فضل الصيام وسلوك الصائمين

فضل الصيام وسلوك الصائمين

((فَضْلُ الصِّيَامِ وَسُلُوكُ الصَّائِمِينَ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَالرُّكْنُ الرَّابِعُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ هُوَ الصِّيَامُ.

صَوْمُ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ اللهِ، مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

 ((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الصَّوْمِ))

لَا تَخْلُو عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُتَعَبَّدُ بِهَا لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ فَضَائِلَ، فَلِلصَّلَاةِ وَلِلزَّكَاةِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَكَذَا لِلْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لِلصَّوْمِ.

لَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فِي كِتَابِ اللهِ الْمَجِيدِ تَحُضُّ عَلَى الصَّوْمِ؛ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُبَيِّنُ فَضَائِلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب : 35].

فَأَدْخَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ فِي هَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ الْوَسِيعَةِ.

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].

وَقَدْ بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فِي الثَّابِتِ مِنْ سُنَّتِهِ أَنَّ الصَّوْمَ حِصْنٌ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَمِنَ النَّارِ جُنَّةٌ -أَيْ وِقَايَةٌ-؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَصَّ الصَّوْمَ وَالصَّائِمِينَ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ وَأَنَّهُ يَفْطِمُ الْأَنْفُسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَيَحْبِسُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا؛ حَتَّى تُصْبِحَ مُطْمَئِنَّةً.

وَهَذَا الْأَجْرُ الْوَفِيرُ وَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ تُفَصِّلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَحْسَنَ تَفْصِيلٍ، وَتُبَيِّنُهُ أَتَمَّ بَيَانٍ.

«الصَّوْمُ جُنَّةٌ»: أَيْ وِقَايَةٌ، وَمِنْهُ الْمَجَنَّةُ -أَيْ: الدِّرْعُ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْمُقَاتِلُ عَلَى صَدْرِهِ؛ لِيَقِيَهُ نِبَالَ وَسُيُوفَ وَرِمَاحَ أَعْدَائِهِ-.

أَمَرَ النَّبِيُّ  ﷺ -مَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ زَوَاجًا- بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ  ﷺ -أَيِ الصِّيَامَ- وِجَاءً -وَالْوِجَاءُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنْ تُرَضَّ خِصْيَةُ الْفَحْلِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ؛ حَتَّى تَنْقَطِعَ مَادَّةُ شَهْوَتِهِ- وَهُوَ قَاطِعٌ لِمَادَّةِ الشَّهْوَةِ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ  ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنِ اسْتِرْسَالِهَا، وَيُسَكِّنُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ، وَيُسَكِّنُ كُلَّ قُوَّةٍ، وَيَمْنَعُهَا مِنْ جناحها، وَيُلْجِمُهَا بِلِجَامِهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَلِهَذَا كُلِّهِ قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ -وَالْبَاءَةُ: هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَكَالِيفِ النِّكَاحِ كُلِّهَا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا- فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ -أَيْ قَاطِعٌ لِمَادَّةِ الشَّهْوَةِ-».

فَانْظُرْ كَيْفَ وَازَنَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الزَّوَاجِ، فَجَعَلَهُ فِي جَانِبٍ وَبَيْنَ الصَّوْمِ وَجَعَلَهُ فِي جَانِبٍ آخَرَ!!

((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ.. ))؛ مَا الْبَدِيلُ؟

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الْجَنَّةَ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ، وَأَنَّ النَّارَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ)) .

فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْمَ يَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ، وَيَكْسِرُ حِدَّتَهَا، وَالشَّهَوَاتُ تُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، فَإِذَنْ؛ حَالَ الصِّيَامُ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالنَّارِ؛ لِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُ حِصْنٌ مِنَ النَّارِ، وَجُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ.

فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».

«مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ -يَعْنِي بِصِيَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ- وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا -يَعْنِي مَسِيرَةَ سَبْعِينَ عَامًا؛ أَيِ: الْمَسَافَةَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي سَبْعِينَ عَامًا-)).

وَقَالَ ﷺ: «الصَّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ»؛ وِقَايَةٌ وَدِرْعٌ يَجْعَلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاقِيًا لِلْعَبْدِ أَنْ تَلْفَحَهُ النَّارُ وَأَنْ يَجِدَ مَسَّهَا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ». هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي مَضَى ذِكْرُهَا فِي فَضْلِ الصَّوْمِ -وَلَوْ يَوْمًا فِي سَبِيل اللهِ- جَاءَتْ فِي فَضْلِ الصِّيَامِ فِي الْجِهَادِ، وَالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ الصَّوْمِ إِذَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَفْقَ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَحْتَاجُ قُوَّتَهُ؛ لِيُنَافِحَ عَنْ دِينِ رَبِّهِ، فَالْحَصْرُ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِتَالِ وَفِي الْجِهَادِ عَجِيبٌ.

فَإِذَا صَامَ الْإِنْسَانُ يَوْمًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا- فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُبَاعِدُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَيَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

*وَالصَّوْمُ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُبَاعِدُ صَاحِبَهُ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ يُبَاعِدُ صَاحِبَهُ مِنَ النَّارِ؛ فَهُوَ يُدْنِيهِ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، فَهُوَ إِذَن فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ -وَهِيَ وَسَطُ كُلِّ شَيْءٍ وَخِيَارُهُ-.

فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، لَا مِثْلَ لَهُ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ -عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ عَمَلٍ مُفْرَدٍ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ- عَنْ هَذَا الْعَمَلِ الْجَامِعِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ عَمَلٌ مَحْبُوبٌ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ لَا مِثْلَ لَهُ))، يَعْنِي لَوْ عَلِمْتُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لَدَلَلْتُكَ عَلَيْهِ.

*وَالصَّائِمُونَ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

*وَ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ)) .

*((وَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)) .

وَخَلُوفُ الْفَمِ: هِيَ تِلْكَ الرَّائِحَةُ الَّتِي تَكُونُ كَرِيهَةً بِتَغَيُّرِ رَائِحَةِ الْفَمِ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ»؛ يَعْنِي كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ فَإِنَّهَا تَسْتَوْجِبُ أَجْرًا مَحْدُودُا -وَفَضْلُ رَبِّكَ وَسِيعٌ-، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَأَجْرُهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَفِيهَا تَأْوِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِيهَا أَمْرٌ وَاضِحٌ يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ؛ عَلَى النِّيَّةِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ.

فَهَذَا الْكَفُّ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، فَآلَ الْأَمْرُ مَعَ هَذَا الْكَفِّ إِلَى النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ حَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا نَاوِيًا، وَظَلَّ مُمْسِكًا إِمْسَاكًا صَحِيحًا إِلَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ نَوَى الْفَسْخَ، وَلَمْ يَأْتِ بِمُفْطِرٍ -يَعْنِي لَمْ يَأْتِ بِمَا يَجْعَلُهُ خَارِجًا مِنْ حَيِّزِ الصَّوْمِ بِعَمَلٍ ظَاهِرٍ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ رُكْنٌ.

فَالْفَسْخُ هَذَا -وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ إِيجَابِيٍّ بِضِدِّ مَا هُوَ سَلْبِيٌّ مِنَ الْكَفِّ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ- هَذِهِ النِّيَّةُ إِذَا فُسِخَتْ.. إِذَا نُقِضَتْ نُقِضَ الصَّوْمُ، فَكَأَنَّهُ عَمَلٌ بَاطِنٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْأُخْرَى إِنَّمَا تَكُونُ فِي مَجْمُوعِهَا ظَاهِرَةٌ إِلَى حَدٍّ مَا، وَلَهَا آثَارُهَا الَّتِي تَعُودُ عَلَى غَيْرِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا رَقِيبَ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فِي حَالِ صَوْمِهِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ فِي أَيِّ مَكَانٍ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الصِّيَامِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللهُ.

((يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».

((فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»: يَعْنِي يَأْتِي بِكَلَامٍ مَسْمُوعٍ يُسْمَعُ، وَيَسْمَعُهُ مُقَابِلُهُ وَمَنْ سَبَّهُ؛ لِيَنْزجِرَ الشَّاتِمُ وَالْمُقَاتِلُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ فِي نَفْسِهِ؛ لِيَمْنَعَهَا مِنَ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، كَأَنَّهُ يَأْتِي بِمُذَكِّرٍ لِنَفْسِهِ: ((إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))، كَأَنَّمَا يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، أَوْ لِسَابِّهِ أَوْ شَاتِمِهِ: ((إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ))، فَكَأَنَّمَا يَزْجُرُ غَيْرَهُ!!

وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَرْجَحُ وَالْأَوْضَحُ؛ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَسْمُوعَةً؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ إِذَا أُطْلِقَ يَكُونُ كَذَلِكَ، أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يُسْمَعُ: ((فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)).

«وَالِّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ((يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ تَعَاَلى: إِلاَّ الصَّوْمَ فِإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ».

يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي، فَإِذَنْ؛ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.

فَإِذَنْ؛ الْمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ عَلَى الصِّيَامِ لَا تَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَثَرٍ إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الْآتِي بِهِ، وَقُدْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَدَّ لَهَا، فَعَطَاءُ رَبِّكَ بِغَيْرِ حُدُودٍ.

*وَالصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهْمَا:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهْوَةَ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)).

*وَالصِّيَامُ كَفَّارَةٌ:

مِنْ فَضَائِلِ الصِّيَامِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهُ مُنْفَرِدًا بِفَضَائِلِ دُونَ بَقِيَّةِ الْعِبَادَاتِ، فِمِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ الصِّيَامُ مِنْ فَضَائِلِ أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ مِنْ كَفَّارَاتِ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ؛ فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَفَّارَةَ ذَلِكَ صِيَامًا.

وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ -أَيْضًا- يُقَابِلُهَا الصِّيَامُ.

وَقَتْلُ الْمُعَاهَدِ خَطَأٌ كَفَّارَتُهُ الصِّيَامُ.

وَحِنْثُ الْيَمِينِ كَفَّارَتُهُ يَدْخُلُ فِيهَا الصِّيَامُ.

وَقَتْلُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالظِّهَارُ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُبَيِّنُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ فَضْلَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْجَلِيلَةِ.

قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ لِعُذْرٍ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}

فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ..

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. 

فَكَمَا تَرَى جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَفَّارَةً.

وَكَذَلِكَ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ خَطَأً، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء : 92].

وَكَذَلِكَ فِي حِنْثِ الْيَمِينِ، قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].

وَكَذَلِكَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا}. فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ كَفَّارَةً.

{أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95]

وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي أَمْرِ الظِّهَارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 3-4].

فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ كَفَّارَةً.

وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ فِي تَكْفِيرِ فِتْنَةِ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَجَارِهِ، يَعْنِي فِي الْأَخْطَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، فَعَنْ حُذَيْفَةَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ».

*وَخَصَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّائِمِينَ بِبَابٍ فِي الْجَنَّةِ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إِلَّا هُمْ مِنْهُ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ».

فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي جَاءَتْ لِهَؤُلَاءِ الصَّائِمِينَ الَّذِينَ يَطْوُونَ النَّهَارَ عَلَى ظَمَأٍ، وَيُعَانُونَ مِنَ الْعَطَشِ؛ فَجُوزُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ.

فَالِاسْمُ لَهُ مُطَابَقَةٌ عَجِيبَةٌ مَعَ وَاقِعِ الْحَالِ ((يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ)).

يَعْنِي مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الصِّيَامِ فِي الدُّنْيَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَدْخَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الصِّيَامِ.

فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْه مَعَ الصِّيَامِ أَحْوَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُدْعَى مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ)) ؛ لِأَنَّ التَّوَازُنَ عِنْدَهُ -مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ بُلُوغِهَا أَقْصَى الْمَدَى- مُتَوَفِّرٌ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

«فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ».

وَفِي زِيَادَةٍ لِلنَّسَائِيِّ  -مَعَ مَا مَرَّ مِنْ رِوَايَةِ ((الصَّحِيحَيْنِ))-: «فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ، وَمَنْ دَخَلَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا».

فَهَذَا فَضْلُ الصَّوْمِ -عِبَادَ للهِ- بِإِطْلَاقٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ.

*وَأَمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ خَاصَّةً:

فَالأَعْمَالُ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:

أَعْظَمُهَا الصِّيَامُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

* وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ» .

* وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ : «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر» .

*وَالصِّيَامَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) .

فَالصَّومُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِيِ عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ ﷺ.

 ((مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ))

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ، مِنْ ذَلِكَ:

*أَنَّ التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصَّوْمِ:

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

أَيْ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، لَعَلَّكُمْ بِأَدَائِكُمْ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ تَنَالُونَ دَرَجَةَ التَّقْوَى، الَّتِي هِيَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَاهَا، وَأَرْفَعُ الْمَنَازِلِ وَأَفْخَمُهَا، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ مِمَّنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ.

وَالصِّيَامُ الَّذِي لَا يُثْمِرُ التَّقْوَى حَابِطٌ فَاقِدُ الْقِيمَةِ؛ كَالزَّرْعِ الَّذِي لَا مَحْصُولَ لَهُ آخَرَ الْمَوْسِمِ.

فَوَا أَسَفَاهُ! فِيمَ كَانَ -إِذَنْ- حَرْثُ الْأَرْضِ، وَالسَّقْيُ، وَالتَّسْمِيدُ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَطُولُ الضَّنَا، وَاحْتِمَالُ الْعَنَا؟!!

*إِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْفَرْضِ الْعَظِيمِ -كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-؛ حَقَّقَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

*الْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: كَقَوْلِ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَالْإِنْسَانُ يَدَعُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِعَارِضِ الصَّوْمِ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتْرُكُ الشَّهَوَاتِ؛ كَالْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ ذَلِكَ فِي الْوَسَائِلِ الَّتِي جَدَّتْ فِي الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ؛ كَالْهَاتِفِ النَّقَّالِ، وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمِذْيَاعِ، وَفِي التِّلْفَازِ، وَفِي الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، يُكِبُّونَ عَلَيْهَا كَمَا يُكِبُّ الْعَابِدُ عَلَى صَنَمِهِ!!

وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ تَقْوَاهُمْ، وَتَسْتَلِبُ مِنْهُمْ إِيمَانَهُمْ، وَتُعَلِّمُهُمُ الْكَذِبَ، وَالنِّفَاقَ، وَالْخِدَاعَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي جَدَّتْ؛ فَإِنَّهَا -بِلَا شَكٍّ- تُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَأْثِيرِهَا فِي صِيَامِهِ.

*وَالنَّاسُ إِذَا صَامُوا الشَّهْرَ؛ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا كَأُمَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ يَأْكُلُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصُومُونَ مُمْسِكِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

*وَيَشْعُرُ الْغَنِيُّ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيَعْطِفُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ مَزَالِقِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

*وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّوْمِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، فَفِي رَمَضَانَ صَبْرٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ الصَّبْرِ يَأْتِ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

*وَتَأْتِي مَغْفِرَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصَّائِمِينَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

*وَالصَّوْمُ يَمْنَعُ مِنْ غِشْيَانِ الرَّذَائِلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ - وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ- فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَجْهَلُ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-)) .

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْعِبَادَاتِ مَقَاصِدَ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بَعْضَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَأْتِي بِهَا مُمْتَثِلًا، مُحْتَسِبًا الْمَشَقَّةَ الَّتِي يُلَاقِيهَا وَالْعَنَتَ، كَمَا يَكُونُ فِي الصِّيَامِ إِذَا أَتَى فِي أَيَّامِ الْحَرِّ؛ فَعَلَى الظَّمَأِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ، وَعَلَى الْمُعَانَاةِ فِيهِ، عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، عَلِمْنَا مِنْهَا مَا عَلِمْنَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الْمَعْنَى، بِمَعْنَى أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا نَبْحَثُ عَنِ الْعِلَلِ.

لَا نَقُولُ: لِمَ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟

لِمَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةً عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟

فَالْحِكْمَةُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ ذَلِكَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَغْيِيرِ سُلُوكِهِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُفَتِّشَ فِي قُلُوبِنَا، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْظَمُ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُمَازِجُ الْقُلُوبَ وَتُخَالِطُ الْأَرْوَاحَ، حَتَّى يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مَهْمَا كَثُرَ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ لَا يُتَقَبَّلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَمَلُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ؛ تَقَبَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

 ((سُلُوكُ الصَّائِمِينَ الْمُتَّقِينَ))

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِي ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّوْرِ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَه: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّوْرِ، وَالْجَهْلَ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَالْجَهْلُ هَاهُنَا: ضِدُّ الْحِلْمِ، لَيْسَ بِالَّذِي هُوَ بِضِدِّ الْعِلْمِ.

«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ وَالْجَهْلَ -أَيْ: السَّفَهَ وَالنَّزَقَ، وَالطَّيْشَ وَخِفَّةَ الْعَقْلِ- وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوْعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا الْسَّهَرُ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه -وَاللَّفْظُ لَهُ-.

وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كٌلَّهُ فِي قَوْلِهِ: «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالْشُّرْبِ؛ إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ الْلَّغْوِ وَالْرَّفَثِ».  رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَيَتَأَكَّدُ عَلَى الصَّائِمِ الْقِّيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ، وَكَذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَلَا يَغْتَابُ النَّاسَ، وَلَا يَكْذِبُ، وَلَا يَنِمُّ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَبِيعُ بَيْعًا مُحَرَّمًا، يَجْتَنِبُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ فِي شَهْرٍ كَامِلٍ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ سَوْفَ تَسْتَقِيمُ بَقِيَّةَ الْعَامِ.

وَلَكِنَّ الْمُؤسِفَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّائِمِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ يَوْمِ صَوْمِهِمْ وَيَوْمِ فِطْرِهِمْ، فَهُمْ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا تَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْهِ وَقَارَ الصَّوْمِ.

وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ؛ وَلَكِنْ تَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ، وَرُبَّمَا عِنْدَ الْمُعَادَلَةِ تَرْجَحُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ، فَيَضِيعُ ثَوَابُهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ --رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ, فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُم؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ الصِّيامُ مِنَ الْأكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ؛ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ, إِنِّي صَائِمٌ». رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ». وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِبَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَدْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْأَذَى وَالشَّرِّ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تُثْمِرُ ذَلِكَ؛ فَهِيَ عِبَادَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا خَيْرَ فِيهَا لِصَاحِبِهَا.

فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ الْنَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟

فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِْ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».

تَقُوْمُ الْلَّيْلَ، وَتَصُوْمُ الْنَّهَارَ، وَتَفْعَلُ! -هَكَذَا بِإِبْهَامٍ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ- وَتَصَدَّقُ -وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِتَهْوِيلِهِ وَتَفْخِيمِهِ-، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا!!

قَالَ ﷺ: «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».

فَلَمْ يَعْتَدَّ بِهَذَا الَّذِي أَتَتْ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ، وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْمِرْ شَيْئًا ذَا قِيمَةٍ؛ ((تُؤْذِي جِيْرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).

قَالَ: «لَا خَيْرَ فِيْهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ الْنَّارِ».

قَالَوا: ((وَفُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ -جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجُبْنِ الْمُجَفَّفِ- وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ -وَالتَّنْوِينُ فِي «بِأَثْوَارٍ» لِلتَّقْلِيلِ- وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟)).

قَالَ ﷺ: «هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

شَتَّانَ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ: بَيْنَ عِبَادَةٍ تَدْفَعُ إِلَى الْخَيْرِ، وَعِبَادَةٍ لَمْ تُوقِفْ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِيغَالِ فِي الشَّرِّ.

عِبَادَةٍ قَوَّمَتِ الظُّهُورَ بِطُولِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَوَّمَتِ الْمَعِدَةَ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَمْ تُقَوِّمِ اللِّسَانَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى أَمْرِ اللهِ، أَوْ حَتَّى بِالْكَفِّ عَنْ إِيذَاءِ خَلْقِ اللهِ!!

فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ!!

وَمَا أَتْعَسَ الصِّائِمَ الْمُفْلِسَ!!

((الصَّائِمُونَ الْمُفْلِسُونَ))

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ :«أَتَدْرُوْنَ مَا الْمُفْلِسُ؟».

قَالُوْا: الْمُفْلِسُ فِيْنَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ .

قَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِيْ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكْلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

فَهَذَا أَتَى بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ؛ وَلَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ أَتَى بِمَا أَذْهَبَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ خَيْرٍ؛ حَتَّى مَحَقَهُ، حَتَّى نَسَفَهُ.

وَتَأَمَّلْ خَمْسَةَ أَفْعَالٍ وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ: «شَتَمَ هَذَا.. قَذَفَ هَذَا.. أَكَلَ مَالَ هَذَا.. سَفَكَ دَمَ هَذَا.. ضَرَبَ هَذَا».

تَأَمَّلْ هَذِهِ الْخَمْسَةَ الْأَفْعَالِ: «شَتَمَ.. قَذَفَ.. أَكَلَ.. سَفَكَ.. ضَرَبَ»، ثُمَّ اعْجَبْ! مَتَى كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَائِمًا؟!!

وَكَيْفَ كَانَ يَجِدُ وَقْتًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَقُومُ بِهَذِهِ الْجَرَائِمِ كُلِّهَا؟!!

وَكَيْفَ يَكُونُ مُزَكِّيًا، وَهُوَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ؟!!

((يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ.. ))؛ صِيَامٍ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ؟!!

«وَزَكَاةٍ»؛ كَيْفَ تَكُونُ الزَّكَاةُ زَكَاةً، وَهُوَ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ؟!!

((وَأَكَلَ مَالَ هَذَا)).

فَاعْجَبْ! كَيْفَ كَانَ هَذَا يَجِدُ وَقْتًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَاكِفٌ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ كُلِّهَا؟!!

إِنَّ الصِّيَامَ الْحَقِيقِيَّ، وَالصَّلَاةَ التَّامَّةَ، وَالزَّكَاةَ الْمَقْبُولَةَ هِيَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْجَرَائِمِ الْخَمْسِ: «الشَّتْمُ، وَالضَّرْبُ، وَالْقَذْفُ، وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَسَفْكُ دِمَائِهِمْ».

لَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ إِلَّا الصِّيَامُ الْحَقِيقِيُّ، وَالصَّلَاةُ التَّامَّةُ، وَالزَّكَاةُ الْمَقْبُولَةُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَهُ صَلَاةٌ وَصِيَامٌ وَزَكَاةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْجَرَائِمِ!!

فَمَفْهُومُ هَذَا؛ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ صَامَ صِيَامًا حَقِيقِيًّا، وَصَلَّى صَلَاةً تَامَّةً، وَزَكَّى زَكَاةً مَقْبُولَةً؛ لَانْكَفَّ عَنْ فِعْلِ هَذِهِ الشُّرُورِ، وَلَحَجَزَتْهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْآثَامِ، وَلَاسْتَقَامَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَعَلَى صِرَاطِ اللهِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ.

لَقَدْ أَشَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْإِفْلَاسِ الْحَقِيقِيِّ.

إِنَّهُ الْإِفْلَاسُ الْخُلُقيُّ فِي الدُّنْيَا.

الْإِفْلَاسُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ الْإِفْلَاسُ الْخُلُقيُّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى الْإِفْلَاسِ الْأُخْرَوِيِّ مِنَ الْحَسَنَاتِ حَتَّى تَفْنَى، ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْ سَيِّئَاتِ ضَحَايَاهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ يُطْرَحُ فِي النَّارِ.

فَالْإِفْلَاسُ الْخُلُقِيُّ فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى الْإِفْلَاسِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْآخِرَةِ بِخُلُّوهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَبِطْرَحِ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ بِطَرْحِهِ بَعْدُ فِي النَّارِ.

((احْذَرُوا مِنْ ذُنُوبِ الْخَلَوَاتِ!!))

أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُوْرًا».

قَوْمٌ مُجْتَهِدُونَ.

الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ -وَهِيَ سِلْسِلَةُ جِبَالٍ تَمْتَدُّ امْتِدَادًا طَوِيلًا، ثَقِيلَةٌ هِيَ جِدًّا لَوْ تَدَبَّرْتَ!! عَظِيمَةٌ هِيَ، جَلِيلَةٌ لَوْ تَفَكَّرْتَ!!

فَمَنْ أَتَى بِأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ الْبَيْضَاءِ؛ لَقَدْ أَتَى بِأَمْرٍ كَبِيرٍ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا.

هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ فَعَلَةِ الْخَيْرَاتِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعُكُوفِ عَلَى الصَّالِحَاتِ؛ بِدَلِيلِ كَثْرَةِ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَأْتُوْنَ بِأَعْمَالٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ، فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا».

قَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، حَلِّهمْ لَنَا -مِنَ الْحِلْيَةِ، وَهِيَ الشِّيَةُ وَالسِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ- أَلَّا نَكُوْنَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)). 

فِيهِ خَوْفُ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الدَّغَلِ الْمُحْبِطِ لِلْأَعْمَالِ، الْمُفْسِدِ لِجَلِيلِ صَالِحِ الْأَقْوَالِ؛ فَيَقُولُ: «يَا رَسُوْلَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا، حَلِّهمْ لَنَا؛ ألَّا نَكُوْنَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ».

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ سَيِّئًا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَهُوَ يَحْسَبُ نَفْسَهُ صَالِحًا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104].

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُوْنَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ -يُكَابِدُونَ الْقِيَامَ، وَيُعَانُونَ الْعَنَتَ وَالْمَشَقَّةَ، وَيَتَحَمَّلُونَ- وَيَأْخُذُوْنَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ -صَلَاةً وَتِلَاوَةً وَرُكُوعًا وَسُجُودًا وَذِكْرًا-، أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُوْنَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُوْنَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أقَواْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».

هَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ! هَذَا هُوَ الدَّاءُ الدَّوِّيُّ الَّذِي أَفْسَدَ هَذَا الْجَسَدَ وَهُوَ يَبْدُو فِي عَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، مُتَمَاسِكًا قَائِمًا، فَنَخَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، فَتَهَاوَى مُتَصَدِّعًا، وَتَسَاقَطَ مُتَدَاعِيًا.

«إِنَهُمْ أقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»: لَهُمْ ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ؛ كَالْقَبْرِ يَرُوعُكَ مَنْظَرُهُ، وَبِدَاخِلِهِ جِيفَةٌ وَنَتَنٌ.

انْتِهَاكُ مَحَارِمِ اللهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْعِبَادَةِ وَحُبُوطِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ مَعْنَاهُ: فَسَادُ النَّفْسِ، وَفِقْدَانُ الْوَرَعِ، وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ، وَهُوَ يَعْنِي فَسَادَ الْإِيمَانِ.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4].

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].

فَإِذَا فَقَدَ الْمُنْتَهِكُونَ حُدُودَ اللهِ خِصَالَ الْعَدْلِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ؛ فَمَاذَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ؟!! بَلْ مَاذَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ دِينٍ؟!!

«أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا». 

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الرِّقَابَةِ للهِ؛ بَلْ عَلَى عَدَمِهَا، وَعَلَيْهِ؛ فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ؛ لِاسْتِجْلَابِ إِعْجَابِ النَّاسِ بِهِ، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَرَفْعِهِمْ إِيَّاهُ فَوْقَ قَدْرِهِ.

تَعَاهَدْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثٍ: «إِذَا عَمِلْتَ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَاذْكُرْ سَمْعَ اللهِ مِنْكَ، وَإِذَا سَكَتَّ فَاذْكُرْ عِلْمَ اللهِ فِيكَ».

قَالَ سُفْيَانُ: «مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي؛ مَرَّةً عَلَيَّ، وَمَرَّةً لِي».

مَرَّةً غَالِبَةً، وَمَرَّةً مَغْلُوبَةً، وَالْحَيَاةُ عَنَاءٌ، وَالْحَيَاةُ كَدٌّ وَتَعَبٌ، عَنَاءٌ وَنَصَبٌ، مُجَاهَدَةٌ وَابْتِلَاءٌ، سَعَادَةٌ يَسِيرَةٌ وَشَقَاءٌ، وَكَذَا الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا بَقَاءٌ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].

فَالْبَاقِيَةُ هُنَاكَ؛ فَقَدِّمْ لِلَّتِي تَبْقَى، وَاحْذَرِ الَّتْي تَفْنَى!!

وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى؛ لَفُضِّلَتِ الْآخِرَةُ عَلَى الدُّنْيَا؛ فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ ذَهَبٍ يَبْقَى؟!!

عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ وَمَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ؛ فَلْيَنْظُرْ مَا يَدْخُلُ بَطْنَهُ».

فَهَذِهِ أَدَّلُ دَلَائِلِ التَّقْوَى.

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي مَوْضِعٍ كَثُرَ فِيهِ أَكْلُ الْحَرَامِ؛ فَدَخَلَ مَسْجِدًا، فَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ تَدَافَعَ النَّاسُ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ فَقَالَ -مُعَلِّمًا وَمُرشِدًا-: «كُلْ مِنْ حَلَالٍ، وَصَلِّ فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ».

هَذَا لِرِعَايَةِ الْحَالِ، وَأَمَّا الْمُنَافَسَةُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ فَشَيْءٌ كَبِيرٌ، وَالرَّسُولُ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «وَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا -أَيْ يَقْتَرِعُوا- عَلَيْهِمَا؛ لَفَعَلُوا».

وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ قَدْ عَكَسُوا الْأَمْرَ، فَصَارُوا يَتَدَافَعُونَ إِلَى مَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ، وَتَهَاوَنُوا فِي أَوْجَبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ، وَهُوَ رِقَابَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ.

لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَا يَدْخُلُ جَوْفَه؛ فَإِنَّ الْبَطْنَ أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

«لَا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ».

خَصْمٌ هِيَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللهِ فِيهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَسْرِهَا عَلَى اجْتِنَابِ نَهْيِهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهَا أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ جُمْلَةً، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ وَمَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ؟

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «لَا تَكُنْ وَلِيًّا للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، عَدُوًّا للهِ فِي السِّرِّ».

«أُوَلئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»؛ لِأَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ عَمَلُهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ؛ هَذَا وَلِيٌّ للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَهَذَا عَمَلٌ صَالِحٌ عَظِيمٌ.

«بَيْضَاءَ»: فِي وَصْفِ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَهُوَ عَدُوٌّ للهِ فِي السِّرِّ، «لَا تَكُنْ وَلِيًّا للهِ فِي الْعَلَانِيَةِ، عَدُوًّا للهِ فِي السِّرِّ».

«أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».

إِنَّ الصِّيَامَ يُورِثُ التَّقْوَى، وَمُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى، وَصَلَاحَ الْقُلُوبِ.

قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّاد: «أَدْرَكْتُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ؛ وَقَعَ عَلَيْهُمُ الْهَمُّ -لِمَ وَقَدْ عَمِلُوا صَالِحًا؟! بَلْ عَمِلُوا صَالِحًا اجْتَهَدُوا فِي عَمَلِهِ-، يَقُولُ: أَدْرَكْتُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ؛ وَقَعَ عَلَيْهُمُ الْهَمُّ؛ أَيُقْبَلُ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟!!».

فَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ؛ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ كُلُّ الْعِبْرَةِ فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِهِ، مِمَّا يُحْبِطُهُ.

لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِتَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنَ الشَّوَائِبِ.

مَنْ شَابَ شِيبَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّر كُدِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، فَأَخْلِصْ؛ إِنَّمَا يَتَعَثَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]» .

وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)): لَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ (ض1) قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أُولَئِكَ الْعُصَاةُ السَّرَقَةُ الزُّنَاةُ! يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ؟

قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ؛ بَلْ هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَيَخْشَى أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُ».

مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَدِّدَ دَوَافِعَهُ؟!!

مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ؟!!

وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]».

 ((فَلْنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلْنُحَقِّقْ مَقْصُودَ الصِّيَامِ -التَّقْوَى-))

فَلنُحَقِّقْ -بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ- مَقْصُودَ الصِّيَامِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ التَّقْوَى بِإِخْلَاصِ العِبَادَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، بِصَرْفِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، بِفِعْلِ المَأْمُورَاتِ, وَتَرْكِ المَنْهِيَّاتِ وَالمَحْظُورَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَهَذَا مَقْصُودُ الصِّيَامِ الأَعْظَمُ؛ فَلْنُحَقِّقْ هَذَا.

أَلَا إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَبَدًا, وَلَا يَجْمُلُ بِنَا أَنْ نَكُونَ كَالَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ:

لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالعَطَشُ، ولَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا النَّصَبُ والسَّهَرُ.

لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ فِي البُعْدِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَفِي الإِقْبَالِ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ،  وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا عَلَى سَيِّدِ الْبَشَرِ ﷺ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الجَوَادُ الكَرِيمُ، وَالبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ.. كَيْفَ نَحْيَاهُ؟))

كَيْفَ نَحْيَا رَمَضَانَ، وَنُحْيِيهِ؟

إِنَّ العَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتَنِمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الأَوْقَاتِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ العَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغَيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟

إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:

1- الصِّيَامُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ :«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

الصِّيَامُ صِيَامٌ عَنِ الطَّعَامِ وَعَنِ الحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى: أَنْ يَصُومَ عَنِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ، وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَأَلَّا يَجْعَلَ يَوْمَ صَوْمِهِ وَيَوْمَ فِطْرهِ سَوَاءً، وَأَلَّا يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعَ وَالعَطَشَ.

فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

2- القِيَامُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

3- الصَّدَقَةُ: مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَمِمَّا يتَأَكَّدُ فِيهِ: الصَّدَقَةُ وَالجُودُ بِالمَوْجُودِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ».

رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)).

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في «الْأَوْسَطِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

يَحْفِرُ الْمُسْلِمُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.

وَتَلَوُّثُ المِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا؛ لِيَكُونَ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.

4- قِرَاءَةُ القُرْآنِ: مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ.

كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ.

وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.

5- الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ: مِمَّا يُؤْتَى بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العَامِ: الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ -بِحَدِيثٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ بِشَوَاهِدِهِ- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».

فَهَذَا فِي كُلِّ الأَيَّامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ؟!!

6- الِاعْتِكَافُ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا».

وَالِاعْتِكَافُ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِهَا، وَآكَدُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.

وَالاِعتْكِاَفُ هُوَ الخَلْوَةُ المَشْرُوعَةُ، يَفْعَلُهُ المَرْءُ فَيَخْلُو بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ؛ مِنْ أَهْلٍ وَصَاحِبٍ وَوَلَدٍ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَالمُعْتَكِفُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَيَقْطَعُ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ.

7- العُمْرَةُ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمِّ سِنَانٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً -أَوْ قَالَ-: حَجَّةً مَعِي».

العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.

((اشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ أَنْ أَدْرَكْتُمْ هَذَا الشَّهْرَ الْمُبَارَكَ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُ؛ لَقَدْ مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْكَ بِإِدْرَاكِ هَذَا الشَّهْرِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ طَوِيلًا مُتَأَمِّلًا، وَأَنْ تَخْشَعَ مَلِيًّا عِنْدَ هَذَا الشَّهْرِ بِمَا يُفِيضُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنَ الرَّحَمَاتِ.

تَذَكَّرْ أَصْلَ الْخَلْقِ وَسَبَبَ الْوُجُودِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِلْعِبَادَةِ، فَحُقَّ عَلَيْهِمْ الِاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا بِالزَّهَادَةِ؛ فَإِنَّها دَارُ نَفَادٍ لَا مَحَلُّ إِخْلَادٍ، وَمَرْكَبُ عُبُورٍ، لَا مَنْزِلُ حُبُورٍ، وَمَشْرَعُ انْفِصَامٍ، لَا مَوْطِنُ دَوَامٍ)) .

فَتَفَكَّرْ فِي عِظَمِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكَ؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 33].

وَأَجَلُّ تِلْكَ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا: نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ؛ فَكَمْ يَعِيشُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أُمَمٍ حُرِمَتْ الشَّهَادَةَ؛ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟!

وَهَذَا فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ احْمَدِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ؛ فَكَمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِتَعَالِيمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُفَرِّطُونَ فِي الْوَاجِبَاتِ، غَارِقُونَ فِي الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ وَاللَّذَاتِ؟! وَأَنْتَ تَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مِنْ سَعَةٍ فِي الرِّزْقِ، وَصِحَّةٍ فِي الْبَدَنِ؛ فَعَلَيْكَ وَاجِبُ الشُّكْرِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ: طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ النِّعَمَ تَدُومُ بِالشُّكْرِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْكَ: أَنْ مَدَّ فِي عُمُرِكَ، وَجَعَلَكَ تُدْرِكُ هَذَا الشَّهْرَ الْعَظِيمَ؛ فَكَمْ غَيَّبَ الْمَوْتُ مِنْ صَاحِبٍ، وَوَارَى الثَّرَى مِنْ حَبِيبٍ!

فَإِنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فُرْصَةٌ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فَرَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ عُمُرُهُ.

لِذَا احْرِصْ عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَتَذَكَّرْ مَنْ صَامَ مَعَنَا الْعَامَ الْمَاضِي وَصَلَّى الْعِيدَ!! ثُمَّ أَيْنَ هُوَ الْآنَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَهُ الْمَوْتُ؟!

وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ:  حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر:فَضْلُ الصِّيَامِ وَسُلُوكُ الصَّائِمِينَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  التَّحْذِيرُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْبَغْتَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  حُسْنُ الخُلُقِ سَبَبُ بِنَاءِ المُجْتَمِعِ الصَّالِحِ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  نَصَائِحُ الْنَّبِيِّ الأَمِين لِتُجَّارِ المُسْلِمِين
  ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ
  أَكْلُ الْحَلَالِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان