إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

((إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عَالَمِيَّةُ رِسَالَةِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ﷺ ))

فَإِنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ رِسَالَةٌ عَالَمِيَّةٌ، رِسَالَتُهُ إِلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، إِلَى الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، كَمَا حَدَّدَ إِطَارَهَا الْعَالَمِيَّ إِلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ وَإِلَى الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَذَلِكَ فِي صَرِيحِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وَنُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الرِّسَالَةِ الَّتِي كَلَّفَهُ اللهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَى الْبَشَرِ جَمِيعًا؛ قَامَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِتَبْلِيغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ وَإِلَى كُلِّ الْبَشَرِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْجِنْسِ، أَوِ الطَّبَقَةِ، أَوِ الْعَقِيدَةِ.

لَقَدْ رَحَّبَ بِهِمْ جَمِيعًا مُحَمَّدٌ ﷺ فِي دِينِ اللهِ دُونَ أَدْنَى تَمْيِيزٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ ﷺ أَيُّ مَيْلٍ.

لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحْمَةً لِكُلِّ الْبَشَرِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وَهُوَ ﷺ لَمْ يَحِدْ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مُنْذُ بَدْءِ بَعْثَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ، وَفِي أَوَاخِرِ سِنِي عُمُرِهِ الْمُبَارَكِ ﷺ يَسْتَعْرِضُ مَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ وَفِي حَيَاتِهِ مِنْ مَصَاعِبَ وَأَخْطَارٍ تَكَلَّلَتْ فِي النِّهَايَةِ بِالنَّجَاحِ غَيْرِ الْمَسْبُوقِ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَفِي أَيِّ زَمَانٍ، وَيُذَكِّرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].

كَيْفَ تَسَنَّى لَهُ ﷺ أَنْ يَتَجَاوَبَ مَعَ هَذَا التَّحَدِّي الْمُتَمَثِّلِ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ الْكَبِيرِ بِأَنْ تَكُونَ رِسَالَتُهُ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا وَهُوَ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عُمُرِهِ الْمُبَارَكِ ﷺ؟

لَمْ تَكُنْ تُوجَدُ فِي حَوْزَةِ الْبَشَرِيَّةِ آنَذَاكَ أَيُّ وَسَائِلِ اتِّصَالٍ إِلِكْتُرُونِيَّةٍ لِتَكُونَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي تَشْمَلُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ أَيَّةُ أَجْهِزَةِ تِلِكْس أَوْ أَجْهِزَةِ فَاكْس؛ بِحَيْثُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخَدِمَهَا ﷺ؛ مَاذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ؟!

لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ؛ فَقَدِ اسْتَدْعَى إِلَيْهِ أَصْحَابًا يَسْتَطِيعُونَ الْكِتَابَةَ، أَمْلَى عَلَيْهِمْ خَمْسَةَ خِطَابَاتٍ إِلَى (هِرَقْل) إِمْبِرَاطُورِ الرُّومَانِ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَإِلَى (الْمُقَوْقِسِ) حَاكِمِ مِصْرَ، وَإِلَى (النَّجَاشِيِّ) مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَإِلَى مَلِكِ الْيَمَنِ، وَإِلَى (كِسْرَى) مَلِكِ الْفُرْسِ، ثُمَّ كَلَّفَ خَمْسَةً مِنَ الصَّحَابَةِ فَامْتَطَى كُلٌّ مِنْهُمْ جَوَادَهُ، وَأُرْسِلَ بِهِمْ إِلَى خَمْسَةِ اتِّجَاهَاتٍ، يَدْعُو الرَّسُولُ ﷺ أُمَمَ الْعَالَمِ الْمَعْمُورِ مِنْ حَوْلِهِ إِلَى دِينِ اللهِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ؛ فَهَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} ﷺ.

لَوْ دَرَسْتَ تَارِيخَ الْعَالَمِ حَتَّى الْآنَ؛ سَيُخْبِرُكَ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُعْلِنَ لِلنَّاسِ رِسَالَتَهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الْأَوْقَاتِ ظَلَامًا وَأَكْثَرِهَا جَهْلًا.

لَقَدْ كَانَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إِمَّا إِرْسَالُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ خَاتَمٍ لِلْأَنْبِيَاءِ الرُّسُلِ إِلَى كُلِّ رُكْنٍ وَكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أَرْكَانِ وَأُمَمِ الْعَالَمِ، وَإِمَّا إِرْسَالُ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ خَاتَمٍ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَى كُلِّ الْبَشَرِ فِي كُلِّ الْأُمَمِ وَفِي كُلِّ أَرْكَانِ الْعَالَمِ؛ لِكَيْ يُخَلِّصَ وَيُحَرِّرَ كُلَّ الْبَشَرِ مِنَ الزَّيْفِ، وَالْخُرَافَةِ، وَالْأَنَانِيَّةِ، وَتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، وَالضَّلَالِ، وَظُلْمِ وَقَهْرِ الْإِنْسَانِ لِأَخِيهِ الْإِنْسَانِ؛ وَذَلِكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَتَكُونُ رِسَالَةُ خَاتَمِ أَنْبِيَاءِ وَرُسُلِ اللهِ مُوَجَّهَةً مِنَ اللهِ إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَاقْتَضَتْ مَشِيئَةُ اللهِ وَحِكْمَتُهُ أَنْ يَخْتَارَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الْخَاتَمَةِ النَّبِيَّ الْخَاتَمَ مُحَمَّدًا ﷺ.

اخْتَارَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ أَعْمَاقِ أَكْثَرِ مَنَاطِقِ الْأَرْضِ تَخَلُّفًا قَبْلَ بَعْثِهِ إِلَى الْبَشَرِ كَافَّةً، مِنْ شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ أَنَّ رِسَالَةَ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَتْ لِكُلِّ الْبَشَرِ قَدْ سَجَّلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

لَا مَجَالَ هُنَا لِتَمْيِيزِ جِنْسٍ عَلَى جِنْسٍ، أَوْ تَفْضِيلِ أُمَّةٍ عَلَى أُمَّةٍ، لَا مَجَالَ هُنَا لِلشَّعْبِ الْمُخْتَارِ، أَوْ بِذْرَةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ نَسْلِ دَاوُدَ، أَوْ هِنْدُو أرْيَافَارْتَا، أَوِ الْيَهُودِ، أَوِ الْجُويِيمِ، أَوِ الْعَرَبِ، أَوِ الْفُرْسِ، أَوِ الْأَتْرَاكِ، أَوِ الطَّاجِيكِ الْأُورُوبِّيِّينَ، أَوِ الْآسْيَوِيِّينَ، الْبِيضِ، أَوِ الْمُلَوَّنِينَ، الْآرِيِّينَ، أَوِ السَّامِيِّينَ، الْمَغْوُلِ، أَوِ الْأَفَارِقَةِ، الْأَمْرِيكِيِّ، أَوْ الُاسْتُرَالِيِّ، أَوِ الْبُولَنْدِيِّ، إِنَّهُ لِكُلِّ النَّاسِ ﷺ، وَلِكُلِّ مَنْ حَبَاهُ اللهُ الْقُدْرَةَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ، إِنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَبَادِئَ السَّلِيمَةَ لِكُلِّ الْعَالَمِ ﷺ.

النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ لَمْ يَكْتَفِ بِمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَا بِمَنْ ذَهَبَ هُوَ إِلَيْهِ ﷺ، بَلْ أَرْسَلَ إِلَى مَنْ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللهِ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ الْفُرْسِ (كِسْرَى)، وَإِلَى الْإِمْبِرَاطُورِ الرُّومَانِيِّ (هِرَقْل)، وَإِلَى حَاكِمِ مِصْرَ تَحْتَ الْحُكْمِ الرُّومَانِيِّ (الْمُقَوْقِسِ)، وَإِلَى (النَّجَاشِيِّ) حَاكِمِ الْحَبَشَةِ، وَإِلَى مَلِكِ الْيَمَنِ؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ فِي الْهَدَفِ وَالْغَايَةِ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْعَظَمَةِ!! (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ).

((الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَنْبَعُ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ أَقَامَ حَضَارَةً بَلَغَتْ بِالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوْجَ كَمَالِهَا، وَرَسَمَتْ لِلْبَشَرِيَّةِ طَرِيقَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِخَاءِ وَالْعَدْلِ مِنْ خِلَالِ عَقِيدَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَمَنْظُومَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ وَحَضَارِيَّةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْنِيَ وَلَا تَهْدِمَ؛ لِيَتَحَقَّقَ الْأَمْنُ وَالسَّلَامُ وَالْخَيْرُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا.

لَقَدِ اسْتَمَدَّتِ الْحَضَارَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قِيَمَهَا الْإِنْسَانِيَّةَ السَّامِيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُمَا حَافِلَانِ بِالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ، وَالنُّطْقِ، وَالتَّمْيِيزِ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَبِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الَّتِي هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صُنْعِهَا، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزَقْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَمُمْتِعَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ؛ فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ؛ إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ؛ فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)): ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

 

((إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ وَالْفُتُوحَاتِ))

إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ..

هَذَا كَلَامُ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ وَلَا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.

قَالَ (جُوسْتَاف لُوبُو): ((إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ)).

يَعْنِي: أَرْحَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

لَمْ تَكُنِ الْحَرْبُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ إِبَادَةً وَاسْتِئْصَالًا، وَحَرْقًا لِلْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحَرْبُ رَحْمَةً، يَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ لِيُدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ.

إِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِبَادَةً وَإِهْلَاكًا، وَإِنَّمَا هِيَ تَأْمِينٌ لِلدَّعْوَةِ، وَنَشْرٌ لِلْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّخَطِّي لِذَلِكَ الْحَاجِزِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الدُّعَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ -تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- وَالشُّعُوبِ.

لَمْ يُحَارِبِ الْإِسْلَامُ يَوْمًا الشُّعُوبَ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحَرْبُ حَرْبًا عَلَى الْأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحُولُ دُونَ كَلِمَةِ اللهِ وَالشُّعُوبِ.

وَعِنْدَمَا يَحْدُثُ الْفَتْحُ لَا يَتَسَلَّطُ الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا يُؤَمِّنُونَهُمْ وَيَحْمُونَهُمْ، وَيَحْتَرِمُونَ آدَمِيَّتَهُمْ وَإِنْسَانِيَّتَهُمْ -وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، وَمَا فُرِضَ مِنَ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ تَأْمِينِهِمْ وَمِنْ أَجْلِ حِمَايَتِهِمْ.

لَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخُ قَطُّ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا دَفَعَ رَايَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا كَانَ هُنَالِكَ عَلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ قَالَ: ((الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَبَاحُ الْحُرْمَةُ)).

وَنُقِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الرَّايَةِ مِنْهُ، وَدَفْعِهَا إِلَى وَلَدِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى بِذَلِكَ أَنَّ الرَّايَةَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((الْيَوْمَ أَعَزَّ اللهُ قُرَيْشًا، الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، وَلَيْسَ بِيَوْمِ الْمَلْحَمَةِ)).

الْيَوْمَ أَعْلَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَ الْمُسْلِمِينَ، الْيَوْمَ سَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ -وَهُوَ حَبَشِيٌّ أَسْوَدُ كَانَ عَبْدًا-.

 مَا فَعَلَ الْقَوْمُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ إِلَى قَرِيبٍ؟!

كَانَ يُكْتَبُ هُنَالِكَ فِي الْمَشَارِبِ وَالْمَقَاصِفِ وَالْمَلَاهِي وَالْمُؤَسَّسَاتِ: يُمْنَعُ دُخُولُ السُّودِ كَمَا يُمْنَعُ دُخُولُ الْكِلَابِ!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ أَنَّ الْمِيزَانَ عِنْدَهُ فِي التَّفْضِيلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْوَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، ((لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى حَبَشِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)).

مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَمَنْ عَصَانِي دَخَلَ النَّارَ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِدِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِيُسَوِّيَ بَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَكُلُّهُمْ عَبِيدٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّهُمْ عِبَادُهُ، يَأْمُرُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَنْهَاهُمْ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَيَسِيرُ بِهَا فِي الْآفَاقِ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مُجَاهِدًا دُونَهُ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْتُلَ الذُّرِّيَّةَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَأْصِلَ كُلَّ خَضْرَاءَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَضْرِبَ ضَرْبَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا يَمْتَلِكُ الْقُوَّةَ الرَّشِيدَةَ الَّتِي تَحْمِي دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تَحْمِي الْمُبَلِّغِينَ لِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ فِيهَا جَوْرٌ وَلَا عَسْفٌ وَلَا طُغْيَانٌ وَلَا ظُلْمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْقُوَّةُ الْعَادِلَةُ الرَّحِيمَةُ يَحْمِلُهَا الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْقِيَمِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَأَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْقَوِيمِ، يَسِيرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَدْيِ نَبِيِّهِمُ الْعَظِيمِ ﷺ.

قَاتَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَقُوتِلَ، وَدَافَعَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دِينِ رَبِّهِ لَمَّا هُوجِمَ، وَحَمَلَ الدِّينَ لِيُبَلِّغَهُ لِلْعَالَمِينَ، وَمَعَهُ الثُّلَّةُ الصَّالِحَةُ، وَأُوذِيَ وَمَنْ مَعَهُ، فَشُرِّدُوا وَطُرِدُوا، وَعُذِّبُوا وَقُتِلُوا، وَحُوصِرُوا وَجُوِّعُوا، وَسُلِكَتْ مَعَهُمْ مَسَالِكُ تَأْبَاهَا النَّفْسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَعَافُهَا الْفِطْرَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، فَلَمَّا مَلَكَ ﷺ الْأَمْرَ أَطْلَقَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ يَوْمًا: يَا لَثَارَاتِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ يَوْمًا: يَا لَثَارَاتِ أُحُدٍ، وَلَا بَدْرٍ وَلَا شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُمْ؛ عَسَى أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ، أَجَابَ مَنْ أَجَابَ، وَعَصَى مَنْ عَصَى، وَكَانَ مِيزَانُ الْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ مَقْلُوبًا فَعَدَلَهُ الدِّينُ الْحَقُّ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ.

وَوَادَعَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا؛ سَاقَ الْهَدْيَ وَأَتَى مُحْرِمًا، وَأَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ لِكَيْ يَعْتَمِرُوا، وَلِكَيْ يَزُورُوا بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ الَّذِي لَا يُصَدُّ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ تَبِعَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَوَادَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَوْمَ، وَكَانَتِ الشُّرُوطُ جَائِرَةً؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَمْضِي فِي أَمْرٍ إِلَّا بِوَحْيٍ، وَكَانَ فَتْحًا مُؤَزَّرًا، وَكَانَ نَصْرًا مُبِينًا كَمَا وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، سَمَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَنَعَتَهُ بِالظَّاهِرِ وَالْمُبِينِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَحْتَاجُ الْمُوَادَعَةَ وَالْهُدْنَةَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفِيءَ الْقَوْمُ إِلَى عُقُولِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بَصَائِرِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَلِّبُوا الْمَسْأَلَةَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ؛ مَاذَا يُرِيدُ مِنَّا؟ وَمَاذَا يُرِيدُ مِنَّا مَنْ مَعَهُ؟ وَمَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ؟

وَقَدْ كَانَ؛ فَدَخَلَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي سَنَتَيْنِ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى الَّذِينَ دَخَلُوا الدِّينَ مُنْذُ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.

وَفِي فَتْرَةِ الْمُوَادَعَةِ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ كُتُبَهُ وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ؛ ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأْقَوامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ، وَأَلَّا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ -وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ- لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا -حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ  يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ؛ كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!

((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)).

وَالْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَيَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَلَوْ كَانَ مَقْتُولًا عَلَى الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، عِنْدَمَا تَشْتَبِكُ الرِّمَاحُ، وَعِنْدَمَا تَتَشَابَكُ الْأَسِنَّةُ، وَعِنْدَمَا تُسَلُّ السُّيُوفُ لَامِعَةً يَأْتِي النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ حَامِلَ السَّيْفِ وَمُسَدِّدَ الرُّمْحِ لَا يَخْبِطُ بِهِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ، ((لَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَخُونُوا، وَلَا تَغُلُّوا))، فَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، نَهَى عَنْ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَتِيلٍ؛ أَنْ تُشَوَّهَ صُورَتُهُ، أَوْ تُمَزَّقَ أَعْضَاؤُهُ، أَوْ يُعْبَثَ بِجُثَّتِهِ.

فَنَهَى النَّبِيُّ عَنِ امْتِهَانِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.

ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلَّا يَدَعُوا جُثَثَ الْكَافِرِينَ نَهْبًا لِجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا تُخَدُّ لَهُمُ الْأَخَادِيدُ، ثُمَّ يُلْقَوْنَ فِيهَا، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ؛ احْتِرَامًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ كَافِرًا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ مَعَ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِـ(بَدْرٍ)، وَجِيءَ بِهِمْ فَجُعِلُوا فِي الْقَلِيبِ، وَكَانَ جَافًّا يَابِسًا، ثُمَّ أُهِيلَ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ، وَجُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِعَدَمِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَيَأْمُرُ بِأَنْ يُحْتَرَمَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ.

الْحَقُّ حَقٌّ وَتَبْلِيغُهُ وَاجِبٌ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِحَدِّ السَّيْفِ وَالنَّصْلِ وَالرُّمْحِ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي النِّهَايَةِ مِنْ إِقَامَةِ ذَلِكَ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالرُّشْدِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.

أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ خَالِدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْقَتْلَ، وَأَعْمَلَ فِيهِمُ السَّيْفَ.

فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ قَالَ: ((اللهم إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)).

لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ خَالِدًا جَاءَ قَوْمًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، لَيْسَ الْأَمْرُ مَبْنِيًّا عَلَى غَدْرٍ وَلَا تَبْيِيتٍ بِلَيْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ دِينٍ وَدَعْوَةٍ إِلَى الرُّشْدِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فَإِذَا خُولِفَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّهِ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنْ يُعَادَ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَا يُقَارِبُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَفْعِ الدِّيَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ، وَيَأْمُرُ عِنْدَ الْقَتْلِ خَطَأً بِدَفْعِ الدِّيَةِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْفَاعِلَةِ لِسَفْكِ الدَّمِ وَإِزْهَاقِ الرُّوحِ؛ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ الْقَتْلُ فَمَاذَا يَكُونُ؟

لَا بُدَّ مِنْ دِيَةٍ مَعَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ صَاحِبُهُ قَتْلًا، وَلَمْ يَعْمِدْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَالرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ، لَا يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ ذُبَابٌ، عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتِهَا، لَا يَنْظُرُ إِلَى جِنْسٍ يَعْلُو عَلَى جِنْسٍ بِنَظْرَةٍ فِيهَا احْتِرَامٌ، هَذَا لَا قِيمَةَ له فِي الْإِسْلَامِ، لَا جِنْسَ يَعْلُو عَلَى جِنْسٍ، وَلَا لَوْنَ يَفُوقُ لَوْنًا، وَلَا قَوْمِيَّةَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللهِ وَعَبِيدُهُ، وَهُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِعِبَادَتِهِ، وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ سَوَاءٌ؛ فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحْتَرِمُ الْأَعْدَاءَ هَذَا الِاحْتِرَامَ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.

أَمَّا قَبْلَ الْحَرْبِ فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ؛ إِمَّا الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا الْجِزْيَةُ، وَإِمَّا الْحَرْبُ، إِمَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشُّعُوبِ الْمُنْهَكَةِ، الشُّعُوبِ الَّتِي ضُلِّلَتْ، الَّتِي حُرِفَتْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ إِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ نَدْعُوهُمْ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَنَنْشُرُ فِيهِمْ هِدَايَتَهُ، وَنَحْمِيهِمْ.. نُدَافِعُ عَنْهُمْ.

وَمَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ وَفِي كُلِّ جِيلٍ وَأُمَّةٍ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ مُخَالِفًا فِي جُيُوشِهَا يَحْمِلُ رَايَتَهَا وَيُقَاتِلُ تَحْتَهَا، فَلَمْ يَقْبَلْهُمُ الْإِسْلَامُ مُدَافِعِينَ وَلَا مُهَاجِمِينَ وَلَا حَامِلِي سِلَاحٍ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمُ الْإِصْرَ الَّذِي أَقَضَّ مَضَاجِعَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْمِحْنَةَ الَّتِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ أَبْنَاءُ دِينِهِمْ، فَعَذَّبُوهُمْ وَاضْطَهَدُوهُمْ وَسَامُوهُمُ الْخَسْفَ وَأَذَلُّوهُمْ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ بِالرَّحْمَةِ، وَفَرَضَ الْجِزْيَةَ، وَتُرْفَعُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي الْمُنْقَطِعِ، وَعَنِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ حَوْلًا وَلَا حِيلَةً، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْسِبَ رِزْقَهُ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الْإِمْكَانِ ظَاهِرًا.

وَالدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ وَبُعْدِهِ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْإِبَادَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ؛ أَنَّكَ تَجِدُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَفْتُوحَةٍ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا مَنْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ، لَمْ يَجْبُرْهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَضْطَهِدُوهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَإِنَّمَا قَامُوا بِحِمَايَتِهِمْ وَرَفْعِ الْإِصْرِ عَنْهُمْ، وَبَقُوا عَلَى دِينِهِمْ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا.

أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ هِيَ الْأَقَلِّيَّاتُ الَّتِي تَحْيَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ الَّتِي تَنْعَمُ بِالْعَدْلِ، وَتَنْعَمُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَتَنْعَمُ بِالِاحْتِرَامِ، وَتَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ، وَتَخْرُجُ عَلَى كُلِّ أُطُرِ النِّظَامِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُقَتَّلُ تَقْتِيلًا، وَلَا تُسْتَأْصَلُ اسْتِئْصَالًا.

أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ هِيَ الْأَقَلِّيَّاتُ الَّتِي تَحْيَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنْعَمُ بِحِمَايَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَعَلَّمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ النَّظَافَةَ، وَعَلَّمُوهُمُ احْتِرَامَ الذَّاتِ، وَمَا فِيهِمْ مِنْ خَيْرٍ إِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ تَعَالِيمِ الدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ.

لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْأَنْدَلُسَ لَمْ يُبِيدُوا النَّاسَ، وَلَمْ يُقَتِّلُوهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ سَعِيدًا بِهِ، قَرِيرًا بِهِ عَيْنُهُ، وَتَعَلَّمُوا، وَكَانُوا قَبْلُ يَرَوْنَ الطَّهَارَةَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَيَرَوْنَ الِاغْتِسَالَ وَإِزَالَةَ النَّجَاسَاتِ عَمَلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ، عَلَّمُوهُمْ، وَنَظَّفُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى صَارُوا عَلَى صِرَاطِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَدَخَلَ فِي الدِّينِ مَنْ دَخَلَ.

دِيَارُ الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا فِيهَا الْأَقَلِّيَّاتُ الَّتِي آثَرَتْ أَنْ تَبْقَى عَلَى دِينِهَا مُحَافِظَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى فِي الحُرُوبِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَعَنْ قَتْلِ الأُجَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَبْرِيَاءِ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ؛ فَكَيْفَ بِالمُسْلِمِينَ؟!!

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ﷺ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَليهِ.

وَعَنْ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ المُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ!»، فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ: «لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا»، وَالْعَسِيفُ: هُوَ الأَجِيرُ.

هَذَا دِينُ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا ﷺ.

دِينُ الرَّحْمَةِ هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ، رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.

مَا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِظُلْمٍ وَلَا عَسْفٍ وَلَا جَوْرٍ، حَاشَاهُ ﷺ.

لَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالشُّيُوخِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي العَالِيَةِ: «المُرَادُ بِذَلِكَ: النَّهْيُ عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ».

وَعَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: «المُرَادُ بِذَلِكَ: النَّهْيُ عَنِ ارْتِكَابِ المَنَاهِي مِنَ المُثْلَةِ، والغُلُولِ، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ، وَتَحْرِيقِ الأَشْجَارِ، وَقَتْلِ الحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: «أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا».

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ».

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. {وَلَا تَعْتَدُواْ} يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالشَّيْخَ الكَبِيرَ، وَلَا يُقْتَلُ الزَّمْنَى، وَلَا الْأَعْمَى، وَلَا الرَّاهِبُ، وَلَا يُقْتَلُ العَبْدُ».

«وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَدْرِكُوا خَالِدًا فَمُرُوهُ أَلَّا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا»؛ وَهُمُ العَبِيدُ».

قَالَ مَالِكٌ: «لَا يُقْتَلُ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالرُّهْبَانُ المَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ».

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا ظَفَرَ بِالكُفَّارِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ، وَلَا هَرِمٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ؛ وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ».

أَمَّا الفَلَّاحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُقَاتَلَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ فِي الفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يُنَاصِبُونَكُمُ الحَرْبَ».

وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «لَا يُقْتَلُ الحُرَّاثُ».

هَذَا كُلُّهُ في القِتَالِ مَعَ الكُفَّارِ؛ فَكَيْفَ بِالقِتَالِ مَعَ المُسْلِمِينَ؟!!

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: «لَا يَجُوزُ؛ مِثْلُ مَنْ كَانَ مُتَخَلِّيًا لِلْعِبَادَةِ مِنَ الكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ؛ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ ضَرَرِ المُسْلِمِينَ».

وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ «الهِدَايَةِ» الحَنَفِيُّ: «لَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا مُقْعَدًا، وَلَا أَعْمَى؛ لِأَنَّ المُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الحَرْبُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ -بِأُسْلُوبِهِ وَمُصْطَلَحِهِ فِي عَصْرِهِ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ مُصَابًا بِالشَّلَلِ النِّصْفِيِّ؛ فَهُوَ يَابِسُ الشِّقِّ، فَلَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ-، وَالمَقْطُوعُ اليُمْنَى، وَالمَقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا يَقْتُلُوا مَجْنُونًا».

وَالمَشْهُورُ عِنْدَ المَالِكِيَّةِ: أَنَّ الصُّنَّاعَ لَا يُقْتَلُونَ.

فَحُرْمَةُ قَتْلِ المَدَنِيِّينَ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ المُقَاتَلَةِ وَالمُمَانَعَةِ مِمَّا قَرَّرَهُ هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ؛ لِأَنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ قِتَالِ المُشْرِكِينَ: هَلْ هِيَ الكُفْرُ، أَوْ هِيَ الِانْتِصَابُ لِلْقِتَالِ؟

أَمَّا الجُمْهُورُ فَيَرَوْنَ العِلَّةَ: الِانْتِصَابَ لِلْقِتَالِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ العِلَّةَ: هِيَ الكُفْرُ.

فَإِذَا نَظَرْنَا فِي قَوْلِ الجُمْهُورِ وَجَدْنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ العِلَّةُ: الكُفْرَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ العِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَالرُّهْبَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى، وَالأَعْمى، وَهَؤُلَاءِ وَرَدَتِ النُّصُوصُ بِمَنْعِ قَتْلِهِمْ فِي الحَرْبِ -كَمَا مَرَّ-.

وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الجُمْهُورِ:

- قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا مَرَّ عَلَى المَرْأَةِ المَقْتُولَةِ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ»، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا أَنَّهَا لَا تُقاتِلُ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ قَتْلِ الكُفَّارِ كُفْرَهُمْ؛ لَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِهَا؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ.

- وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «اتَّقُوا اللهَ فِي الفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الحَرْبَ»، فَجَعَلَ عِلَّةَ عَدَمِ قَتْلِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يُشَارِكُونَ فِي الحَرْبِ.

فَكُلُّ الأَصْنَافِ السَّابِقَةِ المَنْهِيِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى، وَالرُّهْبَانِ؛ كُلُّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ: هِيَ عَدَمُ مُشَارَكَتِهِمْ فِي القِتَالِ، وَعَدَمُ انْتِصَابِهِمْ لَهُ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَإِذَا كَانَ أَصْلُ القِتَالِ المَشْرُوعِ الجِهَادَ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلَيا؛ فمَنْ مَنَعَ هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ المُمَانَعَةِ وَالمُقَاتَلَةِ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالرَّاهِبِ، وَالشَّيْخِ الكَبِيرِ، وَالأَعْمَى، وَالزَّمْنَى، وَنَحْوِهِمْ؛ فَلَا يُقْتَلُونَ عِنْدَ الجُمْهُورِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إِبَاحَةَ قَتْلِ الجَمِيعِ؛ لِمُجَرَّدِ الكُفْرِ إِلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَالأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ -يَعْنِي: قَوْلَ الجُمْهُورِ-؛ لِأَنَّ القِتَالَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا إِذَا أَرَدْنَا إِظْهَارَ دِينِ اللهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي صَلَاحِ الخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، أَيْ: إِنَّ القَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَفِي فِتْنَةِ الكُفَّارِ مِنَ الشَّرِّ وَالفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعِ المُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِ اللهِ؛ لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةُ كُفْرِهِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ». انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِ الإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

إِذَنْ؛ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ المَدَنِيِّينَ الَّذِينَ لَا يُشَارِكُونَ فِي القِتَالِ، وَلَا يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ.

لَيْسَ هُنَالِكَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَانُونٌ يُبِيحُ قَتْلَ المَدَنِيِّينَ -فَضْلًا عَنْ دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ-.

*وَنَهَى الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْجُثَثِ: لَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِجُثَثِ القَتْلَى؛ فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يَقُولُ لَهُمْ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».

أَخْرَجَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَيَشْهَدُ لَهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».

وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ»: «اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا النَّهْيُ عَنِ المُثْلَةِ».

وَقَالَ: «لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ كَافِرٍ حَالَ قِيَامِ الحَرْبِ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ».

وَالتَّمْثِيلُ: قَطْعُ الأَطْرَافِ أَوِ الآذَانِ وَالأَنْفِ، هُوَ تَشْوِيهُ جُثَّةِ القَتِيلِ.

وَلَا يُقَاتَلُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ قَبْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ فَعَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ؛ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ؛ فَأَيَّتُهَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ يُدْعَى قَبْلَ القِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدُّعَاءِ».

فدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.

*بَلِ انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ:

إِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَائِلَ قَامُوا بِاجْتِيَاحٍ بَرْبَرِيٍّ لِمِسَاحَاتٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَجْبَرُوا النَّاسَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ السَّيْفِ.

إِنَّهُ اتِّهَامٌ ظَالِمٌ؛ بَلِ اتِّهَامٌ فَاجِرٌ؛ بَلِ اتِّهَامٌ عَاهِرٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَصْحَابَ قَسْوَةٍ وَعُنْفٍ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ انْتَصَرَ بِالسَّيْفِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ انْتَصَرَ عَلَى السَّيْفِ، انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِ مِنْ بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ.. مِنْ بِدَايَةِ الطَّرِيقِ، انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ، وَلَمْ يَنْتَصِرْ بِالسَّيْفِ.

انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ فِي بَطْشِ السَّيْفِ وَظُلْمِهِ وَسُوءِ تَوْظِيفِهِ؛ فَكَانَ السَّيْفُ رَحْمَةً حَيْثُ كَانَ، وَانْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى رِقَابِ أَتْبَاعِهِ مُنْذُ أُعْلِنَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-.

لَقَدْ تَحَمَّلَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَائِلُ صُنُوفَ الِاضْطِهَادِ كَافَّةً؛ طُورِدُوا وَشُرِّدُوا، وَعُذِّبُوا وَقُتِّلُوا؛ حَتَّى إِنَّ رَجُلًا كَأَبِي جَهْلٍ يَعْتَدِي أَقْبَحَ اعْتِدَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ ضَعِيفَةٍ مُسْتَضْعَفَةٍ؛ هِيَ (سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-)، فَيَطْعَنُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي مَوْطِنِ الْعِفَّةِ مِنْهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ.

وَمَعَ ذَلِكَ الِاضْطِهَادِ وَالْعُنْفِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِكَفِّ الْأَيْدِي، وَبِعَدَمِ الرَّدِّ عَلَى الْعُدْوَانِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77].

وَلَمَّا أُذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ كَانَ التَّعْلِيلُ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ وَاضِحًا، قَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39-40].

فَهَذَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ، لَمْ يَرْفَعُوا سَيْفًا، وَلَمْ يَبْسُطُوا يَدًا.

فَهَذِهِ التُّهْمَةُ الْفَاجِرَةُ الدَّاعِرَةُ يُحَاوِلُ مَنْ يُحَاوِلُ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُلْصِقَهَا بِهِ، وَتِلْكَ فِي نَظَرِهِمْ هِيَ أَكْبَرُ الْجَرَائِمِ؛ إِذْ إِنَّ أَعْظَمَ خَطَايَا مُحَمَّدٍ ﷺ فِي عُيُونِ الْغَرْبِ الْمَسِيحِيِّ هِيَ: أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِ أَنْ يُذْبَحَ أَوْ أَنْ يُصْلَبَ عَلَى يَدِ أَعْدَائِهِ! هَذِهِ هِيَ أَكْبَرُ الْخَطَايَا فِي عُيُونِ الْغَرْبِ النَّصْرَانِيِّ!!

لَقَدْ دَافَعَ النَّبِيُّ ﷺ بِكُلِّ شَجَاعَةٍ وَبِكُلِّ مَهَارَةٍ وَبِكُلِّ اقْتِدَارٍ.. دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أُسْرَتِهِ، وَعَنْ أَتْبَاعِهِ، وَعَنْ دِينِهِ، وَتَغَلَّبَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى كُلِّ أَعْدَائِهِ، فَقَهَرَ عُدْوَانَهُمْ، وَرَدَّ اللهُ بِهِ كَيْدَهُمْ إِلَى نُحُورِهِمْ، فَكَانَ نَجَاحُ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْغُصَّةَ فِي حَلْقِ خُصُومِهِ فِي الْغَرْبِ، الَّذِينَ حَاوَلُوا دُونَ جَدْوَى أَنْ يَجْعَلُوا مَزَايَاهُ الْحَقِيقِيَّةَ عُيُوبًا مُشِينَةً.

إِنَّهُ فِي نَظَرِهِمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَدَاسَةِ التَّضْحِيَةِ بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَغْتَفِرَ لِلْبَشَرِ خَطَايَاهُمْ! وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَقَّقَ لِلْخُطَاةِ مِنَ الْبَشَرِ أَسْهَلُ خَلَاصٍ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ عِقَابٍ؛ جَزَاءً وِفَاقًا لِخَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِهِمْ!!

وَلَقَدْ كَانَ ﷺ بِالْمَنْظُورِ الْعَادِيِّ يُفَكِّرُ وَيَتَصَرَّفُ عَلَى نَحْوٍ طَبِيعِيٍّ مَعْقُولٍ وَمَقْبُولٍ، وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مُمَتَّعٌ بِالْعِصْمَةِ.

وَالْيَوْمَ مَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ سَيْفٌ.

فَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ الْآنَ مَا هُوَ؟

وَأَيْنَ السَّيْفُ الْمُسْلَطُ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ حَتَّى تَدْخُلَ هَذِهِ الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي أَيَّامِنَا هَذِهِ وَفِي أَعْوَامِنَا هَذِهِ وَفِي عَصْرِنَا هَذَا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا؟!!

وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ سَادَةَ الْهِنْدِ لِمُدَّةِ أَلْفِ عَامٍ؛ وَلَكِنْ حَدَثَ عِنْدَمَا نَالَتْ شِبْهُ الْقَارَّةِ الْهِنْدِيَّةِ اسْتِقْلَالَهَا فِي عَامِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1947م) أَنْ حَصَلَ الْهُنْدُوسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مِسَاحَةِ الْهِنْدِ، وَحَصَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُبُعِ مِسَاحَةِ الْهِنْدِ فَقَطْ.

لِمَاذَا حَدَثَ ذَلِكَ؟!!

لَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ خِلَالَ أَلْفِ عَامٍ مِنْ سَيْطَرَتِهِمْ عَلَى أَرَاضِي الْهِنْدِ لَمْ يُجْبِرُوا الْهُنْدُوسَ عَلَى اعْتِنَاقِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ، وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي إِسْبَانيَا وَلَا فِي الْهِنْدِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّحَلِّي بِفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ فَحَسْبُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ نُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ أَمْرٍ إِلَهِيٍّ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ إِذْ يَقُولُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

وَلَقَدْ أَدْرَكَ الْمُسْلِمُونَ الْمُنْتَصِرُونَ وَأَيْقَنُوا بِمُوجَبِ هَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَكُنْ لِيَتَّسِقَ مَعَ الدِّينِ الصَّحِيحِ؛ لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ، الْإِكْرَاهُ لَا يَتَلَاءَمُ وَلَا يَتَّسِقُ مَعَ الدِّينِ الصَّحِيحِ؛ لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:

*يَعْتَمِدُ الدِّينُ الصَّحِيحُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِرَادَةِ، وَسَيَفْقِدُ الْإِيمَانُ وَسَتَفْقِدُ الْإِرَادَةُ كُلَّ مَعْنًى لَوْ تَمَّ فَرْضُ الدِّينِ عَلَى النَّاسِ بِالْقُوَّةِ الْغَاشِمَةِ.

*الْقُوَّةُ الْغَاشِمَةُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَهْزِمَ وَتَقْهَرَ؛ وَلَكِنَّهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لِيَتَحَوَّلَ إِنْسَانٌ بِحَقٍّ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ.

*الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالرُّشْدُ وَالْغَيُّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ؛ قَدْ تَمَّ تَوْضِيحُ كُلٍّ مِنْهَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ؛ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَيُّ رَيْبٍ أَوْ أَيُّ شَكٍّ فِي عَقْلِ أَيِّ إِنْسَانٍ يُخْلِصُ النِّيَّةَ فِي التَّوَجُّهِ الصَّحِيحِ نَحْوَ حَقَائِقِ أُسُسِ الْإِيمَانِ.

*رِعَايَةُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْبَشَرِ، وَلَقَدْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُرْشِدَنَا فِي غَيَاهِبِ الظَّلَامِ لِنَحْصُلَ عَلَى أَوْضَحِ أَنْوَارِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَهْرٍ أَوْ إِجْبَارٍ.

وَفِيمَا عَدَا بَعْضَ الْمُمَارَسَاتِ الْقَلِيلَةِ الْخَاطِئَةِ هُنَا أَوْ هُنَاكَ نَجِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا قَدِ امْتَثَلُوا لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ فِي كُلِّ الْأَرَاضِي الَّتِي خَضَعَتْ لِفُتُوحَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

وَلَكِنْ مَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ الْخُصُومُ عَنْ أَقْطَارٍ لَمْ يَضَعْ فِيهَا جُنْدِيٌّ مُسَلَّحٌ مُسْلِمٌ قَدَمَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟!

إِنْدُونِيسْيَا.. الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ (مِائَةِ مِلْيُونِ إِنْدُونِيسِيٍّ) إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ أَقْدَامُ أَيِّ جَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ فِي أَكْثَرِ مِنْ أَلْفَيْ جَزِيرَةٍ فِي إِنْدُونِيسْيَا؛ فَأَيْنَ السَّيْفُ هَاهُنَا؟!

وَهَذِهِ أَكْبَرُ بَلْدَةٍ أَوْ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ.

مَالِيزيَا.. الْغَالِبِيَّةُ الْعُظْمَى مِنْ سُكَّانِ مَالِيزْيَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ قَدَمُ جُنْدِيٍّ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ أَرَاضِيَ مَالِيزْيَا.

إِفْرِيقِيَّةُ.. أَغْلَبِيَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ -حَتَّى مُوزَنْبِيقَ- إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ -أَيْضًا- نَجِدُ أَنَّ أَغْلَبِيَّةَ السُّكَّانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يُسَجِّلْ أَيَّ غَزَوَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْإِفْرِيقِيَّةِ جَاءَتْ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ.

مَا السَّيْفُ؟!!

وَأَيْنَ كَانَ السَّيْفُ؟!!

إِنَّ الَّذِي اسْتَخْدَمَ الْقُوَّةَ الْغَاشِمَةَ هُمُ الْغَرْبُ، وَلَيْسُوا الْمُسْلِمِينَ.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا الْحُرِّيَّةَ الَّتِي تَعْتِقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ، وَحَمَلُوا الْكَرَامَةَ وَالْمُسَاوَاةَ، وَحَمَلُوا الْقِيَمَ الْعُلْيَا الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ وَطِأَتْهَا أَقْدَامُهُمْ.

وَفِي السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ يَنْتَشِرُ الْإِسْلَامُ بِقِيَمِهِ وَمُثُلِهِ وَبِتَعَالِيمِهِ؛ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ.

إِنَّ اسْتِخْدَامَ السَّيْفِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لِرَدِّ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، ثُمَّ اسْتُخْدِمَ السَّيْفُ وَيُسْتَخْدَمُ، وَيُسْتَخْدَمُ، ويُسْتَخْدَمُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ لِتَصِلَ كَلِمَةُ اللهِ إِلَى الشُّعُوِبِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَلِمَةِ اللهِ أَنْظِمَةٌ كَافِرَةٌ مُجْرِمَةٌ ظَالِمَةٌ.

فَهَذَا اسْتِعْمَالُ السَّيْفِ فِي الْإِسْلَامِ.

*شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِإِنْسَانِيَّةِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ:

وَهَذِهِ شَهَادَاتٌ لِرِجَالٍ غَرْبِيِّينَ مُسْتَشْرِقِينَ بَاحِثِينَ فِي حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ، لَا يُشَكُّ فِي تَحَيُّزِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؛ وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مَا فِيهِ.

قَالَ (لِيبرِي) فِي كِتَابِهِ ((رُوحُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ صـ 270)): ((وَالْمُنْصِفُ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرِ الْعَرَبُ عَلَى مَسْرَحِ التَّارِيخِ لَتَأَخَّرَتْ نَهْضَةُ أُورُوبَّا الْحَدِيثَةِ عِدَّةَ قُرُونٍ)).

وَهَذِهِ شَهَادَةُ الْمُسْتَشْرِقِ الْغَرْبِيِّ (جُوستَاف لُوبُو): الَّذِي تَمَنَّى لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَوْلَوْا عَلَى فَرَنْسَا لِتَغْدُوَ بَارِيسُ مِثْلَ قُرْطُبَةَ فِي إِسْبَانْيَا مَرْكَزًا لِلْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ؛ حَيْثُ كَانَ رَجُلُ الشَّارِعِ فِي قُرْطُبَةَ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَيَقْرِضُ الشِّعْرَ أَحْيَانًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مُلُوكُ أُورُوبَّا لَا يَعْرِفُونَ كِتَابَةَ أَسْمَائِهِمْ، وَيَبْصُمُونَ بِأَخْتَامِهِمْ.

وَيُضِيفُ (لُوبُو) -سَاخِرًا مِمَّنْ يُقَارِنُ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى بِالْأُورُوبِّيِّينَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ-: ((قَدْ كَانَ الْوَضْعُ عَلَى عَكْسِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ تَمَامًا؛ الْعَرَبُ هُمُ الْمُتَحَضِّرُونَ، وَالْأُورُوبِّيُّونَ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّنَا -هَذَا كَلَامُهُ-  نُسَمِّي تَارِيخَ أُورُوبَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: الْعُصُورَ الْمُظْلِمَةَ)).

إِنَّ الْعَهْدَ الذَّهَبِيَّ لِأُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ فِيمَا سُمِّيَ بِالْعُصُورِ الْوُسْطَى؛ حَيْثُ كَانَ الْكِتَابُ يُوزَنُ بِالذَّهَبِ، وَحِينَمَا مَلَكَ أَجْدَادُنَا نَاصِيَةَ الْعِلْمِ مَلَكُوا نَاصِيَةَ الْعَالَمِ.

لِذَلِكَ قَالَ (نِيكِلْسُون): ((وَمَا الْمُكْتَشَفَاتُ الْيَوْمَ لِتُعَدَّ شَيْئًا مَذْكُورًا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا نَدِينُ بِهِ لِلرُّوَّادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبَسًا مُضِيئًا لِظَلَامِ الْعُصُورِ الْوُسْطَى فِي أُورُوبَّا)).

وَلِذَلِكَ أَيْضًا قَالَ (هَالْمِيَارد) فِي كِتَابِهِ ((الْكِيميَاءُ حَتَّى عَصْرِ نِيُوتِن - فِي الصَّفْحَةِ الْعَاشِرَةِ)) -بَعْدَ أَنْ عَدَّدَ فَضْلَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّطْبِيقَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْكِيميَاءِ الْعَمَلِيَّةِ-؛ قَالَ: ((لِكُلِّ هَذِهِ الْخِبْرَاتِ الَّتِي حَقَّقَهَا لَنَا الْبَاحِثُونَ الْمُسْلِمُونَ دَعْنَا نُقَدِّمُ فُرُوضَ الْوَلَاءِ وَالتَّقْدِيرِ لِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ )).

يَقُولُ (جِيبُون) فِي كِتَابِهِ ((عَنِ اضْمِحْلَالِ وَسُقُوطِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ)): ((مِنَ الطَّبِيعِيِّ وَنُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ قَانُونِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي لَا جِدَالَ فِيهَا: أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ الْحَقَّ فِي أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ، وَأَنْ تَصِلَ مُقْتَضَيَاتُ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى كُلِّ الْآفَاقِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي تُوَفِّرُ لَهُ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالْقُدْرَةَ عَلَى رَدِّ الْأَعْدَاءِ عَنْ مَوْطِنِهِ)).

إِنَّ جِهَادَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَانْتِصَارَهُ عَلَى جُيُوشِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ الْأَشْرَارِ قَدْ جَعَلَتْ مُحَرِّرِي ((دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْبِرِيطَانِيَّةِ)) يُعْلِنُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هُوَ أَعْظَمُ الشَّخْصِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ نَجَاحًا فِي التَّارِيخِ -فَهَذَا كَلَامُهُمْ-.

كَيْفَ يَحِقُّ -إِذَنْ- لِخُصُومِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ انْتِصَارَاتِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيُّ هَدَفٍ أَوْ أَيُّ قِيمَةٍ سِوَى أَنَّهَا قَدْ أَتَاحَتْ لَهُ أَنْ يَنْشُرَ دِينَهُ الْإِسْلَامِيَّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ، وَغَلَبَتِ الْجُيُوشَ وَالرِّمَاحَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ؟!!

هَلْ فَرَضَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِأَنْ قَطَعَ رِقَابَ النَّاسِ؟!!

الْمُسْلِمُونَ كُثُرٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْبِلَادِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِقَطْعِ رِقَابِ النَّاسِ؟!!

يَقُولُ (دِي لَاسِي أُولِيرِي) مَا نَصُّهُ: ((إِنَّ التَّارِيخَ يُؤَكِّدُ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِأَيِّ شَكٍّ أَنَّ خُرَافَةَ الِاجْتِيَاحِ الْبَرْبَرِيِّ لِمِسَاحَاتٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِجْبَارِ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ فَوْقَ رِقَابِ الشُّعُوبِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا؛ إِنَّمَا هِيَ خُرَافَةٌ خَيَالِيَّةٌ مُضْحِكَةٌ، عَارِيَةٌ تَمَامًا مِنَ الصِّحَّةِ، وَبَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِيقَةِ عَلَى نَحْوٍ نَادِرِ الْمِثَالِ فِي دُنْيَا التَّارِيخِ وَفِي عَالَمِ الْمُؤَرِّخِينَ)).

كِتَاب: ((الْإِسْلَامُ فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ)) - لِدِي لَاسِي أُولِيرِي، طَبْعَةُ لَنْدَن سَنَةَ 1923 الصَّفْحَةُ 8.

وَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَكُونَ مُؤَرِّخِينَ مِثْلَ (أُولِيرِي) لِكَيْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا إِسْبَانيَا لِمُدَّةِ 736 عَامٍ، وَبَعْدَ قُرَابَةِ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ تَمَّ إِقْصَاءُ وَإِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِسْبَانيَا؛ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ يُقِيمُ الْأَذَانَ مُعْلِنًا وُجُوبَ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدِ اسْتَخْدَمُوا الْقُوَّةَ عَسْكَرِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا فِي إِسْبَانيَا بَعْدَمَا فَتَحُوهَا؛ لَمَا بَقِيَ فَوْقَ أَرْضِ إِسْبَانيَا أَيُّ نَصْرَانِيٍّ لِيَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرْدِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَ إِسْبَانيَا.

رُبَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصِفَ الْإِنْسَانُ -لَوْ شَاءَ- الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَفَادُوا مِنْ خِبْرَاتِ وَثَرْوَاتِ الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحُوهَا؛ وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّهِمَهُمْ أَحَدٌ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ لِكَيْ يُحَوِّلُوا الْإِسْبَانِيِّينَ إِلَى مُسْلِمِينَ يَعْتَنِقُونَ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ خَوْفًا مِنْ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ.

يَقُولُ (بَاندِكْت جييانا نيترا ديب شاستري) أَثْنَاءَ لِقَاءٍ تَمَّ عَقْدُهُ فِي جورافور بِالْهِنْدِ سَنَةَ (ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ 1928)؛ يَقُولُ: ((إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺ يَرَوْنَ النَّارَ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدُوا النُّورَ، وَيَسْتَسِيغُونَ الْقُبْحَ بَدَلًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَمَالِ، إِنَّهُمْ يُخَرِّفُونَ، وَيَعْتَبِرُونَ كُلَّ فَضِيلَةٍ وَمَيْزَةٍ وَكَأَنَّهَا رَذِيلَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ؛ إِنَّ ذَلِكَ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ نِعْمَةِ التَّمْيِيزِ وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ، إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺ إِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمْيَانِ -كَلَامُهُ-، إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ السَّيْفَ الْوَحِيدَ الَّذِي شَهَرَهُ وَشَرَعَهُ مُحَمَّدٌ ﷺ إِنَّمَا كَانَ هُوَ سَيْفَ الرَّحْمَةِ، وَسَيْفَ التَّعَاطُفِ وَالصَّدَاقَةِ وَالتَّسَامُحِ، إِنَّهُ السَّيْفُ الَّذِي يَهْزِمُ الْأَعْدَاءَ، وَيُنَظِّفُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغَضَبِ، وَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالْكَرَاهِيَةِ.

لَقَدْ كَانَ سَيْفُهُ أَمْضَى مِنَ السَّيْفِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْحَدِيدِ الصُّلْبِ، لَقَدْ فَضَّلَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْهِجْرَةَ عَلَى قِتَالِ أَبْنَاءِ بَلَدِهِ؛ وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَجَاوَزَ الْعُدْوَانُ كُلَّ حُدُودِ إِمْكَانَاتِ التَّسَامُحِ؛ امْتَشَقَ سَيْفَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ.

وَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَيَّ دِينٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ نَشْرُهُ بِالسَّيْفِ؛ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَمْقَى، لَا يَعْرِفُونَ الطُّرُقَ السَّلِيمَةَ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَا يَعْرِفُونَ فِيمَا تُسْتَخْدَمُ السُّيُوفُ، وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ شُئُونِ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ عَامٍّ، إِنَّهُمْ مَزْهُوُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمَسَافَاتٍ كَبِيرَةٍ شَاسِعَةٍ)).

قَالَ هَذَا الْكَلَامَ صَحَفِيٌّ مِنْ طَائِفَةِ السِّيخِ فِي جَرِيدَةٍ تَصْدُرُ فِي دِلْهِي فِي 17 نُوفَمْبِر سَنَةَ 1947م.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا حَارَبُوا حَارَبُوا لِمَبْدَأٍ، حَارَبُوا مِنْ أَجْلِ دِينٍ عَظِيمٍ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

حَارَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

((إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ))

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَحْظَ الْإِنْسَانُ أَنَّى كَانَ جِنْسُهُ أَوْ مَكَانُهُ أَوْ مَكَانَتُهُ أَوْ زَمَانُ عَيْشِهِ بِمَنْزِلَةٍ أَرْفَعَ مِنْ تِلْكَ الَّتِي يَنَالُهَا فِي ظِلَالِ الدِّينِ الْحَنِيفِ؛ دِينِ رَبِّنَا، دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ عَالَمِيٌّ، وَرَسُولَهُ ﷺ أُرْسِلَ لِلْعَالَمِينَ كَافَّةً، وَلَمْ يَكُنْ كَإِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِينَ أُرْسِلُوا لِأَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً.

وَحِينَ يُوَازِنُ أَيُّ بَاحِثٍ مُنْصِفٍ مَبَادِئَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ الَّتِي حَوَاهَا «الْإِعْلَانُ الْعَالَمِيُّ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ».. حَيِنَ يُوَازِنُ بَيْنَ هَذِهِ وَحُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ يَلْحَظُ التَّمَيُّزَ الْوَاضِحَ الَّذِي سَبَقَ بِهِ الْإِسْلَامُ مَا تَفَتَّقَتْ عَنْهُ أَفْكَارُ الْبَشَرِ فِي مَبَادِئِ حُقُوقِهِمْ؛ مِنْ حَيْثُ الشُّمُولُ وَالسَّعَةُ وَالْعُمْقُ، وَمُرَاعَاةُ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تُحَقِّقُ لَهُ الْمَنَافِعَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَارَّ.

وَيَتَّضِحُ مِنَ الدِّرَاسَةِ الْمَوْضُوعِيَّةِ الْمُتَجَرِّدَةِ عَنِ الْأَهْوَاءِ أَنَّهُ: «لَيْسَ هُنَاكَ دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ أَوْ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَفَاضَتْ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، وَتَفْصِيلِهَا وَتَبْيِينِهَا، وَإِظْهَارِهَا فِي صُورَةٍ صَادِقَةٍ مِثْلَمَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ».

أَصْنَافُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الإِسْلَامِ:

*الصِّنْفُ الأَوَّلُ: هُمُ المُوَاطِنُونَ مِنْ غَيرِ المُسْلِمِينَ: جَاءَ فِي كِتَابِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَهْلِ نَجْرَانَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.. هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللهِ أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِأَهْلِ نَجْرَانَ.

أَجَارَهُمْ بِجِوَارِ اللَّهِ وَذِمَّةِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَنْفُسِهِمْ, وَأَرْضِهِمْ, وَمِلَّتِهِمْ, وَأَمْوَالِهِمْ, وَحَاشِيَتِهِمْ, وَعِبَادَتِهِمْ, وَغَائِبِهِمْ, وَشَاهِدِهِمْ, وَأَسَاقِفَتِهِمْ, وَرُهْبَانِهِمْ, وَبِيَعِهِمْ, وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، لا يَخْسَرُونَ وَلا يُعْسِرُونَ» .

وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ وَفَاتِهِ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ : «وَأُوصِيهِ -يَعْنِي بِذَلِكَ: الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِه- بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ ﷺ أَنْ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إلا طَاقَتَهُمْ».

*وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَبِلَادِهِ؛ فَهُمُ المُسْتَأْمَنُونَ:

وَهُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوَافِدِينَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِعَمَلٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ حَيْثُ يُعَرِّفُهُمُ الْفُقَهَاءُ الْمُسْلِمُونَ بِـ(الْمُسْتَأْمَنِينَ).

وَلِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُقُوقٌ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا حُقُوقٌ خَاصَّةٌ.

*الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ:

فَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تَقْتَصِرِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى إِسْبَاغِ الْحُقُوقِ عَلَى أَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ إِنَّ مِمَّا يُمَيِّزُ الشَّرِيعَةَ عَنْ غَيْرِهَا: أَنَّهَا قَدْ أَشْرَكَتْ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَنَلْهُ الْإِنْسَانُ فِي دِينٍ آخَرَ، وَلَا فِي نُظُمٍ أُخْرَى.

وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:

*حَقُّهُمْ فِي حِفْظِ كَرَامَتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي مُعْتَقَدِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْتِزَامِ شَرْعِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي حِفْظِ دِمَائِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْحِمَايَةِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ.

*وَحَقُّهُمْ فِي التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَكُلُّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْجَمَهُ عَمَلِيًّا مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِ الْخُلَفَاءِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِمَّنِ الْتَزَمَ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَسَارَ عَلَى نَهْجِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَمَا أَبْشَعَ وَأَعْظَمَ جَرِيمَةَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ، وَظَلَمَ عِبَادَهُ، وَأَخَافَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ!!

فَوْيَلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَنِقْمَتِهِ، وَمِنْ دَعْوَةٍ تُحِيطُ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكْشِفَ سِتْرَهُ، وَأَنْ يَفْضَحَ أَمْرَهُ.

*عِصْمَةُ كُلِّ نَفْسٍ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِالْأَمَانِ:

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانٌ.

فَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ مَعْصُومَةٌ بِالْأَمَانِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 93].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ، لَا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

فَإِذَا كَانَ الذِّمِّيُّ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ؛ فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الْجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعْظَمَ، وَإِنَّ الْإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺكَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» : «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى؛ فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ الْقَاتِلِ الْجَنَّةَ.

قَتْلُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأمَنِ حَرَامٌ؛ فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ هَكَذَا فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ: بَابُ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ»، وَأَوْرَدَهُ فِي «كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي بَابِ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ»  وَلَفْظُهُ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».

وَأَمَّا قَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأً؛ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].

الْمُعَامَلَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ: قَالَ تَعَالَى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المُمْتَحَنَة: 8].

لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَصِلُوهُمْ، وَتَعْدِلُوا فِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَالْبِرِّ بِهِمْ؛ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَادِلِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى عَدْلِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المُمْتَحَنَة: 9].

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَعَاوَنُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَصْدِقَاءَ وَأَنْصَارًا.

وَمَنْ يَتَّخِذُهُمْ أَنْصَارًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَحِبَّاءَ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ؛ حَيْثُ وَضَعُوا الْوَلَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ الشَّدِيدِ.

فَمُوَادَّةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِمُعَادِي اللهِ وَرَسُولِهِ وَمُعْلِنِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَضِيَّةٌ تُنَاقِضُ الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ مُعَادَاةَ مَنْ عَادَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَحَارَبَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ غَيْرُ قَضِيَّةِ مُعَامَلَةِ الْكَافِرِينَ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِالْبِرِّ وَالْقِسْطِ سَبَبٌ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَتَحْبِيبِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ حُبًّا فِي دِينِ اللهِ، وَإِعْجَابًا بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا أَتْبَاعُهُ.

لَقَدْ ((كَانَ هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي مُعَامَلَةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ: الِاسْتِجَابَةَ التَّامَّةَ لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ؛ مِنْ صَبْرِ نَفْسِهِ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَأَلَّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَهْجُرَ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ، وَأَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى بِمُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، شَرِيفُهُمْ وَضَعِيفُهُمْ.

وَكَانَ ﷺ لَا يُوَالِي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ، وَبِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ؛ هَدْيًا لِأُمَّتِهِ، وَاهْتِدَاءً بِهَدْيِ اللهِ -تَعَالَى- لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].

فَهَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ الشَّرْعِيَّيْنِ.

وَأَمَّا فِي الْعَادَاتِ: فَكَانَ يُعَامِلُ الْجَمِيعَ بِإِحْسَانٍ؛ يَشْتَرِي مِنْهُمْ، وَيَسْتَعِيرُ، وَيَعُودُ مَرِيضَهُمْ، وَيَقْبَلُ هَدِيَّتَهُمْ، وَيَسْتَعْمِلُهُمْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ بِأَمْرِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِنَهْيِ اللهِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

((مِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ:

حِمَايَةُ حُقُوقِ الضُّعَفَاءِ))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: حِمَايَةَ حُقُوقِ الضُّعَفَاءِ، وَاحْتِرَامَ كِبَارِ السِّنِّ، وَالْعِنَايَةَ بِالْمَرْضَى؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

((أُحَرِّجُ)): أُلْحِقُ الْحَرَجَ، وَهُوَ الْإِثْمُ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا، وَأُحَذِّرُ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا بَلِيغًا، وَأَزْجُرُ عَنْهُ زَجْرًا أَكِيدًا.

أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَحِفْظِ حُقُوقِهِمْ، كَمَا أَوْصَى بِالْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ؛ لِزِيَادَةِ ضَعْفِهِمَا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَضِّحُ ذَلِكَ؛ حَيْثُ يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ»، وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِم: «أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ» أَيْ: أُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِمْ، وَأُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ظُلْمِهِمْ.

«الضَّعِيفَينِ»: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا حَوْلَ لَهُمَا وَلَا قُوَّةَ، وَلَا يَنْتَصِرَانِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ وَصَفَهُمَا بِالضَّعْفِ اسْتِعْطَافًا وَزِيَادَةً فِي التَّحْذِيرِ؛ فَإِنَّ الْإنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَضْعَفَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ بِهِ أَتَمَّ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ ظَالِمِهِ أَشَدَّ.

وَأَوَّلُ الضَّعِيفَيْنِ «الْيَتِيمُ»: وَهُوَ الَّذِي فَقَدَ أَبَاهُ صَغِيرًا، وَفَقَدَ حِمايَتَهُ وَرِعَايَتَهُ.

«وَالْمَرْأَةُ»؛ وَوَجْهُ ضَعْفِ الْمَرْأَةِ: أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ فِي الْجَسَدِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلرَّجُلِ الْوَلَايَةَ عَلَيْهَا؛ لِرِعَايَتِهَا وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، لَا لِهَضْمِهَا؛ فَلَا يُزَادُ فِي ضَعْفِهَا بِضَرْبِهَا، وَمُطَالَبَتِهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّهُ وَسَمَحَ بِهِ الشَّرْعُ تُجَاهَ الزَّوْجِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِأَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَالْأَزْوَاجِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: عِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِحُقُوقِ الضُّعَفَاءِ عُمُومًا، وَاعْتِنَاؤُهُ بِحُقُوقِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ خُصُوصًا.

وَمِنْ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ: احْتِرَامُ الْكِبَارِ وَحِفْظُ حُقُوقِهِمْ؛ فَالْإِسْلَامُ يُعْطِي الْكَبِيرَ حَقَّهُ مِنَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّوْقِيرِ، وَإِجْلَالُهُ هُوَ حَقُّ سِنِّهِ؛ لِكَوْنِهِ تَقَلَّبَ فِي الْعُبُودِيَّةِ للهِ فِي أَمَدٍ طَوِيلٍ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

«يُجِلُّ»: يُعَظِّمُ قَدْرَهُ.

فِي الْحَدِيثِ: وُجُوبُ التَّوْقِيرِ مِنَ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ كَذَلِكَ، وَرَحْمَةِ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ احْتِسَابًا وَطَلَبًا لِلْأَجْرِ، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَحِرْصًا عَلَى التَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: رَحْمَةُ الْكَبِيرِ لِلصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرُ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.

«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ» أَيْ: مِنْ تَبْجِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ -جَلَّ وَعَلَا- «إِكْرَامَ ذَيِ الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»: تَعْظِيمَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِسِ، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ تَعْظِيمِ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِحُرْمَةِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ.

فَالَّذِي يَتَدَبَّرُ مُتَأَمِّلًا يَرَى أَهَمِّيَّةَ هَذِهِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ،  وَيَعْلَمُ سُمُوَّ مَنْزِلَتِهَا؛ فَإِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ -تَعَالَى- ومِنْ تَعْظِيمِهِ: أَنْ  يَعْرِفَ الْمَرْءُ حَقَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ.

فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: تَأْكِيدٌ نَبَوِيٌّ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى تَوْقِيرِ الْكِبَارِ وَإِجْلَالِهِمْ، وَالِاعْتِرَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ.

وَفِيهَا: بَيَانُ فَضِيلَةِ وَأَسَاسِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، مَعَ بَيَانِ الْخَيْرِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُجْتَمَعُ الْفَاضِلُ؛ لِأَنَّ خَلَلًا عَظِيمًا جِدًّا يَحْدُثُ فِي مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا لَا يُعْرَفُ لِلْكَبِيرِ حَقُّهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.

وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((رَأَى سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ!!)).

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ: ((عَلَى مَنْ دُونَهُ)) زَادَ النَّسَائِيُّ ((مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )) أَيْ: بِسَبَبِ شَجَاعَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .

قَوْلُهُ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ!!)) فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: ((إِنَّمَا نَصَرَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعَفَتِهِمْ؛ بِدَعْوَاتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ))، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ بِلَفْظ: ((إِنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ)).

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ((تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ: أَنَّ الضُّعَفَاءَ أَشَدُّ إِخْلَاصًا فِي الدُّعَاءِ، وَأَكْثَرُ خُشُوعًا فِي الْعِبَادَةِ؛ لِخَلَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِزُخْرُفِ الدُّنْيَا)) )).

لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

((فَضْلُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى الْعَالَمِ))

إِنَّ شَمْسَ الْإِسْلَامِ سَطَعَتْ عَلَى الْغَرْبِ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى، وَلَمْ تَبْدَأِ النَّهْضَةُ الْأُورُبِّيَّةُ الْحَدِيثَةُ إِلَّا بَعْدَ اطِّلَاعِ الْأُورُبِيِّينَ عَلَى الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَمَا أَنَّ التَّرْجَمَاتِ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَتِ الْمَصْدَرَ الْوَحِيدَ لِلتَّدْرِيسِ فِي جَامِعَاتِ أُورُبَّا نَحْوَ سِتَّةِ قُرُونٍ، وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ: إِنَّ تَأْثِيرَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْعُلُومِ كَعِلْمِ الطِّبِّ -مَثَلًا- دَامَ إِلَى زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ جِدًّا، بَقِيَتْ كُتُبُ ابْنِ سِينَا تُدَرَّسُ فِي (جَامِعَةِ مُونْبِليِيه) فِي فَرَنْسَا إِلَى أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ.

وَمَاذَا بَعْدَ شَهَادَةِ (جُوسْتَاف لُوبُو) الَّذِي تَمَنَّى لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَوْلَوْا عَلَى فَرَنْسَا؛ لِتَغْدُوَ بَارِيسُ مِثْلَ قُرْطُبَةَ فِي أَسْبَانْيَا مَرْكَزًا لِلْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ؛ حَيْثُ كَانَ رَجُلُ الشَّارِعِ فِي قُرْطُبَةَ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَيَقْرِضُ الشِّعْرَ -أَحْيَانًا- فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ -كَمَا يَقُولُ (لُوبُو)- كَانَ فِيهِ مُلُوكُ أُورُبَّا لَا يَعْرِفُونَ كِتَابَةَ أَسْمَائِهِمْ، وَيَبْصُمُونَ بِأَخْتَامِهِمْ.

وَيُضِيفُ (لُوبُو) سَاخِرًا مِمَّنْ يُقَارِنُ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى بِالْأُورُبِّيِّينَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ: قَدْ كَانَ الْوَضْعُ عَلَى عَكْسِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ تَمَامًا، الْعَرَبُ هُمُ الْمُتَحَضِّرُونَ، وَالْأُورُبِّيُّونَ هُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّنَا نُسَمِّي تَارِيخَ أُورُبَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْعُصُورَ الْمُظْلِمَةَ (هَذَا كَلَامُهُ)؛ إِنَّ عُصُورَ أُورُبَّا الْوُسْطَى عُصُورٌ مُظْلِمَةٌ يَقِينًا.

نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الْعَالَمَ السَّلَامَ بِشَرَائِطِهِ، بِأَحْكَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ، لَيْسَ بِالْمَذَلَّةِ يُسْتَجْلَبُ، وَلَا بِالذُّلِّ وَالْعَارِ, وَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.

نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الْعَالَمَ كُلَّهُ قِيَمَ الْخَيْرِ, قِيَمَ الصِّدْقِ, الْقِيَمَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا بِحَقٍّ, وَلَوْلَا هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ مَا عُرِفَ شَرَفٌ, وَلَا رُوعِيَ عِرْضٌ.

وَأَنْتَ تَرَى بِعَيْنَيْ رَأْسِكَ, نَعَمْ؛ لَسْتَ مَلَاكًا وَلَا مَعْصُومًا؛ فَلِمَ لَا تَرَى؟!!

أَنْتَ تَرَى.. وَقَدْ تُغَلْغِلُ الْبَصَرَ -أُعِيذُكَ بِاللهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ-؛ أَنْتَ تَرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَسَافَدُونَ كَمَا تَتَسَافَدُ الْحُمُرُ فِي الطُّرُقَاتِ وَتَحْتَ الْأَعْيُنِ، وَيَتَعَرُّونَ رِجَالًا وَنِسَاءً بِلَا حَيَاءٍ!!

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ أَبًا, زِنًا وَفُحْشٌ، وَخَمْرٌ وَسُحْتٌ، وَظُلْمٌ وَطُغْيَانٌ!!

أَيُّ قِيَمٍ عِنْدَ الْآخَرِينَ يُمْكِنُ أَنْ نَتَحَصَّلَ عَلَيْهَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ؟! إِنَّمَا الْحَقُّ وَالْخَيْرُ وَالْهُدَى وَالْعَدْلُ وَالْحَقُّ وَالسَّلَامُ فِي دِينِ نَبِيِّ السَّلَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُمَسِّكَنَا الْإِسْلَامَ حَتَّى نَلْقَاهُ.

اللهم مَسِّكْنَا الْإِسْلَامَ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَكَ الْكَرِيمَ.

اللهم مَسِّكْنَا الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَكَ الْكَرِيمَ.

اللهم ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاهْدِ قُلُوبَنَا، وَبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَاشْرَحْ صُدُورَنَا، وَأَصْلِحْ بَالَنَا.

اللهم فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَاجْمَعْ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَاكْبِتْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَذَا الْقُوَّةِ الْمَتِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَّشْرِيعِ وَرَدُّ شُبُهَاتِ الطَّاعِنِينَ فِيهَا
  عَوَامِلُ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعَوَامِلُ سُقُوطِهَا
  عقوبة من والى المبتدعة
  الْأُسْرَةُ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ
  الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ 1
  ((الْفَسَادُ صُوَرُهُ وَمَخَاطِرُهُ)) مُهَذَّبٌ مِنْ كِتَاب: ((حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
  الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ
  نَبْذُ الْإِسْلَامِ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ
  التَّسَامُحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
  طَلَاقَةُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان