الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ

الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ

((الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((دِينُ الْأَخْلَاقِ وَنَبِيُّ الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ ﷺ ))

فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْقِيَمِ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ﷺ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَيَحُثُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَالْفَضْلِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْخَيْرِ، وَيَزْجُرُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْبَغْيِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْحَيَاةَ تَخْلُو مِنَ الْقِيمَةِ إِذَا خَلَتْ مِنَ الْقِيَمِ، وَإِنَّ الْحَيَاةَ لَتَصِيرُ عَدِيمَةَ الْمَعْنَى إِذَا خَلَتْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنَ الْمُثُلِ، وَإِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَصِحُّ حَقًّا وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهَا عَلَى الْجَادَّةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً مِنْ نَبْعِ الْقِيَمِ، قَائِمَةً عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْمُثُلِ.

تَخْلُو الْحَيَاةُ مِنَ الْقِيمَةِ إِذَا خَلَتِ الْحَيَاةُ مِنَ الْقِيَمِ..

وَقَدْ عَلَّمَنَا دِينُنَا كِتَابًا وَسُنَّةً؛ فَأَرْشَدَنَا رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّهُ الْكَرِيمُ فِي سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ الْمُطَهَّرَةِ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي لَا تَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ إِلَّا بِهِ، وَلَا تَقُومُ الْحَيَاةُ إِلَّا عَلَيْهِ.

لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِرِسَالَةٍ عَظِيمَةٍ جَمَعَتْ بَيْنَ الْقِيَمِ الْفَاضِلَةِ وَالْمُثُلِ الْعَالِيَةِ؛ فَلَمْ تَتْرُكْ فَضِيلَةً مِنَ الْفَضَائِلِ وَلَا قِيمَةً مِنَ الْقِيَمِ تَسْمُو بِهَا النُّفُوسُ إِلَّا دَعَتْ إِلَيْهَا، وَحَثَّتْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، وَمَا تَرَكَتْ خُلُقًا ذَمِيمًا إِلَّا نَهَتْ عَنْهُ؛ فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

فَلَا عَجَبَ -إِذَنْ- أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.

 وَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ الْمَثَلَ الْأَعْلَى فِي الْقِيَمِ النَّبِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَظِيمَةِ.. كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.

أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَبَّرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَسْأَلُ الْهِدَايَةَ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا؛ فَكَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ خُلُقُهُ إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؟!!

وَكُلُّ إِنْسَانٍ -لَا مَحَالَةَ- يَجْهَلُ الْكَثِيرَ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى تَرَكَ فَوَاحِشَ الْمَعَاصِي؛ فَرُبَّمَا ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَصَفَّى أَخْلَاقَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَاسْتَنَامَ إِلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ كَحَاجَتِهِ إِلَى الْهَوَاءِ؛ بَلْ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْهَوَاءِ يَعْنِي مَوْتَ الْبَدَنِ، وَفَقْدَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَعْنِي مَوْتَ الْقَلْبِ، وَفِي مَوْتِ الْقَلْبِ فَقْدُ الدِّينِ وَهَلَاكُ الْأَبَدِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا؛ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيهِقُونَ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمنَا الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ؛ فَمَا الْمُتَفَيهِقُونَ؟

قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

لَمَّا كَانَ خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ؛ كَانَ شَرُّ النَّاسِ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي سُوءِ الْخُلُقِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كلَّ فاحشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.

وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.

لَقَدْ أَدَّبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَرَبَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَكْمَلَ تَرْبِيَتَهُ، وَأَعْطَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ.

النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.

تَلْتَمِسُ مَا تَلْتَمِسُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ؛ تَجِدُ الْعَجَبَ الْعَاجِبَ، تَجِدُ الْحَصَى فِي الْكَفِّ مُسَبِّحًا -فِي كَفِّهِ الشَّرِيفِ-، وَتَجِدُ الْجِذْعَ يَحِنُّ إِلَيْهِ حَنِينًا، وَيَئِنُّ عِنْدَ الْفِصَالِ عَنْهُ أَنِينًا، وَيَنْزِلُ ﷺ بِمَحْضَرٍ -بِمَشْهَدٍ وَمَرْأًى وَمَسْمَعٍ- عَنْ مِنْبَرِهِ؛ لِيُهَدْهِدَ -كَالْأُمِّ الرَّءُومِ عَلَى رَأْسِ طِفْلِهَا- عَلَى الْجِذْعِ، وَهُوَ أَعْجَمُ لَا يُبِينُ، وَهُوَ مِنَ الْجَمَادِ وَإِلَى الْجَمَادِ قَدْ صَارَ، يُهَدْهِدُ عَلَيْهِ، فَمَا يَزَالُ يَخْفُتُ صَوْتَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَيَنْقَطِعَ؛ وَعِنْدَئِذٍ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَفْعَلْ لَظَلَّ يَحِنُّ إِلَيَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

وَلَكَانَ الدَّاخِلُ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى أَوَانِ الْإِذْنِ بِخَرَابِ الدُّنْيَا.. لَكَانَ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ يَسْمَعُ حَنِينَ الْجِذْعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

تَلْتَمِسُ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ، وَتَرَى الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ الْعَظِيمَاتِ السَّامِقَاتِ عَلَى يَدَيْ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ ﷺ، تَجِدُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَدٍّ وَلَا حَصْرٍ؛ وَلَكِنْ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَمَثَّلَتْ قَلْبًا يَنْبِضُ، وَرُوحًا يَرِفُّ، وَنَفْسًا تُحِسُّ، وَجَسَدًا عَلَى الْأَرْضِ يَتَحَرَّكُ، هَذَا وَرَبِّي هُوَ الْإِعْجَازُ الْأَكْبَرُ، هَذَا وَرَبِّي هُوَ مَا تَحَوَّلَ فِي الْجَسَدِ الطَّاهِرِ وَفِي الرُّوحِ الشَّرِيفِ، وَفِي الْقَلْبِ الْمُبَارَكِ وَفِي النَّفْسِ الْعَفِيفَةِ.

هَذَا وَرَبِّي هُوَ الَّذِي تَحَوَّلَ مِنْ قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى حَرَكَةٍ يَتَحَرَّكُ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).

((حَثُّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَأَمْعَنَ فِيهَا النَّظَرَ؛ ظَهَرَ لَهُ صُوَرٌ وَمَجَالَاتٌ مِنْ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: دَعْوَةُ الْقُرْآنِ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيهَا، وَوُجُوبِ التَّحَلِّي بِهَا، وَذَمُّهُ الْمُخَالِفِينَ لِلْفَضَائِلِ وَأُصُولِهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكَوْنِ الْأَخْلَاقِ مِيزَانًا شَرْعِيًّا يُهَذِّبُ الْإِنْسَانَ، وَيَرْقَى بِهِ إِلَى مَدَارِجِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْفَاضِلَةِ.

إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْأَخْلَاقِ دَعْوَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي أَعْظَمِ نَتَائِجِهِ، وَفِي أَطْيَبِ مَا أَثْمَرَتْهُ تَعَالِيمُهُ مِنْ قِيَمٍ رَشِيدَةٍ وَمُثُلٍ نَبِيلَةٍ، وَقَدْ حَفِلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْقِيَمِ السَّامِيَةِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

((الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ يَشْمَلُ الْعَدْلَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عِبَادِهِ، فَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ: أَدَاءُ الْحُقُوقِ كَامِلَةً مَوْفُورَةً؛ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْعَبْدُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، وَيُعَامِلَ الْخَلْقَ بِالْعَدْلِ التَّامِّ، فَيُؤَدِّي كُلُّ وَالٍ مَا عَلَيْهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَنُوَّابِ الْخَلِيفَةِ وَنُوَّابِ الْقَاضِي.

وَالْعَدْلُ: هُوَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُلُوكِهِ، وَمِنَ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ: أَنْ تُعَامِلَهُمْ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، بِإِيفَاءِ جَمِيعِ مَا عَلَيْكَ؛ فَلَا تَبْخَسْ لَهُمْ حَقًّا وَلَا تَغُشَّهُمْ وَلَا تَخْدَعْهُمْ وَتَظْلِمْهُمْ.

فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ، وَالْإِحْسَانُ فَضِيلَةٌ مُسْتَحَبٌّ؛ وَذَلِكَ كَنَفْعِ النَّاسِ بِالْمَالِ، وَالْبَدَنِ، وَالْعِلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ؛ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ.

وَخَصَّ اللَّهُ إِيتَاءَ ذِي الْقُرْبَى -وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ- لِتَأَكُّدِ حَقِّهِمْ، وَتَعَيُّنِ صِلَتِهِمْ وَبِرِّهِمْ، وَالْحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَقَارِبِ؛ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ؛ لَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ كَانَ أَحَقَّ بِالْبِرِّ.

وَقَوْلُهُ: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: وَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ؛ كَالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ الْخُلُقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ كُلُّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقٍ بِحَقِّ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَبِالْبَغْيِ كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ.

فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ تَرْجِعُ إِلَيْهَا سَائِرُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى عَدْلٍ أَوْ إِحْسَانٍ أَوْ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى فَهِيَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فَحْشَاءَ أَوْ مُنْكَرٍ أَوْ بَغْيٍ فَهِيَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.

وَبِهَا يُعْلَمُ حُسْنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَقُبْحُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِهَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَتُرَدُّ إِلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْوَالِ، فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ فِي كَلَامِهِ الْهُدَى وَالشِّفَاءَ وَالنُّورَ وَالْفَرْقَانَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ بِأَمْرِكُمْ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِكُمْ، وَنَهْيِكُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مَا يَعِظُكُمْ بِهِ فَتَفْهَمُونَهُ وَتَعْقِلُونَهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهُ وَعَقَلْتُمُوهُ عَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ، فَسَعِدْتُمْ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 33-34].

ادْفَعْ مَنْ يُرِيدُ مُقَاوَمَةَ دَعْوَتِكَ بِمَا يَضُرُّكَ أَوْ يُؤْذِيكَ، وَيُقْبِلُ عَلَيْكَ بِشَرٍّ.. ادْفَعْهُ بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ مِنْ خُلُقٍ، أَوْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ صَدِيقٌ قَرِيبٌ صَافٍ لَكَ، لَا يَحْمِلُ عَدَاوَةً لَكَ وَلَا كَرَاهِيَةً، بَلْ يَحْمِلُ وُدًّا وَوَلَاءً.

وَقَدْ غَرَسَ النَّبِيُّ ﷺ الْقِيَمَ الْعَظِيمَةَ وَالْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ وَالْمُثُلَ النَّبِيلَةَ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَأَمَرَ بِهَا الْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّحَلِّي بِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟

فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَهَا فَقَالَ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَتْ: ((أَلَيْسَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ».

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ..

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَ((لَا يَفْرَكُ)) أَيْ: لَا يُبْغِضُهَا بُغْضًا مُصْمَتًا يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ! لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

((جُمْلَةٌ مِنَ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ))

لَا شَكَّ أَنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ قَدِ اهْتَمَّ بِالْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الَّتِي تَحْفَظُ كِيَانَ الْمُجْتَمَعِ، وَتُقَوِّي أَرْكَانَهُ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ مِنْ كُبْرَى غَايَاتِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ: قِيمَةُ التَّعَاوُنِ وَالتَّكَافُلِ الَّتِي تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ؛ فَالْوَطَنُ الْقَوِيُّ يُبْنَى عَلَى الْعَقِيدَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْقَوِيمَةِ، يَقُومُ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ بِمَا يُؤَسِّسُ لِمُجْتَمَعٍ مُتَرَابِطٍ يَقُومُ عَلَى الْحُبِّ وَالْعَطَاءِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

(({وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أَيْ: لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى الْبِرِّ؛ وَهُوَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِتَرْكِ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَكُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِهَا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَبِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا بِكُلِّ قَوْلٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا وَيُنَشِّطُ لَهَا، وَبِكُلِّ فِعْلٍ كَذَلِكَ.

{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ}: وَهُوَ التَّجَرُّءُ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي يَأْثَمُ صَاحِبُهَا وَيُحْرَجُ، {وَالْعُدْوَانِ}: وَهُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْخَلْقِ فِي دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ وَظُلْمٍ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَفُّ نَفْسِهِ عَنْهُ، ثُمَّ إِعَانَةُ غَيْرِهِ عَلَى تَرْكِهِ)).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»)).

 ((أَرْمَلُوا)): فَرَغَ زَادُهُمْ، أَوْ قَارَبَ الْفَرَاغَ.

((أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَتَسَاعَدُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ جَمَعُوهُ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)). قَالَ ذَلِكَ تَشْجِيعًا لِمَا يَفْعَلُونَهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْجَمْعِيَّاتِ التَّعَاوُنِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، تَجْتَمِعُ الْقَبِيلَةُ عَلَى أَنْ يَضَعُوا صُنْدُوقًا يَجْمَعُونَ فِيهِ مَا يُرِيدُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْمَالِ؛ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ، وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّرْشِيحِ، فَيَكُونُ -مَثَلًا- عَلَى  كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدْفَعَ اثْنَيْنِ فِي الْمِائَةِ مِنْ رَاتِبِهِ، أَوْ مِنْ كَسْبِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّنْدُوقُ مُعَدًّا لِلْحَوَائِجِ وَالنَّكْبَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

فَهَذَا أَصْلُهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَإِذَا جَمَعَ النَّاسُ صُنْدُوقًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِيَتَسَاعَدُوا فِيهِ عَلَى نَكْبَاتِ الزَّمَانِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا فِي السُّنَّةِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي يُوضَعُ فِي الصُّنْدُوقِ لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْقَدْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ، وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لَهُ مَالِكٌ، وَهَذَا الصُّنْدُوقُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ؛ بَلْ مَنْ حَصَلَ عَلَيْهِ حَادِثٌ فَإِنَّهُ يُسَاعَدُ مِنْهُ، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَضَعُوا هَذِهِ النُّقُودَ فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَخْذَهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَخْرَجُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِمَالِ مَنْ؟ لَا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسَاعَدَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا زَكَاةٌ)).

وَمِنَ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ: قِيَمُ الشَّهَامَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالتَّضْحِيَةِ وَالْإِيثَارِ؛ مِمَّا يَزِيدُ مِنْ لُحْمَةِ التَّمَاسُكِ وَالتَّرَابُطِ الْوَطَنِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، وَيَزْرَعُ الْمَوَدَّةَ وَالْإِخَاءَ وَالصَّفَاءَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ حِينَمَا نَهَى أَبْنَاءَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ عَنِ التَّبَاغُضِ، وَالتَّحَاسُدِ، وَالتَّقَاطُعِ، وَالتَّدَابُرِ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

وَمِنَ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الَّتِي حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهَا الرِّعَايَةَ: قِيمَةُ الْعِنَايَةِ بِذَوِي الْهِمَمِ، وَالْأَيْتَامِ، وَالضُّعَفَاءِ، وَكِبَارِ السِّنِّ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ حُسْنَ رِعَايَتِهِمْ وَاجِبٌ دِينِيٌّ وَوَطَنِيٌّ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَقَالَ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ»، وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى؛ يَعْنِي: أَنَّهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، أَنْ يُحْشَرَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ بِسَبَبِ عَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ!)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «... بِدَعْوَتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ».

وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَسْتَصْغِرَ أَوْ يَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَّ عَمَلٍ يَقْبَلُهُ اللهُ؛ فَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ جَابِرٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُحْتَبٍ فِي بُرْدَةٍ، وَإِنَّ هُدَّابَهَا لَعَلَى قَدَمَيْهِ.

فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي)).

قَالَ: «عَلَيْكَ بِاتِّقَاءِ اللهِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ لِلْمُسْتَسْقِي مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ، أَوْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ)).

كَمَا اعْتَبَرَ الْإِسْلَامُ إِنْجَازَاتِ ذَوِي الْهِمَمِ قُوَّةً إِضَافِيَّةً لِلْمُجْتَمَعِ، وَقُدْوَةً لِغَيْرِهِمْ، فَأَتَاحَ لَهُمُ الْمَجَالَ لِيَقُومُوا بِدَوْرِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِشَكْلٍ مُؤَثِّرٍ، وَمِنْ هُنَا كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُؤَذِّنًا لِنَبِيِّنَا ﷺ، وَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ يُقْرِئُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الْقُرْآنَ، قَالَ الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمَا رَأَيْتُ النَّاسَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ كَفَرَحِهِمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْإِمَاءَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ جَاءَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ: قِيمَةَ التَّحَرِّيِ وَالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ قَبْلَ تَرْدِيدِهَا وَنَشْرِهَا، وَقَدْ أَكَّدَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ النَّبِيلَةِ، وَحَذَّرَتْ مِنَ الشَّائِعَاتِ وَمُرَوِّجيِهَا، بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَثَّ الشَّائِعَاتِ هَدَفُهُ تَدْمِيرُ الْمُجْتَمَعَاتِ مِنْ دَاخِلِهَا، وَالْعَمَلُ عَلَى نَشْرِ الْيَأْسِ وَالْإِحْبَاطِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا؛ فَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَمِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهتَانِ وَالنَّمِيمَةِ.

وَهَلِ الشَّائِعَةُ إِلَّا كَذَلِكَ؟!!

وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِحِفْظِ اللِّسَانِ، وَأَظْهَرَ خُطُورَةَ الْكَلِمَةِ، وَحَرَّمَ الْقَذْفَ وَالْإِفْكَ، وَتَوَعَّدَ مُحِبِّي رَوَاجِ الشَّائِعَاتِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ, {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].

وَالشَّائِعَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12 ].

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».

لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ الدَّلِيلَ الْبُرهَانِيَّ عَلَى أَيِّ خَبَرٍ يَسمَعُهُ, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَمُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ كَلَامٍ وَشَائِعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفْكِيرَهُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَائِعَةٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي عَوَاقِبِ الْإِشَاعَةِ, وَأَنْ يَعُودَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّاتٍ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

كُلُّ خَبَر يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ, أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ, أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنسَانٍ بَغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ, لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ, يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.

وَاللهُ -تَعَالَى- ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ  لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ, وَتُثِيرُ الْخَوْفَ وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِحِفْظِ مَنْطِقِنَا وَبحِفْظِ أَلْسِنَتِنَا.

فَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ؛ حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّآلُفُ وَالتَّرَابُطُ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.

 ((أَعْظَمُ سُبُلِ اكْتِسَابِ حُسْنِ الْخُلُقِ:

سَلَامَةُ الْعَقِيدَةِ وَصِحَّتُهَا))

إِنَّ هُنَاكَ أَسْبَابًا عَدِيدَةً، وَوَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةً يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ مِنْ خِلَالِهَا أَنْ يَكْتَسِبَ حُسْنَ الْخُلُقِ، وَأَعْظَمُ هَذِهِ السُّبُلِ وَأَجَلُّهَا: سَلَامَةُ الْعَقِيدَةِ؛ فَشَأْنُ الْعَقِيدَةِ عَظِيمٌ، وَأَمْرُهَا جَلَلٌ؛ فَالسُّلُوكُ -فِي الْغَالِبِ- ثَمَرَةٌ لِمَا يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ فِكْرٍ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ مُعْتَقَدٍ.

إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ -تَعَالَى-: أَنْ يَتَحَلَّى الْمُسْلِمُ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَيُعَامِلَ النَّاسَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

إِنَّ عِلْمَ الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ التَّوْحِيدِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَفْضَلُهَا وَأَكْمَلُهَا، وَبِهِ تَسْتَقِيمُ الْقُلُوبُ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَبِهِ تَزْكُو الْأَخْلَاقُ وَتَنْمُو، وَبِهِ تَصِحُّ الْأَعْمَالُ وَتَكْمُلُ.

جَمِيعُ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ التَّامُّ يَنْفِي الْأَخْلَاقَ الرَّذِيلَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 1-4].

فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ الْقَلْبِيِّ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَبِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، بِالْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَحَقِّ خَلْقِهِ.

وَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ، وَأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْمَغْفِرَةَ الْكَامِلَةَ وَالثَّوَابَ التَّامَّ.

وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إِلَى أَنْ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11].

فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالْفَلَاحِ، وَبَشَّرَهُمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ، كَمَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الَّذِي أَثَّرَ فِي قُلُوبِهِمُ الْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ فِي أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَحِفْظَ أَلْسِنَتِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَبِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمُرَاعَاتِهِمْ لِلْأَمَانَاتِ الشَّامِلَةِ لِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُمْ مُرَاعُونَ لَهَا، قَائِمُونَ بِهَا وَبِالْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ، وَالَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11].

 فَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِهِدَايَةِ الْقُلُوبِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ صَادِقِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا إِذَا حَقَّقَ أُصُولَ الْإِيمَانِ، وَكَانَ إِيمَانُهُ بِالْمَأْمُورَاتِ يُطْلَبُ مِنْهُ امْتِثَالُهَا، وَبِالْمَنْهِيَّاتِ يَقْتَضِي خَوْفُهُ تَرْكَهَا، وَإِيمَانُهُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَصَائِبَ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَيَرْضَى بِذَلِكَ وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: جَمِيعُ مَا نَذْكُرُهُ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الْحَمِيدَةِ، وَالْأَمْرِ بِهَا، وَنَهْيِهِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، فَهَذَا مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، وَصِحَّةِ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى ارْتِبَاطِ الْأَخْلَاقِ بِالْعَقِيدَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.

وَالْمُرَادُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى: إِزَالَتُهُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَذَى: هُوَ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ شَوْكٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، فَيُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ عَلَامَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُؤْتَمَنًا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، فَقَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

((وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»-: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: «شَرُّهُ».

وَقَالَ ﷺ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ».

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ الْعَقِيدَةَ تَنْعَكِسُ -وَلَا بُدَّ- عَلَى أَخْلَاقِ مُعْتَقِدِهَا، فَالطَّرِيقُ لِتَصْحِيحِ الْأَخْلَاقِ هُوَ تَصْحِيحُ الْعَقِيدَةِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ عَقِيدَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ -أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ- الَّتِي لَا يَسَعُ مُسْلِمٌ الْجَهْلَ بِهَا.

لَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الِافْتِرَاقَ سَيَقَعُ فِي الْأُمَّةِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى كَمْ مِنَ الْفِرَقِ تَفْتَرِقُ الْأُمَّةُ، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ ((هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)).

وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ سَأَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَنْهَا.

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((هَذِهِ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- )).

وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ هِيَ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهِيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلَهَا أُصُولٌ ثَابِتَةٌ وَاضِحَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ، وَالسُّلُوكِ، وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْعَظِيمَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

وَهُمْ إِنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

فَمَا هِيَ أُصُولُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟

الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى صَالِحِهِ، وَعَلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ وَأَوَّلُهُ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى نَجَاتِهِ مِنَ النَّارِ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ رِضَا رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَسَنِّنًا مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاعِيًا عَالِمًا عَارِفًا بِأُصُولِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، بِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

فَمَا أُصُولُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟

هَذِهِ الْأُصُولُ تَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي:

*الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ:

1*الْإِيمَانُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-‏:‏ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ رَيْبٌ وَلَا يُدْرِكُهُ شَوْبٌ بِوُجُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبِأُلُوهِيَّتِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

*بِرُبُوبِيَّتِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ، وَالرَّزَّاقُ الْكَرِيمُ، وَالْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ.

*وَبِإِلَهِيَّتِهِ: يَعْنِي بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ الْعِبَادَةُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ.

أَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِأَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ عَامِلًا بِهِ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُفَرِّطُ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ، فَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمُنْتَشِرًا فِي الدَّعْوَةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَصْلَ الْعَظِيمَ!!

تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: مَعْنَاهُ تَوْحِيدُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِهِ؛ مِنَ الْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ.

وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: فَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِ الْعَبْدِ.

فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: فَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِ الْعَبْدِ، بِأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، بِعُبُودِيَّتِهِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: إِفْرَادُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَنْ يَصْرِفَ كُلَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَأَمَرَ بِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ سِوَاهُ، لَا مَلِكًا، وَلَا مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا غَيْرَهُمْ.

*أَمَّا تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَمَعْنَاهُ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ، أَوْ نَزَّهَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وَكَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].

هَذَا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَالْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَوَّلُ أُصُولِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

أَوَّلُ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَمِنْهُ: أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ.

كَثِيرٌ مِنَ الدُّعَاةِ لَا يُحَرِّرُ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَيَخْلِطُ فِيهِ خَلْطًا شَائِنًا مَعِيبًا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ اعْتِقَادًا وَدَعْوَةً، وَيَصُبُّ هَمَّهُ كُلَّهُ، وَيَصْرِفُ جُهْدَهُ جُلَّهُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَوُكْدُهُ وَوَطَرُهُ أَنْ يُثْبِتَ لِلنَّاسِ أَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَرَازِقُهُمْ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِمْ، هَذَا لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ بَلْ إِنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ لَمْ يُنَازِعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ.

وَهَلْ أَنْكَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَهُوَ رَازِقُهُمْ، وَهُوَ مَالِكُهُمْ، وَهُوَ مُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ؟!!

لَمْ يُنْكِرْ حَتَّى هَذَا الْجَاهِلُ الْكَافِرُ؛ لَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْأَمْرَ، وَالْقُرْآنُ مَشْحُونٌ بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نِزَاعٌ، وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الدُّعَاةِ لَا يَتَحَوَّلُونَ وَلَا يَنْصَرِفُونَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَكَأَنَّهُ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، لَمْ يَأْتِ بِسِوَاهُ مَعَ أَنَّهُ مُقَرَّرٌ مَكْشُوفٌ، وَيُغْفِلُونَ -إِغْفَالًا شَائِنًا مَعِيبًا- الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الدُّعَاةِ لَا يُحَرِّرُ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ تَجِدُهُ عَلَى أُصُولِ الْجَهْمِيَّةِ، أَوْ عَلَى أُصُولِ الْأَشْعَرِيَّةِ، أَوْ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَوْ عَلَى أُصُولِ الْكُلَّابِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْفَاسِدَةِ، عَلِمَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَدْعُو وَهُوَ لَمْ يَعْتَقِدْ بَعْدُ اعْتِقَادًا صَحِيحًا؟!!

يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّرَ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَحْرِيرًا مُسْتَقِيمًا.

الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

الْإِيمَانُ بِاللهِ: بِوُجُودِهِ، بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأُلُوهِيَّتِهِ، بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

2*الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ: أَنْ يُصَدِّقَ بِوُجُودِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، خَلَقَهُمْ مِنْ نُورٍ، خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ فِي الْكَوْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء: 26-27‏]‏‏.‏

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ‏{‏جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر: 1‏]‏‏.‏

وَهُمْ خَلْقٌ مُكَرَّمُونَ، وَهُمْ مَعَنَا، مِنْهُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُنَا إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْجِمَاعِ، وَمَعَ ذَلِكَ إِيمَانُنَا بِوُجُودِهِمْ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّنَا لَوْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ حَقًّا بِالْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ مَعَنَا مَنْ لَا يُفَارِقُنَا إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَضَاءِ الْوَطَرِ مِنَ الْأَهْلِ؛ مَا وَقَعْنَا فِيمَا نَقَعُ فِيهِ، وَلَسْتَحْيَيْنَا كَمَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نَسْتَحْيِيَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ مَعَنَا مَنْ لَا يُفَارِقُنَا إِلَّا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَضَاءِ الْوَطَرِ مِنَ الْأَهْلِ.

3*الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَ((كُتُبِهِ)): أَنْ تُصَدِّقَ بِهَا وَبِمَا فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ تِلْكَ الْكُتُبَ عَلَى رُسُلِهِ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، وَلِلدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْكُتُبِ: الْكُتُبُ الثَّلَاثَةُ: ((التَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيلُ، وَالْقُرْآنُ))، وَأَعْظَمُ الثَّلَاثَةِ ((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ))، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء: 88‏]‏‏.‏

أَهْلُ السُّنَّةِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، نَزَلَ بِهِ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَى نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ، مِنَ اللهِ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، خِلَافًا لِلْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلوقٌ، مَخْلُوقٌ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ، وَخِلَافًا لِلْأَشَاعِرَةِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ كَلَامَ اللهِ هُوَ الْمَعَانِي، أَمَّا الْحُرُوفُ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ!! وَإِنَّمَا هِيَ تَعْبِيرٌ عَنِ الْكَلامِ النَّفْسِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خُزَعْبَلَاتِهِمْ.

كِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ.

قَالَ تَعَالَى: ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة: 6‏]‏‏.‏

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الفتح: 15‏]‏‏.‏

فَهُوَ كَلَامُ اللهِ، لَيْسَ بِكَلَامِ غَيْرِهِ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَهُوَ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ ﷺ الْكُبْرَى، وَآتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ تَجَاوَزَ الْأَلْفَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، أَعْظَمُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ: كِتَابُ اللهِ، هُوَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ وَفِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى، وَأَعْظَمُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَعْجَزُ إِعْجَازًا مِنْ شَقِّ الْبَحْرِ لِمُوسَى، أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ أَتَى بِهَا نَبِيٌّ وَرَسُولٌ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَقَلَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مُحَقَّقًا قَائِمًا بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللهِ؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَجِدُونَهُ مُفَكَّكًا مُمَزَّقًا، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، سُوَرُهُ يُمْسِكُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَآيَاتُهُ مُتَلَاحِمَاتٌ؛ بَلْ حُرُوفُهُ يُؤَدِّي كُلٌّ إِلَى مَا بَعْدَهُ بِلَا تَنَافُرٍ وَلَا اخْتِلَافٍ.

وَتَنَاسُبُ السُّوَرِ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ التَّوْقِيفِيِّ مِمَّا كَتَبَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَآيَةٌ تُفْضِي إِلَى آيَةٍ، وَسُورَةٌ تَنْتَهِي إِلَى سُورَةٍ، فَكَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُولُونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ.

4*الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: نُؤْمِنُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَ((رُسُلِهِ)): فَنُصَدِّقُ بِهِمْ جَمِيعًا؛ مَنْ سَمَّى اللهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، آخِرُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-.

الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ إِيمَانٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِمَنْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، وَنُؤْمِنُ بِمَنْ وَرَاءَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَقُصَّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ.

 وَإِيمَانُنَا بِالنَّبِيِّ ﷺ إِيمَانٌ مُفَصَّلٌ، وَاعْتِقَادٌ بِأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ والْمُرْسَلِينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ.

الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَعْنِي -أَيْضًا- عَدَمَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِمْ؛ خِلَافًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِين غَلَوْا وَأَفْرَطُوا فِي بَعْضِ الرُّسُلِ؛ حَتَّى جَعَلُوا هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَبْنَاءَ اللهِ، ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة: 30‏]‏‏. -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-.

وَالصُّوفِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ فَرَّطُوا فِي حَقِّ الرُّسُلِ، وَتَنَقَّصُوهُمْ، وَفَضَّلُوا أَئِمَّتَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَالْوَثَنِيُّونَ وَالْمَلَاحِدَةُ كَفَرُوا بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ،‏ وَالْيَهُودُ كَفَرُوا بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ‏.

وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِمْ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ بِالْجَمِيعِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏النساء: 150-151‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة/ 285‏]‏‏.‏

5*الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏:‏ يَعْنِي التَّصْدِيقَ بِكُلِّ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِمَّا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ﷺ؛ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، وَالْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ، وَالْحَشْرِ، وَالْحِسَابِ، وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَإِعْطَاءِ الصُّحُفِ بِالْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالصِّرَاطِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، مَعَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا‏.‏

وَقَدْ كَفَرَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الدَّهْرِيُّونَ وَالْمُشْرِكُونَ‏،‏ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الْمَطْلُوبَ وَإِنْ آمَنُوا بِوُقُوعِهِ ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ ‏[‏البقرة: 111‏]‏‏.‏

‏وَ{‏قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ‏}‏ ‏[‏البقرة: 80‏]‏‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَقِّ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

6*الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ‏:‏ نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ؛ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَقَدَّرَ ذَلِكَ وَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكُفْرٍ وَإِيمَانٍ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ قَدْ شَاءَهُ اللهُ، وَقَدَّرَهُ وَخَلَقَهُ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الطَّاعَةَ، وَيَكْرَهُ الْمَعْصِيَةَ‏.‏

وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَاخْتِيَارٌ وَإِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ خِلَافًا لِلْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ مُجْبَرٌ عَلَى أَفْعَالِهِ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ، وَخِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَهُ إِرَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ دُونَ إِرَادَةِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ‏، وَغَلَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ حَتَّى يَعْمَلُوهَا!!

وَقَدْ رَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التكوير: 29‏]‏‏.‏

فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً رَدًّا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ، وَجَعَلَهَا تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ اللهِ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ.

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يُكْسِبُ الْعَبْدَ صَبْرًا عَلَى الْمَصَائِبِ، وَابْتِعَادًا عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَائِبِ‏،‏ كَمَا يَدْفَعُهُ إِلَى الْعَمَلِ، وَيُبْعِدُ عَنْهُ الْعَجْزَ، وَالْخَوْفَ، وَالْكَسَلَ‏.‏

فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

وَالْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ قَوْلًا وَعَمَلًا دُونَ اعْتِقَادٍ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ إِيمَانُ الْمُنَافِقِينَ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ مُجَرَّدَ الْمَعْرِفَةِ بِدُونِ قَوْلٍ وَعَمَلٍ؛ فَهَذَا إِيمَانُ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ‏، قَالَ تَعَالَى‏:‏ {‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل: 14‏]‏‏.‏

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام: 3‏]‏‏.‏

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-‏:‏ ‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت:38‏]‏‏.‏

لَيْسَ الْإِيمَانُ اعْتِقَادًا فَقَطْ، لَيْسَ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا دُونَ عَمَلٍ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ إِيمَانُ الْمُرْجِئَةِ، وَاللهُ -تَعَالَى- كَثِيرًا مَا يُسَمِّي الْأَعْمَالَ إِيمَانًا، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال: 2-4‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة: 143‏]‏‏ أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ؛ فَسَمَّى الصَّلَاةَ إِيمَانًا.‏

الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

إِذَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهَذَا الْأَصْلِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ وَقَعَ الْأَبْعَدُ فِي خَلَلٍ عَظِيمٍ، يَصِيرُ مُرْجِئِيًّا، أَوْ يَتَطَرَّفُ عَلَى الْجَانِبِ الْمُقَابِلِ لِكَيْ يَصِيرَ مَعْتَزِلِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مِنْ أُصُولِهِمْ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ، وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

الْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏:‏ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ نَاقِضًا مِنْ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي هِيَ دُونَ الشِّرْكِ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مُرْتَكِبِهِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا-؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَرْتَكِبِهَا أَيِ: الْكَبَائِرِ- بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ‏.‏

وَإِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَإِنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ؛ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ، قَالَ تَعَالَى:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء: 48‏]‏‏.‏

مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ وَسَطٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الشِّرْكِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ.

مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ الْمُرْجِئَةِ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَإِيمَانُ أَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ عِنْدَهُمْ كَإِيمَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَإِيمَانِ جِبْرِيل!!

يَقُولُونَ‏‏َ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ‏.‏

مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الشِّرْكِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ.

أَهْلُ السُّنَّةِ أَسْعَدَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنْ جَعَلَهُمْ وَسَطًا بَيْنَ هَذِهِ الْفِرَقِ الَّتِي انْشَعَبَتْ عَنِ الْجَادَّةِ الْعُظْمَى -جَادَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ-، فَصَارَتْ شَاذَّةً فَاذَّةً إِلَى النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ-.

 فَالْأَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏:‏ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ نَاقِضًا مِنْ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ دُونَ الشِّرْكِ وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مُرْتَكِبِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يَحْكُمُونَ عَلَى فَاعِلِهِ بِالْفِسْقِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ‏؛ وَلَكِنْ لَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ.

الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:  وُجُوبُ طَاعَةِ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَعَجَّبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا قَرَّرَهُ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ مِنْ قُصُورِ الْبَحْثِ أَوْ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَكِنْ لَوْ نَظَرَ نَاظِرٌ فِي أَيِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْمُعْتَقَدِ عِنْدَ السَّلَفِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- لَوَجَدَ ذَلِكَ ظَاهِرًا بَادِيًا وَلَائِحًا؛ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

لَمَّا عَكَفُوا عَلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَمْ يُحَرِّرُوا عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ غَابَتْ عَنْهُمْ أُصُولٌ، وَمِنْهَا: هَذَا الْأَصْلُ الْعَظِيمُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي صِرَاعَاتٍ لَا مَعْنَى لَهَا، وَتَمَزَّقَتِ الْأُمَّةُ مِزَقًا، وَتَفَرَّقَتْ بِدَدًا، وَصَارَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا وَاقِعًا وَقَائِمًا، وَفَرِحَ أَعْدَاءُ اللهِ بِهَذَا الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ-.

فَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:  وُجُوبُ طَاعَةِ وُلَاةِ الأُمُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أَمَرُوا بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ فِيهَا، وَتَبْقَى طَاعَتُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِهَا؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء: 59‏]‏‏.‏

وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُمْ طَاعَةً مُسْتَقِلَّةً، فَأَتَى بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ فِي حَقِّ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَفِي حَقِّ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الطَّاعَةَ لَهُمْ تَبَعًا، ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء: 59‏]‏‏.‏

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:‏ (‏(‏أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ‏)).

يَرَى أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْأَمِيرِ الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ لِلرَّسُولِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ﷺ: (‏(‏مَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي‏)).‏

يَرَوْنَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ، وَالْجِهَادَ مَعَهُمْ، وَالدُّعَاءَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَيَرَوْنَ مُنَاصَحَتَهُمْ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَدَّدَهَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَقَرَّرَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.

هَذَا أَصْلٌ ضَائِعٌ غَائِبٌ، وَسَبَبُ ضَيَاعِهِ الْجَهْلُ بِهِ، وَشَيْءٌ آخَرُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَهُوَ تَضْيِيعُ الْأَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، عِنْدَمَا صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ؛ فَكَفَّرُوا بِالْكَبِيرَةِ، وَغَالَوْا فِي ذَلِكَ، رَتَّبُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِكَافِرٍ، وَقَدْ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ؛ وَحِينَئِذٍ كَأَنَّمَا شَغَرَ الزَّمَانُ مِنْهُ؛ بَلْ شَغَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَفَرَ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا طَاعَةَ لَهُ!!

فَهِيَ حَلْقَاتٌ يُمْسِكُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، إِنْ فَقَدْتَ أَوَّلَهَا فَلَنْ تَصِلَ إِلَى مُنْتَهَاهَا.

عَلَيْكَ أَنْ تَتَعَلَّمَ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنْ تَعْرِفَ أُصُولَهُمْ؛ لِتَنْجُوَ أَنْتَ أَوَّلًا، وَلِيُنَجِّيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ كَتَبَ لَهُمُ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ إِذْ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ دِينَ اللهِ كَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

ولَنْ تَكُونَ مِنْ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ حَتَّى تَتْبَعَ أُصُولَهَا، وَحَتَّى تَكُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ قَائِمًا، تَحُوطُهَا بِالرِّعَايَةِ، تُحَقِّقُهَا فِي نَفْسِكَ، تَدْعُو إِلَيْهَا، تَثْبُتُ عَلَيْهَا -وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ-.

مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: تَحْرِيمُ الْخُرُوجِ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ارْتَكَبُوا مُخَالَفَةً دُونَ الْكُفْرِ؛ لِأَمْرِهِ ﷺ بِطَاعَتِهِمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ كُفْرٌ بَوَاحٌ.

حَتَّى لَوْ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ -حِينَئِذٍ- إِلَّا مَعَ تَوَفُّرِ الْعُدَّةِ؛ وَإِلَّا فَهُوَ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ بَلْ نَهَى عَنْهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ الْوُلَاةُ عَلَى عَهْدِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ.. لَمَّا أَمَرُوا بِمُعْتَقَدِ الْجَهْمِيَّةِ وَهُوَ كُفْرٌ، كَانُوا يَدْعُونَ إِلَيْهِ دَعْوَةً ظَاهِرَةً بِحَدِّ السَّيْفِ وَوَقْعِ السَّوْطِ، وَيُقَرِّرُونَ ذَلِكَ فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَعَلَى رُؤُوسِ الْمَنَابِرِ، وَفِي الْمَكَاتِبِ، وَلَا يُوَلُّونَ فِي مَنْصِبٍ مِنْ مَنَاصِبِ الدِّينِ وَلَا يَجْعَلُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَاضٍ أَوْ مُفْتٍ أَوْ خَطِيبٍ أَوْ إِمَامٍ إِلَّا مَنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِهَذَا الْمُعْتَقَدِ الْخَبِيثِ.

وَقَدْ كَفَّرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى عَهْدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَى عَهْدِ السَّلَفِ الْجَهْمِيَّةَ الْأُوَلَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غُلَاةً يُنْكِرُونَ حَتَّى أَسْمَاءَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكَفَّرُوهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَفِّرِ الْإمَامُ أَحْمَدُ الْمَأْمُونَ، وَلَا الْمُعْتَصِمَ، وَلَا الْوَاثِقَ، مَعَ أَنَّهُ دَعَا إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ الْخَبِيثِ دَعْوَةً ظَاهِرَةً، وَفَرَضَهُ فَرْضًا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَامْتَحَنَ بِهِ، وَصَارَتْ فِتْنَةً وَمِحْنَةً عَظِيمَةً، مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ بِصِفَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْخَيْرِ مِنْ نَصِيبٍ!!

حَمَلُوا النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَقَتَلَ الْوَاثِقُ بِيَدِهِ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَسُجِنَ الْبُوَيْطِيُّ حَتَّى مَاتَ فِي سِجْنِهِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَضُرِبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَدِيسَ عَلَيْهِ بِالْأَقْدَامِ جِيئَةً وَذِهَابًا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

وَلَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْإِمَامُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ جُهَّالٌ، وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ مَنْ كَانَ حَوْلَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ، غَرُّوهُمْ وَخَدَعُوهُمْ، وَلَمْ يَنْزِعْ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.

مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: تَحْرِيمُ الْخُرُوجِ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ارْتَكَبُوا مُخَالَفَةً دُونَ الْكُفْرِ؛ لِأَمْرِهِ ﷺ بِطَاعَتِهِمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ كُفْرٌ بَوَاحٌ؛ بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ إِذَا ارْتَكَبُوا شَيْئًا مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا.

هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ الْخَمْسَةِ؛ مَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ: الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مَحْضُ الْخُرُوجِ عَلَى الْوُلَاةِ إِذَا جَارُوا وَلَمْ يَعْدِلُوا، إِذَا ارْتَكَبُوا كَبِيرَةً خَرَجُوا عَلَيْهِمْ، وَاسْتَحَلُّوا الْخُرُوجَ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمَا عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْكَبِيرَةِ، فَهَؤُلَاءِ يُكَفِّرُونَ بِالْكَبِيرَةِ، وَيُخَلِّدُونَ بِهَا فِي النَّارِ.

أَهْلُ السُّنَّةِ جَعَلَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَسَطًا بَيْنَ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ، وَجَعَلَهُمْ عَلَى الْحَقِّ قَائِمِينَ.

عَمَلُ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرِ -وَإِنْ سَمَّوْهُ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ-؛‏ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَخَاطِرَ عَظِيمَةٍ؛ مِنَ الْفَوْضَى، وَفَسَادِ الْأَمْرِ، وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، وَتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ؛ فَهُمْ يُكَفِّرُونَ، فَإِذَا كَفَّرُوا اسْتَحَلُّوا الْخُرُوجَ، ثُمَّ سَلَكُوا إِلَيْهِ كُلَّ سَبِيلٍ، تَدِبُّ الْفَوْضَى بَيْنَ جُمُوعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((وَمَنْ نَظَرَ فِيمَا وَقَعَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْخُطُوبِ الْجِسَامِ، وَمَا أَصَابَ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَطْبِ الْعَظِيمِ؛ لَمْ يَجِدْ سَبَبًا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ كَالْخُرُوجِ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ.

وَمَا خَرَجَ قَوْمٌ قَطُّ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ حَالُهُمْ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَسْوَأَ مِنْ حَالِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ)).

وَلِذَلِكَ لَمَّا حَمَلَ الْوَاثِقُ النَّاسَ عَلَى مَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَدِيدًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ الْغُلَاةِ؛ جَاءَ الْفُقَهَاءُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، يُشَاوِرُونَهُ وَيُؤَامِرُونَهُ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ يُخَفِّضُ مِنْ ثَائِرَتِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَلَا تَرَى مَا يَفْعَلُ؟! أَلَا تَرَى مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ؟!

وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهَا فِتْنَةٌ، اتَّقُوا الْفِتْنَةَ.

يَقُولُونَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ هِيَ أَكْبَرُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؟!!

يَقُولُ: إِنَّمَا أُرِيدُ الْفِتْنَةَ الْعَامَّةَ؛ أَلَا تَذْكُرُونَ؟! تُقْطَعُ السُّبُلُ، يُفَزَّعُ النَّاسُ، تُنْتَهَكُ الْأَعْرَاضُ، تُسْتَبَاحُ الْأَرْوَاحُ وَالْأَمْوَالُ وَالثَّرْوَاتُ، لَا يَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ وَلَا عَلَى أَبْشَارِهِمْ، وَلَا يَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَا عَلَى دُورِهِمْ.

إِذَا دَبَّتِ الْفَوْضَى بَيْنَ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ فَهَذِهِ قُرَّةُ عَيْنِ الْكَافِرِينَ الْمُلْحِدِينَ؛ بَلْ إِنَّهُمْ لَيُخَطِّطُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ تَخْطِيطًا، وَيَبُثُّ الشَّيْطَانُ نَافِثًا سُمُومَهُ فِي عُقُولِ أَقْوَامٍ لَمْ يُحْكِمُوا عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يُصَيِّرُهُمْ إِلَى أَمْرٍ مَرِيجٍ؛ الْفَوْضَى، وَفَسَادِ الْأَمْنِ، وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، وَتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدِيَارِ الْمُسْلِمِينَ.

الْأَصْلُ السَّادِسُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر: 10‏]‏‏.‏

وَعَمَلًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:‏ (‏(‏َلَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)‏).

‏خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ؛ بَلْ وَيُكَفِّرُونَهُمْ، وَيَجْحَدُونَ فَضَائِلَهُمْ‏.‏

أَهْلُ السُّنَّةِ يَرَوْنَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَمَنْ طَعَنَ فِي خِلَافَةِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافَةِ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ‏، وَهُوَ يَسْتَخِفُّ بِإِجْمَاعِ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّهُمُ ارْتَضَوْا هَذَا التَّرْتِيبَ، وبَايَعُوا عَلَيْهِ.

فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَ الرَّسُولِ ﷺ أَبُو بَكْرٍ، وَبَعْدَهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ((مَنْ أَسْقَطَ إِمَامَةَ عُثْمَانَ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)).

وَذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْعَقِيدَةِ الْوَاسِطِيَّةِ)).

الَّذِي لَا يُحْكِمُ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْتَمَ الْأَصْحَابُ، وَأَنْ يُعْتَدَى عَلَى عِرْضِهِمْ، وَأَنْ يُتَكَلَّمَ فِي أَخْلَاقِهِمْ، لَا يَهْتَزُّ فِي مَفْرِقِهِ شَعْرَةٌ، وَكَأَنَّ شَيْئًا مَا لَا يُقَالُ!! يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ أَنَّ هِنْدًا -وَهِيَ أُمُّ مُعَاوِيَةَ- قَدْ جَاءَتْ مَجِيئًا غَيْرَ حَسَنٍ يُوصَفُ بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ السِّبَابِ وَانْتِهَاكِ الْعِرْضِ، فَيَقُولُ: وَمُعَاوِيَةُ بَعْدُ هُوَ ابْنُ هِنْدٍ هَكَذَا!- هُوَ ابْنُ هِنْدٍ الَّتِي جَاءَتْ لَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ كَاللَّبُؤَةِ تَلَغُ فِي دَمِ الْحَمْزَةَ!! هَكَذَا يُسَبُّ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ بَلْ يُسَبُّ الْأَنْبِيَاءُ!!

وَيَتَعَصَّبُ النَّاسُ لِلسَّابِّ كَمَا يَتَعَصَّبُونَ لِسَيِّد قُطْب، وَقَدْ سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ؛ سَبَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ سَبًّا قَبِيحًا فِي كِتَابِ ((التَّصْوِيرِ الْفَنِّيِّ فِي الْقُرْآنِ))، سَبًّا يَكَادُ يَكُونُ سَبًّا عَلَنِيًّا؛ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ، وَطَعَنَ فِي أَخْلَاقِهِمَا -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، قَالَ: ((وَسُلَيْمَانُ بَعْدُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ الَّذِي كَانَتْ فِتْنَتُهُ فِي امْرَأَةٍ!!)) كَذَا قَالَ نَصًّا، ((لَمَّا بَهَرَ الْمَرْأَةَ -كَمَا قَالَ هُوَ- لَمَّا اتَّخَذَ لَهَا الصَّرْحَ الْمُمَرَّدَ مِنْ قَوَارِيرَ، قَالَ: أَرَادَ لِيَبْهَرَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَيْقَظَ فِيهِ الرَّجُلُ كَمَا اسْتَيْقَظَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ أَيْ: فِي الْمَلِكَةِ- فَأَرَادَ أَنْ يَبْهَرَهَا))، فِعْلَ الْمُحِبِّ مَعَ مَنْ يُحِبُّ، فَاتَّخَذَ لَهَا صَرْحًا مُمَرَّدًا مِنْ قَوَارِيرَ!! وَيَقُولُ -كَأَنَّهُ يَصْرِفُ عَنَّا الْعَجَبَ-: ((وَسُلَيْمَانُ بَعْدُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ الَّذِي كَانَتْ فِتْنَتُهُ فِي امْرَأَةٍ!!)).

وَيَذْكُرُ فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ قِصَّةً اخْتَلَقَهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمُ الْمُدَنَّسِ، فِيهَا طَعْنٌ فِي الْعِرْضِ، وَرَمْيٌ بِالْفُحْشِ لِأَنْبِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ.

يَسْمَعُ الْمَرْءُ هَذَا وَلَا تَهْتَزُّ فِيهِ شَعْرَةٌ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى قَائِلِهِ قُفَّ شَعْرُ رَأْسِهِ، أَيُّ ضَلَالٍ هَذَا؟!!

هَذَا ضَلَالٌ، هَذَا بُعْدٌ عَنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَجِدُ الرَّجُلَ مِنَ الدُّعَاةِ يَمْدَحُ قُطْبًا هَذَا وَقَدْ سَبَّ الْأَنْبِيَاءَ، وَلَوْ أَنَّهُ سَبَّ أَبَاهُ لَلَعَنَهُ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَسُبُّ أَنْبِيَاءَ اللهِ لَا حَرَجَ!!

يَسُبُّ مُوسَى وَيَشْتُمُهُ فِي مَوَاضِعَ كُلَّمَا ذُكِرَ إِلَّا قَلِيلًا فِي ((الظِّلَالِ))، وَتَتَبَّعْهُ أَنْتَ بِنَفْسِكَ، كُلَّمَا ذُكِرَ حَمَلَ عَلَيْهِ، غَيْرَ حَمْلِهِ عَلَيْهِ فِي ((التَّصْوِيرِ الْفَنِّيِّ)) حَمْلًا أَعْشَى؛ بَلْ حَمْلًا أَعْمَى، كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ سُقَّاطِ النَّاسِ لَا وَزْنَ لَهُ، يَتَكَلَّمُ عَنِ الْكَلِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسَلَ، قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ هُوَ الْآنَ رَسُولٌ، وَإِنَّهُ لَنَبِيٌّ))، ثُمَّ يَقُولُ: ((فَلَعَلَّهُ تَرَكَ الْعَصَبِيَّةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ لَا، لَمْ يَدَعْهَا!!))

يَتَكَلَّمُ كَلَامًا كَأَنَّمَا يُشَرِّحُ رَجُلًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ!! إِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَحْدَهُ.

وَإِذَا مَا قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ؛ بَلْ هَذَا ضَلَالٌ، هَذِهِ بِدْعَةٌ؛ قِيلَ: تَتَكَلَّمُونَ فِي الْعُلَمَاءِ؛ أَيُّ عُلَمَاءَ؟!! تَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّهَدَاءِ؛ أَيُّ شُهَدَاءَ؟!!

وَهَذَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: لَا نَشْهَدُ لِأَحَدٍ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ.

مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: مَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَوَلِّيهِمْ؛ عَمَلًا بِوَصِيَّةِ النبيِّ ﷺ:‏ ‏((‏أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي‏)).

وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِ النبي ﷺ: أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ-، قَالَ تَعَالَى -بَعْدَمَا خَاطَبَهُنَّ بِقَوْلِهِ‏-:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب: 32‏]‏‏، وَوَجَّهَ إِلَيْهِنَّ نَصَائِحَ، وَوَعَدَهُنَّ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب: 33‏]‏‏.‏

وَيَأْتِي مَنْ يَقُولُ: لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ!! فَإِنَّمَا يُكَذِّبُ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ!!

وَالْأَصْلُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ قَرَابَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا: الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ خَاصَّةً، أَمَّا قَرَابَتُهُ الَّذِينَ لَيْسُوا بِصَالِحِينَ فَلَيْسَ لَهُم حَقٌّ؛ كَعَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ وَمَنْ شَابَهَهُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد: 1‏]‏‏.‏

فَمُجَرَّدُ الْقَرَابَةِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صَلَاحٍ فِي الدِّينِ لَا يُغْنِي عن صَاحِبِهِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:‏ (‏(يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).

قَرَابَةُ الرَّسُولِ الصَّالِحُونَ لَهُمْ عَلَيْنَا حَقُّ الْإِكْرَامِ وَالْمَحَبَّةِ وَالِاحْتِرَامِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَغْلُوَ فِيهِمْ، فَنَتَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، أَوْ نَعْتَقِدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَ أَوْ يَضُرُّونَ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يَقُولُ لِنَبِيِّهِ ‏ﷺ:‏ {‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الجن: 21‏]‏‏.‏

فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ ﷺ؟!!

‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ‏}‏ ‏[‏الأعراف: 188‏]‏‏.‏

فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ ﷺ كَذَلِكَ؛ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ بِيَقِينٍ ﷺ؟!!

هَذِهِ الْأُصُولُ تُنَجِّيكَ مِنَ اعْتِقَادِ الرَّوَافِضِ وَاعْتِقَادِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ أَصْحَابَ الرَّسُولِ ﷺ، مِنَ اعْتِقَادِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ، كَفَّرُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ؛ عَلِيًّا، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَمْرًا، وَمَنْ مَعَهُمْ، وَمِنَ اعْتِقَادِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ كَفَّرُوا أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَفَّرُوا الشَّيْخَيْنِ وَمَنْ دُونَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَحَكَمُوا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بِالرِّدَّةِ إِلَّا مَا لَا يَتَجَاوَزُ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ.

اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْأَخْذُ بِأُصُولِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-  يُنَجِّيكَ مِنَ الضَّلَالِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلَا تَجِدُ -حِينَئِذٍ- وَزْنًا لِكَلَامِ مَنْ يَقُولُ -وَإِنْ كَانَ قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ- لَا تَجِدُ لِكَلَامِهِ وَزْنًا إِذَا قَالَ: إِخْوَانُنَا الشِّيعَةُ.. إِخْوَانُنَا!! إِخْوَانُنَا الشِّيعَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ يَسِيرٌ، هُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا وَقَعَ فِيهِ نَقْصٌ!!

هَذَا خِلَافٌ يَسِيرٌ؟!! هَذَا كُفْرٌ.

لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُحْكِمْ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَمْ يَدْرِ أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

طَوْقُ النَّجَاةِ؛ لَا بُدَّ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ نَاجِيًا أَنْ تَكُونَ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا مِنَ الشِّيعَةِ خِلَافٌ يَسِيرٌ!! يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ نَقْصٍ!!

خِلَافٌ يَسِيرٌ؟!!

مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَقَصَ حَرْفًا وَاحِدًا؛ فَقَدْ كَفَرَ.

لَمْ يَنْقُصْ، وَلَم يَزِدْ فِيهِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْأَصْحَابَ، وَيَرْمُونَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَنَا، وَيَرْمُونَ فِرَاشَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالدَّنَسِ؛ هَؤُلَاءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ يَسِيرٌ؟!!

إِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى.

عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَحْكِمْهَا لِتَنْجُوَ، وَلِيُنَجِّيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَنْ تَزِيدَ بِدَعْوَتِكَ إِلَى اللهِ عَنِ اللهِ إِلَّا بُعْدًا؛ لِأَنَّكَ تَدْعُو إِلَى خِلَافِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.

إِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَيْرَ دَاعٍ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، غَيْرَ دَاعٍ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَهُوَ سَاعٍ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ، وَكُلَّمَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَتَبِعَهُ النَّاسُ؛ زَادَ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بُعْدًا.

أَحْكِمْ هَذَا الْأَصْلَ أَوَّلًا، قَدِّرْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الْخَطْوِ مَوْضِعَهَا.

يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِكَ، وَأَنْ تَكُونَ عَارِفًا بِالْمَسَالِكِ وَالدُّرُوبِ.

الْأَصْلُ الثَّامِنُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ: وَهِيَ مَا قَدْ يُجْرِيهِ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَيْدِي بَعْضِهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ إِكْرَامًا لَهُمْ -وَهُوَ فِي النِّهَايَةِ إِنَّمَا هُوَ إِكْرَامٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ-، دَلَّ عَلَى تِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْكَرَامَاتِ فِي الْأُمَّةِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ، وَهُوَ إِنْكَارٌ لِأَمْرٍ وَاقِعٍ مَعْلُومٍ ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ فِي وَقْتِنَا مَنْ ضَلَّ فِي مَوْضُوعِ الْكَرَامَاتِ، وَغَالَى فِيهَا؛ حَتَّى أَدْخَلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا مِنَ الشَّعْوَذَةِ، وَأَعْمَالِ السِّحْرِ، وَحِيَلِ الشَّيَاطِينِ وَالدَّجَّالِينَ.

الْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالشَّعْوَذَةِ:

الْكَرَامَةُ: مَا يُجْرِيهِ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَيْدِي عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ‏.‏

وَالشَّعْوَذَةُ: مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِي السَّحَرَةِ وَالْكَفَرَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ الضَّالِّينَ بِقَصْدِ إِضْلَالِ الْخَلْقِ وَابْتِزَازِ أَمْوَالِهِمْ.

الْكَرَامَةُ سَبَبُهَا الطَّاعَةُ‏.‏

الشَّعْوَذَةُ سَبَبُهَا الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ‏.‏

الْكَرَامَةُ سَبَبُهَا الطَّاعَةُ، وَأَعْظَمُ كَرَامَةٍ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَوْلِيَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63].

فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ.

وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ يُجْرِيَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَيْدِيهِمْ كَرَامَاتٍ ظَاهِرَةً، بَلْ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ مِمَّنْ أَجْرَى اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَيْدِيهِمُ الْكَرَامَاتِ الظَّاهِرَةَ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ مِنْ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ كَمَا تَسْتَحْيِي الْعَذْرَاءُ مِنْ حَيْضَتِهَا، وَلَهُمْ مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَحْوَالٌ لَا يُحِبُّونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا.

الْأَصْلُ التَّاسِعُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: فِي الِاسْتِدْلَالِ باتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَاتِّبَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عُمُومًا، وَاتِّبَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ خُصُوصًا؛ حَيْثُ أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ‏:‏ ‏(‏(عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ‏)‏).

لَا يُقَدِّمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِ اللهِ كَلَامَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا سُمُّوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى الْكِتَابِ وَلَا عَلَى السُّنَّةِ قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.‏

وَبَعْدَ أَخْذِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَأْخُذُونَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَصْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ‏:‏ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏ يَأْخُذُونَ بِالْإِجْمَاعِ.

وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ رَدُّوهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء: 59‏]‏‏.‏

فَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ الْعِصْمَةَ لِأَحَدٍ سِوَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا يَتَعَصَّبُونَ لِرَأْيِ أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ التَّعَصُّبُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ -كَائِنًا مَنْ كَانَ- يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَا يَسْمَحُونَ بِالِاجْتِهَادِ إِلَّا لِمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ‏.‏

وَلَا إِنْكَارَ عِنْدَهُمْ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ السَّائِغِ‏، فَالِاخْتِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْعَدَاوَةَ وَالتَّهَاجُرَ بَيْنَهُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَعَصِّبَةُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ، بَلْ يُحِبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفُرُوعِيَّةِ؛ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ يُعَادُونَ وَيُضَلِّلُونَ وَيُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُمْ‏.

وَلَا كَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

هَذِهِ أَهَمُّ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَوَرَاءَ هَذِهِ الْأُصُولِ أُصُولٌ.

 

((صِفَاتٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْعَقِيدَةِ وَثَمَرَاتِهَا))

أَهْلُ السُّنَّةِ مَعَ هَذِهِ الْأُصُولِ تَمَسُّكًا بِهَا، وَقِيَامًا عَلَيْهَا، وَدَعْوَةً إِلَيْهَا يَتَحَلُّونَ بِصِفَاتٍ عَظِيمَةٍ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْعَقِيدَةِ.

مِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:

*أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، وَعَلَى الْقَانُونِ وَالنِّظَامِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّرْعُ الْأَغَرُّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)).

يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ لَا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِمُ الْخَمْسَةِ؛ وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، يَخْرُجُونَ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ارْتَكَبُوا مَعْصِيَةً وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْكُفْرِ؛ وَإِنْ جَارُوا وَلَمْ يَكْفُرُوا، يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْوُلَاةِ وَاجِبًا؛ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ هَذَا عَيْنُ الْمُنْكَرِ، هَذَا هُوَ النَّهْيُ عَنِ الْمَعْرُوفِ.

*أَهْلُ السُّنَّةِ يَرَوْنَ مُنَاصَحَةَ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا جَارُوا، إِذَا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي دُونَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ -كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ-؛ مِنْ أَجْلِ الِابْتِعَادِ عَنِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَعَلَّهُ لَا يَكَادُ يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِى فِي عَدَمِ إِزَالَتِهِ)).

فَهَذَا مِمَّا يَتَحَلَّى بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَمِنْ مُتَمِّمَاتِ أُصُولِهِمْ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ.

*وَمِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى إِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ مِنْ إِقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، يَقُولُونَ: الدَّارُ لَيْسَتْ بِدَارِ إِسْلَامٍ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ ضِرَارٍ؛ وَإِذَنْ فَلَا يُصَلَّى فِيهَا، وَلَا يُلَبَّى النِّدَاءُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى.

أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ الْجُمُعَ وَالْجَمَاعَاتِ؛ خِلَافًا لِلْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ.

*مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ: قِيَامُهُمْ بِالنَّصِيحَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ﷺ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).

قُلْنَا: ((لِمَنْ؟)).

قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ)).

وَلِقَوْلِهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).

يُحِبُّونَ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَحْرِصُونَ عَلَى صَالِحِهِمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ حَتَّى لَرُبَّمَا ضَرَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِدُنْيَاهُ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ دُنْيَا أَخِيهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا خُرُوجٍ عَنِ الْجَادَّةِ، وَيَأْتُونَ -أَحْيَانًا- بِشَيْءٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا سُرِقَ نَعْلُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ كَانَ يَسِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ حَافِيًا وَلَمْ يَنْتَعِلْ بَعْدُ، وَكَانَ ذَا ثَرَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا تَتَّخِذُ نَعْلَيْنِ؟

قَالَ: حَتَّى لَا يَسْرِقَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَأْثَمَ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَامِحَهُ؛ وَلَكِنْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ حِرْصًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُسْأَلُ: هَلْ بَلَغَتْ بَيْنَكُمُ الْأُخُوَّةُ فِي اللهِ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كِيسِ أَخِيهِ، أَوْ قَالَ: فِي كُمِّهِ -كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمَالَ كَذَلِكَ-، أَنْ يُدْخِلَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كِيسِ أَخِيهِ، فَيَأْخُذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ؛ عِلْمًا مِنْهُ وَيَقِينًا بِرِضَا أَخِيهِ عَنْ ذَلِكَ، وَطِيبِ نَفْسِهِ بِبَذْلِهِ؟

فَإِنْ قَالَ: لَا؛ قَالَ: لَسْتُمْ بِإِخْوَانٍ فِي اللهِ إِذَنْ.

وَحَتَّى تَبْلُغُوا ذَلِكَ؛ اللهُ الْمُسْتَعَانُ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ فِي اللهِ ضَابِطُهَا: أَنَّ الْحُبَّ فِي اللهِ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَلَا يَنْقُصُ عَلَى الْجَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ حُبٌّ فِي اللهِ، حُبٌّ للهِ، لَيْسَ بِحُبٍّ مَعَ اللهِ، وَضَابِطُهُ: أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَلَا يَنْقُصُ عَلَى الْجَفَاءِ.

*مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَرْعِيَّةِ: أَنَّهُمْ يَعْتَزِلُونَ أَهْلَ الْبِدَعِ، وَيُنَفِّرُونَ مِنْهُمْ، وَيُحَذِّرُونَ مِنْ مَسَالِكِهِمْ، يُحَذِّرُونَ مِنَ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، يُعَادُونَهُمْ، لَا يَسْلُكُونَ طُرُقَهُمْ، وَلَا يَكُونُونَ فِي سُبُلِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَ مِنْهُمْ وَمِنْ مَجَامِعِهِمْ، وَيَفْضَحُونَ مَسَالِكَهُمْ، وَيُشَهِّرُونَ بِهِمْ فِي الْمَجَامِعِ وَعَلَى رُؤُوسِ الْمَنَابِرِ؛ تَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بِدَعِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةَ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ الظَّاهِرَ مَكْشُوفٌ حَالُهُ، يَحْذَرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ يَنْخَرُونَ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ، وَيَحْرِفُونَهَا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَلِذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِالْإِحْسَانِ يَتَبَرَّؤُونَ مِنْهُمْ، وَيُنَفِّرُونَ مِنْهُمْ، وَيُحَذِّرُونَ مِنْ مَسَالِكِهِمْ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لِمَنْ أَخْبَرَهُ بِظُهُورِ الْقَدَرِيَّةِ نَاحِيَتَهُ، قَالَ: ((إِذَا لَقِيتَ هَؤُلَاءِ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي)).

لَا بُدَّ مِنَ التَّبَرِّي مِنْ أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَمِنْ أَهْلِهَا، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِذَا لَمْ يُحْكِمْهُ الرَّجُلُ صَارَ مُبْتَدِعًا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَارَبَ أَهْلَ الْبِدَعِ فَصَارَ مُبْتَدِعًا وَهُوَ لَا يَدْرِي، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، وَيُخْدَعُ بِهِ وَبِمَعْسُولِ قَوْلِهِمْ، يَعْنِي: إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يُثْنِي عَلَى سَيِّد قُطْب مَثَلًا-، وَيَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ أَدِيبٌ!! وَكَأَنَّ الْأُدَبَاءَ صَارَ لَهُمُ الْحَقُّ فِي أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِمَا يَشَاؤُونَ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةٍ، يُخْطِئُونَ فِي الدِّينِ، وَيَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَقِيدَةِ بِأَقْوَالِ الْمُبْتَدِعَةِ الْخَالِفِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَخْطَائِهِمْ وَلَا فِي بِدَعِهِمْ لِأَنَّهُمْ أُدَبَاءُ!! مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَاجَعَ الشُّعَرَاءَ، رَاجَعَ النَّبِيُّ ﷺ الشُّعَرَاءَ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ لَبِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ)).

قَالَ: ((أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ شَاعِرٌ بَيْتُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ)).

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ)).

قَالَ: ((فِي الْجَنَّةِ نَعِيمٌ لَا يَزُولُ)).

 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ.

لَمَّا سَمِعَ الشَّاعِرَ يُنْشِدُ شِعْرَهُ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((خُذُوا الشَّيْطَانَ خُذُوا الشَّيْطَانَ، لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)).

الشُّعَرَاءُ يُرَاجَعُونَ، وَقَدْ حَبَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ الْحُطَيْئَةَ؛ لِأَنَّهُ هَجَا الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ، قَالَ:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا        =       وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

فَلَمَّا جَاءَ يَشْكُو الْحُطَيْئَةَ إِلَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ: ((مَا هَجَاكَ)).

فَاحْتَكَمُوا إِلَى الشُّعَرَاءِ، فَقَالُوا: ((هَذَا مِنْ أَشَدِّ الْهِجَاءِ، لَقَدْ سَلَحَ عَلَيْهِ))، فَحَبَسَهُ، وَظَلَّ فِي مَحْبَسِهِ حَتَّى اسْتَشْفَعَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بِصِبْيَتِهِ  الصِّغَارِ، فَأَطْلَقَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آخِذًا عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَلَّا يَعُودَ لِلْوُلُوغِ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ.

مَنْ قَالَ إِنَّ لِلشُّعَرَاءِ الْمَجَالَ يَتَكَلَّمُون كَمَا يَشَاؤُونَ؟!!

مَنْ قَالَ إِنَّ لِلْأُدَبَاءِ أَنْ يُطْلِقُوا أَقْلَامَهُمْ خَابِطَةً فِي الْقَرَاطِيسِ تَقَعُ فِي سَوَاءِ الْعَقِيدَةِ، وَفِي أَعْرَاضِ السَّالِفِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ، مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ؟!!

مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَهُمْ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةٍ؟!!

أَلَمْ يُقْتَلْ بَشَارٌ عَلَى الزَّنْدَقَةِ؟!!

أَلَمْ يُرْمَ الْمَعَرِّيُّ بِهَا؟!!

أَلَمْ يُقْتَلِ ابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ؟!!

وَهَلْ عَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا وَأَنْ يَكُونَ نَاكِرًا؟!!

كُلٌّ مُؤَاخَذٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَاخَذَ بِقَانُونِ الشَّرْعِ، وَبِحِيَاطَةِ الدِّينِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَدْعُو إِلَى اللهِ، وَيُزَيِّنُ لِلشَّبِيبَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ بَلْ وَلِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ -وَكَلِمَةُ (الْعَامِّيُّ) مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَمَى، فَالْعَامِّيُّ مُشْتَقٌّ لَقَبُهُ مِنَ الْعَمَى، يَكُونُ -أَحْيَانًا- كَالْبَهِيمَةِ، إِنَّمَا يَقُودُهُ أَوْ يَسْحَبُهُ سَائِقُهُ أَوْ قَائِدُهُ، فَحَيْثُمَا وُجِّهَ تَوَجَّهَ، لَا يَدْرِي شَيْئًا-، فَيَسْمَعُ مِنْ هَذَا الدَّاعِيَةِ ثَنَاءً عَلَى الرَّجُلِ، يَتَعَصَّبُ لَهُ، فَإِذَا بَيَّنَ أَهْلُ الْحَقِّ عَوَارَ قَوْلِهِ، وَسُوءَ مَنْطِقِهِ؛ حُورِبَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَيُزَيَّنَ ذَلِكَ لِلشَّبِيبَةِ الْمُسْلِمَةِ مِمَّنْ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الْتِزَامِ مَنْهَجِ الصِّدْقِ، فَيُقَالُ: خُذُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَقِّ!! وَكَيْفَ يَعْرِفُونَهُ؟!! وَدَعُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ!! إِنْ كُنْتَ صَادِقًا بَيِّنْ مَا عِنْدَهُ، قُلْ: كَفَّرَ الْمُجْتَمَعَاتِ، كَفَّرَ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، وَجَعَلَ أَوَّلَ الْكَافِرِينَ مَنْ يَصِيحُ عَلَى الْمَنَائِرِ بِـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهَا.

الْكَلَامُ صَرِيحٌ، لَا يُتَأَوَّلُ بِحَالٍ فِي مَوَاضِعَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، الْقَوْلُ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ، وَإِنْكَارُ الْمِيزَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، مَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ السَّبِّ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ؛ كَسُلَيْمَانَ، وَدَاوُدَ، وَمُوسَى -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

فلِمَ لَا تُبَيِّنُ هَذَا؟!!

بَيِّنْ هَذَا، قُلْ: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْأُمُورَ، وَفِي صَفْحَةِ كَذَا فِي جُزْءِ كَذَا سَتَجِدُونَ هَذَا الْقَوْلَ، احْذَرُوهُ، إِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: خُذُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لَقَالَ سَامِعُهُ: وَأَيُّ خَيْرٍ بَعْدَ هَذَا الَّذِى تَقُولُ؟!! هُمْ يُلَبِّسُونَ وَيُدَلِّسُونَ، يَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِحُبِّهِ!!

أَفْضَى الرَّجُلُ إِلَى مَا قَدَّمَ، نَحْنُ لَا نَتَكَلَّمُ فِي مَصِيرِهِ عِنْدَ اللهِ، لَا شَأْنَ لَنَا بِهَذَا، وَلَا شَأْنَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بِهَذَا الْمَصِيرِ، قَدْ يَكُونُ حَطَّ رَحْلَهُ فِي الْجَنَّةِ مُنْذُ مَاتَ، لَا عَلَاقَةَ لَنَا بِهَذَا الْآنَ، لَا نَتَكَلَّمُ فِي مَصَائِرِ الْخَلْقِ عِنْدَ الْحَقِّ، وَالْعُلَمَاءُ لَمْ يُكَفِّرُوا الرَّجُلَ، إِذَنْ؛ لَا نَتَكَلَّمُ فِي مَصِيرِهِ عِنْدَ اللهِ؛ وَلَكِنْ هَذَا التُّرَاثُ الَّذِى تَرَكَهُ، هَذَا الْكَلَامُ الَّذِى خَلَّفَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُغَرْبَلَ، وَأَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، أَمَّا أَنْ يُتْرَكَ هَكَذَا فَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

كُلُّ ذَلِكَ لِعَدَمِ إِحْكَامِ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلِلتَّعَصُّبِ الْأَعْمَى، وَخُزَعْبَلَاتٍ وَخُرَافَاتٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، أَقْوَامٌ تَسَنَّمُوا ذُرًى بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ شَقْشَقَةُ لِسَانِ مَنْ شَقْشَقَ، وَلَا عُذُوبَةُ بَيَانِ مَنْ بَيَّنَ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ هُرَاءٌ وَغُثَاءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَكِينِ مِنْ إِحْكَامِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِذَا جَمَعَ اللهُ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَةُ عَيْنٍ؛ وَإِلَّا فَأَلْقِ بِهَا وَبِهِ إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ.

تَعْرِفُونَ أُمَّ قَشْعَمِ؟!!

*مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: ثَبَاتُهُمْ فِي مَوَاقِفِ الِامْتِحَانِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.

*مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَتَحَلُّونَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالتَّرَفُّعِ عَلَى النَّاسِ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].

آيَةُ الْحُقُوقِ الْعَشْرَةِ.

فَيُؤَدُّونَ إِلَى ذَوِي الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْوَاسِطِيَّةِ))، وَذَكَرَ فِي آخِرِهَا -رَحِمَهُ اللهُ- مَا يَتَحَلَّى بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَعَظِيمِ الصِّفَاتِ، وَحَسَنِ الشِّيَاتِ، لَا يَكُونُ الرَّجُلُ سُنِّيًّا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مُنْفَلِتٌ مِنْ أَسْرِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، يَخْبِطُ حَيْثُ شَاءَ هَوَاهُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ؛ فَهُمُ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ بَعْدَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)).

أَلَا فَاعْلَمُوا -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ عَلَامَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، لَا يُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُفَسِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهَذِهِ مِنْ سِمَاتِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.

يَعْمَلُونَ بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ)).

هُمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ النَّبَوِيِّ وَالْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، هُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ -وَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ- وَإِنْ كَانُوا قِلَّةً، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قِلَّةً فَفِيهِمُ الْبَرَكَةُ، وَفِيهِمُ الْخَيْرُ، وَالْكَثْرَةُ فِي كِتَابِ اللهِ مَذْمُومَةٌ، وَالْقِلَّةُ فِي الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مَمْدُوحَةٌ.

تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا      ***        فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَصَفَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

هُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَنْهَجِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِإِحْسَانٍ، هُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِذَلِكَ، هُمْ عَامِلُونَ بِهِ، يَعْمَلُونَ بِقَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

فَهَذِهِ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-- لَمْحَةٌ عَابِرَةٌ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الدَّاعِيَةُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ، مُتَمَسِّكًا بِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيُؤَسِّسُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَأْتِي بِهَذَا جَمِيعِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْأَصِيلِ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَكُونُ مُخْلِصًا للهِ فِي دَعْوَتِهِ، وَيَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَهِيَ سَبِيلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ مُتْقِنًا لِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ دَاعٍ إِلَى ضَلَالَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَدْعُ إِلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُوَ دَاعٍ إِلَى ضَلَالَةٍ، دَاعٍ إِلَى بِدْعَةٍ، وَقَدْ شَذَّ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ، لَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ إِلَّا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ؛ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)).

هَذِهِ الْوَاحِدَةُ هِيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَمَنْ سِوَاهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ لَا مَحَالَةَ، لَا خِلَافَ عَلَى هَذَا، مَنْ خَالَفَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ؛ فَمَاذَا يَكُونُ؟!!

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً))، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ؟!! كَيْفَ يَكُونُ؟!!

فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ أَقَامَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَّا مَنْ أَقَامَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى سَبِيلِهِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِالْهِدَايَةِ إِلَى دِينِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَأَقَامَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، وَأَكْرَمَهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ الشَّامِلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ اللهِ فِيمَا آتَاهُ اللهُ، وَأَنْ يَكُونَ شَاكِرًا للهِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْكَرَ اللهُ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ شُكْرًا للهِ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ بِالْقَلْبِ بَاطِنًا، وَيَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ بِهِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَهُ فِي مَرْضَاةِ الَّذِى أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ وَأَسْدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالْفَضْلِ الْعَمِيمِ.

فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَصِيرَةٍ، عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَارِفًا بِحُدُودِ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ وَبِدَعَائِمِهِ؛ فَأَنْتَ دَاعٍ إِلَى غَيْرِهِ، سَائِرٌ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، أَلَا أَبْعَدَكَ اللهُ عُدْ؛ فَالْعَوْدُ أَحْمَدُ، وَالْعَوْدُ قَرِيبٌ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

((مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ انْهِيَارِ الْمُجْتَمَعَاتِ:

انْهِيَارُ مَنْظُومَةِ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ))

إِنَّ تَرْسِيخَ الْقِيَمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ دَلِيلُ رُقِيِّهَا وَتَحَضُّرِهَا، وَسِرُّ تَمَاسُكِهَا وَتَرَابُطِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، كَمَا أَنَّ انْهِيَارَ الْمُجْتَمَعَاتِ يَبْدَأُ بِانْهِيَارِ الْعَقِيدَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَانْهِيَارِ مَنْظُومَةِ الْقِيَمِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ؛ فَالْمُجْتَمَعَاتُ الَّتِي لَا تُبْنَى عَلَى الْأَخْلَاقِ تَحْمِلُ عَوَامِلَ سُقُوطِهَا؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ هَشٍّ.

وَللهِ دَرُّ الشَّاعِرِ:

إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ                     فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الدُّوَلِ: الِانْهِيَارُ الْأَخْلَاقِيُّ، وَالتَّوَرُّطُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَارْتِكَابُ الذُّنُوبِ وَالْمُوبِقَاتِ؛ فَالْمُجْتَمَعُ إِذَا مَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا مَا سَقَطَتْ أَخْلَاقُهُ فِي الْحَمْئَةِ الْوَبِيلَةِ، الْمُجْتَمَعُ إِذَا ظَهَرَتْ فِيهِ الْفَاحِشَةُ؛ فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، الْمُجْتَمَعُ لَا يُحَارَبُ بِمِثْلِ مَا يُحَارَبُ بِنَشْرِ الْفَاحِشَةِ وَالرَّذِيلَةِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ.

فَإِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ؛ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ لَا مَحَالَةَ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا سَبَبَ لِلشَّرِّ إِلَّا ذُنُوبُ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْنَفْسِكَ} [النساء: 79].

وَالْمُرَادُ بِالسِّيَّئَاتِ: مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَبِالْحَسَنَاتِ: مَا يَسُرُّهُ مِنَ النِّعَمِ،

كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168].

فَالنِّعَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنَ اللهِ فَضْلًا وَجُودًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِعِبَادِهِ فَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالْمَصَائِبُ بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعِبَادِ وَكَسْبِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وَالِانْهِيَارُ الْأَخْلَاقِيُّ وَالْفَسَادُ الْمَالِيُّ وَالْإِدَارِيُّ يَسْتَجْلِبَانِ النِّقَمَ الْوَاقِعَةَ فِي الْأُمَّةِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللهِ)).

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ تُغَيِّرُ، وَلَا بُدَّ وَأَنَّ ضَرَرَهَا عَلَى الْقُلُوبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الضَّرَرِ؛ وَهَلْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا وَسَبَبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي؟!!

فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ دَارِ اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ والسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ إِلَى دَارِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ وَالْمَصَائِبِ؟!!

وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ، وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَةٍ وَأَشْنَعَهَا، وَبَاطِنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأَشْنَعَ، وَبُدِّلَ بِالْقُرْبِ بُعْدًا، وَبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وَبِالْجَمَالِ قُبْحًا، وَبِالْجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى، وَبِالْإِيمَانِ كُفْرًا، وَبِمُوَالَاةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ أَعْظَمَ عَدَاوَةٍ وَمُشَاقَّةٍ، وَبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ زَجَلَ الْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ، وَالْكَذِبِ، وَالزُّورِ، وَالْفُحْشِ، وَبِلِبَاسِ الْإِيمَانِ لِبَاسَ الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْعِصْيَانِ؟!!

فَهَانَ عَلَى اللهِ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ غَايَةَ السُّقُوطِ، وَحَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الرَّبِّ تَعَالَى فَأَهْوَاهُ، وَمَقَتَهُ أَكْبَرَ الْمَقْتِ فَأَرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فَاسِقٍ وَمُجْرِمٍ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالسِّيَادَةِ؛ فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، وَارْتِكَابِ نَهْيِكَ.

وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ حَتَّى عَلَا الْمَاءُ فَوْقَ رُؤُوسِ الْجِبَالِ؟!!

وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ حَتَّى أَلْقَتْهُمْ مَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وَدَمَّرَتْ مَا مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَحُرُوثِهِمْ، وَزُرُوعِهِمْ، وَدَوَابِّهِمْ حَتَّى صَارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟!!

وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ حَتَّى قَطَعَتْ قُلُوبَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ، وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!!

وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَرَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ غَيْرِهِمْ، وَلِإِخْوَانِهِمْ أَمْثَالُهَا، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ؟!!

وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحَابَ الْعَذَابِ كَالظُّلَلِ، فَلَمَّا سَارُوا فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا تَلَظَّى؟!!

وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ نَقَلَ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَالْأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ، وَالْأَرْوَاحُ لِلْحَرْقِ؟!!

وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ، وَدَارِهِ، وَمَالِهِ، وَأَهْلِهِ؟!!

وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَدَمَّرَهَا تَدْمِيرًا؟!!

وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ صَاحِبِ (يَاسِينَ) بِالصَّيْحَةِ حَتَّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ؟!!

وَمَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَجَاثُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَقَتَّلُوا الرِّجَالَ، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا؟!

وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ؛ مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ، وَمَرَّةً بِجَوْرِ الْمُلُوكِ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ، فَفُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِهَا؛ بَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، رَأَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ: ((يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! مَا يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟!!)).

فَقَالَ: ((وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ!! مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ، بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ الْمُلْكُ؛ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى)).

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ فِي ((مُسْنَدِهِ)): أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)). وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا)).

قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟)).

قَالَ: ((أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنُ)).

قَالُوا: ((وَمَا الْوَهْنُ؟)).

قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ)).

وَفِي ((مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).

قَالَتْ: فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَمَا فِيهِمْ -يَوْمَئِذٍ- أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِأُولَئِكَ؟)).

قَالَ: ((يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ)).

فِي سَنَدِهِ: لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ ((ضَعِيفٌ))؛ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ تُثَبِّتُهُ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَدَفْعُ الْهَلَاكِ عَنِ الْقُرَى وَالْمُدُنِ لَا يَكُونُ بِوُجُودِ الصَّالِحِينَ غَيْرِ الْمُصْلِحِينَ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ الْمُصْلِحِينَ، فَالصَّالِحُ لَا يَتَعَدَّى صَلَاحُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُصْلِحُ؛ فَهُوَ صَالِحٌ فِي ذَاتِهِ، وَيَتَعَدَّى صَلَاحُهُ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، وَلَمْ يَقُلْ: (وَأَهْلُهَا صَالِحُونَ).

وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي مُلْكِ اللهِ -وَكُلُّ شَيْءٍ مُلْكٌ للهِ- إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَمَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ نَكْبَاتٍ هُوَ نَتِيجَةُ أَعْمَالِهِمْ، وَاللهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، فَهُمْ يَعِيشُونَ تَحْتَ رَحْمَةِ حَسَنَاتِهِمْ، أَوْ نِقْمَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَكُلَّمَا اسْتَقَامَ الْعَبْدُ عَلَى شَرْعِ اللهِ؛ اِسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ؛ فَضْلًا عَنِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَسَّرَ اللهُ تَعَالَى لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَخَدَمَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَكَثُرَتْ فِي مُجْتَمَعِهِ الْخَيْرَاتُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 96].

وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبّهمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقهمْ وَمِنْ تَحْت أَرْجُلهمْ} [المائدة: 66].

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.

وَقَالَ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.

وَقَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقْى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}.

وَقَالَ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}.

وَقَالَ: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ -وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ-: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

هَكَذَا تَفْعَلُ الذُّنُوبُ، مَا حَلَّتْ نُذُرُهَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ إِلَّا سَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، فَانْكَشَفُوا عَنْ عَدُوٍّ أَبَادَ خَضَرَاءَهُمْ، وَاجْتَنَحَ أَرْزَاقَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ حُرُمَاتِهِمْ، وَقَيَّدَ حُرِّيَّاتِهِمْ، وَفَعَلَ بِهِمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ عَلَى قَدْرِ مَا أَصَابُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَفَاتَهُمْ مِنَ الْمَسَرَّاتِ بِحَسَبِ مَا فَوَّتُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالرَّبُّ حَكَمٌ عَدْلٌ، وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ.

وَالْعُقُوبَاتُ قِسْمَانِ:

*عُقُوبَاتٌ قَدَرِيَّةٌ، وَهِيَ: مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ فَقْرٍ وَقَحْطٍ، وَغَلَاءٍ لِلْأَسْعَارِ، وَجَوْرٍ فِي السُّلْطَانِ، وَتَسْلِيطٍ لِلْأَعْدَاءِ، وَفَسَادٍ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَفِقْدَانٍ لِطَعْمِ الْحَيَاةِ، وَالزَّلَازِلِ وَالْفَيَضَانَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْخَسْفِ، وَغَيْرِهَا.

فَأَمَّا عُقُوبَتُهُمْ بِالْفَقْرِ وَالْقَحْطِ، وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ؛ فَبِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

وَأَمَّا عُقُوبَتُهُمْ بِفَسَادِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ؛ فَكَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.

وَأَمَّا عُقُوبَتُهُمْ بِالْفَيَضَانَاتِ وَالْخَسْفِ وَغَيْرِهَا؛ فَكَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

وَأَدِلَّةُ هَذَا الْبَابِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لَا تَكَادُ تَخْفَى.

وَأَشَدُّ مِنْ هَذِهِ كُلِّهَا: أَنْ يُعَاقَبُوا بِسَلْبِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةْ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ وَمَبْدَئِهِ يَعْرِفُ أَنَّ جَمِيعَ الْفَسَادِ فِي جَوِّهِ وَنَبَاتِهِ وَحَيَوَانِهِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهِ حَادِثٌ بَعْدَ خَلْقِهِ بِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ حُدُوثَهُ، وَلَمْ تَزَلْ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ وَمُخَالَفَتُهُمْ لِلرُّسُلِ تُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ مَا يَجْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآلَامِ، وَالْأَمْرَاضِ، وَالْأَسْقَامِ، وَالطَّوَاعِينِ، وَالْقُحُوطِ، وَالْجُدُوبِ، وَسَلْبِ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَثِمَارِهَا وَنَبَاتِهَا، وَسَلْبِ مَنَافِعِهَا، أَوْ نُقْصَانِهَا أُمُورًا مُتَتَابِعَةً يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ عِلْمُكَ لِهَذَا فَاكْتَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ‏}‏ [الروم‏:‏ 41‏]‏.

وَنَزِّلْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِ، وَطَابِقْ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَهَا، وَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ تَحْدُثُ الْآفَاتُ وَالْعِلَلُ كُلَّ وَقْتٍ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْحَيَوَانِ، وَكَيْفَ يَحْدُثُ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ آفَاتٌ أُخَرُ مُتَلَازِمَةٌ، بَعْضُهَا آخِذٌ بِرِقَابِ بَعْضٍ.

وَكُلَّمَا أَحْدَثَ النَّاسُ ظُلْمًا وَفُجُورًا أَحْدَثَ لَهُمْ رَبُّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْآفَاتِ وَالْعِلَلِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ، وَفَوَاكِهِهِمْ، وَأَهْوِيَتِهِمْ، وَمِيَاهِهِمْ، وَأَبْدَانِهِمْ، وَخَلْقِهِمْ، وَصُوَرِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ مِنَ النَّقْصِ وَالْآفَاتِ مَا هُوَ مُوجَبُ أَعْمَالِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفُجُورِهِمْ‏.‏َ

وَلَقَدْ كَانَتِ الْحُبُوبُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْيَوْمَ، كَمَا كَانَتْ أَعْظَمَ‏،‏ وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّهُ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ صُرَّةٌ فِيهَا حِنْطَةٌ أَمْثَالُ نَوَى التَّمْرِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: ((هَذَا كَانَ يَنْبُتُ أَيَّامَ الْعَدْلِ‏)).‏

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَلَى إِثْرِ حَدِيثٍ رَوَاهُ‏.‏

وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ الْعَامَّةِ بَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، ثُمَّ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مُرْصَدَةٌ لِمَنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، حُكْمًا قِسْطًا، وَقَضَاءً عَدْلًا، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الطَّاعُونِ: ‏((‏إِنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أَوْ عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)).

وَكَذَلِكَ سَلَّطَ اللهُ -تَعَالَى- الرِّيحَ عَلَى قَوْمٍ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَبْقَى فِي الْعَالَمِ مِنْهَا بَقِيَّةً فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَفِي نَظِيرِهَا عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ‏.‏

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَعْمَالَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ مُقْتَضَيَاتٍ لِآثَارِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ اقْتِضَاءً لَا بُدَّ مِنْهُ، فَجَعَلَ مَنْعَ الْإِحْسَانِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ سَبَبًا لِمَنْعِ الْغَيْثِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْقَحْطِ، وَالْجَدْبِ، وَجَعَلَ ظُلْمَ الْمَسَاكِينِ، وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَتَعَدِّي الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ سَبَبًا لِجَوْرِ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ الَّذِينَ لَا يَرْحَمُونَ إِنِ اسْتُرْحِمُوا، وَلَا يَعْطِفُونَ إِذَا اسْتُعْطِفُوا.

وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ: أَعْمَالُ الرَّعَايَا ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وُلَاتِهِمْ جَائِرِينَ، وَتَارَةً بِأَمْرَاضٍ عَامَّةً، وَتَارَةً بِهُمُومٍ وَآلَامٍ وَغُمُومٍ تُحْضِرُهَا نُفُوسُهُمْ وَلَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا، وَتَارَةً بِمَنْعِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَنْهُمْ، وَتَارَةً بِتَسْلِيطِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ تَؤُزُّهُمْ إِلَى أَسْبَابِ الْعَذَابِ أَزًّا؛ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ، وَلِيَصِيرَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْعَاقِلُ يُسَيِّرُ بَصِيرَتَهُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْعَالَمِ، فَيُشَاهِدُهُ، وَيَنْظُرُ مَوَاقِعَ عَدْلِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ؛ وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ خَاصَّةً عَلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَأَنَّ سَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْهَلَاكِ سَائِرُونَ، وَإِلَى دَارِ الْبَوَارِ صَائِرُونَ، وَاللهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ)).

فَهَذِهِ كُلُّهَا عُقُوبَاتٌ قَدَرِيَّةٌ عَلَى مَا يَقْتَرِفُهُ النَّاسُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَا يَجْتَرِحُونَهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ.

*وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فَهِيَ: بِأَنْ يُحَرِّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ حَلَالًا، قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ بِبَغْيِهِمُ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَهِيَ: كُلُّ ذِي ظُفُرٍ مِنَ الْإِبِلِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِلَّا مَا عَلَقَ مِنْهَا بِالظَّهْرِ وَالْأَمْعَاءِ وَالْعِظَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِسُوءِ فَعَالِهِمْ: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

وَمِثَالُهُ: قِصَّةُ تَعَنُّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَهُمْ فِي الْأَوَّلِ بِأَيِّ بَقَرَةٍ تَيَسَّرَتْ لَهُمْ، فَتَمَرَّدُوا عَلَى أَمْرِ اللهِ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَالْوَرَعِ الْكَاذِبِ، فَزَادَهُمُ اللهُ قُيُودًا مُضْنِيَةً.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((لَوْ أَخَذُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ اكْتَفَوْا بِهَا؛ لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَصَحَّحَهُ .

((التَّحْذِيرُ مِنَ الِانْهِيَارِ الْأَخْلَاقِيِّ))

إِنَّ الِانْهِيَارَ الْأَخْلَاقِيَّ فِي مُجْتَمَعٍ هُوَ أَخْطَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَانِيَ مِنْهُ الْمُجْتَمَعُ.

وَإِنِّي أُحَذِّرُ مِنَ الِانْهِيَارِ الْأَخْلَاقِيِّ بِآثَارِهِ وَنَتَائِجِهِ..

اتَّقُوا اللهَ! أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَخْلَاقِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَهِيَ أَصْلٌ مِنْهُ، وَثَمَرَةٌ عَنْهُ، وَنتِيجَةٌ لَهُ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ)) ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ  لَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَطُّ؛ فَكَيْفَ يُجَانَبُ هَدْيُهُ هَذِهِ الْمُجَانَبَةَ؟!!

إِذَا انْهَارَ مُجْتَمَعٌ أَخْلَاقِيًّا لَنْ تَضْبِطَهُ يَدٌ قَابِضَةٌ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَلَّتُ -حِينَئِذٍ-، وَيَضْرِبُ الْفَسَادُ بِأَطْنَابِهِ وَأَرْوِقَتِهِ فِي جَمِيعِ مَنَاحِيهِ حَتَّى يَشُلَّهُ شَلَلًا كَامِلًا، فَيَظَلَّ -حَينَئِذٍ- جُثَّةً هَامِدَةً لَا حَيَاةَ فِيهَا وَلَا حَرَاكَ مَعَهَا، وَهَذَا خَطِيرٌ جِدًّا!!

وَمَا قَرَّتْ عَيْنُ عَدُوٍّ يَتَرَبَّصُ بِأُمَّةٍ بِمِثْلِ نُزُولِ الِانْهِيَارِ الْأَخْلَاقِيِّ بِسَاحَةِ أَبْنَائِهَا.

الْكُفَّارُ عِنْدَهُمْ مَا يَعُدُّونَهُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، يَلْتَزِمُونَهُ، وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي بَاطِلٍ، وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَثَارَةٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ آثَارِ اتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ صَالِحَهُ مِنْ طَالِحِهِ، وَلَا مَا يَنْفَعُهُ مِمَّا يَضُرُّهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

فَمَا قَرَّتْ عَيْنُ عَدُوٍّ قَطُّ يَتَرَبَّصُ بِأُمَّةٍ رَيْبَ الْمَنُونِ بِمِثْلِ فَسَادِ أَخْلَاقِهَا.

وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ مَا حَرَصَ عَلَيْهِ مَنْ حَرَصَ فِي إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَى رُبُوعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.. كَانَ أَوَّلَ مَا حَرَصَ عَلَيْهِ مَنْ حَرَصَ: أَنْ يُخْرِجَ الْمَرْأَةَ مِنْ خِدْرِهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُبْتَذَلَةً كَنِسَائِهِمْ، لَا شَرَفَ هُنَالِكَ وَلَا فَضِيلَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا هُوَ صَنْعَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَلَمْ يَتَنَزَّلْ بِهِ وَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُونَ كَاذِبِينَ جَائِرِينَ ظَالِمِينَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي صَنَعَ الْإِلَهَ، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}.

وَلَكِنْ هَكَذَا هُمْ، مَا لَنَا وَلَهُمْ؟!!

لَنَا دِينُنَا، وَلَنَا نَبْعُنَا الصَّافِي، وَلَنَا نَبِيُّنَا ﷺ، وَاللَّهِ! إِنَّهُ لَعَيْبٌ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ مَدْعُوًّا إِلَى الْبَاطِلِ وَالْخَنَا وَالشَّرِّ -بَلْ وَإِلَى الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ- وَأَنْتَ مِنْ أَتْبَاعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، تُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ دَاعِيَةً لِلْحَقِّ!!

كَيْفَ تَبَدَّلَتِ الْأَطْوَارُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَحْوَالُ، وَانْعَكَسَتِ الْأُمُورُ؟!!

أَيُّ شَيْطَانٍ يُمْسِكُ بِزِمَامِ الْبَشَرِيَّةِ يُصَرِّفُهَا فِي كُلِّ مَتَاهَةٍ، وَيَمُرُّ بِهَا عَلَى كُلِّ جِيفَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ؟!!

وَأَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ ﷺ هُمْ مَنْ يَمْلِكُونَ زِمَامَ الْفَضِيلَةِ؛ إِذْ دِينُهُمْ دِينُ الْفَضِيلَةِ.

فَمَا أَعْظَمَ جُرْمَهُمْ فِي حَقِّ الْآخَرِينَ؛ إِذْ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ تَكُونَ قُدْوَةً سُلُوكِيَّةً تُتَرْجِمُ التَّعَالِيمَ، لَا أَنْ تَكُونَ آتِيًا بِكَلَامٍ لَا رَصِيدَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي حَقِّ الرُّوحِ، فَهَذَا لَا يَخْدَعُ إِلَّا الْأَغْرَارَ الْمَسَاكِينَ، ثُمَّ يَزُولُ الْخِدَاعُ بَعْدَ حِينٍ.

وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ لِكَلَامِكَ رَصِيدٌ لِبَعْثِ الْأُمَّةِ مِنْ رُقَادِهَا، وَلِإِيقَاظِهَا مِنْ سُبَاتِهَا، وَلِتَنْبِيهِهَا مِنْ غَفْلَتِهَا؛ فَهِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، هِيَ أُمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْخَاتَمِ الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ عِنْدَ اللهِ، وَنَبِيُّهَا أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ، وَهِيَ أَعْظَمُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَى حَوْضِهِ كَثْرَةً وَعَدَدًا، وَلِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضُهُ، وَنَبِيُّنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَارِدًا ﷺ.

هُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَأَيْنَ قِيَادَةُ الْأُمَّةِ لِلْبَشَرِيَّةِ؟!!

تَنَازَعَتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَهْوَاءُ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْوَظِيفَةَ، وَيَأْتُونَ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ أَنَّ اللهَ ابْتَعَثَهُمْ لِيُخْرِجُوا الْعِبَادَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعِبادِ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

تَرَكُوا هَذَا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَتَاعِ، وَالْأُمَمُ الْأُخْرَى تَقُولُ: تُنَازِعُونَنَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَا تَلْتَزِمُونَ بِمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ دِينُكُمْ؛ فَنَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ؛ إِذْ لَمْ نَدَّعِ شَيْئًا، وَأَقْبَلْنَا عَلَى الْحَيَاةِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَتَفْعَلُونَ مَا لَا تَعْتَقِدُونَ؛ فَأَيُّ شَيْءٍ أَنْتُمْ؟ وَكَيْفَ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ حِينَئِذٍ؟!!

إِنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- جَعَلُوا الدُّنْيَا دَبْرَ الْآذَانِ وَتَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ، وَحَمَلُوا دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْآفَاقِ؛ حَتَّى دَانَتِ الدُّنْيَا بِـ(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ).

دِينُكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- احْرِصُوا عَلَيْهِ، وَاحْذَرُوا انْهِيَارَ الْأَخْلَاقِ فِي الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِنَّهُ مُنْذِرٌ بِكُلِّ شَرٍّ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَوَّلَ مَا يَتَرَتَّبُ.. الْفَوْضَى، تَعُمُّ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ وَلَا رَادِعَ وَلَا رَقِيبَ، وَإِنَّمَا انْفِلَاتٌ أَخْلَاقِيٌّ عَامٌّ، وَانْحِدَارٌ وَانْهِيَارٌ أَخْلَاقِيٌّ لَا يَتَمَاسَكُ مَعَهُ أَحَدٌ.

هَذَا خَطِيرٌ مِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعَلَى الْأُمَّةِ!

فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ، أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ نَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ نَكُونَ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِنَا مُؤْتَمِرِينَ مُنْتَهِينَ، وَأَنْ نَنْشُرَ الْخَيْرَ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَقْلِيلِ الشَّرِّ، وَأَنْ نَدْعُوَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالصَّلَاحِ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

اللهم آتِنَا مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَاهْدِنَا إِلَيْهَا لَا يَهْدِي لِأَحَاسِنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَقِنَا سَيِّءَ الْأَخْلَاقِ لَا يَقِي مِنْ سَيِّئِهَا إِلَّا أَنْتَ.

أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ، وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا سَيِّئَهَا وَمَرْذولَهَا بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر: الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ
  الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  فَضْلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَحْدَةِ صَفِّهَا
  الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَمَخَاطِرُ تَجَاهُلِهَا
  بِدع شهر رجب
  مَكَانَةُ الشُّهَدَاءِ وَوُجُوبُ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ
  جماعة الإخوان الإرهابية
  الْجَوَانِبُ الْإِيمَانِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّةُ فِي الصَّوْمِ
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان