًا هَؤُلَاءِ كِتَابَ اللهِ فِي يَثْرِبَ -كَانَتْ كَذَلِكَ تُسَمَّى إِلَى ذَلِكَ الْحِينِ حَتَّى هِجْرَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ-، وَهُوَ يَأْخُذُ بِزِمَامِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَلَا جَلَسْتَ حَتَّى تَسْمَعَ! فَإنْ كَانَ حَسَنًا قَبِلْتَهُ، وَإنْ كَانَ مَبْغُوضًا لَدَيْكَ، مَكْرُوهًا عنْدَكَ؛ كَفَفْنَا عَنْكَ مَا يَسُوؤُكَ)).
فَرَكَزَ الرَّجُلُ حَرْبَتَهُ، وَقَالَ: ((أَنْصَفْتَ)).
فَجَلَسَ، فَاسْتَمَعَ دَعَايَةَ الْإسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَتَلَا عَلَيْه مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، فَتَفَجَّرَ النُّورُ فِي أَطْوَاءِ صَدْرِهِ وَحَنَايَاهُ، ثُمَّ مَا زَالَ يُشْرِقُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى عَمَّ وَجْهَهُ وَأَرْكَانَ جَوَارِحِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ؛ قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَإِنَّمَا أَوْفَدَهُ إِلَى مُصْعَبٍ؛ لِكَيْ يَكُفَّهُ عَنْ إِغْوَاءِ السُّفَهَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَلَمَّا رَآهُ مُقْبِلًا؛ قَالَ: ((أُقْسِمُ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ به)).
لَا جَرَمَ إِنَّ لِلْإِيمَانِ نُورًا يَكْسُو الْوَجْهَ إِذَا كَانَ إِيمَانًا صَادِقًا وَصَحِيحًا، ثُمَّ جَاءَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَ مَا كَانَ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْحِكْمَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ شَدِيدًا عَنِيفًا، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ مُنَفِّرًا، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا بِغَيْرِ تَبْشِيرٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَالْأَمَانَةُ -وَهُوَ شَابٌّ بَعْدُ- عَلَى عَاتِقَيْهِ، فَحَمَلَهَا، وَكَانَ كُفْؤًا لَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
ثُمَّ عَادَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي يَثْرِبَ بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلَّا فِيهِ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهُ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبَعِ ذَلِكَ الشَّاعِرِ الَّذِى حَجَزَ قَوْمَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ إِلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، فَكَانَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ؛ تَأْخِيرًا لِلْهِدَايَةِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ بِأَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا ابْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِ مُصْعَبٍ قَالَ القَوْمُ: ((نَشْهَدُ إِنَّهُ لَقَدْ عَادَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ بِهِ)).
فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَيُّ شَيْءٍ أَنَا فِيكُمْ؟)).
قَالُوا: ((سَيِّدُنَا، وَمُقَدَّمُنَا، وَصَاحِبُ الرَّأْيِ فِينَا)).
فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّ كَلَامَ نِسَائِكُمْ وَرِجَالِكُمْ وَأَطْفَالِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُسْلِمُوا لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)).
[فَلَمْ يُمْسُوا فِي تِلْكَ الْعَشِيَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمُوا الزِّمَامَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
هَذَا الرَّجُلُ الْمُتَجَرِّدُ -وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ- خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا، وَعَلَى مِثْلِهَا فَقِسْ.
إِنَّ جِيلَ تَأْسِيسِ الدَّعْوَةِ الصَّحِيحَةِ إِلى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ دُنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ أَمًّا وَقَصْدًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
هَذَا الْأَمْرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى التَّجَرُّدِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَكَ بِكُلِّكَ، فَلَا يَقْبَلُ فِيكَ تَشْرِيكًا وَلَا تَبْعِيضًا، فَإِنْ لَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ بِكُلِّكَ؛ رَدَّكَ وَمَا أَشْرَكْتَ مَعَهُ.
عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَقِفَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِنَا مُتَأَمِّلِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَخْتَارَ.. إِمَّا الدُّنْيَا وَإِمَّا الْآخِرَةُ، وَالْجِيلُ الَّذِى يَحْمِلُ حِمْلًا صَادِقًا أَمِينًا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدُ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جِيلًا أَمِينًا بِحَقٍّ؛ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24].
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَالمَالُ يَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ بِالْفِتَنِ، يُحَصِّلُونَهُ مَا يُحَصِّلُونَهُ؛ مِنْ حَلَالٍ وَمِنْ حَرَامٍ!! وَلَكِنَّ جِيلَ التَّأْسِيسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا، الْجِيلُ الَّذِى يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُنِيرًا مُشْرِقًا.
((مِنْ مَظَاهِرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ:
عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالْبَذْلِ))
إِنَّ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى عُلُوِّ هِمَّةٍ وَرِفْعَةِ نَفْسٍ: خِدْمَةَ الْمُجْتَمَعِ، وَالْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْبَذْلَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ؛ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ -فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ-، فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثْبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».
وَيَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي: مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ- شَهْرًا».
لَأَنْ يَمْشِيَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ -أَيِّ حَاجَةٍ- مَا دَامَتْ مِمَّا يَرْضَى عَنْهُ الشَّرْعُ؛ فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِهِ شَهْرًا!!
زَمَنٌ طَوِيلٌ فِي اعْتِكَافٍ مَقْبُولٍ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ فِي بُقْعَةٍ طَاهِرَةٍ مُبَارَكَةٍ -هِيَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ-، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَشْيُهُ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ هِيَ أَفْضَلُ فَضْلًا، وَأَعْظَمُ قَدْرًا، وَأَحَبُّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الِاعْتِكَافِ الَّذِي طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَعَظُمَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ الْمُكَرَّمِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».
قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟
قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».
قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الخَيْرِ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».
حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ!!
إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ تَصَدَّقَ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ﷺ؛ فَفِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.
تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قَالُوا: الشَّمْلَةُ.
قَالَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا.
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَلَبِسَهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْسُنِيهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ»، وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.
ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ -أَيْ: أَصْحَابُ الرَّجُلِ-، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَائِمِينَ، وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا، قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا؛ أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنْظَرَةٍ -يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-، وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ؛ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.
فَكَانَتْ!!
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، كَمَا فِي «الصَّحِيحِ»: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ.
فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.
فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: ((إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ)).
يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَه.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَكْرَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْمَلَ النَّاسِ.
وَكَانَ ﷺ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ؛ فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ صَادَفَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُه يَوْمًا.
قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي، فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي: بِنِصْفِهِ-، حَتَّى وَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».
قُلْتُ: مِثْلَهُ.
قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.
فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»
قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا)).
فَأَذْعَنَ لَهُ بِالسَّبْقِ، وَصَدَّقَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَ فِي نَفْسِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الْيَوْمَ أَسْبِقُهُ إِنْ كُنْتُ سَابِقَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْهُ.
وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْنِزُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَطِيَّةٍ، وَهِبَةٍ، وَصِلَةٍ، وَبِرٍّ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ جُودُهُ لَا يُبْقِي لَدَيْهِ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيتَ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ.
وَهَذَا عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، جَهَزَّ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَحْدَهُ، وَاشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ، وَوَهَبَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ كَرِيمًا حَيِيًّا تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ ذُو النُّورَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي التَّارِيخِ أَنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَصَدَّقَ بِقَافِلَةٍ ضَخْمَةٍ، بِأَلْفِ بَعِيرٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالزَّيْتَ وَالزَّبِيبَ.. تَصَدَّقَ بِهَا جَمِيعِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عِنْدَمَا حَلَّتِ الضَّائِقَةُ الِاقْتِصَادِيَّةُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ التُّجَّارُ خَمْسَةَ أَضْعَافِ ثَمَنِهَا رِبْحًا، فَقَالَ: ((أُعْطِيتُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ!!)).
فَقَالَ التُّجَّارُ: ((مَنِ الَّذِي أَعْطَاكَ وَمَا سَبَقَنَا إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَنَحْنُ تُجَّارُ الْمَدِينَةِ؟!!)).
قَالَ: ((إِنَّ اللهَ أَعْطَانِي عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا)).
ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ!!
وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي سِيَرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ؛ لِذَلِكَ لَمْ تَظْهَرِ الرُّوحُ الطَّبَقِيَّةُ، وَلَمْ يَحْدُثِ الصِّرَاعُ الطَّبَقِيُّ، وَلَمْ يَتَكَتَّلِ النَّاسُ وَفْقَ مَصَالِحِهِمْ الِاقْتِصَادِيَّةِ؛ لِحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُمْ أَوْ تَحْتَهُمْ.
إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ لَمْ يَشْهَدْ صِرَاعَ الطَّبَقَاتِ، وَلَا يَعْرِفُ اسْتِعْلَاءَ غَنِيٍّ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا حَاكِمٍ عَلَى مَحْكُومٍ، وَلَمْ يَعْتَرِفِ ابْتِدَاءً بِاخْتِلَافِ الْبَشَرِ تَبَعًا لِأَلْوَانِهِمْ وَأَعْرَاقِهِمْ أَوْ دِمَائِهِمْ، فَالْمُسْلِمُونَ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ؛ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ!!)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ -أَيْ: إِنَّ أَجْرَهَا يَرُوحُ وَيَغْدُو عَلَيْكَ-، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ)).
فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: ((أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ!!)).
فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
عَبْدَ اللهِ! لَا تَبْغِ عَلَى الْإِطْعَامِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ صَدَقَتُكَ فِي يَدِ اللهِ، فَيُرَبِّيهَا لَكَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، يَعْنِي: مُهْرَهُ.
فَمَا يَزَالُ يَرْبُو وَيَرْبُو؛ حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ جَبَلًا مِنْ تَمْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى هَذَا وَمَا امْتَلَكْتُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا؟!!
يَقُولُ: «صَدَقَتُكَ فِي يَوْمِ كَذَا، مَا زِلْتُ أُرَبِّيهَا لَكَ»؛ يَعْنِي: أَزِيدُهَا لَكَ بَرَكَةً، وَعَطَاءً، وَبِرًّا؛ حَتَّى صارَتْ إِلَى مَا تَرَى.
وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابٍ وَمَنْ يَلِي.. يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ إِلَّا وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ مَلَكَيْنِ هُنَالِكَ قَائِمَيْنَ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
إِنَّ عَلَاقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ قَائِمَةٌ عَلَى الِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، لَا يَسْتَعْلِي غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا حَاكِمٌ عَلَى مَحْكُومٍ، وَلَا قَوِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ، ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). كَمَا رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ.
قَدْ تَفْتُرُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ، وَقَدْ تَنْقَطِعُ سَاعَةَ غَضَبٍ؛ لَكِنَّ انْقِطَاعَهَا لَا يَسْتَمِرُّ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ))، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَتُدْعَمُ أُسُسُ الْحُبِّ بِالصِّلَةِ وَالصَّدَاقَةِ: ((تَهَادُوا تَحَابُّوا)).
وَيَضَعُ الْغَنِيُّ أَمْوَالَهُ فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَسَدِّ الثَّغْرَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي بِنَائِهِ الِاقْتِصَادِيِّ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِي تَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ، فَيُخْرِجُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ، وَيُوَاسِي الْمُحَتَاجِينَ بِأَمْوَالِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ إِذَا كَثُرَتْ ثَرْوَتُهُ؛ إِذْ تَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْرِ وَالْمُوَاسَاةِ.
((مِنْ مَظَاهِرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْحَيَاةِ:
عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي الْعَمَلِ))
إِنَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمَجَالَاتِ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا أَهَمِّيَّةُ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الْعَمَلَ، وَلَقَدْ حَثَّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ وَحَضَّ نَبِيُّنَا ﷺ فِي سُنَّتِهِ عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْعَمَلِ؛ ((فَفِي الِاكْتِسَابِ وَالْعَمَلِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ:
* فِيهِ: مَعْنَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
* وَفِيهِ: طَلَبُ الْفَضْلِ مِنْهُ؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].
* وَأَيْضًا؛ يُسْتَعَانُ بِالِاكْتِسَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].
* وَبِالِاكْتِسَابِ يَتَعَفَّفُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا؛ فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
* وَفِي الِاكْتِسَابِ: الِانْشِغَالُ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِنْ فَضْلِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ: الشُّغُلُ بِالْأَمْرِ الْمُبَاحِ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، وَفِيهِ كَسْرُ النَّفْسِ بِذَلِكَ)).
* وَمِنْ فَضَائِلِ الِاكْتِسَابِ: أَنَّ فِي الْعَمَلِ قُوَّةً لِلْأُمَّةِ؛ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ)).
وَلَيْسَ أَدَلَّ عَلَى شَرَفِ الْعَمَلِ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ (سلم3) كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ ((فَإِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].
وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).
وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].
وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟
قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا؟!)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ!)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ))؛ أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ؛ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)). هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يَكْتَسِبُ مِنْهَا، فَلَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ؛ شُغِلَ عَنْ حِرْفَتِهِ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرَضَ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَآلُهُ.
وَقَوْلُهُ: ((وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ))؛ أَيْ: أَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَتَمْيِيزِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ -وَكَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مَشْغُولًا-، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى...)) الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!!))؛ يَتَعَجَّبُ مِنْ حَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ: ((أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ))؛ يَعْنِي: الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ.
الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ يُتَاجِرُ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَمَّا فَاتَتْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ سُنَنِ الِاسْتِئْذَانِ؛ صَارَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، قَالَ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!! أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ)).
وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ)).
فَقَالَا: ((كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَ((الصَّرْفُ)): مُبَادَلَةُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ، يُعْرَفُ الْآنَ بِبَيْعِ الْعُمْلَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).
قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ؛ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ؛ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)).
هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ فِي زُرُوعِهِمْ، وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ، فَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَأُزَوِّجُكَ.
قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.. فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-...)).
وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ، ثُمَّ تُبْعَثُ.
قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!
فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا} [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي: بِنْتَ جَحْشٍ (رَضِي اللهُ عَنْهَا، وَعَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ)- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ، وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.
فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.
((مِنْ مَظَاهِرِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فِي الْأُمَّةِ:
عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي إِعْدَادِ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ))
مِنْ أَهَمِّ الْمَجَالَاتِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ هِمَّةً عَالِيَةً، وَنَفْسًا سَامِيَةً: الْجِهَادُ، وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لِلدِّفَاعِ عَنْ دِينِ الْأُمَّةِ وَمُقَدَّسَاتِهَا، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.
وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَّزَةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرِينَ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَظْهَرُ لَكُمْ عَدَاوَتُهُمُ الْآنَ؛ لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُمْ.
وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمَالِيِّ؛ فَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ، وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ صَفًّا فِي خُطَّةٍ مَرْسُومَةٍ مُوَحَّدَةٍ جَامِعَةٍ لِلْقُوَى، وَيَثْبُتُونَ فِي الْجِهَادِ، وَيُنَفِّذُونَ أَوَامِرَ قِيَادَتِهِمُ الْحَرْبِيَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مُحْكَمٌ مُتَنَاسِقٌ قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ.
وَقَدْ تَقْضِي الْخُطَّةُ الْحَكِيمَةُ الَّتِي تَضَعُهَا الْقِيَادَةُ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضُ الْمُقَاتِلِينَ، وَيَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونَ قِسْمٌ مِنْهُمْ فِي الْكَمَائِنِ، وَأَنْ يُدَاهِمُوا الْعَدُوَّ مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الشَّكْلِ مُتَنَوِّعَاتِ السِّلَاحِ.
وَلَيْسَ مَعْنَى وِحْدَةِ صَفِّ الْمُقَاتِلِينَ أَنْ يُوَاجِهُوا عَدُوَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الصَّفِّ الْمُتَرَاصِّ كَتِفًا بِكَتِفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُمَكِّنُ الْعَدُوَّ مِنْ حَصْدِهِمْ بِالْأَسْلِحَةِ النَّارِيَّةِ الْحَدِيثَةِ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ.
وَفِي الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ يُوَاجِهَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ أَعْدَاءَهُ صَفًّا سَوِيًّا رَاسِخًا؛ كَالْبُنْيَانِ الَّذِي تَتَعَاوَنُ لَبِنَاتُهُ، وَتَتَضَامُّ وَتَتَمَاسَكُ، وَتُؤَدِّي كُلُّ لَبِنَةٍ دَوْرَهَا، وَتَسُدُّ ثَغْرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ كُلَّهُ يَنْهَارُ إِذَا تَخَلَّتْ مِنْهُ لَبِنَةٌ عَنْ مَكَانِهَا؛ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ، أَوْ تَخَلَّتْ عَنْ أَنْ تُمْسِكَ بِأُخْتِهَا تَحْتَهَا، أَوْ فَوْقَهَا، أَوْ عَلَى جَانِبَيْهَا؛ سَوَاءٌ.
((مِنْ مَيَادِينِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ:
مَيْدَانُ خِدْمَةِ الْوَطَنِ))
إِنَّ مَيْدَانَ خِدْمَةِ الْوَطَنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَيَادِينِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ؛ فَـ ((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ، حَقُّ اللهِ.. وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ!! وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ.. وَمَا أَعْظَمَهُ!! وَحَقُّ النَّفْسِ.. وَمَا أَلْزَمَهُ!! إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.
فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ: صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ، وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.
رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ، وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.
فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعْدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!
عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.
وَكَالرَّوْضِ؛ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».
وَمِنَ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ فِي خِدْمَةِ الْوَطَنِ الْغَالِي الْحَبِيبِ: تَعْلِيمُ الْعِلْمِ، وَحَفْرُ آبَارِ الْمِيَاهِ، أَوْ تَوْفِيرُ الْمِيَاهِ النَّقِيَّةِ، وَغَرْسُ النَّخْلِ، وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَنَشْرُ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٌ فِي «الْحِلْيَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
لَقَدْ كَانَ أَغْنِيَاءُ الصَّحَابَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَخْلَفُونَ عَلَى الْمَالِ الَّذِي اكْتَسَبُوهُ، فَإِذَا وَجَدُوا ثُغْرَةً تَعْجِزُ الدَّوْلَةُ عَنْ سَدِّهَا، أَوْ لَا تَنْتَبِهُ لَهَا؛ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَدِّهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا كَأَبْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ نَسْعَى لِهَدَفٍ وَاحِدٍ؛ هُوَ إِصْلَاحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِصْلَاحًا دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَلَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ حَتَّى تَتَّفِقَ كَلِمَتُنَا، وَنَتْرُكَ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَنَا، وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي لَا تُحَقِّقُ هَدَفًا؛ بَلْ رُبَّمَا تُفَوِّتُ مَقْصُودًا، وَتُعْدِمُ مَوْجُودًا.
إِنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَفَرَّقَتْ؛ دَخَلَتِ الْأُمُورَ الْأَهْوَاءُ وَالضَّغَائِنُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يَسْعَى لِتَنْفِيذِ كَلِمَتِهِ؛ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي خِلَافِهَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعْنَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَدَرَسْنَا الْمَوْضُوعَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى مَا نَرَاهُ مُمْكِنًا نَافِعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَصَالِحِنَا الْخَاصَّةِ؛ حَصَلَ لَنَا بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
وَثِقُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- أَنَّكُمْ مَتَى أَخْلَصْتُمُ النِّيَّةَ، وَسَلَكْتُمُ الْحِكْمَةَ فِي الْحُصُولِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَإِنَّ اللهَ سَيُيَسِّرُ لَكُمُ الْأُمُورَ، وَيُصْلِحُ لَكُمُ الْأَعْمَالَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! لَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ بِالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا()، وَهَذَا هُوَ الْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِكُلِّ شَعْبٍ مُؤْمِنٍ، أَنْ يَتَعَاوَنَ أفْرَادُهُ فِي إِقَامَةِ بِنَائِهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ تَشْيِيدَ هَذَا الْبِنَاءِ، وَتَمَاسُكَهُ وَإِحْكَامَهُ؛ بِحَيْثُ يُكَمِّلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُقَوِّمُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا إِيمَانَ كَامِلٌ مَعَ التَّفَرُّقِ، وَلَا بِنَاءَ مُحْكَمٌ مَعَ التَّفَكُّكِ.
أَرَأَيْتُمْ لَوْ أُخِذَ مِنَ الْبِنَاءِ لَبِنَةٌ؛ أَلَا يَنْقُصُ هَذَا الْبِنَاءُ؟!
فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ اللَّبِنَاتُ مُتَنَاثِرَةً مُتَنَافِرَةً؛ بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَهْدِمُ الْأُخْرَى وَتُزَلْزِلُهَا؟!!
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي كُلِّ صَوْبٍ.. اجْتَمِعُوا عَلَى الْحَقِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَبْعُدُوا شَطَطًا، وَلَا تَقُولُوا بَاطِلًا، وَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».
((عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مِنَ الْمَيَادِينِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَسْمُوَ هِمَمُنَا فِي التَّرَقِّي فِيهَا وَتَعْلُو: مَيْدَانُ الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ؛ بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيِ: الْإِسْلَامَ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ، الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ؛ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ؛ وَإِلَّا فَمَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً؛ عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِيُّهَا وَدُنْيَوِيُّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ، وَفِي الْأَنْفُسِ، وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ؛ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.
((نَمَاذِجُ مُضِيئَةٌ فِي عُلُوِّ الْهِمَّةِ))
هَذِهِ نَمَاذِجُ مُضِيئَةٌ تَجَسَّدَتْ فِيهَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَسُمُوُّ الرُّوحِ، وَرِفْعَةُ النَّفْسِ:
عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ؛ غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا، فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ؛ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ، فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.
فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).
ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ: مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)).
خُذْ هَذَا السَّبْيَ، فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا، وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً، وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا، يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ: ((أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ، فَأَدْخُلَ الجَنَّة))، فَوَكَلَهُ اللهُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ!! فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.
هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ، حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ، حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالمِينَ، لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ وَمَشَقَّةٌ، وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَابْنُ الْجَمُوحِ كَانَ مَا كَانَ مِنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا يَضْرِبُ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَيُطِنُّهَا فَيُطِيحُ بِهَا، كَمَا تَخْرُجُ النَّوَاةُ مِنْ تَحْتِ الرَّحَى بِسِفَالِهَا.
وَيَأْتِي عِكْرِمَةُ، فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، فَيُطِنُّ ذِرَاعَهُ إِلَّا جِلْدَةً تَظَلُّ الذِّرَاعُ مُمْسِكَةً فِي الْجَسَدِ بِسَبَبِهِا.
يَقُولُ: قَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهِيَ كَذَلِكَ -يَعْنِي: ذِرَاعَهُ-، مَا زَالَتْ مُمْسِكَةً بِجِلْدَةٍ فِي جَسَدِهِ، لَمْ تَنْفَصِلْ عَنْ جَسَدِهِ بَعْدُ!!
قَالَ: فَآذَتْنِي!!
يُقَاتِلُ عَامَّةَ يَوْمِهِ وَهِيَ كَذَلِكَ، تَرُوحُ وَتَجِيءُ كَبِنْدُولِ السَّاعَةِ، تَتَحَرَّكُ كَمَا قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا، لَمْ تَعُدْ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ إِرَادَةٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهَا عَلَى حَسَبِ قَدَرِ رَبِّهَا فِيهَا؛ تَرُوحُ وَتَجِيءُ، قَالَ: فَآذَتْنِي.
فَمَا تَظُنُّهُ فَاعِلًا؟!!
أَيْنَ تَذْهَبُ تِلْكَ الْأَعْصَابُ الْحَامِلَاتُ لِلْأَلَمِ إِلَى الْمُخِّ، تُتَرْجِمُ بِمَرَاكِزِهَا فِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُفْظِعِ الَّذِي يَذْهَلُ مِنْهُ الْعَقْلُ إِذَا مَا زَادَ؟!! يَصِلُ الْأَلَمُ أَحْيَانًا بِالْجَسَدِ الْحَيِّ إِلَى مَرْحَلَةِ الذُّهُولِ، فَيَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَاتِهِ؛ حَتَّى يَغِيبَ وَهُوَ غَيْرُ غَائِبٍ، وَحَتَّى يُغَيَّبَ وَهُوَ حَاضِرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِسَّ شَيْئًا، وَلَا يُدْرِكُ مِمَّا حَوْلَهُ أَمْرًا، مَا هَذَا الْأَلَمُ عِنْدَئِذٍ؟!
وَهَذَا رَجُلٌ تُؤْذِيهِ ذِرَاعُهُ وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِجَسَدِهِ بِجِلْدَةٍ؛ فَمَا يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟
قَالَ: فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ آذَتْنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُهَا تَحْتَ رُكْبَتِي -أَوْ قَالَ تَحْتَ قَدَمِي-، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ.
ثُمَّ يَتَمَطَّى فَيَفْصِلُهَا، وَيَعُودُ إِلَى الْمَعْرَكَةِ؛ مِنْ أَجْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَيْنَ الْأَلَمُ؟!
يَسْتَعْلِي بِرُوحِهِ فَوْقَ الْأَلَمِ!!
وَآخَرُ يَأْتِيهِ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ بِغَدْرٍ، وَمَا كَانَ مُوَلِّيًا، وَمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ -حَتَّى فِي جَاهِلِيَّتِهِ- يَخْشَى أَنْ يَأْتِيَهُ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَلِّي الْأَدْبَارَ؛ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ يَأْتِيهِ رُمْحٌ غَادِرٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَهَا هُوَ يَخْرُجُ بِنَصْلِهِ مِنْ أَمَامَ، هَا هُوَ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ يَأْتِي يَدْفَعُهُ الْغِلُّ، وَيُزْجِيهِ الْحِقْدُ، وَهَا هُوَ يَبْزَغُ مِنَ اللَّحْمِ الْحَيِّ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الْعَطْشَى لِتَسْتَقْبِلَ مَاءَ السَّمَاءِ، كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الَّتِي أَصَابَهَا الْغَيْثُ عَنِ النَّبْتِ الْأَخْضَرِ يَتَرَعْرَعُ بِالنَّمَاءِ.
هَا هُوَ صَدْرُهُ يَنْفَجِرُ شَيْئًا فَشَيْئًا!!
هَا هُوَ سَهْمٌ مِنَ النَّارِ تَتَلَظَّى بِهِ الْجُنُوبُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ!!
وَهَا هُوَ النَّصْلُ يَخْرُجُ حَادًّا ثَقِيلًا، وَهَا هِيَ الدِّمَاءُ تَنْبَثِقُ مُنْفَجِرَةً مِنْ أَمَامَ؛ أَيَنْكَفِئُ عَلَى أَلَمِهِ، أَمْ يَسْتَعْلِي فَوْقَ أَلَمِهِ؟!!
هَا هُوَ وَالدَّمُ يَنْبَثِقُ كَالنَّافُورَةِ مِنْ أَمَامَ يَحْفِنُ، هَكَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُوحِي الْجَلِيلِ؛ يَحْفِنُ الدِّمَاءَ الْمُنْبَثِقَةَ الْمَوَّارَةَ الْفَوَّارَةَ بِكَفَّيْهِ، وَيُلْقِي بِهَا جِهَةَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
أَيُّ إِيمَانٍ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ هَذَا.. وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
وَفِي الْمُقَابِلِ مَا إِيمَانُنَا نَحْنُ؟!! وَمَا الْيَقِينُ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ؟!! وَأَيُّ اسْتِعْلَاءٍ؟!! وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
جِدٌّ مَا فِيهِ هَزْلٌ، وَيَقِينٌ مَا فِيهِ شَكٌّ، وَاسْتِعْلَاءٌ مَا فِيهِ سُفُولٌ!!
وَأَمَّا نَحْنُ؛ فَمَنْ نَكُونُ؟!! وَمَا نَكُونُ؟!!
أَلَا إِنَّ النَّاظِرَ فِي أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- يَعْلَمُ أَيْنَ يَكْمُنُ السِّرُّ؛ السِّرُّ بَيْنَ عِزِّهِمْ وَذُلِّنَا.
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَعْلَوْا وَتَسَفَّلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُعْطُوا وَحُرِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَزُّوا وَذَلَلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْتَصَرُوا وَهُزِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَاشُوا وَمِتْنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ!!
هَذَا السِّرُّ إِنَّمَا يَكْمُنُ فِي هَذَا الْجِدِّ الْجَادِّ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْهَزْلِ الْهَزِيلِ.
إِنَّهُمْ قَدْ عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللهِ الْمَعُونَةَ وَالنُّصْرَةَ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((ثَمَرَاتُ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ))
لَقَدْ أَخْبَرَنَا -تَعَالَى ذِكْرُهُ- أَنَّ عَمَلَ كُلِّ عَامِلٍ سَوْفَ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ} [النجم: 38-41].
كُلُّ عَامِلٍ لَهُ عَمَلُهُ الْحَسَنُ وَالسَّيِّئُ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَسَعْيِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَتَحَمَّلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ذَنْبًا، {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فِي الْآخِرَةِ، فَيُمَيَّزُ حَسَنُهُ مِنْ سَيِّئِهِ {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}؛ أَيِ: الْمُسْتَكْمِلُ لِجَمِيعِ الْعَمَلِ الْحَسَنِ الْخَالِصِ بِالْحُسْنَى، وَالسَّيِّئُ الْخَالِصُ بِالسُّوأَى، وَالْمَشُوبُ بِحَسَبِهِ؛ جَزَاءً تَقَرُّ بِعَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ الْخَلِيقَةُ كُلُّهَا، وَتَحْمَدُ اللهَ عَلَيْهِ.
إِنَّ لِلْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ كَثِيرًا مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنْهَا:
* الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ السَّعِيدَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- وَوَعَدَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَبِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَفِي دَارِ الْقَرَارِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ وَاضِحٌ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ، الْمُثْمِرَ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُصْلِحِ لِلْقُلُوبِ وَالْأَخْلَاقِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.. مَعَهُمْ أُصُولٌ وَأُسُسٌ يَتَلَقُّونَ فِيهَا جَمِيعَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ السُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ، وَأَسْبَابِ الْقَلَقِ وَالْهَمِّ وَالْأَحْزَانِ.
يَتَلَقُّونَ الْمَحَابَّ وَالْمَسَارَّ بِقَبُولٍ لَهَا، وَشُكْرٍ عَلَيْهَا، وَاسْتِعْمَالٍ لَهَا فِيمَا يَنْفَعُ، فَإِذَا اسْتَعْمَلُوهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ أَحْدَثَ لَهُمْ مِنَ الِابْتِهَاجِ بِهَا، وَالطَّمَعِ فِي بَقَائِهَا وَبَرَكَتِهَا، وَرَجَاءِ ثَوَابِ الشَّاكِرِينَ أُمُورًا عَظِيمَةً تَفُوقُ بِخَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا هَذِهِ الْمَسَرَّاتِ الَّتِي هَذِهِ ثَمَرَاتُهَا.
وَيَتَلَقُّونَ الْمَكَارِهَ وَالْمَضَارَّ وَالْهَمَّ وَالْغَمَّ بِالْمُقَاوَمَةِ لِمَا بِمَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهُ بِهِ، وَبِتَخْفِيفِ مَا يُمْكِنُهُمْ تَخْفِيفُهُ، وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ لِمَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ بُدٌّ.
وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ آثَارِ الْمَكَارِهِ مِنَ الْمُقَاوِمَاتِ النَّافِعَةِ، وَالتَّجَارِبِ وَالْقُوَّةِ، وَمِنَ الصَّبْرِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ أُمُورًا عَظِيمَةً تَضْمَحِلُّ مَعَهَا الْمَكَارِهُ، وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا الْمَسَارُّ وَالْآمَالُ الطَّيِّبَةُ، وَالطَّمَعُ فِي فَضْلِ اللهِ وَثَوَابِهِ، كَمَا عَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُفِيدَةِ لِلْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ؛ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ تِلْكَ الْوَسَائِلِ؛ بَلْ هُوَ أَصْلُ تِلْكَ الْوَسَائِلِ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي مِنَ الْوَسَائِلِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ ((الْإِيمَانُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ)).
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: قُوَّةُ الْقَلْبِ الْوَاقِيَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالِاضْطِرَابَاتِ النَّفْسِيَّةِ؛ فَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ لِأَمْرَاضِ الْقَلْبِ الْعَصَبِيَّةِ؛ بَلْ وَأَيْضًا لِلْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ: قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَعَدَمُ انْزِعَاجِهِ وَانْفِعَالِهِ لِلْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ الَّتِي تَجْلِبُهَا الْأَفْكَارُ السَّيِّئَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى اسْتَسْلَمَ لِلْخَيَالَاتِ، وَانْفَعَلَ قَلْبُهُ لِلْمُؤَثِّرَاتِ؛ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَغَيْرِهَا، وَمِنَ الْغَضَبِ وَالتَّشَوُّشِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَةِ، وَمِنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ الْمَكَارِهِ وَزَوَالِ الْمَحَابِّ؛ أَوْقَعَهُ ذَلِكَ فِي الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالِانْهِيَارِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي لَهُ آثَارُهُ السَّيِّئَةُ الَّتِي قَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مَضَارَّهَا الْكَثِيرَةَ.
وَمَتَى اعْتَمَدَ الْقَلْبُ عَلَى اللهِ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلْأَوْهَامِ، وَلَا مَلَكَتْهُ الْخَيَالَاتُ السَّيِّئَةُ، وَوَثِقَ بِاللهِ، وَطَمِعَ فِي فَضْلِهِ؛ انْدَفَعَتْ عَنْهُ بِذَلِكَ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ، وَزَالَتْ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَسْقَامِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ، وَحَصَلَ لِلْقَلْبِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالِانْشِرَاحِ وَالسُّرُورِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ.
فَكَمْ مُلِئَتِ الْمُسْتَشْفَيَاتُ مِنْ مَرْضَى الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ!! وَكَمْ أَثَّرَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ؛ فَضْلًا عَنِ الضُّعَفَاءِ!! وَكَمْ أَدَّتْ إِلَى الْحُمْقِ وَالْجُنُونِ!! وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللهُ، وَوَفَّقَهُ لِجِهَادِ نَفْسِهِ؛ لِتَحْصِيلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ الْمُقَوِّيَةِ لِلْقَلْبِ، الدَّافِعَةِ لِقَلَقِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أَيْ: كَافِيهِ جَمِيعَ مَا يَهُمُّهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
فَالْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللهِ قَوِيُّ الْقَلْبِ، لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُزْعِجُهُ الْحَوَادِثُ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ، وَمِنَ الْخَوَرِ وَالْخَوْفِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَيَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ بِالْكِفَايَةِ التَّامَّةِ، فَيَثِقُ بِاللهِ، وَيَطْمَئِنُّ لِوَعْدِهِ، فَيَزُولُ هَمُّهُ وَقَلَقُهُ، وَيَتَبَدَّلُ عُسْرُهُ يُسْرًا، وَتَرَحُهُ فَرَحًا، وَخَوْفُهُ أَمْنًا.
فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى الْعَافِيَةَ، وَأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ الْقَلْبِ وَثَبَاتِهِ بِالتَّوَكُّلِ الْكَامِلِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللهُ لِأَهْلِهِ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَدَفْعِ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَضَيْرٍ)).
* مِنْ ثَمَرَاتِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: التَّحَلِّي بِمَعَالِي الْخِصَالِ، وَالنَّظَرُ إِلَى أَسْمَى الْآمَالِ، وَالْبُعْدُ عَنِ السَّفَاسِفِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّـهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحِبُّ مَعَالِيَ الْخِصَالِ -يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ-، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا».
* مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِصِدْقٍ وَعَزْمٍ، الَّذِي مِنْ ثَمَرَاتِهِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللهِ، وَالنَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجْلِنَا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَاتِّخَاذِ السُّبُلِ لِلْهِجْرَةِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ؛ لَنُوَفِّقَنَّهُمْ إِلَى سُبُلِ نَجَاتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَتَيْسِيرِ طُرُقِ هِجْرَةٍ آمِنَةٍ مَعَهَا تَأْمِينُ رِزْقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ.
{وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}: مُصَاحِبٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ.
* مِنْ ثَمَرَاتِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ بِهِ؛ حَتَّى يَصِيرَ الْمُسْلِمُ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاجْتِنَابًا لِنَهْيِهِ، وَقَدْ كَانَ ﷺ يُجَسِّدُ الدِّينَ تَجْسِيدًا، فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلَّا وَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ إِتْيَانًا لَهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ النَّاسِ انْتِهَاءً عَنْهُ، وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، فَصَلَّى اللهُ -تَعَالَى- وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
وَالنَّاسُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: فِعْلُ رَجُلٍ أَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ؛ فَالدَّلِيلُ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ نَتَائِجِ عُلُوِّ الْهِمَّةِ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ؛ فَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَغْضَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَالْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ تَرْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ؛ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ.
وَالسَّبْقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ نَوْعًا مِنَ التَّنَافُسِ الْحَمِيدِ الَّذِي يَرْقَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.
وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ يُدْرِكُونَ مَقَاصِدَهُمْ، وَلَا يَرْجِعُونَ خَائِبِينَ أَبَدًا، وَيَدْخُلُونَ إِذَا مَا سَابَقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
الْمُسَارَعَةُ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ-، وَالذَّهَابُ إِلَيْهَا فِي السَّاعَةِ الْأُولَى يُعَظِّمُ الْأَجْرَ، وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ.
وَالْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْفِتَنِ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ، وَكَذَلِكَ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ وَتُلْهِيهِ؛ مِثْلَ: الْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْغِنَى الْمُطْغِي، أَوِ الْهَرَمِ -يَعْنِي: بُلُوغَ أَقْصَى الْعُمُرِ-.
وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَعَدَمُ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى يَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي فَضِيلَةٍ يَسْبِقُ بِهَا المُتَخَلِّفِينَ فِي أَبْعَدِ مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ.
* إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ وَالْأَوْطَانِ الْقَوِيَّةِ، فَعُلُوُّ الْهِمَّةِ يَدْفَعُ إِلَى الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
* أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ عُلُوَّ الْهِمَّةِ سَبَبُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْآمَالِ النَّبِيلَةِ السَّامِيَةِ، وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!!
كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا=فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ.
((ضَعْفُ الْهِمَّةِ وَالْعَجْزُ الْقَبِيحُ!!))
يَقُولُ الشَاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا=كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
هَذَا الشَّاعِرُ يُقَرِّرُ حَقِيقَةً مِنَ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يُمَارِي فِيهَا عَاقِلٌ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَكْبَرَ عُيُوبِ الْمَرْءِ: أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْأَدَوَاتِ وَالْوَسَائِلِ، وَأَنَّ يَمُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقْدِرَةِ وَالْقُدْرَةِ بِمَا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَنْ يَتِمَّ تَمَامُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ!!
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا=كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَرْجِعُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى الْعَجْزِ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُبْغِضُ الْعَجْزَ وَيَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قُدْرَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ خَيِّرًا، وَنَافِعًا، وَصَالِحًا، وَمُجْتَهِدًا، وَمُتَعَلِّمًا، وَعَالِمًا، فَفَرَّطَ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَرَضِيَ بِالدُّونِ؛ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ خَطِيرَةٌ وَقَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ خَلَلًا مَا فِي فِطْرَتِهِ، أَصَابَ هَذِهِ الْفِطْرَةَ هَذَا الْخَلَلُ، فَحَرَفَهَا عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ.
تَعْلَمُونَ -بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ- قِصَّةَ الْمَلِكِ الَّذِي اتَّخَذَ حَوْضًا، ثُمَّ أَرْسَلَ مُنَادِيَهُ لِيُنَادِيَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ اللَّبَّانِينَ إِذَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَمْلَئُوا الْحَوْضَ لَبَنًا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ؛ فَلِكُلٍّ جَائِزَةٌ سَنِيَّةٌ لَا تَدُورُ لَهُ عَلَى بَالٍ.
اجْتَمَعَ اللَّبَّانُونَ، وَاتَّفَقُوا بَيْنَهُمْ -وَكَانُوا كَثِيرِينَ- عَلَى أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِدَلْوٍ مِنْ لَبَنٍ؛ لِيَسْكُبَهُ فِي الْحَوْضِ، وَقُدَّرُوا لِكَثْرَتِهِمْ أَنَّ كُلًّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ أَتَى بِدَلْوٍ وَاحِدٍ فَجَعَلَهُ فِي الْحَوضِ؛ فَإِنَّهُ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ سَيَكُونُ الْحَوضُ قَدْ أُتْرِعَ، وَقَدِ امْتَلَأَ؛ غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ تَأْتِيهِمْ أُمُورٌ كَمَا مَرَّ فِي بَيْتِ الشَّاعِرِ الْقَدِيْمِ.
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا=كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ
تَأْتِي لِلنَّاسِ أُمُورٌ، فَتَقْعُدُ بِهِمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى خَيْرٍ مِمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَمَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمُورُ تَشُدُّهُمْ إِلَى أَسْفَلَ، وَالنَّاسُ يَرْتَقُونَ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَهُمْ إِلَى الْأَسْفَلِ مُنْصَبُّونَ مُنْحَدِرُونَ.
فَكَّرَ وَاحِدٌ مِنَ اللَّبَّانِينَ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، قَالَ لِنَفْسِهِ: إِنَّنَا قَدِ اتَّعَدْنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَتَوَاعَدْنَا عَلَى أَنْ نَجْعَلَ اللَّيْلَ -وَهُوَ سَاتِرٌ وَلِبَاسٌ- مَحَلًّا لِحَرَكَتِنَا، بِأَخْذِ دِلَاءِ اللَّبَنِ إِلَى حَوْضِ الْمَلِكِ.
إِذَنْ؛ هَذَا الظَّلَامُ يَسْتُرُنَا، فَلَوْ أَنِّي أَخَذْتُ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ -لَا دَلْوًا مِنْ لَبَنٍ-، فَجَعَلْتُهُ فِي الْحَوْضِ؛ فَمَا يَبْلُغُ دَلْوِي فِي دِلَاءِ إِخْوَانِي مِنَ اللَّبَّانِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ؟!!
مَا يَبْلُغُ دَلْوِي إِذَا كَانَ مِنْ مَاءٍ فِي وَسَطِ هَذِهِ الدِّلَاءِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً؟!! فَإِذَا مَا جُعِلَ هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَوْضِ؛ فَلَنْ يَظْهَرَ لِمَا صَنَعْتُ أَثَرٌ!!
فَكَّرَ هَذَا اللَّبَّانُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَأَخَذَ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ يَسْتُرُهُ اللَّيْلُ بِلِبَاسِهِ الْأَسْوَدِ، وَذَهَبَ اللَّبَّانُونَ، كُلٌّ يَأْتِي مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، يَجْعَلُ دَلْوَهُ مُفْرَغًا فِي حَوْضِ الْمَلِكِ.
لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ؛ جَاءَ الْمَلِكُ، وَانْتَحَى اللَّبَّانُونَ نَاحِيَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَايِنَ حَوْضَهُ، فَإِذَا مَا وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا طَلَبَ؛ فَإِنَّهُ يُنْفِذُ -حِينَئِذٍ- وَعْدَهُ الَّذِي وَعَدَ.
جَاءَ الْمَلِكُ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ وَالْحَاشِيَةُ، فَنَظَرَ مُطَّلِعًا فِي الْحَوْضِ؛ فَإِذَا هُوَ قَدِ امْتَلَأَ بِالْمَاءِ، وَلَا أَثَرَ لِلَّبَنِ فِيهِ؛ مِنْ أَيْنَ أَتَى هَذَا الْمَاءُ؟!!
أَتَى مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّبَّانِينَ فَكَّرَ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ -أَوْ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا- الَّتِي فَكَّرَ بِهَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَى بِدَلْوِ الْمَاءِ، كُلٌّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: مَا يَبْلُغُ دَلْوِي فِي الدِّلَاءِ؟!!
النَّبِيُّ ﷺ أَتَى لَنَا بِمَثَلٍ هُوَ أَكْرَمُ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ، وَبَيَّنَ لَنَا فِيهِ نَبِيُّنَا ﷺ مَا هُوَ أَحْلَى وَأَجْمَلُ وَأَكْمَلُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ)).
قَالُوا: وَمَا مُحَقَّرَاتُ الذُّنُوبِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَضَرَبَ لَهَا مَثَلًا ﷺ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ»، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: «كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا».
فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَقِرُ ذَنْبَهُ، وَلَا يَعُدُّهُ شَيْئًا، فَمَا يَزَالُ ذَنْبٌ مُحْتَقَرٌ يُجْمَعُ إِلَى ذَنْبٍ مُحْتَقَرٍ، تَمَامًا كَصَاحِبِ الْحَطَب يَأْتِي بِالْعُودِ، وَيَأْتِي الْآخَرُ بِالْعُودِ؛ حَتَّى يَجْتَمِعَ كَوْمٌ مِنْ حَطَبٍ، فَإِذَا أُوقِدَ فِي هَذَا الْحَطَبِ النَّارُ؛ فَإِنَّهَا لَا شَكَّ تَحْرِقُ مَا يُوضَعُ فِيهَا، أَوْ تُنْضِجُهُ.
كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ))؛ يَعْنِي: حَذَارِ أَنْ تَنْظُرَ لِذَنْبٍ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَهَّبَ مِنْ هَذَا، مَعَ أَنَّ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ -وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ- لِاجْتِمَاعِ مَا يَحْتَقِرُهُ الْمَرْءُ مِنْ ذُنُوبِهِ؛ فَإِنَّهَا لِاجْتِمَاعِهَا تَمَامًا كَصَاحِبِ الْحَطَبِ يَأْتِي بِالْعُودِ، وَصَاحِبُهُ يَأْتِي بِالْعُودِ؛ حَتَّى يُشْعِلُوا نَارًا، فَهَذَا مَثَلٌ لِاجْتِمَاعِ مُحَقَّرَاتِ الذُنُوبِ.
إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ ذَنْبًا مُحْتَقَرًا وَاحِدًا؛ وَهَذَا الذَّنْبُ الْمُحْتَقَرُ الْوَاحِدُ لَا يُجْمَعُ إِلَيْهِ ذَنْبٌ آخَرُ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَقَرًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذَا الذَّنْبُ الْوَاحِدُ الَّذِي قَدْ يَحْتَقِرُهُ الْإِنْسَانُ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.. لَا يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ مُحْتَقَرٍ مَعَهُ حَتَّى يَكُونَ كَصَاحِبِ الْحَطَبِ، وَإِنَّمَا يَكْفِي هُوَ وَحْدَهُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصْلَى الْإِنْسَانُ النَّارَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ».
إِذَنْ؛ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ كَيِّسًا، وَكَانَ عَاقِلًا، وَيُرِيدُ آخِرَتَهُ، وَيُرِيدُ أَلَّا يُضَيِّعَ حَيَاتَهُ الْبَاقِيَةَ، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَرِيصًا عَلَى آخِرَتِهِ، شَحِيحًا بِدِينِهِ، ضَنِينًا بِيَقِينِهِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَلَّا يَحْتَقِرَ ذَنْبًا، وَإِذَا مَا هَمَّ بِذَنْبٍ؛ فَعَلَيْهِ أَلَّا يَنْظُرَ إِلَى صِغَرِ الذَّنْبِ الَّذِي يَهُمُّ بِارْتِكَابِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ يَعْصِي؛ فَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى صِغَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ تَأَمَّلْ فِي جَلِيلِ قَدْرِ وَعَظِيمِ جَلَالِ رَبِّكَ الَّذِي تَعْصِيهِ بِتِلْكَ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَمَّلَ فِي ذَلِكَ؛ أَحْدَثَ لَهُ ذِكْرًا وَفِكْرًا، وَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ إِذَا مَا أَخْطَأَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُعَاقِبُهُ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.
كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَمِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَلَمَّا جَاءُوا مُعْتَرِفِينَ؛ وَكَلَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى صِدْقِهِمْ، وَأَحَالَهُمْ إِلَى غُفْرَانِ رَبِّهِمْ، فَلَمْ يَقْضِ فِيهِمْ بِشَيْءٍ، أَمَّا الَّذِينَ جَاءُوا فَاعْتَذَرُوا وَكَانُوا كَاذِبِينَ؛ فَقَدْ قَبِلَ مِنْهُمْ مَعْذِرَتَهُمْ ﷺ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُمْ.
مَا زَالَ الْأَمْرُ يَشْتَدُّ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي وَصْفِ حَالِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ النَّبَوِيَّةَ -بَلِ التَّرْبِيَةَ الْإِلَهِيَّةَ- تَصْنَعُ الرِّجَالَ، وَمَا أَحْوَجَ هَذَا الْعَصْرَ الَّذِي نَحْيَا فِيهِ.. مَا أَحْوَجَهُ إِلَى أُولَئِكَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَضَى وَقَدَّرَ أَنْ نَحْيَا فِي عَصْرٍ يَمُوجُ الْعَالَمُ فِيهِ بِالْبِدَعِ؛ بَلْ بِالشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ مَوْجَ الْبَحْرِ، وَالْمُسْلِمُ فِيهِ غَرِيبٌ؛ غَرِيبٌ يَتَلَدَّدُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ.
الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الصَّادِقِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا بِأَنْ نَكُونَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مِنَ الصَّادِقِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَكَلَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى صِدْقِهِمْ؛ حَتَّى تَنْزِلَ تَوْبَتُهُمْ مِنَ اللهِ، قَدْ يَعْجَبُ الْمَرْءُ وَيَقُولُ: الَّذِي يَصْدُقُ وَيَعُودُ تَائِبًا مُنِيبًا يُصْنَعُ بِهِ هَذَا، وَالَّذِي يَكْذِبُ يُصْنَعُ بِهِ هَذَا؟!!
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الصَّنِيعَيْنِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَا زَالَ يَحْصُرُهُمْ حَتَّى حَصَرَهُمْ فِي جُلُودِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَنَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ضُيِّقَتِ الدَّائِرَةُ بَعْضَ التَّضْيِيقِ، فَمُنِعُوا مِنْ أَهْلِيهِمْ، لَا يَخْلُصُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَا زَالَ التَّضْيِيقُ يَزْدَادُ عَلَى أُولَئِكَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَعَ رَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ؛ حَتَّى كَانَ لَا يَدْرِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ أَوْ لَا، كَمَا قَالَ كَعْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَا أَدْرِي رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ أَوْ لَا، قَالَ: وَأَقُومُ أُصَلِّي بِمَقْرُبَةٍ مِنْهُ، فَإِذَا مَا نَظَرْتُ إِلَى الْأَرْضِ -مَثَلًا- وَهُوَ يُصَلِّي مُتَشَاغِلًا عَنِ النَّبِيِّ ظَاهِرًا؛ رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَصَرَهُ وَرَمَقَهُ، قَالَ: فَإِذَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ خَفَضَ بَصَرَهُ ﷺ)).
ثُمَّ مَا زَالَ الْبَلَاءُ يَشْتَدُّ فِي صُنْعِ الرِّجَالِ؛ حَتَّى جَاءَ إِلَى كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كِتَابُ مَلِكِ (غَسَّانَ): ((قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَسْتَ بِأَرْضِ مَضْيَعَةٍ؛ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ)).
بَلَاءٌ مِنْ بَعْدِ بَلَاءٍ، الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ رَاجِعَةً إِلَى الْكَرَامَةِ، لَيْسَتْ رَاجِعَةً إِلَى الْعِزَّةِ، الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ رَاجِعَةً إِلَى تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ، فَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا اعْتَرَفَ وَأَقَرَّ، ثُمَّ جَاءَهُ هَذَا الْبَلَاءُ، وَكَانَ أَشَبَّ الْقَوْمِ، فَكَانَ يَحْتَاجُ امْرَأَتَهُ، وَأَذِنَ النَّبِيُّ ﷺ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ -وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ مَا بَلَغَ- أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ عِنْدَهُ؛ حَتَّى لَا يَضِيعَ.
وَأَمَّا كَعْبٌ؛ فَإِنَّهُ أُمِرَ بِاعْتِزَالِ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ أَشَبَّ الْقَوْمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَمَا زَالَ الْبَلَاءُ يَضِيقُ بِهِ حَتَّى صَهَرَهُ هَذَا الْبَلَاءُ، أَتَاهُ هَذَا الْخِطَابُ، وَالْخِطَابُ يُثِيرُ فِيهِ نَخْوَةً تَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِيِّ جَامِحَةً؛ كَأَنَّ كَرَامَتَهُ لَا جُرِحَتْ؛ بَلْ سُحِقَتْ، فَيَأْتِيهِ هَذَا الْكِتَابُ -أَيِ: الْخِطَابُ- مِنْ مَلِكَ (غَسَّانَ): ((بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَسْتَ بِأَرْضِ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ))؛ يَعْنِي: فَأْتِ إِلَيْنَا، نَحْنُ نَعْرِفُ قَدْرَكَ، وَسَنَجْعَلُكَ فِي مَنْزِلَتِكَ، وَأَمَّا صَاحِبُكَ فَقَدْ جَفَاكَ.
هَذَا الْمَلِكُ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، وَأَمَّا كَعْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَإِنَّهُ أَخَذَ الْكِتَابَ لَمَّا جَاءَهُ مِنْ مَلِكَ (غَسَّانَ)، وَقَالَ: ((هَذَا وَاللهِ مِنَ الْبَلَاءِ))، ثُمَّ يَمَّمَ بِهِ -أَيْ: قَصَدَ- التَّنُّورَ، فَجَعَلَهُ فِي النَّارِ، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَوْبَتَهُ عَلَى كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
كَانَ كَعْبٌ فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَفِي مَاءٍ نَمِيرٍ، وَعِنْدَ زَوْجَةٍ -بَلْ أَكْثَرَ- نَاعِمَةٍ يُحِبُّ قُرْبَهَا، وَالْغَزْوَةُ هِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَصَحْبُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَدْ لَقُوا مِنْ تِلْكَ مَا لَقَوْا؛ حَتَّى إِنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- انْتُقِبَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَكَانُوا يَلُفُّونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ خِرَقًا، وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ هَذَا؛ بَلْ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ النَّوَاةَ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَا تَصْنَعُونَ بِالنَّوَاةِ؟!!
قَالَ: يَمُصُّهَا.. يَسْتَحْلِبُ بِهَا رِيقَهُ، فَإِذَا مَا وَقَعَ ذَلِكَ أَعْطَاهُ صَاحِبَهُ، وَهَذَا مِنَ الْمُثِيرِ الْمِيكَانِيكِيِّ -كَمَا يَقُولُونَ-، هَذَا مُثِيرٌ ظَاهِرٌ، كَمَا لَوْ وَضَعَ الْإِنْسَانُ أَيَّ شَيْءٍ -وَلَوْ كَانَ صُلْبًا- فِي فَمِهِ، فَهَذَا يُثِيرُ الْغُدَدَ اللُّعَابِيَّةَ؛ مِنْ أَجْلِ الْإِفْرَازِ، وَأَمَّا هُوَ.. فَإِنَّهُ يَجِدُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ جَفَافُ رِيقِهِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَأْخُذُ النَّوَاةَ مَرْحَلَةً، ثُمَّ يُعْطِيهَا لِصَاحِبِهِ.
وَكَعْبٌ وَصَاحِبَاهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ فِي الظِّلِّ الظَّلِيلِ، وَالْمَاءِ الْعَذْبِ النَّمِيرِ، وَالزَّوْجَةِ الْحَسَنَةِ، وَالطَّلْعَةِ الْبَهِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ طَابَتِ الثِّمَارُ، فَلَمَّا أَنْ تَابَ اللهُ عَلَى كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ قَالَ كَعْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِي أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْبُسْتَانِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي شُغْلِي عَنْكَ)).
فَتَصَدَّقَ بِهِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَهَذَا أَمْرٌ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَاهَدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الصِّدْقِ، قَالَ: ((وَإِنَّمَا نَجَّانِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصِّدْقِ))، وَعَاهَدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَلَّا يَكْذِبَ أَبَدًا، فَصَدَقَ حَتَّى بَلَغَ مَرْحَلَةً مِنَ الْعُمُرِ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ الْعَمَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَ يَقُولُ: ((وَأَنَا قَدْ وَفَيْتُ بِعَهْدِي إِلَى الْآنَ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بِالْوَفَاءِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
الْحَاصِلُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُرَبِّي أَوْلِيَاءَهُ، اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُرَبِّي أَوْلِيَاءَهُ.
الْأَمْرُ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ، يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَقْدُرَ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْرَهَا وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي شُكْرِهَا وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
((كُنْ عَالِيَ الْهِمَّةِ سَامِيَ النَّفْسِ!))
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَبِهَ وَأَنْ نَتَيَقَّظَ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُنَا عَالِيَةً، حَاوِلْ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً، لَا تُطَاوِعِ النَّوْمَ، لَا تُطَاوِعِ الْغَرَائِزَ الَّتِي تَهْفُو إِلَى الرَّاحَةِ، وَتُخْلِدُ إِلَيْهَا!
أَتْعِبْ نَفْسَكْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَمْرَضَ، لَعَلَّ الْقَوِيَّ أَنْ يَسْقَمَ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَفْتَقِرَ، لَعَلَّ الْوَاجِدَ أَنْ يُعْدَمَ!
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ دَوَامَ الْحَالِ مِنَ الْمُحَالِ، وَأَنَّهُ مَا دَامَ فِي نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَأْتِي بِهِ الْغَدُ!!
إِذَا كُنْتَ ذَا نِعْمَةٍ فَارْعَهَا=فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
يَحْذَرُ الْإِنْسَانُ أَنْ تَزُولَ النِّعَمُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَضْرَعُ إِلَى رَبِّهِ بِأَلَّا يُزِيلَ النِّعْمَةَ عَنْهُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ)).
مَا أَكْثَرَ مَا يُفَرِّطُ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، يُمَكِّنُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الدَّعْوَةِ فِي مَكَانٍ، فَيُصِيبُهُ دَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُؤْتِيهِمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فيَمَلُّونَ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَيَطْلُبُونَ الْبَصَلَ، وَالْكُرَّاثَ، وَالْعَدْسَ، وَمَا أَشْبَهَ، وَيَدَعُونَ أَمْثَالَ هَذَا الطَّعَامِ الطَّيِّبِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِهِ!!
الْإِنْسَانُ يَمَلُّ النِّعْمَةَ، كَمَا قَالَ الْعَوَامُّ وَمَا زَالُوا يَقُولُونُ: ((النِّعْمَةُ عَلَى ابْنِ آدَمَ جَبَلٌ!!)).
مَا يَزَالُ الصَّحِيحُ يَسْتَهِينُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ حَتَّى تَذْهَبَ، مَا يَزَالُ الْغَنِيُّ فِي حَالِ غِنَاهُ يَسْتَهِينُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْتَقِرَ، مَا يَزَالُ الدَّاعِي إِلَى اللهِ يُؤْتِيهِ اللهُ التَّمْكِينَ فِي الْمَكَانِ، فَمَا يَزَالُ فِي مَلَلٍ وَضَجَرٍ حَتَّى يُزِيلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ النِّعْمَةَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي يَدِ كُلِّ مُنْحَرِفٍ وَقَدْ مُكِّنَ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْهَا وَعَنْهَا مُبْعَدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مَا الَّذِي يُعْجِزُنَا؟!!
إِنَّمَا هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ؛ هُوَ مَلْءُ الْقَلْبِ بِمَا يَصْرِفُهُ عَنِ الرَّبِّ، وَشَغْلُ الضَّمِيرِ وَالْبَالِ بِمَا فِيهِ الْمَضَرَّةُ فِي الْمَآلِ وَالْحَالِ!!
إِنَّمَا هُوَ الْعَجْزُ الْقَبِيحُ، وَالْخُلُودُ إِلَى الْأَرْضِ، وَمَوْتُ الْهِمَّةِ!! مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَنْفِرُ الْهِمَمَ: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ؛ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى؛ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا)).
((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ؛ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى))؛ لَا تَكُنْ ضَعِيفَ الْهِمَّةِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَيِّتَهَا!!
لِمَ لَا تُنَافِسُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ؟!!
لِمَ تَقْنَعُ بِالدُّونِ عَمَّا هُوَ فَوْقَ السَّحَابِ؛ بَلْ هُوَ فِي النُّجُومِ؟!!
لِمَاذَا تُؤْثِرُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟!!
لِمَاذَا لَا تَتَغَيَّرُ؟!!
مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ؟!!
أَتَشُكُّ فِي كَلَامِ رَبِّكَ؟!!
أَلَا لَا إِيمَانَ لَكَ؟!!
أَلَا تُصَدِّقُ نَبِيَّكَ ﷺ؟!!
أَأَنْتَ فِي رَيْبٍ وَشَكٍّ مِنَ الْمَوْتِ؟!!
أَلَا تُوقِنُ أَنَّكَ سَتَمُوتُ؟!!
وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْكَ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ وَجَدَ حَدَقَتَيْكَ قَدْ سَالَتَا عَلَى وَجْنَتَيْكَ، وَانْقَضَّ بَطْنُكَ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَالْقَذَى، ((وَأَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ!!)).
أَلَا تُوقِنْ بِأَنَّكَ صَائِرٌ إِلَى ذَلِكَ؟!!
لِمَاذَا تُشْغَلُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَلَاعِيبِ الَّتِي هِيَ بِالصِّبْيَانِ أَلْيَقُ؟!!
لِمَاذَا لَا تَكُونَ رَجُلًا مُسْلِمًا بِصِدْقٍ وَحَقٍّ؟!!
مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ؟!!
وَمَا الَّذِي يُعْجِزُكَ؟!!
لِمَ لَا تَتُوبُ إِلَى اللهِ؟!!
وَلِمَ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ؟!!
وَلِمَ لَا تَتَّبِعُ رَسُولَ اللهِ، وَتُخْلِصُ فِي المُتَابَعَةِ لَهُ؟!!
قَعَدَتْ بِكَ شِقْوَتُكَ؟!!
اسْتَعِنْ بِاللهِ رَبِّكَ!
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَإِلَى الْمُسَابَقَةِ فِي تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الرُّشْدِ، وَأَنْ يُخْلِصَ نِيَّاتِنَا وَقَصْدَنَا، وَأَنْ يُحَسِّنَ أَقْوَالَنَا وَأَعْمَالَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبَصِّرَنَا بِحَقِيقَةِ دِينِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا حَلَاوَةَ الْيَقِينِ، وَأَنْ يُفَهِّمَنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْهِمَّةَ الْمُتَوَثِّبَةَ الْوَضَّاءَةَ الْمُتَأَلِّقَةَ الَّتِي بِهَا نَصْبُو إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَنَخْرُجُ مِنْ إِلْفِ الْعَادَةِ إِلَى مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ تَحْصِيلِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ.
وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: عُلُوُّ الْهِمَّةِ سَبِيلُ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ