كَيْفَ تَكُونُ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ؟!!

كَيْفَ تَكُونُ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ؟!!

((كَيْفَ تَكُونُ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ؟!!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِثْبَاتُ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))

((فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

{وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].

{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].

هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ أَفْعَالٍ للهِ -تَعَالَى- نَاشِئَةٍ عَنْ صِفَةِ الْمَحَبَّةِ؛ فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمْ يُحِبُّونَهُ.

نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ وَيُحَبُّ.

فَهُوَ مَحْبُوبٌ لِأَوْلِيَائِهِ، وَأَوْلِيَاؤُهُ مُحِبُّونَ لَهُ، وَهُمْ مَحْبُوبُونَ لَدَيْهِ، الْمَحَبَّةُ مُتَبَادَلَةٌ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ مَحَبَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهِيَ مَحَبَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَيْسَتْ مَجَازًا عَنِ الْإِثَابَةِ؛ لِأَنَّ الْإِثَابَةَ شَيْءٌ وَالْمَحَبَّةَ شَيْءٌ آخَرُ، بَلِ الْإِثَابَةُ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ.

((مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْوَدُودُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].

{الْغَفُورُ}: السَّاتِرُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُتَجَاوِزُ عَنْهَا.

{الْوَدُودُ}: مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُدِّ، وَهُوَ خَالِصُ الْمَحَبَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى: وَادٍّ، وَبِمَعْنَى: مَوْدُودٍ؛ لِأَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُحِبٌّ وَمَحْبُوبٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ٥٤]، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَادٍّ وَمَوْدُودٌ، وَادٌّ لِأَوْلِيَائِهِ، وَأَوْلِيَاؤُهُ يَوَدُّونَهُ يُحِبُّونَهُ، يُحِبُّونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ.

وَفِي الْآيَةِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ: الْغَفُورُ، وَالْوَدُودُ، وَصِفَتَانِ: الْمَغْفِرَةُ، وَالْوُدُّ.

وَالْمَحَبَّةُ ثَابِتَةٌ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ عِنْدَنَا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ؛ احْتِجَاجًا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا بِالْعَقْلِ؛ فَإِثَابَةُ الطَّائِعِينَ بِالْجَنَّاتِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَغَيْرِهِ، هَذَا يَدُلُّ بِلَا شَكٍّ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ بِأَعْيُنِنَا وَنَسْمَعُ بِآذَانِنَا عَمَّنْ سَبَقَ وَعَمَّنْ لَحِقَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَيَّدَ مَنْ أَيَّدَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصَرَهُمْ وَأَثَابَهُمْ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا دَلِيلٌ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِمَنْ أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَأَثَابَهُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-؟!)).

 

((مَنْزِلَةُ مَحَبَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِعِبَادِهِ))

((إِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.

وَكَمْ فِي السُّنَّةِ: ((أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا))، وَ ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا))؛ كَقَوْلِهِ: ((أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، وَ ((أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ))، وَ ((أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ: مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ))، وَقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ)).

وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ.

وَفَرَحُهُ الْعَظِيمُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَرَحٍ يَعْلَمُهُ الْعِبَادُ، وَهُوَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلتَّوْبَةِ وَلِلتَّائِبِ.

فَلَوْ بَطَلَتْ مَسْأَلَةُ الْمَحَبَّةِ لَبَطَلَتْ جَمِيعُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَتَعَطَّلَتْ مَنَازِلُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّهَا رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ وَمَنْزِلَةٍ وَعَمَلٍ، فَإِذَا خَلَا مِنْهَا فَهُوَ مَيِّتٌ لَا رُوحَ فِيهِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْأَعْمَالِ كَنِسْبَةِ الْإِخْلَاصِ إِلَيْهَا؛ بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ؛ بَلْ هِيَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ الِاسْتِسْلَامُ بِالذُّلِّ وَالْحُبِّ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ، فَمَنْ لَا مَحَبَّةَ لَهُ لَا إِسْلَامَ لَهُ أَلْبَتَّةَ؛ بَلْ هِيَ حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْعِبَادُ ذُلًّا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا وَطَاعَةً لَهُ؛ بِمَعْنَى: مَأْلُوهٍ، وَهُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ، أَيْ: تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.

وَأَصْلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ، وَالتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ، يُقَالُ: عَبَّدَهُ الْحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إِذَا مَلَكَهُ وَذَلَّلَهُ لِمَحْبُوبِهِ.

فَـ ((الْمَحَبَّةُ)) حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَهَلْ تُمْكِنُ الْإِنَابَةُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ!

وَهَلِ الصَّبْرُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا صَبْرُ الْمُحِبِّينَ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَكَّلُ عَلَى الْمَحْبُوبِ فِي حُصُولِ مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ!

وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَزْهَدُونَ فِي مَحَبَّةِ مَا سِوَى مَحْبُوبِهِمْ لِمَحَبَّتِهِ!

وَكَذَلِكَ الْحَيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّينَ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ عَنْ مَحَبَّةٍ فَذَلِكَ خَوْفٌ مَحْضٌ.

وَكَذَلِكَ مَقَامُ الْفَقْرِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقْرُ الْأَرْوَاحِ إِلَى مَحْبُوبِهَا، وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْفَقْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا فَقْرَ أَتَمُّ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ؛ لَا سِيَّمَا إِذَا وَحَّدَهُ فِي الْحُبِّ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ عِوَضًا سِوَاهُ، هَذَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ.

وَكَذَلِكَ الْغِنَى هُوَ غِنَى الْقَلْبِ بِحُصُولِ مَحْبُوبِهِ.

وَكَذَلِكَ الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَلِقَائِهِ؛ فَإِنَّهُ لُبُّ الْمَحَبَّةِ وَسِرُّهَا.

فَمُنْكِرُ الْمَحَبَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُعَطِّلُهَا مِنَ الْقُلُوبِ: مُعَطِّلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَحِجَابُهُ أَكْثَفُ الْحُجُبِ، وَقَلْبُهُ أَقْسَى الْقُلُوبِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ اللَّهِ)).

((السَّعْيُ لِنَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

إِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي يَنَالُهَا الْعَبْدُ، فَبِذَلِكَ يَنَالُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِهَا يُوَفَّقُ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الْعَمَلِ، وَيُعْصَمُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الزَّلَلِ، فَمَحَبَّةُ اللهِ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي يَتَنَافَسُ لِأَجْلِهَا الصَّالِحُونَ وَالْمُحْسِنُونَ؛ لِيَنَالُوا الْقُرْبَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَالْفَوْزَ بِمَرْضَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ رَجَاءُ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ مِنْ دُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ وَخَاصَّةً خَاتَمِهِمْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((اللَّهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ)).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّها حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ!))

إِنَّ الشَّأْنَ لَيْسَ فِي أَنْ تُحِبَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ؛ لِأَنَّكَ إِنْ أَحْبَبْتَ وَلَمْ تُحَبَّ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ، فَمَنْ أَحَبَّ وَلَمْ يُحَبَّ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ.

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ؛ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ وَلَمْ يُحَبَّ فَهُوَ فِي عَذَابٍ وَاصِبٍ، وَهُوَ فِي هَمٍّ نَاصِبٍ، وَالسُّنَّةُ قَدْ أَظْهَرَتْ لَنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِه)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَهِىَ أُخْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ- جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ أَمَا إِنِّي مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ؛ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟)).

قَالَتْ: ((نَعَمْ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)).

فَافْتَدَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ لَا تَعِيبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَا فِي خُلُقٍ وَلَا فِي دِينٍ.

وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَشَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ يَحْيَا حَمِيدًا، وَيَمُوتُ شَهِيدًا، وَأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَشَهِدَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ فِي الَّذِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالَّذِينَ يَجْهَرُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛ ظَنَّ ثَابِتٌ -وَكَانَ بِهِ ثِقَلٌ فِي السَّمْعِ، فَكَانَ عَالِيَ الصَّوْتِ، وَهُوَ كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْزُوقًا حُسْنَ الصَّوْتِ وَجَمَالَهُ، وَكَانَ خَطِيبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَكَانَ يَخْطُبُ إِذَا جَاءَتِ الْوُفُودُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ-؛ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ ذَلِكَ ظَنَّ ثَابِتٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون} [ الحجرات: 2]، فَقَالَ: حَبِطَ عَمَلِي؛ لِأَنِّي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].

فَقَالَ: حَبِطَ عَمَلِي، حَبِطَ عَمَلِي، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا افْتَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ الْخَبَرُ.. افْتَقَدَ النَّبِيُّ ﷺ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَقالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ))، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا في بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ: ((مَا شَأْنُكَ؟)).

فَقَالَ: ((شَرٌّ؛ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).

فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وكَذَا، -وَفِي رِوَايَةٍ: فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: ((اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).

فَقَالَ: بَلِ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَبَشِّرْهُ أَنَّكَ تَحْيَا حَمِيدًا، وَتَمُوتُ شَهِيدًا، وَأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ لَا تُطِيقُهُ، وَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَدْءًا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ -هَذَا مَوْضُوعُ الْقَضِيَّةِ الَّتِي تَعْرِضُهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ؛ مَا لَهُ؟- قَالَتْ: أَمَا إِنِّي مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ -لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ، لَا أَنْقِمُ عَلَيْهِ- شَيْئًا فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ -فَأَمَّا خُلُقُهُ فَمِنْ أَكْمَلِ الْخُلُقِ، وَأَمَّا دِينُهُ فَأَمْتَنُ دِينٍ يَكُونُ-، وَمَعَ ذَلِكَ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ)).

وَالْكُفْرُ هُنَا: هُوَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((يَكْفُرْنَ)) يَعْنِى: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ.

فَخَافَتْ هِيَ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ، وَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ مُقَرِّرَةً: إِنَّهَا لَا تُطِيقُ هَذَا الرَّجُلَ الصَّالِحَ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ عَيْبٍ، لَا فِي خُلُقٍ وَلَا فِي دِينٍ، وَإِنَّهَا لَتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ بِالْمَهْرِ الَّذِي قَدَّمَهُ إِلَيْهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟)).

قَالَتْ: ((نَعَمْ)).

فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبُولِهَا، وَأَنْ يُطَلِّقَهَا، فَقَالَ: ((اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)).

فَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ!

أَقْوَامٌ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ يَأْتُوا بِدَعْوَى فَارِغَةٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ يُقَامَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعَى، فَإِذَا مَا قَامَتِ الدَّعْوَى عَلَى سَاقَيْنِ مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- تُؤْتِي أُكُلَهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَبْدَ إِذَا أَتَى بِالْبُرْهَانِ، وَهُوَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ ﷺ.

فَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ!

وَأَنْتَ إِذَا مَا أَحْبَبْتَ وَلَمْ تُحَبَّ فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ.

وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ -أَيْضًا- فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قِصَّةِ مُغِيثٍ وَبَرِيرَةَ؛ فَإِنَّ مُغِيثًا كَانَ عَبْدًا لِبَنِي فُلَانٍ -كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--، وَكَذَا كَانَتْ بَرِيرَةُ أَمَةً، فَلَمَّا أُعْتِقَتْ صَارَ الْخِيَارُ إِلَيْهَا فِي أَنْ تَظَلَّ تَحْتَهُ وَهُوَ عَبْدٌ، أَوْ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَكَانَ قَدْ عَلِقَ قَلْبُهُ بِهَا بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهَا بِحَالٍ، فَلَمَّا أَنِ اخْتَارَتْ؛ كَانَ يَدُورُ وَرَاءَهَا فِي الْأَسْوَاقِ -كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ))؛ لِأَنَّهَا قَدِ اخْتَارَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تُرِدْهُ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَجِبَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَعَجَّبَ مِنْهُ، فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا عَبَّاسُ! أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا!)).

حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَحْمَةً بِهِ شَفَعَ لَهُ عِنْدَهَا، فَقَالَ: ((لَوْ رَاجَعْتِهِ)): أَلَا تَرْجِعِينَ إِلَيْهِ؟!

قَالَتْ: ((يا رَسُولَ اللَّهِ! تَأْمُرُنِي؟)).

قَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ)).

قَالَتْ: ((لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ)).

فَيَدُورُ وَرَاءَهَا فِي السِّكَكِ، وَفِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ يَسِيلُ قَلْبُهُ دُمُوعًا عَلَى وَجْنَتَيْهِ، ثُمَّ تَخْضَلُّ لِحْيَتُهُ مِنْ أَثَرِ مَدَامِعِهِ بِدُمُوعِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُصَادِفُ ذَلِكَ -بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- فِي قَلْبِهَا اسْتِجَابَةً، وَلَا حُنُوًّا عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ زَوْجًا!

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ هَذَا هُوَ مَوْطِنُ الْعَجَبِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا!))، فَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا وَأَنْ يُبْغِضَهُ الْمَحْبُوبُ، بَلْ إِذَا مَا أَحَبَّهُ هَذَا أَحَبَّهُ تِلْوًا؛ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّ مَوْطِنَ الْعَجَبِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَجَدَ هَذَا الْبُغْضَ مِنْ بَرِيرَةَ لِمُغِيثٍ مَعَ مَا كَانَ مِنِ ائْتِلَافٍ بِزَوَاجٍ وَقَدْ كَانَ لَهَا زَوْجًا، ثُمَّ إِنَّهُ يُحِبُّهَا هَذَا الْحُبَّ كُلَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ تُبْغِضُهُ هَذَا الْبُغْضَ كُلَّهُ، ((وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)).

فَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ!

((أَعْظَمُ سُبُلِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ: اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ ))

الْإِنْسَانُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا بِأَسْبَابِهَا.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ: أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ آل عمران: 3].

فَعَلَّقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الشَّرْطِ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ، فَمَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ﷺ أَحَبَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَفَاهُ أَمْرَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ إِذْ يَكُونُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-، وَذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ، وَثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ.

فَلَا بُدَّ مِنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصِدِ الْكَبِيرِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَكْبَرَهَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحِبُّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، لَا يُحِبُّ إِلَّا الْمُحْسِنِينَ، لَا يُحِبُّ إِلَّا الْمُطَهِّرِينَ، لَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْلَ الْخُبْثِ، وَلَا يُحِبُّ أَهْلَ الْخَبَائِثِ، وَلَا يُحِبُّ أَهْلَ الْفُحْشِ وَلَا أَهْلَ الْفَوَاحِشِ.

فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحَبَّ!

وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآيَةَ الَّتِي قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((إِنَّهَا آيَةُ الْمِحْنَةِ، أَوْ آيَةُ الِاخْتِبَارِ))؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا يَدَّعُونَ مَحَبَّةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْآيَةَ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا؛ مِنْ أَجْلِ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].

فَإِذَنْ؛ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْبَابِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا؛ أَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّمْثِيلِ وَلَا التَّعْطِيلِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالتَّجْسِيمِ وَلَا بِالتَّشْبِيهِ، أَلَّا يَأْتِيَ بِالْغُلُوِّ وَأَلَّا يَأْتِيَ بِالْجَفَاءِ، أَلَّا يَكُونَ خَارِجِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُرْجِئِيًّا، وَأَلَّا يَكُونَ مُؤَوِّلًا وَلَا مُشَبِّهًا وَلَا مُجَسِّمًا.

وَإِنَّمَا يَكُونُ آتِيًا بِالْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، يَعْرِفُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيُطِيعُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، آخِذًا بِأَسْبَابِهِ، فَلَا يَكُونُ جَبْرِيًّا يَتَوَاكَلُ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا قُدِّرَ، وَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَلَا يَكُونُ قَدَرِيًّا فَيَجْعَلُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ نَافِذَةً، وَلَا مَشِيئَةَ لِرَبِّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرُ أَهْلُ السُّنَّةِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ، فِيمَا دَلَّ بِهِ عَلَى أَسْمَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.

يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْعَقِيدَةِ، وَفِي الْقَوْلِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ، مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَجْهَلُ -يَعْنِي: يَتَكَلَّمُ حَتَّى فِي الْغَضَبِ بِالْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ-، حَاشَا وَكَلَّا، بَلْ كَانَ سَدِيدَ الْمَنْطِقِ، مَؤَيَّدًا مُسَدَّدًا ﷺ، يَعْرِفُ ذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ كَمَا يَعْرِفُهُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ؛ حَتَّى إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: ((أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَخْزَاكُمْ يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ؟!)).

قَالُوا: ((مَا عَهِدْنَاكَ جَهُولًا يَا أَبَا الْقَاسِمِ)) ﷺ؛ يُرِيدُونَ بِالْجَهْلِ هُنَا الْجَهْلَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ.

فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَاكَ جَهُولًا يَا أَبَا الْقَاسِمِ))، أَمَّا مَنْطِقُكَ فَالْمَنْطِقُ السَّدِيدُ، يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ.

فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ، وَفِى قَوْلِهِ؛ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسَدَّدًا فِي مَنْطِقِهِ، صَائِبًا فِي قَوْلِهِ، بَعِيدًا عَنِ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاللِّسَانِ.

الْيَهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا يَعْلَمُهُ أَوْلِيَاءُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمُحِبُّوهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: ((السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ))، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ.

قَالَ: ((وَعَلَيْكُمْ)).

وَأَمَّا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَلَمْ تَحْتَمِلْ، قَالَتْ: ((السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: ((السَّامُ عَلَيْكُمْ يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَعْنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ)).

وَمَا قَالَتْ إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وَإيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوِ الفُحْشَ)).

قَالَتْ: ((أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!)).

قَالَ: ((أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ)) ﷺ.

وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْشَدَهَا فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! لَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُتَابِعَ النَّبِيَّ ﷺ بَدْءًا فِي عَقِيدَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ أُرْسِلَ بِهَذَا الْأَمْرِ كَمَا أُرْسِلَ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ لِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي عَقِيدَتِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي قَوْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي فِعْلِهِ!

وَتُتَابِعُ النَّبِيَّ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ وَفِى سُلُوكِهِ ﷺ!

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

إِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يُحَصِّلَ الْكِفَايَةَ، وَأَلَّا يَكِلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ مَحَبَّةِ الرَّبِّ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِذَا تَابَعَ الْعَبْدُ نَبِيَّهُ ﷺ أَحَبَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

 

((جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ))

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْهُ.

{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7].

{وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].

{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.

وَصِفَةُ الْمَحَبَّةِ ثَابِتَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ مَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا مُخْلِصِينَ وَرِجَالًا صَادِقِينَ قَدْ تَكَفَّلَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ بِهِدَايَتِهِمْ، وَوَعَدَ بِالْإِتْيَانِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ أَوْصَافًا، وَأَقْوَاهُمْ نُفُوسًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا؛ أَجَلُّ صِفَاتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ هِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ فَضِيلَةٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا يَسَّرَ لَهُ الْأَسْبَابَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ كُلَّ عَسِيرٍ، وَوَفَّقَهُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْوِدَادِ.

وَمِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

كَمَا أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ: أَنْ يُكْثِرَ الْعَبْدُ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ اللَّهِ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)).

وَمِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ: مَعْرِفَتُهُ -تَعَالَى-، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ بِدُونِ مَعْرِفَةٍ بِاللَّهِ نَاقِصَةٌ جِدًّا، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَبِلَ مِنْهُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ، وَغَفَرَ لَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ.

وَمِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَذِلَّةٌ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لَهُمْ، وَنُصْحِهِمْ لَهُمْ، وَلِينِهِمْ وَرِفْقِهِمْ وَرَأْفَتِهِمْ وَرَحْمَتِهِمْ بِهِمْ، وَسُهُولَةِ جَانِبِهِمْ، وَقُرْبِ الشَّيْءِ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ، الْمُعَانِدِينَ لِآيَاتِهِ، الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ أَعِزَّةٌ، قَدِ اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُمْ وَعَزَائِمُهُمْ عَلَى مُعَادَاتِهِمْ، وَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ فِي كُلِّ سَبَبٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِصَارُ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، فَالْغِلْظَةُ الشَّدِيدَةُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِمَّا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ إِلَى اللَّهِ، وَيُوَافِقُ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي سَخَطِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَمْنَعُ الْغِلْظَةُ عَلَيْهِمْ وَالشِّدَّةُ دَعَوْتَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَتَجْتَمِعُ الْغِلْظَةُ عَلَيْهِمْ، وَاللِّينُ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ، وَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ.

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، بَلْ يُقَدِّمُونَ رِضَا رَبِّهِمْ، وَالْخَوْفَ مِنْ لَوْمِهِ عَلَى لَوْمِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هِمَمِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ؛ فَإِنَّ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ضَعِيفُ الْهِمَّةِ، تَنْتَقِضُ عَزِيمَتُهُ عِنْدَ لَوْمِ اللَّائِمِينَ، وَتَفْتُرُ قُوَّتُهُ عِنْدَ عَذْلِ الْعَاذِلِينَ، وَفِي قُلُوبِهِمْ تَعَبُّدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا فِيهَا مِنْ مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ، وَتَقْدِيمِ رِضَاهُمْ وَلَوْمِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَلَا يَسْلَمُ الْقَلْبُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ حَتَّى لَا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

وَلَمَّا مَدَحَهُمْ -تَعَالَى- بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْمَنَاقِبِ الْعَالِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ؛ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ؛ لِئَلَّا يُعْجَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِيَشْكُرُوا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَلِيَعْلَمَ غَيْرُهُمْ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ، فَقَالَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أَيْ: وَاسِعُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، جَزِيلُ الْمِنَنِ، قَدْ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُوَسِّعُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَضْلَ فَيُعْطِيهِ؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ أَصْلًا وَفَرْعًا)).

{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.

ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صِفَاتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ الصِّفَاتِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: خَدِّي مَدَاسٌ لَكَ حَتَّى تَرْضَى، كَمَا كَانَ الشَّأْنُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ لَمَّا عَيَّرَ بِلَالًا بِسَوَادِ أُمِّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).

وَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَّا أَنْ يَعْتَذِرَ اعْتِذَارًا لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَنَاقَلُونَهُ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَسَيَظَلُّونَ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَقْسَمَ لَيَطَأَنَّ عَلَى خَدِّهِ بِنَعْلِهِ؛ خَدِّي مَدَاسٌ لَكَ حَتَّى تَرْضَى؛ لِيُكَفِّرَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ لَهُ: ((يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ))، وَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}.

وَالْمُؤْمِنُونَ أَصْحَابُ الْعِزَّةِ وَإِنْ كَانُوا قِلَّةً، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)) وَإِنْ كُنْتُمْ قِلَّةً؛ لِأَنَّكُمْ أَهْلُ عِزَّةٍ.

وَأَمَّا هُمْ وَأَمَّا نَحْنُ فَبَشَرٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا الْعِزُّ وَالذُّلُّ فَأَتَى بِهِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ، أَتَى الْإِيمَانُ بِالْعِزِّ، كَمَا أَتَى الْكُفْرُ بِالْمَذَلَّةِ لِلْكَافِرِينَ.

فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُؤْمِنَ بِأَنْ يَسْتَعْلِيَ بِإِيمَانِهِ، وَأَنْ يَقْصِدَ إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَضْطَرَّ الْكَافِرَ إِلَى أَضْيَقِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَجَلَالِ الْأَمْرِ الَّذِي جَعَلَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَمْنُونًا بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَذَا الْإِيمَانُ الْعَظِيمُ، إِذَا مَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِحْسَاسًا صَادِقًا؛ عَلِمَ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَكْرَمَهُ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَعْلَى شَأْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْعِزَّةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِيمَانِهِمْ بِاللهِ وَالرَّسُولِ ﷺ.

فَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَاتِ هَؤُلَاءِ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.

وَهُوَ الدَّلَالَةُ الصَّادِقَةُ وَالثَّمَرَةُ النَّاضِجَةُ لِلْإِيمَانِ الْحَقِّ، تَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ بَذْلًا وَعَطَاءً لِلرُّوحِ وَلِلنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالسِّنَانِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْبَنَانِ، فَيُجَاهِدُونَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِالسِّنَانِ، وَيُجَاهِدُونَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالشُّبُهَاتِ بِالْحُجَّةِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ، فَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِكُلِّ صُورَةٍ مُمْكِنَةٍ.

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ إِلَّا رِضْوَانَ اللهِ، وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ رِضَا النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِسَخَطِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُعَامِلُ الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ.

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَاتِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.

((مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ))

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الْمَعْرُوفِ بِـ ((حَدِيثِ الْأَوْلِيَاءِ) الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُعَادَاةَ أَوْلِيَائِهِ مُعَادَاةً لَهُ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَرْبَ الْمَشْنُونَةَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ حَرْبًا عَلَيْهِ؛ وَعَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُعْلِمُ مَنْ آذَى أَوْلِيَاءَهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْحَرْبِ مَشْنُونَةً مُعْلَنَةً عَلَيْهِ ((مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) أَىْ: أَعْلَمْتُهُ بِهَا.

وَالْوَلِيُّ لَا يُعْرَفُ بِرَسْمٍ، وَلَا اسْمٍ، وَلَا بِشَارَةٍ، وَلَا بِحَرَكَةٍ، وَلَا بِدَلٍّ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْوَلِيُّ بِخَصْلَتَيْنِ بَيَّنَهُمَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُسْتَنْبِطًا مِنَ الْآيَةِ: ((كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ))، فَالْوَلِيُّ لَا يُعْرَفُ بِاسْمِهِ، وَلَا يُعْرَفُ بِرَسْمِهِ، وَلَا يُعْرَفُ بِثِيَابِهِ، وَلَا يُعْرَفُ بِصَوْمَعَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِفَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ.

وَعَلَيْهِ؛ تَعْلَمُ سَفَهَ وَشِرْكَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الْخَلْقِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيُنْزِلُونَ بِهِمُ الْحَاجَاتِ، فَيُشْرِكُونَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَهَذَا الزَّيْفِ الزَّائِفِ، وَهَذَا الشِّرْكِ الْمُعْلَنِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيَّنَ صِفَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَقَصَرَ ذَلِكَ عَلَى صِفَتَيْنِ بَيَّنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ.

((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))، ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يَكِلُ مَنْ أَحَبَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ يُسَدِّدُهُ؛ يُسَدِّدُ بَصَرَهُ، وَيُسَدِّدُ سَمْعَهُ، وَيُسَدِّدُ يَدَهُ وَبَطْشَهُ، وَيُسَدِّدُ رِجْلَهُ وَمَشْيَهُ وَسَعْيَهُ، كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا بِالنَّتِيجَةِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِذَا مَا أَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ -وَهَذَا فِي تَحْصِيلِ الْمَحْبُوبِ-، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ -وَهَذَا فِي الْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ-))، فَجَعَلَ لَهُ الْخَيْرَ بِحَذَافِيرِهِ لَمَّا أَتَى بِمُوجِبِ مَحَبَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَازِمِهَا.

فَكَمَا أَنَّ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ الْبَابُ الْوَسِيعُ لِتَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ؛ فَأَيْضًا: الْإِتْيَانُ بِمَا افْتَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ شَفْعُ ذَلِكَ بَعْدُ بِالْإِكْثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ.. سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْكِفَايَةِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثَمَرَةً وَنَتِيجَةً.

وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاضَلُ فِي جِنْسِهَا؛ فَلَيْسَتِ الْفَرَائِضُ كَالنَّوَافِلِ، فَجِنْسُ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ جِنْسِ النَّوَافِلِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ بِالنَّوْعِ؛ فَالصَّلَاةُ مِنَ الْفَرَائِضِ هِيَ أَفْضَلُ مَا افْتَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي نَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهِيَ -أَيْضًا- تَتَفَاضَلُ نَوْعًا كَمَا تَفَاضَلَتْ جِنْسًا.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ بِأَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِ؛ أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِنْسَانُ مَا فَرَضَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ، يَأْتِي بِهَا مُقِيمًا إِيَّاهَا كَمَا جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِفَرَائِضِ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِهَا أَصْلًا، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ))، فَجَعَلَهُ غَيْرَ آتٍ بِالْفَرِيضَةِ أَصْلًا: ((فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ))؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ كَمَا افْتَرَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَإِذَا مَا أَتَى بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ النَّوَافِلِ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَمَا يَزَالُ)): وَهَذَا مِنْ أَفْعَالِ الِاسْتِمْرَارِ، ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).

أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ أَرَادُوا أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالُوا: أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ تُؤَوِّلُونَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ))، فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تُؤَوِّلُونَ فَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ سَمْعَ الْعَبْدِ، وَبَصَرَهُ، وَيَدَهُ، وَرِجْلَهُ، فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَتَكُونُوا -حِينَئِذٍ- مِنَ الْمُجَسِّمِينَ.

وَإِمَّا أَنْ تُؤَوِّلُوا كَمَا نُؤَوِّلُ وَلَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَعَلَيْهِ؛ فَيُفْتَحُ الْبَابُ أَمَامَ الْمُؤَوِّلِينَ لِلتَّأْوِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: أَنْتُمْ لَمْ تَفْهَمُوا اللُّغَةَ، وَلَمْ تُحْسِنُوا التَّعَامُلَ مَعَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: نَأْخُذُ الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ مَا هُوَ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ؟

هَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضُ صِفَةِ الْعَبْدِ؟!

السَّمْعُ بَعْضُ صِفَاتِ الْعَبْدِ، وَالْبَصَرُ بَعْضُ صِفَاتِ الْعَبْدِ، وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ أَبْعَاضٌ لِلْعَبْدِ؛ فَهَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ السَّمَاعِ؟!

نَحْنُ نَقُولُ -نَحْنُ أَهْلَ السُّنَّةِ- نَقُولُ: إِنَّنَا نَأْخُذُ النُّصُوصَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا الْمُرَادَةِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَجْسِيمٍ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ كِتَابَ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَظَاهِرُ النَّصِّ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ السَّلِيمِ عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ اللُّغَوِيِّ وَعَلَى حَسَبِ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ الشَّرِيفُ؛ فَإِنَّكَ عِنْدَمَا تَسْمَعُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ))؛ لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الشَّرِيفِ عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ وَالتَّرْكِيبِ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقَرِّرُ أَنَّهُ صَارَ بَعْضَ صِفَاتِ الْعَبْدِ؛ وَلَا أَنَّهُ صَارَ بَعْضَ أَبْعَاضِ الْعَبْدِ؟!

حَاشَا وَكَلَّا!

بَلِ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا النَّصِّ -وَهُوَ ظَاهِرُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالتَّرْكِيبُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا كِتَابَهُ، وَأَنْطَقَ بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ-: أَنَّهُ يُسَدِّدُهُ؛ يُسَدِّدُ سَمْعَهُ، ((كُنْتُ سَمْعَهُ)) بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَيُسَدِّدُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ؛ فَلَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْتَدُّ السَّمْعُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمْتَدَّ السَّمْعُ إِلَيْهِ، وَلَا تَمْتَدُّ الْيَدُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ أَنْ تَمْتَدَّ الْيَدُ إِلَيْهِ، وَلَا تَنْتَقِلُ الرِّجْلُ بِخَطْوٍ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ انْتِقَالَ الْخَطْوِ إِلَيْهِ.

فَهَذَا هُوَ التَّسْدِيدُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ بِلَا تَأْوِيلٍ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: التَّأْوِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ الدَّلِيلُ.

فَالْأَمْرُ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ- يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الْعَظِيمِ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) يَعْنِي: سَدَّدْتُ سَمْعَهُ؛ وَلِذَلِكَ إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُقْبِلًا عَلَى سَمَاعِ الْخَنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَيْفَ وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ))، وَهَذَا لَا يَفْتُرُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا مَا بَيْنَ ذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ الْخَنَا وَالْمُوبِقَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْبُوبًا للهِ لَصَدَقَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ))، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَدُّ بَصَرُهُ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُقْبِلًا عَلَى النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا وَجَدْتَهُ بَاطِشًا سَاعِيًا إِلَى الْمُنْكَرَاتِ، مُقْبِلًا عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَالَ: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ يَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).

وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْرًا كَبِيرًا يَقُولُ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)).

وَهِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَتْ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَرَدِّدِينَ الْحَيَارَى، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ هَاهُنَا بَيْنَ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِلْعَبْدِ، فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ، هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؛ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَيُحِبُّ الْحَيَاةَ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)).

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ أَنَّ التَّوْفِيقَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِتَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُوَفَّقًا إِلَّا إِذَا كُنْتَ مَحْبُوبًا مِنْ رَبِّكَ، -كَمَا فِي الْحَدِيثِ-، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَحْبُوبًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا حَصَّلْتَ أَسْبَابَ الْمَحَبَّةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا النَّصِّ: أَنْ تَأْتِيَ بِالْفَرَائِضِ وَافِيَةً، ثُمَّ تَأْتِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّوَافِلِ كَثِيرَةً، ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ..)) جَاءَهُ التَّوْفِيقُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْكِفَايَةُ -كِفَايَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ-، وَتَوْفِيقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ، وَلَهَا أَسْبَابُهَا بِتَحْصِيلِهَا.

((مِنْ سُبُلِ الْفَوْزِ بِمَحَبَّةِ اللهِ: الْإِحْسَانُ وَالْعَدْلُ وَالتَّقْوَى))

مِنَ السُّبُلِ الْعَظِيمَةِ لِنَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

{وَأَحْسِنُوا}: فِعْلُ أَمْرٍ، وَالْإِحْسَانُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا كَانَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: {وَأَحْسِنُوا} فِعْلُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ.

وَالْإِحْسَانُ يَكُونُ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَيَكُونُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ؛ فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللهِ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ((مَا الْإِحْسَانُ؟))، قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ))، وَهَذَا أَكْمَلُ مِنَ الَّذِي بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ يَعْبُدُهُ عِبَادَةَ طَلَبٍ وَرَغْبَةٍ، ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَرَاكَ، وَالَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يَعْبُدُهُ عِبَادَةَ خَوْفٍ وَرَهَبٍ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ مِمَّنْ يَرَاهُ.

وَأَمَّا الْإِحْسَانُ بِالنِّسْبَةِ لِمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ؛ فَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: ((بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ)).

((بَذْلُ النَّدَى)) أَيِ: الْمَعْرُوف؛ سَوَاءٌ كَانَ مَالِيًّا، أَوْ بَدَنِيًّا، أَمْ جَاهِيًّا.

((كَفُّ الْأَذَى)): أَلَّا تُؤْذِيَ النَّاسَ بِقَوْلِكَ وَلَا بِفِعْلِكَ.

((وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ)): أَلَّا تَكُونَ عَبُوسًا عِنْدَ النَّاسِ؛ لَكِنْ -أَحْيَانًا- الْإِنْسَانُ يَغْضَبُ وَيَعْبَسُ، فَنَقُولُ: هَذَا لِسَبَبٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لِصَلَاحِ الْحَالِ؛ وَلِهَذَا إِذَا رَجَمْنَا الزَّانِيَ أَوْ جَلَدْنَاهُ فَهُوَ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ إِحْسَانُ الْمُعَامَلَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا عَامَلْتَهُمْ بِالطَّيِّبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ.. صَبَرْتَ عَلَى الْعُسْرِ، وَأَوْفَيْتَ الْحَقَّ بِسُرْعَةٍ؛ هَذَا يُعَدُّ بَذْلَ النَّدَى، فَإِنِ اعْتَدَيْتَ بِالْغِشِّ وَالْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ فَأَنْتَ لَمْ تَكُفَّ الْأَذَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَذِيَّةٌ.

أَحْسِنْ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَإِلَى عِبَادِ اللهِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}: هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، فَهَذَا ثَوَابُ الْمُحْسِنِ؛ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ، وَمَحَبَّةُ اللهِ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَاللهِ! إِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لَتُشْتَرَى بِالدُّنْيَا كُلِّهَا، وَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِبَّ اللهَ، فَكَوْنُ اللهِ يُحِبُّكَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُحِبَّهُ أَنْتَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وَلَمْ يَقُلْ: فَاتَّبِعُونِي تَصْدُقُوا فِي مَحَبَّتِكُمْ للهِ، مَعَ أَنَّ الْحَالَ تَقْتَضِي هَكَذَا؛ وَلَكِنْ قَالَ: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: ٣١].

وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ فِي أَنَّ اللهَ يُحِبُّكَ، لَا أَنَّكَ تُحِبُّ اللهَ.

كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ؛ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الَّذِي فِي السَّمَاءِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ هَلْ يُحِبُّكَ أَمْ لَا؟

إِذَا أَحَبَّكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحَبَّتْكَ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَكَ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَيُحِبُّكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَيَقْبَلُونَكَ، وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ مِنْكَ، وَهَذِهِ مِنْ عَاجِلِ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ.

وَمِنْ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْعَدْلُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

{وَأَقْسِطُوا} أَيِ: اعْدِلُوا، وَهَذَا وَاجِبٌ؛ فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ مَا تَجِبُ فِيهِ التَّسْوِيَةُ.

يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ فِي مُعَامَلَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يُنْعِمُ اللهُ عَلَيْكَ بِالنِّعَمِ؛ فَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ تَقُومَ بِشُكْرِهِ، يُبَيِّنُ اللهُ لَكَ الْحَقَّ؛ فَمِنَ الْعَدْلِ أَنْ تَتَّبِعَ هَذَا الْحَقَّ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ؛ أَنْ تُعَامِلَ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

عَامِلِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ؛ مَثَلًا: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُعَامِلَ شَخْصًا مُعَامَلَةً فَاعْرِضْهَا أَوَّلًا عَلَى نَفْسِكَ: إِذَا عَامَلَكَ إِنْسَانٌ بِهَا؛ فَهَلْ تَرْضَى أَمْ لَا؟ إِنْ كُنْتَ تَرْضَى فَعَامِلْهُ؛ وَإِلَّا فَلَا تُدَافِعْهُ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)).

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ؛ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ، وَلَا يُوصَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ؛ بِأَنْ تَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِثْلَ مَا تَقْسِمُ لِلْأُخْرَى.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْعَدْلُ فِي نَفْسِكَ؛ فَلَا تُكَلِّفْهَا مَا لَا تُطِيقُ مِنَ الْأَعْمَالِ، ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)).

وَعَلى هَذَا فَقِسْ!

وَهُنَا يَجِبُ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَعْمِلُ بَدَلَ الْعَدْلِ الْمُسَاوَاةَ، وَهَذَا خَطَأٌ، لَا يُقَالُ: مُسَاوَاةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَدْ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا.

وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْجَائِرَةِ إِلَى التَّسْوِيَةِ صَارُوا يَقُولُونَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؟! سَوُّوا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ!

حَتَّى إِنَّ الشُّيُوعِيَّةَ قَالَتْ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَالْمَحْكُومِ؟! لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ سُلْطَةٌ عَلَى أَحَدٍ؛ حَتَّى بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، لَيْسَ لِلْوَالِدِ سُلْطَةٌ عَلَى الْوَلَدِ... وَهَلُمَّ جَرَّا.

لَكِنْ إِذَا قُلْنَا بِالْعَدْلِ -وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ-؛ زَالَ هَذَا الْمَحْذُورُ، وَصَارَتِ الْعِبَارَةُ سَلِيمَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ أَبَدًا عَنِ اللهِ يَأْمُرُ بِالتَّسْوِيَةِ، لَكِنْ جَاءَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: ٩٠]، { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: ٥٨].

وَأَخْطَأَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ الْمُسَاوَاةِ، بَلْ دِينُ الْإِسْلَامِ دِينُ الْعَدْلِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُفْتَرِقَيْنِ؛ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمُسَاوَاةِ الْعَدْلَ، فَيَكُونُ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، وَأَخْطَأَ فِي اللَّفْظِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: ١٦]، {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: ١٠]، {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء: ٩٥].

وَلَمْ يَأْتِ حَرْفٌ وَاحِدٌ فِي الْقُرْآنِ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ أَبَدًا، إِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.

وَكَلِمَةُ (الْعَدْلِ) أَيْضًا تَجِدُونَهَا مَقْبُولَةً لَدَى النُّفُوسِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ لِلْفَوْزِ بِمَحَبَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: تَقْوَى اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].

أَيْ: مَهْمَا اسْتَقَامَ لَكُمُ الْمُعَاهَدُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ تَقْتَضِي بِمَنْطُوقِهَا: أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَقَامُوا لَنَا وَجَبَ أَنْ نَسْتَقِيمَ لَهُمْ، وَأَنْ نُوفِيَ بِعَهْدِهِمْ، وَتَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَقِيمُوا لَا نَسْتَقِيمُ لَهُمْ.

وَالْمُعَاهَدُونَ يَنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

- قِسْمٌ اسْتَقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ وَأَمَانِهِمْ؛ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقِيمَ لَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

- وَقِسْمٌ خَانُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا عَهْدَ لَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: ١٢].

- وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يُظْهِرُونَ الِاسْتِقَامَةَ لَنَا؛ لَكِنَّنَا نَخَافُ مِنْ خِيَانَتِهِمْ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ تُوجَدُ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخِيَانَةَ، فَهَؤُلَاءِ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨] أَيِ: انْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ فَقُلْ: لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَنْبِذُ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ مُعَاهَدُونَ؟!

قُلْنَا: لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ، فَهَؤُلَاءِ لَا نَأْمَنُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَنْ يُصَبِّحُونَا، فَهَؤُلَاءِ نَنْبِذُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَلَا نَخُونُهُمْ مَا دَامَ الْعَهْدُ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ نَخَافُ مِنْهُمُ الْخِيَانَةَ، سَنُبَادِرُهُمْ بِالْقِتَالِ؛ قُلْنَا: هَذَا حَرَامٌ، لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَنْبِذُوا إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ.

وَقَوْلُهُ: {الْمُتَّقِينَ}: الْمُتَّقُونَ هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، هَذَا مِنْ أَحْسَنِ وَأَجْمَعِ مَا يُقَالُ فِي تَعْرِيفِ التَّقْوَى.

((مِنْ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ: التَّوْبَةُ وَالطَّهَارَةُ))

وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَالطَّهَارَةُ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

التَّوَّابُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ التَّوْبَةِ، وَهُوَ كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ، وَالتَّوْبَةُ: هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ.

وَشُرُوطُهَا خَمْسَةٌ:

الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ للهِ -تَعَالَى-؛ بِأَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى التَّوْبَةِ مَخَافَةَ اللهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ.

الثَّانِي: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الذَّنْبِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ.

الثَّالِثُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ؛ بِتَرْكِهِ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا، أَوْ تَدَارُكِهِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ.

الرَّابِعُ: الْعَزْمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ.

الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ فِي وَقْتٍ تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَهُوَ مَا كَانَ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَمْ تُقْبَلْ.

فَالتَّوَّابُ: كَثِيرُ التَّوْبَةِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثْرَةَ التَّوْبَةِ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الذَّنْبِ، وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا كَثُرَ ذَنْبُهُ إِذَا أَحْدَثَ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّهُ، وَالتَّائِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ مَحْبُوبٌ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ تَوْبَتُهُ يُحِبُّهُ اللهُ، فَمَنْ قَلَّتْ ذُنُوبُهُ كَانَتْ مَحَبَّةُ اللهِ لَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}: الَّذِينَ يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَمِنَ الْأَنْجَاسِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَمَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ.

وَهُنَا جَمْعٌ بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةِ الْبَاطِنِ: طَهَارَةُ الْبَاطِنِ بِقَوْلِهِ: {التَّوَّابِينَ}، وَالظَّاهِرِ بِقَوْلِهِ: {الْمُتَطَهِّرِينَ}.

((مِنْ سُبُلِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ: الْجِهَادُ وَالتَّلَاحُمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ))

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].

هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الصَّفِّ، وَسُورَةُ الصَّفِّ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ سُورَةُ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَدَأَهَا بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِهِ، ثُمَّ دَعَا إِلَى الْجِهَادِ فِي آخِرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ بَيْنَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا }: لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَتَأَخَّرُ حَتَّى فِي الْجِهَادِ.

وَالصَّلَاةُ جِهَادٌ مُصَغَّرٌ، فِيهَا قَائِدٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَإِنْ لَمْ تَتَّبِعْهُ بَطُلَتْ صَلَاتُكَ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ)).

وَالصَّفُّ فِي الصَّلَاةِ نَظِيرُ الصَّفِّ فِي الْجِهَادِ، وَكَانَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَصُفُّهُمْ فِي الْجِهَادِ كَمَا يَصُفُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}،  وَالْبُنْيَانُ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))، يَتَمَاسَكُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، فَلَيْسَ كَالْمُفَرَّقِ: فَالْمَرْصُوصُ أَشَدُّ تَمَاسُكًا.

فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَّقَ اللهُ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَهُمْ عِدَّةُ صِفَاتٍ:

أَوَّلًا: يُقَاتِلُونَ، فَلَا يَرْكَنُونَ إِلَى الْخُلُودِ وَالْخُمُولِ وَالْكَسَلِ وَالْجُمُودِ الَّذِي يُضْعِفُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا.

ثَانِيًا: الْإِخْلَاصُ؛ لِقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِهِ}.

ثَالِثًا: يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ لِقَوْلِهِ: {صَفًّا}.

رَابِعًا: أَنَّهُمْ كَالْبُنْيَانِ، وَالْبُنْيَانُ حِصْنٌ مَنِيعٌ.

خَامِسًا: لَا يَتَخَلَّلُهُمْ مَا يُمَزِّقُهُمْ؛ لِقَوْلِهِ: {مَّرْصُوصٌ}.

هَذِهِ خَمْسُ صِفَاتٍ عَلَّقَ اللهُ الْمَحَبَّةَ لِهَؤُلَاءِ عَلَيْهَا.

((مِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ))

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ تَحَقُّقِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ ينَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ)). هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ مِثْلَ مَا مَرَّ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي أُحِبُّ عَبْدِي فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي فِي السَّمَاءِ: يَا أَهْلَ السَّمَاءِ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ اللهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي أُبْغِضُ عَبْدِي فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)).

هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ تَحَقُّقِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ: الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.

وَالْقَبُولُ لَا يَكُونُ بِنَفْيِ الْمُعَادَاةِ، فَهَذَا لَا يُعَدُّ قَبُولًا بِمَرَّةٍ، بَلْ لَعَلَّهُ مِنَ الْبَغْضَاءِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا حَارَبُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَقَاتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَقَتَلُوهُمْ، وَقَدْ قُتِلَ ذَبْحًا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَنُشِرَ بِالْمِئْشَارِ زَكَرِيَّا مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمِهِ حَتَّى صَارَ بِنِصْفَيْنِ.

قُتِلَ الْأَنْبِيَاءُ، وَعُذِّبُوا، وَشُرِّدُوا، وَاضْطُهِدُوا، وَأُخْرِجُوا، وَهِيَ سُنَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِ الْأَنْبِيَاءِ دَاعِيًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا مَعْلُومٌ؛ حَتَّى إِنَّ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا أَخَذَتْ بِيَدِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ -وَكَانَ قَدْ قَرَأَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَحَنَّثَ وَتَحَنَّفَ يَنْتَظِرُ مَقْدَمَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَمِنْ شَأْنِ جِبْرِيلَ؛ قَالَ: ((قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ! هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).

قَالَ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!)).

قَالَ: ((مَا جَاءَ رَجُلٌ قَوْمَهُ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)).

فَهَلْ يَتَنَافَى هَذَا مَعَ الْقَبُولِ فِي الْأَرْضِ؟!

وَهَل لَا يُحِبُّ اللهُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَهُمْ يُقَتَّلُونَ، وَهُمْ يُشَرَّدُونَ، يُعَذَّبُونَ، يُضْطَهَدُونَ، يُخْرَجُونَ؟!

الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ كَمَا يَظُنُّ النَّاسُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ الَّذِي يَظُنُّونَهُ هُوَ مَحْضُ النِّفَاقِ وَالْمُصَانَعَةِ وَالْمُدَاهَنَةِ، وَإِنَّمَا حَمْلُ النَّاسِ وَأَطْرُهُمْ عَلَى الْحَقِّ -وَلَوْ كَانَ مُرًّا- بِبَيَانِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ ((ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)).

 الْحَقُّ عَلَيْهِ نُورٌ..

النُّفُوسٌ الْمُكَذِّبَةُ تُكَذِّبُ -فِي الْغَالِبِ- لِعَوَامِلَ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنِ الْحَقِّ؛ وَمِنْهَا: الْهَوَى، وَالْكِبْرُ، وَالْحَسَدُ، وَالْحِقْدُ!

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ الْيَهُودُ يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَيَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﷺ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، وَبِآخِرِ رِسَالَاتِ اللهِ -تَعَالَى- إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عَنْ طَرِيقِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، عِنْدَهُمْ صِفَتُهُ وَحِلْيَتُهُ وَشِيَتُهُ وَنَعْتُهُ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا الْحَقَّ، وَكَذَّبُوا ظَاهِرًا، وَلَمْ يُكَذِّبُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ كَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ نَعَتُوهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصِّدْقِ، وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِدْقِهِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]؛ كُفْرُ الْجُحُودِ، كُفْرُ الْعِنَادِ، يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْأَلْسِنَةَ فِي عِرْضِهِ ﷺ.

إِذَا كُنْتَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى الْحَقِّ؛ فَالْقَبُولُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِمَا جِئْتَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الصِّدْقُ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.

عَانَدَ مَنْ عَانَدَ، وَكَذَّبَ مَنْ كَذَّبَ، وَحَارَبَ مَنْ حَارَبَ، لَا عَلَيْكَ، ((وَيَأْتِي النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ)).

لَا عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا تُؤَدِّي مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ!

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)).

إِذَا كَانَ مِمَّنْ أَبْغَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فِي الْمُقَابِلِ: مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- آتِيًا بِأَسْبَابِ تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ؛ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ.

وَلَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ فِي أَحْوَالِ الْأَئِمَّةِ لَوَجَدْتَ الْعَجَبَ.

يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَاكِينِ أَنَّ الْقَبُولَ رَهْنٌ بِلَحْظَةٍ زَمَنِيَّةٍ زَائِلَةٍ.. لَا، قَدْ لَا يَكُونُ الْقَبُولُ مُحَصَّلًا إِلَّا بَعْدَ حِينٍ؛ بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ أَبْنَاءُ الْفَنَاءِ تَأْتِي مَوْجَةٌ مِنْ مَوْجَاتِ الْمَوْتِ لِتَكْنُسَ الْأَرْضَ مِنْ غُثَائِهَا، وَيَبْقَى أَهْلُ الصَّلَاحِ، وَيُخْرِجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ.

مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَأَمَّلَ عَلِمْ!

هَذَا هُوَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((قُولُوا لِأَهْلِ الْبِدَعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَوْمُ الْجَنَائِز!)).

وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- رَمَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ يُحَارِبُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ فِي الثُّغُورِ، كَانَ يُحَارِبُ التَّتَارَ، يُحَارِبُهُمْ بِسِنَانِهِ وَلِسَانِهِ وَبَنَانِهِ، وَكَانَ يُحَارِبُ الْخُرَافِيِّينَ الْقَبْرِيِّينَ مِنَ الْبَطَائِحِيَّةِ وَأَضْرَابِهِمْ مِنَ الْمُشْعَوْذِينَ الْمُمَخْرِقِينَ الْمُمَوِّهِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَقِيدَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، يُحَارِبُ الْفُقَهَاءَ الْجَامِدِينَ الْمُتَعَصِّبِينَ الَّذِينَ لَا يَلْتَزِمُونَ نَهْجَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْهَاجَ النُّبُوَّةِ، يُحَارِبُهُمْ وَيَكِيدُونَ لَهُ، حَتَّى أَدْخَلُوهُ فِي الصِّرَاعِ حَتَّى مَعَ السُّلْطَةِ الزَّمَنِيَّةِ، وَهُوَ لَا يُحَارِبُهُمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ فِي قَانُونِ أَهْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ: ((أَنَّ عَرْشَ الدَّاعِيَةِ حَصِيرَتُهُ)).. حَصِيرُ الدَّاعِيَةِ عَرْشُهُ، وَعَرْشُ الدَّاعِيَةِ حَصِيرُهُ، وَكُلَّمَا تَقَلَّلْتَ صِرْتَ مَلِكًا مُتَوَّجًا عَلَى هَامَاتِ الْقُلُوبِ، وَأَمَّا إِذَا مَا اسْتَفَزَّتْكَ الدُّنْيَا فَرَكَضْتَ فِيهَا رَكضَةً استَحْلَبَتْكَ حَتَّى اسْتَنْزَفَتْكَ!

فَأَمَّا هُوَ فَإِنَّهُ قَدْ سَعَى مَنْ سَعَى لِلْإِيقَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَةِ الزَّمَنِيَّةِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ يُعَاوِنُهُمْ وَيَخْرُجُ فِي الْجِهَادِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيُنْسَبُ النَّصْرُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُقَاتِلُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ لِمَنْ عِنْدَهُ: ضَعْنِي فِي مَوْضِعِ الْمَوْتِ الْأَحْمَرِ بَيْنَ فَكَّيْهِ، فَيَقُولُ: تَرَى هَذَا الْمَوْضِعَ هُوَ ذَاكَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَاللهِ! لَقَدْ صَنَعَ مَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ، وَقَدْ دَلَّهُ عَلَيْهِ.

الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَتَرَى أَنَّ الْقَبُولَ قَدْ وُضِعَ لَهُ فِي الْأَرْضِ بِمَحْضِ الْمُتَابَعَةِ صِرْفًا.

تَأَمَّلْ فِي هَذَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى غَازَانَ.. ذَهَبَ إِلَيْهِ مَعَ الْأَعْيَانِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ، فَذَهَبَ فِي كَوْكَبَةٍ عَظِيمَةٍ، فَلَمَّا رَآهُ غَازَانُ قَادِمًا قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: مَنْ هَذَا الشَّيْخُ فَإِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي قَلْبِي؟

وَجَاءَ الشَّيْخُ وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ غَازَانَ وَحَاشِيَتِهِ وَعَسْكَرِهِ وَجُنْدِهِ -وَهُوَ عَسْكَرٌ تَتَلَاطَمُ مُتَرَامِيَةً صُفُوفُهُ بِحَدِيدٍ فِي حَدِيدٍ-، وَوَقَفَ الشَّيْخُ شَامِخًا كَالطَّوْدِ بَلْ كَمِثْلِهِ الطَّوْدُ!

تَأَمَّلْ فِي الْقَبُولِ وَالْمَنْعِ فِي الْقَبُولِ وَالْبَغْضَاءِ، تَأَمَّلْ أَيْنَ هُوَ وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ الْجَلِيلُ!

وَقَفَ فَكَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، فَقَالَ لَهُ: يَا غَازَانُ! إِنَّ أَبَاكَ وَجَدَّكَ كَانَا كَافِرَيْنِ وَلَمْ يَصْنَعَا مِثْلَ مَا تَصْنَعُ وَأَنْتَ تَدَّعِي الْإِسْلَام!

قُدِّمَ لِهَذَا الْوَفْدِ مَا هُوَ حَنِيذٌ مَشْوِيٌّ، فَمَدَّ الْقَوْمُ أَيِدِيَهُمْ وَقَبَضَ الشَّيْخُ يَدَهُ، فَقَالَ: لِمَ لَمْ تَأْكُلْ؟!

قَالَ: وَكَيْفَ أَأْكُلُ وَهَذِهِ أَشْيَاءٌ غَصَبْتُمُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْضَجْتُمُوهَا عَلَى الْأَشْجَارِ الَّتِي قَطَعْتُمُوهَا مِنْ أَشْجَارِ الْمُسْلِمِينَ!

وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ وَقَبَضَهَا -رَحِمَهُ اللهُ-، ثُمَّ أَخَذَ يَعِظُهُ وَيُذَكِّرُهُ، وَالْآخَرُ يَتَطَامَنُ لَهُ حَتَّى صَارَ لَا شَيْءَ، وَالشَّيْخُ شَامِخٌ كَالطَّوْدِ بَلْ كَمِثْلِهِ الطَّوْدُ، ثُمَّ قَالَ غَازَانُ لِلشَّيْخِ: ادْعُ لِي!

قَالَ: نَعَمْ، اللهم إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَازَانُ قَدْ خَرَجَ جِهَادًا فِي سَبِيلِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ فَوَفِّقْهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَافْعَلْ بِهِ وَافْعَلْ!

فَكَانَ الشَّيْخُ يَدْعُو عَلَيْهِ وَهُوَ يُؤَمِّنُ!

وَالْفُقَهَاءُ يَجْمَعُونَ ثِيَابَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَلَ فَيُطَرْطِسَ عَلَيْهِمْ بِدَمَهِ -كَمَا قَالُوا-، يَجْمَعُونَ ثِيَابَهُمْ، فَلَمَّا صُرِفُوا مُعَزَّزِينَ لِأَجْلِهِ -بِفَضْلِ رَبِّهِ- قَالُوا: وَاللهِ! لَا نَمْشِي مَعَكَ فِي طَرِيقٍ، كِدْتَ تُهْلِكُنَا!

قَالَ: افْعَلُوا.

فَسَارُوا جَمِيعًا فِي طَرِيقٍ وَسَارَ وَحْدَهُ فِي طَرِيقٍ، فَمَا دَخَلَ دِمَشْقَ إِلَّا وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعَامَّةُ وَمَنْ بَقِيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ، فَدَخَلَ فِي مَوْكِبٍ وَلَا كَمَوَاكِبَ الْمُلُوكِ، مَرْفُوعًا عَلَى هَامَاتِ الْقُلُوبِ!

وَأَمَّا هُمْ فَقَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيقِ قُطَّاعُهُ، قَالَ: فَشَلَّحُونَا حَتَّى دَخَلْنَا دِمَشْقَ عَلَى حَالَةٍ لَا تَسُرُّ.

أَيْنَ الْقَبُولُ وَأَيْنَ الْبَغْضَاءُ هُنَا؟!

تَأَمَّلْ!

كُنْ عَلَى الْحَقِّ وَلَا تُبَالِ، وَحَصِّلْ مَحَبَّةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْبَابِهَا!

((جُمْلَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ))

((إِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ هِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ فَضِيلَةٍ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا يَسَّرَ لَهُ الْأَسْبَابَ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِ كُلَّ عَسِيرٍ، وَوَفَّقَهُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْوِدَادِ)).

((مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْمَحَبَّةِ وَمُوجِبُهَا؛ فَإِنَّهُ لِمَا أَحَبَّهُمْ كَانَ نَصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ أَتَمَّ نَصِيبٍ)).

وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ: التَّوْفِيقُ؛ فَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْفِيقَ: أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الْخِذْلَانَ: أَنْ يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ)).

وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَمَثَّلُ أَكْبَرَ مَا يَتَمَثَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي حَدِيثِ الْأَوْلِيَاءِ: ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)).

فَهَذِهِ الْكِفَايَةُ، وَأَلَّا يَكِلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ إِلَى نَفْسِهِ هِيَ ثَمَرَةُ مَحَبَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الْعَظِيمِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ بِهَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلِ أَمَرَ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ))، وَالْحَقُّ أَنَّهُ: حَدِيثٌ حَسَنٌ- قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--:  ((يَا فَاطِمَةُ! مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: -فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ-: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَدًا)).

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السُّؤَالَ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي سُؤَالِ الْكِفَايَةِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَلَّا يَكِلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ إِلَى نَفْسِهِ.

فَهَذَا هُوَ التَّوْفِيقُ.. التَّوْفِيقُ هُوَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ! بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَدًا))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ وُكِلَ إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِذَا كَفَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَرَّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَقَامَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

النَّبِيُّ ﷺ -لِعِظَمِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلِكَبِيرِ شَأْنِهِ- دَلَّنَا عَلَى سُؤَالِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ إِيَّاهُ: ((لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَبَدًا)).

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ- إِذَا أَحَبَّ الْعَبْدَ كَفَاهُ أَمْرَ نَفْسِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

فَهَذِهِ مِنَحٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا أَحَبَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا -كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.

التَّوْفِيقُ: أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخِذْلَانُ: أَنْ يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ!

وَلَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ وَهُوَ يُبْغِضُكَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحْبُوبًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَحَبَّ الْعَبْدَ جَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْكِفَايَةِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى النَّحْوِ الْمَوْصُوفِ فِي كَلَامِ رَبِّنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ.

((سَعْيُ الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ))

عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَظَلُّ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ نَبْتَةٌ طَافِيَةٌ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، تَعْلُو بِهِ مَوْجَةٌ وَتَسْفُلُ بِهِ أُخْرَى، وَتُسَيِّرُهُ الْأَمْوَاجُ أَيْنَ سَارَتْ وَأَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ؛ وَلَكِنَّهُ هَكَذَا يَسِيرُ حَتَّى تَرْسُوَ بِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ!

وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِأَسْبَابِ اللهِ فِي كَوْنِهِ، مُتَوَكِّلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَحْصِيلِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيُثْمِرُ ذَلِكَ فِى نَفْسِهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللهِ، وَيُبْعِدُ اللهُ عَنْهُ الْخِذْلَانَ، وَلَا يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ رَبُّنَا الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَحَبَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ خِذْلَانِهِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: كَيْفَ تَكُونُ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ؟!!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ 1
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  زكاة الحبوب والثمار
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِ وَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ
  أَمَانَةُ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ وَإِتْقَانُهُمَا
  الْجيْشُ الْمِصْرِيُّ الْأَبِيُّ وَشَيْخُ الْحَدَّادِيَّةِ
  الإشاعات وهدم المجتمعات
  دروس من الهجرة
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  الإسلام رحمة في السلم والحرب
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان