جَبْرُ الْخَاطِرِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

جَبْرُ الْخَاطِرِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

((جَبْرُ الْخَاطِرِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْأَحَاسِيسِ وَالْمَشَاعِرِ))

فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ مَشَاعِرَ.. دِينُ ذَوْقٍ.. دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ؛ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ آيَةً تُتْلَى، وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى.

هَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِحْسَاسِ..

الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي مُنَفِّذًا لِتَعَالِيمِ الدِّينِ الْأَغَرِّ، الرَّسُولُ ﷺ لَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِسُوءٍ أَبَدًا، يَجِدُ مَا يَسُوءُ فِي بَعْضِ إِخْوَانِهِ وَلَا يُجَبِّهُهُ بِالسُّوءِ، وَأَنَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ سُوءٌ!! وَإِنَّمَا يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، فَيَقُولُ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا!!)).

لِسَانٌ إِنَّمَا يُغْمَسُ فِي دَوَاةِ قَلْبٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ حُلْوٍ، فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِلَّا كُلُّ طَيِّبٍ طَاهِرٍ حُلْوٍ.

وَأَمَّا اللِّسَانُ الْمُنْفَلِتُ، وَأَمَّا الذَّوْقُ النَّشَازُ، وَأَمَّا هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ السُّلُوكِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ، وَأَمَّا التَّهْرِيجُ وَالتَّهْوِيشُ، وَأَمَّا الزِّيَاطُ وَالْهِيَاطُ وَالْمِيَاطُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْإِتْبَاعِ وَالْمُزَاوَجَةِ إِلَى مَا شِيتَ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا دَارَ فِي فَلَكِهِ فَهُوَ بِمَبْعَدَةٍ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حِسٍّ، أَنْ يَكُونَ مُرْهَفَ الْحِسِّ؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُرَاعِيَ تِلْكَ الْمَشَاعِرَ.

كُنْ رَائِعَ الذَّوْقِ، لَطِيفَ الْحِسِّ، مُرْهَفَ الشُّعُورِ؛ وَأَنْتَ -حِينَئِذٍ- مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَأَنْتَ -حِينَئِذٍ- فَاهِمٌ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ عَلَى الْوَجْهِ.

((دَلَائِلُ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِرِسَالَةٍ جَامِعَةٍ لِلْقِيَمِ الْفَاضِلَةِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا، وَمِنْ تِلْكَ الْقِيَمِ الْفَاضِلَةِ: جَبْرُ الْخَوَاطِرِ؛ فَهِيَ قِيمَةٌ تُنْبِأُ عَنْ شَرَفِ النَّفْسِ، وَرِقَّةِ الْقَلْبِ.

وَعِنْدَمَا يَطْرُقُ آذَانَنَا مُصْطَلَحُ (عِبَادَةٍ)؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْكَثِيرِينَ: الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَغَيْرُهَا فَقَطْ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهَا وَكَبِيرِ فَضْلِهَا إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِبَادَاتٍ أَصْبَحَتْ خَفِيَّةً -رُبَّمَا لِزُهْدِ النَّاسِ فِيهَا وَغَفْلَتِهِمْ عَنْهَا-، وَأَجْرُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَظِيمٌ وَأَثَرُهَا جَلِيلٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ: عِبَادَةُ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ.

وَجَبْرُ الْخَوَاطِرِ خُلُقٌ إِسْلَامِيٌّ عَظِيمٌ يَدُلُّ عَلَى سُمُوِّ نَفْسٍ، وَعَظَمَةِ قَلْبٍ، وَسَلَامَةِ صَدْرٍ، وَرَجَاحَةِ عَقْلٍ يَجْبُرُ الْمُسْلِمُ بِهِ نُفُوسًا كُسِرَتْ، وَقُلُوبًا فُطِرَتْ، وَأَجْسَامًا أُرْهِقَتْ، وَأَشْخَاصًا أَرْوَاحُ أَحْبَابِهِمْ أُزْهِقَتْ؛ فَمَا أَجْمَلَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ وَمَا أَعْظَمَ أَثَرَهَا!

وَمِمَّا يُعْطِي هَذَا الْمُصْطَلَحَ جَمَالًا: أَنَّ الْجَبْرَ كَلِمَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ (الْجَبَّارُ)، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].

وَهَذَا الِاسْمُ بِمَعْنَاهُ الرَّائِعِ يُطَمْئِنُ الْقَلْبَ، وَيُرِيحُ النَّفْسَ، فَـ((هُوَ -سُبْحَانَهُ- الذِي يَجْبُرُ الْفَقْرَ بِالْغِنَى، وَالْمَرَضَ بِالصِّحَّةِ، وَالْخَيْبَةَ وَالْفَشَلَ بِالتَّوْفِيقِ وَالْأَمَلِ، وَالْخَوْفَ وَالْحُزْنَ بِالْأَمْنِ وَالِاطْمِئْنَانِ؛ فَهُوَ جَبَّارٌ مُتَّصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الْخَلَائِقِ)).

يَقُولُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (((الْجَبَّارُ) يَعْنِي: الْمُصْلِحُ أُمُورَ خَلْقِهِ، الْمُصَرِّفُهُمْ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ)).

وَيَقُولُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْجَبَّارُ: الَّذِي قَهَرَ جَمِيعَ الْعِبَادِ، وَأَذْعَنَ لَهُ سَائِرُ الْخَلْقِ، الَّذِي يَجْبُرُ الْكَسِيرَ، وَيُغْنِي الْفَقِيرَ)).

وَيَقُولُ الْخَطَّابِيُّ: (((الْجَبَّارُ) هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْخَلْقَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي جَبَرَ مَفَاقِرَ الْخَلْقِ، وَكَفَاهُمْ أَسْبَابَ الْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ)).

((الْجَبَّارُ لَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:

الْأَوَّلُ: جَبْرُ الْقُوَّةِ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْجَبَّارُ الَّذِي يَقْهَرُ الْجَبَابِرَةَ وَيَغْلِبُهُمْ بِجَبَرُوتِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَكُلُّ جَبَّارٍ وَإِنْ عَظُمَ فَهُوَ تَحْتَ قَهْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَجَبَرُوتِهِ، وَفِي يَدِهِ وَقَبْضَتِهِ.

الثَّانِي: جَبْرُ الرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَجْبُرُ الضَّعِيفَ بِالْغِنَى وَالْقُوَّةِ، وَيَجْبُرُ الْكَسِيرَ بِالسَّلَامَةِ، وَيَجْبُرُ الْمُنْكَسِرَةَ قُلُوبُهُمْ بِإِزَالَةِ كَسْرِهَا، وَإِحْلَالِ الْفَرَجِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا، وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ إِذَا صَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْلِهِ.

الثَّالِثُ: جَبْرُ الْعُلُوِّ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- فَوْقَ خَلْقِهِ عَالٍ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ، يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ، وَيَرَى أَفْعَالَهُمْ، وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نُفُوسُهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((النُّونِيَّةِ)) فِي مَعْنَى الْجَبَّارِ:

وَكَذَلِكَ الْجَبَّارُ مِنْ أَوْصَافِهِ = وَالْجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ قِسْمَانِ

جَبْرُ الضَّعِيفِ وَكُلِّ قَلْبٍ قَدْ غَدَا = ذَا كَسْرَةٍ فَالْجَبْرُ مِنْهُ دَانِ

وَالثَّانِ جَبْرُ الْقَهْرِ بِالْعِزِّ الَّذِي = لَا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ

وَلَهُ مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهُوَ الْعُلُوُّ = فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ

مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَّارَةٌ لِلنَّخْلَةِ الْـ = ـعُلْيَا الَّتِي فَاقَتْ لِكُلِّ بَنَانِ)).

لَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى جَبْرِ خَاطِرِ الْمُنْكَسِرِ قَلْبُهُ، وَمَنْ تَشَوَّفَتْ نَفْسُهُ لِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِيجَابًا أَوِ اسْتِحْبَابًا.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَطِيفَةٌ اعْتَبَرَهَا الْبَارِي، وَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَيْهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ.

مِنْهَا: الْمُطَلَّقَةُ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي الْغَالِبِ مُنْكَسِرَةَ الْقَلْبِ حَزِينَةً عَلَى فِرَاقِ بَعْلِهَا؛ أَمَرَ اللهُ بِتَمَتُّعِهَا عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ.

قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].

هَذَا الْعُمُومُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُتْعَةٌ؛ لَكِنْ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ فَالْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ بِحَسَبِ يَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا تَنَصَّفَ الْمَهْرُ، وَكَانَ النِّصْفُ الْحَاصِلُ لَهَا هُوَ الْمُتْعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتِ الْمُتْعَةُ حَقًّا مَعْرُوفًا وَإِحْسَانًا جَمِيلًا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهَا وَقَضَاءِ نَوَائِبِهَا الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ.

وَكَوْنُ ذَلِكَ عُنْوَانًا عَلَى التَّسْرِيحِ بِالْمَعْرُوفِ، وَدَفْعًا لِلْمُشَاغَبَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَاحْتِيَاطًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِمَّا لَعَلَّهُ لَحِقَهُ لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَسْهِيلًا لِلرَّجْعَةِ أَوِ الْمُرَاجَعَةِ إِذَا تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، وَأَحْدَثَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، وَلَهَا مِنَ الْفَوَائِدِ شَيْءٌ كَثِيرٌ.

وَمَدَحَ اللهُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْجَلِيلَةَ بِقَوْلِهِ: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242].

فَسَمَّى هَذِهِ الْأَحْكَامَ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَكْبَرَ دَلَالَةٍ عَلَى عِنَايَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْأَحْكَامَ الصَّالِحَةَ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَا يُصْلِحُ الْعِبَادَ غَيْرُهَا.

وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ زَوْجُهَا عَنْهَا؛ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ جَبْرِ خَاطِرِهَا أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ أَهْلِهِ سَنَةً كَامِلَةً، وَصِيَّةً وَمُتْعَةً مُرَغَّبًا فِيهَا.

وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ اللهُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً، أَوْ كَانَتْ حَامِلًا مُطَلَّقَةً.

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8].

وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ الْقَرَابَةُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، أَوْ حَضَرَهَا مَنْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ، أَوْ مَنْ لَا مَالَ لَهُمْ؛ فَأَعْطُوهُمْ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْضِيَةِ وَجَبْرِ الْخَاطِرِ.

وَلَا تَتَبَرَّمُوا وَتَتَضَايَقُوا إِذَا حَضَرَ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْمَالِ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ، وَلَا تُسِيئُوا إِلَيْهِمْ بِقَوْلٍ، أَوْ تَجْرَحُوا عِزَّتَهُمْ بِكَلِمَةٍ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا، وَلَا تُتْبِعُوا الْعَطِيَّةَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى.

وَفِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ تَرَابُطٌ اجْتِمَاعِيٌّ عَظِيمٌ، وَتَوْثِيقٌ لِوَشَائِجِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَعْمِيقٌ لِخُلُقِ الرَّحْمَةِ بِالضُّعَفَاءِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ.

وَيَدْخُلُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَطْهِيرٌ وَتَزْكِيَةٌ لِلْمُزَكِّي، وَسَدٌّ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ، وَجَبْرٌ لِخَوَاطِرِ الْمُعْطِي الزَّكَاةَ، وَالْمُعْطَى مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الزَّكَاةَ، قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

بَيَّنَ -تَعَالَى- الْحِكْمَةَ فِي الزَّكَاةِ وَبَيَانِ مَصَالِحِهَا الْعَظِيمَةِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِلْمُعْطِي وَالْمُعْطَى وَالْمَالِ وَالْأُمُورِ الْعُمُومِيَّةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَقَوْلُهُ: {تُطَهِّرُهُمْ} أَيْ: مِنَ الذُّنُوبِ وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِهَا مَنْعَ الزَّكَاةِ، وَأَيْضًا إِعْطَاؤُهَا سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ ذُنُوبٍ أُخْرَى؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.

وَمِنْ أَشْنَعِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ: الْبُخْلُ، وَالزَّكَاةُ تُطَهِّرُهُ مِنْ هَذَا الْخُلُقِ الرَّذِيلِ، وَيَتَّصِفُ صَاحِبُهَا بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَتُطَهِّرُ الْمَالَ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْآفَاتِ؛ فَإِنَّ لِلْأَمْوَالِ آفَاتٍ مِثْلَ آفَاتِ الْأَبْدَانِ، وَأَعْظَمُ آفَاتِهَا أَنْ تُخَالِطَهَا الْأَمْوَالُ الْمُحَرَّمَةُ؛ فَهِيَ لِلْأَمْوَالِ مِثْلُ الْجَرَبِ تُسْحِتُهُ، وَتُحِلُّ بِهِ النَّكْبَاتِ وَالنَّوَائِبَ الْمُزْعِجَاتِ، فَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ تَطْهِيرٌ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ، فَيَسْتَعِدُّ بِذَلِكَ لِلنَّمَاءِ وَالْبَرَكَةِ، وَتَوْجِيهِهِ لِلْأُمُورِ النَّافِعَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُزَكِّيهِم بِهَا}،؛فَالزَّكَاةُ هِيَ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، فَهِيَ تُنَمِّي الْمُؤْتِيَ لِلزَّكَاةِ؛ تُنَمِّي أَخْلَاقَهُ، وَتُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي أَعْمَالِهِ، وَيَزْدَادُ الْمُعْطِي الْمُزَكِّي بِالزَّكَاةِ تَرَقِّيًا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَتُنَمِّي الْمَالَ بِزَوَالِ مَا بِهِ ضَرَرُهُ، وَحُصُولِ مَا فِيهِ خَيْرُهُ، وَتُحِلُّ فِيهِ الْبَرَكَةَ مِنَ اللهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؛ بَلْ تَزِيدُهُ.

وَتُنَمِّي -أَيْضًا- الْمُخْرَجَ إِلَيْهِ، فَتَسُدُّ حَاجَتَهُ، وَتَقُومُ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ كَالْجِهَادِ، وَالْعِلْمِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ، وَنَحْوِهَا، وَأَيْضًا تَدْفَعُ عَادِيَةَ الْفَقْرِ وَالْفُقَرَاءِ؛ فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ إِذَا احْتَكَرُوهَا وَاحْتَجَزُوهَا، وَلَمْ يُؤَدُّوا مِنْهَا شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ؛ اضْطُرَّ الْفُقَرَاءُ -وَهُمْ جُمْهُورُ الْخَلْقِ-، وَثَارُوا بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ.

وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ تَسَلَّطَتِ الْبَلَاشِفَةُ عَلَى الْخَلْقِ -يَعْنِي: مَا كَانَ مِنْ ثَوْرَةِ الشُّيُوعِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تُعَالِجُهَا الزَّكَاةُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى تِلْكَ الثَّوْرَةِ إِنَّمَا اسْتَغَلُّوا الْجَمَاهِيرَ فِيمَا يُسَمَّى بِثَوْرَةِ الصَّعَالِيكِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَصَّلُوا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَوْزَةِ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِتَكُونَ شُيُوعِيَّةً بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ؛ فَالزَّكَاةُ تَسُدُّ هَذِهِ الْأَبْوَابَ مِنَ الشَّرِّ-؛ فَالْقِيَامُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى وَجْهِهِ بِعَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَأَدَاءِ حُقُوقِهِ هُوَ السَّدُّ الْمَانِعُ شَرْعًا وَقَدَرًا لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي بِهَا فَسَادُ الْأَدْيَانِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَأَمَرَ -تَعَالَى- الْآخِذَ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ، فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ -الصَّلَاةُ هَاهُنَا عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى: الدُّعَاءِ-؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَطْمِينًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَتَسْكِينًا لِقُلُوبِهِمْ، وَتَنْشِيطًا لَهُمْ، وَتَشْجِيعًا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْفَاضِلِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ وَالسَّاعِيَ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ لِلْمُزَكِّي عِنْدَ أَخْذِهَا فَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ إِذَا أُعْطِيَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُشْرَعَ لَهُ الدُّعَاءُ لِلْمُعْطِي؛ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ، وَفِي هَذَا إِعَانَةٌ عَلَى الْخَيْرِ.

وَدَلَّ تَعْلِيلُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَعَانَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَنَشَطَ عَلَيْهِ، وَسَكَّنَ قَلْبَ صَاحِبِهِ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَمَحْبُوبٌ للهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ مُرَاعَاتُهُ وَمُلَاحَظَتُهُ فِي كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَفَطَّنَ لَهُ فَتَحَ لَهُ أَبْوَابًا نَافِعَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنْ عُقُوبَةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ -أَيْ: لَيُقَطِّعُنَّ ثِمَارَهَا فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ الْمَسَاكِينُ-، وَتَوَاصَوْا أَلَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْهِمْ مِسْكِينٌ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17-20].

((هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِيمَا أَهْدَى إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْجَسِيمَةِ؛ وَهُوَ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالْمُحَارَبَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ: اخْتَبَرْنَاهُمْ {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وَهِيَ: الْبُسْتَانُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَيْ: حَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيَجُذُّنَّ ثَمَرَهَا لَيْلًا؛ لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ وَلَا سَائِلٌ؛ لِيَتَوَفَّرَ ثَمَرُهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ: فِيمَا حَلَفُوا بِهِ.

وَلِهَذَا حَنَّثَهُمُ اللَّهُ فِي أَيْمَانِهِمْ، فَقَالَ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أَيْ: أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((أَيْ: كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ))، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: ((مِثْلُ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ، أَيْ: هَشِيمًا يَبَسًا)))).

وَقَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 23-24] إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26].

((لَمَّا نَهَى -تَعَالَى- عَنِ الشِّرْكِ بِهِ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ، فَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ} قَضَاءً دِينِيًّا، وَأَمَرَ أَمْرًا شَرْعِيًّا {أَلا تَعْبُدُوا} أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ {إِلا إِيَّاهُ}؛ لِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَعْظَمُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الدَّافِعُ لِجَمِيعِ النِّقَمِ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ حَقِّهِ الْقِيَامَ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ، فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَيْهِمَا بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْعَبْدِ، وَلَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ لِلْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مَا يَقْتَضِي تَأَكُّدَ الْحَقِّ وَوُجُوبَ الْبِرِّ.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أَيْ: إِذَا وَصَلَا إِلَى هَذَا السِّنِّ الَّذِي تَضْعُفُ فِيهِ قُوَاهُمَا، وَيَحْتَاجَانِ مِنَ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَهَذَا أَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَذَى نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْذِهِمَا أَدْنَى أَذِيَّةٍ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أَيْ: تَزْجُرْهُمَا وَتَتَكَلَّمْ لَهُمَا كَلَامًا خَشِنًا، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} بِلَفْظٍ يُحِبَّانِهِ، وَتَأَدَّبْ وَتَلَطَّفْ بِكَلَامٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ يَلَذُّ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ نُفُوسُهُمَا، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْعَوَائِدِ، وَالْأَزْمَانِ.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا ذُلًّا لَهُمَا وَرَحْمَةً وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُمَا، أَوِ الرَّجَاءِ لِمَا لَهُمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.

{وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا} أَيِ: ادْعُ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا؛ جَزَاءً عَلَى تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّاكَ صَغِيرًا.

وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتِ التَّرْبِيَةُ ازْدَادَ الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى تَرْبِيَةَ الْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ تَرْبِيَةً صَالِحَةً غَيْرَ الْأَبَوَيْنِ؛ فَإِنَّ لَهُ عَلَى مَنْ رَبَّاهُ حَقَّ التَّرْبِيَةِ)).

((يَقُولُ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} مِنَ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ الْوَاجِبِ وَالْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ الْحَقُّ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ وَالْأَقَارِبِ وَالْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَالْأَزْمِنَةِ، {وَالْمِسْكِينَ} آتِهِ حَقَّهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَمِنْ غَيْرِهَا لِتَزُولَ مَسْكَنَتُهُ، {وَابْنَ السَّبِيلِ}: وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ عَنْ بَلَدِهِ، فَيُعْطَى الْجَمِيعُ مِنَ الْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ الْمُعْطِيَ، وَلَا يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْمِقْدَارِ اللَّائِقِ)).

ابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، فَحَثَّ اللهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْغُرَبَاءِ؛ لِكَوْنِهِمْ فِي مَظِنَّةِ الْوَحْشَةِ وَالْحَاجَةِ، وتَعَذُّرِ مَا يَتَمَكَّنُونَ عَلَيْهِ فِي أَوْطَانِهِمْ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَى مُحْتَاجِهِمْ، وَيُجْبَرُ خَاطِرُ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ بِالْإِكْرَامِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَالدَّعْوَةِ، وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى سَفَرِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ جَبْرَهُ لِقُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ أَوْقَاتَ الشَّدَائِدِ، وَإِجَابَتَهُ لِأَدْعِيَتِهِمْ بِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِانْتِظَارِ الْفَرَجِ عِنْدَ الْأَزَمَاتِ.

فَهَذَا دُعَاءُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِرَبِّهِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَأَمَلُهُ وَقُوَّةُ رَجَائِهِ فِي اللهِ، وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لَهُ، وَجَبْرُ خَاطِرِهِ، وَتَسْكِينُ قَلْبِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].

«وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا- مَا دَعَا بِهِ أَيُّوبُ رَبَّهُ لِيَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَطَالَ أَمَدُهُ فِيهِ؛ حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّهِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فَاكْشِفْهُ عَنِّي، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ، فَأَزَلْنَا مَا بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي جَسَدِهِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ مَا فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.

فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً عَظِيمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى الْبَلَاءِ، رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ، مُنْقَادٍ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ».

وَجَبَرَ اللهُ قَلْبَ نَبِيِّهِ يُونُسَ ﷺ وَهُوَ فِي ظُلُمَاتٍ مِنْ فَوْقِهَا ظُلُمَاتٌ، وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ، وَنَجَّاهُ مِنَ الْغَمِّ وَالْهَمِّ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.

وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.

فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ-، تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ، قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.

أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.

وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.

وَجَبَرَ اللهُ قَلْبَ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَقُلُوبَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمَ حِصَارِ الْأَحْزَابِ لِلْمَدِينَةِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْحَالَ الَّتِي أَدْرَكَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ حَاصَرَهُمُ الْأَحْزَابُ فِي الْمَدِينَةِ وَهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرُوهُ؛ لِلدِّفَاعِ عَنْ وُجُودِهِمْ، وَحِمَايَةِ بَلَدِهِمْ مِنْ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَوَامِعَ الْبِشْرِ، وَمَسَالِكَ النَّصْرِ الَّذِي آتَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي تَبْدِيدِ هَذِهِ الْمَخَاوِفِ، وَكَسْرِ عَصَا هَذِهِ الْجُمُوعِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وَقَالَ -أَيْضًا- فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].

فَالزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْخَوْفُ وَبُلُوغُ الرُّعْبِ وَالشِّدَّةِ قُلُوبَ الْعِبَادِ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ، أَمَّا الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَمِنْ إِدْرَاكِ عِبَادِهِ بِالْفَرَجِ؛ فَحَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ حَالِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعِبَادُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].

وَجَبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قُلُوبَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْبَارِهِمْ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَ«أَنَّ الْفَرَجَ مَعَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاكَمَتِ الشَّدَائِدُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَضَاقَ الْعَبْدُ ذَرْعًا بِحَمْلِهَا؛ فَرَّجَهَا فَارِجُ الْهَمِّ، كَاشِفُ الْغَمِّ، مُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَهَذِهِ عَوَائِدُهُ الْجَمِيلَةُ؛ خُصُوصًا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ؛ لِيَكُونَ لِذَلِكَ الْوَقْعُ الْأَكْبَرُ وَالْمَحَلُّ الْأَعْظَمُ، وَلِيَجْعَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ مَا يُوَازِنُ وَيَرْجَحُ بِمَا جَرَى عَلَى الْعَبْدِ بِلَا نِسْبَةٍ».

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ، وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

«يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.

وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.

فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أَيِ: الْفَقْرُ، وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ؛ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلُ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ؛ وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}؟ فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ-؛ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ.. إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].

فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ».

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

«قُلْ لَهُمْ: اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخَلِّصُكُمْ فِي الظُّلُمَاتِ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَمِنَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ غَمٍّ شَدِيدٍ».

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].

«وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى حِمَايَةِ مَنِ احْتَمَى بِهِ، مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، كَفَاهُ وَحَمَاهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بَعْدَ اللهِ أَحَدًا يُؤَمِّنُهُ فَيَكْفِيهِ وَيَحْمِيهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ».

وَمِنْ تَمَامِ وَكَمَالِ جَبْرِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خَوَاطِرَ عِبَادِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وَقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3])).

فَهَذَا أَصْلٌ قَدِ اعْتَبَرَهُ اللهُ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى بَالِهِ فِي وَقْتِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَيَعْتَبِرَهُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! وَكَمَا أَوْلَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذَا الْخُلُقَ الْعَظِيمَ -خُلُقَ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ- عِنَايَةً كَبِيرَةً فَكَذَلِكَ أَوْلَاهُ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَعْظَمَ عِنَايَةٍ وَأَجَلَّ اهْتِمَامٍ، فَدَلَّنَا ﷺ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَتَطْيِيبُ الْخَوَاطِرِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَتَطْيِيبُ النُّفُوسِ الْمُنْكَسِرَةِ وَجَبْرُ الْخَوَاطِرِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَدَبٌ إِسْلَامِيٌّ رَفِيعٌ، وَخُلُقٌ نَبَوِيٌّ سَامٍ عَظِيمٌ لَا يَتَخَلَّقُ بِهِ إِلَّا أَصْحَابُ النُّفُوسِ النَّبِيلَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّامِيَةِ.

وَجَبْرُ النُّفُوسِ مِنَ الدُّعَاءِ الْمُلَازِمِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَقَدْ ((رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: ((اللهم اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْزُقْنِي)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي» أَيْ: إِنَّكَ تَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يَغْفِرَ لَكَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا؛ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ.

وَأَمَّا: «ارْحَمْنِي»: فَهُوَ طَلَبُ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّتِي بِهَا حُصُولُ الْمَطْلُوبِ، وَبِالْمَغْفِرَةِ زَوَالُ الْمَرْهُوبِ، هَذَا إِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، أَمَّا إِذَا فُرِّقَتِ الْمَغْفِرَةُ عَنِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَشْمَلُ الْأُخْرَى، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: فَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ إِذَا ذُكِرَا جَمِيعًا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى، وَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ صَارَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، أَيْ: إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «ارْزُقْنِي» فَهُوَ طَلَبُ الرِّزْقِ، وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْبَدَنُ، وَمَا يَقُومُ بِهِ الدِّينُ؛ يَعْنِي: أَنَّ رِزْقَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: مَا يَقُومُ بِهِ الْبَدَنُ مِنْ طَعَامٍ، وَشَرَابٍ، وَلِبَاسٍ، وَسَكَنٍ، وَمَا يَقُومُ بِهِ الدِّينُ مِنْ عِلْمٍ، وَإِيمَانٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ. وَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَى اسْتِحْضَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مُنْتَفِعًا.

فَإِذَا قَالَ: «ارْزُقْنِي» يَعْنِي: ارْزُقْنِي مَا بِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ، وَمَا بِهِ قِوَامُ الدِّينِ.

قَوْلُهُ: «وَعَافِنِي» أَيْ: أَعْطِنِي الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ دِينِيٍّ أَوْ بَدَنِيٍّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ متَّصِفًا بِهَذَا الْمَرَضِ فَهُوَ دُعَاءٌ بِرَفْعِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّصِفٍ فَهُوَ دُعَاءٌ بِدَفْعِهِ؛ بِحَيْثُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا سَأَلَ الْعَافِيَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ الْعَافِيَةَ؛ عَافِيَةَ الْبَدَنِ، وَعَافِيَةَ الدِّينِ.

قَوْلُهُ: «وَاجْبُرْنِي»: الْجَبْرُ يَكُونُ مِنَ النَّقْصِ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ نَاقِصٌ مُفَرِّطٌ مُسِرفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ أَوِ الْقُصُورِ عَنْهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى جَبْرٍ حَتَّى يَعُودَ سَلِيمًا بَعْدَ كَسْرِه؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى جَبْرٍ يَجْبُرُ لَهُ النَّقْصَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ.

فَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْأَدْعِيَةِ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا)).

وَنَبِيُّنَا ﷺ هُوَ أَسْمَى وَأَنْبَلُ مَنْ مَشَى عَلَى ظَهْرِهَا، وَأَعْظَمُ مَنْ جَبَرَ بِخَاطِرِ يَتِيمٍ وَأَرْمَلَةٍ وَضَعِيفٍ مِسْكِينٍ ﷺ؛ فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ.

يَبْذُلُ ﷺ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا غَابَ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ رُبَّمَا، كَمَا فَعَلَ مَعَ بَعْضِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَكَانَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أَحْوَالِ أُمَّتِهِ وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَانَ لَا يُقَبِّحُ الْحَسَنَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إِسْرَافِهِ فِي إِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ، غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَفْعَلُ، وَكَانَ مُتْنَبِهًا لِكُلِّ أَمْرٍ فِيهِمْ، فَكَانَ لَا يُثْقِلُ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْلِيفِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، فَإِذَا وَعَظَهُمْ تَخَوَّلَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ حَتَّى لَا يَمَلُّوا.

وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ مَجْلِسًا خِيَارُ النَّاسِ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ عِنْدَهُ أَحْسَنُهُمْ مُعَاوَنَةً وَمُؤَازَرَةً فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمِحَنِ وَالْمَوَاقِفِ، وَكَانَ ﷺ إِذَا دَخَلَ مَجْلِسَهُ أَوْ قَامَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا جَالِسِينَ، جَلَسَ فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ يَجِدُهُ خَالِيًا، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِهِ، وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ أَنْ يَفْعَلُوا، إِعْرَاضًا عَنْ رُعُونَةِ النَّفْسِ، وَعَنْ تَرَفُّعِهَا الْكَاذِبِ.

وَكَانَ ﷺ لَا يَخُصُّ أَحَدًا بِالْكَلَامِ دُونَ أَحَدٍ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَالِسِينَ لَهُ حَظٌّ عِنْدَهُ مِنَ السَّمَاعِ وَالِاسْتِمَاعِ، حَتَّى لَا يَظُنَّ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.

وَمَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ ﷺ فَإِنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْجَرُ مِنْهُ، وَلَا يُهْمِلُهُ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنْهُ الْمُتَحَدِّثُ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَا يَرُدُّهُ إِلَّا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَطْلَبَهُ، صَرَفَهُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَتَطْيِيبِ الْخَاطِرِ، فَكَرَمُهُ وَجُودُهُ شَمِلَ النَّاسَ جَمِيعًا، تَمَامًا كَمَا يَفْعَلُ الْأَبُ الْعَادِلُ تِجَاهَ أَوْلَادِهِ جَمِيعًا غَيْرَ مُفَرِّقٍ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَالْكُلُّ عِنْدَهُ ﷺ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ أَوْ أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَأَمَّا عَنِ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمٍ وَحِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، كَمَا لَا تُعَابُ وَلَا تُغْتَابُ فِيهِ حُرُمَاتُ النَّاسِ، فَهُوَ مَجْلِسٌ شَرِيفٌ نَظِيفٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ شُرَفَاءُ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَإِنْ صَدَرَتْ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ سَقْطَةٌ أَوْ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ، فَلَا يُسْمَعُ لَهَا خَبَرٌ خَارِجَ الْمَجْلِسِ؛ لِهَيْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَلَالِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى إِغْضَابِهِ، أَوْ قُلْ: لِحُسْنِ أَخْلَاقِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ تَخَلَّقُوا بِخُلُقِ النُّبُوَّةِ مِنْ مَنْبَعِهَا الْأَصِيلِ، فَهُمْ عِنْدَهُ جَمِيعًا مُتَسَاوُونَ، فَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

وَتَجِدُ الْكَبِيرَ فِيهِمْ مُتَوَاضِعًا، يَحْتَرِمُونَ الْكَبِيرَ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ، وَيُرَاعُونَ الْغَرِيبَ وَيُكْرِمُونَهُ.

وَمِنْ دَلَائِلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ: مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)).

وَكَانَ ﷺ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذَا؟! أَرْسِلْنِي)). فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَعَلَ لا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ، يَقُولُ: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)).

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِذَنْ -وَاللهِ- تَجِدُنِي كَاسِدًا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ))، أَوْ قَالَ: ((أَنتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ)). هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ))، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ زَاهِرٍ نَفْسِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الشَّيْخُ نَاصِرٌ أَيْضًا -رَحِمَهُ اللهُ-.

((أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا))، وَهُوَ زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ الْأَشْجَعِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ))؛ يَعْنِي: مِنَ الْحَضَرِ، حَيْثُ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ((إِلَى الْبَادِيَةِ))؛ يَعْنِي: يُعْطِيهِ عِنْدَ عَزْمِهِ الْعَوْدَةَ إِلَى الْبَادِيَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطُّرَفِ وَالْمُسْتَحْسَنَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْحَاضِرَةِ، وَلَا تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ، فَيُعْطيِهِ مَا يُعِينُهُ وَمَا يَزِيدُ عَلَى كِفَايَةِ أَهْلِهِ؛ رَدًّا لِهَدِيَّتِهِ.

((وَكَانَ يَهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ))؛ أَيْ: جَرَتْ عَادَتُهُ أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا يُوجَدُ بِالْبَادِيَةِ مِنْ ثِمَارٍ وَنَبَاتٍ وَدُهْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَتَوَفَّرُ فِي الْحَضَرِ.

((وَكَانَ زَاهِرٌ رَجُلًا دَمِيمًا))؛ يَعْنِي: قَبِيحَ الصُّورَةِ، كَرِيهَ الْمَنْظَرِ، مَعَ كَوْنِهِ سَلِيمَ الطَّوِيَّةِ، مَلِيحَ الْمَخْبَرِ.

((وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ))؛ أَيْ: فِي السُّوقِ.

((فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ))؛ أَيْ: أَدْخَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبِطَيْ زَاهِرٍ، وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَالرَّجُلُ -أَيْ: زَاهِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- لَمْ يَرَهُ.

((فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟! أَرْسِلْنِي))؛ أَيْ: أَطْلِقْنِي.

((فَالْتَفَتَ))؛ أَيْ: فَنَظَرَ بِبَعْضِ بَصَرِهِ.

((فَجَعَل لَا يَأْلُو))؛ يَعْنِي: لَا يُقَصِّرُ.

((مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ))؛ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ؛ فَالْمَعْنَى: فَشَرَعَ لَا يُقَصِّرُ فِي إِلْصَاقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ.

((قَالَ: فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ...))؛ أَيْ: أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: ((فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ))؛ فَكَرَّرَ أَنَّهُ عَرَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى؛ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الِالْتِصَاقَ مَنْشَؤُهُ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ غَيْرُ.

فَلَمَّا عَرَفَهُ، جَعَلَ لَا يُقَصِّرُ فِي إِلْصَاقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟!!)): هَذَا حَضٌّ لِزَاهِرٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللهِ، بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِيمَا يُرْضِي اللهَ، أَوْ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

وَأَمَّا عَرْضُهُ لِلْبَيْعِ، فَإِنَّمَا هُوَ مُزَاحٌ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ يَعْنِي: مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ حَضٌّ لِزَاهِرٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللهِ، بِبَذْلِهَا فِيمَا يُرْضِي اللهَ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

وَالْعَرْضُ لِلْبَيْعِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْمُزَاحِ فَقَطْ.

الرَّاجِحُ فِي الْقَوْلَيْنِ هُوَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟!!))؛ الَّذِي أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَقَالَ زَاهِرٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِذَنْ -وَاللهِ- تَجِدُنِي كَاسِدًا))؛ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا، سِلْعَةٌ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهَا مُشْتَرٍ.

مَحَلُّ الْقَسَمِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ زَاهِرٍ: خَوْفُ زَاهِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ كَاسِدًا عِنْدَ اللهِ، فَهُوَ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ سِلْعَةً بَائِرَةً كَاسِدَةً عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: ((لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ)). أَوْ قَالَ: ((أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ))؛ أَكَّدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ بِخَاسِرٍ، وَلَا كَاسِدٍ، وَأَنَّهُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو قِيمَةٍ عِنْدَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ إِلَّا الْمَعْصُومُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ))؛ أَتَى بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْمُعْجِزِ الْبَلِيغِ؛ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ، أَنْتَ يَا زَاهِرُ تُوَفِّرُ عَلَيْنَا عَنَاءَ الْحُصُولِ عَلَى بَعْضِ احْتِيَاجَاتِنَا مِنَ الْبَادِيَةِ، وَنَحْنُ -أَيْضًا- نَفْعَلُ مَعَكَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِاحْتِيَاجَاتِكَ مِنَ الْحَضَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، نُقَابِلُ الْهَدِيَّةَ بِالْهَدِيَّةِ، وَلَيْسَ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ مَعْنَى الْمَنِّ بِالْعَطِيَّةِ، كَمَا فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَسْبُرْ غَوْرَ عِبَارَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَكِنْ هَذَا إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ إِلَى مُقَابَلَةِ الْهَدِيَّةِ بِمِثْلِهَا أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنَ التَّخَلُّقِ بِالْمُجَامَلَةِ، وَفِيهِ تَطْيِيبٌ لِلْخَوَاطِرِ.

((تَجِدُنِي كَاسِدًا))، لَا يَرْغَبُ فِيَّ أَحَدٌ.

قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ وَسِيمًا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِوَسِيمٍ وَلَا وَجِيهٍ عِنْدَ اللهِ، زَاهِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُخْبِرُهُ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ مُرْتَفِعُ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَكُنْ جَمِيلًا، كَانَ دَمِيمًا كَمَا فِي الْخَبَرِ، كَانَ قَبِيحَ الشَّكْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَكِنَّهُ كَانَ وَجِيهًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلَّهِ، وَحُبِّهِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ)).

فَقَالَ: ((يَا أُمَّ فُلانٍ! إِنَّ الْجَنَّةَ لا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ)).

قَالَ: ((فَوَلَّتْ تَبْكِي)).

فَقَالَ: ((أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35-37])). هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الشَّمَائِلِ))، وَالْحَسَنُ: هُوَ الْبَصْرِيُّ، فَهَذَا الْحَدِيثُ -كَمَا تَرَى- مُرْسَلٌ، فَالْحَسَنُ تَابِعِيٌّ، وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ إِلَى الْحَسَنِ أَيْضًا فِيهِ ضَعْفٌ، وَحَسَّنَ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ- هَذَا الْحَدِيثَ فِي ((غَايَةِ الْمَرَامِ)) لِشَاهِدٍ لَهُ.

إِذَنْ؛ بِتَحْسِينِ الشَّيْخِ نَاصِرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لِلْحَدِيثِ، هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الْأَبْكَارُ: جَمْعُ (بِكْرٍ) وَالْبِكْرُ: هِيَ الْعَذْرَاءُ.

قَالَ: ((أَتَتْ عَجُوزٌ))؛ أَيِ: امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَا يُقَالُ: عَجُوزَةٌ، فَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَجُوزٌ.

((ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ))؛ أَيِ: ادْعُ اللهَ لِي أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ.

((فَوَلَّتْ تَبْكِي))؛ يَعْنِي: ذَهَبَتْ تَبْكِي؛ لِأَنَّهَا فَهِمَتْ أَنَّهَا لَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ.

قَالَ: ((أَخْبِرُوهَا))؛ أَيْ: أَعْلِمُوهَا وَأَنْبِئُوهَا، ((أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35-37])).

وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: ((مَا شَبِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ خُبْزٍ قَطُّ وَلَحْمٍ إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ)).

قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: ((سَأَلْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: مَا الضَّفَفُ؟)).

فَقَالَ: ((أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَ النَّاسِ)). هَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ -أَيْضًا- عَنْ عَائِشَةَ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ.

فَـ((الضَّفَفُ)): هُمُ الضِّيفَانُ، فَإِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الضِّيفَانُ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْبَعُ؛ لِضَرُورَةِ الْإِينَاسِ وَالْمُجَابَرَةِ؛ لِيَجْبُرَ خَاطِرَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ وَقَالَ: أَنَا زَاهِدٌ فِيهِ، وَأَتَقَلَّلُ مِنَ الطَّعَامِ، لَا يَنْفَعُ هَذَا! هَذَا لَيْسَ مِنْ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَشْبَعُ ﷺ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضِيفَانٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِينَاسِ وَالْمُجَابَرَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ يَشْبَعُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ قَطُّ ﷺ.

((أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَ النَّاسِ))، كَمَا كَانَ أَبُو الضِّيفَانِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلِ، لَا يَطْعَمُ وَحْدَهُ، فَإِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ أَوْ تَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْتَمَسَ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ، وَلَوْ أَبْعَدَ، وَلَوِ انْتَظَرَ مَا انْتَظَرَ، فَكَانَ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ ﷺ.

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: ((جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي))؛ يَعْنِي: لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا لِلنَّبِيِّ خَاصَّةً، فَيَقُولُ قَائِلٌ الْآنَ: أَنَا سُنِّيٌّ أَتَّبِعُ النَّبِيَّ ﷺ، هَبِينِي نَفْسَكِ، فَتَقُولُ: وَهَبْتُ لَكَ نَفْسِي، فَيَبْلُغُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ، هَذَا فِعْلُ الدُّعَّارِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الْفُجَّارِ، وَلَيْسَ مِنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَنَظَرَ وَصَوَّبَ))؛ نَظَرَ الْخَاطِبِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَصَوَّبَ: يَعْنِي: صَعَّدَ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ، فَخَفَضَ بَصَرَهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَلَمْ يُرِدْ ﷺ أَنْ يَرُدَّهَا كَاسِرًا خَاطِرَهَا، فَسَكَتَ، عَسَى أَنْ تَفْهَمَ هِيَ فَتَنْصَرِفَ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: ((زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ)).

قَالَ: ((عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا)).

قَالَ: ((لَا))؛ يَعْنِي: مَا عِنْدِي شَيْءٌ.

قَالَ: ((انْظُرْ)).

فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: ((وَاللهِ! إِنْ وَجَدْتُ شَيْئًا))؛ يَعْنِي: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا.

قَالَ: ((اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)).

فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: ((لَا -وَاللهِ- وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)).

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! -وَكَأَنَّهُ وَجَدَ حَلًّا- أُصْدِقُهَا إِزَارِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِزَارُكَ إِنْ لَبِسَتْهُ هِيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ)). يَعْنِي: هَذَا حَلٌّ لَا يُرْضِي، سَتُعْطِيهَا الْإِزَارَ الْآنَ، وَتَبْقَى أَنْتَ عَارِيًا؟!

فَتَنَحَّى الرَّجُلُ، فَجَلَسَ، فَرَآهُ النَّبِيُّ ﷺ مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَقَالَ: ((مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟!!)).

قَالَ: ((سُورَةُ كَذَا وَكَذَا)). لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا.

قَالَ: ((قَدْ مَلَّكْتُهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)).

فَجَعَلَ الْقُرْآنَ صَدَاقَهَا وَمَهْرَهَا، وَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ مَهْرٍ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَقْطَعُ رَجَاءَ أَحَدٍ سَأَلَهُ شَيْئًا، فَيُعْطِيهِ إِنْ وَجَدَ عِنْدَهُ طَلَبَهُ، وَيُطَيِّبُ خَاطِرَهُ إِنْ لَمْ يَجِدْهُ، فَلَا يَجْعَلُهُ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ خَائِبَ الرَّجَاءِ.

((جَبْرُ الْخَوَاطِرِ فِي كُتُبِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ))

عِبَادَ اللهِ! لِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ النَّبِيلَةِ وَهَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَهُوَ جَبْرُ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبُ النُّفُوسِ خَاصَّةً لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ أَوْرَدَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ.. نَصَّ أَهْلُ الْمُعْتَقَدِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِمْ فِي الْعَقِيدَةِ، فَقَالَ الْإِمَامُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِهِ ((الْحُجَّةُ فِي بَيَانِ الْمَحَجَّةِ)): ((وَمِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّوَرُّعُ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ)).

ثُمَّ قَالَ: ((وَمُوَاسَاةُ الضُّعَفَاءِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللهِ)).

إِنَّ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَطَرِيقَتِهِمُ: الْإِحْسَانَ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.

وَالْيَتَامَى: جَمْعُ يَتِيمٍ، وَهُوَ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ.

وَشَرْعًا: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَالْيُتْمُ لَا يَكُونُ بَعْدَ الِاحْتِلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِمَّنْ مَاتَ أَبُوهُ.

وَأَمَّا مَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَهُوَ لَطِيمٌ.

فَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَهُوَ عَدِيمٌ.

فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَأْمُرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى، وَهُوَ: رِعَايَةُ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالشَّفَقَةُ بِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَتِيمَ قَدِ انْكَسَرَ قَلْبُهُ بِفَقْدِ أَبِيهِ، فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ.

وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى يَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ؛ فَقَدْ يَكُونُ الْيَتِيمُ غَنِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعَقُّلِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ بِفَقْدِ رِقَابَةِ الْأَبِ عُرْضَةً لِإِغْوَاءِ أَهْلِ الشَّرِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِهِ الْمَرْءُ ذَلِكَ الْيَتِيم فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي أَخْلَاقِهِ وَدِينِهِ وَتَعْلِيمِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَفِّهِ عَنِ الشُّرُورِ وَمُخَالَطَةِ أَهْلِ السُّوءِ.

وَكَانُوا قَدِيمًا إِذَا فَقَدَ الْيَتِيمُ أَبَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يَفْقِدُ مِنْهُ إِلَّا شَخْصَهُ، يَعْنِي إِذَا مَاتَ الْعَائِلُ، فَإِنَّ الْأُسْرَةَ لَا تَفْقِدُ إِلَّا شَخْصَهُ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ كُلُّهَا فَتُقْضَى؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عَلَى حَسَبِ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.

وَالْمَسَاكِينُ: هُمُ الْفُقَرَاءُ، وَهُوَ هُنَا شَامِلٌ لِلْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ.

فَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حُقُوقًا خَاصَّةً فِي الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ.

وَوَجْهُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْكَنَهُمْ، وَأَضْعَفَهُمْ، وَكَسَرَ قُلُوبَهُمْ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِمْ؛ جَبْرًا لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ النَّقْصِ وَالِانْكِسَارِ.

((سُبُلُ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ جَبْرَ الْخَوَاطِرِ لَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ؛ فَقَدْ يَكُونُ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، أَوْ لَمْسَةٍ حَانِيَةٍ، أَوْ بَسْمَةٍ صَافِيَةٍ، أَوْ نَظْرَةٍ رَاضِيَةٍ، وَيَعْظُمُ حِينَمَا تُنَفِّثُ عَنْ مَكْرُوبٍ، أَوْ تَأْخُذُ بِيَدَيْ ضَعِيفٍ، أَوْ تُعْطِي مِسْكِينًا، أَوْ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ، وَمَنْ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ جَابِرًا لِلْخَوَاطِرِ أَدْرَكَهُ اللهُ فِي جَوْفِ الْمَخَاطِرِ.

لَقَدْ شَرَعَ دِينُنَا الْحَنِيفُ كَثِيرًا مِنْ سُبُلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبِ النُّفُوسِ:

*وَمِنْ ذَلِكَ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.

فِي الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾.

فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».

*وَمِنْ سُبُلِ تَطْيِيبِ النُّفُوسِ وَجَبْرِ الْخَوَاطِرِ: الِابْتِسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

يَعْنِي: ((أَنَّ إِظْهَارَكَ الْبَشَاشَةِ وَالْبِشْرِ إِذَا لَقِيتَهُ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا تُؤْجَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ))، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا تُطَيِّبُ النُّفُوسَ، وَتَزِيدُ الْمَحَبَّةَ.

*وَمِنْ سُبُلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبِ النُّفُوسِ: التَّعْزِيَةُ وَالْمُوَاسَاةُ.. تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَتَسْلِيَتُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ، وَتَخْفِيفُ الْأَلَمِ الَّذِي أَصَابَهُمْ عِنْدَ فَقْدِ مَيِّتِهِمْ.

التَّعْزِيَةُ هِيَ: حَمْلُ ذَوِي الْمَيِّتِ عَلَى الصَّبْرِ وَفَضْلِهِ، وَالِابْتِلَاءِ وَأَجْرِهِ، وَالْمُصِيبَةِ وَثَوَابِهَا.

أَوْ هِيَ: الْحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ وَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالْمُصَابِ.

وَالتَّعْزِيَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ: التَّقْوِيَةُ، بِمَعْنَى: تَقْوِيَةِ الْمُصَابِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ؛ بِأَنْ تُورِدَ لَهُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي فَضِيلَةِ الصَّبْرِ مَا يَجْعَلُهُ يَتَسَلَّى وَيَنْسَى الْمُصِيبَةَ، لَا أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ الْمُعَزِّي لِيُثِيرَ أَحْزَانَهُ، مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَ لِيُعَزِّيَهُ بِابْنِه -مَثَلًا- فَيَقُولُ: هَذَا وَلَدٌ شَابٌّ، وَكَانَ نَابِغَةً، وَلَكِنْ مَاذَا نَصْنَعُ؟ لَوْ كَانَ عَاشَ لَخَرَجَ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا، فَمَا يَزَالُ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى يُهَيِّجَ عَلَيْهِ أَحْزَانَهُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَوَعَدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ.. عَلَى تَعْزِيَةِ الْمُؤْمِنِ فِي مُصِيبَتِهِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِ هَذَا الْأَجْرَ الْكَبِيرَ: ((إِلَّا كَسَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ))، وَأَيْضًا: ((مَنْ عَزَّى أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي مُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللهُ حُلَّةً خَضْرَاءَ، يُحْبَرُ -أَيْ: يُغْبَطُ- بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

فَهَذَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

*مِنْ وَسَائِلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ: إِخْرَاجُ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ؛ فَمِنْ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ: «أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِر، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعَرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ} [القصص: 77]، فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَالزَّكَاةُ هِيَ خَيْرُ مَا يَكُونُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤَدِّي بِهَا فَرِيضَةً وَيَنْفَعُ إِخْوَانَهُ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَغِيظُهُ أَنْ يَجِدَ هَذَا الرَّجُلَ يَرْكَبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَيَسْكُنُ مَا شَاءَ مِنْ الْقُصُورِ، وَيَأْكُلُ مَا يَشْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ.

وَأَمَّا هَذَا الْفَقِيرُ؛ فَلَا يَرْكَبُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الْأَسْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا جَادَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ كَسَرُوا ثَوْرَتَهُمْ، وَهَدَّأُوا غَضْبَتَهُمْ، وَقَالُوا: لَنَا إِخْوَةٌ يَعْرِفُونَنَا فِي الشِّدَّةِ، فَيَأْلَفُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيُحِبُّونَهُمْ».

وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْيَتَامَى شَيْئًا مِنْ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ؛ فَمِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ يُخَصَّصَ لَهُمْ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ يَجْبُرُ خَاطِرَهُمْ، وَيَسُدُّ حَاجَتَهُمْ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8].

((وَإِذَا حَضَرَ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ أَقَارِبُ الْمَيِّتِ مِمَّنْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي التَّرِكَةِ، أَوْ حَضَرَهَا مَنْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ صِغَارٌ، أَوْ مَنْ لَا مَالَ لَهُمْ فَأَعْطُوهُمْ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ قَبْلَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا حَسَنًا غَيْرَ فَاحِشٍ وَلَا قَبِيحٍ)).

وَقَدْ حَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَضَّ رَسُولُهُ ﷺ عَلَى رِعَايَةِ الْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ؛ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَجَبْرًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَسَدًّا لِحَاجَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9-10].

((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تُسِئْ مُعَامَلَتَهُ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَزْجُرْهُ، بَلْ أَطْعِمْهُ، وَاقْضِ حَاجَتَهُ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الَّتِي أَسْبَغَهَا عَلَيْكَ فَتَحَدَّثْ بِهَا)).

((لَا تُسِئْ مُعَامَلَةَ الْيَتِيمِ، وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْهَرْهُ، بَلْ أَكْرِمْهُ، وَأَعْطِهِ مَا تَيَسَّرَ، وَاصْنَعْ بِهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُصْنَعَ بِوَلَدِكَ مِنْ بَعْدِكَ)).

وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ»، وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، يَعْنِي: أَنَّهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ؛ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ بِسَبَبِ عَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ فِي الدُّنْيَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ))، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا»، وَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «حُقَّ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ لِيَكُونَ رَفِيقَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ وَلَا مَنْزِلَةَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ».

فَكَفَالَةُ الْيَتِيمِ جَزَاؤُهَا عَظِيمٌ جِدًّا، فَلْيَحْرِصِ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يُصِيبَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«السَّاعِي»: الَّذِي يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ الْأَرْمَلَةَ وَالْمِسْكِينَ.

مِنْ مَزَايَا دِينِ الْإِسْلَامِ: كَثْرَةُ الْأُجُورِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، فَهَذَا السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ؛ أَيِ الْمَرْأَةِ الَّتِي بِجَانِبِهِ، سَوَاءٌ فَقَدَتِ الزَّوْجَ، أَمْ أَنَّهَا فِي جَانِبِ وَلِيِّ أَمْرِهَا، وَهُوَ يَسْعَى عَلَيْهَا لِيُؤَمِّنَ حَاجَاتِهَا الضَّرُورِيَّةَ، مُحْتَسِبًا الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ.

وَالسَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ، سَوَاءٌ مِنْ قَرَابَتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ قَرَابَتِهِ، يَسْعَى لِيُؤَمِّنَ قُوتَهُ الضَّرُورِيَّ، وَيَكْفِيهِ مُؤْنَةَ الْعَيْشِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَسْكَنٍ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ.

وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَيْتَامُ، وَهُمْ أَحْوَجُ الْأَصْنَافِ إِلَى الْعِنَايَةِ بِهِمْ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ الْمُرَبِّي التَّرْبِيَةَ الدِّينِيَّةَ، فَيَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

فَالسَّاعِي عَلَيْهِ -عَلَى الْيَتِيمِ- كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفَضْلُ الْجِهَادِ مَعْلُومٌ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَوِّئُ الْمُجَاهِدَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

*مِنْ سُبُلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبِ النُّفُوسِ: الِاعْتِذَارُ لِلْآخَرِينَ، وَقَبُولُ أَعْذَارِ الْمُعْتَذِرِينَ؛ فَالْحِرْصُ عَلَى الِاعْتِذَارِ عِنْدَ الْخَطَأِ مِنْ وَسَائِلِ تَطْيِيبِ النُّفُوسِ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ ((لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ثُمَّ جَاءَ يَعْتَذِرُ مِنْ إِسَاءَتِهِ؛ فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ؛ حَقًّا كَانَتْ أَوْ بَاطِلًا، وَتَكِلُ سَرِيرَتَهُ إِلَى اللهِ)).

اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرَا    = إِنْ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا

فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ   = وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا

*مِنْ سُبُلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبِ النُّفُوسِ: السَّلَامُ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَإِسْدَاءُ النَّصِيحَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَزِيَارَةُ الْمَرِيضِ، ثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).

فَفي هذا الحَدِيثِ بَيَانُ عدةِ حُقُوقٍ بَينَ المُسْلِمِينَ:

* الحقُّ الأوَّلُ: السَّلامُ:

فَالسَّلَامُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَآلُفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَادِّهِمْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَاللهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَينَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَيُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ إِذَا مَرَّ بِهِمْ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

* الْحَقُّ الثَّانِي: إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ:

أَيْ: إِذَا دَعَاكَ إِلَى مَنْزِلِهِ؛ لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَجِبْهُ، وَالْإِجَابَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَبْرِ قَلْبِ الدَّاعِي، وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ، وَيُسْتَثْنَي مِنْ ذَلِكَ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ، فَإِنْ أَجَابَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا واجِبَةٌ بِشُرُوطٍ مَعْرُوفَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَعَلَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ)): يَشْمَلُ حَتَّى الدَّعْوَةَ لِمُسَاعَدَتِه وَمُعَاوَنَتِهِ، فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِإِجَابَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ إِذَا دَعَاكَ لِذَلِكَ، فَإِذَا دَعَاكَ لِتُعِينَهُ فِي حَمْلِ شَيْءٍ، أَوْ إِلْقَائِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّكَ مَأْمُورٌ بِمُسَاعَدَتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).

* الْحَقُّ الثَّالِثُ: إِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ:

يَعْنِي: إِذَا جَاءَ إِلَيْكَ يَطْلُبُ نَصِيحَتَكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَانْصَحْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الدِّينِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ يَطْلُبُ النَّصِيحَةَ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَوْ إِثْمٌ فِيمَا سَيُقْدِمُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ إِلَيْكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ إِزَالَةِ الضَّرَرِ وَالْمُنْكَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَفْعَلُ وَلَا إِثْمَ وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِحَكَ فَتَلْزَمُ النَّصِيحَةُ حِينَئِذٍ.

* الْحَقُّ الرَّابِعُ: إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ:

أَيْ قُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ شُكْرًا لَهُ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبِّهِ عِنْدَ الْعُطَاسِ، أَمَّا إِذَا عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللهَ؛ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ، فَلَا يُشَمَّتُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ كَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ لَا يُشَمَّتَ.

وتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ فَرْضٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، فَيَقُولُ: ((يَهْدِيكُمُ اللهُ ويُصْلِحُ بَالَكُمْ)).

وَإِذَا اسْتَمَرَّ مَعَهُ الْعُطَاسُ وَشَمَّتَّهُ ثَلَاثًا فَقُلْ لَهُ فِي الرَّابِعَةِ: ((أَنْتَ مَزْكُومٌ))، أَوْ ((عَافَاكَ اللهُ))، بَدَلًا مِنْ قَوْلِكَ: يَرْحَمُكَ اللهُ.

* الْحَقُّ الْخَامِسُ: إِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ:

وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ: زِيَارَتُهُ، وَهِيَ حَقٌّ لَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَيهِمُ الْقِيَامُ بِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ لِلْمَرِيضِ حَقٌّ عَلَيْكَ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ كَانَتْ عِيَادَتُهُ آكَدَ.

وَالْعِيَادَةُ بِحَسَبِ حَالِ الْمَرِيضِ، وَبِحَسَبِ حَالِ مَرَضِهِ، فَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ كَثْرَةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَتَطَلَّبُ الْحَالُ قِلَّةَ التَّرَدُّدِ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَي مُرَاعاةُ الْأَحْوَالِ.

وَالسُّنَّةُ لِمَنْ عَادَ مَرِيضًا: أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيَفْتَحَ لَهُ بَابَ الْفَرَجِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالشِّفَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُذَكِّرَهُ التَّوْبَةَ بِأُسْلُوبٍ لَا يُرَوِّعُهُ، فَيَقُولُ لَهُ مَثَلًا: إِنَّ فِي مَرَضِكَ هَذَا تَكْتَسِبُ خَيْرًا، فَإِِنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَمْحُو بِهِ السَّيِّئَاتِ، وَلَعَلَّكَ تَكْسِبُ بِانْحِبَاسِكَ أَجْرًا كَثِيرًا بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ.

*وَمِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: كَفُّ الْأَذَى عَنْهُ:

فَإِنَّ فِي أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِثْمًا عَظِيمًا، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأَحزاب: 58].

وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى أَخِيهِ بِأَذًى؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ))، فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.

وَمِنْ سُبُلِ جَبْرِ خَوَاطِرِ وَتَطْيِيبِ نُفُوسِ إِخْوَانِنَا وَذَوِي أَرْحَامِنَا وَأَصْحَابِنَا: تَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ، وَزِيَارَتُهُمْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ؛ نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا)).

*مِنْ وَسَائِلِ تَطْيِيبِ النُّفُوسِ وَجَبْرِ الْخَوَاطِرِ: تَبَادُلُ الْهَدَايَا؛ فَإِنَّ لِلْهَدِيَّةِ أَثَرًا وَاضِحًا فِي تَطْيِيبِ النُّفُوسِ، وَتَصْفِيَةِ الْقُلُوبِ مِنَ الْأَدْغَالِ وَالْأَحْقَادِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ ﷺ: ((تَهَادُوا تَحَابُّوا)).

((تَهَادُوا)): أَمْرٌ مِنَ (التَّهَادِي) أَيْ: يُعْطِي الْهَدِيَّةَ وَلْيُرْسِلْهَا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ فِي الْهَدِيَّةِ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَنَفْيًا لِضَغَائِنِ النُّفُوسِ، وَإِبْعَادًا لِسَخَائِمِ الصُّدُورِ.

وَكَانَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((يَا بَنِيَّ! تَبَاذَلُوا بَيْنَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَوَدُّ لِمَا بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((تَبَاذَلُوا)) أَيْ: لِيُعْطِ كُلٌّ مِنْكُمُ الْآخَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ فَهِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشَارَكَةِ، ((تَبَاذَلُوا)): فَهَذَا يَبْذُلُ وَهَذَا يَبْذُلُ؛ ((فَإِنَّهُ أَوَدُّ لِمَا بَيْنَكُمْ)) أَيْ: يَزِيدُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَكُمْ.

فِي الْحَدِيثِ: السَّعْيُ فِي تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَزِيَادَةُ الْمَحَبَّةِ فِي اللهِ -تَعَالَى-.

*مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ وَأَجَلِّ وَسَائِلِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَسِيرُ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا، إِنَّ الْإِنْسَانَ بِالطَّبْعِ يُحِبُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَوَاسَاهُ بِمَالِهِ، وَلَاطَفَهُ بِكَلَامِهِ، وَأَمَدَّهُ بِمَعُونَتِهِ، وَأَعَانَهُ عَلَى جَمِيعِ أَغْرَاضِهِ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ؛ فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ لَا مَحَالَةَ.

((لَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ: الْإِحْسَانُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ مِنْ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَةِ شِدَّاتِهِمْ، وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَتَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ، وَإِرْشَادِ ضَالِّهِمْ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْإِحْسَانِ -أَيْضًا-: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى)).

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ اللهِ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ.

وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ خَلْقِ اللهِ بِالْبِرِّ، وَالْعَفْوِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ نَفَقَتُهُ.

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.

الرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّان مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ -فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ- فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ».

وَقَالَ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».

وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قَضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.

وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، لَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَأمُّلًا صَحِيحًا؛ لَعَلِمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَقْصُورَةً عَلَى أُمُورٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخَيْرَ شَائِعًا فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».

*مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ لِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ، وَجَبْرِ الْخَوَاطِرِ، وَعَدَمِ جَرْحِ الْمَشَاعِرِ، وَمُجَانَبَةِ إِيلَامِ الْأَرْوَاحِ: عَدَمُ الْمَنِّ بِالْخَيْرِ وَالصَّدَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].

(({قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}: قَوْلٌ جَمِيلٌ، وَدُعَاءُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ {وَمَغْفِرَةٌ} يَعْنِي: وَسَتْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ؛ لِمَا عَلِمَ مِنْ خَلَّتِهِ وَسُوءِ حَالَتِهِ {خَيْرٌ} عِنْدَ اللهِ {مِنْ صَدَقَةٍ} يِتَصَدَّقُهَا عَلَيْهِ {يَتْبَعُهَا أَذًى} يَعْنِي: يَشْتَكِيهِ عَلَيْهَا، وَيُؤْذِيهِ بِسَبَبِهَا.

وَعَنِ الضَّحَّاكِ: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} يَقُولُ: أَنْ يُمْسِكَ مَالَهُ خَيْرٌ مِنَ أَنْ يُنْفِقَ مَالَهُ ثُمَّ يُتْبِعَهُ مَنًّا وَأَذًى)).

(({قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أَيْ: تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ وَلَا تُنْكِرُهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ قَوْلٍ كَرِيمٍ فِيهِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ رَدُّ السَّائِلِ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالدُّعَاءِ لَهُ {وَمَغْفِرَةٌ} لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ: الْعَفْوُ عَمَّا يَصْدُرُ مِنَ السَّائِلِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، فَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَغْفِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ إِحْسَانٌ قَوْلِيٌّ، وَالْمَغْفِرَةَ إِحْسَانٌ -أَيْضًا- بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَكِلَاهُمَا إِحْسَانٌ مَا فِيهِ مُفْسِدٌ؛ فَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْإِحْسَانِ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى بِمَنٍّ أَوْ غَيْرِهِ.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي لَا يَتْبَعُهَا أَذًى أَفْضَلُ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ مُفْسِدًا لَهَا مُحَرَّمًا؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ للهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، وَالْإِحْسَانُ كُلُّهُ للهِ، فَالْعَبْدُ لَا يَمُنُّ بِنِعْمَةِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَانَّ مُسْتَعْبِدٌ لِمَنْ يَمُنُّ عَلَيْهِ، وَالذُّلُّ وَالِاسْتِعْبَادُ لَا يَنْبَغِي إِلَّا للهِ، وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَكُلُّهَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ؛ فَصَدَقَتُكُمْ وَإِنْفَاقُكُمْ وَطَاعَاتُكُمْ تَعُودُ مَصْلَحَتُهَا إِلَيْكُمْ وَنَفْعُهَا إِلَيْكُمْ، {وَاللهُ غَنِيٌّ} عَنْهَا، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ {حَلِيمٌ} عَلَى مَنْ عَصَاهُ، لَا يُعَاجِلُهُ بِعُقُوبَةٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ وَحِلْمَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ مُعَاجَلَتِهِ لِلْعَاصِينَ، بَلْ يُمْهِلُهُمْ، وَيُصَرِّفُ لَهُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُنِيبُونَ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَلِمَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْآيَاتُ، وَلَا تُفِيدُ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ؛ أَنْزَلَ بِهِمْ عِقَابَهُ، وَحَرَمَهُمْ جَزِيلَ ثَوَابِهِ)).

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ دَائِمًا إِلَى كَلِمَةٍ حَانِيَةٍ، وَمُوَاسَاةٍ كَرِيمَةٍ؛ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَوَادِثِ الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ الْمُنْكَسِرُونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ.. تَطْيِيبُ خَاطِرِهِمْ، وَجَبْرُ مُصَابِهِمْ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَبَذْلُ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ، وَالسَّعْيُ فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ إِنَّهُ خَطْبٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ جَسِيمٌ، وَبَابٌ لِلْأَجْرِ كَبِيرٌ.

إِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ الَّتِي تَجْبُرُ الْخَوَاطِرَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: الِابْتِسَامَةُ الَّتِي هِيَ صَدَقَةٌ، وَمِنْهَا: الْمَسْحُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ، وَمِنْهَا: الصَّدَقَاتُ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا: السَّلَامُ، وَجَمِيلُ الْكَلَامِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ إِنْسَانٍ، كُلُّهَا مِنْ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ، فَجَبْرُ الْخَاطِرِ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلٍ يَسِيرٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ لَهُ أَجْرُهُ الْكَبِيرُ.

((نَمَاذِجُ عَمَلِيَّةٌ لِجَبْرِ الْخَوَاطِرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ جَبْرَ الْخَوَاطِرِ وَتَطْيِيبَ النُّفُوسِ كَانَتْ لَهُ صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَنَمَاذِجُ مُتَكَاثِرَةٌ ذَكَرَهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَمَوَاقِفُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

لَقَدْ تَجَلَّى جَبْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَوَاطِرَ عِبَادِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ الَّتِي حَكَاهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَجَبَرَ -سُبْحَانَهُ- خَوَاطِرَ عِبَادِهِ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَهَذِهِ أُمُّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ تَفَطَّرَ قَلْبُهَا عَلَى وَلَدِهَا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَوْفًا عَلَيْهِ؛ رَدَّهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهَا؛ جَبْرًا لِخَاطِرِهَا، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) ۞ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 10-13].

((وَلَمَّا فَقَدَتْ مُوسَى أُمُّهُ حَزِنَتْ حُزْنًا شَدِيدًا، وَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا مِنَ الْقَلَقِ الَّذِي أَزْعَجَهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- نَهَاهَا عَنِ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ، وَوَعَدَهَا بِرَدِّهِ، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أَيْ: بِمَا فِي قَلْبِهَا {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فَثَبَّتْنَاهَا، فَصَبَرَتْ وَلَمْ تُبْدِ بِهِ؛ {لِتَكُونَ} بِذَلِكَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَصَبَرَ وَثَبَتَ؛ ازْدَادَ بِذَلِكَ إِيمَانُهُ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِمْرَارَ الْجَزَعِ مَعَ الْعَبْدِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِ.

{وَقَالَتْ} أُمُّ مُوسَى {لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أَيِ: اذْهَبِي فَقُصِّي الْأَثَرَ عَنْ أَخِيكِ وَابْحَثِي عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِكِ أَحَدٌ أَوْ يَشْعُرُوا بِمَقْصُودِكِ، فَذَهَبَتْ تَقُصُّهُ، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أَيْ: أَبْصَرَتْهُ عَلَى وَجْهٍ كَأَنَّهَا مَارَّةٌ لَا قَصْدَ لَهَا فِيهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْحَزْمِ وَالْحَذَرِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ وَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ قَاصِدَةً لَظَنُّوا بِهَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَلْقَتْهُ، فَرُبَّمَا عَزَمُوا عَلَى ذَبْحِهِ عُقُوبَةً لِأَهْلِهِ.

وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِمُوسَى وَأُمِّهِ: أَنْ مَنَعَهُ مِنْ قَبُولِ ثَدْيِ امْرَأَةٍ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى السُّوقِ رَحْمَةً بِهِ، وَلَعَلَّ أَحَدًا يَطْلُبُهُ، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ وَهُوَ بِتِلْكَ الْحَالِ {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}: وَهَذَا جُلُّ غَرَضِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ أَحَبُّوهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَقَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَرَاضِعِ فَخَافُوا أَنْ يَمُوتَ.

فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ أُخْتُهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ بِتَمَامِ حِفْظِهِ وَكَفَالَتِهِ وَالنُّصْحِ لَهُ؛ بَادَرُوا إِلَى إِجَابَتِهَا، فَأَعْلَمَتْهُمْ وَدَلَّتْهُمْ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}: كَمَا وَعَدْنَاهَا بِذَلِكَ {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ تَرَبَّى عِنْدَهَا عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ فِيهِ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، تَفْرَحُ بِهِ، وَتَأْخُذُ الْأُجْرَةَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: فَأَرَيْنَاهَا بَعْضَ مَا وَعَدْنَاهَا بِهِ عِيَانًا؛ لِيَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قَلْبُهَا، وَيَزْدَادَ إِيمَانُهَا، وَلِتَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَحْصُلُ وَعْدُ اللَّهِ فِي حِفْظِهِ وَرِسَالَتِهِ؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فَإِذَا رَأَوُا السَّبَبَ مُتَشَوِّشًا شَوَّشَ ذَلِكَ إِيمَانَهُمْ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمُ الْكَامِلِ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَجْعَلُ الْمِحَنَ وَالْعَقَبَاتِ الشَّاقَّةَ بَيْنَ يَدَيِ الْأُمُورِ الْعَالِيَةِ وَالْمَطَالِبِ الْفَاضِلَةِ.

فَاسْتَمَرَّ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ يَتَرَبَّى فِي سُلْطَانِهِمْ، وَيَرْكَبُ مَرَاكِبَهُمْ، وَيَلْبَسُ مَلَابِسَهُمْ، وَأُمُّهُ بِذَلِكَ مُطْمَئِنَّةٌ قَدِ اسْتَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرْ مُلَازَمَتَهُ إِيَّاهَا وَحُنُوَّهَا عَلَيْهَ.

وَتَأَمَّلْ هَذَا اللُّطْفَ وَصِيَانَةَ نَبِيِّهِ مُوسَى مِنَ الْكَذِبِ فِي مَنْطِقِهِ، وَتَيْسِيرِ الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ بِهِ التَّعَلُّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، الَّذِي بَانَ لِلنَّاسِ هُوَ الرِّضَاعُ الَّذِي بِسَبَبِهِ يُسَمِّيهَا أُمًّا، فَكَانَ الْكَلَامُ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صِدْقًا وَحَقًّا)).

وَجَبَرَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَاطِرَ ابْنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا وَصَلَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِ تِلْكِ الْجَمَاعَةِ امْرَأَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ عَنِ النَّاسِ تَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ؛ لِعَجْزِهِمَا وَضَعْفِهِمَا عَنْ مُزَاحَمَةِ الرِّجَالِ، وَتَنْتَظِرَانِ حَتَّى تَصْدُرَ عَنْهُ مَوَاشِي النَّاسِ، ثُمَّ تَسْقِيَانِ مَاشِيَتَهُمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُكُمَا؟ قَالَتَا: لَا نَسْتَطِيعُ مُزَاحَمَةَ الرِّجَالِ، وَلَا نَسْقِي حَتَّى يَسْقِيَ النَّاسُ، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْقِيَ مَاشِيَتَهُ؛ لِضَعْفِهِ وَكِبَرِهِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ؛ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ، وَتَخْلُوَ لَهُمُ الْبِئْرُ.

{قَالَ} يَعْنِي: مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ {مَا خَطْبُكُمَا}: مَا شَأْنُكُمَا؛ لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟

{قَالَتَا لا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ؛ لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهِمْ فِي الْحَوْضِ {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ؛ فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.

فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ {فَقِير} يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أَيْ: طَعَامٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَمِمَّا يُؤَسِّسُ لِهَذَا الْخُلُقِ النَّبِيلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15].

((أَيْ: لَمَّا ذَهَبَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِيُوسُفَ بَعْدَمَا أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ كَمَا قَالَ قَائِلُهُمُ السَّابِقُ ذِكْرُهُ، وَكَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَنَفَّذُوا فِيهِ قُدْرَتَهُمْ، وَأَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِهِ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْحَرِجَةِ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أَيْ: سَيَكُونُ مِنْكَ مُعَاتَبَةٌ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ عَنْ أَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، فَفِيهِ بِشَارَةُ لَهُ بِأَنَّهُ سَيَنْجُو مِمَّا وَقَعَ فِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَجْمَعُهُ بِأَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي الْأَرْضِ)).

(({وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: يَقُولُ -تَعَالَى- ذَاكِرًا لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَعَائِدَتَهُ وَإِنْزَالَهُ الْيُسْرَ فِي حَالِ الْعُسْرِ: إِنَّهُ أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ الضَّيِّقِ؛ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَتَثْبِيتًا لَهُ: إِنَّكَ لَا تَحْزَنْ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ؛ فَإِنَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا حَسَنًا، وَسَيَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُعْلِيكَ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَكَ، وَسَتُخْبِرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا مَعَكَ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ)).

وَجَبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَاطِرَ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَرَدَّ عَلَيْهِ وَلَدَهُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ إِذْ فَقَدَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ابْنَهُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا عَظِيمًا، وَحِينَمَا فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ وَاثِقًا بِهِ اسْتَجَابَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ، وَأَبْصَرَ بَعْدَمَا وُضِعَ عَلَيْهِ قَمِيصُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَاسْتَغْفَرَ لِإِخْوَتِهِ، وَذَهَبُوا إِلَى مِصْرَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ هَذِهِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83-100].

((وَلَمَّا رَجَعُوا وَأَخْبَرُوا أَبَاهُمْ قَالَ لَهُمْ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمُ الْأمَّارَةُ بِالسُّوءِ مَكِيدَةً دَبَّرْتُمُوهَا كَمَا فَعَلْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَعَ يُوسُفَ؛ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى مَعَهُ، عَسَى اللهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيَّ أَبْنَائِي الثَّلَاثَةَ وَهُمْ: يُوسُفُ، وَشَقِيقُهُ، وَأَخُوهُمُ الْكَبِيرُ الْمُتَخَلِّفُ مِنْ أَجْلِ أَخِيهِ- إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِي، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ.

وَأَعْرَضَ يَعْقُوبُ عَنْهُمْ وَقَدْ ضَاقَ صَدْرُهُ بِمَا قَالُوهُ، وَقَالَ: يَا حَسْرَتَا عَلَى يُوسُفَ، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ بِذَهَابِ سَوَادِهِمَا مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، فَهُوَ مُمْتَلِئُ الْقَلْبِ حُزْنًا؛ وَلَكِنَّهُ شَدِيدُ الْكِتْمَانِ لَهُ.

قَالَ بَنُوهُ: تَاللهِ! مَا تَزَالُ تَتَذَكَّرُ يُوسُفَ وَيَشْتَدُّ حُزْنُكَ عَلَيْهِ حَتَّى تُشْرِفَ عَلَى الْهَلَاكِ أَوْ تَهْلِكَ فِعْلًا؛ فَخَفِّفْ عَنْ نَفْسِكَ.

قَالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لَهُمْ: لَا أُظْهِرُ هَمِّي وَحُزْنِي إِلَّا للهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ، وَأَعْلَمُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَفَرَجِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ.

قَالَ يَعْقُوبُ: يَا أَبْنَائِي! عُودُوا إِلَى (مِصْرَ) فَاسْتَقْصُوا أَخْبَارَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَلَا تَقْطَعُوا رَجَاءَكُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ إِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِلَّا الْجَاحِدُونَ لِقُدْرَتِهِ، الْكَافِرُونَ بِهِ.

فَذَهَبُوا إِلَى (مِصْرَ)، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ! أَصَابَنَا وَأَهْلَنَا الْقَحْطُ وَالْجَدْبُ، وَجِئْنَاكَ بِثَمَنٍ رَدِيءٍ قَلِيلٍ، فَأَعْطِنَا بِهِ مَا كُنْتَ تُعْطِينَا مِنْ قَبْلُ بِالثَّمَنِ الْجَيِّدِ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِقَبْضِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمُزْجَاةِ، وَتَجَوَّزْ فِيهَا؛ إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُثِيبُ الْمُتَفَضِّلِينَ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ بِأَمْوَالِهِمْ.

فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ رَقَّ لَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: هَلْ تَذْكُرُونَ الَّذِي فَعَلْتُمُوهُ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ مِنَ الْأَذَى فِي حَالِ جَهْلِكُمْ بِعَاقِبَةِ مَا تَفْعَلُونَ؟!

قَالُوا: أَإنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟

قَالَ: نَعَمْ؛ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا شَقِيقِي، قَدْ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْنَا، فَجَمَعَ بَيْنَنَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ؛ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ وَيَصْبِرْ عَلَى الْمِحَنِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُذْهِبُ ثَوَابَ إِحْسَانِهِ، وَإِنَّمَا يَجْزِيهِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.

قَالُوا: تَاللهِ! لَقَدْ فَضَّلَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَأَعَزَّكَ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ بِمَا فَعَلْنَاهُ عَمْدًا بِكَ وَبِأَخِيكَ.

قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَنَابَ إِلَى طَاعَتِهِ.

وَلَمَّا سَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرُوهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: عُودُوا إِلَى أَبِيكُمْ وَمَعَكُمْ قَمِيصِي هَذَا فَاطْرَحُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَعُدْ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، ثُمَّ أَحْضِرُوا إِلَيَّ جَمِيعَ أَهْلِكُمْ.

وَلَمَّا خَرَجَتِ الْقَافِلَةُ مِنْ أَرْضِ (مِصْرَ) وَمَعَهُمُ الْقَمِيصُ قَالَ يَعْقُوبُ لِمَنْ حَضَرَهُ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُسَفِّهُونِي وَتَسْخَرُوا مِنِّي، وَتَزْعُمُوا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَدَرَ مِنِّي مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ.

قَالَ الْحَاضِرُونَ عِنْدَهُ: تَاللهِ! إِنَّكَ لَا تَزَالُ فِي خَطَئِكَ الْقَدِيمِ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ، وَأَنَّكَ لَا تَنْسَاهُ.

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ مَنْ يُبَشِّرُ يَعْقُوبَ بِأَنَّ يُوسُفَ حَيٌّ، وَطَرَحَ قَمِيصَ يُوسُفَ عَلَى وَجْهِهِ فَعَادَ يَعْقُوبُ مُبْصِرًا، وَعَمَّهُ السُّرُورُ فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: أَلَمْ أُخْبِرْكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ؟!!

قَالَ بَنُوهُ: يَا أَبَانَا! سَلْ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا، وَيَسْتُرَ عَلَيْنَا ذُنُوبَنَا، إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ فِيمَا فَعَلْنَاهُ بِيُوسُفَ وَشَقِيقِهِ.

قَالَ يَعْقُوبُ: سَوْفَ أَسْأَلُ رَبِّي أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ، الرَّحِيمُ بِهِمْ.

وَخَرَجَ يَعْقُوبُ وَأَهْلُهُ إِلَى (مِصْرَ) قَاصِدِينَ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ ضَمَّ يُوسُفُ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا (مِصْرَ) بِمَشِيئَةِ اللهِ وَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنَ الْجَهْدِ وَالْقَحْطِ، وَمِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ.

وَأَجْلَسَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ بِجَانِبِهِ؛ إِكْرَامًا لَهُمَا، وَحَيَّاهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ الْأَحَدَ عَشَرَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَحِيَّةً وَتَكْرِيمًا، لَا عِبَادَةً وَخُضُوعًا، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَقَدْ حَرُمَ فِي شَرِيعَتِنَا؛ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ بِاللهِ.

وَقَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: هَذَا السُّجُودُ هُوَ تَفْسِيرُ رُؤْيَايَ الَّتِي قَصَصْتُهَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ فِي صِغَرِي، قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي صِدْقًا، وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ حِينَ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَ بِكُمْ إِلَيَّ مِنَ الْبَادِيَةِ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ رَابِطَةَ الْأُخُوَّةِ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي؛ إِنَّ رَبِّي لَطِيفُ التَّدْبِيرِ لِمَا يَشَاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، الْحَكِيمُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ)).

وَجَبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاطِرَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَزَوْجِهِ، فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ، وَرَزَقَهُ بِالْوَلَدِ عَلَى عُلُوِّ السِّنِّ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 100-101].

«قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ، فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-».

وَهَذِهِ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ سَيَرْزُقُهُ وَلَدًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51-56].

«وَأَخْبِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ الْخَبَرَ الْهَامَّ وَقْتَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ سَلَامًا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ خَائِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا الْعِجْلَ السَّمِينَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ إِذْ كَانَ مَظْهَرُهُمْ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَنِمُّ عَلَيْهِ.

قَالَ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُمْ ضَيْفٌ مِنَ الْبَشَرِ-: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٍ فِي كِبَرِهِ، سَيَأْتِيكَ مِنْ زَوْجِكَ سَارَّةَ، وَهُوَ إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَنَحْنُ مَلَائِكَةٌ، رُسُلٌ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ؛ لِنُقَدِّمَ لَكَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ.

فَلَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ؛ عَجِبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي بِالْوَلَدِ مَعَ مَسِّ الْكِبَرِ بِي وَالشَّيْخُوخَةِ الْمُضْعِفَةِ عَادَةً عَنِ الْإِنْجَابِ؟!! فَبِأَيِّ سَبَبٍ لَدَيَّ أَمْلِكُهُ يَكُونُ مِنْ آثَارِهِ أَنْ أُنْجِبَ وَلَدًا فَأَنْتُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِهِ؟!!

قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ، بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْكَ وَلَدًا ذَكَرًا تَكْثُرُ ذُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ إِسْحَاقُ؛ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْخَيْرِ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَحَدَ يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ».

وَجَبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- -أَيْضًا- خَاطِرَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ الْوَلَدَ قَائِلًا -كَمَا سَرَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ} [آل عمران: 38-39].

((لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَرْزُقُ مَرْيَمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ؛ طَمِعَ -حِينَئِذٍ- فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ ضَعُفَ وَوَهَنَ مِنْهُ الْعَظْمُ، وَاشْتَعَلَ رَأْسُهُ شَيْبًا، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرَةً وَعَاقِرًا؛ لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ سَأَلَ رَبَّهُ وَنَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا، وَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أَيْ: وَلَدًا صَالِحًا {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أَيْ: خَاطَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ شِفَاهًا خِطَابًا أَسْمَعَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِحْرَابِ عِبَادَتِهِ وَمَحَلِّ خَلْوَتِهِ وَمَجْلِسِ مُنَاجَاتِهِ وَصَلَاتِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَمَّا بَشَّرَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أَيْ: بِوَلَدٍ يُوجَدُ لَكَ مِنْ صُلْبِكَ اسْمُهُ يَحْيَى، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: ((إِنَّمَا سُمِّيَ يَحْيَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ)))).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89-90].

((أَيْ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا وَرَسُولَنَا زَكَرِيَّا، مُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ، نَاشِرًا لِمَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِنُصْحِهِ لِلْخَلْقِ، وَرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأَنَّهُ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا؛ أَيْ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَنَّهُ لَمَّا تَقَارَبَ أَجَلُهُ خَافَ أَلَّا يَقُومَ أَحَدٌ بَعْدَهُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ فَرْدًا، وَلَا يُخْلِفَ مَنْ يَشْفَعُهُ وَيُعِينُهُ عَلَى مَا قَامَ بِهِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أَيْ: خَيْرُ الْبَاقِينَ، وَخَيْرُ مَنْ خَلَفَنِي بِخَيْرٍ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنِّي، وَلَكِنِّي أُرِيدُ مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبِي، وَتَسْكُنُ لَهُ نَفْسِي، وَيَجْرِي فِي مَوَازِينِي ثَوَابُهُ.

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} النَّبِيَّ الْكَرِيمَ، الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بَعْدَمَا كَانَتْ عَاقِرًا، لَا يَصْلُحُ رَحِمُهَا لِلْوِلَادَةِ، فَأَصْلَحَ اللَّهُ رَحِمَهَا لِلْحَمْلِ؛ لِأَجْلِ نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا، وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ الْجَلِيسِ وَالْقَرِينِ الصَّالِحِ؛ أَنَّهُ مُبَارَكٌ عَلَى قَرِينِهِ، فَصَارَ يَحْيَى مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ)).

وَجَبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاطِرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ ظُلْمًا، وَقَدْ أَخَذَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا نَظْرَةَ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْ لَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْ لَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)).

بَشَّرَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِأَنَّهُ سَيُرْجِعُهُ إِلَى مَكَّةَ مُنْتَصِرًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [القصص: 85]

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إِلَى مَكَّةَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: ((خَتَمَ اللهُ السُّورَةَ -يُرِيدُ سُورَةَ الْقَصَصِ- بِبِشَارَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِرَدِّهِ إِلَى مَكَّةَ قَاهِرًا أَعْدَاءَهُ)).

وَقَالَ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ((أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يُعْطِيهِ حَتَّى يُرْضِيَهُ فِي أُمَّتِهِ، وَفِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ نَهْرُ الْكَوْثَرِ الَّذِي حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، وَطِينُهُ مِنْ مِسْكٍ أَذْفَرَ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَنْزًا كَنْزًا، فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلُ هَذَا مَا يُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ)).

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَبَرَ خَاطِرَ نَبِيِّهِ ﷺ عِنْدَمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى فِي مَكَّةَ، وَذَهَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَأُوذِيَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَرْسَلَ اللهُ لَهُ مَلَكَ الْجِبَالِ، ثُمَّ كَانَتْ رِحْلَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ جَبْرًا مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِخَاطِرِ رَسُولِهِ ﷺ بَعْدَ صُدُودِ النَّاسِ.

ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَةَ بِمَرْكَزِهَا -مَرْكَزِ الثِّقَلِ فِي الدَّعْوَةِ- إِلَى الطَّائِفِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ اسْتَعْصَتْ -صَارَتْ حَالَتُهَا مُسْتَعْصِيَةً- يَعْنِي كَمَا يَقُولُونَ أَتَت بِآخِرِ مَا عِنْدَهَا.

الدَّعْوَةُ هَكَذَا وَصَلَتْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ فِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَرْكَزَ الدَّعْوَةِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ، فَذَهَبَ إِلَى ثَقِيفٍ وَحَدَثَ عِنْدَهُمْ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِيذَاءِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَغْرَوْا بِهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ وَالضُّعَفَاءَ يَقْذِفُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَبْتَعِدُ عَنْ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي مَرْمَى أَحْجَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فِي عَقِبِهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ التَّعَبُ مَبْلَغَهُ، حَتَّى مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا كَانَ.

مَعَ هَذَا الْأَسَى كُلِّهِ وَمَعَ هَذَا الْعَنَتِ، وَمَعَ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَالْمَوْجِدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وَهُوَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالُوا خَيْرًا فَعَلَ، لَا يَدْخُلُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَمَا أَتَى مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَالَ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -أَيِ: الجَبَلَيْنِ-؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ)).

قَالَ: ((لَا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

فَصَدَقَ مَنْ سَمَّاهُ الرَّؤُوفَ الرَّحِيمَ ﷺ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَأْخُذْهُمْ إِلَّا بِالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

جَاءَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فَتْحًا بَعْدَ أَنْ وَقَعَ هَذَا، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَجَفَاهُ النَّاسُ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ.

وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ: «اللهم إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ.. ثُمَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي...» هَذَا ضَعِيفٌ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَى بِنَبِيِّهِ ﷺ بِعَقِبِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ جَفَوْكَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَأَهْلُ السَّمَاءِ يَحْتَفُونَ بِكَ!!

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا بِهِ رَبُّنَا، فَهَذِهِ الْبُشْرَيَاتُ يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، الدَّاعِي إِلَى اللهِ أَحْيَانًا يَرَى رُؤْيَا، يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعَدُّ بِشَارَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ الْفَأْلَ -الْكَلِمَةَ الْحَسَنَةَ-، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ وَلَا يَتَشَاءَمُ، هُوَ يُحِبُّ الْفَأْلَ -هُوَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ-، فَكَانَ يَهَشُّ لَهَا ﷺ.

وَعَاتَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ ﷺ فِي إِعْرَاضِهِ عَنْ سُؤَالِ الْأَعْمَى؛ جَبْرًا لِخَاطِرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1-3].

((قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَبَسَ} أَيْ: كَلَحَ بِوَجْهِهِ، يُقَالُ: عَبَسَ وَبَسَرَ {وَتَوَلَّى} أَيْ: أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ {أَنْ جَاءَهُ} لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى؛ أَيِ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِعَيْنَيْهِ.

فَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَجْمَعُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْطَعَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

النَّبِيَّ ﷺ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَاتَبَهُ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ قُلُوبُ أَهْلِ الصُّفَّةِ)).

وَأَمَّا نَمَاذِجُ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فَكَثِيرَةٌ ضَافِيَةٌ؛ فَعَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مَا شَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ وَاسَى النَّبِيُّ ﷺ وَجَبَرَ خَوَاطِرَ الْفُقَرَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَفِي قُلُوبِهِمْ حُزْنٌ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ مِثْلَ الْأَغْنِيَاءِ، ((ذَهَبَ فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! سَبَقَنَا أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ)) يَعْنِي: إِنَّ أَهْلَ الْأَمْوَالِ سَبَقُونَا بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَمَا عَمِلْتُمْ؟ فَقَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)).

فَفَعَلُوا، فَعَلِمَ الْأَغْنِيَاءُ بِذَلِكَ، فَفَعَلُوا مِثْلَمَا فَعَلُوا، فَجَاءَ الْفُقَرَاءُ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).

وَمِنْ أَمْثِلَةِ جَبْرِ الْخَاطِرِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: جَبْرُ النبي ﷺ خَاطِرَ زَوْجَاتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، فَكَانَ ﷺ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِيوَاءِ وَالنَّفَقَةِ.

وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَانَ يُسَرِّبُ إِلَى عَائِشَةَ بَنَاتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا -وَكَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ-، وَكَانَ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ تَابَعَهَا عَلَيْهِ.

وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ حَائِضًا، وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَأْتَزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يُمَكِّنُهَا مِنَ اللَّعِبِ، وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبِهِ تَنْظُرُ، وَسَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْمَنْزِلِ مَرَّةً.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ يَقُولُ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ، دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَدَنَا مِنْهُنَّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنَّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ، فَعَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟!

قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«يَفْلِي ثَوْبَهُ»؛ أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلِقَ بِهِ، مِنْ شَوْكٍ، أَوْ قَذًى.

مِنْ مُرَاعَاتِهِ مَشَاعِرَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَتَطْيِيبِ خَاطِرِهَا أَنَّهُ ﷺ سَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي «السُّنَنِ» وَابْنُ مَاجَه فِي «السُّنَنِ» مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: ((فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي))، فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ». صَحَّحَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ».

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُرَاعِيًا مَشَاعِرَ أَبْنَائِهِ، جَابِرًا خَوَاطِرَهُم؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.

وَمَقَامُ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَقَامٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَعَلِيٌّ زَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنَتَهُمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: ((إِنَّ آلَ أَبِي جَهْلٍ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَلَا وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ فَلْيُفَارِقْ فَاطِمَةَ))، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ حَدَثَ؛ يَكُونُ فِتْنَةً لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ تَكُونُ ضَرَّتُهَا بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى عَلِيٍّ مَا يُمَاثِلُ مَا لِلْأُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي -وَالْبَضْعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ- يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا)). فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَضْلُ فَاطِمَةَ وَعَظِيمُ قَدْرِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَيَتَجَسَّدُ خُلُقُ تَطْيِيبِ الْخَاطِرِ وَجَبْرِهِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَحْفَادِهِ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِيهِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.

فِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى-، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً؛ -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَجْبُرُ خَوَاطِرَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، مِنْ ذَلِكَ تَطْيِيبُهُ ﷺ خَاطِرَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ»؛ أَيْ: فَقَدْ رَكِبَ الْمَخَاطِرَ أَوْ دَخَلَ أَمْرًا عَسِيرًا صَعْبًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا يَلْتَفِتُ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: فَأَغْلَظْتُ لَهُ الْقَوْلَ وَأَخَذْتُهُ بِشَدِيدِهِ- ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ».

فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا».

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: «أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟».

فَقَالُوا: لَا.

فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ -يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَمِنْ شِدَّةِ الْكَمَدِ عَلَى مَا وَجَدَ الصِّدِّيقُ مِنَ الْفَارُوقِ-.

فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ».

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا قَالَ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ وَفَعَلَ-: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ».

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ﷺ: «فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ».

وَقَالَ ﷺ: «لَوْ كُنْتُ مَتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لِاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ، وَقَالَ: ((لِمَ يَضْحَكْ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ)).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِيهِ: النَّهْيُ عَنِ الضَّحِكِ مِنَ الضَّرْطَةِ يَسْمَعُهَا مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهَا وَيَسْتَمِرَّ عَلَى حَدِيثِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، وَفِيهِ: حُسْنُ الْأَدَبِ وَالْمُعَاشَرَةِ)).

وَمِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ فِي جَبْرِ الْخَوَاطِرِ مَا كَانَ مِنْ تَطْيِيبِ النَّبِيِّ ﷺ خَاطِرِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ فِي أُحُدٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جِيءَ بِأَبِي مُسَجًّى -أَيْ: مُغَطًّى- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -مُثِّلَ بِهِ وَمَثَّلْتَ بِالْقَتِيلِ: إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ، أَوْ أَنْفَهُ، أَوْ أُذُنَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).

فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو.

قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا شَكٌّ مِنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالصَّوَابُ: بِنْتُ عَمْرٍو، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو)).

فَقَالَ ﷺ: ((وَلِمَ تَبْكِي؟! فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعَ)).

قَالَ الْحَافِظُ: ((((وَلِمَ تَبْكِي؟!))؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَلِيلَ الْقَدْرِ الَّذِي تُظِلُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، بَلْ يُفْرَحُ لَهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَقِيَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ لِي: ((يَا جَابِرُ! مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟)).

فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا)).

فَقَالَ ﷺ: ((أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا -أَيْ: مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ-، فَقَالَ: يَا عَبْدِي! تَمَنَّ أُعْطِكَ! قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169])).

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوْصَى وَلَدَهُ جَابِرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَحِفْظِ أَخَوَاتِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ تَبْشِيرُ النَّبِيِّ ﷺ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ أَنَّهُ يَخُوضُ بِعَرْجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْنَاءٍ شَبَابٍ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَبْنَاؤُهُ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَذِنَ لَهُ.

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى أُقْتَلَ؛ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟!!)) وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ)).

فَقَتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ)).

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا عَمْرُو! لَا تَأَلَّ عَلَى اللهِ)) أَيْ: لَا تَحْلِفْ عَلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَهْلًا يَا عُمَرُ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ يَخُوضُ فِي الْجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ)).

وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلِمَةَ.

وَمِنَ النَّمَاذِجِ السَّامِيَةِ فِي تَجْسِيدِ خُلُقِ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ: تَطْيِيبُ النَّبِيِّ ﷺ خَوَاطِرَ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا وَجَدُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ بَعْضَ مَوْجِدَةٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -فِيمَا يَأْتِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدُ-، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ.

فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -وحُقَّ لَهُ؛ إِذْ هُوَ مِمَّنْ رَبَّاهُمْ عَلَى عَيْنِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ- مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ -لِيُطْعِمَهُمْ-.

فَقُلْتُ -يقولُ عَبْدُ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ في سِيَاقِ حَدِيثِهِ، يَعْنِي: قَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ مُحَرِّضًا وَحَاثًّا- فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي -وَأَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ أَبُو هُرَيْرَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ-؟

فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ -فَأَمَرَ أَهْلَهُ وَمَنْ كَانَ هُنَالِكَ فِي خِدْمَتِهِ أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا-؟

قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيِّ -يَعْنِي: فِي آخِرِ النَّهَارِ-، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ -كَانُوا فِي رَمَضَانَ كَمَا ذَكَرَ-، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ.

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -وَعِنْدَنَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِذَاتِ السِّيَاقِ لِنَفْسِ الرَّاوِي فِي ذَاتِ الْقِصَّةِ وَنَفْسِ الْحَدَثِ أَنَّهُمُ انْتَهَوْا إِلَى بَيْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- وَلَمَّا يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ، يَعْنِي: هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَالِ، وَهَذَا فَارِقُ مَا بَيْنَ (لَمْ) وَ(لَمَّا)، وَلَمْ يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ: فَهَذَا قَطْعٌ لِلصِّلَةِ بِالْحَالِ، وَلَمَّا يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ: يَعْنِي: وَلَمَّا يَنْضُجِ الطَّعَامُ بَعْدُ؛ وَلَكِنَّهُ عَلَى شَفَا نُضُوجٍ-.

يَقُولُ: -يَعْنِي: لَمَّا جَلَسُوا وَالطَّعَامُ لَمْ يُؤْتَ بِهِ بَعْدُ- أَلَا تُحَدِّثُنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتَّى يُدْرِكَ طَعَامُنَا، حَتَّى يَنْضُجَ طَعَامُنَا؟

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ -يَعْنِي: مَا أَخْتَارُ لَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ-.

ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ -جَاءَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُقَاتِلِينَ مُجَاهِدِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ نُكْثِ الْعَهْدِ، وَبَعْدِ نَقْضِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ إِخْلَافِ الْوَعْدِ، فَمَا هَيَّجَ عَلَيْهِمْ جُنْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْغَدْرُ، وَجَاءَ النَّبِيُّ الْوَفِيُّ ﷺ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ-.

فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى -الْمُجَنِّبَتَانِ: الْجَنَاحَانِ بَيْنَهُمَا قَلْبُ الْجَيْشِ-، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ -الَّذِينَ لَا خِوَذَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ لَا أَدْرُعَ تَسْتُرُ صُدُورَهُمْ-، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي -يَعْنِي: فَمَضَوْا فِي بَطْنِ الْوَادِي مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَعْنِي الحُسَّرَ-، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ فِي كَتِيبَةٍ -وَالْكَتِيبَةُ: الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْجَيْشِ-.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ: ((أَبُو هُرَيْرَةَ)).

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ».

يَعْنِي: صِحْ بِهِمْ، اهْتِفْ بِهِمْ، اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ، صِحْ بِهِمْ، وَادْعُهُمْ إِلَيَّ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ-.

قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ -وَحَذَفَ هَاهُنَا حَدَثًا وَكَلَامًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ».

قَالَ: فَأَحَاطُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَأَطَافُوا بِهِ.

اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، ادْعُهُمْ إِلَيَّ، فَذَهَبْتُ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ أَدْعُو الْأَنْصَارَ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ هَلُمُّوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا أَسْرَعَ طَائِرًا بِجَنَاحَيِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ النَّبِيِّ ﷺ، حَتَّى كَانُوا عِنْدَهُ، فَأَطَافُوا بِهِ، حَذَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ.

فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا -يَعْنِي: جَمَعَتِ السِّفْلَةَ وَالْأَوْبَاشَ وَسَقَطَ الْمَتَاعِ مِنَ النَّاسِ، فَجَعَلَتْهُمْ تَقْدِمَةً يَلْقَوْنَ مُحَمَّدًا وَجُنْدَهُ ﷺ.

فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ -يَعْنِي: إِنْ أَصَابُوا مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ فَوْزًا وَنَصْرًا كُنَّا مَعَهُمْ-، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ».

ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى -كَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ هَكَذَا -وَأَمْسَكَ الشَّيْخُ كَفَّهُ بِكَفِّهِ؛ إِشَارَةً لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ-، «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ» -يَعْنِي: قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْكُمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ -وَهُوَ الَّذِي يُصَارُ إِلَيْهِ-: فَأَخْفَى شِمَالَهُ ﷺ، وَأَمْضَى عَلَيْهَا يَمِينَهُ هَكَذَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ»، ثُمَّ جَعَلَ يَدَيْهِ هَكَذَا، يَعْنِي: افْرُوهُمْ فَرْيًا، وَمَثِّلُوا بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ-، قَالَ النبي ﷺ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا».

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ -لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ-، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا -يَعْنِي: هُمْ لَا يُدَافِعُونَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُدْفَعُونَ، لَا يَصْنَعُونَ شَيْئًا-.

قَالَ -فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ مَاذَا حَدَثَ؟-: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ -جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَسْعَى حَثِيثًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ -وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ- أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ -يَعْنِي: أُبِيدَتْ وَاسْتُأْصِلَتْ، وَيُقَالُ لِلْأَجْمَاعِ الَّذِينَ يُجْمَعُونَ مَعًا، وَلِلْأَوْزَاعِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِذَا مَا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ يُقَالُ لِذَلِكَ: خَضْرَاءُ، وَخَضْرَاؤُهُمْ: جَمَاعَاتُهُمْ، يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ يَا رَسُولَ اللهِ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ يَمُرُّ بِأَمْرَيْنِ كَبِيرَيْنِ:

فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ أَخْرَجْتُمُونِي بَعْدَمَا طَارَدْتُمُونِي، وَحَاوَلْتُمْ قَتْلِي، فَتَرَصَّدْتُمْ بِي رَصَدًا، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَهْتَبِلُوا مِنِّي غِرَّةً لِلْقَضَاءِ عَلَيَّ، وَخَرَجْتُ، وَتَرَكْتُ، وَمَضَيْتُ، وَقَاتَلْتُ، وَجَاهَدْتُ، وَتَعِبْتُ، وَدَافَعْتُ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ أُبْتُ وَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَّا لِنُكْثِكُمْ بِعَهْدِكُمْ، وَنَقْضِكُمْ لِعَقْدِكُمْ، وَخَيْسِكُمْ بِوَعْدِكُمْ، فَلَمْ أَفْتَتْ عَلَيْكُمْ؛ فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟!! لَكِنَّهُ الصَّبُورُ الْحَلِيمُ ﷺ.

وَصَّى الْأَنْصَارَ قَبْلُ بِالْإِشَارَةِ هَكَذَا -أَمْسَكَ كَفَّهُ بِكَفِّهِ-، أَوْبَاشُهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَدْفَعُونَ بِهِمْ فِي وُجُوهِكُمْ -هَكَذَا وَأَمْسَكَ كَفَّهُ بِكَفِّهِ-.

وَالْآنَ مَاذَا يَكُونُ الشَّانُ مَعَ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؟

لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ».

فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ -يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، مَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهُمْ مُلُوكُ الْبَيَانِ، وَسَلَاطِينُ الْبَلَاغَةِ، وَأَسَاطِينُ التَّعْبِيرِ أَيْضًا؟!! أَوَ مَا كَانَتْ هُنَالِكَ لَفْظَةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَاهُنَا مُعَبِّرَةً مُؤَدِّيَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ سِوَى هَذَا الْإِطْلَاقِ؟!-

أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ -تَدْرِي.. لَقَدْ قَالُوهَا كَأَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِعُذْرٍ؛ بَلْ كَأَنَّمَا دَفَعُوا بِهَا اعْتِذَارًا؛ يَعْنِي: النَّبِيُّ ﷺ حِينَمَا رَأَوْا رَأْفَتَهُ بِقَوْمِهِ، وَكَفَّهُ الْقَتْلَ عَنْهُمْ ﷺ؛ جَنَحَتْ بِهِ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ فِي أَعْلَى مَرَامِيهَا وَأَجْلَى مَسَامِيهَا، فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ هَاهُنَا، وَلَهُ الْعُذْرُ كُلُّهُ ﷺ.

لِمَاذَا أَمَّنَ وَقَدْ أَمَرَ بِأَنْ نَجْعَلَ فِيهِمُ السَّيْفَ؟

لِمَاذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ؛ وَقَدْ أَمَرَنَا قَبْلُ وَانْتَدَبَنَا وَحْدَنَا: لَا تَدْعُ لِي إِلَّا الْأَنْصَارَ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ؟

وَهَذِهِ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَأْتِيهَا الْأَمْرُ الْمُبَاشِرُ بِالْفِعْلِ، وَهِيَ تَفْعَلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَقْصِيرٍ، حَتَّى يَأْتِيَ الْأَمْرُ مِنَ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ((مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)).

نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ ﷺ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ -لَمْ يَنْقُلْهَا، أَعْنِي: الْقَوْلَةَ الَّتِي قِيلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ -يَعْنِي: الْوَحْيَ-؛ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ؟)).

وَهَذَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ بِالسُّنَّةِ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِالطَّرِيقِ الْمُبَاشِرِ هَكَذَا.

قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ.

قَالَ: ((كَلَّا)) -وَكَلَّا هَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَصْلِهَا -يَعْنِي: لَا، لَمْ يَحْدُثْ أَنْ أَخَذَتْنِي رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِي وَقَدْ خَرَجْتُ مِنْهَا مُهَاجِرًا، فَلَا أَعُودُ مِنْ هِجْرَتِي، وَإِنَّمَا أَنَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَا كَانَ، وَأَيْضًا: لَا رَأْفَةَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ مِنْ كَفِّ الْقَتْلِ عَنْهُمْ وَلَا شَيْءَ؛ لِأَنَّهُمْ عَشِيرَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (كَلَّا) هَاهُنَا بِمَعْنَى: حَقًّا، نَعَمْ، أَدْرَكَتْنِي رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِي وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِي؛ وَلَكِنِّي لَا أَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَى رَغَبَاتِي الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا أَعُودُ إِلَى قَنَاعَاتِي الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا -كَمَا قَالَ ﷺ، قَالَ: كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَإِذَنْ؛ فَمَاذَا سَيَكُونُ بَعْدُ؟-

قَالَ: ((كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ».

يَا لَلْوَفَاءِ!!

الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، وَهَذِهِ أَرْضِي وَأَرْضُ آبَائِي.

وَهَذِهِ دِيَارِي وَدِيَارُ أَجْدَادِي، وَهَذَا الْبَيْتُ بِأَشْرَفِ قَرْيَةٍ بِبَلْدَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، حَبِيبٌ إِلَيَّ، عَزِيزٌ عَلَيَّ، بَنَاهُ أَبَوَايَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِنِّي لَأَوَدُّ، وَإِنِّي لَوَادٌّ أَنْ أَظَلَّ عِنْدَهُ أَطُوفُ بِهِ، وَأَسْتَلِمُ حَجَرَهُ، وَأَظَلُّ هَاهُنَا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدَّرَ.

وَإِنَّهُ ﷺ لَا يَصْدُرُ فِي شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ وَهُوَ يُتَرْجِمُ عَنِ الْوَحْيِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ: ((وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).

فَأَظَّلُ بَيْنَكُمُ الْحَيَاةَ الْبَاقِيَةَ، فَإِذَا مِتُّ فَبَيْنَكُمْ أَمُوتُ، وَبِدِيَارِكُمْ أُدْفَنُ، وَقَبْرِي عِنْدَكُمْ وَلَدَيْكُمْ ﷺ.

وَفَاءٌ مَا بَعْدَهُ وَفَاءٌ!!

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللهِ؛ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ.

وَاللهِ مَا قُلْنَا مَا قُلْنَا إِلَّا أَنَّا أَشِحَّةٌ عَلَيْكَ، وَإِلَّا إِنَّا بُخَلَاءُ بِكَ غَايَةَ الْبُخْلِ، لَا نُفَرِّطُ فِيكَ أَبَدًا، وَلَا نَتَصَوَّرُ أَنْ نَعُودَ وَنُخَلِّيَكَ بَعْدَنَا، وَلَا أَنْ نُغَادِرَكَ فِي مَكَانٍ لَا تَكُونُ مَعَنَا فِيهِ ﷺ.

وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَوَفَاءً بِوَفَاءٍ ((الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).

فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ.

إِنَّ الرَّوَابِطَ بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، وَالصِّلَاتُ الَّتِي تَصِلُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ مُتَعَدِّدَةٌ، وَرَابِطَةُ الْجِوَارِ مِنَ الرَّوَابِطِ الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، وَلِلْجَارِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ حُرْمَةٌ مَصُونَةٌ وَحُقُوقٌ وَآدَابٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا: مُرَاعَاةُ مَشَاعِرِهِ، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِهِ، وَجَبْرُ كَسْرِ قَلْبِهِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ: ((إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ)).

لَقَدْ رَاعَى النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى الْحَيَوَانَاتِ.. رَاعَى ﷺ تَأَلُّمَ قُلُوبِهَا، وَحُزْنَ أَفْئِدَتِهَا، وَتَعَبَ أَجْسَادِهَا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا فَأَخَذَ رَجُلٌ بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟».

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا أَخَذْتُ بَيْضَتَهَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ارْدُدْ؛ رَحْمَةً لَهَا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

«حُمَّرَةٌ»: طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ.

«تَرِفُّ»؛ أَيْ: تَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهَا؛ تَعَطُّفًا وَإِظْهَارًا لِتَعَلُّقِهَا بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «ارْدُدْ، رَحْمَةً لهَا»: تَأَمَّلْ فِي تَكَامُلِ هَذَا الدِّينِ، إِذْ هُوَ الدِّينُ الْخَاتَمُ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لَقَدِ اتَّسَعَ وَقْتُ وَاهْتِمَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْحُمَّرَةِ بِذَلِكَ الطَّائِرِ، وَيَأْمُرُ بِرَدِّ بَيْضَةِ الْحُمَّرَةِ إِلَيْهَا رَحْمَةً لَهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَفِي إِقَامَةِ دِينِ اللهِ وَفِي مُجَالَدَةِ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِقَامَةً لِلدِّينِ، وَتَأْسِيسًا لِدَعَائِمِ الْمِلَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَصْرِفُ هَذَا الْوَقْتَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُمَّرَةِ.

«فَجَاءَتْ تَرِفُّ»: جَعَلَتْ تَفْرُشُ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى «تَعْرُشُ»؛ أَيْ: بِجَنَاحَيْهَا بِفَرْشِ الْجَنَاحِ وَبَسْطِهِ، وَ«التَّعْرِيشُ»: أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّائِرُ، ويُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهِ.

«فَجَعَ هَذِهِ ببَيْضَتِهَا»؛ أَيْ: وَجَعَ قَلْبَهَا وَأَقْلَقَهَا وَأَوْحَشَهَا.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْجَمَلِ الَّذِي حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟»؛ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ كَدَّهُ وَتُتْعِبُهُ».

لِأَنَّ هَذَا الْجَمَلَ كَانَ نَافِرًا، وَكَانَ فِي حَائِطٍ، فَتَحَاشَاهُ النَّاسُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا نَخْشَى عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَدَخَلَ فَلَمَّا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ ﷺ، جَاءَ حَتَّى جَعَلَ رَأْسَهُ عَلَى كَتِفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخَذَ يَبْكِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى رَأسِهِ وَدِفْرَاهُ قَدْ وَضَعَ ﷺ عَلَيْهِمَا يَدَهُ، وَقَالَ: «لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالْبَهَائِمِ وَبِالطُّيُورِ وَبِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ في دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، بَيَانُ كَمَالِ رَحْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ، تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ دَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكُمُ الْغَيْرُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ عَالَمِ الطَّيْرِ.

((أَثَرُ جَبْرِ الْخَاطِرِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِفِعْلِ الْخَيْرِ عَامَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ جَبْرُ الْخَوَاطِرِ، وَمُرَاعَاةُ الْمَشَاعِرِ، وَتَسْكِينُ الْقُلُوبِ، وَتَطْيِيبُ النُّفُوسِ، وَعَلَّقَ الْفَلَاحَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ، وَخَصَّ مِنْهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؛ لِفَضْلِهِمَا وَرُكْنِيَّتِهِمَا، وَعِبَادَتَهُ الَّتِي هِيَ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَسَلْوَةُ الْقَلْبِ الْمَحْزُونِ، وَأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ عَلَى الْعِبَادِ يَقْتَضِي مِنْهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الْخَيْرِ عُمُومًا.

وَعَلَّقَ -تَعَالَى- الْفَلَاحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ: تَفُوزُونَ بِالْمَطْلُوبِ الْمَرْغُوبِ، وَتَنْجُونَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، فَلَا طَرِيقَ لِلْفَلَاحِ سِوَى الْإِخْلَاصُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ، وَالسَّعْيُ فِي نَفْعِ عَبِيدِهِ، فَمَنْ وُفِّقَ لِذَلِكَ فَلَهُ الْقِدْحُ الْمُعَلَّى مِنَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ)).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ تَطْيِيبَ الْخَوَاطِرِ لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ عَلَى النُّفُوسِ، يَمْسَحُ الْمُعَانَاةَ، وَيُصَبِّرُ، وَيُقَوِّي الْقَلْبَ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّدَائِدِ، وَيَمْنَعُ مِنَ الِانْهِيَارَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ.

إِنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ -جَبْرَ الْخَوَاطِرِ- تُسْهِمُ فِي إِشَاعَةِ الْخَيْرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَرَابُطِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَانْتِشَارِ الْحُبِّ، وَالتَّرَاحُمِ، وَكُلُّهَا مِمَّا يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ، وَمِمَّا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ.

لَا شَكَّ أَنَّ جَبْرَ الْخَاطِرَ قِيمَةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ تَمْتَدُّ لِتَشْمَلَ التَّكَافُلَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، فَالْإِسْلَامُ لَا يَعْرِفُ الْأَنَانِيَةَ أَوِ السَّلْبِيَّةَ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الْإِخَاءَ الصَّادِقَ، وَمُرَاعَاةَ مَشَاعِرِ النَّاسِ، وَجَبْرَ خَوَاطِرِهِمْ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

لَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِائْتِلَافِ، وَلِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ التَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ إِلَى الْعَوْدَةِ اللهِ وَحْدَهُ مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ، مُتَآلِفَةً قُلُوبُهُمْ، عَائِدَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّتِهَا، وَبِكُلِيَّتِهَا كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَى.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ، حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ؛ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ.

فَذَلِكَ فِي الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ..

عَلَى أَنَّنَا نُؤَكِّدُ أَنَّ جَبْرَ الْخَاطِرِ كَمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ؛ فَقَدْ يَكُونُ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ بِدُعَاءٍ صَادِقٍ، أَوْ بِنَصِيحَةٍ خَالِصَةٍ، أَوْ بِابْتِسَامَةٍ طَيِّبَةٍ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)) أَيْ: مُبْتَسِمٍ مُسْتَبْشِرٍ.

كَمَا نُؤَكِّدُ أَنَّ جَبْرَ الْخَاطِرِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَوَحْدَةِ الصَّفِّ، وَتَرَابُطِ الْمُجْتَمَعِ.

((دِينُ جَبْرِ الْخَوَاطِرِ وَرِعَايَةِ الْمَشَاعِرِ))

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ قُلُوبَ النَّاسِ، فَإِذَا انْكَسَرَ قَلْبُ شَخْصٍ فَلْيَحْرِصْ عَلَى جَبْرِهِ بِمَا اسْتَطَاعَ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا فَضْلًا عَظِيمًا.

وَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ النَّاسَ بِنَفْسِهِ؛ بِمَعْنَى أَنْ يُعَامِلَ النَّاسَ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْكَسَرَ قَلْبُهُ يُحِبُّ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَجْبُرُوهُ، فَيَنْبَغِي هُوَ -أَيْضًا- أَنْ يَجْبُرَ قُلُوبَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ أَوَّلًا إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ، وَثَانِيًا رَجَاءً لِفَضْلِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-)).

هَذَا الدِّينُ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي وَضَّحَهَا الْكِتَابُ وَبَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ.. لَوْ أَنَّ بَاحِثًا جَادًّا تَتَبَّعَ مَا فِي النُّصُوصِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الشَّفِيفَةِ الَّتِي رَاعَى فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ الْوِجْدَانِيَّاتِ، وَالْمَشَاعِرَ، وَالْعَوَاطِفَ، وَالْأَحَاسِيسَ.. لَوْ أَنَّ بَاحِثًا جَادًّا تَوَفَّرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لَاسْتَخْرَجَ كَمًّا هَائِلًا، وَلَوَجَّهَهُ تَوْجِيهًا صَحِيحًا، وَلَكَانَ بَحْثًا نَافِعًا -بِمَشِيئَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَجِدَ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْكِتَابِ أَوْ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ عَطْفٍ، وَرَحْمَةٍ، وَرِعَايَةٍ لِمَشَاعِرِ الْخَلْقِ وَأَحَاسِيسِهِمْ.. مَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَجِدَ؛ وَجَدْتَ ﷺ.

كَانَ لَا يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ أَحَدٍ، أَوْ وَضَعَ يَدَ أَحَدٍ فِي يَدِهِ -يَعْنِي: مُصَافِحًا-؛ لَمْ يَنْزعْ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزَعُ يَدَهُ.

كَانَ لَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِسُوءٍ ﷺ.

كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، كَانَ ﷺ يَلْقَى أَصْحَابَهُ دَائِمًا بِالْبِشْرِ وَالْمَوَدَّةِ، يُوَجِّهُهُمْ، وَيَرْحَمُهُمْ، وَيُكْرِمُهُمْ ﷺ، وَيُعَامِلُهُمْ بِالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَالْمَوَدَّةِ وَالْحِلْمِ وَالرَّحْمَةِ، وَيَكْفِي فِي خُلُقِهِ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَالُوهُ فِي وَصْفِ أَخْلَاقِهِ: ((لَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا)).

يَا لَهْ مِنْ وَصْفٍ! وَصْفٌ مُنْطَبِقٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي صَاغَ هَذِهِ الصِّيَاغَةَ كَانَ مُوَفَّقًا لِصَوْغِهَا وَصِيَاغَتِهَا جِدًّا، فَهِيَ كَالسَّبِيكَةِ الذَّهَبِ الَّتِي تُصَاغُ، وَهُوَ يَصُوغُهَا أُسْلُوبًا عَذْبًا شَفِيفًا رَفِيفًا، يَقُولُ: ((لَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا))؛ وَالْجَهْلُ هَا هُنَا لَيْسَ الَّذِي ضِدُّ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ، فَلَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ وَلَا سَفَاهَةُ السَّفِيهِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَهَذَا بَحْرٌ لَا يَنْضُبُ؛ مِنَ الْحِلْمِ، وَالرَّأْفَةِ، وَالرِّقَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّفَقَةِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

المصدر

جَبْرُ الْخَاطِرِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان