((وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:
((تَأْرِيخُ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُرَّةِ مِنَ التَّتَارِ))
فَإِنَّ الْمُؤَرِّخَ ضِيَاءَ الدِّينِ بْنَ الْأَثِيرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- أَخْرَجَ فِي حَوَادِثِ عَامِ سَبْعَةَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ (617هـ) يُؤَرِّخُ لِوَقَائِعِ دُخُولِ التَّتَارِ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ تِلْكَ النَّكْبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مُنِيَتْ بِهَا دِيَارُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
فَيَقُولُ: ((وَبَقِيتُ دَهْرًا مُتَطَاوِلًا يَقْرُبُ مِنْ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ وَأَنَا أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَلَا تُطَاوِعُنِي نَفْسِي أَنْ أَكْتُبَ فِي هَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ حَرْفًا، وَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟!
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي! وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ ذَلِكَ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًا!.
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَنِي بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ عَلَى ضَرُورَةِ كِتَابَةِ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَالتَّأْرِيخِ لَهُ؛ فَكَتَبَتْ..)).
وَفِي بَعْضِ مَا كَتَبَ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- قَالَ: «وَأَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَوْفَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّتَارِ خَوْفًا عَظِيمًا مُتَنَامِيًا مُتَرَامِيًا أَطْرَافُهُ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ التَّتَرِيَّ الْفَارِسَ كَانَ يَدْخُلُ الْقَرْيَةَ مِنَ الْقُرَى أَوِ الدَّرْبَ مِنَ الدُّرُوبِ وَفِيهِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا التَّتَرِيِّ أَحَدٌ إِلَّا سَيْفَهُ فَقَطْ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَمَا يَرْفَعُ أَحَدُهُمْ فِي وَجْهِهِ صَوْتًا وَلَا يُحَرِّكُ أُصْبُعًا؛ مِمَّا أَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ التَّتَارِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: «وَحَكَى لِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ فِي كَلَامِهِ: أَنَّ فَارِسًا مِنَ التَّتَارِ دَخَلَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ دَرْبًا مِنَ الدُّرُوبِ فَوَجَدَ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ التَّتَرِيِّ مَا يَقْتُلُ بِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ، فَأَمَرَ التَّتَرِيُّ الْمُسْلِمَ بِأَنْ يَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنْ يَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرَابِ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَذْهَبَ التَّتَرِيُّ فَيَأْتِيَ بِمَا يَقْتُلُ بِهِ ذَلِكَ الْمُسْلِمَ!
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ صَاعَ لِأَمْرِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ الْأَغْلَمِ، وَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى التُّرَابِ، مُنْتَظِرًا مَنْ يَأْتِيهِ بِمَا يَذْبَحُهُ بِهِ، وَقَدْ فَعَلَ!!.
قَالَ: ((وَحَكَى لِي بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ أَتَاهُمْ يَوْمًا وَكَانُوا جَمَاعَةً سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.. أَتَاهُمْ تَتَرِيٌّ فَارِسٌ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُكَتِّفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ يَفْعَلُونَ، فَقُلْتُ: وَيْحَكُمْ! إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ كَثِيرَةٌ قَوِيَّةٌ؛ فَلَوْ أَنَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَعَ إِلَى التَّتَرِيِّ بَصَرَهُ!
قَالَ: وَأَقْبَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ، فَاسْتَلَلْتُ سِكِّينًا فَذَبَحْتُهُ بِهَا، وَنَجَوْتُ بِمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
((أَسْبَابُ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا))
مَا الَّذِي أَوْصَلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ الْهَابِطِ فِي بَعْضِ تَارِيخِهِمْ؟! وَهُوَ مُعَرِّضٌ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ مَتَى مَا تَرَكُوا أَسْبَابَ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْقُوَّةِ، وَأَخَذُوا بِأَسْبَابِ الْحِطَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالِانْحِطَاطِ.. مُعَرِّضٌ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ إِلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ وَأَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ -إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا-.
لَوْ أَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى أَحْوَالِ التَّارِيخِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ السَّحِيقِ بِظُلُمَاتِهِ الْمُتَرَاكِمَاتِ لَوَجَدْتَ الْأَسْبَابَ الصَّارِخَاتِ تَدْعُوا جَمِيعًا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ وَإِلَى أَبْعَدَ مِمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ.
وَأَعْظَمُ مَا سَلَّطَ رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ -وَهُوَ مُسَلِّطٌ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مَتَى مَا أَخَذُوا بِأَسْبَابِهِ-: الْخَوْفُ.. الْخَوْفُ الَّذِي يَشُلُّ الْحَرَكَةَ، وَيُمِيتُ الْعَزْمَ، وَيُفْسِدُ الْإِرَادَةَ، وَيَقْتُلُ الْحَيَاةَ، الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ عَدُوُّ الْحَيَاةِ بِحَقٍّ، وَالَّذِي جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُحَرِّرَ مِنْهُ الْعِبَادَ، كَمَا قَالَ قَائِلُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدُ لِلْفَارِسِيِّ مِنْ عَبَدَةِ النَّارِ لِيُبَيِّنَ دَعْوَةَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ بِأَمْرِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ الْغَفَّارِ: ((إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ابْتَعَثَنَا؛ لِنُخْرِجَ الْعِبَادَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعِبادِ)).
النَّاظِرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي زَمَنِ التَّتَارِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الْعِبْرَةَ، وَأَنْ يَسْتَخْلِصَ الْمَوْعِظَةَ، وَأَنْ تَكُونَ عَيْنُ قَلْبِهِ وَعَيْنُ بَصِيرَتِهِ مُسَلَّطَةً عَلَى أَحْوَالِ عَالَمِهِ؛ حَتَّى لَا تَتَكَرَّرَ الْمَأْسَاةُ، رُبَّمَا عَلَى يَدِ أَذَلِّ شَعْبٍ وَأَخَسِّهِ فِي الْأَرْضِ قَطُّ، مَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِمْ مَا فِيهِمْ مِنْ سُوءِ الطِّبَاعِ، وَمَا فِيهِمْ مِنْ سُوءِ الْجِبِلَّةِ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ إِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، هُمْ أَذَلُّ شَعْبٍ وَأَحَطُّهُ قَطُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَالَمَ إِلَى أَنْ يَرِثَهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ- يَنْبَغِي أَلَّا يُؤْخَذَ فَطِيرًا سَطْحِيًّا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ زَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتُغْفَلُ فِيهِ بَقِيَّةُ الزَّوَايَا، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي النَّظَرِ أَنْ نَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ؛ إِذْ يُقْبِلُ عَلَى مَرِيضِهِ، يَسْمَعُ شَكْوَاهُ، وَيَنْظُرُ فِي أَعْرَاضِهِ، ثُمَّ يَضَعُ فِي رَأْسِهِ خُطَّةً مِنْ أَجْلِ مُعَالَجَتِهِ وَمُدَاوَاتِهِ، لَا يُعَالِجُ فِيهَا أَعْرَاضَهُ؛ وَإِنَّمَا يَبْحَثُ فِيهَا عَنْ أَصْلِ دَائِهِ، وَعَنْ مَكْمَنِ عِلَّتِهِ؛ فَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ لَا يُدَاوِي الْأَعْرَاضَ، وَلَا يُعَالِجُ الظَّوَاهِرَ؛ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِطَرْفِ الْخَيْطِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالظَّوَاهِرِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَكْمَنِ الْعِلَّةِ وَعَنْ أَصْلِ الدَّاءِ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الشَّأْنُ فِي النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِعَامَّةٍ وَفِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِخَاصَّةٍ -زَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُسْلِمِينَ عِزَّةً وَكَرَامَةً، وَرَدَّهُمْ إِلَى دِينِهِ رَدًّا جَمِيلًا، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.
الْأَصْلُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُفْسِدُ الرُّوحَ وَهِيَ سَمُّ الرُّوحِ -وَكَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ بِضَمِّ السِّينِ: سُمُّ الرُّوحِ-، كَمَا أَنَّ الْبَدَنَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَرَضِ بِأَسْبَابِهِ وَمُشَخَصِّاتِهِ وَعِلَلِهِ فَيَمْرَضُ، فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَانُونِ الصِّحَّةِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ بِهِ الْحَيَاةُ، فَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ تَدْخُلُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَعَلَى الْقُلُوبِ، ثُمَّ هِيَ عَامِلَةٌ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ وَعَلَى مُسْتَوَى الْمَجْمُوعِ.
أُمَمًا يُذِلُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَخْسِفُ بِهَا الْأَرْضَ، وَأُمَمًا يُغْرِقُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ، وَأُمَمًا يُمَزِّقُهَا رَبُّكَ بِالصَّيْحَةِ حَتَّى تَتَقَطَّعَ فِي الصُّدُورِ نِيَاطُ الْقُلُوبِ.
كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ..
وَإِلَّا؛ فَحَدِّثْنِي بِرَبِّكَ: مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ؛ مِنْ دَارِ السُّرُورِ وَالْهَنَاءِ وَالْحُبُورِ وَالرَّخَاءِ إِلَى دَارِ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ وَالذُّلِّ وَالشَّقَاءِ؟!!
مَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَبْدَلَهُمَا حَالًا مِنْ بَعْدِ حَالٍ؟!!
إِنَّمَا أَخْرَجَتْهُمَا الْمَعْصِيَةُ.
وَمَا الَّذِي أَبْلَسَ إِبْلِيسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَآيَسَهُ مِنْ ظِلِّ رَحْمَةِ رَبِّهِ -وَإِنَّهَا لَتَسَعُ وَتَسَعُ-.. مَا الَّذِي آيَسَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَأَبْلَسَهُ، وَأَبْدَلَ ظَاهِرَهُ أَقْبَحَ مَنْظَرٍ وَأَشْأَمَهُ -وَبَاطِنُهُ أَقْبَحُ مِنْ ظَاهِرِهِ-، وَأَبْدَلَهُ مِنْ هَزَجِ التَّسْبِيحِ وَزَجَلِ التَّهْلِيلِ رِعْدَةَ النَّغَمَاتِ الْفَاسِقَاتِ وَالْكُفْرَانِ وَالْعِصْيَانِ؟!!
مَا الَّذِي أَبْدَلَ إِبْلِيسَ مِمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ؟!!
إِنَّمَا صَنَعَ بِهِ ذَلِكَ شُؤْمُ الْمَعْصِيَةِ.
مَا الَّذِي أَغْرَقَ الْأَرْضَ وَأَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ حَتَّى عَلَتِ الْمِيَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَغَطَّتْ رُؤُوسَ الْجِبَالِ؟!!
كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ.
لِمَاذَا أَهْلَكَتِ الرِّيحُ قَوْمَ عَادٍ فَصَيَّرَتْهُمْ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ كَـ ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: 7]، ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾[الحاقة: 6]؟!!
يَصِفُهَا رَبُّك -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنَّهَا ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: 25]، ثُمَّ يُقَرِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ: ﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ [الحاقة: 8]، ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾ [النجم: 50-51].
وَأَمَّا ثَمُودُ، فَبِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ، فَتَمَزَّقَتِ الْقُلُوبُ فِي الْأَجْوَافِ، فَصَارُوا كَالرِّمَمِ الْبَالِيَاتِ.
مَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ إِلَى مُسْتَوًى تَسْمَعُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَأَمْطَرَهُمُ الْحِجَارَةَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ فِي الْأَرْضِ قَطُّ؟!!
وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: 83].
مَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَسَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ؛ بِقَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ، وَفِعْلِ الْفَوَاحِشِ، وَالْإِذْلَالِ، وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ؟!!
كُلُّ ذَلِكَ بِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾.
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ- قَالَ: ((لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ؛ فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَرَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟)).
فَقَالَ: ((وَيْحَكَ! مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ، تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى!)).
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-: ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ))، قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: ((أَعُوذُ بِوَجْهِكَ))، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((هَذَا أَهْوَنُ -أَوْ: هَذَا أَيْسَر-)).
وَلَوْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا لَرَفَعَهَا، إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَنَعَهُ مِنْهُ سَلَفًا ﷺ؛ فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِيمَا يَرْوِيهِ مُسْلِمٌ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي ((صَحِيحِهِ)): ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ ﷺ: ((سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُ رَبِّي: أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ -أَيْ: بِمَجَاعَةٍ عَامَّةٍ-فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: ((صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاةً فَأَطَالَهَا، قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَلَّيْتَ صَلَاةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا)).
قَالَ: ((أَجَلْ، إِنَّهَا صَلَاةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا)).
فَأَبَى رَبُّكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ.
((أَسْبَابُ انْهِيَارِ الْأُمَمِ.. وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا))
كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فِي النَّظَرِ إِلَى مَرِيضِهِ الْمَطْرُوحِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُنْطَرِحِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ بِنَفَاذِ بَصَرٍ وَنُفُوذِ بَصِيرَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُشَخِّصَ الدَّاءَ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَسْتَطِيعَ تَبَعًا أَنْ يَصِفَ الدَّوَاءَ صَحِيحًا.
فَلْنَنْظُرْ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ، عَسَى أَنْ يَدُلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ هِيَ عَامِلَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، مَنْ سارَ على نهجِهَا أَنْجَحَ وأفلَحَ، ومَنْ لم يَسِرْ على دربِهَا وتَنَكَّبَهَا مستدبرًا إيَّاهَا؛ تَرَدَّى في نتائجِهَا لا محالةَ، وكان ذلك عند ربِّكَ قدرًا مقدورًا.
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي وَصْفِ مَصَارِعِ الْغَابِرِينَ: ﴿وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112].
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، وَأَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِيَضْرِبَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ-.. أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَرْيَةٍ -لَا يُهِمُّ بِحَالٍ أَنْ نَعْرِفَ اسْمَهَا وَلَا رَسْمَهَا، وَإِنَّمَا فَحْوَى الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا دَلَالَةُ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ سَارِيَةٌ فِي كَوْنِ اللهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا- ﴿قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً﴾ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالِاطْمِئْنَانِ، ثُمَّ يَأْتِيهَا الرِّزْقُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَالَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66].
انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾، وَلَكِنَّهُمْ -وَاأَسَفَاهُ!!- أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَخَذَهُم رَبُّكَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا..
قَرْيَةً مَضْرُوبَةً مَثَلًا ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾، وَانْظُرْ لَا مُفَسِّرًا وَلَا مُؤَوِّلًا؛ وَإِنَّمَا مُصْغِيًا بِسَمْعِ الْقَلْبِ لِجَرْسِ كَلِمَةِ (الرَّغَد): ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَضْرِبُ لَنَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ تِلْوَ الْمَثَلِ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ [الأعراف: 68].
لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا رَبَّ النَّاسِ عَلَى يَدِ خَيْرِ النَّاسِ ﷺ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَلَأَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.
إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَبْدَلُوا النِّعْمَةَ كُفْرَانًا، وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالشُّكْرَانِ؛ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ السُّخْطَ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ يَأْتِي عَنْ سَبِيلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
وَانْظُرْ عَنِ النَّبَأِ الْمَضْرُوبِ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأُمَّةٍ ظَاهِرَةٍ قَاهِرَةٍ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: 15].
﴿كَانَ لِسَبَإٍ﴾: وَسَبَأٌ هَذَا أَبُو عَشِيرَةٍ مِنَ الْعَشَائِرِ الْعَظِيمَةِ، انْتَشَرَتْ فِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا بَعْدُ، مِنْهُمُ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي يَثْرِبَ -فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، فَهُوَ أَبُوهُمُ الْأَعْلَى، وَمِنْهُمْ: غَسَّانُ فِي الشَّامِ، وَمِنْهُمْ: خُزَاعَةُ فِي تِهَامَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ جُذَامَ وَعَامِلَةَ وَلَخْمٍ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي جَنُوبِيِّ الْيَمَنِ، يَضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بِهِمُ الْمَثَلَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ -كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- جَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ؛ لِكَيْ يَتَنَاقَلَ النَّاسُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ جِيلًا مِنْ بَعْدِ جِيلٍ؛ لِيَرَوْا الْعِبْرَةَ، وَلِيَتَلَمَّسُوا الْمَوْعِظَةَ، وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَطَاعُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ كَفَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَتَاهُمُ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا كَفَرُوا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -بِمَا قَدَّمَتِ الْأَيْدِي- ذُلًّا، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَعَذَابًا، وَتَقْتِيرًا، وَقُوتًا لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْكَدِّ وَالْكَدْحِ وَالنَّصَبِ، وَرُبَّمَا لَا يَأْتِي بِحَالٍ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ﴾ فِي جَنُوبِيِّ الْيَمَنِ ﴿آيَةٌ﴾ أَيْ: عَلَامَةً ظَاهِرَةً بَيِّنَةً لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾: وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ وَادٍ مُتَّسِعٌ، وَعَلَى فَمِ الْوَادِي جَبَلَانِ عَظِيمَانِ، وَكَانَ السَّيْلُ يَنْزِلُ غَزِيرًا مِدْرَارًا، فَيَسِيرُ مِنْ بَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، حَتَّى إِذَا مَا أَتَى إِلَى الْوَادِي تَشَتَّتَ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ شَيْئًا، فَهُدُوا -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَى إِقَامَةِ سَدٍّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ هُوَ: (سَدُّ مَأْرِبٍ)، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ النِّعْمَةَ الظَّاهِرَةَ: ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ وَذَاكَ، عَلَى سَفْحِهِ، وَحَوَالَيْهِ، وَعَلَى قِمَّتِهِ، وَفِي بَطْنِ الْوَادِي.
وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ: ﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ مُوَحِّدِينَ لِلَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
﴿وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾: وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ كَلَامٌ طَوِيلٌ لَا يَفْرُغُ بِحَالٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْبَلْدَةَ كَانَ مُنَاخُهَا مُعْتَدِلًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُرَى فِيهَا ذُبَابٌ وَلَا بَعُوضٌ وَلَا بَرَاغِيثُ وَلَا هَوَامُّ فِي الْأَرْضِ بِحَالٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَاخَ أَعْدَلُ مَا يَكُونُ، وَأَجْلَى مَا يَكُونُ، وَأَصْفَى مَا يَكُونُ، كَأَنَّمَا أَتَتْ ذَلِكَ الْمَكَانَ -بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- نَفْحَةٌ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ بِنَسِيمٍ وَهَوَاءٍ وَخُضْرَةٍ وَاخْضِرَارٍ، ثُمَّ بِخُلُوٍّ مِنْ كُلِّ مَا يُنَغِّصُ.
وَشَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَأْخُذُ مِكْتَلًا أَوْ زِنْبِيلًا عَلَى رَأْسِهَا مِمَّا تُجْنَى فِيهِ الثِّمَارُ، ثُمَّ تَسِيرُ بِهَذَا الْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا تَحْتَ الْأَشْجَارِ لَا تُكَلِّفُ نَفْسَهَا مَؤُونَةَ قَطْفٍ وَلَا بَحْثٍ عَلَى قِطَافٍ، وَإِنَّمَا تَسِيرُ تَحْتَ الْأَشْجَارِ فَتَتَسَاقَطُ الْأَثْمَارُ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي أَوْ خَرَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ وَجَدَتْ مِكْتَلَهَا قَدْ أَرْبَى وَزَادَ عَلَى مِلْئِهِ بِمَا لَا يُوصَفُ وَلَا يُقَدَّرُ -بِعَطَاءٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾: وَالْعَبْدُ مَهْمَا وَصَلَ وَمَهْمَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِالذَّنْبِ، فَيَأْتِي قَوْلُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾، غَفُورٌ لَكُمْ إِذَا مَا وَقَعْتُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ بِغَلَبَةِ نَفْسٍ، وَأُخْذَةِ شُبْهَةٍ وَشَهْوَةٍ، ثُمَّ عُدْتُمْ وَرَجَعْتُمْ وَنَدِمْتُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ، عِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُوا رَبَّكُمْ غَفُورًا رَحِيمًا كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.
فَمَاذَا صَنَعَ هَؤُلَاءِ؟!!
﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: 16-17].
﴿فَأَعْرَضُوا﴾، فَانْظُرْ مَاذَا صَنَعَ رَبُّكَ بِهِمْ؛ سَلَّطَ عَلَيْهُمُ الْجُرُذَ.. سَلَّطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الْفِئْرَانَ، فَأَخَذَتِ الْفِئْرَانُ تَنْخُبُ فِي أَصْلِ هَذَا السَّدِّ التُّرَابِيِّ، ثُمَّ جَاءَ السَّيْلُ ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ حِجَارَةٍ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَانْدِفَاعٍ، فَأَطَاحَ وَأَذْهَبَ بَقِيَّةَ السَّدِّ مِمَّا لَمْ تَقْوَ عَلَيْهِ الْفِئْرَانُ، فَأَغْرَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ وَادِيَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ انْحَسَرَ، ثُمَّ إِنَّ مَنْسُوبَهُ انْحَدَرَ، فَلَمْ يَبْلُغْ قِمَّةَ جَبَلٍ وَلَا سَفْحَهُ، وَعَادَتِ الْجَنَّتَانِ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي التَّبْدِيلِ، حَتَّى مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ -رَبُّنَا سُبْحَانَهُ- فِي هَذَا التَّبْدِيلِ مِنْ شَيْءٍ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ عِنْدَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَا وَقَعَ قَلَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: ﴿ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾: شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ ثَمَرٍ، وَالْأَثْلُ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ الطُّرَفَاءُ، وَأَمَّا السِّدْرُ: فَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَعْدَلُ وَأَحْلَى مَا كَانَ عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّبْدِيلِ.
وَانْظُرْ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي غُيِّرَتْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَشْكُرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَدَاءَ عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.
﴿وَشَيْءٍ﴾: وَهَكَذَا بِهَذَا التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ التَّقْلِيلَ وَالتَّحْقِيرَ، ﴿وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ﴾: وَهَذَا التَّبْعِيضُ الَّذِي يَأْتِي قَبْلَ قَوْلِهِ ﴿سِدْرٍ﴾.. ﴿مِّنْ سِدْرٍ﴾.. ﴿وَشَيْءٍ مِّنْ سِدْرٍ﴾، ثُمَّ أَتَى بِالتَّقْلِيلِ، فَيَا للهِ مِنْ هَذَا التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ!
وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
إِنَّ أَقْوَامًا يَغْتَرُّونَ بِالنِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْحَالَ يَدُومُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا وَهْمٌ وَكَذِبٌ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَمُتُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِنَسَبٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ -تَعَالَى وَتَنَزَّهُ سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ-.
الْكُلُّ عَبِيدٌ عَلَى قَانُونِ الْعُبُودِيَّةِ يَسِيرُونَ، فَإِنْ أَتَوْا بِقَانُونِهَا وَلَوَازِمِهَا وَمَلْزُومَاتِهَا؛ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفَضْلَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَمْلَى لَهُمْ ظَاهِرًا، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُمْ لَمْ يُفْلِتْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» كَمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.
بَلْ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَـهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 182-183، القلم: 43-44].
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَانُونِهِ الْكَوْنِيِّ وَمِنْ سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَامِلَةِ فِي دُنْيَا النَّاسِ أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الْعَبْدَ يُعْطَى النِّعْمَةَ فَلَا يَزِيدُ عَلَى النِّعْمَةِ إِلَّا مَعْصِيَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ أَخْذَهُ آتٍ وَشِيكٌ لَا مَحَالَةَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
((إِخْبَارُ النَّبِيِّ ﷺ بِتَكَالُبِ الْأُمَمِ عَلَى أُمَّتِهِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى عَلَى فِمِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ حَدِيثًا مِنْ أَحَادِيثِهِ الْعَظِيمَةِ -وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ عَظِيمَةٌ ﷺ- يُشَخِّصُ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ثَوْبَانُ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: « يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».. هَلُمُّوا هَلُمُّوا إِلَى هَذَا الطَّعَامِ!
فَالْأُمَمُ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثِ لَكَفَى وَشَفَى، وَقَادَ قُلُوبَ أَقْوَامٍ بِأَزِمَّتِهَا إِلَى سَوَاءِ الْإِيمَانِ، وَإِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ عُقُودٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ الْكَرِيمُ مُتَحَدِّرًا فِي ظِلَالٍ وَنَدًى يَطْرُقُ سَمْعَ الزَّمَانِ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ-: « يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا -أَوْ: عَلَى قَصْعَتِهَا-».
أَكَلَةٌ وَضَعُوا قَصْعَةً بِطَعَامٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى الطَّعَامِ الْهَنِيءِ! وَالنَّاسُ يَأْتُونَ إِلَى هَذَا الْأَكْلِ الَّذِي يُسَاغُ أَوْ لَا يُسَاغُ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي لَنَا بِالْمَثَلِ الْمَحْسُوسِ: الْأُمَمُ سَتَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ -يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ- كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَتَصِيرُونَ فَرِيسَةً -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- فَرِيسَةً لِأَكَلَةٍ يَتَدَاعَوْنَ، يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَكْفِي أَنْ يُلِمَّ أَحَدُهُمْ بِمَائِدَتِهِ فَيَأْكُلَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ مُكْتَفِيًا بِمَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الزَّادِ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَمْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنَّمَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا: هَلُمَّ هَلُمَّ إِلَى هَذَا الطَّعَامِ!
فَتُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَرِيسَةٍ ﷺ، كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَقَالَ قَائِلٌ: «وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟)).
فَقَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»: وَالْغُثَاءُ: هُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْمَاءُ إِذَا مَا جَرَى مِمَّا يَجْرِفُهُ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ الْمُتَطَايِرِ، وَمِنْ قَشِّ الْأَرْضِ وَحَصَاهَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْبَحَ هَكَذَا طَافِيًا مُتَأَرْجِحًا مَعَ نَغَمَاتِ مَاءٍ مُنْسَابٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُثَاءُ، بَلْ إِنَّ الْغُثَاءَ يَحْمِلُ فِيمَا يَحْمِلُ جِيَفَ حَيَوَانَاتٍ نَفَقَتْ وَرِمَمَ وَجُثَثَ قِطَطٍ وَكِلَابٍ أُزْهِقَتْ أَرْوَاحُهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُحْمَلُ غُثَاءً يَحْمِلُهُ السَّيْلُ.
((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ)).
فَقَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْوَهَنُ؟)).
قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
وَالْحَدِيثُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُطَبَّقٌ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ-.
((دَاءُ الْأُمَّةِ وَدَوَاؤُهَا))
يَقُولُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ»: وَكَأَنَّهُ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِكُلِّ مُعَامَلَةٍ رِبَوَيَّةٍ فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ فِي أَصْنَافِ الْمُعَامَلَاتِ.. ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)).
وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي كُلِّ مَا قَالَ، الْأَمْرُ كَمَا وَصْفَ الْمُخْتَارُ ﷺ، وَمَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى رَفْعِ الذُّلِّ عَنِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْقَانُونِ الْعَظِيمِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾.
انْظُرْ إِلَى الْمُؤَكِّدَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ بِالْقَسَمِ الْمُضْمَرِ وَالْإِتْيَانِ بِوَاوِهِ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ﴾.
ثُمَّ بِإِدْخَالِ اللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ، ثُمَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُثَقَّلَةِ الَّتِي تَأْتِي لِتَوْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدِهِ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾.
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى التَّوْكِيدِ الْمَعْنَوِيِّ فِي قَوْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾؛ فَهَذَا مُؤَكِّدٌ مَعْنَوِيٌّ: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، مَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ﴾.
لَمْ يَقُلِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا مَسَارِحَ الْفَنِّ، وَدُورَ الْبَطَالَةِ، وَمَشَارِبَ الْخُمُورِ!!
لَمْ يَقُلِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ عَاثُوا فِيهَا فَسَادًا!!
وَإِنَّمَا شَخَّصَ رَبُّكَ وَوَصَفَ مَعَ التَّشْخِيصِ دَوَاءَ الدَّاءِ: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
وَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّذْيِيلِ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ لِأَنَّهُ رَبَّمَا قَالَ إِنْسَانٌ: كَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضَعْفٍ وَمِنْ قِلَّةٍ وَمِنْ فَقْرِ ذَاتِ يَدٍ أَنْ نُقَاوِمَ أُمَمَ الْأَرْضِ مِمَّنْ أُوتُوا بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ؟!
فَتْحًا عَلَيْهِمْ، لَا فَتْحًا بِهِمْ، وَلَا فَتْحًا لَهُمْ؛ وَإِنَّمَا فَتْحًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَتَمَّ لَهُمُ الْأَمْرُ ظَاهِرًا أَخَذَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وَلِلظَّالِمِينَ أَمْثَالُهَا!
رُبَّمَا أَتَى هَذَا الْخَاطِرُ فِي خَاطِرِ إِنْسَانٍ يَسْبَحُ فِيهِ وَيَجُولُ، فَيَأْتِي التَّذْيِيلُ فِي الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدِّثر: 31].
فَمَا عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَّا؛ فَالْجَمِيعُ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ لِيُغْرِقَ أَهْلَهَا -رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا-.
عَلَى الْمُسْتَوَى الْقَلِيلِ الْيَسِيرِ تَجِدُ الرَّجُلَ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الْعَنَاءَ لِكَيْ يَشْهَدَ جُمُعَةً مِنَ الْجُمَعِ، فَيَجْلِسُ فِي الْحَرِّ، وَيَجْلِسُ فِي الزِّحَامِ، يَجْلِسُ مُتَضَايِقًا مِنْ مَرَضٍ رُبَّمَا أَلَمَّ بِهِ أَوْ لَمْ يُلِمَّ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْجُمُعَةِ بِشَيْءٍ!
إِمَّا أَنْ يَضْحَكَ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا! وَإِمَّا أَنْ يَعْبَثَ مَعَ هَذَا أَوْ يُكَلِّمَ ذَاكَ!
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ -يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ- فقَدْ لَغَوْتَ)).
بَلْ يَقُولُ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا».
فَشَلٌ.. فَشَلٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْيَسِيرِ، وَفَشَلٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْكَبِيرِ، حَتَّى تُسَلَّطَ عَلَى الْأُمَّةِ عِصَابَةٌ هِيَ شِرْذَمَةٌ قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، هِيَ أَحْقَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، بِمَا قَدَّمَتِ الْأَيْدِي، وَبِمَا اجْتَرَحَتِ الضَّمَائِرُ، وَبِمَا اعْتَمَلَ مِنْ سُوءٍ فِي النِّيَّاتِ.
تُوبُوا للهِ وَأَحْدِثُوا للهِ تَوْبَةً، وَإِلَّا؛ فَإِنَّ الْكُلَّ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَيَغْرَقُ الْجَمْعُ كُلُّهُ لَا مَحَالَةَ -إِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَمْعَ بِرَحْمَتِهِ-، فَاللهم تَدَارْكَنَا جَمِيعًا بِرَحْمَتِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ -عِبَادَ اللهِ-:
((وَاقِعُ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ وَسَبِيلُ الْعَوْدَةِ))
فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَعُدِ النَّاسُ إِلَى رَبِّ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ؛ سَامَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُوءَ الْعَذَابِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38].
﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ [الزمر: 7].
غُثَاءٌ.. مَا يَفْعَلُ رَبُّكَ بِالْغُثَاءِ؟!!
إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ إِلَّا الرِّجَالَ، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ﴾ [النور: 36-37].
لَمْ يَقُلْ: غُثَاءٌ، وَلَمْ يَقُلْ: عِيَالٌ؛ وَإِنَّمَا قَالَ: رِجَالٌ!
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ..﴾ [الأحزاب: 23].
لَمْ يَقُلْ: ذُكُورٌ -أَيْضًا-، وَإِنَّمَا قَالَ: رِجَالٌ، بِمُقَوِّمَاتِ الرُّجُولَةِ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْصُرُ بِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ وَقْتَ مَا يَشَاءُ وَكَيْفَ مَا يَشَاءُ.
فِي ((الزُّهْدِ)) لِأَحْمَدَ بِكَلَامٍ يُرْفَعُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: ((يَا رَبِّ! أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ فَمَا عَلَامَةُ غَضَبِكَ مِنْ رِضَاكَ؟)).
قَالَ: ((إِذَا اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ فَهُوَ عَلَامَةُ رِضَائِي، وَإِذَا اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَهُوَ عَلَامَةُ سَخَطِي)).
النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُحَابِهِ رَبُّهُ وَلَا أَصْحَابَهُ، وَانْكَسَرُوا فِي أُحُدٍ انْكِسَارًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ، وَالنَّبِيُّ وَسَطَهُمْ، بَلِ انْكَسَرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -وَهِيَ سِنٌّ مِنْ أَسْنَانِ النَّبِيِّ ﷺ-، وَجُرِحَ شِقُّهُ -أَيْ: جَنْبُهُ ﷺ-، وَدَخَلَتْ حَلْقَةٌ مِنَ الْمِغْفَرِ -أَيْ: مِنَ الْخَوْذَةِ- فِي وَجْنَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يُدَاوَ الْجُرْحُ إِلَّا بِقِطْعَةٍ مِنْ حَصِيرٍ أُحْرِقَتْ، أَتَتْ بِهَا فَاطِمَةُ فَأَحْرَقَتْهَا، ثُمَّ جَعَلَتْ رَمَادَهَا فِي جُرْحِ الرَّسُولِ ﷺ.
خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ، وَعَصَوْا أَمْرَ رَسُولِ اللهِ؛ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا أَذَاقَهُمْ، لَا يُحَابِي رَبُّكَ أَحَدًا.
هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ يُسَلِّطُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً حَقِيرَةً مِنْ أَحْقَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا وَزْنَ لَهُمْ وَلَا قِيمَةَ وَلَا خَطَرَ، إِلَّا فِي الْكَيْدِ وَالدَّسِّ وَالْإِيضَاعِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَاتَّحَدُوا -مَعَ حِسَابِ فُرُوقِ التَّوْقِيتِ فِي كُلِّ بَلَدٍ- أَنْ يَقُولُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي ثَانِيَةٍ وَاحِدَةٍ: (اللهُ أَكْبَرُ)؛ لَانْهَارَتْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ!
وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ تَفَرَّقَتْ، وَالْهِمَمَ خَارَتْ، وَالْعَزَائِمَ قَدْ فُلَّتْ -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.
وَكُلٌّ يَبْحَثُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- عَنْ دُنْيَاهُ، وَأَمَّا الْبَذْلُ لِدِينِ اللهِ فَأَمْرٌ مَخْفِيٌّ، بَلْ مَوْؤُودٌ، بَلْ مَعْدُومٌ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
أَنْ يَرْسُمُوا مُحَمَّدًا ﷺ فِي صُورَةٍ لَا تَلِيقُ، وَالْقُرْآنَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ أَوَّلَ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالُوا فِي مَرْيَمَ وَقَالُوا فِي الْمَسِيحِ مَا قَالُوا، بَلْ لَقَدْ قَالُوا فِي رَبِّ الْعِزَّةِ -سُبْحَانَهُ- مَا قَالُوا.
وَمَنْ نَظَرَ فِي ((الْعَهْدِ الْقَدِيمِ)) -وَهُوَ كِتَابُهُمُ الْمُقَدَّسُ بِزَعْمِهِم- عَلِمَ عِلْمَ مَا أَقُولُ، إِنَّهُمْ لَيَصِفُونَ رَبَّهُمْ -لَا يَصِفُونَ اللهَ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ، بَلْ هُوَ مَعْبُودُهُمْ هُمْ- (يَهْوَه) رَبُّ الْجُنُودِ، رَبٌّ مُتَعَطِّشٌ لِلدِّمَاءِ، رَبٌّ كَالِحُ الْوَجْهِ، عَبُوسُ الْمَنْطِقِ، لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ بِحَالٍ، يَتَوَعَّدُ وَيَنْقِمُ، وَيَأْتِي بِالرعدِ، وَيَأْتِي بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ فِيهِ رَحْمَةٌ بِحَالٍ -وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-.
أَنْ يَأْتِيَ آتِيهِمْ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ أَمْرٌ لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ..
وَمَا كَلَامُ الْأَنَامِ فِي الشَّمْسِ = إِلَّا أَنَّهَا الشَّمْسُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامُ
وَلَوْ أَنَّ كُلَّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا = قَدْ أَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالًا بِدِينَارِ
وَلَكِنَّ الشَّأْنَ -كُلَّ الشَّأْنِ- فِي الْمُسْلِمِينَ، أَنْتُمْ أُمَّةٌ غَيْرُ مُنْتِجَةٍ، كُلُّ قِطَاعَاتِكُمْ مُسْتَهْلِكَةٌ؛ قِطَاعُ التَّعْلِيمِ يَسْتَهْلِكُ لَا يُنْتِجُ، وَقِطَاعُ الصِّحَّةِ يَسْتَهْلِكُ لَا يُنْتِجُ، وَقِطَاعُ الْحُكْمِ الْمَحَلِيِّ يَسْتَهْلِكُ لَا يُنْتِجُ، كُلُّ قِطَاعَاتِ هَذَا الْبَلَدِ تَسْتَهْلِكُ وَلَا تُنْتِجُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يُنْتِجَ شَيْئًا، مَا مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ شَيْئًا، حَتَّى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا يَفْلَحُ الْأَرْضَ وَيَدْأَبُ عَلَى إِخْرَاجِ نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ يُصْبِحُ فِي جُمْلَةِ أَيَّامِهِ صَرِيعَ سَهَرِهِ أَمَامَ ذَلِكَ الْجِهَازِ الْمَشْؤُومِ يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُ، وَيَحِيدُ بِهِ عَنْ نَهْجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُسْتَقِيمِ.
الشَّأْنُ فِيكُمْ أَنْتُمْ، لَيْسَ الشَّأْنُ فِيهِمْ هُمْ، لَيْسَ الشَّأْنُ شَأْنَهُمْ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيكُمْ أَنْتُمْ، وَلَيْسَ مُعَالَجَةُ الْأَمْرِ تَكُونُ بِإِحْدَاثِ مُظَاهَرَةٍ، وَلَا بِثَوْرَةٍ مُؤَقَّتَةٍ؛ فَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ مِنَ الْبَاطِلِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ نَمَطُ حَيَاةٍ يَتَغَيَّرُ عَلَى نَهْجِ النَّبِيِّ ﷺ كِتَابًا وَسُنَّةً مِنْ غَيْرِ مَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، مِنْ غَيْرِ مَا غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، بَلْ بِالنَّهْجِ الْأَوْسَطِ، بِوَسَطِيَّةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِوَسَطِيَّةِ الْإِسْلَامِ، بِعَدَمِ الْأَخْذِ بِالشَّغْبِ، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْهَرْجِ، وَلَا بِالْأَخْذِ بِالْفِتَنِ، بَلْ بِالْإِقْبَالِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مُنْتِجًا بِحَقٍّ.
لَا أَحَدَ يَعْمَلُ فِي هَذَا الْبَلَدِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، بَلْ إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ -وَتُحَدِّثُهُمْ نُفُوسُهُمْ- أَنْ يَعْمَلُوا مَاذَا يَصْنَعُونَ؟!
يَقُولُ أَحَدُهُمْ -كَمَا يَقُولُ النِّسْوَةُ-: سَأَفْعَلُ فِعْلًا عَظِيمًا، وَسَوْفَ أُنْشِئُ مَشْرُوعًا!
ثُمَّ تَنْظُرُ فِي مَشْرُوعِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ طَوِيلٌ كَالْحَائِطِ، عَرِيضٌ كَأَنَّمَا هُوَ... لَا نُرِيدُ -سَامَحَنِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- أَنْ نَشْتُمَ أَحَدًا.
إِذَا مَا نَظَرْتَ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِئَ -بِزَعْمِهِ كَمَا يَقُولُ النِّسْوَةُ- أَنْ يُنْشِئَ مَشْرُوعًا؛ وَجَدْتَهُ مَشْرُوعًا اسْتِهْلَاكِيًّا مَحْضًا، لَا يَعُودُ عَلَى الْبَلَدِ بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُتَاجِرُ فِي حَلْوَى الْأَطْفَالِ، وَيَصْنَعُ لِلنَّاسِ مَا يَسْتَهْلِكُونَهُ، لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهِ رُبَّمَا مِنْ عِنْدِ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
أُمَّةٌ لَا تَمْلِكُ رَغِيفَهَا بِيَدِهَا كَيفَ تَمْلِكُ قَرَارَهَا؟!!
إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي لَا تُخْرِجُ مِنْ فَاسِهَا رَغِيفَهَا لَا تَمْلِكُ بِحَالٍ قَرَارَهَا!
فَأَنْتِجُوا -عِبَادَ اللهِ-، وَاعْمَلُوا؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ!
حَقًّا إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ، وَجُمْلَةُ الْمُوَظَّفِينَ فِي مِصْرَ لَا يُنْتِجُونَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَمُقَيَّدٌ بِمَوْعِدٍ لَا يَصْنَعُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ شَيْئًا.. لَا يَصْنَعُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ أَنَّهُ اتَّقَى اللهَ فِي هَذَا الْبَلَدِ الْمُسْتَهْدَفِ، وَلَوْ أَنَّهُ اتَّقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي إِسْلَامِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ اتَّقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَبْنَائِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ اتَّقَى اللهَ فِي نَفْسِهِ؛ لَكَانَ حَالُهُ غَيْرَ الْحَالِ.
وَلَكِنَّ جُمْلَةَ الْعَامِلِينَ الْمُوَظَّفِينَ فِي مِصْرَ لَا يَعْمَلُونَ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَأَحَدُهُمْ يَخْرُجُ إِلَى الْمَعَاشِ فِي سِنٍّ مَضْرُوبٍ، تَدْرِي لِمَ يَخْرُجُ النَّاسُ إِلَى الْمَعَاشِ فِي مِصْرَ -وَحَالُهُمْ قَبْلَ الْمَعَاشِ كَحَالِهِمْ بَعْدَهُ-؟!
النَّاسُ يَتَخَرَّجُونَ وَيُحَالُونَ إِلَى الْمَعَاشِ فِي مِصْرَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَفَرَّغُوا لِمُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ؛ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ الْمَعَاشِ لَا يَتَفَرَّغُونَ لَهَا، فَالنَّاسُ يُحَالُونَ إِلَى الْمَعَاشِ هَاهُنَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَفَرَّغُوا لِمُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ وَيَتَّسِعَ الْوَقْتُ لِذَلِكَ!
أَنْتِجُوا -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْحَقِيرَةَ تَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ، تَعْرِفُ كَيْفَ تَصْنَعُ مَا يُمْكِنُ أَن تُصَدِّرَهُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ أَنْتُمْ -أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ أَنْتُمْ يَا جُمْلَةَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ كُلِّ الطَّوَائِفِ وَالنِّحَلِ وَالْمَذَاهِبِ- أَنْتُمْ جَمِيعًا تَزْرَعُونَ مِنْ فَجْرِ التَّارِيخِ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ يُعَلِّمُكُمُ الزِّرَاعَةَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ!
وَفِي أَيِّ مَكَانٍ تَعَلَّمُوهَا؟!
فِي سُهُولِ فِلَسْطِينَ!
وَهَلِ اتَّخَذَ أَحَدٌ سُهُولَ فِلَسْطِينَ يَوْمًا مِنَ الزَّمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَبَرًا تَخْرُجُ مِنْهُ تِقْنِيَّاتٌ حَدِيثَةٌ لِزِرَاعَةٍ يُعَلَّمُهَا أَهْلُ الْوَادِي؟!! أَمْرٌ عَجِيبٌ جِدًّا!!
اعْمَلُوا -عِبَادَ اللهِ-، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الْبَطَالَةِ وَالدَّعَةِ، وَخُذُوا بِنَوَاصِي قُلُوبِكُمْ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى تُفْلِحُوا وَتَنْجَحُوا.
وَأَمَّا مَا يَأْتِي هَؤُلَاءِ فَأَمْرٌ حَقِيرٌ قَلِيلٌ ضَئِيلٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ: إِذَا عُدْتُمْ إِلَى اللهِ، وَجَدَّدْتُمُ التَّوْبَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَحَابَبْتُمْ -وَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْنَكُمْ-، وَ «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»، وَأَمَّا الْيَوْمَ فِي دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ السَّلَامُ إِلَّا عَلَى الْمَعْرِفَةِ، أَمْرٌ خَطِيرٌ جِدًّا!!
سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَقِيلَ لَهُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟)).
قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ -وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ- إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.
اللهم عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.
اللهم أَعِزِّنَا بِالْإِسْلَامِ، اللهم أَعِزِّنَا بِالْإِسْلَامِ، اللهم أَعِزِّنَا بِالْإِسْلَامِ، اللهم أَعِزِّنَا بِالْإِسْلَامِ.
اللهم انْصُرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهم انْصُرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
اللهم انْصُرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُدْسِ الْمُحْتَلَّةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهم عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، اللهم دَمِّرْهُمْ تَدْمِيرًا، اللهم عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، اللهم عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ.
اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم اجْمَعْ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ، اللهم وَحِّدْ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم أَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِسْلَامِ، اللهم أَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِسْلَامِ.
اللهم ارْفَعْ سُخْطَكَ وَمَكْرَكَ وَكَيْدَكَ عَنَّا -يَا اللهُ-، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْـمَـاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 183، القلم: 45].
يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا.
اللهم أَدْرِكْ أُمَّةَ نبيِّكَ، اللهم أَدْرِكْ أُمَّةَ نبيِّكَ بِرَحْمَةٍ شَامِلَةٍ مِنْ عِنْدِكَ.
اللهم وَحِّدْ صُفُوفَهُمْ، اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، اللهم استُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وَآمِنْ رَوْعَاتِهِمْ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَهْلِكْ أَعْدَاءَهُمْ، وَأَدِرِ الدَّائِرَةَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ارْحَمْنَا.
اللهم تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحينَ.
اللهم إِنْ أَرَدْتَّ بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ غَيْرَ فَاتِنِينَ وَلَا مَفْتُونِينَ، وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحْزُونِينَ، وَلَا مُغَيِّرِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ.
اللهم إِنَّ الْأَرْضَ قَدْ ضَاقَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا رَحُبَت فَاجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اللهم اجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اللهم اجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اللهم اجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اللهم اجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، اللهم اجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
اللهم احْفَظْ دِيَارَنَا وَدِيَارَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، اللهم احْفَظْ دِيَارَنَا وَدِيَارَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
وَاحْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَبِرُكْنِكَ الَّذِي لَا يُضَامُ، وَبِقُدْرَتِكَ عَلَيْنَا، لَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ الرَّجَاءُ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.