((مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ: اللهم
((فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعِظَمُ أَجْرِ صِيَامِهِ))
فَفِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ يَومٌ عَظِيمٌ قَدْرُهُ, جَلِيلٌ أَثَرُهُ؛ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ.
أَخرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ، عَنْ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَة, فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
وَفِي الْحَدِيثِ إِثبَاتُ صِفَةِ النُّزُولِ لِلرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَهُوَ نُزُولٌ حَقِيقِيٌّ علَى مَا يَلِيقُ بِالرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأخَرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنّْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبلَهُ, وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعدَهُ)).
وَفِي لَفظٍ: سُئلَ عَنْ صَومِ يَومِ عَرَفَةَ, فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ)).
وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ لِلْكَبَائرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ, وَلَا يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُؤَدَّى, فَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يُكَفَّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ.
وَلَا يَقَعُ الصَّومُ -كَمَا هُوَ مَعلُومٌ- مِن أَحَدٍ بَعْدَ الْمَعْصُومِ ﷺ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ, وَكَمَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ الْمُؤمِنُ لِنَفسِهِ أَنْ يَقَعَ؛ فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ التَّقصِيرِ مَا فِيهِ, وَلَكِنْ يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ عَلَى حَسَبِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْيَقِينِ وَالِاحْتِسَابِ, ((إِيمَانًا وَاحتِسَابًا)): إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَاحْتِسَابًا عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَجْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ, وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ فِي الصِّيَامِ.
وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا صَامَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوُرِ وَلَا الْعَمَلَ بِهِ, وَأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَإِنَّمَا الصِّيَامُ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ.
فَإِذَا أَمْسَكَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ, وَأَخَذَ فِي أَثنَاءِ صِيَامِهِ عَمَّا أُحِلَّ لَهُ؛ يَأْتِي بِمَا حُرِّمَ عَلَيهِ -صَائِمًا وَمُفْطِرًا- مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- حَرَامًا فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ؛ فَمَا هَذَا بصَائمٍ!!
يَصُومُ عَنِ الحَلالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ وَيُمْسِكُ عَنْ ذَلِك؛ وَيَرتَعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ؛ وَيَشْتُمُ هَذَا, وَيَسُبُّ هَذَا, وَيَأْكُلُ مَالَ هَذَا, وَيَنفَلِتُ لِسَانُهُ بِمَا لَا يَجْمُلُ وَلَا يَحِلُّ, فَأَيُّ صِائمٍ هَذَا؟!!
وَمَا الَّذِي يُؤَمِّلُهُ مِنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِ سَنَةٍ مَضَتْ أَوْ سَنَةٍ بَقِيَتْ؟!!
إِنَّمَا هَذا يَأْتِي بِالْوِزرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الطَّاعَةِ بمَا يَمْحَقُ ثَوابَهَا مَحْقًا, وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَامَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ, وَأَنْ يُمسِكَ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا, ((وَإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائمٌ, إِنِّي صَائمٌ)) .
فَهَذَا فِي رَمَضَانَ، وَفِي كُلِّ صَومٍ.
يَنبَغِي عَلَى الإِنسَانِ أَنْ يُخَلِّصَ ذَلِكَ مِنْ أَسْرِ نَفْسِهِ, وَمِنْ عَادَاتِهِا, وَمِنَ الْعُرفِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا, وَمِنَ التَّقَالِيدِ الَّتِي تَحْكُمُهَا, وَأَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّومَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) .
فَالصَّومُ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجزِيِ عَلَيهِ بِأَضعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمرَ اللَّهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ رَسُولِهِ ﷺ.
فَلْيَعْزِمِ الْمَرءُ وَلْيَنوِ أَنْ يَصُومَ يَومَ عَرَفَةَ -إِنْ لَمْ يَكُنْ صَائمًا فِي الْعَشْرِ-, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ فَيَنبَغِي عَلَيهِ أَلَّا يُفَوِّتَ هَذِهِ الفُرصَةَ العَظِيمَةَ.
وَلْيَجتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, فِي وَقتِ النُّزولِ الإِلَهِيِّ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ المَغفِرَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ الرَّحمَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَبَاحَهُ مِنَ الْمَسَائلِ.
لَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ, وَلَا يَعْتَدِي فِي الدُّعَاءِ, وَإِنَّمَا يُقْبِلُ عَلَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَيَأْخُذُ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه, لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)) .
فَهَذَا خَيرُ مَا يُقَالُ فِي يَومِ عَرَفَةَ.
يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ فِيهِ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ؛ فَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاشَ بَعْدَهَا وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا.
قَالَ الْبَغَوِيُّ : ((فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا -مَعْشَرَ الْيَهُودِ- نَزَلَتْ؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.
قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟
قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)).
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ؛ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ)) .
وَعَلَى المَرءِ أَنْ يَجتَهِدَ فِي ذَلِكَ اليَومِ, وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ, وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَوْمِ خَاصَّةً؛ لِعَظِيمِ الرَّحَمَاتِ المُتَنَزَّلَاتِ بِهِ, كَمَا رَوَت عَائشَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ, فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
فَهَذَا زَمَانُ عِتْقٍ مِنَ النَّارِ, فَلْيُعَرِّضِ الْمَرءُ نَفْسَهُ لِرَحمَةِ رَبِّهِ؛ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَبِالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ.
وَلَيُقْبِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ فَلْيُنَقِّهِ مِنْ غِشِّهِ, وَلْيُخَلِّصْهُ مِن وَضَرِهِ, وَلْيَحْمِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَستَقِيمَ عَلَى أَمْرِ رَبِّه, وَلْيَدْعُ اللَّهَ جَاهِدًا أَنْ يَهْدِيَ قَلْبَهُ, وَأَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ, وَأَنْ يُصلِحَ بَالَهُ, وَأَنْ يُدْرِكَ أَمَّةَ مُحَمَّدٍ بِرَحْمَةٍ شَامِلَةٍ؛ تَرْفَعُ عَنْهَا الْكَرْبَ, وَتَكْشِفُ عَنْهَا الْهَمَّ وَالْغَمَّ.
فَيَجْتَهِدُ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ وَرَغَّبَ فِيهِ؛ وَهُوَ الصِّيَامُ.
ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ خَاصَّةً عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِيُصَادِفَ -بِقَدَرِ اللهِ- وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَرِّضًا لِرَحَمَاتِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-, عَسَى أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
((مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ))
النَّبِيُّ ﷺ -عِبَادَ اللهِ- لَمْ يَحُجَّ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ هَذِهِ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ الْأَذَانَ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَبْرَؤُونَ وَيَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي تَلْكَ الْحَجَّةِ أَعْلَنَ اضْمِحْلَالَ الشِّرْكِ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَأَعْلَنَ ﷺ رَفْعَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ.
وَحَضَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْفِعْلِ وَبِالْقَوْلِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، وَحَذَّرَ مِنْ تَفْرِقَةِ صُفُوفِهَا وَأَبْنَائِهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ مَظْهَرٍ يَتَجَلَّى فِيهِ وَحْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ مَا يَكُونُ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ.
فَهَذَا مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ صَارِخٌ وَدَامِغٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُهُودَ أَبْنَائِهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَلَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُوَدِّعًا لِلْأُمَّةِ، وَمُرْسِيًا لِلْأُسُسِ وَالْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَكْفُلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأُمَّةِ -إِنْ تَمَسَّكَتْ بِهَا- عِزَّهَا وَمَجْدَهَا، وَظُهُورَهَا وَارْتِفَاعَهَا.
الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لَمْ يَخْتَرْ لَهُمْ صِفَةً سِوَى الصِّفَةِ الَّتِي تَجْمَعُهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِصِفَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ مَوْفُورَةٌ لَدَيْهِمْ، وَلَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَعَاشِرَ النَّاسِ! وَهُوَ مُنَادًى -كَمَا تَعْلَمُ- عَلَى الْإِضَافَةِ؛ لِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ: مَعَاشِرَ النَّاسِ!
لَمْ يَخْتَرْ لَهُمْ إِلَّا وَصْفَ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ وَاقِفًا مِنْ صُبْحِ الْغَدِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى، يَخْطُبُ النَّاسَ يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ!.. ))، يَا أَيُّهَا النَّاسُ! بِدِينِ السَّلَامِ رَغْمَ أَنْفِ الْمُعَانِدِينَ، بِدِينِ السَّلَامِ رَغْمَ أَنْفِ الْمُشَوِّهِينَ، بِدِينِ السَّلَامِ وَلَا دِينَ لِلسَّلَامِ إِلَّا دِينُ الْإِسْلَامُ.
يَقُولُ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) .
((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
بَيَانُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ دُرُوسِ النَّبِيِّ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ؛ فَفِي خُطَبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ أَعْلَنَ ﷺ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا أَبَدِيًّا، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)) .
فَهُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، لَا يَحِلُّ أَبَدًا لِمُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، أَوْ أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ، إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.
أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ -يَعْنِي: نَشَرَهُمْ وَبَعَثَهُمْ فِي الْآفَاقِ-، فَيَقُولُ -وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؛ يَعْنِي: يَقُولُ لَهُمْ حَالَ بَثِّهِ إِيَّاهُمْ-: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ.
قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا -وَفِيهِ إيجَازٌ بِالْحَذْفِ, وَهَا هُنَا فَجْوَةٌ فِي السِّيَاقِ مَعْلُومَةٌ, كَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: فَيَذْهَبُونَ, فَيُخَذِّلُونَ الْمُسْلِمِينَ, ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَسْأَلُهُمْ سَيِّدُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ إِبْلِيسُ- فَيَخْرُجُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ.
وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ».
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ يُخْبِرُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ إِبْلِيسَ يُجَنِّدُ الْجُنْدَ فِي الصَّبَاحِ إِذَا أَصْبَحَ -لَا صَبَّحَهُ اللهُ بِخَيْرٍ- فَيُرْسِلُ فِي الْآفَاقِ جُنُودَهُ مَبْثُوثِينَ, وَيَعِدُهُمْ بِالْمُكَافَأَةِ الْكَبِيرَةِ: بِأَنْ يُلْبِسَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ -إِذَا مَا أَتَى بِتَخْذِيلِ مُسْلِمٍ عَلَى الْوَجْهِ- تَاجًا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ يَذْهَبُونَ مُجْتَهِدِينَ فِي تَحْصِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ كَبِيرُهُمْ, وَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ, وَكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَلْبَسَ تَاجَهُ, ثُمَّ يَأْتِي آتِيهِمْ فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ مَا زَالَ بِمُسْلِمٍ حَتَّى صَنَعَ وَصَنَعَ؛ مِنْ أَلْوَانِ الْمُوبِقَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيُخْذَلُ؛ يُخَذِّلُهُ جُنْدُ إِبْلِيسَ, كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ إِبْلِيسُ جُنْدَهُ, يَقُولُ: ((مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ)).
فَيَعِدُ بِأَنْ يُلْبِسَ التَّاجَ مَنْ أَضَلَّ مُسْلِمًا، حَتَّى يَجِئَ مَنْ يُخْبِرُ أَنَّهُ مَا زَالَ بِعَبْدٍ حَتَّى وَقَعَ فِي الشِّرْكِ, وَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ؛ فَيَقُولُ: ((أَنْتَ أَنْتَ!)).
ثُمَّ يَجِئُ آخَرُ فَيَقُولُ إِنَّهُ مَا زَالَ بِعَبْدٍ حَتَّى تَوَرَّطَ فِي دَمٍ حَرَامٍ؛ فَيَقُولُ لَهُ إِبْلِيسُ: ((أَنْتَ أَنْتَ! وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ)).
وَكَأَنَّهُ -لَعَنَهُ اللهُ- يَرَى أَنَّهُ مَا دَامَتْ فِي الْعُمُرِ فُسْحَةٌ فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الشِّرْكِ عَسَى أَنْ يُعَاوِدَ التَّوْحِيدَ.
وَأَمَّا الَّذِي تَوَرَّطَ فِي الدَّمِ الْحَرَامِ, فَمَا الَّذِي هُوَ صَانِعٌ؟!!
قَدْ سُدَّتْ فِي وَجْهِهِ الْمَنَافِذُ, كَمَا أَخْبَر الرَّسُولُ ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهْرِيقَهُ كَأَنَّمَا يَذْبَحُ بِهِ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَعَرَّضَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ»؛ يَعْنِي إِذَا مَاتَ.
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ -وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ؛ يَعْنِي حَسَنٌ لِذَاتِهِ ارْتَقَى بِكَثْرَةِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ لِغَيْرِهِ, فَهُوَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ عَمَلٌ-: إِنِ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَلَّا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ سَدًّا لَا يَجُوزُهُ وَسُورًا لَا يَظْهَرُهُ، وَمَعْبَرًا لَا يَعْبُرُهُ.
«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهْرِيقَهُ كَأَنَّمَا يَذْبَحُ بِهِ دَجَاجَةً)).
يَأْتِي هَذَا الدَّمُ الْحَرَامُ, وَهُوَ مِلْءُ كَفِّهِ, كَمَا أَخْبَرَ الْهُمَامُ ﷺ، ((كُلَّمَا تَعَرَّضَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ)).
ثُمَّ يُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ تَتِمَّةً؛ عَسَى أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الدَّمِ الْحَرَامِ -كَأَنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا-: ((وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ)).
بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّيِّبِ, وَأَلَّا يُدْخِلَ جَوْفَهُ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ الْبَطْنَ أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ -يَعْنِي إِذَا مَا مَاتَ. فَلَعَلَّهُ إِذَا مَا أَكَلَ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ, وَاجْتَنَبَ الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامَ, ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَنْبَتَ مِنْ هَذَا الْحَلَالِ لَحْمًا وَعِظَامًا وَدَمًا, فَعَسَى أَلَّا يَتَوَرَّطَ بَعْدُ فِي النَّارِ, وَأَلَّا يَمَسَّهُ لَفْحٌ مِنْهَا.
وَأَمَّا إِنْ أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)) .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ لِلْقَاتِلِ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ, وَعَنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَجْمَعِينَ- كَالْمُعْجَبِ مِنْ شَأْنِهِ: مَاذَا تَقُولُ؟!!
فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ.
فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَقُولُ؟!! مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: «يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ».
فَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي فِي الْعَرَصَاتِ -عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فِي سَاحَاتِهَا- بِغَيْرِ رَأْسٍ- ((تَشْجُبُ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ- أَوْدَاجُهُ -وَالْوَدَجَانِ: عِرْقَانِ كَبِيرَانِ, وَرِيدَانِ كَبِيرَانِ يَسْتَنْزِفَانِ دَمَ الْإِنْسَانِ إِذَا مَا قُطِعَا- تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا)) مِنْ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ جَسَدُهُ بِغَيْرِ رَأْسٍ, وَمِنْ رَأْسِهِ الَّتِي بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى, حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ فَيَقُولَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: ((هَذَا قَتَلَنِي)).
فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لِلْقَاتِلِ: ((تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ».
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ, ضَرَبَ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّصْوِيرِ -فِي تَصْوِيرِ الْمَعَانِي بِصُورَةٍ حِسِّيَّةٍ مُجَسَّمَةٍ- فَنَقَلَ لَنَا صُورَةً فِيهَا حَرَكَةٌ, وَفِيهَا لَوْنٌ, وَفِيهَا ظِلَالٌ وَدِمَاءٌ, وَفِيهَا كَلَامٌ, وَفِيهَا ظُلَامَةٌ تُرْفَعُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فِيهَا حَرَكَةٌ, وَفِيهَا لَوْنٌ, وَفِيهَا قَوْلٌ, وَفِيهَا ظِلَالٌ, وَفِيهَا أَسًى, وَفِيهَا شَجَنٌ, وَفِيهَا أَلَمٌ, وَفِيهَا بُكَاءٌ, وَفِيهَا تَضَرُّعٌ, وَفِيهَا نِدَاءٌ, وَفِيهَا عَرْضٌ بِالْتِمَاسٍ لِلْعَدْلِ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ, مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ.
«يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى
فَهَذَا رَجُلٌ يَسِيرُ فِي الْعَرَصَاتِ بِغَيْرِ رَأْسٍ, مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ, سَوَاءٌ أَخَذَ رَأْسَهُ مِنْ أُذُنِهِ, أَمْ أَخَذَهَا مِنْ مَوْطِنِ الذَّبْحِ, أَمْ أَخَذَهَا مِنْ شَعَرِهِ, هُوَ قَدْ تَعَلَّقَهَا بِإِحْدَى يَدَيْهِ, كَمَا أَخْبَر الرَّسُولُ ﷺ.
((مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى))، سَاحِبًا إِيَّاهُ, جَارًّا لَهُ؛ حَتَّى يَقِفَ عِنْدَ الْعَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبِّ...!
وَ((الرَّبُّ)) فِيهَا مِنَ الْحَنَانِ مَا فِيهَا، وَفِيهَا مِنَ التَّرْبِيَةِ مَا فِيهَا؛ لَفْظَةٌ مُوحِيَةٌ بِذَاتِهَا مُعَبِّرَةٌ بِجَرْسِهَا، ((يَا رَبِّ! هَذَا قَتَلَنِي))، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَنْصِبُ الْمَوَازِينَ الْحَقَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ, لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ, هَذَا قَتَلَنِي, وَأَنْتَ أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, وَأَنْتَ أَنْتَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- كَلِمَةً وَاحِدَةً, يَقُولُ لِلْقَاتِلِ: ((تَعِسْتَ)) -وَالْعَيْنُ تُكْسَرُ وَتُفْتَحُ, يَخْتَارُ هَذَا مَنْ يَخْتَارُهُ, وَيَخْتَارُ ذَلِكَ آخَرُونَ-: ((تَعِسْتَ, تَعَسْتَ)) سَوَاءٌ, وَهُوَ دُعَاءٌ بِالتَّعَاسَةِ عَلَيْهِ, بِالشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ بِدُخُولِهَا, يَقُولُ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ: ((وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ)).
أَخْبَرَ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ فِي يَوْمِ النَّحْرِ, وَرَجُلٌ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ.. ))
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي تَجِدُهَا فِي ((الصَّحِيحِ)), هِيَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بِأَنَّهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ, وَبَعْضُهَا مُكَرَّرٌ فِي ((خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ)) بِعَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ, قَالَهَا النَّبِيُّ ﷺ هُنَالِكَ.
فَلَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ بِمَا كُرِّرَ مِنْ أَلْفَاظِ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ, أَخْبَرَ بِهَا بِبَطْنِ الْوَادِي, فَرَوَاهَا مَنْ رَوَاهَا عَلَى أَنَّهَا بِعَرَفَاتٍ؛ لِقُرْبِهِمَا: لِقُرْبِ مِنًى مِنْ عَرَفَاتٍ, لِقُرْبِ بَطْنِ الْوَادِي مِنْ عَرَفَاتٍ.
أَوْ لَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ كَرَّرَ فِي خُطْبَتِهِ بِبَطْنِ الْوَادِي مَا قَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ الصَّخْرَاتِ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ ﷺ
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فِيمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ: ((أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى, وَرَجُلٌ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ.. )).
وَفِيهِ أَنَّ الْخَطِيبَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَمِنْبَرٍ وَنَحْوِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُسْمِعَ النَّاسَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ خَطَبَ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً جَلِيلَةً بَلِيغَةً، أَشْهَدَ فِيهَا الْخَلْقَ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ فَشَهِدُوا, فَأَشْهَدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ: قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ, وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ, وَنَصَحَ الْأُمَّةَ, وَكَشَفَ الْغُمَّةَ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ وَرَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ ﷺ.
وَأَسْمَعَ مِنْ غَيْرِ مَا مُكَبِّرٍ لِصَوْتٍ وَلَا مُبَلِّغٍ هُنَالِكَ, مِئَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ مِنَ الرِّجَالِ مُحْرِمِينَ فِي ثِيَابِهِمْ, كَأَنَّمَا شُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَكْفَانُهُمْ, وَهِيَ أَكْفَانُ الْمُحْرِمِ بِلَا خِلَافٍ؛ فَمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا كُفِّنَ فِي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ, ثُمَّ لَمْ يُخَمَّرْ وَجْهُهُ, ثُمَّ دُفِنَ، يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا, كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ
فَخَطَبَ فِي مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ, سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, يَسْمَعُ بَعِيدُهُمْ كَمَا يَسْمَعُ قَرِيبُهُمْ, وَيَسْمَعُ قَاصِيهِمْ كَمَا يَسْمَعُ دَانِيهِمْ, وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ ﷺ.
وَفِي يَوْمٍ النَّحْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا, مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ, ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ, وَوَاحِدٌ فَرْدٌ, فَأَمَّا الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَاتُ: فَذُو الْقَعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, وَالْمُحَرَّمُ، وَأَمَّا الشَّهْرُ الْفَرْدُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
ثُمَّ أَقْبَلَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْمَوْسِمَ, يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ ((أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟))
فَقَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِه.
قَالَ: ((أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟)).
قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ:((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟)).
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ, حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.
قَالَ:((أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟)).
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:((أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ:((أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ ؟)).
وَالْبَلْدَةُ اسْمٌ لِمَكَّةَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ ؟)).
قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ- وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي يَوْمِكُمْ هَذَا)) أَوْ: ((كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) .
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَعْدَلَ الْأَوْقَاتِ؛ لِيَحُجَّ ﷺ.
وَهُوَ رَأْيُ كَثِيرٍ مِنْ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَ أَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ قَبْلَهَا أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ؟
وَلِمَ أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَجَّ إِلَى الْعَامِ الَّذِي تَلَا بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَحُجَّ فِي أَوَّلِ فُرْصَةٍ سَنَحَتْ؟
فَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ حَجَّ التَّاسِعِ مِنْ الْهِجْرَةِ تَوْطِأَةً بَيْنَ يَدَيْ حَجِّهِ الْمَبْرُورِ الْمَيْمُونِ ﷺ؛ لِكَيْ يَنْفِيَ عَنِ الْبَيْتِ وَمَا حَوْلَهُ كُلَّ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ, وَلِكَيْ يَعُودَ الْحَجُّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ لِيَقَعَ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).
وَكَانَ النَّسَأَةُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الشُّهُورَ تَلَاعُبًا, فَيُقَدِّمُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَيُؤَخِّرُونَ بَيْنَ الشُّهُورِ؛ لِكَيْ تُتْرَعَ الْأَهْوَاءُ مِنَ الدِّمَاءِ الْحَرَامِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى حَسَبِ الْهَوَى, مِنْ غَيْرِ مَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ.
فَيُؤَخِّرُونَ يَنْسَؤُونَ مِنَ الشُّهُورِ مَا يُرِيدُونَ, يَقِفُ الرَّجُلُ مِنَ النَّسَأَةِ فيِ الْمَوْقِفِ؛ لِكَيْ يُعْلِمَ الْقَوْمَ, ثُمَّ يَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى مَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ مَا نَكِيرٍ.
فَكَانَتِ الْأَشْهُرُ قَدِ اخْتَلَطَ عَدِيدُهَا وَامْتَزَجَتْ بِجُمْلَتِهَا حَتَّى لَا يُدْرَى بَدْؤُهَا مِنْ مُنْتَهَاهَا, فَلَمَّا حَجَّ الْمُخْتَارُ ﷺ أَعْلَنَ أَنَّهُ: كَمَا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَذِنَ بِأَنْ تَعُودَ الْفِطْرَةُ إِلَى سَوَائِهَا إِلَى اسْتِقَامَتِهَا.
كَمَا أَذِنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعُودَ الْأَمْرُ إِلَى نِصَابِهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَبِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ؛ فَكَذَلِكَ عَادَ الزَّمَانُ إِلَى هَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةٍ هُنَالِكَ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).
وَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ, اخْتَارَ لِلْأُمَّةِ فِي قَانُونِهِ الْآخِرِ ﷺ وَبَيَانِهِ الْخِتَامِيِّ- اخْتَارَ الْإِعْلَانَ عَنْ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ.
يَدُلُّ عَلَيْهَا مُؤَكِّدًا: (( كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا))؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهُ!!
((كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)): فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ, وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهُ!!
((فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ, وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهَا!!
((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ, وَهِيَ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ, فَعَلَيْهَا الْعَمَلُ, وَإِلَيْهَا الْمَآلُ- وَأَعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
فَهَذِهِ الْحُرْمَةُ الْمُثَلَّثَةُ مِنْ يَوْمٍ فِي شَهْرٍ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ, كُلُّهُ حَرَامٌ فِي حَرَامٍ فِي حَرَامٍ, لَيْسَتِ الْحُرْمَةُ الْمُثَلَّثَةُ مُنْقَسِمَةً عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَاتِ -عَلَى الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ- وَإِنَّمَا هِيَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ خَاصَّةً.
وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي تَفَارِيقِهَا: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))
وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ أَمْوَالِكُمْ، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ أَعْرَاضِكُمْ.
يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَقُولُ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ!)) .
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْكَعْبَةِ مُخَاطِبًا.. يُخَاطِبُ الْكَعْبَةَ ﷺ؛ كَمَا كَانَ يَقُولُ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ -حَجَرًا يَعْرِفُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ- كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ, إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ».
قَبْلَ أْنْ يُبْعَثَ ﷺ إِذَا مَا مَرَّ عَلَيْهِ سَمِعَ الْحَجَرَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ .
لَا جَرَمَ؛ لَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَى بَيْنَ يَدَيْهِ, وَحَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ, وَلَبَّى الْعِذْقُ, وَلَبَّتِ النَّخْلَةُ فِي الْأَرْضِ نِدَاءَهُ, وَأَجَابَتْ دُعَاءَهُ فَجَاءَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ﷺ .
النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ مُخَاطِبًا الْكَعْبَةَ: ((((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا)).
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ -لَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ- اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ».
لَا جَرَمَ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ زَوَالَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا بِمَا فِيهَا وَمَنْ فِيهَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَا فِي بَطْنِ أَرْضِهَا, يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: هَذَا كُلُّهُ أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ إِهْرَاقِ دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
هَكَذَا مِنْ غَيْرِ مَا تَحْدِيدٍ لِنَوْعِيَّةِ هَذَا الدَّمِ.
الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ سَدَّ الذَّرَائِعَ, وَكُلُّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ حَجَزَهُ الْإِسْلَامُ.
فَكُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى أَمْرٍ يَسُوءُ, وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى أَمْرٍ يُغْضِبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-, هُوَ مُحَرَّمٌ, فَيُحَرِّمُ الْوَسِيلَةَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ كَمَا يُحَرِّمُ الْحَرَامَ, وَيَسُدُّ الذَّرَائِعَ.
حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّهُ إِذَا أَشَارَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَقَدْ تَوَرَّطَ فِي كَبِيرَةٍ, وَتَوَرَّطَ فِي حَرَامٍ: ((لَا يُشِرْ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِسِلَاحِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ أَنْ يَنْزِعَ فِي يَدِهِ فَيَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)) . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
النَّبِيُّ ﷺ نَهَى - وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ- أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا, يَعْنِي إِذَا مَا أَرَدْتَ أَنْ تُعْطِيَ السَّيْفَ أَخَاكَ فَلَا تُعْطِهِ السَّيْفَ مِنْ جِهَةِ نَصْلِهِ وَذُبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يُمْسِكُهُ, وَقَدْ شَهَرْتَ السَّيْفَ فِي وَجْهِهِ؟!!
وَإِنَّمَا يُدَارُ السَّيْفُ بِحَيْثُ يَكُونُ مِقْبَضُهُ جِهَةَ مُتَعَاطِيهِ -مُتَنَاوِلِهِ-, ثُمَّ يَتَعَاطَاهُ؛ يَتَنَاوَلُهُ.
وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ مَا كَانَ أَوْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سِلَاحًا, حَتَّى فِي الْمُدْيَةِ -فِي السِّكِّينِ- وَمَا أَشْبَهَ؛ إِذَا مَا نَاوَلْتَ أَخَاكَ سِكِّينًا فَلَا تُعْطِهِ إِيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَصْلِهَا وَسِلَاحِهَا؛ وَإِنَّمَا مِنْ قِبَلِ مِقْبَضِهَا؛ فَهَذَا أَدَبُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
((إِذَا أَشَارَ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ, فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا تَزَالُ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْزِعَ, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ)) . وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.
*وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِينَ؛ فَالنَّفْسُ الْمَعْصُومَةُ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ؛ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ؛ إِذَا قُتِلَ خَطَأً؛ فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!
إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ.
وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».
فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَان-.
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَرَّمَ الدِّمَاءَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحَقُّهَا مَعْلُومٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمْوَالَ حَرَامٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهَا - كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه))- فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا؛ أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).
فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْغِشَّ، وَحَرَّمَ الِاحْتِكَارَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ السَّرِقَةَ وَالْغَصْبَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّشْوَةَ وَالْخِيَانَةَ، وَكُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَدُلُّكُمْ -عِبَادَ اللهِ- عَلَى سُبُلِ الرَّشَادِ, وَهُوَ ﷺ يَقُولُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِذَا حَلَفَ يَمِينًا وَأَقْسَمَ قَسَمًا عَلَى أَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحُوزَهُ, فَحَازَهُ وَتَمَلَّكَهُ بِالْيَمِينِ إِذَا مَا طُلِبَتْ مِنْهُ، ((الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)).
فَإِذَا مَا أَتَى بِالْيَمِينِ فَحَازَ شَيْئًا مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَأَدْخَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -إِذَنِ- النَّارَ, وَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ سُوَاكٍ؟!!
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرْعُ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ قِيمَةً؟!!
وَانْظُرْ إِلَى الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابِيِّ, وَتَأَمَّلْ فِيهِ -عَبْدَ اللهِ-؛ فَإِنَّهُ ضَرَبَ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ لِيُبَاعَ, وَلَمْ يَكُنْ لِيُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْأَرَاكَ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرِ الَّذِي يَنْمُو عِنْدَهُمْ كَمَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَإِذَا مَا ذَهَبَ أَحَدُهُمْ إِلَى غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةِ الْأَرَاكِ، فَاحْتَازَ مِنْهَا مَا احْتَازَ، فَجَعَلَهُ سِوَاكًا، فَهَذَا مَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى وَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِذَا ضَرَبَهُ الصَّحَابِيُّ مَثَلًا, وَلَيْسَ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ ذِهْنُكَ وَخَاطِرُكَ الْآنَ، فَإِنَّهُ الْآنَ مُثَمَّنٌ لَهُ قِيمَةٌ وَلَهُ خَطَرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَمَا كَانَ مَثَلًا مَضْرُوبًا فَلَمْ يَكُنْ ذَا قِيمَةٍ وَلَا ذَا خَطَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَاعُ وَلَمْ يَكُنْ يُشْتَرَى، فَضَرَبَهُ مَثَلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».
فَمَنْ أَخَذَ سِوَاكَ أَخِيهِ فَحَلَفَ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَهُ, ثُمَّ حَازَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ, وَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ, كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَالْحَدِيثُ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْبَيَانِ النِّهَائِيِّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فِي مِنًى, فِي خُطْبَتِهِ ﷺ: ((وَإِنَّ اللهَ مُسَائِلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا))، أَوْ قَالَ: ((ضُلَّالًا)).
اللَّفْظَتَانِ الثِّنْتَانِ فِي ((الصَّحِيحِ)).
قَالَ ﷺ: ((فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا)) أَوْ قَالَ: ((ضُلَّالًا))، أَوْ قَالَ: ((كُفَّارًا ضُلَّالًا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) .
إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْكَبِيرِ الْعَظِيمِ فِي تِلْكَ الْحُرْمَةِ الْمُثَلَّثَةِ خَرَجَ مِنْ فَمِهِ الطَّاهِرِ ﷺ تَنْبِيهٌ أَكِيدٌ عَلَى حُرْمَةِ الدِّمَاءِ, وَحُرْمَةِ الْأَمْوَالِ, وَحُرْمَةِ الْأَعْرَاضِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَه -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا- فِي ((سُنَنَيْهِمَا)), وَغَيْرُهُمَا فِي غَيْرِهِمَا, عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا، وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟».
قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «تَعَفَّفْ».
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ إِذَا وَقَعَ بِالنَّاسِ جُوعٌ مَاحِقٌ, مُهْلِكٌ, مُبِيدٌ, حَتَّى إِنَّكَ مِنْ شِدَّةِ تَكَالُبِ الْجُوعِ عَلَى مَعِدَتِكَ, وَوَهَنِ ذَلِكَ الْحِرْمَانِ فِي دِمَاكَ, وَأَثَرِ ذَلِكَ الْجُوعِ فِي خَلَايَاكَ, لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ لِتَبْلُغَ مَسْجِدَكَ.
لَعَلَّهُ يَعْنِي مَسْجِدَهُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ, وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ, وَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْمَنْزِلِ أَوِ الْمَسْجِدَ مِنَ الْفِرَاشِ.
((كَيْفَ تَصْنَعُ؟».
قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «تَعَفَّفْ».
فَلَا يَحْمِلَنَّكَ الْجُوعُ الشَّدِيدُ الْمَوْصُوفُ بِحَالَتِهِ عَلَى أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, عَلَى أَنْ تَحْتَكِرَ الْأَقْوَاتَ, وَأَنْ تُصِيبَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَجَاعَةِ الْمُفْتَعَلَةِ, وَلَا مَجَاعَةَ, وَإِنَّمَا هُوَ سُوءُ التَّوْزِيعِ فِي الْأُمَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْتَكِرَ التُّجَّارُ ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغْلُوا الْأَسْعَارَ شَيْئًا فَشَيْئًا, يَنْتَهِزُونَ أَزْمَاتِ النَّاسِ النَّفْسِيَّةَ, وَالِاقْتِصَادِيَّةَ, وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ, وَالْخُلُقِيَّةَ، وَهُمْ -أَيِ: التُّجَّارُ- حِينَئِذٍ مُتَوَرِّطُونَ فِي أَزْمَةٍ خُلُقِيَّةٍ, بِمَسْلَكٍ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّكَافُلِ وَسَدِّ الْحَاجَةِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ ثَوْبًا زَائِدًا عَلَى ثَوْبِهِ الَّذِي هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ, فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْتَلِكَهُ, وَكَذَا نَعْلُهُ, وَكَذَا مَا شِئْتَ مِنْ أَلْوَانِ الْفَضْلِ أَيِ الزِّيَادَةِ.
قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ.
قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ شَدِيدٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ؛ يَعْنِي الْقَبْرَ -أَيْ: أَنَّ الرَّجُلَ لِكَثْرَةِ الْمَوْتَى لَا يَجِدُ مَكَانًا يَتَّخِذُهُ قَبْرًا إِلَّا إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ بِمَوْضِعِ قَبْرِهِ, فَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ الْقَبْرُ بِالْبَيْتِ؛ أَيْ بِالْعَبْدِ, كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ- كَيْفَ تَصْنَعُ؟»
قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «اصْبِرْ».
فَهَا هُنَا يَأْتِي هَذَا الْأَمْرُ بِقِيمَتِهِ الْجَلِيلَةِ الْبَهِيَّةِ النَّيِّرَةِ وَبِطَلْعَتِهِ الْمُشْرِقَةِ ((اصْبِرْ)), اصْبِرْ عَلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨]
فَهَذَا شَأْنُهُ, وَالْكَوْنُ كَوْنُهُ, وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ, وَالْخَلْقُ خَلْقُهُ, وَالْفِعْلُ فِعْلُهُ, يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ, وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ مِنَ الدِّمَاءِ -حَتَّى تُغْرِقَ الدِّمَاءُ حِجَارَةَ الزَّيْتِ، وَحِجَارَةُ الزَّيْتِ مَوْضِعٌ بِالْحَرَّةِ, وَبِالْمَدِينَةِ حَرَّتَانِ, وَهُمَا ذَوَاتَا أَرْضٍ سَوْدَاءَ بِصُخُورٍ مُسْمَطَةٍ سَوْدَاءَ- كَيْفَ تَصْنَعُ؟»
قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ».
قَالَ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ؟
قَالَ: «فَأْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَكُنْ فِيهِمْ».
قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟
قَالَ: «إِذَنْ تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ».
*مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: عِظَمُ حُرْمَةِ الْأَعْرَاضِ:
((أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ)).
حَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَنْ يَنْتَهِكَ أَحَدٌ عِرْضَ أَخِيهِ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ مِنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ يَقُولُ ﷺ وَهُوَ طَائِفٌ بِالْكَعْبَةِ: ((أَلَا مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِكِ)) .
فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.
((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
نَبْذُ وَهَدْمُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ- بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّرَابُطِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُحِ، وَالتَّشَاوُرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى: ((فَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)) .
وَالتَّقْوَى هِيَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ التَّفَاضُلُ، وَهِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ.
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَرَّمَ بَنِي آدَمَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا؛ فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ، وَالنُّطْقِ، وَالتَّمْيِيزِ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَبِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الَّتِي هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صُنْعِهَا، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزَقْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَمُمْتِعَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.
*اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلَ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاهُمْ لَهُ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ.
وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.
لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.
وَأَعْلَنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَأَشْهَدَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ)).
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.
يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ السَّبَّاحَةَ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُهَا إِلَيْهِمْ: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ)) .
فَبَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ.
وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ.
وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَى دَعَائِمَ الدِّينِ، وَأَقَامَ أَسَاسَ الْمِلَّةِ الْمَتِينَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَحَجَّةَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْظَمِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَنَادَى النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ أَجْمَعِينَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ!))، فَتَوَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخِطَابِ إِلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ كَأَنَّمَا يُشِيرُ أَنَّهُ لَا فَلَاحَ لِلْبَشَرِيَّةِ وَلَا سَعَادَةَ لَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ نَهْجِهِ ﷺ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، ((مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ((أَنَّ الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ-)) .
*تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَذَّرَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَيَقْتُلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ مُنْتِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ لَعَّابًا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ -كَسَعَهُ: أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ أَوْ عَلَى عَجِيزَتِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ أَوْ بِعُرْضِ سَيْفِهِ-، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَى الْقَوْمُ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!
وَسَمِعَهَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟)).
فَلَمَّا أُخْبِرَ ﷺ، قَالَ: ((دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
حَوْلَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ -حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تَدَاعَى كَلَقَبَيْنِ- تَدَاعَى مَنْ تَدَاعَى عَصَبِيَّةً، فَرَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُهَاجِرِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمَدَحَ الْأَنْصَارَ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْصَارَ فِي صَحِيحِ سُنَّتِهِ، وَمَدَحَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَلَكِنْ لَمَّا تَدَاعَوْا حَوْلَ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَصَبِيَّةً؛ غَضِبَ ﷺ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟! دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَكَفَى بِالْمُسْلِمِ إِثْمًا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) .
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لُحْمَةً وَسُدًى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ شِعَارُهُمْ الَّذِي يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.
*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْفَخْرِ بِالْأَنْسَابِ:
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا: ((أَنَّ أَقْوَامًا سَيَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ))، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ((هُوَ كَالْجُعَلِ يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)).
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَالْجُعَلِ؛ وَهُوَ الْجِعْرَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، ((يُدَهْدِهُ)): أَيْ يُدَحْرِجُ الْخُرْءَ -أَعَزَّكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- ((بِفِيهِ))؛ مِنْ وَضَاعَتِهِ وَحَقَارَتِهِ.
((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، وَإِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ عِنْدَ اللهِ أَهْوَنَ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)) .
بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ الْعَصَبِيَّةِ، وَخُطُورَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الشَّعَارَاتِ الْحِزْبِيَّةِ، وَإِلَى الِانْتِمَاءَاتِ الضَّيِّقَةِ الرَّدِيَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تُكَنُّوهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنِ انْتَمَى أَوِ انْتَسَبَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ عَصَبِيَّةً بِشِعَارٍ مِنْ شِعَارَاتِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، ((فَأَعِضُّوهُ -فَأَمِصُّوهُ- بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوهُ))، هَكَذَا ظَاهِرًا، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْعَى لِفُحْشٍ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ قُبْحِ الْعَصَبِيَّةِ بِانْتِمَائِهَا.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا يَفْخَرَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)) .
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «.., وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
وَ«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» .
*لَا عُنْصُرِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِيزَانُ التَّفْضِيلِ عِنْدَ اللهِ هُوَ التَّقْوَى:
إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَصَّبُونَ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَقَتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ ((إِذْ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَهُوَ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ .
لَمَّا عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَيَّرَهُ بِلَوْنِ أُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ.
وَاشْتَكَى بِلَالٌ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ)).
قَالُوا: وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ)) .
لَا انْتِمَاءَ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَمِي إِلَى عَائِلَةٍ وَلَا قَبِيلَةٍ وَلَا شَعْبٍ وَلَا وَطَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ أَنْسَابِنَا مَا نَصِلُ بِهِ أَرْحَامَنَا، فَقَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ)) ، وَلَكِنْ لَا عَصَبِيَّةَ، وَلَا انْتِمَاءَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْعَصَبِيَّةِ.
وَإِنَّمَا الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ، إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ .
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يُخْبِرُكُمْ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا، فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) .
وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ -عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) .
لَا أَحْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا أَنْسَابَ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، فَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ مُسْلِمًا مُوقِنًا مُحْسِنًا؛ فَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى عِنْدَ رَبِّهِ وَهُوَ مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ، وَمَنْ جَاءَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا- بِالْعَمَلِ الطَّالِحِ؛ فَلَهُ الْمَكَانُ الْأَرْدَى وَلَا كَرَامَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
فَاجْتَهِدْ فِي اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الرَّذَائِلِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقَاسُ بِظَاهِرِهِ، وَلَا بِمَنْصِبِه، وَلَا بِمَالِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ، وَلَا بِنَسَبِهِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ؛ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).
أَبُو لَهَبٍ عَمُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قُرَشِيٌّ صَلِيبَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَبُو لَهَبٍ فِي النَّارِ كَمَا أَخْبَرَ الْعَلِيُّ الْغَفَّارُ.
وَبِلَالٌ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وبِلَالٌ يَقُولُ عَنْهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا)) ؛ يُرِيدُ بِلَالًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْتَقَ بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَهَذَا إِنَّمَا رَفَعَهُ الدِّينُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا-؛ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.
((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
إِبْطَالُ الرِّبَا الْمُدَمِّرِ لِلْمُجْتَمَعِ))
لَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعًا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ ﷺ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْدَرَ النّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى قَرَارِهِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، تَابِعَةً لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّوْضِيحِ وَالْإِرْشَادِ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَكَرَ مِنْ أَثَرِ مَعْصِيَةِ الرِّبَا، وَالِاجْتَرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الْعَظِيمِ، وَأَثَرِهِ الْفَاعِلِ الْفَعَّالِ فِي الْخَلْقِ مِمَّنْ تَوَرَّطُوا فِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ؛ فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ إِنْسَانًا دَخَلَ حَرْبًا مَعَ مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ!
مَعَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ!
مَعَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَثَرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثَرَهَا فِي الْفَرْدِ وَفِي الْمُجْتَمَعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَفِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحَرْبِ مَعَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَمَعَ رَسُولِهِ ﷺ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اضْطِرَابَ نَفْسِهِ، وَقَلَقَ قَلْبِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اخْتِلَافَ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَرُّدَ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارٍ، وَلَا قَرَارٍ يَقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ اطْمِئْنَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.
إِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ فِي النَّاسِ حُبَّ الذَّاتِ، فَلَا يَعْرِفُ الْمَرْءُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يُهِمُّهُ إِلَّا مَصْلَحَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، وَبِذَلِكَ تَنْعَدِمُ رُوحُ التَّضْحِيَةِ وَالْإِيثَارِ، وَتَنْعَدِمُ مَعَانِي حُبِّ الْخَيْرِ لِلْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا رُوحُ حُبِّ الذَّاتِ، وَالْأَثَرَةِ، وَالْأَنَانِيَةِ، وَتَتَلَاشَى الرَّوَابِطُ الْأَخَوِيَّةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الْإِنْسَانِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغَضَاءَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيَدْعُو إِلَى تَفْكِيكِ الرَّوَابِطِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتَمَاعِيَّةِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَيَقْضِي عَلَى كُلِّ مَظَاهِرِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالْإِحْسَانِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ.
((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:
الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الرَّحْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَيْدَنَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)) .
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ سَأَلَهُ أَنَّهُ يَرْحَمُ الشَّاةَ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فَقَالَ: ((وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ)) ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ))؛ يَعْنِي إِنْ رَحِمْتَهُ رَحِمَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانَتْ رَحْمَتُكَ إِيَّاهُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاكَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَقَدْ أَضْجَعَ ذَبِيحَتَهُ، وَجَعَلَ قَدَمَهُ عَلَى صِحَافِهَا، وَهُوَ يَسُنُّ مُدْيَتَهُ، وَيَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ!! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُظْهَرَ الْمُدْيَةُ لِلْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ بِذَبْحِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، فَكَيْفَ بَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ، وَرَفَعَ شَأْنَهُ، وَجَعَلَهُ حَامِلًا لِمَسْؤُولِيَّةِ الرِّسَالَةِ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَلْكِهِ، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ؟!!
((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)) .
فَلْيَأْتِ أَحَدُكُمْ بِمُدْيَتِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يُحْدِثَ مَزِيدَ أَلَمٍ وَإِيلَامٍ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ -وَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ-، وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ))، وَالْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ اسْمُ هَيْئَةٍ؛ أَيْ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الذَّبْحِ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ، وَأَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْقَتْلِ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ.
((وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفِيَّةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يُذْبَحُ.
فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ حَتَّى تَكُونَ قَائِمَةً، وَحَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَطْعَمَ مِنَ الذَّبِيحَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهَا أُمُورٌ، مِنْهَا:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي -أَيْ: الذَّابِحُ- مُسْلِمًا عَاقِلًا.
وَأَنْ يُسَمِّيَ اسْمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ذَبِيحَتِهِ.
وَأَنْ يَذْبَحَهَا بِحَيْثُ يُنْهِرُ بِالدَّمِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَذْبَحُ فِي الرَّقَبَةِ، فَجَائِزٌ فِي وَسَطِهَا، وَجَائِزٌ فِي أْعَلَاهَا، وَجَائِزٌ فِي أَسْفَلِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ.
وَأَنْ يُنْهِرَ الدَّمَ مِنَ الْأَوْدَاجِ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّئَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَعِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَلَى جَانِبَيِ الرَّقَبَةِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الذَّبْحِ، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ الْآدَابَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الذَّابِحُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الذَّابِحَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَذِنَ لَنَا فِي ذَلِكَ؛ مَا كَانَ عَلَيْنَا إِلَّا مُحَرَّمًا، وَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَطْعَمَهُ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا بَلَاغُ نَبِيِّكُمْ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ, وَهَذِهِ ظِلَالٌ, بَلْ هَذَا ظِلٌّ مُفْرَدٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ بِجَانِبِ الظِّلَالِ الْمُتَمَاوِجَاتِ فِي حَرِّ هَجِيرِ الْإِنْسَانِيَّةَ لِخُطْبَةِ الْوَدَاعِ الْعَظِيمَةِ.
وَيَا لَهَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ ذَاتِ أَفْيَاءٍ وَذَاتِ ظِلَالٍ؛ إِنَّ لَهَا لَظِلًّا ظَلِيلًا لَوْ فَزِعَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ كُلُّهَا, وَلَوْ ذَهَبَتِ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا إِلَى فَيْءِ ظِلٍّ وَاحِدٍ مِنْ ظِلَالِ هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ, لَوَسِعَهَا هَذَا الظِّلُّ الْبَارِدُ مِنْ ذَلِكَ السَّعِيرِ الْمُتَّقِدِ, وَمِنْ هَذَا الْأَتُّونِ الْمُلْتَهِبِ, وَمِنْ هَذَا الْحَرِّ اللَّاغِبِ فِي صَحَرَاءِ الِانْفِلَاتِ مِنْ قَيْدِ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَنْتَظِرُكُمْ، مُطَبِّقِينَ لِدِينِكُمْ، مُحَقِّقِينَ لِتَوْحِيدِكُمْ، مُتَّبِعِينَ لِنَبِيِّكُمْ؛ لِكَيْ يُخْرِجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَالَمَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ، وَمِنْ عَنَتِهِ وَفُجُورِهِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ وَإِخْوَانَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغارِبِهَا؛ إِنَّهُ هُوَ الْجَوادُ الْكَرِيمُ، وَالْبَرُّ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ))
فَإِنَّ مِمَّا تُخْتَصُّ بِهِ أَيَّامُ عِيدِ الْأَضْحَى: الْأُضْحِيَّةُ؛ وَهِيَ مَا يُذْبَحُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَيَّامَ عِيدِ الْأَضْحَى بِسَبَبِ الْعِيدِ؛ تَقَرُّبَا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَهِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْمَشْرُوعَةِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163].
وَالنُّسُكُ: الذَّبْحُ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقِيلَ: جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ؛ وَمِنْهَا الذَّبْحُ، وَهُوَ أَشْمَلُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج: 34].
وَفِي ((الصَّحيِحَيْنِ)) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ, ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا)).
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا, فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ, فَقَالَ: ((ضَحِّ بِهَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَالْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَقَدْ ضَحَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَضَحَّى أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ؛ يَعْنِي: طَرِيقَتَهُمْ.
وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا، كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، أَوْ هِيَ وَاجِبَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: ((هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَوْ هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ)).
وَذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ, وَلِأَنَّ الذَّبْحَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى, فَلَوْ عَدَلَ النَّاسُ عَنِ الذَّبْحِ إِلَى الصَّدَقَةِ؛ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الشَّعِيرَةُ.
وَلَوْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ بَيَانَ الْخَيْرِ لِلْأُمَّةِ، بَلْ لَوُ كَانَتِ الصَّدَقَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأُضْحِيَّةِ لَبَيَّنَهُ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ عَنَاءِ الْأُضْحِيَّةِ, وَلَمْ يَكُنْ ﷺ لِيَدَعَ بَيَانَ الْأَسْهَلِ لِأُمَّتِهِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِلْأَصْعَبِ.
وَلَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)).
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ المَاضِي؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَامٌ كَانَ فِي النَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الذَّبْحُ فِي مَوْضِعِهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهِ)).
قَالَ: ((وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ بِأَضْعَافِ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ, وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ)).
**وَيُشْتَرَطُ فِي الْأُضْحِيَّةِ سِتَّةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ وَهِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ -ضَأْنُهَا وَمَعْزُهَا-.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ السِّنَّ الْمَحْدُودَ شَرْعًا.
وَهِيَ مِنَ الْإِبِلِ: مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ.
وَمِنَ الْبَقَرِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ.
وَمِنَ الْغَنَمِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ.
وَالْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا تَمَّ لَهُ نِصْفُ سَنَةٍ.
الثَّالِثُ مِنَ الشُّرُوطِ لِلْأُضْحِيَّةِ: أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْعَوَرُ الْبَيِّنُ -أَيِ الظَّاهِرُ-، وَالْمَرَضُ الْبَيِّنُ، وَالْعَرَجُ الْبَيِّنُ، وَالْهُزَالُ الْمُزِيلُ لِمُخِّ الْعِظَامِ.
الرَّابِعُ مِنْ شُرُوطِ الْأُضْحِيَّةِ: أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلْمُضَحِّي، أَوْ مَأذُونًا لَهُ فِيهَا مِنْ قِبَلِ الشَّرعِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ.
الْخَامِسُ مِنْ شُرُوطِهَا: أَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ, فَلَا تَصِحُّ بِالْمَرْهُونِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا؛ وَهُوَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشرِيقِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-.
وَيُشْرَعُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ, وَيُهْدِي, وَيَتَصَدَّقُ؛ لِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
فَالْقَانِعُ: السَّائِلُ الْمُتَذَلِّلُ.
وَالْمُعْتَرُّ: الْمُتَعَرِّضُ لِلْعَطِيَّةِ بِدُونِ سُؤَالٍ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْإِطْعَامُ يَشْمَلُ الْهَدِيَّةَ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- فِي مِقْدَارِ مَا يَأْكُلُ وَيُهْدِي وَيَتَصَدَّقُ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا، وَأَنْ يُهْدِيَ ثُلُثًا، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ، وَمَا جَازَ أَكْلُهُ مِنْهَا جَازَ ادِّخَارُهُ وَلَوْ بَقِيَ مُدَّةً طَوِيلَةً؛ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدٍّ يَضُرُّ أَكْلُهُ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَامُ عَامَ مَجَاعَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِادِّخَارُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَبَقِيَ فِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)) .
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي؟
فَقَالَ ﷺ: ((كُلوُا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ فِي النَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تعينوا فيها)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَا فَرْقَ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ وَالْإِهْدَاءِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَطَوُّعًا أَوْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً، وَلَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ أَوْ عَنْ وَصِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصِي، وَالْمُوصِي يَأْكُلُ وَيُهْدِي وَيَتَصَدَّقُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعُرْفُ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ، وَالْجَارِي عُرْفًا كَالْمَنْطُوقِ لَفْظًا.
فَأَمَّا الْوَكِيلُ؛ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْأَكْلِ وَالْإِهْدَاءِ وَالصَّدَقَةِ, أَوْ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ أَوِ الْعُرْفُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَلَهُ فِعْلُهُ, وَإِلَّا سَلَّمَهَا لِلْمُوَكِّلِ وَكَانَ تَوْزِيعُهَا إِلَيْهِ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنَ الْأُضْحِيَّةِ؛ لَا لَحْمًا وَلَا غَيْرَهُ, حَتَّى الْجِلْدَ، وَلَا يُعْطِي الْجَازِرَ مِنْهُ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ الْأُجْرَةِ أَوْ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ.
فَإِمَّا يُهْدَى إِلَيْهِ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ مُخَيَّرًا, مَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ عَلَى مَنْ أَهْدَاهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ.
((جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ))
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)).
قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَهَذَانِ هُمَا عِيدَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، ومِنْ شَعَائِرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْفَرَحُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَجَعَلَ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ بِعَقِبِ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَفَرْضَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.
((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ))
*صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:
«مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا خِلَافَ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى»، وَلَمْ يُصَلِّهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ، لَا فِي عِيدِ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى، مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبيِّ ﷺ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، ... » الْحَدِيثَ .
وَأَيْضًا «كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى -جَمِيعَ النِّسَاءِ-» ، حَتَّى الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمُصَلَّى، يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى، يَقِفْنَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ بَعِيدًا، يَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَجَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
*فَيُخْرَجُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
*الْحِكْمَةُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:
ذَكَرَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُصَلَّى.
وَقَالَ : ((هَذِهِ السُّنَّةُ -سُنَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى- لَهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ بَالِغَةٌ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَانِ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ، تَجْمَعُهُمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُصَلُّونَ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الْعِيدُ عِنْدَهُمْ عِيدًا.
وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تَلْبَسُ فِي خُرُوجِهَا، بَلْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَعِيرَ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْأُمَرَاءُ النَّائِبُونَ عَنْهُمْ فِي الْبِلَادِ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ الْعِيدَ، ثُمَّ يَخْطُبُونَهُمْ بِمَا يَعِظُونَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَيَعْطِفُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيَفْرَحُ الْفَقِيرُ بِمَا يُؤْتِيهِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي هَذَا الْحَفْلِ الْمُبَارَكِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ)).
قَالَ: ((فَعَسَى أَنْ يَسْتَجِيبَ الْمُسْلِمُونَ لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَلِإِحْيَاءِ شَعَائِرِ دِينِهِمُ الَّذِي هُوَ مَعْقِدُ عِزِّهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
*حُكْمُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ :
صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ؛ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهَا، وَأَمْرِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهَا.
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى -الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ- فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ.
قَالَ: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)) .
قَالَ صِدِّيقْ حَسَنْ خَانْ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ أَوْ لَا؟
وَالْحَقُّ: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ مَعَ مُلَازَمَتِهِ لَهَا قَدْ أَمَرَنَا بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ الرَّكْبُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ.. وَسَاقَهُ.
قَالَ: فَالْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَالرِّجَالُ أَوْلَى مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ؛ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ الْقُرْآنِيُّ بِصَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ: صَلَاةُ الْعِيدِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا: أَنَّهَا مُسْقِطَةٌ لِلْجُمُعَةِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ, وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا)).
وَقَالَ: ((وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ)).
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وُجُوبُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ)).
عَنْ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَبَ الْخُرُوجُ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ -يَعْنِي: فِي الْعِيدَيْنِ-)) .
فَالرِّجَالُ أَوْلَى كَمَا قَالَ صِدِّيق حَسَن خَان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
فَصَلَاةُ الْعِيدِ؛ الْأَدِلَّةُ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِهَا.
*وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يُلْبَسُ الْجَدِيدُ :
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ)) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَجَوَّدَهُ -أَيْ: جَوَّدَ إِسْنَادَهُ- الْأَلْبَانِيُّ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْأَحْمَرَ الْمُصْمَتَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ نَهَى عَنْ لُبْسِهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
*وَيُسْتَحَبُّ مُخَالَفَةُ الطَّرِيقِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ فَيَذْهَبُ فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجِعُ فِي آخَرَ:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ؛ خَالَفَ الطَّرِيقَ)).
«سُنَّةُ التَّكْبِيرِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ وَالْمُصَلَّى بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ»
عَلَيْنَا أَنْ نُكَبِّرَ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى الْمُصَلَّى بِصَوْتٍ عَالٍ، لَا نَسْتَحِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نَسْتَحِي مِنَ التَّكْبِيرِ.
تُكَبِّرُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ, وَأَنْتَ سَائِرٌ فِي الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ تَجْلِسَ فِي الْمُصَلَّى؛ فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ» .
*وَإِذَا دَخَلْتَ الْمُصَلَّى لَا تُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي الْمُصَلَّى -يَعْنِي قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ-»؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَمَعَهُ بِلَالٌ» .
*التَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى:
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «تَمَامِ الْمِنَّةِ».
*وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الثَّابِتَةِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ»؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» .
وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ أَيْضًا: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا»( ).
فَالتَّكْبِيرُ يَكُونُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الْوَارِدَةِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*التَّحْذِيرُ مِنْ بِدْعَةِ التَّكْبِيرِ الْجَمَاعِيِّ:
«وَإِذَا مَا جَلَسَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُصَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ»، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَائِدٌ يَأْخُذُ الْمُكَبِّرَ -مُكْبِّرَ الصَّوْتِ- وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ.. وَهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ مِثْلَ الْمَايِسْتِرُو مَعَ فِرْقَتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ وَارِدٍ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ!!
كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ وَحْدَهُ مَعَ رَبِّهِ –وَحْدَهُ-، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا بِدْعَةٌ.
النَّاسُ يُعْلِنُونَ التَّكْبِيرَ لَا يَسْتَحُونَ، يُكَبِّرُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي الطُّرُقَاتِ، عَلَى الْفُرُشِ، فِي الْبُيُوتِ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا يَتَوَاطَؤُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَأْتُونَ بِالتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مَعَ الْجَهْرِ فِي مَسَاجِدِ اللهِ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ؛ هَذِهِ بِدْعَةٌ.
وَالتَّكْبِيرُ الْجَمَاعِيُّ بِدْعَةٌ فِي الطُّرُقَاتِ، فِي الْمَسَاجِدِ، فِي الْمُصَلَّى، وَإِنَّما «يُكَبِّرُ كُلٌّ رَبَّهُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ، يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ، هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ فِيهِ»، يُكَبِّرُ رَبَّهُ، وَيَشْكُرُ وَيَفْرَحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، يَفْرَحُ بِالطَّاعَةِ، وَيَشْكُرُ اللهَ بِهَا.
فَيُكَبِّرُ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا إِلَّا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.
وَيُكَبَّرُ تَكْبِيرٌ مُقَيَّدٌ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ غَيْرِ مَا تَوَاطُئٍ وَلَا اجْتِمَاعٍ مُتَعَمَّدٍ عَلَى التَّكْبِيرِ.
((الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي عِيدِ الْمُسْلِمِينَ))
شَرَعَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَيْضًا الْفَرَحَ فِي أَيَّامٍ هِيَ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَعْيَادُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ» .
وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْإِنْسَانُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ وَهِيَ الحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَكْبَرُ, وَهُوَ بِعَقِبِ أَدَاءِ النُّسُكِ الجَلِيلِ الَّذِي يُيَسِّرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؛ مِنَّةً مِنْهُ وَعَطَاءً.
وَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِاللَّعِبِ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ:
فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: ((دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ -وَهُوَ شِعْرٌ حَمَاسِيٌّ-، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ)) .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ عَائِشَةُ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي, وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((دَعْهُمَا))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا)).
وَفِي حَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ)) ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَزَادَ فِيهِ : ((وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَتُسْتَحَبُّ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ:
فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ؛ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ)) .
فَهَذَا اللَّهْوُ الْمُرَخَّصُ فِيهِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، فَهُوَ لَهْوٌ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَيِّ لَهْوٍ، وَأَمَّا أَنْ يُتَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ الْمَرْءُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ فَمَا يَلِيقُ بِعَبْدٍ أَنْ يُقَابِلَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.
((الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَبْذُ الْخِلَافَاتِ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كُلِّهَا -مِمَّا لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا الْمَوْسِمَ- أَنْ يَخْرُجَ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً ذَاتَ عُذْرٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْرُجَ -وَلَوْ لَمْ تُصَلِّي-.
يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَحِلَّاتِ إِلَى الصُّعُدَاتِ، إِلَى تِلْكَ الْمُصَلَّيَاتِ، لَا بِتَفْرِيقٍ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ سَاعَةٌ مِنْ زَمَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا الشَّمْلُ، وَتَذُوبُ فِيهَا الْأَحْقَادُ، وَتَطْلُعُ فِيهَا الشَّمْسُ -شَمْسُ الْمَوَدَّةِ، شَمْسُ الْمَحَبَّةِ، شَمْسُ الْيَقِينِ بِالْإِيمَانِ بِالْمَعْرِفَةِ بِالدِّينِ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُذِيبَ جِبَالَ الثُّلُوجِ الَّتِي قَدْ قَامَتْ بَيْنَ أَفْئِدَةٍ مُؤْمِنَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَفَزَّهَا، لَا لِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لِاتِّبَاعِ الْهَوَى حِينًا، وَلِلْجَهْلِ أَحْيَانًا، وَلِعَصَبِيَّاتٍ مَرِيضَةٍ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينِ.
وَحِينَئِذٍ؛ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَرَفِّعًا فَوْقَ هَذِهِ الْأُمُورِ الصَّغِيرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى السَّمَاءِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الدُّنْيَا -هِيَ هَذِهِ الْأَرْضُ-، وَخَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاءَ، وَهِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَهِيَ مُتَنَزَّلُ الرَّحَمَاتِ، وَهِيَ مَا هِيَ سُمُوًّا وَسُمُوقًا وَعُلُوًّا، وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ الدُّنْيَا لَا نَسِيرُ عَلَى رُؤُوسِنَا عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَيْدِينَا، وَإِنَّمَا نَطَأُ عَلَيْهَا بِأَقْدَامِنَا!!
فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الدُّنْيَا تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ!!
أَلَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ؟!!
وَأَيْنَ تَعِيشُونَ إِنْ لَمْ تَكُونُوا فِي الْأَرْضِ؟!!
هِيَ تَحْتَ الْأَقْدَامِ!!
لَمْ يَجْعَلْ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- الْأَنَاسِيَّ سَائِرِينَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَلَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاءَ هُنَالِكَ يَصْعَدُ إِلَيْهَا الْبَصَرُ، وَتَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الرُّؤُوسُ، وَحِينَئِذٍ يَأْتِي السُّمُوُّ وَالطُّهْرُ، وَهِيَ هُنَالِكَ فِي سُمُوِّهَا وَفِي عُلُوِّهَا وَفِي ارْتِفَاعِهَا.. الْجَنَّةُ فِي ارْتِفَاعِهَا وَسُمُوقِهَا وَعُلُوِّهَا، وَجَلَالَةِ قَدْرِهَا، وَعَظِيمِ شَأْنِهَا.
وَالدُّنْيَا أَرْضٌ يَطَأُ عَلَيْهَا الْوَاطِئُ بِقَدَمَيْهِ، وَفِي نَعْلَيْهِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَذَرِ، فَلْيَعْتَبِرْ عَبْدٌ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ؛ إِذْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْعِيدِ.. إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ.. إِلَى شُهُودِ الْعِيدِ، فِي كُلِّ مَحِلَّةٍ يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ.
يَخْرُجُ النَّاسُ.. يَخْرُجُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، يَخْرُجُ الشِّيبُ وَالشُّبَّانُ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ، وَيَخْرُجُ الصِّبْيَانُ، يَخْرُجُ الْجَمِيعُ مُكَبِّرِينَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي الطَّرِيقِ، مُخَالِفِينَهُ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَقَدْ لَبِسُوا الْجَدِيدَ -وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ-، وَإِنَّمَا يُكَبِّرُونَ أَمْرَ اللهِ، وَيَحْمَدُونَ اللهَ، وَيَتَحَرَّكُونَ فِي الْفِجَاجِ، وَيَسِيرُونَ فِي الطُّرُقَاتِ، يُظْهِرُونَ أَمْرَ اللهِ عَالِيًا كَبِيرًا، حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَوْا إِلَى الْمُصَلَّى؛ جَلَسُوا مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ لَهُمْ تَكْبِيرٌ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ لِلصَّلَاةِ، أَوْ يَأْتِي الْإِمَامُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحِينَئِذٍ يَصْطَفُّ النَّاسُ صُفُوفًا، تَتَلَاحَمُ الْقُلُوبُ مُتَدَاخِلَةً.
وَهَذَا الْإِيمَانُ الْعَظِيمُ يَجْعَلُ الْقُلُوبَ شَابِكَةً، وَيَجْعَلُ الْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ مُتَشَابِكَةً، وَإِذَا هُوَ قَلْبٌ وَاحِدٌ، بِنَبْضٍ وَاحِدٍ، وَرُوحٍ خَافِقٍ.
تَزُولُ الْأَحْقَادُ، وَتَنْتَهِي الْعَصَبِيَّاتُ، وَيَعْلُو أَقْوَامٌ فَوْقَ الدَّنِيَّاتِ وَالسَّفَالَاتِ، يَرْتَفِعُونَ إِلَى الْأُفُقِ الْوَضِيءِ، إِلَى النُّورِ الْمُضِيءِ، إِلَى هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ، وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ؛ عُمَّارًا وَحُجَّاجًا.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ، وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ؛ عُمَّارًا وَحُجَّاجًا.
اللهم احْمِلْنَا إِلَى بَلَدِكَ الْحَرَامِ، وَإِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ؛ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ.
المصدر:مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ