رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ

رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ

((رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

وَتَعَاوَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَرْتَبَةِ الْبِرِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْقِيَامِ بِمُقْتَضَيَاتِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَتَحَقَّقُ لَكُمْ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَلَا يُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، ومُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللهِ، وَاتَّقُوا اللهَ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَتْرُكُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، أَوْ تَرْتَكِبُوا مَا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ.

 ((الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.

وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ)) .

وَذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ يَسْلَمُونَ مِنَ الْخَسَارِ وَيَفُوزُونَ بِالرِّبْحِ الْعَظِيمِ: التَّوَاصِي بِالْحَقِّ، الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ أَيْ: يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ -وَهَذِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَمَاعِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ-، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}: أَقْسَمَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بِالْوَقْتِ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ عُمُرُ الْإِنْسَانِ، وَيَجْرِي مِنْ غَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى غَيْبِ الْمَاضِي، وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهُ إِلَّا لَحْظَةَ الْحَاضِرِ إِذَا انْتَفَعَ مِنْهُ لِآخِرَتِهِ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرَانٍ وَنُقْصَانٍ بِتَضْيِيعِ عُمُرِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِالدُّنْيَا، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي طَلَبِهَا، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: إِلَّا الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ مِنْ عُمُومِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي خُسْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:

*الصِّفَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَرْكَانِ الْإِيمَانِيَّةِ السِّتَّةِ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ عُنْوَانُ الِارْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ وَالتَّصْمِيمِ الْإِرَادِيِّ حَوْلَ الْقَضَايَا الْإِيمَانِيَّةِ الْكُبْرَى.

*وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الَّتِي يَدْفَعُ إِلَيْهَا الْإِيمَانُ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا وَيَحُثُّ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ عُنْوَانُ الِارْتِقَاءِ السُّلُوكِيِّ  فِي الْحَيَاةِ.

*وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَوْصَى بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضًا بِالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا، وَهُوَ يَشْمَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّصِيحَةَ الْعَامَّةَ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَخْدُمُ رُكْنَ الْإِيمَانِ، وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنْ كُلِّ قَضِيَّةِ حَقٍّ.

*والصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّبْرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ، وَتَحَمُّلِ الْأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ يَخْدُمُ رُكْنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا يَقُومُ بِهَا الْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الصَّبْرِ مَا يَحْمِلُ بِهِ عِبْءَ مُخَالَفَةِ أَهْوَاءِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].

وَأَخْرَجَ الْآجُرِيُّ فِي ((الشَّرِيعَةِ))، وَاللَّالَكَائِيُّ فِي ((أُصُولِ الِاعْتِقَادِ))، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)) .

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).

وَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَيَقُولُ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدِ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ. 

 ((نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَرْوَعَ الْأَمْثَالِ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَعَظِيمِ أَثَرِهِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَالَةِ رَفْعِهِمَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الْأَسَاسِ، وَاسْتِمْرَارِهِمَا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

ضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِنَا- بِأَنَّكَ تُشَاهِدُ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ حِينَ يَرْفَعَانِ أُسُسَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى الْأُسُسِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا قَبْلَ انْدِثَارِهَا.

وَمَعَ قِيَامِهِمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَانَا يَدْعُوَانِ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا تَقَبَّلْ طَاعَتَنَا إِيَّاكَ، وَعِبَادَتَنَا لَكَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ السَّمِيعُ دَوَامًا لِدُعَائِنَا، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِنَا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَعْبَدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَالَ: سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ؛ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ)) .

وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ يُحَدِّثُنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَنْ نُمُوذَجٍ عَظِيمٍ فِي التَّعَاوُنِ وَالْعَمَلِ بِرُوحٍ جَمَاعِيَّةٍ، وَأَثَرِ ذَلِكَ فِي نَجَاةِ قَوْمٍ وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، ((وَذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكٌ صَالِحٌ، أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْفُتُوحِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ اللهُ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُوَّةِ مُلْكِهِ وَتَوَسُّعِهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ التَّامُّ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93].

أَيْ: بَلَغَ مَحَلًّا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ السَّدَّيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ، وَهُمَا سَلَاسِلُ جِبَالٍ عَظِيمَةٍ شَاهِقَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفَجْوَةِ، فَوَجَدَ عِنْدَ تِلْكَ الْفَجْوَةِ الَّتِي بَيْنَ سَلَاسِلِ هَذِهِ الْجِبَالِ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؛ مِنْ بُعْدِ لُغَتِهِمْ، وَثِقَلِ فَهْمِهِمْ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ:

{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]؛ وَهُمْ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ -يَعْنِي: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ- مِنْ نَسْلِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ مِنَ الْعَنَاصِرِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ مُفَصَّلٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَشْرُوحٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَسْبَابِ وَالِاقْتِدَارِ خَيْرٌ.

{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}؛ أَيْ: إِنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ قَوِيَّةٍ فِي الْأَبْدَانِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وَلَمْ يَقُلْ: سَدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَنَى فَقَطْ هُوَ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ وَالرِّيعُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ؛ أَيْ: بَيْنَ سَلَاسِلِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَدَبَّرَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ آلَاتِهِ وَبُنْيَانِهِ فَقَالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أَيِ: اجْمَعُوا لِي جَمِيعَ قِطَعِ الْحَدِيدِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، وَلَا تَدَعُوا مِنَ الْمَوْجُودِ شَيْئًا، وَارْكُمُوهُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.

فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ تُلُولًا عَظِيمَةً مَوَازِيَةً لِلْجِبَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أَيِ: الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ لِذَلِكَ الرَّدْمِ، {قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]؛ أَيْ: أَمَرَ بِالنُّحَاسِ فَأُذِيبَ بِالنِّيرَانِ، وَجَعَلَ يَسِيلُ بَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ فَالْتَحَمَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتْ جَبَلًا هَائِلًا مُتَّصِلًا بِالسَّدَّيْنِ؛ فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَيْثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ إِفْسَادِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ}؛ أَيْ: يَصْعَدُوا ذَلِكَ الرَّدْمَ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}  [الكهف: 97-98]؛ أَيْ: رَبِّي الَّذِي وَفَّقَنِي لِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَالْأَثَرِ الْجَمِيلِ، فَرَحِمَكُمْ؛ إِذْ مَنَعَكُمْ مِنْ ضَرَرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ» .

وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ اللهَ مُعِينًا يُعَاوِنُهُ وَيُؤَازِرُهُ وَيُسَاعِدُهُ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَسَأَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ, وَأَحَقُّ بِبِرِّ الْإِنْسَانِ قَرَابَتُهُ، ثُمَّ عَيَّنَهُ بِسُؤَالِهِ فَقَالَ: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 30-31]؛ أَيْ: قَوِّنِي بِهِ، وَشُدَّ بِهِ ظَهْرِي، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 25-34].

قَالَ مُوسَى: رَبِّ وَسِّعْ لِي صَدْرِي؛ لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ الْمُزْعِجَاتِ وَالْمَكَارِهِ بِصَبْرٍ وَحِلْمٍ دُونَ انْدِفَاعٍ بِغَضَبٍ سَرِيعٍ، وَسَهِّلْ لِي مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ.

وَاحْلُلْ عُقْدَةً تَحْبِسُ مِنْ نُطْقِي، فَإِذَا حَلَلْتَهَا بِقُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ؛ صِرْتُ قَادِرًا عَلَى إِفْهَامِ الَّذِينَ أُبَلِّغُهُمْ رِسَالَاتِكَ دَقَائِقَ الْمَعَانِي الَّتِي أُقِيمُ بِهَا عَلَيْهِمُ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ.

وَاجْعَلْ لِي مُعِينًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي، قَوِّ بِهِ ظَهْرِي، وَاجْعَلْهُ شَرِيكَي فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الَّتِي كَلَّفْتَنِي بِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَسَاعَدَ وَنَتَسَانَدَ عَلَى تَنْزِيهِكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ وَعَظِيمِ صِفَاتِكَ تَنْزِيهًا كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ وَنُثْنِيَ عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ جَمِيلِ نِعَمِكَ ذِكْرًا كَثِيرًا.

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يَرَى فِيهَا صَفَحَاتٍ مُشْرِقَةً تَتَجَلَّى فِيهَا رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمِنْ ذَلِكَ: رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! عَلَى رِسْلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا».

فَكَانَ يَقُولُ: ((الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!))؛ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ ﷺ فِي هِجْرَتِهِ.

ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاحِلَتَيْنِ، فَعَلَفَهُمَا وَرَقَ السَّمُرِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى مُهَاجَرِهِ ﷺ.

ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أَرَى النَّبِيَّ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».

فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ!)).

قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».

وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْبَاحِ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، وَالنَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ ﷺ, وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ الْمَئُونَةِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا-.

كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ الْأَدْوَارَ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ - وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ.

فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا-، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ .

وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ-؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ.

فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ-، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ، ثُمَّ اسْتَدَارَ غَرْبًا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا -هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ-، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ .

وَكَذَلِكَ تَتَبَدَّى رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحَفْرِ الْخَنْدَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ النَّاقَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ الْيَوْمَ؛ هُوَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَشَارَكَ فِي حَمْلِ التُّرَابِ عَلَى عَاتِقِهِ!

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ = لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

«اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ»؛ يَقُولُهَا النَّبِيُّ مُشَارِكًا لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَفْرِ لِأَسَاسِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ .

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِيَدِهِ، حَفَرَ مَعَهُمْ، وَحَمَلَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ مَعَهُمْ، وَشَارَكَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ فِي سَفْرَةٍ، فَاقْتَسَمُوا الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ.

وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكْفُوهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ شَارَكَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، هَذَا مِنْ سُنَّتِهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ «حَطَمَهُ النَّاسُ»، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ.

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

 ((مَعَالِمُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ))

إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُدْرِكُ رُوحَ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَأَهَمِّيَّتَهُ وَثَمَرَاتِهِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَأَوَّلُهَا الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعِبَادَتِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ، بِأَمْرٍ عَامٍّ، وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْجَامِعَةُ، لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، فَأَمَرَهُمْ -تَعَالَى- بِمَا خَلَقَهُمْ لَهُ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

وَتَتَبَدَّى -أَيْضًا- أَهَمِّيَّةُ وَثَمَرَاتُ الِاجْتِمَاعِ فِي شَعِيرَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31].

وَقَدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَمِنْهَا:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَضْعُفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

*وَشُرِعَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاصُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْسَانِ, وَالْعَطْفِ وَالرِّعَايَةِ, وَالتَّوَادُدِ وَالتَّحَابُبِ بَيْنَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.

*وَلِأَجْلِ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضُهُمْ أَحْوَالَ بَعْضٍ؛ فَيَقُومُوا بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى, وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ, وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ.

*وَلِأَجْلِ إِظْهَارِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَلَاحُمِهِمْ, فَيَغِيظُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.

*وَلِأَجْلِ إِزَالَةِ مَا نَسَجَهُ بَيْنَهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْأَحْقَادِ؛ فَيَحْصُلُ الِائْتِلَافُ, وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ, مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

وَمِنْ فَوَائِدِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا: تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ, وَمُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ, وَالنَّشَاطُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عِنْدَمَا يُشَاهِدُ الْمُسْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ يُزَاوِلُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيَقْتَدِي بِهِمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» , وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ)) .

وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الزَّكَاةِ تَتَجَسَّدُ فِيهَا رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، وَلَهَا عَظِيمُ الْأَثَرِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ؛ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110].

 ((وَلِلزَّكَاةِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ؛ مِنْهَا: أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].

فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَغِيظُهُ أَنْ يَجِدَ هَذَا الرَّجُلَ يَرْكَبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَيَسْكُنُ مَا شَاءَ مِنْ الْقُصُورِ، وَيَأْكُلُ مَا يَشْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ.

وَأَمَّا هَذَا الْفَقِيرُ؛ فَلَا يَرْكَبُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الْأَسْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا جَادَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ كَسَرُوا ثَوْرَتَهُمْ، وَهَدَّأُوا غَضْبَتَهُمْ، وَقَالُوا: لَنَا إِخْوَةٌ يَعْرِفُونَنَا فِي الشِّدَّةِ، فَيَأْلَفُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيُحِبُّونَهُمْ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ، كَالسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ وَالسَّطْوِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْتِيهِمْ مَا يَسُدُّ شَيْئًا مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَيَعْذِرُونَ الْأَغْنِيَاءَ لِكَوْنِهِمْ يُعْطُونَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ، يُعْطُونَ رُبُوعَ الْعُشْرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.

وَفِي الْمَوَاشِي يُعْطُونَهُمْ نِسْبَةً كَبِيرَةً، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيْهِمْ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ)) .

وَعِبَادَةُ الْحَجِّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَتَجَسَّدُ فِي مَنَاسِكِهِ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).

وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْحَجِّ لَهُ أَهْدَافٌ عَظِيمَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ فِي الْحَجِّ إِعْلَانًا عَمَلِيًّا لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ: أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنًى، فَلْيَتَذَكَّرْ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13])).

وَتَظْهَرُ -أَيْضًا- رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْجِهَادِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْجَنَّةِ . قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا، وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا هُوَ الْجَنَّةُ.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينِ فِي سَبِيلِهِ قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ.

وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ، وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرُ.

وَتَتَجَسَّدُ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ، واتِّبَاعِهَا، وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَدَفْنِهِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ؛ فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِسَبْعٍ, وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي -إِلَى وَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا-، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ؛ ((فَقَدْ نَظَّمَ الْإِسْلَامُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَمَزَارِعِهِمْ، وَأَسْفَارِهِمْ، وَبُيُوتِهِمْ، وَشَوَارِعِهِمْ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي شُئُونِهِمُ الْحَيَاتِيَّةِ إِلَّا أَحْصَاهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَبَيَّنَهُ بِأَعْدَلِ نِظَامٍ، وَأَحْسَنِ تَرْتِيبٍ، وَأَتَمِّ تَفْصِيلٍ.

وَالنَّاسُ يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ -كَمَا قَالُوا- مَدَنِيٌّ بِطَبْعِهِ؛ يَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَعِيشُ وَحْدَهُ)) .

وَتَظْهَرُ رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْأَعْمَالِ التَّطَوُّعِيَّةِ، وَمُسَاعَدَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الْمَالِ حُقُوقًا نَحْوَ: مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].

وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكُسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ، بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.

هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ، فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!

 ((الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ الْمَشْرُوعُ مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ الْعَمَلَ الْجَادَّ الْمُتْقَنَ؛ فَإِنَّ فِي الْعَمَلِ قُوَّةً لِلْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ.

قَالِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠].

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَالْأَنْصَارُ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.

إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

وَإِذَا كَانَ الْفَرْدُ هُوَ الْعُنْصُرُ الْأَسَاسُ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِنَّ دَوْرَهُ الْحَقِيقِيَّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ لَا يَكْتَمِلُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْعَمَلِ مَعَ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِعْمَارُ الْأَرْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خِلَالِ عَمَلٍ جَمَاعِيٍّ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيْهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا، وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا.

فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا؛ لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ.

وَمِنْ مَعَالِمِ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الَّذِي تَتَقَدَّمُ بِهِ الْأُمَمُ: الْغَرْسُ لِنَفْعِ الْغَيْرِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَتَتَجَلَّى -أَيْضًا- رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي سَعْيِ رِجَالِ الْأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الْوَطَنِيِّينَ لِاسْتِثْمَارِ أَمْوَالِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ، وَتَوْفِيرِ فُرَصِ الْعَمَلِ لِأَبْنَاءِ هَذَا الْوَطَنِ الْجَمِيلِ.

((ضَوَابِطُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ

وَالْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ الْمُبْتَدَعُ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْإِجْمَالُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ -فَصَارَ فِتْنَةً- مَا يُقَالَ لَهُ: ((الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ))، وَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَطْلَقَ هَذَا الْأَمْرَ -هَكَذَا- عَلَى عَوَاهِنِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَحْدِيدٍ وَلَا بَيَانٍ؛ فِيهِ حَقٌّ -حِينَئِذٍ- وَبَاطِلٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ، ثُمَّ يُدْفَعُ فِي وَجْهِ مَنْ يَرُدُّهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرُدُّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْجَمَاعِيَّ -كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ- عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَصْدُقُ عَلَى مَا كَانَ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ غَيْرِ مَا مُخَالَفَةٍ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَلَا لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّآزُرِ وَالتَّنَاصُرِ مِنْ أَجْلِ إِنْجَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَصْدُقُ عَلَى هَذَا وَهُوَ حَقٌّ.

 وَيَصْدُقُ -أَيْضًا- عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ عَقْدِ أُمُورٍ لَا يَرْضَاهَا الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا يُنَفِّرُ مِنْهَا وَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِي أَمْثَالِهَا؛ كَأَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِيرُوا جَمَاعَةً، لَهُمْ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَوَلَاءٌ وَانْتِمَاءٌ وَبَرَاءٌ، وَعَهْدٌ وَعَقْدٌ وَمُبَايَعَةٌ، وَمَرَاحِلُ ثَانَوِيَّةٌ وَأَهْدَافٌ غَائِيَّةٌ، وَتَنْظِيمٌ بِتَرْتِيبٍ هَرَمِيٍّ يَصِلُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى آمِرٍ يَأْمُرُ لَا عَلَى ضَوْءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي ضَوْءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْجَهْلِ وَالْهَوَى؛ لِأَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَإِنَّمَا هُوَ بَاطِلٌ، فَهَذَا -أَيْضًا- مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِطَارِ الْعَامِّ.

فَإِذَا حُذِّرَ وَنُفِّرَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يُجِزْهَا الشَّرْعُ بَلْ حَذَّرَ مِنْهَا وَنَفَّرَ؛ أُتِيَ لِلْإِجْمَالِ وَلِلِاشْتِبَاهِ بِالصُّورَةِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ، فَيَحْدُثُ -حِينَئِذٍ- تَخْبِيطٌ فِي أَذْهَانٍ مُخَبِّطَةٍ مُخَبَّطَةٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَهْتَدِي الْمُسْلِمُ إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَفِي صَلَاتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْكُسُوفِ -فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ-، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ الشَّرْعُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى أَدَائِهِ..

كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهِيَ قَدْ ثَبَتَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ؛ كَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ عَلَى سَرِقَةِ رَجُلٍ ثَرِيٍّ فَيُخَطِّطُونَ، وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ رَأْسًا، وَيُوَزِّعُونَ أَدْوَارًا، وَيَتَعَاهَدُونَ -وَلَوْ كَانَ التَّعَاهُدُ بِالدَّمِ عَقْدًا وَبَيْعَةً- عَلَى أَلَّا يَفِرَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِذَا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَةِ فَإِنَّمَا يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِأَسْمَاءِ إِخْوَانِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ!!

فَهَلْ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ مَرْضِيَّةٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ هِيَ مَأْذُونٌ بِهَا؟!! وَهَذِهِ عَمَلٌ جَمَاعِيٌّ -كَمَا تَرَى-!!

لَوْ أَنَّ قَوْمًا اجْتَمَعُوا مَعًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ أَمِيرًا.. زَعِيمًا.. مُرْشِدًا.. قَيِّمًا.. أَوْ مَا شِئْتَ، وَوَزَّعُوا الْأَدْوَارَ، وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَجُلًا، أَوْ يَقْتُلُوا جَمَاعَةً، أَوْ يَعِيثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.. لَوْ أَنَّهُمْ تَجَمَّعُوا وَوَزَّعُوا الْأَدْوَارَ، وَنَسَّقُوا الْخُطَّةَ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرُوا عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ مُرَادِهِمُ الْفَاسِدِ.. لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؛ أَلَا يَكُونُونَ قَدْ أَخَذُوا بِالْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي صُورَتِهِ الْعَامَّةِ؟!!

هَذَا عَمَلٌ جَمَاعِيٌّ -أَيْضًا- وَلَكِنْ هَلْ أَقَرَّهُ الشَّرْعُ؟!!

وَحِينَئِذٍ عِنْدَمَا يُطْلَقُ هَذَا الْمُصْطَلَحُ -هَكَذَا- بِإِجْمَالٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُطْلِقُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبِيثَ الطَّوِيَّةِ فَاسِدَ النِّيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَمْرًا جَهُولًا ذَا حَمَاسَةٍ لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ!!

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الْأَمْرِ وَتَوْضِيحِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْإِجْمَالِ بِالتَّفْصِيلِ وَرَفْعِ الِاشْتِبَاهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْخَيَالُ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، مُجَانِبٌ لِلْكِتَابِ، وَمُجَانِبٌ لِهَدْيِ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ الْكِتَابُ ﷺ، وَهُوَ مُسْتَجْلِبٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْأُمَّةِ مِنْ جَرَّاءِ مَا صَنَعَ.

فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَرْدُودَةً مُتَوَقَّفًا عِنْدَهَا؛ حَتَّى تُفَصَّلَ، وَحَتَّى تُبَيَّنَ، وَحَتَّى يُزَالَ الْغُمُوضُ، وَيُرْفَعَ الِاشْتِبَاهُ.

التَّحَزُّبُ وَهُوَ التَّجَمُّعُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٌ، يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ حِزْبٌ، قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].

 التَّحَزُّبُ يَكُونُ مَحْمُودًا وَيَكُونُ مَذْمُومًا؛ يَعْنِي أَنْ تَتَجَّمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ هَذَا مَحْمُودًا فِي دِينِ اللهِ؛ كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْأَعْيَادِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاطِنِ الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهَذَا تَجَمُّعٌ -تَحَزُّبٌ- مَحْمُودٌ، وَهُوَ مَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَظَمَ جَمْعُهُمْ بِإِمَامٍ ظَاهِرٍ وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا فَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكَ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ، مَا دُمْتَ لَا تَمْلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَيْهِ.

وَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إِلَّا دَاعِيَةً لِلشُّرُورِ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَهَدْمِ الدُّورِ، وَسَلْبِ الثَّرْوَاتِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَعْرَاضِ، ((وَلَأَنْ يَأْكُلَ الْمَرْءُ -كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- الْخُبْزَ بِالْمِلْحِ الْجَرِيضِ -أَيِ: الْخَشِنِ الَّذِي لَا يُسْتَسَاغُ- أَحَبُّ إِلَى الْمُؤْمِنِ -عِنْدَمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ بِذَلِكَ الْمِلْحِ فِي أَيَّامِ رَفْعِ الْفِتْنَةِ.. أَحَبُّ إِلَى الْمُؤْمِنِ الْحَرِيصِ عَلَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِحْسَانِهِ- مِنْ أَكْلِ الْفَالُوذَجِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ))؛ وَهُوَ نَوْعٌ رَاقٍ جِدًّا مِنَ الْحَلْوَى كَانَ عَلَى أَيَّامِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَبِيهِ، وَعَلى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

فَالْمَحْمُودُ هُوَ مَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَظَمَ جَمْعُهُمْ بِإِمَامٍ ظَاهِرٍ، فَوَاجِبُ الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ هَذَا الْحِزْبَ هَذَا التَّحَزُّبَ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَنْصَحَ لَهُ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَهْلُ بَنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً؛ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ هَالِكَةٌ، كُلُّهُمْ يُبْغِضُ السُّلْطَانَ، وَالنَّاجِيَةُ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ الَّتِي مَعَ السُّلْطَانِ))؛ بِمَعْنِى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَلَيْهِ حَتَّى تُحْدِثَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَتُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.

فَهَذَا هُوَ التَّحَزُّبُ الْمَحْمُودُ.

وَأَمَّا التَّحَزُّبُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَجَمُّعَاتٍ أُخْرَى تَلْتَقِي عَلَى مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَالشُّذُوذِ عَنِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَهَؤُلَاءِ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا التَّحَزُّبَ الْمَحْمُودَ، قَالَ -تَعَالَى-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].

فَأَيُّ تَجَمُّعٍ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ بِالشَّوْكَةِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي يُبَايِعُهُ الْمُسْلِمُونَ يُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ تَحَزُّبًا بِدْعِيًّا مُفَارِقًا فِيهِ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ نَوَاةُ الْخُرُوجِ الْمُسَلَّحِ الَّذِي يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيُشِيعُ فِي الْبِلَادِ الْفَسَادَ.

قَالَ الْحَسَنُ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ.

قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهَا أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: ((أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِأَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159])) .

فَالْأَحْزَابُ وَالْجَمَاعَاتُ فُرْقَةٌ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا، وَبَرِأَ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْهَا، فَلَا يَجْنِي مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَّا الْوَيْلَ وَالْفَسَادَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُقِيمَ حِزْبًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ -وَالْحِزْبُ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، بِمَعْنَى الْفِرْقَةِ، بِمَعْنَى التَّنْظِيمِ- فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُقِيمَ حِزْبًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَيَفْتَاتُ بِهِ عَلَى سُلْطَانِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ هَدْيَ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمَنْ أَقَامَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْزَابِ وَدَعَا إِلَيْهَا أَوْ أَعَانَ عَلَى قِيَامِهَا بِكَلِمَةٍ أَوْ بِمَالٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

فَهُوَ مُشَاقٌّ لِسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، خَارِجٌ عَلَى هَدْيِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ وَلَوْ أَعَانَ بِالْكَلِمَةِ، وَلَوْ أَعَانَ بِالْمَالِ وَلَمْ يُعْنِ بِشَخْصِهِ، وَلَمْ يُعِنْ بِجَسَدِهِ، حَتَّى لَوْ تَسَمَّتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ -أَيِ: الْجَمَاعَاتُ وَالْفِرَقُ الضَّالَّةِ- بِأَسْمَاءٍ بَرَّاقَةٍ، وَرَفَعَتْ شِعَارَاتٍ حَسَنَةً، وَقَامَتْ بِأَعْمَالٍ فِيهَا خَيْرٌ؛ فَلَا يَجُوزُ إِعَانَتُهَا وَلَا الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا.

فَالْخَوَارِجُ لَهْمُ سَبْقٌ فِي الطَّاعَةِ، وَاجْتِهَادٌ فِي الْعِبَادَةِ، شِعَارُهُمُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَكِنَّهُمْ ((كِلَابُ النَّارِ، وَشَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شِعَارَاتُهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ -أَيْ: عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ- وَخَالَفُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ .

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الِانْخِدَاعِ بِهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ -يَعْنِي: عَنْ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْظَمِ-؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ ابْتُلِيَ بِهَا عَالَمُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ، وَمَا هِيَ إِلَّا وَكْرٌ يَعْمُرُهُ الشَّيْطَانُ وَيَمُدُّهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَالسُّنَنِ، مَنِ انْخَدَعَ بِهَا فَيَا حَسْرَةً عَلَيْهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ!!

عِنْدَمَا تَبْحَثُ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، وَهِيَ ((الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ))، تُشَكَّلُ بِهِ جَمَاعَةٌ لَهَا رَأْسٌ وَأَمِيرٌ لَهُ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِلَّا فَلَا جَمَاعَةَ، فَلَا جَمَاعَةَ بِغَيْرِ سَمْعٍ وَطَاعَةٍ، فَلَا بُدَّ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ رَأْسٌ وَأَنْ تَكُونَ لَهُ فُرُوضُ الطَّاعَةِ مُقَدَّمَةً، وَأَنْ يَكُونَ السَّمْعُ وَأَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ مَبْذُولَةً لِلْمُقَدَّمِ الْمُطَاعِ، فَإِذَا مَا نَظَرْتَ فِي هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَالِكَ قِيَادَةٌ وَجُنْدِيَّةٌ بِأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَسَمْعٍ وَطَاعَةٍ!!

هَذَا هُوَ مَوْطِنُ النِّزَاعِ..

الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَظَافِرِ فِي الْحَجَرِ؛ حِيَاطَةً لِلْأُمَّةِ، وَنُصْحًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ نَالَ الْمَرْءَ فِي عِرْضِهِ مَا نَالَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ؛ فَمَنْ يُصَادِمُ قَوْلَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]؟

أَلَيْسَ هَذَا بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ؟!! فَمَنْ يُنْكِرُهُ -هَكَذَا- فِي إِطْلَاقِهِ؟!!

وَمَنْ يُنْكِرُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ؟!!

وَمَنْ يُنْكِرُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؟!!

وَمَنْ يُنْكِرُ صَلَاةَ الْجَنَازَةِ؟!!

وَمَنْ يُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ؟!!

مَنْ يُنْكِرُ هَذَا؟!!

أَيُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ؟!!

سُبْحَانَ رَبِّي!!

*مَفَاسِدُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ التَّنْظِيمِيِّ الْمُبْتَدَعِ:

إِنَّ ((الْفُرْقَةَ عَذَابٌ))؛ عَذَابٌ لِلنَّفْسِ، وَعَذَابٌ لِلْجِسْمِ، وَعَذَابٌ مُخَيِّمٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْحَيَاةِ وَالتَّعَايُشِ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَلِذَا أَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ أَكْلَ الْمِلْحِ -وَالنَّاسُ فِي جَمَاعَةٍ، يَنْتَظِمُهُمْ حَاكِمٌ، يَدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، قَدِ اسْتَقَرَّتْ أَحْوَالُهُمْ، وَأَمِنَتْ بِلَادُهُمْ- أَحَبُّ إِلَى الْعُقَلَاءِ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى الشَّهِيَّةِ فِي حِالِ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ النَّاجِمِ عَنْ مُفَارَقَةِ الْجَمَـاعَةِ، وَأَيُّ حَلْوَى تُسْتَلَذُّ إِذَا مَا كَانَ الْإِنْسَانُ خَائِفًا عَلَى مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَدِينِهِ؟!!

 إِنَّ مُفَارَقَةَ الْجَمَاعَةِ وَالْخُرُوجَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا: تَبْدِيلُ الْأَمْنِ خَوْفًا، وَفِيهَا: تَبْدِيلُ الشِّبَعِ جُوعًا، وَإِرَاقَةٌ لِلدِّمَاءِ، وَهَتْكٌ لِلْأَعْرَاضِ، وَنَهْبٌ لِلْأَمْوَالِ، وَقَطْعٌ لِلسُّبُلِ، وَتَسَلُّطٌ لِلسُّفَهَاءِ، وَانْتِشَارٌ لِلْجَهْلِ، وَرِفْعَةٌ لِلجُهَّالِ، وَنَقْصٌ فِي الْعِلْمِ، وَغُرْبَةٌ لِأَهْلِهِ، وَضَعْفٌ فِي الدِّينِ، وَغُرْبَةٌ لَهُ، وَكُلُّ لَونٍ مِنْ أَلْوَانِ الْفَسَادِ الْعَرِيضِ فِي الْأَرْضِ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].

وَمَضَارُّ تَكْوِينِ الْجَمَـاعَاتِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَذِهِ بَعْضُ مَضَارِّ الْجَمَـاعَاتِ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ:

((إِنَّ آفَةَ الْآفَاتِ عَقْدُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَهَذَا الْمِحْوَرُ الْحِزْبِيُّ لِلْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ هُوَ عَيْنُ الْمُشَاقَّةِ لِلهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَهُوَ نَظِيرُ التَّحَزُّبِ الَّذِى مَحَاهُ الْإِسْلَامُ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

*وَأَيْضًا؛ فَالْفِرْقَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تُؤَدِّي إِلَّا إِلَى الْفُرْقَةِ فِيهِ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى أَسَاسِ الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الكِتَابِ هَلَكَةٌ فِي الْحَقِّ وَشِقَاقٌ بَعِيدٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].

*وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْفِرَقَ ضَرَبَتْ بِقُيُودِ التَّحَكُّمِ عَلَى سِبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، إِنَّ الْجَمَـاعَاتِ ضَرَبَتْ بِقُيُودِ التَّحَكُّمِ عَلَى سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَجَعَلَتِ الْعُنْوَانَ لِمُزَاوَلَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الِانْتِمَاءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ.

 بَيْنَمَا الْإِسْلَامُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ يَعْتَبِرُ الْمُنْتَمِي إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّ مَنْ جَاءَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِحَقِّهِمَا، جَاعِلًا الْإِسْلَامَ وَتَبْلِيغَهُ مِحْوَرَ حَيَاتِهِ، وَنُقْطَةَ انْطِلَاقِهِ، لَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ جُدُرِ الْأَحْزَابِ وَالْفِرَقِ وَالْجَمَـاعَاتِ، بَلْ خَارِجَهَا.

*وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْحِزْبِيَّةَ وَتَكْوِينَ الْجَمَـاعَاتِ تَرْصُدُ فِي أَفْئِدَةِ شَبَابِ الْأُمَّةِ الرَّبْطَ الشَّدِيدَ بَيْنَ الْفِكْرِ الْحِزْبِيِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -أَيْ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِفِرْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ-، فَهَذَا تَرْصُدُهُ الْجَمَاعَاتُ فِي قُلُوبِ شَبَابِ الْأُمَّةِ، فَيَبْقَى السُّؤَالُ الَّذِى لَا جَوَابَ لَهُ يُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِزْبِيِّينَ:

 إِلَى أَيِّ جَمَاعَةٍ يَنْتَمِى الْمُسْلِمُ؟!!

نَعَمْ؛ إِنَّ مَنْطِقَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: مِنْهَاجُ النُّبُوَّةِ هُوَ مِقْيَاسُ التَّقْوِيمِ، أَمَّا لَدَى أَيِّ حِزْبٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مِقْيَاسَ التَّقْوِيمِ هُوَ فِكْرُ الْمُؤَسِّسِ، وَأَمَّا فِي مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَعِنْدَ الْعَامِلِينَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجَمَاعَاتِ فَإِنَّ مِقْيَاسَ التَّقْوِيمِ هُوَ فِكْرُ الْمُؤَسِّسِ اقْتِرَابًا مِنْهُ أَوْ بُعْدًا عَنْهُ، خُرُوجًا عَلَيْهِ أَوِ الْتِزَامًا بِهِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ!!

*الْإِذْنُ بِالْجَمَـاعَاتِ فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ لَا يُرَدُّ وَلَا يُغْلَقُ؛ بِدُخُولِ أَحْزَابٍ تَحْمِلُ شِعَارَ الْإِسْلَامِ وَهِىَ حَرْبٌ عَلَيْهِ، وَكَمْ رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي دَعَوَاتٍ ضَالَّةٍ  بَلْ كَافِرَةٍ؛ مِنْهَا: الْقَادْيَانِيَّةُ، وَمِنْهَا: الْبَهَائِيَّةُ، وَكُلُّهَا تَنْتَمِي فِي النِّهَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَدَّعِي أَنَّهَا جَمَاعَاتٌ مِنْ تِلْكَ الْجَمَـاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

وَكَمِ الْتَفَّ حَوْلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-!! فَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ إِلَى الضَّلَالِ الْبَعِيدِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَعِيْشُ تِلْكَ الْفِرَقُ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْهَا بَرَاءٌ.

لَيْسَ أَمَامَنَا إِلَّا أَنْ نَلْزَمَ السَّائِرِينَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))  ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

 لَا سَبِيلَ إِلَّا السَّبِيلُ الَّذِى وَضَّحَهُ ﷺ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

*إِنَّ مِنْ مَضَارِّ الْجَمَاعَاتِ: بِدْعِيَّتَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ الْجَمَاعَاتِ -الَّتِي تَنْفَرِدُ بِاسْمٍ أَوْ رَسْمٍ عَنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- إِلَّا أَنَّهَا عَمَلٌ مُبْتَدَعٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَكَفَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَقِيمِ.

*إِنَّ الْحِزْبِيَّةَ وَإِنَّ تَكْوِينَ الْجَمَـاعَاتِ هِيَ خَلْفِيَّةُ الِاعْتِقَالِ الْفِكْرِيِّ بِالْحَجْرِ عَلَى الْعَقْلِيِّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالتَّفْكِيرِ الْإِسْلَامِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَيْشَ فِي قَالَبِ الْجَمَاعَةِ هَمُّهُ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَتَعْمِيقُهَا فِي النُّفُوسِ، فَاعْتُقِلَتْ بِذَلِكَ تِلْكَ الْعُقُولُ، وَاعْتَقَلَتْ -هِيَ- الْإِنْتَاجَ الْفِكْرِيَّ فِي حُدُودِ الْجَمَاعَةِ)) .

 فَيا لَلهِ! كَمْ فِي هَذَا مِنْ صَدٍّ وَصُدُودٍ عَنِ الْعَيْشِ مَعَ الشَّرِيعَةِ فِي شُمُولِهَا، وَفِى سَعَتِهَا، وَفِى رَحَابَتِهَا، وَرَجَاحَتِهَا!

وَهَذَا الِاعْتِقَالُ الْفِكْرِيُّ أَفْرَزَ فِي مُقَابِلِهِ الْإِرْهَابَ الْفِكْرِيَّ؛ تَنْفِيرًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا لَدَى الْآخَرِينَ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَتَصْحِيحِ الْمَسَارِ.

 وَأَعْظَمُ مُوَلِّدَاتِ هَذَا الْإِرْهَابِ الِانْقِطَاعُ عَنْ هَدْىِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَالتَّمَحْوُرُ فِي فِكْرِيَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالِانْغِلَاقُ فِي قَالَبِهَا، فَفِي الْوَقْتِ الَّذِى بَدَأَ الْمُسْلِمُونَ يَتَخَلَّصُونَ فِيهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ، أَخَذَتِ الْجَمَاعَاتُ تَنْفُخُ فِي التَّعَصُّبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَشَدُّ سُوءًا.

 عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّ الْمُغَالَطَاتِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَيَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يُخْدَعَ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ شَحِيحًا بِدِينِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى آخِرَتِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِيمَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فِإِنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَذَاكَ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ، وَإِلَّا فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَلَا كَرَامَةَ.

هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا نُدَنْدِنُ حَوْلَهُ طَوِيلًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ السُّدَّةُ الَّتِي تَعْتَرِضُ سَبِيلَ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ النَّقِيِّ مِنْ أَجْلِ اسْتِعَادَةِ مَجْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَالَمِ.

هَذِهِ التَّحَزُّبَاتُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْفِرَقُ بِأَعْمَالِهَا فِي دَهَالِيزِ السَّرَابِ وَفِي كُهُوفِ الظَّلَامِ.. هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ إِنَّمَا هِيَ سُدَّةٌ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَعِيدَ الْمُسْلِمُونَ مَجْدَهُمُ الْغَابِرَ، وَأَنْ يُعِيدُوا مَا قَدْ سُلِبَ مِنْهُمْ مِنْ عِزَّةٍ إِنَّمَا رَفَعَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ ضِدَّهَا عِنْدَمَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَهَذَا التَّحَزُّبُ وَهَذَا التَّفَرُّقُ وَهَذَا الِانْتِمَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ نَتِيجَتُهُ الْحَتْمِيَّةُ هِيَ أَنَّهُ يَأْتِي إِضْعَافُ الْأُمَّةِ، وَيَأْتِي الِانْكِسَارُ لِلْأُمَّةِ وَالِانْهِزَامُ لَهَا؛ بِسَبَبِ تَكَوُّنِ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ بِتِلْكَ الِانْتِمَاءَاتِ.

فِي ظِلِّ وَحْدَانِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ وَأُصُولِهِ الضَّابِطَةِ الْعَامَّةِ يَحْصُلُ بِكُلِّ اطْمِئْنَانٍ الْمَنْعُ شَرْعًا لِتَحَزُّبٍ -أَيْ لِفِرْقَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ- الْمَنْعُ شَرْعًا لِأَيِّ تَحَزُّبٍ يَكُونُ لِفِرْقَةٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْإِسْلَامِ تُخَالِفُهُ فِي شَكْلٍ أَوْ مَضْمُونٍ، فِي وَسِيلَةٍ أَوْ غَايَةٍ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ؛ إِذِ الْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، فَلَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ لَمْ يَقُلْ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)).

عِنْدَمَا ذَكَرَ الْفِرَقَ قَالَ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً))، فَلَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ مَا قَالَ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً))؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ ﷺ ذَلِكَ يَحْصُرُ أَهْلَ الْحَقِّ فِي سَبِيلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنْ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ.

 لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً))، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّهَا فِرَقٌ وَلَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ، فَالْوَحْدَانِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِافْتِرَاقَ وَلَا التَّبَدُّدَ وَلَا الِانْقِسَامَ.

وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ إِنْشَاءَ أَيِّ جَمَاعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ يُخَالِفُ هَذَا الْإِنْشَاءُ الْإِسْلَامَ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ بِجُزْئِيَّاتٍ لَا يَجُوزُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ -أَيْ إِلَى ذَلِكَ التَّحَزُّبِ، إِلَى تِلْكَ الْفِرَقِ، إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ- بَلْ نَعْتَزِلُ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا.

 وَعَلَيْهِ؛ فَلَا يَجُوزُ الِانْصِهَارُ مَعَ رَايَةٍ أُخْرَى تُخَالِفُ رَايَةَ التَّوْحِيدِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ فِي وَسِيلَةٍ أَوْ غَايَةٍ، فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ.

وَمَعَاذَ اللهِ! أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ عَلَى سَنَنِ الْإِسْلَامِ مَظَلَّةً يَدْخُلُ تَحْتَهَا أَيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، فَيُغَضُّ النَّظَرُ عَنْ بِدَعِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ عَلَى حِسَابِ الدَّعْوَةِ، وَلَيْسَ أَمَامَنَا إِلَّا الْإِسْلَامُ فِي صَفَائِهِ وَسِيرَتِهِ الْأُولَى عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى فَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَعْمَلُ بِهِ، وَلَا نُخَالِفُهُ بِاسْمٍ وَلَا رَسْمٍ وَلَا وَسِيلَةٍ وَلَا غَايَةٍ، وَهُوَ الْمَرَدُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالدَّعْوَةُ بِجَمِيعِ مَرَاحِلِهَا مَضْبُوطَةٌ بِرَسْمِ الشَّرْعِ وَبِمَقَايِيسِهِ وَبِمِيزَانِهِ الْعَادِلِ، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].

فَتَعْلَمُ مِنْ هَذَا جَمِيعِهِ حُرْمَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ، وَعَدَمُ جَوَازِ الِانْتِمَاءِ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا قَطُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُرُّ الْوَيْلَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، يُمَزِّقُ صُفُوفَ أَبْنَائِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، وَيَدْفَعُ بِالذَّرَائِعِ أَهْلَ الشَّرِّ لِإِيقَاعِ الْكُرُوبِ وَالْمُنْكَرِ عَلَيْهَا، فَاللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ اهْدِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ.

((ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَفَوَائِدُهُ))

إِنَّ الْعَمَلَ الْجَمَاعِيَّ الَّذِي نَسْعَى إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ الْمَشْرُوعُ الْقَائِمُ عَلَى ضَوَابِطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ الَّذِي يَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ، وَلَهُ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ اللهَ يُوَفِّقَ وَيُسَدِّدَ مَنْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَنَّهُمَا قَالَا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

*وَمِنَ الثَّمَرَاتِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَمَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)) .

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ تَعَاوُنِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْحَقِّ: الْمَحَبَّةُ وَالْوُدُّ بَيْنَهُمْ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)) .

إِذَنْ؛ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ أَنَّهُ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ التَّنَازُعَ وَالتَّفَرُّقَ سَبَبُ الْفَشَلِ وَذَهَابِ الْقُوَّةِ، التَّفَرُّقُ قُرَّةُ عَيْنِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَا يَوَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى شَيْءٍ، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّفَرُّقَ تَفَتُّتٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالِالْتِزَامِ وَالِاتِّجَاهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالنَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى التَّآلُفِ وَالتَّحَابِّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ وَذَهَابِ الرِّيحِ ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يُؤَدِّي إِلَى عَجْزِكُمْ وَضَعْفِكُمْ وَجُبْنِكُمْ وَذَهَابِ قُوَّتِكُمْ وَدَوْلَتِكُمْ.

{وَلَا تَنَازَعُوا}: فَإِنَّكُمْ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فَشِلْتُمْ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}: وَأَتَى بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَشْلَ يَأْتِي بِعَقِبِ النِّزَاعِ مِنْ غَيْرِ مَا فَصْلٍ، فَأَتَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفَاءِ هَاهُنَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ فَاصِلٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

بَلْ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى هَذَا تَرْتِيبًا حَالِيًّا بِغَيْرِ مَا فَصْلٍ فِي الْآنِ وَلَا فِي الزَّمَانِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:  {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}؛ يَعْنِي: وَتَذْهَبَ قُوَّتُكُمْ، فَإِذَا مَا هُنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بَعْدَمَا هَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَمْرِهِ عَلَيْكُمْ؛ صِرْتُمْ هَيِّنِينَ لَيِّنِينَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَنَزَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّهْبَةَ مِنْكُمْ مِنْ صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ، فَسَامُوكُمُ الْخَسْفَ وَأَذَلُّوكُمْ، وَنَزَلَ بِكُمْ مَا لَا تُحِبُّونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ؛ مِنْ سَلْبِ الْأَمْوَالِ، وَهَدْمِ الدِّيَارِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ تَغْيِيرُ الدِّينِ، وَمُحَاوَلَةُ الْمَحْقِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ: النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَإِرْهَابُهُمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِتَعَاوُنِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

وَلِلهِ الْعِزَّةُ بِقَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَلِرَسُولِهِ ﷺ بِإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللهِ لَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْغَالِبَةِ وَنَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.

وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَّزَةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدَوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.

وَقَالَ ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)) .

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ لُزُومِ الْجَمَاعَةِ: انْتِظَامُ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى)): ((وَهَذِهِ الثَّلَاثُ -يَعْنِي الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).

*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الِاجْتِمَاعِ: الْعِصْمَةُ مِنَ الْفِتَنِ وَالشُّرُورِ وَالْهَلَاكِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي... فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ ﷺ لِحُذَيْفَةَ- أَنْ قَالَ لَهُ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) .

وَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأُمَّةَ -الْيَوْمَ- تَحْتَاجُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا أَنْ يَكُونُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

اتَّقُوا اللهَ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ! تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ رَبِّكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، تُرْفَعُ النِّزَاعَاتُ مِنْ بَيْنِكُمْ وَتَزُولُ خِلَافَاتُكُمْ، وَأَمَّا إِذَا مَا سَارَ كُلٌّ فِي سَبِيلٍ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ، وَإِنَّمَا أُكِلْتُمْ يَوْمَ أُكِلُ الثَّوْرُ الْأَحْمَرُ.

اتَّقُوا اللهَ! وَعُودُوا إِلَى اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ وَبِكِتَابِ رَبِّكُمْ بِفَهْمِ صَحَابَةِ نَبِيِّكُمْ، وَاللهُ يَرْعَاكُمْ وَيَتَوَلَّاكُمْ، وَيُسَدِّدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاكُمْ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((الْفَسَادُ صُوَرُهُ وَمَخَاطِرُهُ)) مُهَذَّبٌ مِنْ كِتَاب: ((حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
  تيقظ وانتبه !!
  الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  عقوبة من والى المبتدعة
  مسألة اختلاف المطالع
  المد الشيعي في مصر
  إِيمَانُ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  تَفْرِيغُ مُحَاضَرَاتِ سِلْسِلَة: «الرَّدُّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ»
  مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ: إِجْرَاءُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان